Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج11وج12.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

 

ج11وج12.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي
== أتاني كتاب من حبيب فشاقني ... إليه وزاد القلب وجداً على وجد
وكدت لما أضمرت من لاعج الهوى ... ووجداً على مافات أقضى من الوجد
وقف على الكتاب الكريم الصادر عن المجلس السامي القضائي العزي - لا زالت سيادته تتجدد، وسعادته تتأكد، وفواضله تتردد، وفضائله عن مجلسه تصدر، وفي المجالس تورد - وعلمت إشارته في التذكرة المسيلمية والنية في حملها إلى الخزانة الأشرفية، ولقد زفت إلى أجل خاطب، ورقيت بعد انحطاطها إلى أسمى المراتب، فإنها وإن كانت بكر فكر أكابر، فما هي إلا بنت عدة آباء، ولدت على فراش عواهر، كان عليه البغاء في العالمين علامة، أعني ابن مسيلمة ذا الداء، وأسأل الله السلامة، فجاءت ذات غرام لا يشفي قطمها إلا السودان، وأردت أن أكون ناكحها الثاني لاتفاق الألوان، وأبى الله لها إلا أن تهدى إلى المقر الأرفع، وأن يقع الابتناء بالبغي من الهمام الأروع، ولست يائساً على عدمها، ولا راجياً شفاء كلمي بكلمها:
تحمل أهلها عني فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
وكأني بساميه عرض هذا الكتاب على من لا أسميه، فقرن حاجبيه، ولوى شفتيه، ولمس عثنونه تعجباً، وأمال عطفيه تظرفاً وقال: أذكرني سجع الكهان، وأسمعني قعقعة صعصعة بن صوحان، والله المستعان على ما يصفون، وإنما هي نفثة مصدور، صدر نافثها بصفقة المغبون، وأما سؤاله عما حصل من الكتب في غيبته،
فما هي إلا البحر جاد بدره ... ومكنني من لجه وسواحله
حصل من نفائسها أعلاق نفيسة، وأضحت على بغض المزاحم عليها موقوفة حبيسة، لو امتدت يد إليها لشلت، ولوسعت إليها قدم لما أقلت جثتها ولا استقلت، لا ابن العديم يعدمها، ولا القيلوي يقللها، ولا الصفي يصطفيها، ولا المجد يختزلها.
خلا لك الجو فبيضي واصفري
وتعداد المجدد منها يقصر عنه الكتاب، ويقصر دونه الخطاب، والله الموفق.
أبو علي المنطقيلم أظفر باسمه وهو مجيد. قال الخالع: هو من أهل البصرة وتنقل عنها في البلاد، ومدح عضد الدولة وابن عباد، وانقطع مدة من الزمان إلى نصر بن هارون، ثم إلى أبي القاسم العلاء بن الحسن الوزير، وكان جيد الطبقة في الشعر والأدب عالماً بالمنطق قوي الرتبة فيه، وجمع ديوانه وكان نحو ألفي بيت، ومولده سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات بشيراز بعد سنة تسعين وثلاثمائة، وكان ضعيف الحال ضيق الرزق عارفاً - وجدت على حاشية الأصل ما هذا صورته: إنا لله وإنا إليه راجعون - . ما يحتاج مستدل على أن الأرزاق ليست بالاستحقاق بأقوى من هذا الرجل، فإنه لو وفي حقه لكان أعظم قدراً من المتنبي، لأنه ليس بدونه في الشعر جودة وصحة معنى ومتانة لفظ وحلاوة استعارة وسلاسة كلام، وكان مع ذلك مزاحاً طيب العشرة حاد النادرة، وأصيب بعينه في آخر عمره، وله في ذلك أشعار كثيرة. وهذا القدر حكاه الخالع من خبره ولم يعرف غير ذلك. ومن شعره:
يا ريم وجدي فيك ليس يريم ... بين الضلوع وإن رحلت مقيم
لا تحسبي قلبي كربعك خالياً ... فيه وإن عفت الرسوم رسوم
تبلى المنزل والهوى متجدد ... وتبيد خيمات ويبقى الخيم
ومن شعره لما أصيب ببصره:
ما للهموم إذا ما هيمها وردت ... علي لم تفض من ورد إلى صدر
كأنما وافق الأعشاب رائدها ... لدى حماي فقد ألقى عصا السفر
إن يجرح الدهر مني غير جارحة ... ففي البصائر ما يغني عن البصر
وله في الخمر:
قهوة مثل رقراق السراب غدا ... حبب المزاج عليها جيب مزرور
تختال إن بث فيها الماء لؤلؤه ... ما بين عقدين منظوم ومنثور
للتها مثل سل الفجر صارمه ... وأحجم الليل في أثواب موتور
كأنها إذ بدت والكأس تحجبها ... روح من النار في جسم من النور
إذا تعاطيت محزوناً أبارقها ... لم يعدني كل مفروح ومسرور
أمسي غنياً وقد أصبحت مفتقراً ... كأنني الملك بين الناي والزير
وله في نصر بن هارون:
ينال علاه ما السها عنه عاجز ... ويسقي نداه من تجاوزه القطر

ويصنع في الأعداء خوف انتقامه ... من القتل ما لا تصنع البيض والسمر
لأعطيت حتى استنزر الغيث فعله ... وآمنت حتى قيل لم يخلق الذعر
وله فيه أيضاً:
به تخضر أغصان الأماني ... ويجبر عنده الأمل الكسير
وتبسم نائبات الدهر عنه ... كما ابتسمت عن الشنب الثغور
لقد سهلت بك الأيام حتى ... لقال الناس لم تكن الوعور
وكيف أخاف دهراً؟ أنت بيني ... وبين صروفه أبداً سفير
وله من قصيدة في ابن معروف:
في البرق لي شاغل عن لمعة البرق ... بدا وكان متى ما يبد لي يشق
منفراً سرب نومي عن مراتعه ... كأنما اشتق معناه من الأرق
أخو ثنايا التي بالقلب مذ ظعنت ... أضعاف ما بوشاحيها من القلق
ما كان يسرق من حرز الجفون كرى ... لو أنه من لماها غير مسترق
وله:
نوار وهي نوار من مساعفتي ... وهند وهي ببيض الهند تعتصم
تربان إن تك من جدواهما تربت ... يد المحب فوجدان الهوى عدم
غض المحيا إذا لاحظت وجنته ... كادت لحاظك في ديباجها تسم
وله يعاتب:
صافيت فضلك لا ما أنت باذله ... وعاشق الفضل يغرى كلما عذلا
إني أعيذك من قولي لسائله: ... لقد حدوت ولكن لم أجد جملاً
وقال في صمصام الدولة:
لا غضني الدهر الخئون فإنه ... قد كان رقاك صلاً أرقما
أنتم بحار جاريات بالندى ... لكنها في الروع جارية دما
وله:
ليث أبو شبلين لم يسلمهما ... كرم الجدود ولا سمو جدود
للمجد سر لم يضيع فيهما ... والراح سر في جنى العنقود
وله:
أكفكم تعطي ويمنعنا الحيا ... وأقلامكم تمضي وتنبو الصوارم
وإن أبا العباس إن يك للعلا ... جناحاً فأنتم للجناح القوادم
مضى وبقيتم أبحراً وأهلة ... وزهر الربا يبقى وتمضي الغمائم
وله:
قولي يقصر عن فعالك ... تقصير جدك عن كمالك
والحمد ينبت كلما ... هطلت سماء من نوالك
وله:
كأن دبيبها في كل عضو ... دبيب النوم في أجفان سار
صدعت بها رداء الهم عني ... كما صدع الدجى وضح النهار
وله من قصيدة في عضد الدولة يذكر الصدق:
ما زلت تنصف في قضاياك العلا ... قل لي: فما بال الضحى يتظلم؟
هديت رونقه إلى جنح الدجى ... فاعتن أشهب وهو طرف أدهم
حتى كأن الليل صبح مشرق ... وكأن ضوء الصبح ليل مظلم
هي ليلة لبست رضاك فأشرقت ... من بعد ما كانت بسخطك تظلم
ما كان في ظن امرئ من قبلها ... أن الملوك على الليالي تحكم
وله:
أنام جفون الحقد والحقد ساهر ... وأيقظ طرف المجد والمجد نائم
إذا أشكلت يوماً لغات انتقامه ... على معشر فالمرهفات تراجم
ومن شاجر الأيام عن مأثراتها ... فأمضى لسانيه القنا والصوارم
وله من قصيدة:
وقفنا بها والشوق يفرى قلوبنا ... لواعجه والصبر غير مطاوع
سقيت رجوع الظاعنين فإننا ... نجلك عن سقيا الغمام الهوامع
فجعنا بأبكار المنى يوم خاطبت ... ربوعك أبكار الخطوب الفواجع
ومنها:
وخيل إذا كظ الطراد أراحها ... أصابت بحر الطعن برد الشرائع
تكاد ترى بالسمع حتى كأنما ... نواظرها مخلوقة في المسامع
إذا ما دجا ليل الكريهة أطلعت ... نجوم قناً يغربن بين الأضالع
وله:
على عجل ألم الخيال ... فإن كراه بعدكم محال
فبات معانقاً والجيد وهم ... ومرتشفاً وأحلى الريق آل
لدى ليل كان النجم فيه ... على خد الظلام الجون خال
يضام الرمح ليس له مدار ... ويكبو الطرف ليس له مجال

طبعت على الوفاء المحض قدماً ... كما طبعت على القطع النصال
ومنها:
توسمت الوابل فيه مجداً ... فقالت: أول البدر هلال
وأطرب ما يكون إلى العطايا ... إذا غني فأسمعه السؤال
مصاحب همة خفت عليها ... من الأيام أعباء ثقال
كرمت فلو سألناك المساعي ... وهبت وغيرها تهب الرجال
وأكرم من قراك فتى عليه ... بنو الدنيا وأمهم عيال
وقال في الوزير ابن صالحان:
على الطيف أن يغشى العميد المتيما ... وليس عليه رد نوم تصرما
خيال سرى يبغي خيالاً ومغرم ... بلبس قميص الليل يمم مغرما
دنا والظلام الجون غض شبابه ... فأهدى إليه الشيب لما تبسما
أتلك اللآلئ من ثناياه ألفت ... عليه عقوداً أم تقلد أنجما؟
أما والحما إن الكرى لسميه ... على مقلتي مذ أخلقت جدة الحما
لأشكل حتى ما يعود بنو الهوى ... معالمه الأنضاء إلا توهما
وليل أكلنا العيس تحت رواقه ... بأيدي سرى تثني الرواسم أرسما
بهيم نضونا برده وهو مخلق ... وكنا لبسناه قشيباً مسهما
هداها إلى مغنى الوزير نسيمه ... ومن شرف الأخلاق أن نتنسما
يصوب على العافين مزن بنانه ... فيكبت حساد أو ينبت أنعما
وله:
غي الهوى للصب غاية رشده ... فذريه من حل الملام وعقده
قربت مراكب وعظه ولجاجه ... في الحب ينتج قربه من بعده
والليل تكحل مقلتاه بإثمد ... والأفق يزهر دره في عقده
فكأن زنجياً تبسم ثغره ... إسفار ذاك اللون في مربده
تعب الفتى جسر إلى راحاته ... يفضي ونهضة جده في جده
وإذا ابن عزم لم يقم متجرداً ... للحادثات فصارم في عمده
فالسيف سمي في النوائب عدة ... لمضائه فيهن لا لفرنده
ومن المدح:
نثني عليه وإن تكرم غيره ... فتراه مشكوراً بما لم يسده
علماً بأن بني السماح تعلموا ... منه فكل صنيعة من عنده
وله في عضد الدولة:
أربع الصبا غالتك بعدي يد الصبا ... وصعد طرف البين فيك وصوبا؟؟
لئن رمقت عين النوى حور عينه ... فبن لقد غادرن قلباً معذبا
تأودن قضباناً ولحن أهلةً ... وغازلن غزلاناً ولاحظن ربربا
ومنها:
رددت شباب الملك نضراً ولم يزل ... بغيرك مغبر المفارق أشيبا
فلو كانت الأيام قبلك رحبت ... بشخص لقالت إذ تراءيت مرحبا
وله قصيدة إلى أبي بكر العلاف يتشوقه:
كأن البين ترب الموت لكن ... يواري في الضنا لا في الثياب
ولولا أن فرط الشوق واش ... بحبك لاستزدتك ضعف ما بي
جمعت غرائب الآداب حتى ... إذا قرنت إلى النعم الرغاب
ظللت منادياً في كل أفق ... بصوت البذل حي على انتهاب
وله من قصيدة في العلاء بن الحسن الوزير:
أعاطي كئوس اللهو كل غريرة ... إذا ما انثنت قدت فؤادك بالقد
تلاحظ عن سحر وتسجر عن دجى ... وتسفر عن صبح وتبسم عن عقد
إذا نثرت أيدي الصبا در لفظها ... نظمن على الأحشاء عقداً من الوجد
كما نظمت كفا أبي القاسم العلا ... نظام لآلي السمط بالنثر للرفد
إذا اتصلت أقلامه بظباته ... تقطع ما بين الطوائل والحقد
فلا يهنأ الأعداء ن أن مكانه ... خفي فقد تخفى الشرارة في الزند
وله:
نعم لو أن الناس ورق حمائم ... لغدت لهم بدلاً من الأطواق
ومواهب تمضي ويبقى ذكرها ... سمة على وجه الزمان الباقي
وله:

أراعك صدق الطيف أم كذب الحلم ... وكم من خيال وشك إلمامه لمم
سرى والدجا قد حال صبغ قميصه ... وفي ذيله نار من الصبح تضطرم
كأن نهوض الفجر في أخرياته ... بداء بياض الشيب في أسود اللمم
أمين على سر المعالي وسيفه ... على مهج الأعداء في الروع متهم
وله من قصيدة في الدلجي:
لأصبرن على ما سامني زمني ... صبر الكريم على الإقلال إكثار
مدحت قوماً فإن حاض اللسان بهم ... فسوف يعقب ذاك الحيض أطبار
إذا المعمر ترب المجد ألثمني ... ركني يد ثمد ما تسديه تيار
يد هي الغيث أو فيها مواطنه ... فكل ما صافحته فهو نوار
هناك أخطب والعليا منابرها ... منصوبة وجبين الدهر حوار
وله:
وأبناء حاجات أدارت عليهم ... يد السير كأس الأين والليل دامس
يميلون فوق العيس حتى كأنهم ... شروب تساقى والرحال المجالس
أصاخوا وقد غنيتهم باسم ماجد ... لأقلامه تعنو الرياح المداعس
ولما بلغناه تهلل عارض ... سقى صوبه الدنيا ومثواه فارس
وقال في الوزير ابن صالحان:
هو البرق إلا زفرة تتضرم ... وعبرة مشتاق تسح وتسجم
تبسم حتى كاد يبكي وربما ... تراءى فأبكى البارق المبتسم
ولما ألم الطيف شكك أينا ... لدقة شخصينا الخيال المسلم؟
مزجت كئوس الريق منه بأدمعي ... فبت أسقى قهوة مزجها دم
فليت فؤادي ذاب في جفن مزنة ... بها رويت دور ظماء وأرسم
وخرق رحيب الباع لو نيط طوله ... بعروة عمر لم تكد تتصرم
رميت فما أشويت ثغرة نحره ... وما كل ما ترمي به العيس يسهم
بلغنا بها مغناه وهب أهلة ... فلاحت لنا أخلاقه وهي أنجم
وله يمدح:
يصيخ إلى الليل حتى كأنما ... سرى إبلي في مسمعيه سرار
وكم خامل أمطاه حارك رتبة ... حراك ويعلو الترب حين يثار
فأليت أن تقرر عيون ركائبي ... ولا غرو غايات السيول قرار
مددت إلى طعن الكماة عزائماً ... طوال العوالي بينهن قصار
فما كرمت كرمان حتى افتككتها ... ولا أصحرت حتى ارتجتك صحار
إذا صد وجد البحر عنها تيقنت ... بأنك بدر في يديه بحار
وله:
جذل بما يعطيهم فكأنما ... أخذ المؤمل من نداه عطاء
عفو تسيل به الشعاب كأنما ... فيه الذنوب وقد طفون غثاء
وله:
ولما استرد الصبح عارية الدجى ... تولى بطيئاً والدموع عجال
ولم أر لابن الشوق كالليل سلماً ... إلى حاجة في الصبح ليس تنال
كريم تبقت من سجاياه فضلة ... فأضحت على خديه وهي جمال
وله:
ودار وغي ثنتها مقربات ... براقعها شحوب أو سهوم
نزلت بعسكر للطير فيه ... عساكر حول حومتها تحوم
بحيث سرائر الأغماد تبدو ... وقلب النقع للساري كتوم
تصالحت الحتوف على الأعادي ... وبيضك للطلى منها خصوم
إذا أوردتها صدرت رواء ... وخلت هام وهي هيم
وله:
إن كتم الليل حدث العبق ... عنها وبعض الحديث ينتشق
ردي على العين فهي طامعة ... كاس زقاد أراقها الأرق
وله
علي إذا غنيت أن تطرب العلا ... فليت فؤادي للسرور منادم
ويجهل قولي فيك قوم ولم يكن ... ليفهم أيك ما تقول الحمائم
وله:
غداة صدقت فكذبتني ... ولولا الشقاوة لم أصدق
وقد كن ما طللنا حقبة ... فليت المطال علينا بقي
وله:
دمن مرضن من البلى فكأنما ... تأتي الرياح طلولها عوادا
من كل مدنفة الرسوم كأنه ... من قبل كانت للمحب فؤادا

إن لم يطر شرر السرى مني فلا ... قدحت يدي للمكرمات زنادا
في كل ليل ثاكل لصباحه ... وكأنما كسي الظلام حدادا
داج إذا زرت على جيوبه ... كنت الحسام وكانت الأغمادا
أحسن بأخلاق الظلام وإن جلا ... وجهاً تعوض بالشحوب سوادا
جمل ولكن ما يلذ ركوبه ... إلا امرؤ يجد المنى أقتادا
يلقاه نشوان الجفون وإنما ... باتت مدامة مقلتيه سهادا
وله:
منازل ذات الوقف إني لواقف ... عليك وماء القلب لا الدمع ذارف
بليت ولم يبل الجديد من الهوى ... وحلت وما حال الغرام المحالف
أترقا جفوني والحيا عنك ممسك ... ويرفق وجدي والبلى بك عانف؟
وقالوا انتشى من غير كاس ولو سقوا ... هوى لدروا أن السلاف السوالف
ضعائف كرات اللحاظ إنما ... تبرح بالجلد القوي الضعائف
وله:
ليت النوى تركتنا في يد العذل ... فالسقم بؤس ولكن ليس كالأجل
صار الصدود لها أمنية معها ... ومن لذائق طعم الموت بالغلل؟
والقلب أول من شط الفراق به ... فأين مسرح هذا الخوف والوجل؟
وله في عضد الدولة:
لو أن بعض سماحها في مزنة ... يوماً لأورق من نداها الجلمد
يا راقد الأسياف إلا عن وغى ... جفن الورى في حومتيه مسهد
ما بال خيلك ما تقات سوى السرى ... وظباك في غير الطلى ما تغمد
عادات بيض الهند عندك أن ترى ... حمراً كما مس اللجين العسجد
وله:
ولم أر مثل الدهر مسدى نعمة ... يجود بها عفواً ويأخذها
إذا كنت عذر الدهر في سوء ما جنت ... يداه فذنب أن تعد له ذنبا
وله:
مضيء فرند القول ماضي شباته ... فلو لم يكن وشياً لقيل مهند
يفارق فاه وهو في الحسن جوهر ... ويلقى عداه وهو في الوقع جلمد
وله:
خرق تصول يد الزمان فيتقى ... ويجود أقوام سواه فيشكر
معط على شكر الصنيع وكفره ... ما كل ما سقت الغمائم يثمر
دامت لك النعما ودمت لآمل ... آرابه عن روض غيرك تذعر
وبقيت ما بقي القريض فإنه ... علق على كر الخطوب معمر
وله:
قرم بخد الحيا من جوده خجل ... كما بقلب الردى من بأسه وجل
في رأيه من غرارى معيفه عوض ... وفي عطاياه من صوب الحيا بدل
وله:
ظلت تعض لتوديعي أناملها ... فخلتها نظمت درا على عنم
يا رب لائمة في الحب لو علمت ... أني ألذ ملامي فيك لم تلم
وله:
إني إذا ما الخل خادعه ... عني الزمان فحال عن عهدي
جانبته ولو أنه عمري ... وقطعته ولو أنه زندي
وله:
أتيتك طوع الشوق أمس فردني ... على عقبي عذر له المجد لائم
وقالوا ثنت أجفانه عنك غفوة ... ولا غرو قد تغفي الأسود الضراغم
ولكن نسيم الراح نم وربما ... أتتك بما لا ريب فيه النمائم
ولو لم يكن ظرف العلا عدت منشداً: ... وأنت إذا استيقظت أيضاً لنائم
وله:
يد موسى تذم صحبة فيه ... هو يمحو سطور ما توليه
يبعث النائل الجسيم فيقفو ... ه بمن على العفاة سفيه
ليت أن المشيب مهديه موسى ... وهو مسترجع لما يهديه
كأخيه الزمان يأخذ ما يع ... طي. وما ضل مقتد بأخيه
وله:
وما قلت إلا ما علمت ولم أكن ... كحامد ورد لم يذق طعم غبه
وذنب زماني أهله غير أنني ... أراك له عذراً محا شطر ذنبه
علي بن يوسف يعرف بابن البقال

يكنى أبا الحسن، قال أبو عبد الله الخالع: هو من أهل بغداد وممن نادم المهلبي ونفق عليه، وكانت له محاضرة حسنة وبضاعة في الأدب صالحة، وطبقة في الشعر جيدة، يذهب مذهب النامي في التطبيق والتجنيس وطلب الصنعة، وكان بكثرة نوادره ومزاحه مستطاباً متقبلاً، وكان حسن اليسار جميل الزي يلبس الدراعة، وخلف لما مات ما يزيد على مائة ألف درهم، وكانت وفاته في أيام شرف الدولة بن عضد الدولة، ومنزله في مكة العجمي من الزبيدية بالجانب الغربي من مدينة السلام، وخلف ابنة وزوجة فأحبت امرأته أحد بني المنجم وزوجت ابنتها به، فأنفقت المال عليه وماتت الزوجة ولازمته أمها تخدمه كما تخدم المنقطعات.
قال: وكان ابن البقال بخيلاً جشعاً وكان يتلقاني في أيام عضد الدولة فيقول: يا سيدي ما عندك من حديث الشعراء؟ فأقول: قد أمر لهم بمال ولك بجائزة سنية منها كذا وكذا، ومنها كذا وكذا، وأكثر عليه فيقول:
منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
ولقيني مرة والسلامي معي فسألني عن مثل ذلك فأجبته بمثل الجواب المقدم ذكره، فقال له السلامي: يكذب، والله ما أمر إلا بقطع أيديهم وأرجلهم، فقال: حوالينا الصدود ولا علينا. وأنشد الخالع لابن البقال يعاتب بعض أصدقائه:
وإني في استعطاف رأي محمد ... علي ومدي نحو معروفه يدي
لكالمبتغي من بعد تسعين حجةتقمصها رجع الشباب المجدد
سأشكو اعتداء منك لولاه ما درت ... صروف الليالي في الهوى كيف تعتدي
فلله قلبي حين أدعو إلى الهوى ... وأعلم حقاً أنه غير مهتدي
وله:
ولما وقفنا للوداع ودوننا ... عيون ترامى بالظنون ضميرها
أماطت عن الشمس المنيرة برقعاً ... فغيبنا عن أعين الناس نورها
وله:
يا مذنباً ويقول إني مذنب ... ما إن سمعت بظالم يتظلم
لك صورة ذل الجمال لحسنها ... تقضي بجور في النفوس وتحكم
ومن العجائب أن طرفك مشعر ... سقماً وأنت بسقمه لا تعلم
وله:
يا طرفها هب لطرفي لذة الوسن ... واستبق ما لا يفل الثوب من بدن
حاشاك في من الشكوى وإن ذهبت ... عيني من الدمع أو قلبي من الحزن
ولا أقول ولو أتلفتني أسفاً ... يا ليت ما كان من حبيك لم يكن
وله:
لئن كان طرفي فاز منك بنظرة ... لقد عاد طرفي بالبلاء على قلبي
جعلت الهوى ذنبي فإن كنت مذنباً ... به فإليك العذر من ذلك الذنب
ولما رأيت البعد منك مقربي ... تباعدت كي أحظى على البعد بالقرب
محمد لا تجمع إلى الهجر غدرة ... فحسبي الذي بي من فراقك يا حسبي
وله يمدح المهلبي:
أنوار أنت كما دعيت نوار؟ ... لم تقض منك قضاءها الأوطار
يا لحظة لحظ الحمام معيدها ... ما كان منك لناظر إنظار
وإذا تساقطك الحديث تخاله ... كأساً عليك من العقار تدار
إني ذكرتك والغرام مواصل ... نفساً عليك يهيجه التذكار
متوقد منه الضمير كأنما ... نيرانه من وجنتيك تعار
هو في الجفون إذا مرته زفرة ... ماء يمور وفي الجوانح نار
ولرب ليل من ذراك خماره ... للنجم فيه من الغمام خمار
قد قلت حين طلعت فيه كبدره ... أرأيت كيف تشابه الأقمار؟
يا صاحبي قفا بنجد عبرة ... حيث الدموع إذا ابتدرن بدار
في منزل لبست بما لبس البلى ... مني المشيب عذائر وعذار
ولئن محتك يد الخطوب فما امحى ... لهوى ديارك في الفؤاد ديار
ولربما اهتزت ربوعك بالندى ... وتنفست بنسيمك الأسحار
ومنها في المدح:
وإذا بدا يوم الكريهة ضاحكاً ... فهناك تسكب دمعها الأعمار
حتى إذا بصروا بعقد لوائه ... عقدت مهابتها به الأسرار
في شرب هيجاء إذا اصطبحوا القنا ... فالطعن سكر والحمام خمار

لهم من البيض الرقاق تحية ... في حسوها ومن الدماء عقار
نهضت بعبء الملك منك عزائم ... للدهر بين عثارهن عثار
لك هضبة في الملك قحطانية ... طرق الحوادث نحوها أو عار
بجبال أندية الوقار إذا احتبوا ... وليوث ملحمة الوغى إن ثاروا
عجباً لأبناء المهلب إنهم ... لم يعدلوا في المجد حتى جاروا
لم يطوهم دهر مضى إلا لهم ... بالجود في آثاره آثار
فعطاؤك الرزق المقسم في الورى ... والدهر أنت وسيفك المقدار
وله أيضاً في المهلبي:
لعينك إذ سار الخليط المغور ... على كل واد دمعة تتحدر
نعم إن رسماً بات يطوى به النوى ... محاسن كانت بالأوانس تنشر
أرى وانياً من عبرة كيف لا يني ... وعلم طرفاً راقداً كيف يسهر
وقفنا ومن ألحاظنا وقلوبنا ... لنا رائدا شوق مسر ومظهر
يحلى ربى آرامه ونحورنا ... جفون بسمطيها من الدمع جوهر
فمن بين معقود يبين فرنده ... علينا ومحلول عليهن ينثر
وسرب رمين النجم في أخرياته ... بسافرة عن وجهها الشمس تسفر
بدت ويمين الصبح يبدو لثامه ... فلم يدر ليل أي صبحيه أنور؟
ومادت فقلنا الغصن جادت به النقى ... بما آد من مجرى الوشاح المؤزر
أعاطل أجياد الأماني من التي ... بها الوفر أم ما استهلك العرض أوفر؟
لئن عد فخراً لبسك المجد من أب ... فلبس الفتى من نفسه المجد أفخر
وماينفع الممتاح يجلو موارداً ... إذا كان ظمآناً من الورد يصدر
ألا بادرا عون العواني برحلة ... يذل بها خد من العيس أصعر
أما تريان الليل يحدو ظلامه ... بوجه القبيصي الصباح المنور
فتى يمتري سجلى نداه وبأسه ... لهاذم تدمي أو غمائم تمطر
وكالدهر لا يدري الذي هو رائم ... بخطب إذا ما أمه كيف يحذر
ويوم رماه النقع منه بليلة ... كواكبها فيه الأسنة تزهر
طلعن من الأغماد في كل مأزق ... فلا خائن إلا لها منه مضمر
دلفت كأن الموت كان مؤامراً ... سيوفك منه والنفوس تقطر
بمجر له في كل فج طليعة ... وفي كل أرض منه ذيل مجرر
سحبت رداء الموت فيه بوقعة ... رداء الفتى فيه من الطعن أقمر
وأضحكت منه الجو والنقع كاتم ... به الشمس عن شمس بها البيض تشهر
بحيث شفوف الأتحمي مفاضة ... إذا زعزع الخطى والتاج مغفر
تفرق في تفريقها الهام والتقى ... على قدر فيها الحمام المقدر
عزائم يرمين الخطوب كأنما ... يقارع منها عسكر الدهر عسكر
وله في المهلبي أيضاً:
عندي لذا الدهر إعقابي إساءته ... بالصفح إن أعقب الإصرار بالندم
أمست منازل من جنت مصافحة ... أيدي النحول عليها أيدي القدم
ولو ملكت لها السقيا وهامتها ... تكفكف المحل عنها أدمع الرحم
لقلت للسح من أيدي الوزير إذا ... حللت ناحلة الأطلال لا ترم
اليعربي الذي خلى الطريق له ... من بات يأخذ رعباً منه باللقم
يزاحم الليل ليل من جحافله ... ويقذف الوهدات الجرد بالأكم
أطار منهم قذاة في عيونهم ... لو أنها في جفون الدهر لم ينم
أبقى له الخوف في أثناء يقظتهم ... ما بات يرسله ليلاً إلى الحلم

عافت سيوفك في الهيجا لحومهم ... فهن يأكلن منها إكلة البشم
وله أيضاً فيه:
روعة بالفراق قبل الفراق ... شرقت بالدموع منها المآقي
جد جد البكا فأهدين باقي الد ... دمع منها إلى كرى غير باق
فاض تندى به الخدود ولو غا ... ض لأمست منه الحشا في احتراق
وعذارى تدنيك من سربها العي ... س دنو الأجفان للأحداق
مخطفات لو شئن من هيف ال ... خصر تبدلن خاتماً من نطاق
حاليات تبدي المعاصم والسو ... ق وتخفي الأجياد في الأطواق
لا يغرنك غفلة الدهر فالعز ... مة إمضاؤها مع الإطراق
قد أرانا ابتسامة الدهر لما ... أطلع الجود شمسه بالعراق
بالمصفى اللباب والأروع البس ... سام بشراً والفاتق الرتاق
ومعير معاندي الملك حدا ... ماضياً في شقاقهم والنفاق
حين حر الهوى بحران والبي ... ض لها من غمائم الهام ساق
بعد ما زعزع الجزيرة بال ... خطي يكرعن في الدماء الدفاق
وأطارت بجو سنجار المو ... ت ظباه ناراً بلا إحراق
في غمام من العجاج ووبل ... يسم الأرض من حميم العتاق
حين والى بها شوازب يفض ... ين إلى كل دارة من طراق
كالحات كأنما نفث الص ... اب الغوالي منهن في الأشداق
وكان ابن البقال يترفع عن الاختلاط بالشعراء ويتكبر عليهم، وكان الرؤساء يكرمونه ويقومون له إذا دخل إليهم، وكان ابن العميد يقدمه على الناس كلهم ويعظمه، وأحضره المهلبي فأنشده بحضرة المتنبي قصيدة فيه.
قال: فحدثني الإمام الهاشمي قال: قال لي المتنبي: ما رأيت ببغداد من يجوز أن يقطع عليه اسم شاعر إلا ابن البقال. قال ابن عبد الرحيم: وحدثني الأستاذ أبو الحسين بن محفوظ وقد جرى ذكر ابن البقال فقال: كان أقل ما فيه الشعر، فغلب عليه وعرف به، وإنه كان يضطلع بعلوم كثيرة من جملتها الكلام، وكان قوياً فيه مقدماً في المعرفة به، وكان يقول بتكافؤ الأدلة وهو بئس المذهب.
عمارة بن حمزة الكاتب من ولد أبي لبابةمولى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، مولى السفاح، ثم مولى أبي جعفر المنصور. وكان تياها معجباً، جواداً كريماً، معدوداً في سراة الناس، وكان فصيحاً بليغاً، وكان أعور دميماً، وكان المنصور والمهدي بعده يقدمانه ويحتملان أخلاقه، لفضله وبلاغته وكفايته ووجوب حقه، وولى لهما أعمالاً كباراً.
وله تصانيف: منها كتاب رسالة الخميس التي تقرأ لبني العباس، كتاب رسائله المجموعة، كتاب الرسالة الماهانية معدودة في كتب الفصاحة الجيدة، وكان يقال: بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، وعمارة بن حمزة، وخالد بن يزيد، وحجر بن محمد بن محمد بن حجر، وأنس بن أبي شيخ، وسالم بن عبد الله، ومسعدة، والهزبر بن صريح، وعبد الجبار بن عدي، وأحمد بن يوسف بن صبيح. قال أبو عبد الله محمد بن عبدوس: قلد أبو العباس السفاح عمارة بن حمزة بن ميمون، من ولد أبي لبابة مولى عبد الله بن العباس صياع مروان وآل مروان، خلا ضياع لولد عمر بن عبد العزيز فإنها لم تقبض، وضياع من والاهم وساعدهم.

وقال الخطيب: عمارة من ولد عكرمة مولى ابن عباس، جمع له بين ولاية البصرة، وفارس، والأهواز، واليمامة، والبحرين، والعرض، وهذه الأعمال جمعت للمعلى بن طريف صاحب نهر المعلى، ولمحمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عمارة سخياً سرياً جليل القدر، رفيع النفس، كثير المحاسن، وله أخبار حسان، وكان أبو العباس يعرف عمارة بالكبر وعلو القدر وشدة التنزه، فجرى بينه وبين أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة المخزومية كلام فاخرته فيه بأهلها، فقال لها أبو العباس: أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من موالي، ليس في أهلك مثله ثم أمر بإحضار عمارة على الحال التي يكون عليها، فأتاه الرسول في الحضور فاجتهد في تغيير زيه، قلم يدعه، فجاء به إلى أبي العباس، وأم سلمة خلف الستر، وإذا عمارة في ثياب ممسكة قد لطخ لحيته بالغالية، حتى قامت واستتر شعره، فقال: يا أمير المؤمنين ما كنت احب أن تراني على مثل هذه الحال، فرمى إليه بمدهن كان بين يديه فيه غالية، فقال: يا أمير المؤمنين، أترى لها في لحيتي موضعاً؟ فأخرجت إليه أم سلمة عقداً وكان له قيمة جليلة، وقالت للخادم: أعلمه أنني أهديته إليه فأخذه بيده، وشكر أبا العباس ووضعه بين يديه ونهض، فقالت أم سلمة لأبي العباس: إنما أنسيه، فقال أبو العباس للخادم: ألحقه به وقل له: هذا لك، فلم خلفته؟ فاتبعه الخادم فلما وصل إليه قال له: ما هو لي، فاردده، فلما أدى الرسالة قال له: إن كنت صادقاً فهو لك، وانصرف الخادم بالعقد، وعرف أبا العباس ما جرى، وامتنع من من رده على أم سلمة وقال: قد وهبه لي فاشتريه بعشرين ألف دينار: وكان عمارة يقول: يخبز في داري ألفا رغيف في كل يوم، يؤكل منها ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون رغيفاً حلالاً، وآكل منها رغيفاً واحداً حراماً، وأستغفر الله، وكان يقول: ما أعجب قول الناس: فلان رب الدار، إنما هو كلب الدار وكانت نخوة عمارة وتيهه يتواصفان ويستسرفان، فأراد أبو جعفر أن يعبث به، وخرج يوماً من عنده فأمر بعض خدمه أن يقطع حمائل سيفه لينظر أيأخذه أم لا؟ وسقط السيف، ومضى عمارة ولم يلتفت وحدث ميمون بن هارون عمن يثق به: أن عمارة بن حمزة كان من تيهه إذا أخطأ يمضي على خطئه ويتكبر عن الرجوع ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة، الخطأ أهون من ذلك. وكان عمارة بن حمزة يوماً يماشي المهدي في أيام المنصور ويده في يده، فقال له رجل: من هذا أيها الأمير؟ فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر المهدي ذلك لعمارة كالمازح، فقال عمارة: إنما انتظرت أن تقول: مولاي، فأنفض والله يدي من يدك، فضحك المهدي.
وحكى عن عمارة بن حمزة أنه قال: انصرفت يوماً من دار أبي جعفر المنصور بعد أن بايع للمهدي بالعهد إلى منزلي، فلما صرت إليه صار إلي المهدي فقال: قد بلغني أن أمير المؤمنين قد عزم على أن يبايع لأخي جعفر بالعهد بعدي، وأعطي الله عهداً لئن فعل لأقتلنه.
قال: فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فلما دخلت إليه قال: هيه يا عمارة، ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث، أنا ذاكره، قال: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال لك: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك كنت ثالثنا، قال: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك يا أبا عبد الله.

وقال محمد بن يزداد: قلد المنصور عمارة بن حمزة الخراج بكور دجلة، والأهواز وكور فارس، وتوفي المنصور سنة ثمان وخمسين ومائة وعمارة يتقلد جميع هذه الكور، وبلغ موسى الهادي حال بنت لعمارة جميلة فراسلها، فقالت لأبيها ذلك: فقال: ابعثي إليه في المصير إليك، وأعلميه أنك تقدرين على إيصاله إليك في موضع يخفي أثره، فأرسلت إليه بذلك، وحمل موسى نفسه على المصير إليها، فأدخلته قد فرشت وأعدت له، فلما حصل فيها دخل عليه عمارة فقال له: السلام عليك أيها الأمير، ماذا تصنع ههنا؟ اتخذناك ولي عهد فينا، أو فحلاً لنسائنا؟ ثم أمر به فبطح في موضعه، وضربه عشرين درة خفيفة ورده إلى منزله، فحقد الهادي ذلك عليه، فلما ولي الخلافة دس عليه رجلاً يدعي عليه أنه غصبه الضيعة المعروفة بالبيضاء بالكوفة، وكانت قيمتها ألف ألف درهم، فبينا الهادي ذات يوم قد جلس للمظالم وعمارة بن حمزة بحضرته إذ وثب الرجل فتظلم منه، فقال له الهادي: قم فاجلس مع خصمك، وإن كانت له فهي له، ولا أساوي هذا النذل في المجلس، ثم قام وانصرف مغضباً، وقلد المهدي عمارة بن حمزة الخراج بالبصرة، فكتب إليه يسأله أن يضم إليه الأحداث مع الخراج ففعل ذلك، وقلده الأحداث مضافة إلى الخراج، وكان عمارة أغور دميماً، فقال فيه بعض أهل البصرة:
أراك وما ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلا
وأنت إذا نظرت بملء عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلا
كأني قد رأيتك بعد شهر ... ببطن الكف تلتمس السبيلا
ومدحه سلمة بن عباس فقال:
بلوت وحربت الرجال بخبرة ... وعلم ولا ينبيك عنهم كخابر
فلم أر أحرى من عمارة فيهم ... بود ولا أوفى بجار مجاور
وأكرم عند النائبات بداهة ... إذا نزلت بالناس إحدى الدوائر
تمسك بحبل من عمارة واعتصم ... بركن وفي عهده غير غادر
كأن الذي ينتابه عن جناية ... يمت بقربي عنده وأواصر
فنعم معاذ المستجير ومنزل ال ... كريم ومثوى كل عان وزائر
ولعمارة شعر، منه ما أنشده الجهشياري:
لا تشكون دهراً صححت به ... إن الغني في صحة الجسم
هبك الإمام أكنت منتفعاً ... بغضارة الدنيا مع السقم؟
وكرهه أهل البصرة لتيهه وعجبه، فذكر الأرقط: أنه رفع أهل البصرة على عمارة أنه أختان مالاً كثيراً، فسأله المهدي عن ذلك فقال: والله يا أمير المؤمنين، لو كانت هذه الأموال التي يذكرونها في جانب بيتي ما نظرت إليها، فقال: أشهد إنك لصادق ولم يراجعه فيها. ودخل صالح بن خليل الناسك على المهدي فوعظه وأبكاه طويلاً، وذكر له سيرة العمرين، فأجابه المهدي: بفساد الزمان وتغير أهله وما حدث له من العادات، وذكر له جماعة من أصحابه وما لهم من الأموال والنعمة، وذكر فيهم عمارة بن حمزة وقال: بلغني أن له ألف دواج بوبر، سوى مالا وبر فيه، وسوى غيها من الأصناف التي يتدثر بها، وكان الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك شديد الكبر، عظيم التيه والعجب، فعوتب في ذلك فقال: هيهات، هذا شيء حملت عليه نفسي، لما رأيته من عمارة بن حمزة، فإن أبي كان يضمن فارس من المهدي، فحل عليه ألف ألف درهم، فأخرج ذلك كاتب الديوان، فأمر المهدي أبا عون عبد الله بن يزيد بمطالبته وقال له: إن أدى إليك المال قبل أن تغرب الشمس من يومنا هذا وإلا فأتني برأسه، وكان متغضباً عليه، وكانت حيلته لا تبلغ عشر المال، فقال لي: يا بني إن كانت لنا حيلة فليس إلا من قبل عمارة بن حمزة وإلا فأنا هالك، فامض إليه فمضيت إليه، فلم يعرني الطرف، ثم تقدم من ساعته بحمل المال فحمل إلينا، فلما مضى شهران جمعنا المال فقال أبي: امض إلى الشريف الحر الكريم فأد إليه ماله، فلما عرفته خبره غضب وقال: ويحك! أكنت قسطاراً لأبيك؟ فقلت: لا، ولكنك أحييته ومننت عليه، وهذا المال قد استغنى عنه. فقال: هو لك. فعدت إلى أبي فقال: لا، والله ما تطيب نفسي لك به، ولكن لك منه مائتا ألف درهم، فتشبهت به حتى صار خلقاً لي لا أستطيع مفارقته.

وحدث أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتاب له صنفه في السخاء: حدثنا القاضي الحسن بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن سعد الوراق، حدثني هارون بن محمد بن إسماعيل القرشي قال: أخبرني عبد الله بن أبي أيوب المكي قال: بعث أبو أيوب المكي بعض ولده إلى عمارة بن حمزة، فأدخله الحاجب، قال: ثم أدناني إلى ستر مسبل فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو مضطجع محول وجهه إلى الحائط، فقال لي الحاجب: سلم، فسلمت ولم يرد السلام، فقال الحاجب: اذكر حاجتك، فقلت له: - جعلني الله فداءك - أخوك أبو أيوب يقرئك السلام، ويذكر ديناً بهضه وستر وجهه، ويقول: لولاه لكنت مكان رسولي، تسأل أمير المؤمنين قضاءه عني، فقال: وكم دين أبيك؟ فقلت: ثلاثمائة ألف درهم، فقال: وفي مثل هذا أكلم الأمير؟ يا غلام: احملها معه، وما التفت إلي ولا كلمني غير هذا.
قال الدارقطني: حدثنا حسين بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد، حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي، حدثنا محمد بن سلام الجمحي، حدثنا الفضل بن الربيع قال: كان أبي يأمرني بملازمة عمارة بن حمزة، قال: فاعتل عمارة وكان المهدي سيئ الرأي فيه، فقال له أبي يوماً: يا أمير المؤمنين، مولاك عمارة عيلي، وقد أفضى إلى بيع فرشه وكسوته. فقال: غفلنا عنه، وما كنت أظن أنه بلغ إلى هذه الحالة! احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع، وأعلمه أن له عندي بعدها ما يحب. قال: فحملها أبي من ساعته وقال لي: اذهب بها إلى عمك وقل له: أخوك يقرئك السلام ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك، فاعتذر من غفلته عنك، وأمر لك بهذه الدراهم وقال: لك عندي ما تحب. قال: فأتيته ووجهه إلى الحائط، فسلمت فقال لي: من أنت؟ فقلت له: ابن أخيك الفضل بن الربيع. فقال: مرحباً بك، وأبلغته الرسالة فقال: قد كان طال لزومك لنا، وقد كنا نحب أن نكافئك على ذلك ولم نتمكن قبل هذا الوقت، انصرف بها فهذه لك. قال: فهبته أن أرد عليه، فتركت البغال على بابه وانصرفت إلى أبي، فأعلمته الخبر فقال لي: يا بني، خذها - بارك الله لك فيها - فليس عمارة ممن يراجع، فكان أول مال ملكته.
قال ابن عبدوس: وكان الماء زائداً في أيام الرشيد، فركب يحيى بن خالد والقوا ليعرفوا المواضع المخوفة من الماء ليحفظوها، ففرق القواد، وأمر بإحكام المسنيات، وسار إلى الدور، فوقف ينظر إلى قوة الماء وكثرته. فقال قوم: ما رأينا مثل هذا الماء! فقال يحيى: قد رأيت مثله في سنة من السنين، وكان أبو العباس خالد - يعني أباه - وجهني فيها إلى عمارة بن حمزة في أمر رجل كان يعنى به من أهل جرجان، وكانت له ضياع بالري، فورد عليه كتابه يعلمه أن ضياعه تحيفت فخربت، وأن نعمته قد نقصت، وحاله قد تغيرت، وأن صلاح أمره في تأخيره بخراجه سنة، وكان مبلغه مائة ألف درهم، ليتقوى به على عمارة ضيعته، ويؤديه في السنة المستقبلة، فلما قرأ أبي كتابه غمه وبلغ منه، وكان بعقب ما ألزمه إياه أبو جعفر من المال الذي خرج عليه، فخرج به عن ملكه واستعان بجميع إخوانه فيه، فقال: يا بني: من ههنا نفزع إليه في أمر هذا الرجل؟ فقلت: لا أدري. فقال: بلى عمارة بن حمزة، فصر إليه وعرفه حال الرجل، فصرت إليه وقد أمدت دجلة، وكان ينزل في الجانب الغربي، فدخلت إليه وهو مضطجع على فراشه فأعلمته ذلك، فقال: قف لي غداً بباب الجسر ولم يزد على ذلك، فنهضت ثقيل الرجلين، وعدت إلى أبي العباس والدي بالخبر، فقال لي: يا بني، تلك سجيته، فإذا أصبحت فاغد لوعده، فغدوت إلى باب الجسر، وقد جادت دجلة في تلك الليلة بمد عظيم قطع الجسور، وانتظم الناس من الجانبين جميعاً ينظرون إلى زيادة الماء، فبينا أنا واقف إذا بزورق قد أقبل والموج يخفيه مرة ويظهره أخرى، والناس يقولون: غرق، غرق، نجا، نجا، حتى دنا من الجرف، فإذا عمارة بن حمزة في الزورق بلا شيء معه، وقد خلف دوابه وغلمانه في الموضع الذي ركب منه، فلما رأيته نبل في عيني وملأ صدري، فنزلت وغدوت إليه فقلت: - جعلت فداك - في مثل هذا اليوم؟ فأخذت بيده فقال: كنت أعدك وأخلف يا بن أخي؟ اطلب لي برذون كراء، قال: فقلت: برذوني، فقال: هات، فقدمت إليه برذوني فركب، وركبت برذون غلامي، وتوجه يريد أبا عبيد الله وهو إذ ذاك على الخراج، والمهدي ببغداد خليفة للمنصور، والمنصور في بعض أسفاره.

قال: فلما طلع على حاجب أبي عبيد الله، دخل بين يديه إلى نصف الدار ودخلت معه، فلما رآه أبو عبيه الله قام عن مجلسه وأجلسه فيه وجلس بين يديه، فأعلمه عمارة حال الرجل وسأله إسقاط خراجه، وهو مائتا ألف دينار، وإسلافه من بيت المال مائتي ألف يردها في العام المقبل فقال له أبو عبيه الله: هذا لا يمكنني، ولكني أؤخره بخراجه إلى العام المقبل. فقال له: لست أقبل غير ما سألتك، فقال أبو عبيد الله فاقنع بدون ذلك لتوجد لي السبيل إلى قضاء حاجة الرجل. فأبى عمارة وتلوم عبيد الله قليلاً، فنهض عمارة فأخذ أبو عبيد الله بكمه وقال: أنا أحتمل ذلك في مالي، فعاد إلى مجلسه. وكتب أبو عبيد الله إلى عامل الخراج بإسقاط خراج الرجل لسنته، والاحتساب به على أبي عبيد الله وإسلافه مائتي ألف درهم ترتجع منه في العام المقبل، فأخذت الكتاب وخرجنا فقلت له: لو أقمت عند أخيك ولم تعبر في هذا المد؟ قال: لست أجد بداً من العبور، فصرت معه إلى الموضع ووقفت حتى عبر.
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ودخل عمارة يوماً على المهدي فأعظمه، فلما قام قال له رجل من أهل المدينة من القرشيين: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام كله؟ فقال: هذا عمارة بن حمزة مولاي، فسمع عمارة كلامه، فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين، جعلتني كبعض خبازيك وفراشيك، ألا قلت: عمارة بن حمزة بن ميمون، مولى عبد الله بن عباس ليعرف الناس مكاني؟.
عمر بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمدابن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين ذي الدمعة بن زيد الإمام الشهيد بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليه السلام، يكنى أبا البركات من أهل الكوفة، إمام من أئمة النحو واللغة والفقه والحديث، مات فيما ذكره السمعاني في شعبان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في أيام المقتفي، ودفن في المسبلة التي للعلويين، وقدر من صلى عليه بثلاثين ألفاً، وكان مولده في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، أخذ النحو عن أبي القاسم زيد بن علي الفارسي، عن أبي الحسين عبد الوارث، عن خاله أبي علي الفارسي، وأخذ عنه أبو السعادات بن الشجري، وأبو محمد بن بنت الشيخ.
قال السمعاني: وكان خشن العيش صابراً على الفقر، قانعاً باليسير، سمعته يقول: أنا زيدي المذهب، ولكني أفتي على مذهب السلطان - يعني أبا حنيفة - . سمع ببغداد أبا بكر الخطيب، وأبا الحسين بن الناقور، وبالكوفة أبا الفرج محمد بن علاء الخازن وغيره، ورحل إلى الشام وسمع من جماعة، وأقام بدمشق وحلب مدة قال: وحضرت عنده وسمعت منه، وكان حسن الإصغاء سليم الحواس، ويكتب خطاً مليحاً سريعاً على كبر سن، وكنت ألازمه طول مقامي بالكوفة في الكور الخمس، وما سمعت منه في طول ملازمتي له شيئاً في الاعتقاد أنكرته، غير أني كنت يوماً قاعداً في باب داره وأخرج لي شذرة من مسموعاته، وجعلت أفتقد فيها حديث الكوفيين، فوجدت فيها جزءاً مترجماً بتصحيح الأذان بحي على خير العمل، فأخذته لأطالعه فأخذه من يدي وقال: هذا لا يصلح لك، وله طالب غيرك، ثم قال: ينبغي للعالم أن يكون عنده كل شيء، فإن لكل نوع طالباً.
وسمعت يوسف بن محمد بن مقلد يقول: كنت أقرأ على الشريف عمر جزءاً فمر بي حديث فيه ذكر عائشة فقلت: - رضي الله عنها - فقال لي الشريف: تدعو لعدة علي؟ أو تترضى على عدوة علي؟! فقلت: حاشا وكلا، ما كانت عدوة علي. وسمعت أبا الغنائم ابن النرسي يقول: كان الشريف عمر جارودي المذهب لا يرى الغسل من الجنابة، وسمعته يقول: دخل أبو عبد الله الصوري الكوفة فكتب بها عن أربعمائة شيخ، وقدم علينا هبة الله بن المبارك السقطي، فأفدته عن سبعين شيخاً من الكوفيين، وما بالكوفة اليوم أحد يروي الحديث غيري، ثم ينشد:
إني دخلت اليمنا ... لم أر فيها حسنا
ففي حرام بلدة ... أحسن من فيها أنا

قال المؤلف: وحكى أن أعرابيين مرا بالشريف عمر وهو يغرس فسيلاً، فقال أحدهما للآخر: أيطمع الشيخ مع كبره أن يأكل من جني هذا الفسيل؟! فقال الشريف: يا بني، كم من كبش في المرعى وخروف في التنور، ففهم أحدهما ولم يفهم الآخر، فقال الذي لم يفهم لصاحبه: إيش، قال؟ قال: إنه يقول: كم من ناب يسقى في جلد حوار، فعاش حتى أكل من ثمر ذلك الفسيل. وللشريف تصانيف، منها: كتاب شرح اللمع.
وكان إبراهيم بن محمد أبو الشيخ أبي البركات أيضاً شاعراً أديباً ذا حظ من النحو واللغة، وهو مذكور في بابه. قال تاج الإسلام: سمعت عمر بن إبراهيم بن محمد الزيدي يقول: لما خرجنا من طرابلس الشام متوجهين إلى العراق، خرج لوداعنا الشريف أبو البركات بن عبيد الله العلوي الحسني، وودع صديقاً لنا يركب البحر إلى الإسكندرية، فرأيت خالك يتفكر فقلت له: أقبل على صديقك، فقال لي: قد عملت أبياتاً اسمعها، فأنشدني في الحال:
قربوا للنوى القوارب كيما ... يقتلوني ببينهم والفراق
شرعوا في دمي بتشديد شرع ... تركوني من شدها في وثاق
قلعوا حين أقلعوا لفؤادي ... ثم لم يلبثوا لقدر الفواق
ليتهم حين ودعوني وساروا ... رحموا عبرتي وطول اشتياقي
هذه وقفة الفراق فهل أح ... يا ليوم يكون فيه التلاقي؟
قال في تاريخ الشام: حكى أبو طالب بن الهراس الدمشقي - وكان حج مع أبي البركات - : أنه صرح له بالقول بالقدر وخلق القرآن، فاستعظم أبو طالب ذلك منه وقال: إن الأئمة على غير ذلك، فقال له: إن أهل الحق يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بأهله، قال: هذا معنى حكاية أبي طالب.
عمر بن بكيركان صاحب الحسن بن سهل خصيصاً به ومكيناً عنده يسائله عن مشكلات الأدب، وكان رواية ناسباً أخبارياً نحوياً، وله عمل الفراء كتاب معاني القرآن، وذكر ذلك في أخبار الفراء.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب الأيام يتضمن يوم الغول، يوم الظهر، يوم أرمام، يوم الكوفة، غزوة بني سعد بن زيد مناة، يوم مبايض.
حدث ميمون بن هارون قال: حدثني أبو الحسن محمد بن عمر بن بكير قال: كان أبي بين يدي المنتصر وهو أمير، وأحمد بن الخصيب كاتب المنتصر فقال: دعنا من الرسوم الدائرة والعظام البالية، فوثب عمر بن بكير فقال: أيها الأمير: إن للحسن بن سهل علي نعماً عظاماً، وله في عنقي منن جمة، فقال: ما هي يا عمر؟ قال: ملأ يأيها الأمير منزلي ذهباً وفضة، وأدنى مجلسي حتى زال عن مجلسه، وخلع علي فألحقني برؤساء أهل العلم، كأبي عبيدة والأصمعي، ووهب بن جرير وغيرهم، وقد أقدرني الله بالأمير على مكافأته، وهذا من أوقاته، فإن رأى الأمير أن يسهل إذنه، ويجعل ذلك على يدي وحبوة لي وذريعة إلى مكافأة الحسن فعل، فقال: يا أبا حفص، بارك الله عليك، فمثلك يستودع المعروف، وعندك يتم البر، ومثلك يرغب الأشراف في اتخاذ الصنائع، وقد جعلت إذن الحسن إليك، فأدخله في أي وقت حضر من ليل أو نهار، ولا سبيل لأحد من الحجاب عليه، فقبل أبي البساط ووثب إلى الباب، فأدخل الحسن وأتكأه على يده، فلما سلم على المنتصر أمره بالجلوس فجلس وقال له: قد صيرت إذنك إلى أبي حفص، ورفعت يد الحاجب عنك، فاحضر إذا شئت من غدو أو رواح، وارفع حوائجك، وتكلم بكل ما في صدرك، فقال الحسن: أيها الأمير، والله ما أحضر طلباً للدنيا، ولا رغبة فيها ولا حرصاً عليها، ولكن عبد يشتاق إلى سادته، وبلقائهم يشتد ظهوره، وينبسط أمله، وتتجدد نعم الله عنده، وما أحضر لغير ذلك، وأحمد بن الخطيب يتقد غيظاً، فقال له المنتصر: فاحضر الآن أي وقت شئت، فأكب الحسن على البساط فقبله شكراً ونهض.
قال أبي: ونهضت معه، فلما بعدنا عن عين المنتصر بلغني أن المنتصر قال: هكذا فليكن الشاكرون، وعلى أمثال هذا فلينعم المنعمون. وقال الحسن لعمر يا أبا حفص: والله ما أدري بأي لسان أثني عليك؟ فقال: سبحان الله، أنا أولى بالشكر والثناء عليك والدعاء لك، خولتني الغنى وألبستني النعمى في الزمان الصعب، وفي الحال التي كان يجفوني فيها الحميم، فجزاك الله عني وعن ولدي أفضل الجزاء.
فقال الحسن: وا لهفتا، ألا يكون ذلك المعروف أضعاف ما كان. لا در در الفوت، وتعساً للندم وأحواله، والله در الخزيمي حيث يقول:

ودون النوى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وود الفتى في كل نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أن نائله جذل
ثم قال لي أبي: يا محمد اخرج معه - أعزه الله - حتى تؤديه إلى منزله. قال أبو الحسن: فخرجت معه فلم أزل أحادثه حتى جرى ذكر رزين العروضي الشاعر، وكان قد امتدحه بقصيدة، فمات رزين قبل أن يوصلها إلى الحسن، فقلت: أيد الله الأمير، كان شاعر من أهل العلم والأدب مدح الأمير بقصيدة وهي في العسكر مثل، ومات قبل أن يسمعها الأمير، قال: فأسمعنيها، فأنشدته إياها وأولها:
قربوا جمالهم للرحيل ... غدوة أحبتك الأقربون
خلفوك ثم مضوا مدلجين ... منفرداً بهمك ما ودعوك
وفيها:
من مبلغ الأمير أخي المكرمات ... مدحة محبرة في ألوك؟
تزدهي كواسطة في النظام ... فوق نحر جارية تستبيك
يابن سادة زهر كالنجوم ... محيياً سيادة ما أولوك
ذو الرياستين أخوك النجيب ... فيه كل مكرمة وفيك
ذو الرياستين وانت الذان ... يحييان سنة غازي تبوك
لم تزالا حياً للبلاد ... والعباد ما لكما من شريك
أنتما إن أقحط العالمون ... منتهى الغياث ومأوى الضريك
يابن سهل الحسن المستغاث ... وفي الوغى إذا اضطرب الفكيك
يا لمن ألح عليه الزمان ... مفزع لغيرك يا بن الملوك
لا ولا وراءك للراغبين ... مطلب سواك حاشا أخيك
والقصيدة غريبة العروض، قال أبو الحسن: وأنا والله أنشده وعيناه تهمي على خده فتقطر على نحره، ثم قال: والله ما أبكي إلا لقصور الأيام عما أريده لقاصدي، ثم جعل يتلهف ويقول: ما الذي منعه من اللقاء، تعذر الحجاب أم قعود الأسباب؟ فقلت: اعتل - جعلني الله فداك - على توفي فيها، فجعل يترحم عليه ثم قال: والله لا أكون أعجز من عاقمة بن علاثة حيث مات قبل وصول النابغة إليه بالقصيدة التي رحل بها إليه حيث يقول:
فما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
الأبيات، فبلغت الأبيات علقمة فأوصى له بمثل نصيب ابن له، ولكن هل لهذا الشاعر وارث؟ قلت: نعم، بنية، قال: تعرف مكانها؟ قلت: نعم، قال: والله ما يتسع وقتي هذا لما أنويه ولكن القليل والعذر يسعنا، ثم دعا غلاماً وقال: هات، ما بقي من نفقة شهرنا. فأتى بألفي درهم في صرة فدفعها إلي وقال: يا أبا الحسن، خذ ألفاً وأعط الصبية ألفاً، فأخذت الألفين وانصرفت وعملت بما أمرني به. ومات الحسن بن سهل بسر من رأى في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائتين في أيام المتوكل.
قال المؤلف: ما نسب إلى علقمة في هذه الحكاية غلط. لأن الوارد عليه هو الخطيئة، وكان علقمة والياً على حوران، فلما قاربه مات علقمة، فقال الخطيئة الأبيات. لكن هكذا هذه الحكاية، ولا أدري كيف حالها؟
الجزء السادس عشر
عمر بن أحمد يعرف بابن العديمبن أبي جرادة، يعرف بابن العديم العقيلي يكنى أبا القاسم، ويلقب كمال الدين، من أعيان أهل حلب وأفاضلهم، وهو عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القبيلة ابن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وبيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب، أدباء شعراء فقهاء، عباد زهاد قضاة، يتوارثون الفضل كابراً عن كابر وتالياً عن غابر، وأنا أذكر قبل شروعي في ذكره شيئاً من مآثر هذا البيت، وجماعة من مشاهيرهم،ثم أتبعه بذكره ناقلاً ذلك كله من كتاب ألفه كمال الدين - أطال الله بقاءه - ، وسماه الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة، وقرأته عليه فأقر به. سألته أولاً: لم سميتم ببني العديم؟ فقال: سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه وقال: هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا ولا أحسب إلا أن جد جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة - مع ثروة واسعة، ونعمة شاملة - كان يكثر في شعره من ذكر العدم، وشكوى الزمان فسمي بذلك، فإن لم يكن ذلك سببه فلا أدري ما سببه؟.
حدثني كمال الدين أبو القاسم قال: حدثني جمال الدين أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة عمي قال: لما ختمت القرآن قبل والدي - رحمه الله - بين عيني وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي، هذا الذي كنت أرجوه فيك.
حدثني جدك عن أبيه عن سلفه: أنه ما منا أحد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من ختم القرآن.
قال المؤلف: وهذا منقبة جليلة لا أعرف لأحد من خلق الله شرواها، وسألت عنها قوماً من أهل حلب فصدقوها، وقال لي زين الدين محمد بن عبد القاهر بن النصيبي: دع الماضي واستدل بالحاضر، فإنني أعد لك كل من هو موجود في وقتنا هذا، وهم خلق ليس فيهم أحد إلا وقد ختم القرآن، وجعل يتذكرهم واحداً واحداً فلم يخرم بواحد.
حدثني كمال الدين - أطال الله بقاءه - قال: وكان عقب بني أبي جرادة من ساكني البصرة في محلة بني عقيل بها، فكان أول من انتقل منهم عنها موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة إلى حلب بعد المائتين للهجرة، وكان وردها تاجراً وحدثني قال: حدثني عمي أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة قال: سمعت والدي يذكر فيما تأثره عن سلفه: أن جدنا قدم إلى البصرة في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب قال: وسمعت والدي يذكر أنه بلغه أنه وقع طاعون بالبصرة فخرج منها جماعة من بني عقيل وقدموا الشام فاستوطن جدنا حلب قال: وكان لموسى من الولد محمد وهارون وعبد الله. فأما محمد فله ولد اسمه عبد الله، ولا أدري أعقب أم لا؟ وأما العقب الموجود الآن فلهارون وهو جدنا، ولعبد الله وهم أعمامنا. فمن ولد عبد الله: القاضي أبو طاهر عبد القاهر بن علي بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن موسى بن أبي جرادة، وهو من سادات هذا البيت وأعيانهم، ومات في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فقال القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة يرثيه - وكانت قد توفيت قبل وفاة القاضي أبي الفضل أخته بأيام قلائل، فتوجع للماضين - :
صبرت لا عن رضى مني وإيثار ... وهل يرد بكائي حتم أقدار؟
أروم كف دموعي وهي في صبب ... وأبتغي برد قلبي وهو في نار
ما لليالي تعري جانبي أبداً ... من أسرتي وأخلائي وأوزاري
تلذ طعم مصيباتي فأحسبها ... تظمأ فيروي صداها ماء أشفاري
محاسن جدت الأرض الفضاء بها ... وطالما صنتها عن لحظ أبصاري
وواضح كسنا الإصباح أنقله ... من رأي عيني إلى سري وإضماري
إن الردى أقصدتني غير طائشة ... سهامها في فتى كالكوكب الواري
رمته صائبة الأقدار من كثب ... وما رعت عذر أقدار وأخطار
وهي قصيدة غراء طويلة. ومنهم أبو المجد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد، شيخ فاضل أديب شاعر، له معرفة باللغة والعربية، سمع بحلب أستاذه أبا عبد الله الحسين بن عبد الواحد بن محمد بن عبد القادر القنسريني المقرئ مؤلف كتاب التهذيب في اختلاف القراء السبعة، وسمعه ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله، وله أشعار حسان منها:
توسوس عن علي الزمان ... ففي كل يوم له معضلة
فلو جعلوا أمره ليلة ... إلي لأصبح في سلسلة

ومات الشيخ أبو المجد بحلب في حدود سنة ثمانين وأربعمائة. ومنهم ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صدر زمانه، وفرد أوانه، ذو فنون من العلوم، وخطه مليح جداً، على غاية من الرطوبة والحلاوة والصحة، وله شعر يكاد يختلط بالقلب، ويسلب اللب لطافة ورقة، تصدر بحلب لإفادة العلوم الدينية والأدبية متفرداً بذلك كله، ورتب غريب الحديث لأبي عبيد على حروف المعجم رأيته بخطه، وشرع في شرح أبياته شروعاً لم يقصر فيه، ظفرت منه بكراريس من مسوداته لأنه لم يتم. سمع بحلب والده أبا المجد وأبا الفتح عبد الله بن إسماعيل الحلي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر وغيرهم. ورحل عن حلب قاصداً للحج في ثالث شعبان سنة ست عشرة وخمسمائة، ووصل إلى بغداد وسمع بها أبا محمد بن عبد الله بن علي المقرئ وغيره، ولم يتيسر للناس في هذا العام حج، فعاد من بغداد إلى حلب، ثم سافر إلى الموصل بعد ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسمع بها، وأدركه تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني فسمع منه بحلب هو وجماعة وافرة، وذكره السمعاني في المذيل لتاريخ بغداد. قال المؤلف: وقد ذكرته في هذا الكتاب في موضعه بما ذكره السمعاني به.
حدثني كمال الدين قال: سمعت والدي - رحمه الله - يقول: كتب الشيخ أبو الحسن بن أبي جرادة بخطه ثلاث خزائن من الكتب لنفسه، وخزانة لابنه أبي البركات، وخزانة لابنه أبي عبد الله. ومن شعره - أنبأنا به تاج الدين زيد بن الحسن الكندي من قصيدة يصف فيها طول الليل - :
فؤاد بالأحبة مستطار ... وقلب لا يقر له قرار
وما أنفك من هجر وصد ... وعتب لا يقوم له اعتذار
وعين دمعها جم غزير ... ولكن نومها نزر غرار
كأن جفونها عند التلاقي ... تلاقيها الأسنة والشفار
وهذا حالها وهم حلول ... فكيف بها إذا خات الديار
أبيت الليل مرتقباً كئيباً ... لهم في الضلوع له أوار
كأن كواكب الفلك اعتراها ... فتور أو تخونها المدار
ومنها:
فيا لك ليلة طالت ودامت ... فليس لصبحها عنها انسفار
أسائلها لأبلغ منتهاها ... لعل الهم يذهبه النهار
ومات الشيخ أبو الحسن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة عن ثمان وثمانين سنة. ومنهم ولده أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة، وكان فاضلاً كاتباً شاعراً أديباً، يكتب النسخ على طريقة أبي عبد الله بن مقلة، والرقاع على طريقة علي بن هلال، وخطه حلو جيد جداً خال من التكلف والتعسف. سمع أباه بحلب. وكتب عنه السمعاني عند قدومه حلب. وسار في حياة أبيه إلى الديار المصرية، واتصل بالعادل أمير الجيوش وزير المصريين وأنس به، ثم نفق بعده على الصالح بن رزيك وخدمه في ديوان الجيش، ولم يزل بمصر إلى أن مات بها في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ومن شعره في صدر كتاب كتبه إلى أخيه عبد القاهر في سنة ست وأربعين وخمسمائة:
سرى من أقاصي الشام يسألني عني ... خيال إذا ما راد يسلبني مني
تركت له قلبي وجسمي كليهما ... ولم يرض إلا أن يعرس في جفني
وإني ليدنيني اشتياقي إليكم ... ووجدي بكم لو أن وجد الفتى يدني
وأبعث آمالي فترجع حسراً ... وقوفاً على ضن من الوصل أو ظن
فليت الصبا تسري بمكنون سرنا ... فتخبرني عنكم وتخبركم عني
وليت الليالي الخاليات عوائد ... علينا فتعتاض السرور من الحزن
ومن شعره:
ما ضرهم يوم جد البين لو وقفوا ... وزودوا كلفاً أودى به الكلف
تخلفوا عن وداعي ثمت ارتحلوا ... وأخلفوني وعوداً ما لها خلف
واوصلوني بهجر بعد ما وصلوا ... حبلي وما أنصفوني لكن انتصفوا
فليتهم عدلوا في الحكم إذ ملكوا ... وليتهم أسعفوا بالطيف من شعفوا
ما للمحب وللعذال ويحهم؟ ... خانوا ومانوا ولما عنفوا عنفوا
أستودع الله أحباباً ألفتهم ... لكن على تلفي يوم النوى ائتلفوا

عمري لئن نزحت بالبين دارهم ... عني فما نزحوا دمعي وما نزفوا
يا حبذا نظرة منهم على عجل ... تكاد تنكرني طوراً وتعترف
سقت عهودهم غداء واكفة ... تهمي ولو أنها من أدمعي تكف
أحبابنا ذهلت ألبابنا ومحا ... عتابنا لكم الإشفاق والأسف
بعدتم فكأن الشمس واجبة ... من بعدكم وكأن البدر منخسف
يا ليت شعري هلى يحظى برؤيتكم ... طرفي وهل يجمعن ما بيننا طرف؟
ومضمر في حشاه من محاسنكم ... لفظاً هو الدر لا ما يضمر الصدف
كنا كغصنين حال الدهر بينهما ... أو لفظتين لمعنى ليس يختلف
فأقصدتنا صروف الدهر نابلة ... حتى كأن فؤادينا لها هدف
فهل تعود ليالي الوصل ثانية ... ويصبح الشمل منا وهو مؤتلف؟
ونلتقي بعد يأس من أحبتنا ... كمثل ما يتلاقى اللام والألف
وما كتبت على مقدار ما ضمنت ... مني الضلوع ولا ما يقتضي اللهف
فإن أتيت بمكنوني فمن عجب ... وإن عجزت فإن العذر منصرف
ومنهم: أخوه أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة، كان ظريفاً لطيفاً أديباً شاعراً كاتباً، وله الخط الرائق، والشعر الفائق، والتهذيب الذي تبحر في جودته ويلتحق بالنسبة إلى ابن البواب، والتأنق في الخط المحرر الذي يشهد بالتقدم في الفضل وإن تأخر. سمع بحلب أباه أبا الحسن وغيره، وكتب عنه جماعة من العلماء، وكان أميناً على خزائن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وذا منزلة لطيفة منه، ومن شعره - وكتبه بليقة ذهب - :
ما اخترت إلا أشرف الرتب ... خطا أخلد منه في الكتب
والخط كالمرآة ننظرها ... فنرى محاسن صورة الأدب
هو وحده حسب يطال به ... إن لم يكن إلاه من حسب
ما زلت أنفق فيه من ذهب ... حتى جرى فكتبت بالذهب
وقال أيضاً وهو بدمشق في سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
أمت ببذلي خالصاً من مودتي ... إلى من سواء عنده المنع والبذل
وتحسب نفسي والأماني ضلة بأني من شغل الذي هو لي شغل
ألا إن هذا الحب داء موافق ... وإن شفاء الداء ممتنع سهل
عفى الله عمن إن حنى فاحتملته ... تجنى فعاد الذنب لي وله الفضل
ومن كلما أجمعت عنه تسلياً ... تبينت أن الرأي في غيره جهل
سأعرض إلا عن هواه فإنه ... جميل بمثلي حب من ماله مثل
وألقى مقال الناصحين بمسمع ... ضربت عليه بالغواية من قبل
فعندي وإن أخفيت ذاك عن العدى ... عزيمة هم لا تكل ولا تألو
ولي في حواشي كل عذل تلفت ... إلى حب من في حبه قبح العذل
وإني لأدنى ما أكون من الهوى ... إذا أرجف الواشون بي أنني أسلو
هذا لعمري والله الغاية في الحسن والطلاوة، والرونق والحلاوة. وقال أيضاً:
عاد قلبي إلى الهوى من قريب ... ما محب بمنته عن حبيب
طال يا همتي تماديك في الرش ... د خذي من غواية بنصيب
وإذا ما رأيت حسناً غريباً ... فاستعدي له بوجد غريب
يا غزالاً مالت له نشوة العج ... ب فهزت عطفيه هز القضيب
بين ألحاظك المراض وبيني ... نسب لو رعيت حق النسيب
أنت أجريت أعين الدمع من عي ... ني وأوريت زند قلبي الكئيب
لا تقل ليس لي بذلك علم ... فعلى مقلتيك سيما مريب
ما تعديك في الذي أنت فيه ... إن حظي لديك حظ أديب
ومات في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ومنهم ابن أخيه أبو الفتح عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي جرادة، وكان يجيد الكتابة وجمع مجاميع حسنة، وجمع شعر والده أبي عبد الله الحسن، وشعر عمه أبي البركات عبد القاهر، وله شعر لا بأس به منه:

من ذا مجيري من يدي شادن ... مهفهف القد مليح العذار
قد كتب الشعر على وجهه ... أسطر مسك طرسها جلنار
فهؤلاء من بني عبد الله بن موسى بن عيسى. وأما أخوه هارون بن موسى، فهو أول من اشترى بحلب ملكاً في قرية تعرف بأورم الكبرى، وكان له ولدان: زهير وأحمد،والعقب لزهير وهو الذي اشترى أكثر أملاك بني أبي جرادة، مثل أورم الكبرى، ويحمول، وأقذار ولؤلؤة والسين وهي قرى، ووقف وقفاً على شرا فرس يجاهد به في سبيل الله. وتوفي في حدود سنة أربعين وثلاثمائة. فمن ولد زهير: أبو الفضل وهو أبو الفضل عبد الصمد بن زهير بن هارون بن موسى، ولادته في حدود سنة عشرين وثلاثمائة. سمع بحلب أبا بكر محمد بن الحسين الشيعي وغيره، وروى عنه ابن أخيه القاضي أبو الحسن أحمد، ومشرق العابد وجماعة، ولعله مات في حدود سنة تسعين وثلاثمائة وليس له عقب. ومنهم أبو جعفر يحيى بن زهير بن هارون بن موسى وهو العديم، إليه ينسبون. وقد ذكرنا أنهم لا يعرفون لم سموا ذلك؟ ومنهم: ولده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير، وهو أول من ولي القضاء بمدينة حلب من هذا البيت، وقد سمع الحديث ورواه، وقرأ الفقه على القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد السمعاني، وكان السمعاني إذ ذاك قاضي حلب. أنشدني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، أنشدني والدي لجد أبيه القاضي هبة الله بن أحمد بن يحيى يذكر أباب ويفتخر به:
أنا ابن مستنبط القضايا ... وموضح المشكلات حلا
وابن المحازيب لم تعطل ... من الكتاب العزيز تتلى
وفارس المنبر استكانت ... عيدانه من حجاه ثقلا
توفي بعد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد، كان كبير القدر جميل الأمر، مبجلاً عند آل مرداس، له شعر جزل فصيح ذو معان دقاق، يترفع قدره عنه، وإنما يقول ببلاغته وبراعته. سمع الحديث من أبيه، ولعله لقي أبا العلاء المعري وقرأ عليه شيئاً، وولي القضاء بحلب وأعمالها في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وبقي على ذلك إلى أن مات، وكانت ولايته للقضاء في أوائل دولة شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش بعد وفاة حميه القاضي كسرى بن عبد الكريم بن كسرى، وكتب تقليده من بغداد عن المقتدي بالله. ومن شعره:
لي بالغوير لبانات ظفرت بها ... قد سد من دونها لي أوضح الطرق
وبالثنية بدر لاح في غصن ... أصمى فؤادي لها سهم من الملق
سراقة لقلوب الناظرين لها ... وما يقام عليها واجب السرق
لا يفلت المرء من أشراك مقلتها ... وإن تخلص لم يفلت من العقق
وأبرزت من خلال السجف ذا شعل ... لولا بقا الليل قلنا غرة الفلق
ولائم ودموع العين واكفة ... لا يستبين لها جفن من الغرق
يقول: أفنيته والشمل مجتمع ... ولم تصنه لتوديع ومفترق
وله:
ربع لهند باللوى مصروم ... أقوى فما آو به منهوم
أخفاه إلحاح البلى فضللت في ... إنشاده لولا النسيم تهوم
تضياف طرفي فيه دمع ساجم ... وقرى فؤادي في ذراه هموم
هل عاذر في الربع رائي عيسهم ... تحدى لها وخد بهم ورسيم؟
وهوى تبعده الليلي والنوى ... إن قربته خواطر ورسوم
يا صاحبي خذا المطايا وحدها ... بدمي فما اغتالته إلا الكوم
أمضين أحكام الهوى وأعنه ... ومساعد المرء الظلوم ظلوم
وله:
وما عسى يطلب الرجال من رجل ... كاس من الفضل إن عري من المال
كالبارد العذب يوم الورد من ظمأ ... والصارم العضب في روع وأوجال
همومه في جسيمات الأمور فما ... يلفى مصاحب أطماح وآمال
ألذ من ثروة تأتي بإذلال ... عز القناعة مع صون وإقلال
وما يضر امرأً أثرت مناقبه ... أن اكسبته الليالي رقة الحال

وقال أيضاً يمدح أبا الفضائل سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب ويشكره، إذ لم يسمع فيه قول حساد وشوا به إليه:
خلها إن ظمئت تشكو الأواما ... لا تقلها الأين إن طال وداما
واجعل السرج إذا ما سغبت ... كلا والمورد العذب اللجاما
أو تراها كالحنايا بالسرى ... وبإسراع إلى المرمى سهاما
قصرت ظهراً وؤسغاً وعسيباً ... مثل ما طالت عناناً وحزاما
تنصب الأذنين حتى خيلت ... بهما تبصر ما كان أماما
وإذا ما بارت الريح اغتدت ... خلفها النكباء حسرى والنعامى
كم مقامي بين أحكام العدى ... أتبع القائد لا أعصى الزماما
أكلة الطاعم لا يرهب إنما ... أو أسير المن إن كف احتشاما
تعتلي أرؤسه أذنابه ... فترى الأرجل تعلو فيه هاما
وإلام الحظ لا ينصفني ... من زمان جار في قصدي إلاما؟
أتمنى راحة تنقذني ... منهم عزت ولو كانت لماما
ومنها:
كم رموني عامداً في هوة ... نارها تعلو اشتعالاً واضطراما
قاصدي حتفي فكانت بك لي ... نار إبراهيم برداً وسلاما
وله في المعنى من قصيدة:
هنئت يا أرض العواجم دولة ... روى ثراك بها أشم أروع
قد عاد في الأيام ماء شبابها ... وتسالمت حرق الأسى والأضلع
أشكو إليك عصابة نبذوا الحيا ... حسداً وشدوا في أذاي وأوضعوا
راموا ابتزازي مورثي عن أسرتي ... وتآزروا في قبضه وتجمعوا
يتطلبون لي الذنوب كأنني ... ممن عليه بالشنان يقعقع
لم أخش قهرهم ونصلك مصلت ... دوني ولي من حسن رأيك مرجع
وله:
وما الذل إلا أن تبيت مؤملاً ... وقد سهرت عيناك وسنان هاجعا
أأخشى أمرأً أو أشتكي منه جفوة ... إذا كنت بالميسور في الدهر قانعا؟
إذا ما رآني طالباً منه حاجة ... ففي حرج إن لم يكن لي مانعا
وكان المنجمون قد حكموا له أنه يموت في صدور الرجال فاتفق أنه اعتقل بالقلعة. مدةً لتهمة اتهم بها بالممالأة لبعض الملوك، ثم أطلق بعد مدة فنزل راكباً وأصحابه حوله، فبينا هو سائر إذ وجد ألماً فقال لأصحابه: أمسكوني أمسكوني، فأخذوه في صدورهم من على فرسه، فلما وصل إلى منزله بقي على صدورهم إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. ومنهم ولده القاضي أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد، وكان فقيهاً فاضلاً زاهداً عفيفاً، سمع أباه وغيره، وولي قضاء حلب وأعمالها وخطابتها بعد موت أبيه في أيام تاج الدولة دبيس في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ولم يزل قاضياً بها إلى أن عزله رضوان لما خطب للمصريين، وولي القضاء القاضي الزوزني العجمي في شوال من سنة تسعين وأربعمائة. ثم عاود الملك رضوان الخطبة لبني العباس، فأعاد القاضي أبا غانم إلى ولايته وجاءه التقليد من بغداد بالقضاء والحسبة عن القاضي علي بن الدامغاني بأمر المستظهر في صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة.
وكان مولد القاضي أبي غانم في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وهو الذي شرع في عمارة المسجد الذي بحلب يعرف ببني العديم، وأتمه ابنه القاضي أبو الفضل عبد الله، وكان يتولى الخطابة في المسجد الجامع والإمامة بحب، وكان حنفي المذهب وكان يؤم بالناس ثلاثين سنة، وهو متكتف تحت ثيابه، ويسبل أكمامه فارغة خوفاً من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنئونهم، فصعد القاضي أبو غانم للهناء فيمن صعد، وقدم للناس سكر ولوز وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه، فقال له صاحب حلب: أيها القاضي، لم لا تأكل من السكر؟ فقال: لأنه يذوب وتبسم، فضحك الوالي وأعفاه من ذلك.

حدثني كمال الدين قال: حدثني عمي حدثني أبي قال: نزل جدك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعله العتيق مكانهما فقال لغلامه: ألم أنزل إلى الجامع بالمداس الجديد؟ فأين هو؟ فقال الغلام: بلى ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال: القاضي يقول لكم: أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع، فقد سرق مداسه الجديد فضحك وقال: هذا والله لص شفيق جزاه الله خيراً وهو في حل منه. والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك على منبج، حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار، وهربوا لما سمعوا بقدومه. وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير، وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم، وأبلوا بلاء حسناً حسنت به العاقبة ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمي باسم جده وكني بكنيته، واكن فقيهاً مرضياً ورعاً زاهداً سمع الحديث ورواه، وولي القضاء بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم، وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي بأمر المقتفي. وكان مولده في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين، وولي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوني قضاء الشام - ورزق البسطة والتحكم في الدولة، وقاوم الوزراء بل الملوك - التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه، فامتنع القاضي أبو الفضل ولج ابن الشهرزوني وساعده مجد الدين بن الداية، وهو والي حلب لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يؤثر فيها جانب الحق على أغراضه، وترددت المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية: هذا تحكم منه في الدولة وفيك، إذ تأمره بشيء ولا يمتثله فاعزله، وول محيي الدين بن كمال الدين: فقال نور الدين - بياض في الأصل - يستناب له قاض حنفي فعزل القاضي أبو الفضل وولى محي الدين قضاء حلب، واستنيب له الكوردي وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وحج في تلك السنة.
وكتب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي للقاضي أبي الفضل هبة الله يلتمس منه كتاب للوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكان قد وعده بها ودافعه:
يا حائزاً غاي كل فضل ... تضل في كنهه الإحاطة
ومن ترقى إلى محل ... أحكم فوق السها مناطة
إلى متى أسعط التني ... ولا ترى المن بالوساطة
ومات القاضي أبو الفضل لعشر بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ومنهم ابن أخته أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة، سمع بحلب ورحل إلى بغداد وسمع بها محمد بن ناصر السلامي وغيره وحدثني كمال الدين أيده الله قال: قال لي شيخنا أبو اليمن زيد الكندي: كان أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أبي جرادة سمع ببغداد الحديث معنا على مشايخنا فسمعت بقراءته وورد إلينا إلى دمشق بعد ذلك، وكنا نلقبه: القاضي بسعادتك، وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة وكنت حاضرها، فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو ساء إلا وقال في عقبه بسعادتك، فإن قال له: ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وإن قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول: خربت بسعادتك، فسميناه القاضي بسعادتك، وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه. وكان له أدب وفضل وفقه وشعر جيد، وقد روى الحديث. ولأبي المكارم شعر منه:
لئن تناءيتم عني ولم تركم ... عيني فأنتم بقلبي بعد سكان
لم أخل منكم ولم أسعد بقربكم ... فهل سمعتم بوصل فيه هجران؟

وله أشعار كثيرة، ومات بحلب في سنة خمس وستين وخمسمائة، أو سنة ست وستين. ومنهم جمال الدين أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسين يحيى وهو عم جمال الدين، أحد الأولياء العباد، وأرباب الرياضة والاجتهاد، عامل كثير الصوم والصلاة وهو حي يرزق إلى وقتنا هذا. وكان قد تولى الخطابة بجامع حلب، وعرض عليه القضاء في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي بعد القاضي ابن الشهرزوري فامتنع منه، فقلد القضاء أخوه القاضي أبو الحسن والد كمال الدين أيده الله، وكتب جمال الدين هذا بخطه الكثير وشغف بتصانيف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحكيم الترمذي فجمع معظم تصانيفه عنده وكتب بعضها بخطه، وكتب من كتب الزهد والرقائق والمصاحف كثيراً، وكان خطه في صباه على طريقة ابن البواب القديمة، ووهب لأهله مصاحف كثيرة بخطه، وكان إذا اعتكف في شهر رمضان كتب مصحفاً أو مصحفين، وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فيعرف بركتها. قال: وسألت عمي عن مولده فقال: في سنة أربعين وخمسمائة، وقد سمع أباه وعمه أبا المجد عبد الله وغيرهما، وروى الحديث وتفقه على العلاء الغزنوي، واجتمع بجماعة من الأولياء، وكوشف بأشياء مشهورة، وهو الآن يحيا في محرم سنة عشرين وستمائة. ومنهم القاضي أبو الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة، كل هؤلاء ولوا قضاء حلب، وهذا هو والد كمال الدين صاحب أصل هذه الترجمة، كان يخطب بالقلعة بحلب على أيام نور الدين محمود بن زنكي، ثم ولي الخزانة في أيام ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن عرض القضاء على أخيه كما ذكرنا، فامتنع منه فقلده القاضي هذا بحلب وأعمالها في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم يزل والياً للقضاء في أيام الملك الصالح ومن بعده في دولة عز الدين، ثم عماد الدين بن قطب الدين مودود بن زنكي، وصدراً من دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن عزل عن منزلي الخطابة والقضاء ونقل إلى مذهب الشافعي، وكان عزله عن القضاء في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ووليه القاضي محيي الدين محمد بن علي الزكي قاضي دمشق الشافعي، وكان صرف أخوه الأصغر أبو المعالي عبد الصمد عن الخطابة قبله، فعلم أن الأمر يئول إلى عزله عن القضاء لأن الدولة شافعية، فاستأذن في الحج والإعفاء من القضاء فصرف عن ذلك بعد مراجعات. وسمع الحديث من أبيه وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وغيرهما، ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ومات رحمه الله ليلة الجمعة لسبعة وعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة، هذا ما كتبته من الكتاب الذي ذكرته آنفاً على سبيل الاختصار والإيجاز، وهو قليل من كثير من فضائلهم. وأنا الآن أذكر من أنا بصدده وهو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي سعيد هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة - وهو الذي نحن بصدده وإلى معرفة حاله ركبنا سنن المقال وجدده، فإنه من شروط هذا الكتاب، لكتابته التي فاقت ابن هلال، وبلغت الغاية في الجودة والإتقان، ولتصانيفه في الأدب التي تذكر آنفاً إن شاء الله تعالى.
فأما أوصافه بالفضل فكثيرة، وسماته بحسن الأثر أثيرة، وإذا كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعاً، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعاً، ورأيت من المشقة والإتعاب التصدي لجميع فضائله والاستيعاب، فاعتمدت على القول مجملاً لا مفصلاً، وضربةً لا مبوباً فأقول: إن الله عز وجل عني بخلقته، فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله، وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان جواد بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزاً، ولا تعاطى أمراً إلا وجاء فيه مبرزاً، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق، ولا يستطيع دفاعه عدو.

وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إبراده، وطيب صوته وفصاحته، فهو الغاية التي أقر له بها كل من سمعها، فإنه يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله بن مقلة، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال:
خلال الفضل في الأمجاد فوضى ... ولكن الكمال لها كمال
وإذا كان التمام من خصائص عالم الغيب، وكان الإنسان لابد له من عيب، فعيبه لطالب العنت والشين، أنه يخاف عليه من إصابته العين، هذا مع العفاف والزمت، والوقار وحسن السمت، والجلال المشهور، عند الخاص والجمهور، قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في إشغال سألته - أدام الله علوه - عن مولده فقال لي: ولدت في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قال: فلما بلغت سبعة أعوام حملت إلى المكتب فأقعدت بين يدي المعلم فأخذ يمثل لي كما يمثل للأطفال، ويمد خطاً ويرتب عليه ثلاث سينات، فأخذت القلم وكنت قد رأيته وقد كتب بسم، ومد مدته ففعلت كما فعل، وجاء ما كتبته قريباً من خطه، فتعجب المعلم وقال لمن حوله: لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحت لعمري فراسة المعلم فيه، فهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب بلا شك.
وقال: وختمت القرآن، ولي تسع سنين، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين، وحبب إلى الخط وجعل والدي يحضني عليه، فحدثني الشيخ يوسف بن علي بن زيد الزهري المغربي الأديب معلم والده بحضرة كمال الدين قال: حدثني والد هذا - وأشار إليه - قال: ولد لي عدة بنات وكبرن ولم يولد لي ولد غير ولد واحد ذكر، وكان غاية في الحسن والجمال والفطنة والذكاء، وحفظ القرآن قدراً صالحاً وعمره خمس سنين، واتفق أن كنت يوماً جالساً في غرفة لنا مشرفة على الطريق فمرت بنا جنازة فاطلع ذلك الطفل ببصره نحوها ثم رفع رأسه إلي وقال: يا أبت إذا أنا مت بم تغشي تابوتي؟ فزجرته وأدركني في الوقت استشعار شديد عليه، فلم يمض إلا أيام حتى مرض ودرج إلى رحمة الله ولحق بربه، فأصابني عليه ما لم يصب والداً على ولد، وامتنعت من الطعام والشراب، وجلست في بيت مظلم وتصبرت فلم أعط عليه صبراً، فحملني شدة الوله على قصد قبره وتوليت حفره بنفسي، وأردت استخراجه والتشفي برؤيته، فلمشيئة الله ولطفه بالطفل أو بي لئلا أرى به ما أكره صادفت حجراً ضخماً، وعالجته فامتنع علي قلعه مع قوة وأيد كنت معروفاً بهما، فلما رأيت امتناع الحجر علي علمت أنه شفقة من الله على الطفل أو علي، فزجرت نفسي ورجعت ولهان بعد أن أعدت قبره إلى حاله التي كان عليها، فرأيت بعد ذلك في النوم ذلك الطفل وهو يقول: يا أباه عرف والدتي: أني أريد أجيء إليكم فانتبهت مرعوباً، وعرفت والدته ذلك فبكينا وترحمنا واسترجعنا، ثم إني رأيت في النوم كأن نوراً خرج من ذكري حتى أشرف على جميع دورنا ومحلتنا وعلا علواً كبيراً، فانتبهت وأولت ذلك فقيل لي: أبشر بمولود يعلو قدره، ويعظم أمره، ويشيع بين الأنام ذكره بمقدار ما رأيت من ذلك النور، فابتهلت إلى الله عز وجل ودعوته وشكرته، وقويت نفسي بعد الإياس لأني كنت قد جاوزت الأربعين، فلم تمض إلا هنيهة حتى اشتملت والدة ولدي هذا وأشار إلى كمال الدين - أيده الله - على حمل، وجاءت به في التاريخ المقدم ذكره، فلم يكن بقلبي بحلاوة ذلك الأول، لأنه كان نحيفاً جداً، فجعل كلما كبر نبل جسماً وقدراً، ودعوت عدة دعوات، وسألت الله له عدة سؤالات، ورأيت فيه والحمد لله أكثرها.
ولقد قال له رجل يوماً بحضرتي كما يقول الناس: أراكه الله قاضياً كما كان آباؤه. فقال: ما أريد له ذلك، ولكني اشتهيته أن يكون مدرساً، فبلغه الله ذلك بعد موته، وسمع الحديث على جماعة من أهل حلب والواردين إليها، وأكثر السماع على الشيخ الشريف افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي. ورحل به أبوه إلى البيت المقدس مرتين في سنة ثلاث وستمائة، وفي سنة ثمان وستمائة، ولقي بها مشايخ وبدمشق أيضاً، وقرأ على تاج الدين أبي اليمن في النوبتين كثيراً من مسموعاته.

حدثني كمال الدين - أدام الله معاليه - قال: قال لي والدي: احفظ اللمع حتى أعطيك كذا وكذا، فحفظته وقرأته على شيخ حلب يومئذ، وهو الضياء بن دهن الحصا، ثم قال لي: احفظ القدوري حتى أهب لك كذا وكذا من الدراهم كثيرة أيضاّ، فحفظته في مدة يسيرة وأنا في خلال ذلك أجود، وكان والدي رحمه الله يحرضني على ذلك، ويتولى صقل الكاغد لي بنفسه، فإني لأذكر مرة وقد خرجنا إلى ضيعة لنا فأمرني بالتجويد. فقلت: ليس ههنا كاغد جيد، فأخذ بنفسه كاغداً كان معنا ردياً، وتناول شربة اسفيذر وكانت معنا، فجعل يصقل بها الكاغد بيده ويقول لي: اكتب ولم يكن خطه بالجيد، وإنما كان يعرف أصول الخط، فكان يقول لي: هذا جيد وهذا رديء، وكان عنده خط ابن البواب، فكان يريني أصوله إلى أن أتقنت منه ما أردت، ولم أكتب على أحد مشهور إلا أن تاج الدين محمد بن أحمد بن البرفطي البغدادي، ورد إلينا إلى حلب فكتبت عليه أياماً قلائل لم يحصل منه فيها طائل: ثم إن الوالد رحمه الله خطب لي وزوجني بقوم من أعيان حلب وساق إليهم ما جرت العادة بتقدمته في مثل ذلك، ثم جرى بيننا وبينهم ما كرهته وضيق صدري منهم، فوهب لهم الوالد جميع ما كان ساقه إليهم وطلقتهم، ثم إنه وصلني بابنة الشيخ الأجل بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن العجمي وهو شيخ أصحاب الشافعي، وأعظم أهل حلب منزلة وقدراً ومالاً وحالاً وجاهاً. وساق إليهم المهر وبالغ في الإحسان، وكان والدي رحمه الله باراً بي، لم يكن يلتذ بشيء من الدنيا التذاذه بالنظر في مصالحي وكان يقول: أشتهي أرى لك ولداً ذكراً يمشي فولد أحمد ولدي ورآه، وبقي إلى أن كبر ومرض مرضة الموت، فيوم مات مشى الطفل حتى وقع في صدره، ثم مات والدي رحمه الله في الوقت الذي تقدم ذكره، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثير الإكرام لي، وما حضرت مجلسه قط فأقبل على أحد إقباله علي مع صغر السن، واتفق أن مرضت في شهور سنة ثماني عشرة وستمائة مرضاً أيس مني فيه، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لابد وأن يمن بالعافية لثقتي بصحة رؤيا الوالد وكنت أقول: ما بلغت بعد مبلغاً يكون تفسيراً لتلك الرؤيا إلى أن من الله بالعافية وله الحمد والمنة، فذهب عني ذلك الخيال، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء، لأن نعم الله علي سابغة، وأياديه في حقي شائعة. قلت: ولما مات والده بقي بعده مدة، ومات مدرس مدرسة شادبخت، وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها، فولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة، وعمره يومئذ ثمان وعشرون سنة. هذا، وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الواسخ، إلا أنه رئي أهلاً لذلك دون غيره، وتصدر وألقى الدرس بجنان قوى ولسان لوذعي فأبهر العالم، وأعجب الناس.
وصنف مع هذا السن كتباً منها: كتاب الدراري في ذكر الذراري جمعه للملك الظاهر، وقدمه إليه يوم ولد ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح صنفه للملك الأشرف، - وكان قد سير من حران يطلبه، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه، وخلع عليه وشرفه - . كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة - ، وأنا سألته جمعه فجمعه لي، وكتبه في نحو أسبوع وهو عشر كراريس - . كتاب في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية، والملوك والأمراء والكتاب. وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك، وجعل مع اللآلئ في السلوك، وضربت به في حياته الأمثال، وجعل للناس في زمانه حذواً ومثالاً، فمما رغب في خطه أنه اشترى وجهةً واحدةً بخط ابن البواب بأربعين درهماً، ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حي

در الكتبي، فذهب بها وادعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهماً زيادة على التي بخط ابن البواب بعشرين درهماً، ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على أنها بخطه ديناراً مصرياً ولم يطب قلبي ببيعها، وكتب لي أيضاً جزءاً فيه ثلاث عشرة قائمه نقلها من خط ابن البواب فأعطيت فيها أربعين درهماً ناصرية، قيمتها أربعة دنانير ذهباً فلم أفعل، وأنا أعرف أن ابن البواب لم يكن خطه في أيامه بهذا النفاق، ولا بلغ هذا المقدار من الثمن، وقد ذكرت ما يدل على ذلك في ترجمة ابن البواب. فممن كتب إليه يسترفده شيئاً من خطه سعد الدين منوجهر الموصلي، ولقد سمعته مراراً يزعم أنه أكتب من ابن البواب، ويدعي أنه لا يقوم له أحد في الكتابة ويقر لهذا - كمال الدين - بالكمال، فوجه إليه على لسان القاضي أبي علي القيلوي وهو المشهور بصحبة السلطان الأشرف يسأله سؤاله في سيئ من خطه ولو قائمة أو وجهة، وكان اعتماده على أن ينقل له الموجهة المقدم ذكرها، وممن كتب إليه يسترفده خطه أمين الدين ياقوت المعروف بالعالم، وهو صهر أمين الدين ياقوت الكاتب الذي يضرب به المثل في جودة الخط، وتخرج به ألوف وتتلمذ له من لا يحصى. كتب إلى كمال الدين رقعة وحموه حي يرزق نسختها: الذي حض الخادم على عمل هذه الأبيات وإن لم يكن من أرباب الصناعات: أن الصدر الكبير الفاضل عز الدين حرس الله مجده، لما وصل إلى الموصل خلد الله ملك مالكها، نشر من فضائل المجلس العالي العالمي الفاضلي كمال الدين كمل الله سعادته كما كمل الله سيادته، وبلغه في الدارين مناه وإرادته: ما يعجز البليغ عن فهمه فضلاً عن ان يورده، لكن فضائل المجلس كانت تملى على لسانه وتشغله، فطرب الخادم من استنشاق رياها. واشتاق إلى رؤية حاويها عند اجتلاء محياها، فسمح عند ذلك الخاطر مع تبلده بأبيات تخبر المجلس محبة الخادم له وتعبده وهي:
حيا نداك كمال الدين أحيانا ... ونشر فضلك عن محياك حيانا
وحسن أخلاقك اللائي خصصت بها ... أهدت على البعد لي روحاً وريحانا
حويت يا عمر المحمود سيرته ... خلقاً وخلقاً وأفضالاً وإحساناً
إن كان نجل هلال في صناعته ... ونجل مقلة عينا الدهر قد كانا
فأنت مولاي إنسان الزمان وقد ... غدوت في الخط للعينين إنسانا
قد بث فضلك عز الدين مقتصداً ... ونث شكرك إسراراً وإعلانا
فضاع نشرك في الحدباء واشتهرت ... آيات فضلك أرسالاً ووحدانا
أثني عليك وآمالي معلقة ... بحسن عفوك ترجو منك غفرانا
وإن تطفلت في صدق الوداد ولم ... يقض التلاقي لنا عفواً ولا حانا
فما ألام على شيء أتيت به ... فالأذن تعشق قبل العين أحيانا
يا أفضل الناس في علم وفي أدب ... وأرجح الخلق عند الله ميزانا
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
وقد هجم الكلام على المجلس الأعلى بوجه وقاح، ولم يخش مع عفو المولى وصمة الافتضاح. فليلق عليه المولى ستر المعروف، فهو أليق بكرمه المألوف، والسلام. فكتب إليه كمال الدين بخطه الدري، ولفظه السحري، أنشدنيها لنفسه:
يا من أبحت حمى قلبي مودته ... ومن جعلت له أحشاي أوطانا
أرسلت نحوي أبياتاً طربت بها ... والفضل للمبتدي بالفضل إحسانا
فرحت أختال عجباً من محاسنها ... كشارب ظل بالصهباء نشوانا!
رقت وراقت فجاءت وهي لابسة ... من اللاغة والترصيع ألوانا
حكت بمنثورها والنظم إذ جمعا ... بأحرف حسنت، روضاً وبستانا
جرت على جرول أثواب زينتها ... إذ أصبحت وهي تكسو الحسن حسانا
أضحت تغبر وجه العنبري فما ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
يمسي لها ابن هلال حين ينظرها ... يحكي أباه بما عاناه نقصانا
كذاك أيضاً لها عبد الحميد غدا ... عبداً يجر من التقصير أردانا
أتت وعبدك مغمور بعلته ... فغادرته صحيحاً خير ما كانا

وكيف لا تدفع الأسقام عن جسدي ... وهي الصبا حملت روحاً وريحانا؟
فما على طيفها لو عاد يطرقنا؟ ... فربما زار أحياناً وأحيانا
فاسلم وأنت أمين الدين أحسن من ... وشى الطروس بمنظوم ومن زانا
ولا تخطت إليك الحادثات ولا ... حلت بربعك يا أعلى الورى شانا
وأنشدني كمال الدين أدام الله علاءه لنفسه في الغزل فاعتمد فيه معنى غريباً:
وأهيف معسول المراشف خلته ... وفي وجنتيه للمدامة عاصر
يسيل إلى فيه اللذيذ مدامة ... رحيقاً وقد مرت عليه الأعاصر
فيسكر منه عند ذاك قوامه ... فيهتز تيهاً والعيون فواتر
كأن أمير النوم يهوى جفونه ... إذا هم رفعاً خالفته المحاجر
خلوت به من بعد ما نام أهله ... وقد غارت الجوزاء والليل ساتر
فوسدته كفي وبات معانقي ... إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر
فقام يجر البرد منه على تقىً ... وقمت ولم تحلل لإثم مآزر
كذلك أحلى الحب ما كان فرجه ... عفيفاً ووصل لم تشنه الجرائر
وأنشدني لنفسه بمنزله بحلب في ذي الحجة سنة تسع عشرة وستمائة وإملائه:
وساحرة الأجفان معسولة اللمى ... مراشفها تهدي الشفاء من الظما
حنت لي قوسي حاجبيها وفوقت ... إلى كبدي من مقلة العين أسهما
فوا عجباً من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أضحى علي محرما!
فإن كان خمراً أين للخمر لونه ... ولذته مع أنني لم أذقهما؟
لها منزل في ربع قلبي محله ... مصون به مذ أوطنته لها حمى
جرى حبها مجرى حياتي فخالطت ... محبتها روحي ولحمي والدما
تقول: إلى كم ترتضي العيش أنكداً ... وتقنع أن تضحي صحيحاً مسلما؟
سر في بلاد الله واطلب الغنى ... تفز منجداً إن شئت أو شئت متهما
فقلت لها: إن الذي خلق الورى ... تكفل لي بالرزق منا وأنعما
وما ضرني أن كنت رب فضائل ... وعلم عزيز النفس حراً معظماً
إذا عدمت كفاي مالاً وثروةً ... وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
لا يظنن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير فإن الأمر بعكس ذلك، لأنه - والله يحوطه - رب ضياع واسعة وأملاك جمة، ونعمة كبيرة، وعبيد كثيرة، وإماء وخيل ودواب، وملابس فاخرة وثياب. ومن ذلك: أنه بعد موت أبيه اشترى داراً كانت لأجداده قديماً بثلاثين ألف درهم، ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين. وأنشدني لنفسه بمنزله في التاريخ:
سألزم نفسي الصفح عن كل من جنى ... علي وأعفو حسبة وتكرما
وأجعل مالي دون عرضي وقاية ... ولو لم يغادر ذاك عندي درهما
وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا ... وحازوا خلال الخير ممن تقدما
أولئك قومي المنعمون ذوو النهى ... بنو عامر فاسأل بهم كي تعلما
إذا ما دعوا عند النوائب إن دجت ... أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما
وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم ... بدور ظلام والخلائق أنجما
وإن هم ترقوا منبراً لخطابة ... فأفصح من يوماً بوعظ تكلما
وإن أخذوا أقلامهم لكتابة ... فأحسن من وشى الطروس ونمنما
بأقوالهم قد أوضح الدر واغتدى ... بأحكامهم علم الشريعة محكما
دعاؤهم يجلو الشدائد إن عرت ... وينرل قطر الماء من أفق السما
وقائلة يا ابن العديم إلى متى ... نجود بما تحوي ستصبح معدما؟
فقلت لها: عني إليك فإنني ... رأيت خيار الناس من كان منعما

أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة ... عقيلية سنوا الندى والتكرما
وأنشدني لنفسه وقد رأى في عارضه شعرة بيضاء وعمره إحدى وثلاثون سنة:
أليس بياض الأفق في الليل مؤذناً ... بآخر عمر الليل إذ هو أسفرا؟
كذاك سواد النبت يقرب يبسه ... إذا ما بدا وسط الرياض منوراً
ودخلت إلى كمال الدين المذكور يوماً فقال لي: ألا ترى، أنا في السنة الحادية والثلاثين من عمري، وقد وجدت في لحيتي شعرات بيضاً فقلت أنا فيه:
هنيئاً كمال الدين فضلاً حبيته ... ونعماء لم يخصص بها أحد قبل
لداتك في شغل بداعية الصبا ... وأنت بتحصيل المعالي لك الشغل
بلغت لعشر من سنينك رتبة ... من المجد لا يسطيعها الكامل الكهل
ولما اتاك الحكم والفهم ناشئاً ... أشابك طفلاً كي يتم لك الفضل
عمر بن ثابتأبو القاسم الثمانيني النحوي الضرير. إمام فاضل، وأديب كامل، أخذ عن أبي الفتح بن جني، وكان خواص الناس في ذلك الوقت يقرؤون على أبي القاسم عند الواحد بن برهان الأسدي، وعمومهم يقرؤون على الثمانيني. مات الثمانيني في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في خلافة القائم بأمر الله، وهو منسوب إلى سوق ثمانين بليد صغير بأرض جزيرة ابن عمر بأرض الموصل من ناحية قردى. يقال: إنها أول مدينة بنيت بعد الطوفان وسميت بذلك، لأنهم زعموا أن الذين نجوا من السفينة كانوا ثمانين آدمياً.
وله من التصانيف: كتاب شرح اللمع، كتاب المفيد في النحو، كتاب شرح التصريف الملوكي. وجدت في بعض الكتب: أن أول قرية بنيت بعد الطوفان ثمانين، وإنما سميت بهذا الاسم، لأن ثمانين نفراً خرجوا من السفينة وبنوها، ولما خرجوا من السفينة نزلوا قردى وبازبدى بأرض الموصل وهي قرية الثمانين ثم وقع فيهم الوباء فماتوا إلا نوحاً وسام بن نوح وحاماً ويافثاً ونساءهم وطبقت الدنيا منهم، فذلك قوله عز وجل: (وجعلنا ذريته هم الباقين).
عمر بن جعفر بن محمد الزعفرانيأبو القاسم يلقب دومى، أحد أعيان أهل الأدب المخصصين بمعرفة علم الشعر من القوافي والعروض وغير ذلك، ذكره محمد بن إسحاق النديم وكان في عصره، وله: كتاب العروض في خمس مجلدات ضخمة، رأيتها بخطه في وقف جامع حلب، وله كتاب القوافي، وكتاب اللغات - ذكرهما ابن النديم - .
عمر بن الحسين الخطاط غلام ابن خرنقاكان كاتباً مليح الخط محظوظاً منه، وكان يكتب على طريقة علي بن هلال البواب ويجيد في ذلك، وخطه مشهور عند كتاب الآفاق معروف، مات فيما ذكره صدقة بن الحسين الحيار في حادي عشر جمادى الآخرة، سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة للهجرة، ودفن في داره بدرب الدواب، وكان له من آلة الكتابة ما لم يكن لأحد قبله، وذلك أنه حدثني محمد بن البرفطي الكاتب قال: حدثني أبو اليمن زيد بن الحسين الكندي: أنه بيع له في تركته آلة الكتابة بتسعمائة دينار أمامية، من جملة ذلك، دواة بأزهر اشتراها بعض ولد زعيم الدين بن جعفر صاحب المخزن بتسعمائة دينار، وبيع له بالباقي سكاكين وأقلام وبراكر وما شاكل ذلك.
عمر بن شبة بن عبيدة بن ريطة البصريأبو زيد مولى بني نمير، واسم شبة زيد، وإنما سمي شبة لأن أمه كانت ترقصه وتقول:
يا بأبي وشبا ... وعاش حتى دبا
شيخاً كبيراً خبا
مات لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين للهجرة بسامرا، وبلغ من السن تسعين سنة، وكان أبو زيد راوية للأخبار عالماً بالآثار، أديباً فقيهاً صدوقاً قال المرزباني: وهو القائل للحسن بن مخلد:
ضاعت لديك حقوق واستهنت بها ... والحر يألم من هذا ويمتعض
إني سأشكر نعمى منك سالفة ... وإن تخونها من حادث عرض
وله:
أصبحت كلاً على أناس ... قد كنت عن مثلهم عزوفاً

قال محمد بن إسحاق: وله من التصانيف: كتاب الكوفة، كتاب البصرة، كتاب أمراء المدينة، كتاب أمراء مكة، كتاب السلطان، كتاب مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، كتاب الكتاب، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الأغاني، كتاب التاريخ، كتاب أخبار المنصور، كتاب أخبار محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن، كتاب أشعار الشراة، كتاب النسب، كتاب أخبار بني نمير، كتاب ما يستعجم الناس فيه من القرآن، كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغات، كتاب الاستعظام، كتاب النحو ومن كان يلحن من النحويين، كتاب طبقات الشعراء.
وكان لأبي زيد ابن اسمه أبو طاهر أحمد، وكان شاعراً مجيداً، اعتبط قبل أن يبلغ مبلغ المشهورين، مات بعد أبيه بعشر سنين. ومن شعر عمر بن شبة:
وقائلة لم يبق للناس سيد ... فقلت: بلى عبد الرحيم بن جعفر
ومن شعر ابنه أبي طاهر أحمد:
نظرت فلم أر في العسكر ... كشؤمي وشؤم أبي جعفر
غدا الناس للعيد في زينة ... من اليوم في منظر أزهر
ويغدو عليهم بلا أهبة ... فراراً من المنزل المقفر
فنقعد للشؤم في عزلة ... من الناس ننظر في دفتر
عمر بن عثمان بن الحسين بن شعيب الجنزيأبو حفص، من أهل ثغر جنزة، ذكره عبد الكريم السمعاني فقال: هو أحد أئمة الأدب، وله باع طويل في الشعر والنحو، ورد بغداد وأقام بها مدة، وصحب الأئمة واقتبس منهم، وأكثر ما قرأ الأدب على أبي المظفر الأبيوردي ثم رجع إلى بلده وعاد ثانياً إلى بغداد، وذاكر الفضلاء بها وبالبصرة وخوزستان، وبرع في العلم حتى صار علامة زمانه، وأوحد عصره وأوانه، وكان غزير الفضل وافر العقل، حسن السيرة كثير العبادة، متودداً سخي النفس، صنف التصانيف وجمع الجموع، وشرع في إملاء تفسيره - لو تم لم يوجد مثله - سمع بهمذان عبد الرحمن الدوني، كتبت عنه بمرو وأنشدني لنفسه:
أحادي عيسى إن بلغت مقامي ... فبلغ صحابي لاعدمت سلامي
وخبرهم عما أعاني من الجوى ... ومن لوعتي في هجرهم وسقامي
وقل لهم: إني متى ما ذكرتكم ... غصصت لذكراكم بكل طعام
وإن دموعي كلما لاح كوكب ... ترقرق في خدي كصوب غمام
وإن هب من أرض الحبيب نسيمه ... تقلقل أحشائي وهاج غرامي
وإن غردت وهناً حمامة أيكة ... أحنت بنوحي لحن كل حمام
وله:
قالت وخطتك شيبة كالعين ... كم تذرف عيناك ذروف العين؟
قد قلت لها: أيا سواد العين ... يزداد من الثلوج ماء العين؟
العين الأولى: الطليعة، ومات الجنزي في رابع عشر ربيع الآخر سنة خمسين وخمسمائة للهجرة بمرو، وقد جاوز السبعين. وذكره أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب الوشاح فقال: هو إمام في النحو والأدب لا يشق فيهما غباره، ومع ذلك فقد تحلى بالورع ونزاهة النفس، لكن الزمان عانده، وما بسط في أسباب معاشه يده، جاس خلال الديار وقال: أدركت زمان الأشج، ورأيت مصلاه في طنجة المغرب، إلا أني لم أمكث حتى أراه، وأدب بنيسابور أولاد الوزير فخر الملك، ثم ارتحل من نيسابور في شهور سنة خمس وأربعين وخمسمائة للهجرة ثم لم يعد إليها، وقضى نحبه بعد انتقاله من نيسابور بأيام قلائل، وأنشد له قصيدة واحدة في مدح الإمام محمد بن حمويه منها:
ألم تذكر رابعاً بعسفان عامراً ... وبيضاً يودعن الأحبة خردا
يشعثن بالعناب ضغث بنفسج ... ويضربن بالأسروع خداً موردا
كأن النوى لم تلق غير جوانحي ... ومقلتي العبرى مراداً وموردا
وتذري على الورد الجمان بنرجس ... حمته بنان تترك الصب مقصدا
حكى خدها دمعي وقلبي قلبها ... وحاجبها قدي لما قد تأودا
وإن بخلت عيني وضنت بمائها ... إذاً جاد قلبي بالدماء وأنجدا
وأبدع منه أن حر أضالعي ... ولوعاتها تغلى التراب المبردا
وشابهتها إذ عرضت في ثلاثة ... تزيد لها حسناً وتورثنا الردى
وتصعد من صدري رياح بوارد ... إذا أنا ذكرت اللوى متنهدا

قرأت بخط أبي سعد: أنشدنا أبو حفص عمر بن عثمان الجنزي لنفسه يعزي الكمال المستوفي بزوجته:
إذا جل قدر المرء جل مصاب ... وكل جليل بالجليل يصاب
يروح الفتي في غفلة عن مآله ... ويشغله عنه هوى وشباب
فلم يتفكر أن من عاش ميت ... وأن الذي فوق الترب تراب
وأن ثراءً يقتنيه مشتت ... وأن بناء يبتنيه خراب
ونعمة ذي الدنيا بلاء ومحنة ... وماذيها سم يضر وصاب
وفرحتها عند الأكايس ترحة ... وسلسالها للأولياء سراب
فلا يخدعن المرء نعمى حلالها ... حساب عليه والحرام عقاب
وللدهر مستوف عليهم مناقش ... له مع أهل الخافقين خطاب
على كل نفس مشرفان لربه ... غداً لهما فيما أتته كتاب
وهي طويلة.
عمر بن عثمان بن خطاب بن بشير التميميأبو حفص النحوي، مغربي، له كتاب الأمر والنهي، ويعرف بكتاب المكتفي.
عمر بن أبي محمد بن يوسف بن يعقوبابن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم بن القاضي. حدث أبو القاسم التنوخي قال: حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي قال: لما قلد المقتدر أبا الحسين بن أبي عمر القاضي المدينة رياسةً في حياة أبيه أبي عمر خلع عليه، واجتمع الخلق من الأشراف والقضاة والشهود والجند والتجار وغيرهم على باب الخليفة حتى خرج أبو الحسين وعليه الخلع، فساروا معه قال: وكنت فيهم - للصهر الذي كان بينه وبينهم، ولأنه كان أحد شهودهم - فصار عمي وأنا معه في أخريات الناس والموكب خوفاً من الزحام، ومعنا شيخ أسن أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا، فكنا لا نجتاز بموضع إلا سمعنا ثلب الناس لأبي الحسين وتعجبهم من تقلده رياسةً. فقال عمي للشيخ يا أبا فلان: أما ترى كثرة تعجب الناس من تقلد هذا الصبي مع فضله ونفاسته وعلمه وجلالة سلفه؟! فقال: يا أبا محمد، لا تعجب من هذا، فلعهدي وقد ركبت مع أبي عمر يوم خلع عليه بالحضرة وقد اجتزنا بالناس وهم معجبون من تقلده أضعاف هذا العجب حتى خفنا أن يثبوا علينا، وهذا أبو عمر الآن وقدره في الفضل والنبل، ولكن الناس يسرعون إلى العجب مما لم يألفوه. وله من التصانيف: كتاب غريب الحديث كبير لم يتم، كتاب الفرخ بعد الشدة لطيف، وهو فيما أحسب أول من صنف ذلك.
حدث ابن نصر والخطيب عن أبي الطيب بن زنجي المؤدب قال: كان بين أبي أحمد بن ورقاء وبين القاضي أبي عمر وولده أبي الحسين مودة وكيدة، فعن لأبي أحمد سفرة لم يودع فيها القاضيين، فلما عاد من سفرته لم يقصداه ولم يعرفا خبره، فكتب إليهما:
أأستجفي أبا عمر وأشكو ... أم أستجفي فتاه أبا الحسين؟
بأي قضية وبأي حكم ... ألحا في قطيعة واصلين؟
فما جاءا ولا بعثا رسولاً ... ولا كانا لحق قاضيين
وإن من المروءة أن يكونا ... لمن والاهما متواليين
فإن نعتب فحقاً غير أنا ... نجل على العتاب القاضيين
وأنفذ الرقعة إلى أبي عمر، فلما وقف عليها ألقاها إلى ولده أبي الحسين وقال: أجبه، فأنت أقوم بجواب هذا الكلام، فكتب إليه:
تجن واظلم فلست منتقلاً ... عن خالص الود أيها الظالم
كتبت تشكو قطيعة سلفت ... وخلت أني لحبلكم صارم
تركت حق الوداع منصرفاً ... وجئت تبغي زيارة القادم
كأن حقي عليك مطرح ... وحق ما تبتغيه بي لازم
أمران لم يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم
وبعد ذا فالعتاب من ثقة ... وصدره من حفيظة سالم
فلما وقف عليها ركب إليهما وعاد معهما إلى ما كان عليه من المصافاة.
عمر بن محمد النسفي الحافظونسف هي نخشب وما وراء النهر. كنيته أبو حفص، وصنف كتباً منها كتاب القند في علماء سمرقند، ذكر فيها وقال: وموسى بن عبد الله الأغماتي قدم علينا سنة إحدى وستين وخمسمائة وهو شاب فاضل، وبقي عندي أياماً وكتب عني الكثير، ولأجله جمعت كتاباً سميته عجالة النخشبي لضيفه المغربي، وفيه قلت:
لقد طلع الشمس من غربها ... على خافقيها وأوساطها

فقلنا: القيامة قد أقبلت ... وقد جاء أول أشراطها
قال: وأنشدني موسى الأغماني لنفسه:
لعمر الهوى إني وإن شطت النوى ... لذو كبد حرى وذو مدمع سكب
فإن كنت في أقصى خراسان نازحاً ... فجسمي في شرق وقلبي في غرب
عمر بن مطرف الكاتبيكنى أبا الوزير، من عبد القيس كان من أهل مرو، وكان يتقلد ديوان المشرق للمهدي وهو ولي عهد، ثم كتب له في خلافته والهادي والرشيد، وكان يكتب للمنصور وللمهدي. وقيل: إنه مات في أيامه، والصحيح أنه مات في أيام الرشيد فحزن عليه وصلى هو عليه بنفسه، فلما فرغ من صلاته قال له: رحمك الله، ما عرض لك أمران أحدهما لله والآخر لك، إلا اخترت ما هو لله على هواك.
وله من الكتب: كتاب مفاخرة العرب ومنافرة القبائل في النسب، كتاب منازل العرب وحدودها وأين كانت محلة كل قوم؟ وإلى أين انتقل منها؟. كتاب رسائله.
قال محمد بن عبدوس: وكان الرشيد أمر بإبطال دواوين الأزمة في سنة سبعين ومائة، فأبطلت شهرين ثم أعيدت، ووليها أبو الوزير عمر بن المطرف بن محمد العبدي، منسوب إلى عبد القيس لأنه كان مولاهم، وكان مطرف بن محمد أحد كتاب المهدي، وتقلد له ديوان الخراج أيام مقامه بالري، وتوفى مطرف بن محمد سنة أربع وأربعين ومائة في قول، وقيل غير ذلك، وقد ذكرته بعد هذا. وكان أبو الوزير عفيفاً متصوفاً وكان يبخل.
وحكي أنه كلم عمر بن العلاء في رجل فوهب له مائة ألف درهم فدخل أبو الوزير على الرشيد وقال له: يا أمير المؤمنين، عمر خائن، كلمته في رجل كانت هبته ألفي درهم، فوهب له ألف درهم. فلم يضره ذلك عند الرشيد لعلمه ببخل أبي الوزير، ولما انصرف عمر بن العلاء إلى حضرة أبي الوزير أغلظ له وشدد معاتبته لأجل ما وهب للرجل وقال له: قد كان يجزئه إذا أسرفت أن تهب له خمسة آلاف درهم، قال له عمر بن العلاء: فاعمل على أني أعطيته بكتابك خمسة آلاف درهم، وأعطيته لنفسي خمسة وتسعين ألف درهم. وفي أبي الوزير يقول بعض الشعراء:
لبس الرئاء وراح في أثوابه ... نحو الخليفة كاسراً لم يطرف
يبدي خلاف ضميره ليغره ... لله در رئائك ابن مطرف
وكان حج الرشيد في سنة ست وثمانين ومائة، وقد حج الرشيد بعد ذلك أيضاً في سنة ثمان، ولا أدري في أية حجتيه هاتين مات أبو الوزير.
عمرو بن أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيبانيقد تقدم ذكر نسبه وولائه عند ذكر أبيه، وكان عمرو هذا قد أخذ علم أبيه وتصدر للقراءة عليه وأبوه حي، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقال الأزهري: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
عمرو بن بحر بن محبوبأبو عثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقمي أحد النسابين، قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالاً لعمرو بن قلع الكناني. وقال أبو القاسم البلخي: الجاحظ كناني من أهل البصرة، وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف.
قال المرزباني: حدث المادي قال: حدثني من رأى الجاحظ يبيع الخبز والسمك بسيحان. قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمس ومائة وولد في آخرها. مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد جاوز التسعين، سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد. وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.
وحدث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت من أب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر. والفتح بن خاقان، فإنه يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه حتى في الخلاء وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب، أو يقلب كتباً أو ينفضها.

وقال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذهب المخالفين، وفي الآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرؤوها وعرفوا فضلها. وإذا تدبر العاقل المميز أمر كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره، وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب - كتب تشبهها، والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.
قال المرزباني: وكان الجاحظ ملازماً لمحمد بن عبد الملك خاصاً به، وكان منحرفاً عن أحمد بن أبي دؤاد للعداوة بين أحمد ومحمد. ولما قبض على محمد هرب الجاحظ فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد ما صنع بمحمد، وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذب الناس فيه، فعذب هو فيه حتى مات - يعني محمد بن الزيات - .
وحدث علي بن محمد الوراق قال: من كتاب الجاحظ إلى ابن الزيات: لا والله، ما عالج الناس داءً قط أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئاً هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم باباً أجمع لخصال المكروه من الذل، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة، وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها، ومهما قصرت فيه فلم أقصر في المعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتت الهوى، ولا مقسم الأمل، على تقصير قد احتملته، وتفريط قد اغتفرته، ولعل ذلك أن يكون من ديون الإدلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان، وحسن الحال. متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين، وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز، وعودتني روح الكفاية، ولوت هذا الدهر وجهده، ولما مسخ الله الإنسان قرداً وخنزيراً ترك فيهما مشابه من الإنسان، ولما مسخ زماننا لم يترك فيه مشابه من الأزمان.
وقال أبو عثمان: ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيف، لأن الوقت قصير، والحين معمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً، وابن عم شامتاً، وجاراً حاسداً، وولياً قد تحول عدواً، وزوجة مختلعة، وجارية مسبعة، وعبداً يحقرك، وولداً ينتهرك.
وقال الجاحظ: إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح. قال أبو حيان في كتاب التقريظ ومن خطه نقلت:

وحدثنا أبو دلف الكاتب قال: صدر الجاحظ في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام ثم إنه استعفى فأعفي. وكان سهل بن هارون يقول: إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتاب. قال أبو عبد الله المرزباني: حدث إسحاق الموصلي وأبو العيناء قال: كنت عند أحمد بن أبي دؤاد بعد قتل ابن الزيات فجيء بالجاحظ مقيداً وكان من أصحاب ابن الزيات وفي ناحيته، فلما نظر إليه قال: والله ما علمتك إلا متنسباً للنعمة، كفوراً للصنيعة، معدداً للمساوي، وما فتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويتك، ورداءة داخلتك، وسوء اختيارك، وتغالب طبعك. فقال له الجاحظ: خفض عليك، - أيدك الله - ، فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن، أحسن عنك من أن أحسن فتسيء، وأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل من الانتقام مني. فقال له ابن أبي دؤاد: قبحك الله، ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام، وقد جعلت ثيابك أمام قلبك، ثم اصطفيت فيه النفاق والكفر، ما تأويل هذه الآية؟: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد). قال: تلاوتها تأويلها - أعز الله القاضي - . فقال: جيئوا بحداد. فقال: - أعز الله القاضي - ليفك عني أو ليزيدني؟ فقال: بل ليفك عنك. فجيء بالحداد فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ، ويطيل أمره قليلاً، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال بان أبي دؤاد لمحمد بن المنصور، وكان حاضراً: صر به إلى الحمام وأمط عنه الأذى، واحمل إليه تخت ثياب وطويلة وخفاً، فلبس ذلك ثم أتاه متصدر في مجلسه، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان. ومن شعر الجاحظ في ابن أبي دؤاد:
وعويص من الامور بهيم ... غامض الشخص مظلم مستور
قد تسنمت ما توعر منه ... بلسان يزينه التحبير
مثل وشي البرود هلله النس ... ج وعند الحجاج در نثير
حسن الصمت والمقاطع إما ... نصت القوم والحديث يدور
ثم من بعد لحظة تورث اليس ... ر وعرض مهذب موفور
وكتب الجاحظ إلى أحمد بن أبي دؤاد:
لا تراني وإن تطاولت عمداً ... بين صفيهم وأنت تسير
كلهم فاضل علي بمال ... ولساني يزينه التحبير
فإذا ضمنا الحديث وبيت ... وكأني على الجميع أمير
رب خصم أرق من كل روح ... ولفرط الذكا يكاد يطير
فإذا رام غايتي فهو كاب ... وعلى البعد كوكب مبهور
وحدث أبو العيناء عن إبراهيم بن رباح قال: أتاني جماعة من الشعراء كل واحد منهم يدعي أنه مدحني بهذه الأبيات وأجزيه عليها:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلل عنهم شباة العدم
وذكره الدهر صرف الزمان ... فبادر قبل انتقال النعم
فتى خصه الله بالمكرمات ... فمازج منه الحيا بالكرم
ولا ينكت الأرض عند السؤال ... ليقطع زواره عن نعم
ويقال: إن الجاحظ مدح بهذه الأبيات أحمد بن أبي دؤاد وإبراهيم بن رباح، ومحمد بن الجهم.
وحدث إبراهيم بن رباح قال: مدحني حمدان بن أبان اللاحقي وذكر مثل ما مضى وقال في آخره فقال: إن مادحك - أعزك الله - يجد مقالاً، والجاحظ يملأ عينيه مني ولا يستحي. قال: وحدث يموت بن المزرع قال: هجا خالي أبو عثمان الجاحظ الجماز بأبيات منها:
نسب الجماز مقصو ... ر إليه منتهاه
تنتهي الأحساب بالنا ... س ولا تعدو قفاه
فكتب إليه الجماز:
يا فتىً إلى ال ... كفر بالله تائقه
لك في الفضل والتزه ... د والنسك سابقه
ومن هجاء الجماز للجاحظ قوله:
قال عمرو مفاخراً ... نحن قوم من العرب
قلت في طاعة لرب ... ك أبليت ذا النسب؟

وحدث أبو العيناء محمد بن القاسم قال: كان لي صديق فجاءني يوماً فقال: أريد الخروج إلى فلان العامل وأحببت أن يكون معي إليه وسيلة وقد سألت: من صديقه؟. فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ وهو صديقك، وأحب أن تأخذ لي كتابه إليه بالعناية. قال: فصرت إلى الجاحظ فقلت له: جئتك مسلماً وقاضياً للحق، ولي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا وكذا. قال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا، إذا كان في غد وجهت إليك بالكتاب، فلما كان من غد وجه إلي بالكتاب. فقلت لابني: وجه هذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته. فقال لي: إن أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه، ففعل فإذا في الكتاب: هذا الكتاب مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري فقال: يا أبا عبد الله، قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب. فقلت: أوليس موضع نكرة؟ فقال: لا، هذه علامة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقلت: لا إله إلا الله، ما رأيت أحداً بطبعك ولا ما جبلت عليه. من هذا الرجل علمت أنه لما قرأ الكتاب قال: أم الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف قحبة، وأم من يسأله حاجة. فقلت له: ما هذا؟ تشتم صديقنا، فقال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ، وحدث الفتح بن خاقان، وحدث الفتح المتوكل: فذلك كان سبب اتصالي به وإحضاري إلى مجلسه.
وحدث عبد الرحمن بن محمد الكاتب قال: كان الجاحظ يتقلد خلافة إبراهيم بن العباس الصولي على ديوان الرسائل، فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو العيناء، فلما أراد الانصراف تقدم الجاحظ على حاجبه: إذا وصل إلى الدهليز ألا يدعه يخرج، ولا يمكنه من الرجوع إليه، فخرج أبو العيناء ففعل به ذلك، فنادى بأعلى صوته يا أبا عثمان: قد أرتنا قدرتك فأرنا عفوك. ومن كلام الجاحظ: إحذر من تأمن كأنك حذر ممن تخاف. وقال: أجمع الناس على أربع: أنه ليس في الدنيا أثقل من أعمى، ولا أبغض من أعور، ولا أخف روحاً من أحول، ولا أقود من أحدب. قال المرزباني: وروى أصحابنا أن الجاحظ صار إلى منزل بعض إخوانه فاستأذن عليه، فخرج إليه غلام عجمي فقال: من أنت؟ قال الجاحظ: فدخل الغلام إلى صاحب الدار فقال: الجاحد على الباب وسمعها الجاحظ، فقال صاحب الدار للغلام: اخرج فانظر من الرجل؟فخرج يستخبر عن اسمه فقال: أنا الحدقي. فدخل الغلام فقال: الحلقي وسمعها الجاحظ فصاح به في الباب: ردنا إلى الأول، يريد أن قوله الجاحد مكان الجاحظ أسهل عليه من الحلقي مكان الحدقي، فعرفه الرجل فأوصله واعتذر إليه. وقال الجاحظ: أربعة أشياء ممسوخة: أكل الأرز البارد، والنيك في الماء، والقبل على النقاب، والغناء من وراء ستارة.
وحدث قال الجاحظ مرة بحضرة السدري: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت قحبة، فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت. فقال له السدري: فكيف عقل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلاً.
وحدث المبرد قال: قال الجاحظ: أتيت أبا الربيع الغنوى أنا ورجل من بني هاشم فاستأذنا عليه فخرج إلينا وقال: خرج إليكم رجل كريم والله. فقلت له: من خير الخلق يا أبا الربيع؟ فقال: الناس والله. قلت ومن خير الناس؟ قال العرب والله. قلت فمن خير العرب؟ قال: مضر والله. فقلت فمن خير مضر؟ قال: قيس والله. فقلت: ومن خير قيس؟ قال أعصر والله. قلت: فمن خير أعصر؟ قال غني والله. قلت: فمن خير غني؟ قال أنا والله. قلت فأنت خير الخلق؟ قال إي والله. قلت أيسرك لو أنك تزوجت بنت يزيد بن المهلب؟ قال: والله لا أدنس كرمي بلؤمها. قلت: على أن لك الجنة، ففكر ساعة ثم قال: على ألا تلد مني وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذبة ... من أن تناسب قوماً غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتماً لا مرد له ... فاذكر حذيف فإني غير أباء
حذيفة بن بكر، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسباً، لأن أعصر بن أسعد بن قيس بن عيلان. وحذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بنقيس بن عيلان.

قال المرزباني: وحدث أبو الحسن الأنصاري، حدثني الجاحظ قال: كان رجل من أهل السواد تشيع وكان ظريفاً، فقال ابن عم له: بلغني أنك تبغض علياً عليه السلام، ووالله لو فعلت لتردن علية الحوض يوم القيامة ولا يسقيك. قال: والحوض في يده يوم القيامة؟ قال نعم. قال: وما لهذا الرجل الفاضل يقتل الناس في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالعطش؟ فقيل له: أتقول هذا مع تشيعك ودينك؟ قال: والله ما تركت النادرة لو قتلتني في الدنيا وأدخلتني النار في الآخرة.
وقال الجاحظ ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.
وحدث المبرد قال: سمعت الجاحظ يقول: كل عشق يسمى حباً، وليس كل حب يسمى عشقاً، لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
وحدث ميمون بن هارون الكاتب عن الجاحظ قال: ذم رجل النبيذ فقال: من مثالبه أن صاحبه يتكرهه قبل شربه، ويكلح وجهه عند شمه، ويستنقص الساقي من قدره، ويعتبر عليه مكياله، ويمزجه بالماء الذي هو ضده ليخرجه عن معناه وحده، ثم يكرعه على المبادرة ويعبه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه، ليقل مكثه في فيه، ويسرع على اللهوات اجتيازه، ثم لا يستوفي كليته ويرى أن يجعل عاقبة الشراب فضلة في قدحه، ويشاح الساقي في المناظرة على ما بقي منه عند رده، ليصرف عن نفسه عادية شربه، ويذهب بساعته، ويمنع من تهوعه، كما يفعل بطبخ الغاريقون عند شربه وحب الاسطيخمول. وكان الجاحظ يقول: إن تهيألك في الشاعر أن تبره وترضيه وإلا فاقتله.
وقال أبو العيناء أنشدني الجاحظ لنفسه:
يطيب العيش أن تلقى حليماً ... غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كل ريب ... وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء البخل ليس له طبيب
وأنشد المبرد للجاحظ:
إن حال لون الرأس عن لونه ... ففي خضاب الرأس مستمتع
هب من له شيب له حيلة ... فما الذي يحتاله الأصلع
وحدث أبو العيناء قال: قال الجاحظ: كان الأصمعي مانوياً، فقال له العباس بن رستم: لا والله، ولكن نذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده وهي مخصوفة بحديد ويقول: نعم قناع القدري، فعلمت أنه يعنيك فقمت.
وحدث يحيى بن علي بن المنجم قال: قلت للجاحظ: مثلك في علمك ومقدارك في الادي يقول في كتاب البيان والتبيين: ويكره للجارية أن تشبه بالرجال في فصاحتها، ألا ترى إلى قول مالك بن أسماء الفزاري:
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا
فتراه من لحن الأعراب، وإنما وصفها بالظرف والفطنة وإنما تلحن أي تورى في لفظها عن أشياء وتتنكب ما قصدت له، فقال: فطنت لذلك. قلت: فغيره. قال: فكيف لي بما سارت به الركبان؟ فهو في كتابه على خطئه.
قال أبو محلم: أراد الفزاري بقوله هذا، أن خير الحديث ما أومأت إلي به، وورت عن الإفصاح به لئلا يعلمه غيرنا، ومثله قول الكلابي:
لقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... ووحيت وحياً ليس بالمرتاب
ومنه قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول)، أي فيما يتوحونه بينهم من النفاق والطعن.
قال المؤلف: وقد انتصر أبو حيان لهذا القول الذي اعترف الجاحظ بخطئه فيه فقال: وعندي أن المسألة محتملة للكلام، لأن مقابل المنطق الصائب المنطق الملحون، واللحن من الغواني والفتيات غير منكر ولا مكروه بل يستحب ذلك، لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة أدعى، ومع الغزل أجرى، والإعراب جد، وليس الجد من التغزل والتعشق والتشاجي في شيء، وعلى مذهب علي بن يحيى؟ أن المنطق الصائب هو الكلام الصريح، وأن اللحن هو التعريض، وأنها تعرف هذا وهذا، فهب أن هذا المعنى مقبول، لم ينبغي أن يكون المعنى الآخر لهوجاً ومردوداً؟ وقد يجوز أن يكون مراد الشاعر ذاك، لأن الشاعر يشعر بهذا كما يشعر بهذا، قال أبو العيناء: أنشدني الجاحظ لنفسه في إبراهيم بن رباح:

وعهدي به والله يصلح أمره ... رحيب مجال الرأي منبلج الصدر
فلا جعل الله الولاية سبة ... عليه فإني بالولاية ذو خبر
فقد جهدوه بالسؤال وقد أبى ... به المجد إلا أن يلج ويستشري
قال أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري قال: حدثني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن جعفر الوكيل قال: كنت يوماً عند إبراهيم بن المدبر فرأيت بين يديه رقعة يردد النظر إليها فقلت له: ما شأن هذه الرقعة؟ كأنه استعجم عليك شيء منه؟ فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني وأنا أردده على نفسي لشدة إعجابي. فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم وألقاها إلي فإذا فيها: ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك، إلا وجدت الشوق إليك قد حز في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشاً خافقة ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد أبليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض ممنوع من لذة الإغماض قول بشار:
إذا هتف القمري نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا ... وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زماناً وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا، وذكرت أيضاً ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصاني الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتاً تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدي من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمه ... يخبر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر. فضحك وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام وتأخر ذلك لشغل عرض لي فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع المدة مقام الغيبة.
قال الجاحظ: كان يأتيني رجل فصيح من العجم قال: فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها. قال: فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفظه نسباً حتى حفظه وهذه هذا. فقلت له: الآن لا تته علينا. فقال: سبحان الله. إن فعلت ذلك فأنا إذاً دعي.
ومن كلام الجاحظ يصف البلاغة: ومتى شاكل - أبقاك الله - اللفظ معناه وكان لذلك الحال وفقاً ولذلك القدر لفقاً وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف، كان قمناً بحسن الموقع، وحقيقاً بانتفاع المستمع، وجديراً أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا يزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متخيراً من جنسه، وكان سليماً من الفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض ومن أعاره من معرفته نصيباً، وأفرغ عليه من محبته ذنوباً، حبب إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كد التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم. وقرأت بخط أبي حيان التوحيدي من كتابه الذي ألفه في تقريظ الجاحظ.
وحدثنا أبو سعيد السيرافي - وهمك من رجل، وناهيك - من عالم، وشرعك من صدوق - قال: حدثنا جماعة من الصابئين الكتاب: أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم

فقيل له: أحص لنا هؤلاء الثلاثة. قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وتحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وصرامته وشهامته، وقيامته في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل زافر، ولسان عضب وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة، وصدر منشرح، وبال منفسح، وبديهة نضوح وروية لقوح، وسر طاهر، وتوفيق حاضر، ورأي مصيب، وأمر عجيب، وشأن غريب، دعم الدين وشيد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه، ملك في زي مسكين، ما جنح في أمر إلى ونى، ولا غض طرفه على خناً، ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة، جرح وأسا، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستخذى وسطا، كل ذلك في الله ولله، لقد كان من نوادر الرجال. قال: والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وورعاً وعفةً ورقةً وتألهاً وتنزهاً وفقهاً ومعرفةً وفصاحةً ونصاحةً، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، ولا قريباً ولا مدانياً، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته، عاش سبعين سنة لم يقرف بمقالة شنعاء، ولم يزن بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقي الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو جميع هذا، كالبحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل، والصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان مع شارة الدين، وبهجة العلم ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله رائحة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الدقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم، فمن ذا مثله ومن يجري مجراه؟. والثالث أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، وشيخ الأدب ولسان العرب. كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفاً، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطئ الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالإقتداء به، لقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب. هذا قول ثابت، وهو قول صابئ لا يرى للإسلام حرمة ولا للمسلمين حقاً، ولا يوجب لأحد منهم ذماماً، وقد انتقد هذا الانتقاد، ونظر هذا النظر، وحكم هذا الحكم، وأبصر الحق بعين لا غشاوة عليها من الهول، ونفس لا لطخ بها من التقليد، وعقل ما تحيل بالعصبية، ولسنا نجهل مع ذلك فضل غير هؤلاء من السلف الطاهر، والخلف الصالح، ولكنا عجبنا فضل عجب من رجل ليس منا ولا من أهل ملتنا ولغتنا، - ولعله ما خبر عمر بن الخطاب كل الخبرة، ولا استوعب كل ما للحسن من المنقبة، ولا وقف على جميع ما لأبي عثمان من البيان والحكمة - يقول هذا القول، ويتعجب هذا العجب، ويحسد أمتنا بهم هذا الحسد، ويختم كلامه بأبي عثمان، ويصفه بما يأبى الطاعن عليه أن يكون له شيء منه، ويغضب إذا ادعي ذلك له لموفز عليه، هل هذا إلا الجهل الذي يرحم المبتلى به؟.
قال أبو حيان: وحدثنا ابن مقسم - وقد طال ذكر الجاحظ لأبي هفان: - قيل لأبي هفان لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.

قال أبو حيان: سمعت أبا معمر الكاتب في ديوان بادوريا قال: كتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتاباً يقول في فصل منه: إن أمير المؤمنين يجد بك، ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك، لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتجبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفر عليه، وقد كان ألقى إلي من هذا عنوانه، فزدتك في نفسه زيادة كف بها عن تجشيمك، فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المنة على كتاب الرد على النصارى، وافرغ منه وعجل به إلي، وكن من جدا به على نفسه، تنال مشاهرتك وقد استطلقته لما مضى، واستسلفت لك لسنة كاملة مستقبلة، وهذا مما لم تحتكم به نفسك، وقد قرأت رسالتك في بصيرة غنام، ولولا أني أزيد في مخيلتك لعرفتك ما يعتريني عند قراءتها والسلام.
قال الجاحظ: قلت للحزامي: قد رضيت بقول الناس فيك: إنك بخيل. قال: لا أعد مني الله هذا الاسم. قال: لأنه لا يقال: فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فإذا سلم المال فادعني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال سخي إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم المال والحمد، وجمع ذاك الاسم المال والذم. قال: بينهما فرق. قلت: هاته. قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه، واسم البخيل اسم فيه حزم وذم، واسم السخاء فيه تضييع وحمد، والمال نافع مكرم لأهله معز، والحمد ريح وسخرية، واستماعه ضعف وفسولة. وما أقل والله غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعري جسده، وشمت عدوه.
قال أبو حيان: ومن عجيب الحديث في كتبه ما حدثنا به علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح قال: سمعت ابن الأخشاد شيخنا أبا بكر يقول: ذكر أبو عثمان في أول كتاب الحيوان أسماء كتبه ليكون ذلك كالفهرست، ومر بي في جملتها الفرق بين النبي والمتنبئ، وكتاب دلائل النبوة وقد ذكرهما هكذا على التفرقة، وأعاد ذكر الفرق في الجزء الرابع لشيء دعاه إليه، فأحببت أن أرى الكتابين ولم أقدر إلا على واحد منهما وهو كتاب دلائل النبوة، وربما لقب بالفرق خطاً، فهمني ذلك وساءني في سوء ظفري به، فلما شخصت من مصر ودخلت مكة - حرسها الله تعالى - حاجاً أقمت منادياً بعرفات ينادي - والناس حضور. من الآفاق على اختلاف بلدانهم وتنازح أوطانهم، وتباين قبائلهم وأجناسهم من المشرق إلى المغرب، ومن مهب الشمال إلى مهب الجنوب، وهو المنظر الذي لا يشابهه منظر - : رحم الله من دلنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبئ لأبي عثمان الجاحظ على أي وجه كان. قال: حجب الناس منىً ولم يعرفوا هذا الكتاب ولا اعترفوا به.
قال ابن أخشاد: وإنما أردت بهذا أن أبلغ نفسي عذرها. قال المؤلف: وحسبك بها فضيلة لأبي عثمان أن يكون مثل ابن الأخشاد - وهو هو في معرفة علوم الحكمة، وهو رأس عظيم من رءوس المعتزلة - يستلهم بكتب الجاحظ حتى ينادي عليها بعرفات والبيت الحرام، وهذا الكتاب موجود في أيدي الناس اليوم لا يكاد تخلو خزانة منه. ولقد رأيت أنا منه نحو مائة نسخة أو أكثر.
ومن كتاب هلال قال أبو الفضل بن العميد: ثلاثة علوم الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس: أما الفقه فعلى أبي حنيفة، لأنه دون وخلد ما جعل من يتكلم فيه بعده مشيراً إليه مخبراً عنه. وأما الكلام فعلى أبي الهذيل، وأما البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة، فعلى أبي عثمان الجاحظ. وحدث أبو القاسم السيرافي قال: حضرنا مجلس الأستاذ الرئيس أبي الفضل فقصر رجل بالجاحظ وأزرى عليه وحلم الأستاذ عنه. فلما خرج قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله الذي قال مع عادتك بالرد على أمثاله. فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه، صار إنساناً. يا أبا القاسم كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً.
وحكى أبو علي القالي عن أبي معاذ عبدان الخولي المتطبب قال: دخلنا يوماً بسر من رأى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل إليه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ولعاب سائل؟ ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون في رجل له شقان: أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس، والشق الآخر يمر به الذباب فيغوث، وأكثر ما أشكوه الثمانون.

حدث أبو عبد الله الحميدي في الجذوة: قرأت على الأمين بن أبي علي بن القاضي أبي القاسم البصري عن أبيه قال: حدثنا محمد بن عمر بن شجاع المتكلم، حدثنا أبو محمد الحسن بن عمرو النجيرمي قال: كنت بالأندلس فقيل لي: إن هاهنا تلميذاً لأبي عثمان الجاحظ يعرف بسلام بن يزيد ويكنى أبا خلف، فأتيته فرأيت شيخاً هماً فسألته عن سبب اجتماعه مع أبي عثمان ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس فقال: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان، فوقع إلينا كتاب التربيع والتدوير له فأشاروا إليه، ثم أردفه عندنا كتاب البيان والتبيين له فبلغ الرجل الصكاك بهذين الكتابين. قال: فخرجت لا أعرج على شيء حتى قصدت بغداد فسألت عنه فقيل: هو بسر من رأى، فأصعدت إليها فقيل لي: قد انحدر إلى البصرة، فانحدرت إليه وسألت عن منزله فأرشدت ودخلت إليه فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبياً ليس فيهم ذو لحية غيره، فدهشت فقلت: أيكم أبو عثمان؟ فرفع يده وحركها في وجهي وقال: من أين؟ قلت من الأندلس، فقال: طينة حمقاء، فما الاسم؟ قلت سلام. قال: اسم كلب القراد، ابن من؟ قلت: ابن يزيد. قال: بحق ما صرت أبو من؟ قلت: أبو خلف. قال: كنية قرد زبيدة، ما جئت تطلب؟ قلت: العلم قال: ارجع بوقت فإنك لا تفلح. قلت له ما أنصفتني، فقد اشتملت على خصال أربع: جفاء البلدية، بعد الشقة، وغرة الحداثة، ودهشة الداخل. قال: فترى حولي عشرين صبياً ليس فيهم ذو لحية غيري، ما كان يجب أن تعرفني بها؟ قال: فأقمت عليه عشرين سنة. وهذا فهرست كتب الجاحظ: كتاب الحيوان وهو سبعة أجزاء وأضاف إليه كتاباً آخر سماه كتاب النساء وهو الفرق فيما بين الذكر والأنثى، وكتاباً آخر سماه: كتاب النعل. قال ابن النديم. ورأيت أنا هذين الكتابين بخط زكرياء بن يحيى - ويكنى أبا يحيى - وراق الجاحظ، وقد أضيف إليه كتاب سموه كتاب الإبل ليس من كلام الجاحظ ولا يقاربه، وكتاب الحيوان ألفه باسم محمد بن عبد الملك الزيات. قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ ألك بالبصرة ضيعة؟ فتبسم وقال: إنما أنا وجارية، وجارية تخدمها وخادم وحمار، أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي دؤاد فأعطاني خمسة آلاف، وأهديت كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار، فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد، وكتاب البيان والتبيين نسختان: أولى وثانية، والثانية أصح وأجود، كتاب النبي والمتنبئ، كتاب المعرفة، كتاب جوابات كتاب المعرفة، كتاب مسائل كتاب المعرفة، كتاب الرد على أصحاب الإلهام، كتاب نظم القرآن ثلاث نسخ، كتاب مسائل القرآن، كتاب فضيلة المعتزلة، كتاب الرد على المشبهة، كتاب الإمامة على مذهب الشيعة، كتاب حكاية قول أصناف الزيدية، كتاب العثمانية، كتاب الأخبار وكيف تصح؟ كتاب الرد على النصارى، كتاب عصام المريد، كتاب الرد على العثمانية، كتاب إمامة معاوية، كتاب إمامة بني العباس، كتاب الفتيان، كتاب القواد، كتاب اللصوص، كتاب ذكر ما بين الزيدية والرافضة، كتاب صياغة الكلام، كتاب المخاطبات في التوحيد، كتاب تصويب علي في تحكيم الحكمين، كتاب وجوب الإمامة، كتاب الأصنام، كتاب الوكلاء والموكلين، كتاب الشارب والمشروب، كتاب افتخار الشتاء والصيف، كتاب المعلمين، كتاب الجواري، كتاب نوادر الحسن، كتاب البخلاء، كتاب الفخر ما بين عبد شمس ومخزوم، كتاب العرجان والبرصان، كتاب فخر القحطانية والعدنانية، كتاب التربيع والتدوير، كتاب الطفيليين، كتاب أخلاق الملوك، كتاب الفتيا، كتاب مناقب جند الخلافة وفضائل الأتراك، كتاب الحاسد والمحسود، كتاب الرد على اليهود، كتاب الصرحاء والهجناء، كتاب السودان والبيضان، كتاب المعاد والمعاش، كتاب النساء، كتاب التسوية بين العرب والعجم، كتاب السلطان وأخلاق أهله، كتاب الوعيد، كتاب البلدان، كتاب الأخبار، كتاب الدلالة على أن الإمامة فرض، كتاب الاستطاعة وخلق الأفعال، كتاب المقينين والغناء والصنعة، كتاب الهدايا منحول، كتاب الإخوان، كتاب الرد على من ألحد في كتاب الله عز وجل، كتاب آي القرآن، كتاب الناشي والمتلاشي، كتاب حانوت عطار، كتاب التمثيل، كتاب فضل العلم، كتاب المزاح والجد، كتاب جمهرة الملوك، كتاب

الصوالجة، كتاب ذم الزنا، كتاب التفكر والاعتبار، كتاب الحجر والنبوة، كتاب آل إبراهيم بن المدبر في المكاتبة، كتاب إحالة القدرة على الظلم، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الاعتزال وفضله عن الفضيلة، كتاب الأخطار والمراتب والصناعات، كتاب أحدوثة العالم، كتاب الرد على من زعم أن الإنسان جزء لا يتجزأ، كتاب أبي النجم وجوابه، كتاب التفاح، كتاب الأنس والسلوة، كتاب الكبر المستحسن والمستقبح، كتاب نقض الطب، كتاب الحزم والعزم. كتاب عناصر الآداب، كتاب تحصين الأموال، كتاب الأمثال، كتاب فضل الفرس، كتاب على الهملاج، كتاب الرسالة إلى أبي الفرج بن نجاح في امتحان عقول الأولياء، كتاب رسالة أبي النجم في الخراج، كتاب رسالته في القلم، كتاب رسالته في فضل اتخاذ الكتب، كتاب رسالته في كتمان السر، كتاب رسالته في مدح النبيذ، كتاب رسالته في ذم النبيذ، كتاب رسالته في العفو الصفح، كتاب رسالته في إثم لسكر، كتاب رسالته في الأمل والمأمول، كتاب رسالته في الحلية، كتاب رسالته في ذم الكتاب، كتاب رسالته في مدح الكتاب، كتاب رسالته في مدح الوراق، كتاب رسالته في ذم الرواق، كتاب رسالته فيمن يسمى من الشعراء عمراً، كتاب رسالته اليتيمة، كتاب رسالته في فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاب رسالته في الكرم إلى أبي الفرج بن نجاح، كتاب رسالته في موت أبي حرب الصفار البصري، كتاب رسالته في الميراث، كتاب في الأسد والذئب، كتاب رسالته في كتاب الكيمياء، كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب، كتاب رسالته في القضاة والولاة، كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية، كتاب رسالته في الرد على القولية، كتاب العالم والجاهل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غش الصناعات، كتاب خصومة الحول والعور، كتاب ذوي العاهات، كتاب المغنين، كتاب أخلاق الشطار.ة، كتاب ذم الزنا، كتاب التفكر والاعتبار، كتاب الحجر والنبوة، كتاب آل إبراهيم بن المدبر في المكاتبة، كتاب إحالة القدرة على الظلم، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الاعتزال وفضله عن الفضيلة، كتاب الأخطار والمراتب والصناعات، كتاب أحدوثة العالم، كتاب الرد على من زعم أن الإنسان جزء لا يتجزأ، كتاب أبي النجم وجوابه، كتاب التفاح، كتاب الأنس والسلوة، كتاب الكبر المستحسن والمستقبح، كتاب نقض الطب، كتاب الحزم والعزم. كتاب عناصر الآداب، كتاب تحصين الأموال، كتاب الأمثال، كتاب فضل الفرس، كتاب على الهملاج، كتاب الرسالة إلى أبي الفرج بن نجاح في امتحان عقول الأولياء، كتاب رسالة أبي النجم في الخراج، كتاب رسالته في القلم، كتاب رسالته في فضل اتخاذ الكتب، كتاب رسالته في كتمان السر، كتاب رسالته في مدح النبيذ، كتاب رسالته في ذم النبيذ، كتاب رسالته في العفو الصفح، كتاب رسالته في إثم لسكر، كتاب رسالته في الأمل والمأمول، كتاب رسالته في الحلية، كتاب رسالته في ذم الكتاب، كتاب رسالته في مدح الكتاب، كتاب رسالته في مدح الوراق، كتاب رسالته في ذم الرواق، كتاب رسالته فيمن يسمى من الشعراء عمراً، كتاب رسالته اليتيمة، كتاب رسالته في فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاب رسالته في الكرم إلى أبي الفرج بن نجاح، كتاب رسالته في موت أبي حرب الصفار البصري، كتاب رسالته في الميراث، كتاب في الأسد والذئب، كتاب رسالته في كتاب الكيمياء، كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب، كتاب رسالته في القضاة والولاة، كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية، كتاب رسالته في الرد على القولية، كتاب العالم والجاهل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غش الصناعات، كتاب خصومة الحول والعور، كتاب ذوي العاهات، كتاب المغنين، كتاب أخلاق الشطار.
وحدث يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال: يجب للرجل أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير، شجاعاً لا يبلغ الهوج، محترساً لا يبلغ الجبن، ماضياً لا يبلغ القحة، قوالاً لا يبلغ الهذر، صموتاً لا يبلغ العي، حليماً لا يبلغ الذل، منتصراً لا يبلغ الظلم، وقوراً لا يبلغ البلادة، ناقداً لا يبلغ الطيش، ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي قوله: (خير الأمور أوساطها). فعلمنا أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وعلم فصل الخطاب.

وقال أبو زيد البلخي: ما أحسن ما قال الجاحظ: عقل المنشئ مشغول، وعقل المتصفح فارغ. وقال المرزباني بإسناده عن المبرد: سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه: أنت والله أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.
وقال الجاحظ في أبي الفرج نجاح بن سلمة يسأله إطلاق رزقه من قصيدة:
أقام بدار الخفض راض بخفضه ... وذو الحزم يسري حين لا أحد يسري
يظن الرضا شيئاً يسيراً مهوناً ... ودون الرضى كأس أمر من الصبر
سواء على الأيام صاحب حنكة ... وآخر كاب لا يريش ولا يبري
خضعت لبعض القوم أرجو نواله ... وقد كنت لا أعطى الدنية بالقسر
فلما رأيت القوم يبذل بشره ... ويجعل حسن البشر واقية الوفر
ربعت على ظلعي وراجعت منزلي ... فصرت حليفاً للدراسة والفكر
وشاروت إخواني فقال حليمهم: ... عليك الفتى المري ذا الخلق الغمر
أعيذك بالرحمن من قول شامت: ... أبو الفرج المامول يزهد في عمرو
ولو كان فيه راغباً لرأيته ... كما كان دهراً في الرخاء وفي اليسر
أخاف عليك العين من كل حاسد ... وذو الود منخوب الفؤاد من الذعر
فإن ترع ودي بالقبول فأهله ... ولا يعرف الأقدار غير ذوي القدر
وحدث يموت بن المزرع قال: وجه المتوكل في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة فقال لمن أراد حمله: وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟ وحدث المبرد قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حز بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأِد من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها، ثم أنشدنا:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب؟
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وقال لمتطبب يشكو إليه علته: اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي.
وحدث أحمد بن يزيد بن محمد المهلبي عن أبيه قال:قال لي المعتز بالله: يا يزيد، ورد الخبر بموت الجاحظ، فقلت: لأمير المؤمنين طول البقاء ودوام النعماء. قال: وذلك في سنة خمسين ومائتين، وفيه يقول أبو شراعة القيسي:
في العلم للعلماء إن ... يتفهموه مواعظ
وإذ نسيت وقد جمع ... ت علا عليك الحافظ
ولقد رأيت الظرف ده ... راً ما حواه اللافظ
حتى أقام طريقه ... عمرو بن بحر الجاحظ
ثم انقضى أمد به ... وهو الرئيس الفائظ
عمرو بن عثمان بن قنبرأبو بشر، ويقال أبو الحسن وأبو بشر أشهر، مولى بني الحارث بن كعب، ثم مولى آل الربيع بن زياد الحراثي، وسيبويه لقب ومعناه رائحة التفاح. يقال: كانت أمه ترقصه بذلك في صغره. ورأيت ابن خالويه قد اشتق له غير ذلك فقال: كان سيبويه لا يزال من يلقاه يشم منه رائحة الطيب فسمي سيبويه، ومعنى سي: ثلاثون، وبوى: الرائحة فكأنه ثلاثين رائحة طيب، ولم أر أحداً قال ذلك غير ابن خالويه، وأصله من البيضاء من أرض فارس ومنشؤه البصرة، مات فيما ذكره ابن نافع بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. وقال المرزباني: مات بشيراز سنة ثمانين ومائة. وذكر الخطيب أن عمره كان اثنتين وثلاثين سنة ويقال: إنه نيف على الأربعين سنة وهو الصحيح، لأنه قد روى عن عيسى بن عمر، وعيسى بن عمر مات سنة تسع وأربعين ومائة، فمن وفاة عيسى إلى وفاة سيبويه إحدى وثلاثين سنة، وما يكون قد أخذ عنه إلا وهو يعقل، ولا يعقل حتى يكون بالغاً والله أعلم.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه: قدم سيبويه العراق في أيام الرشيد وهو ابن نيف وثلاثين سنة، وتوفي وعمره نيف وأربعون سنة بفارس. قال الأصمعي: قرأت على قبر سيبويه بشيراز هذه الأبيات وهي لسليمان بن يزيد العدوي:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا

تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا
وأخذ سيبويه النحو والأدب عن الخليل بن احمد، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش، وعيسى بن عمر. نقلت من خط أبي سعد السمعاني مما انتخبه من طبقات أهل فارس وشيراز تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز الشيرازي القصار: بشير بن سعيد، وقيل: عمرو بن عثمان بن قنبر يكنى أبا بشر، سيبويه النحوي عن الخليل بن احمد، وهو من الحارث بن كعب، مات وكان على مظالم فارس وقبره في شيراز. لم يزد في ترجمته على هذا، وورد بغداد وناظر بها الكسائي وتعصبوا عليه، وجعلوا للعرب جعلاً، حتى وافقوه على خلافه، ولذلك قصة ذكرت فيما بعد، وكان سبب طلب سيبويه النحو ما ذكرناه في أخبار حماد بن سلمة.
وحدث أبو عبيدة قال: لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب: إن سيبويه قد ألف كتاباً في ألف ورقة من علم الخليل. قال يونس: ومتى سمع سيبويه هذا كله من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلما نظر فيه رأى كل ما حكى فقال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه كما صدق فيما حكاه عني، وذكر صاعد بن أحمد الجياني من أهل الأندلس في كتابه قال: لا اعرف كتاباً ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني كتاب أرسططا ليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له. وكان إذا أراد إنسان قراءة كتاب سيبويه على المبرد يقول له: أركبت البحر؟ تعظيماً واستصعاباً.
وحدث محمد بن سلام قال: كان سيبويه جالساً في حلقته بالبصرة فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة فذكر حديثاً غريباً وقال: لم يرو هذا إلا سعيد بن أبي العروبة. فقال بعض ولد جعفر بن سليمان: ما هاتان الزائدتان يا أبا بشر؟ فقال هكذا يقال، لأن العروبة هي الجمعة، ومن قال ابن عروبة فقد أخطأ. قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونس فقال: أصاب لله دره.
وحدث ابن النطاح قال: كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل مرحباً بزائر لا يمل، قال: وكان كثير المجالسة للخليل، وما سمعت الخليل يقولها لغيره، قال: وكان شاباً جميلاً نظيفاً.

وحدث أحمد بن معاوية بن بكر العليمي قال: ذكر سيبويه عند أبي فقال: عمرو بن عثمان قد رأيته وكان حدث السن، كنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فرأيت علمه أبلغ من لسانه، وحدث أبو الحسن سعيد بن مسعدة والمبرد وثعلب وجمعت بين أقاويلهم وحذفت التكرار قالوا: قدم سيبويه إلى العراق على يحيى بن خالد البرمكي فسأله عن خبره فقال: جئت لتجمع بيني وبين الكسائي، فقال: لا تفعل، فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين، وكل من في المصر له ومعه، فأبى إلا أن يجمع بينهما، فعرف الرشيد خبره، فأمره بالجمع بينهما فوعده بيوم، فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده إلى دار الرشيد، فوجد الفراء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه، فسأله الأحمر عن مائة مسألة فما أجابه عنها بجواب إلا قال أخطأت يا بصري، فوجم سيبويه وقال: هذا سوء أدب، ووافى الكسائي وقد شق أمره عليه ومعه خلق كثير من العرب، فلما جلس قال له: يا بصري، كيف تقول: خرجت وإذا زيد قائم؟ قال: خرجت وإذا زيد قائم، قال: فيجوز أن تقول: خرجت فإذا زيد قائماً قال: لا، قال الكسائي: فكيف تقول قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: لحنت، وخطأه الجميع. وقال الكسائي: العرب ترفع ذلك كله وتنصبه، ودفع سيبويه قوله فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما وهذا موضع مشكل؟. فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، وقد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم فدخلوا وفيهم أبو فقعس، وأبو دثار، وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بينهما فتابعوا الكسائي، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل؟ فانصرف المجلس على سيبويه، وأعطاه يحيى عشرة آلاف درهم وصرفه، فخرج وصرف وجهه تلقاء فارس، وأقام هناك حتى مات غماً بالذرب، ولم يلبث إلا يسيراً ولم يعد إلى البصرة.
قال أبو الحسين علي بن سليمان الأخفش: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب كما قال سيبويه، وهو فإذا هو هي، أي فإذا هو مثلها، وهذا موضع رفع وليس بموضع نصب. فإن قال قائل: فأنت تقول: خرجت فإذا زيد قائم وقائماً فتنصب قائماً، فلم لم يجز فإذا هو إياها؟ لأن إيا للمنصوب وهي للمرفوع؟ والجواب في هذا أن قائماً انتصب على الحال وهو نكرة، وإيا مع ما بعدها مما أضيفت إليه معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة فبطل إياها، ولم يكن إلا هي وهو خبر الابتداء، وخبر الابتداء يكون معرفة نكرة، والحال لا يكون إلا نكرة، فكيف تقع إياها وهي معرفة في موضع ما لا يكون إلا نكرة؟ وهذا موضع الرفع. وقد قال أصحاب سيبويه: الأعراب الذين شهدوا للكسائي من أعراب الحطمية الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم.
ولما مرض سيبويه مرضه الذي مات فيه، جعل يجود بنفسه ويقول:
يؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل
حثيثاً يرى أصول النخيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
قالوا: ولما اعتل سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه فبكى أخوه لما رآه لما به، فقطرت من عينه قطرة على وجه سيبويه ففتح عينه فرآه يبكي فقال:
أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا؟
وحدث أبو الطيب اللغوي عن أبي عمر الزاهد قال: قال ثعلب يوماً في مجلسه: مات الفراء وتحت رأسه كتاب سيبويه فعارضه أبو موسى الحامض بما قد كتبناه في أخباره.
وحدث محمد بن عبد الملك التاريخي فيما رواه عن ثعلب عن محمد بن سلام قال: حدثني الأخفش أنه قرأ كتاب سيبويه على الكسائي في جمعة فوهب له سبعين ديناراً. قال: وكان الكسائي يقول لي: هذا الحرف لم أسمعه فاكتبه لي فأفعل. قال: وكان الأخفش يؤدب ولد الكسائي.

قال التاريخي: فكأن الجاحظ سمع هذا الخبر فقال مما يعدده من فخر أهل البصرة على أهل الكوفة: وهؤلاء يأتونكم بفلان وفلان وبسيبويه الذي اعتمدتم على كتبه وجحدتم فضله. وحدث التاريخي أيضاً وهارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال هارون: دخل الجاحظ على أبي وقد افتصد فقال له: - أدام الله صحتك - ، ووصل غبطتك، ولا سلبك نعمتك. قال: ما أهديت لي يا أبا عثمان؟ قال: أطرف شيء، كتاب سيبويه بخط الكسائي وعرض الفراء. وقال التاريخي: قال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد عبد الملك ففكرت في شيء أهديه له فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه وقلت له: أردت أن أهدي لك شيئاً ففكرت فإذا كل شيء عندك، فلم أر أشرف من هذا الكتاب، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء قال: والله ما أهديت إلي شيئاً أحب إلي منه.
وحدث التاريخي عن المبرد عن الزراري أبي زيد قال: قال رجل لسماك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ قال: بدرهمان. فضحك الرجل، فقال السماك: ويلك أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان.
وحدث عن المبرد عن المازني عن الجرمي قال: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتاً سألت عنها فعرف ألف ولم تعرف خمسون. وحدثت عن النظام أنه دخل على سيبويه في مرضه فقال له: كيف تجدك يا أبا بشر؟ قال: أجدني ترحل العافية عني بانتقال، وأجد الداء يخامرني بحلول، غير أني وجدت الراحة منذ البارحة. قلت: فما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أشتهي. فلما كان من بعد ذلك اليوم دخلت إليه وأخوه يبكي وقد قطرت من دموعه قطرة على خده فقلت: كيف تجدك؟ فقال:
يسر الفتى ما كان قدم من تقىً ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
قال النظام: ثم مات من يومه. وحدث أبو حاتم السجستاني قال: دخلت على الأصمعي في مرضه الذي مات فيه فسألته عن خبره ثم قلت: كم سنة مضت من عمرك؟ فقال: لا ادري، ولكني أحدثك: كنت شاباً مقتبلاً، فتزوجت فولد لي وولد لأولادي وأنا حي ثم انشد:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
فقلت له: في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه. قال: سل. فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين سيبويه من المناظرة. فقال: والله لولا أني لا أرجو الحياة من مرضتي هذه ما حدثتك، إنه عرض علي شيء من الأبيات التي وضعها سيبويه في كتابه ففسرتها على خلاف ما فسره، فبلغ ذلك سيبويه فبلغني أنه قال: لا ناظرته إلا في المسجد الجامع، فصليت يوماً في الجامع ثم خرجت فتلقاني في المسجد فقال لي: اجلس يا أبا سعيد، ما الذي أنكرت من بيت كذا وبيت كذا؟ ولم فسرت على خلاف ما يجب؟. فقلت له: ما فسرت إلا على ما يجب، والذي فسرته أنت ووضعته خطأ، تسألني وأجيب. ورفعت صوتي فسمع العامة فصاحتي، ونظروا إلى لكنته فقالوا: لو غلب الأصمعي سيبويه، فسرني ذلك، فقال لي: إذا علمت أنت يا أصمعي ما نزل بك مني لم ألتفت إلى قول هؤلاء، ونفض يده في وجهي ومضى. ثم قال الأصمعي: يا بني، فوالله لقد نزل بي منه شيء وددت أني لم أتكلم في شيء من العلم.
وعن أبي عثمان المازني قال: حدثني الأخفش قال: حضرت مجلس الخليل فجاءه سيبويه فسأله عن مسألة وفسرها له الخليل فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق فقلت له: جعلني الله فداءك، سألت الخليل عن مسألة فلم أفهم ما رد عليك ففهمنيه، فأخبرني بها فلم تقع لي ولا فهمتها فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتاً فإني لم أفهمها ولم تقع لي. فقال لي: ويلك، ومتى توهمت أنني أتوهم أنك تعنتني، ثم زجرني وتركني ومضى.

وحدث المازني قال: قال الأخفش: كنت عند يونس فقيل له: قد أقبل سيبويه فقال: أعوذ بالله منه. قال: فجاء فسأله فقال: كيف تقول مررت به المسكين، فقال: جائز أن أجره على البدل من الهاء. قال: فقال له: فمررت به المسكين على معنى: المسكين مررت به، فقال: هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر. قال: فقال له: إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيها أبياتاً فقال: هو خطأ فغمني ذلك. قال: فمررت به المسكين، فقال جائز، فقال: على أي شيء ينصب؟ فقال: على الحال. فقال سيبويه: أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام؟. فقال له: صدقت. ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل، فقال سيبويه: قال لي: إنه ينصب على الترحم، فقال: ما أحسن هذا ورأيته مغموماً بقوله: نصبته على الحال.
عمرو بن مسعدة بن سعد بن صول بن صولالصولي، كنيته أبو الفضل، من جلة كتاب المأمون وأهل الفضل والبراعة والشعر منهم. وذكر الجهشياري: أن مسعدة كان مولى خالد بن عبد الله القسري، وأنه كان يكتب لخالد وكان بليغاً كاتباً، مات في سنة أربع عشرة ومائتين، وقيل في سنة سبع في أيام المأمون. وكان مسعدة من كتاب خالد بن برمك، ثم كتب بعده لأبي أيوب وزير المنصور على ديوان الرسائل.
قال الصولي: قال أحمد بن عبد الله. كان لمسعدة أربعة بنين: مجاشع، وهو الذي يقول فيه أبو العتاهية:
علمت يا مجاشع بن مسعده ... أن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
ومسعود، وعمرو، ومحمد. وقد ذكر أن المنصور قال يوماً لكتابه: اكتبوا لي تعظيم الإسلام، قال: فبدر مسعدة فكتب: الحمد لله الذي عظم الإسلام واختاره، وأوضحه وأناره، وأعزه وأنافه، وشرفه وأكمله، وتممه وفضله، وأعزه ورفعه، وجعله دينه الذي أحبه واجتباه، واستخلصه وارتضاه، واختاره واصطفاه، وجعله الدين الذي تعتد به ملائكته، وأرسل بالدعاء إليه أنبياءه، وهدى له من أراد إكرامه وإسعاده من خلقه، فقال جل من قائل: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقال جل وعلا: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه). وقال: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل). فبهذا الإسلام والدخول فيه والعلم به، وأداء شرائعه، والقيام بمفروضاته، وصلت ملائكته ورسله إلى رضوان الله ورحمته، وجواره في جنته، وبه تحرزوا من غضبه وعقوبته، وأمنوا نكال عذابه وسطوته. فقال المنصور: حسبك يا مسعدة، اجعل هذا صدر الكتاب إلى أهل الجزيرة بالإعذار والإنذار. وأما عمرو بن مسعدة: ففضله شائع، ونبله ذائع، أشهر من أن ينبه عليه، أو يدل بالوصف إليه، قد ولي للمأمون الأعمال الجليلة، وألحق بذوي المراتب النبيلة، وسماه بعض الشعراء وزيراً لعظم منزلته، لا لأنه كان وزيراً وهو قوله.
لقد أسعد الله الوزير ابن مسعده ... وبث له في الناس شكراً ومحمده
في أبيات. فحدث إسماعيل بن أبي محمد الزيدي قال: كان عمرو بن مسعدة أبيض أحمر الوجه، وهو من أولاد صول الأكبر جد محمد بن صول بن صول، وقد ذكرت أصلهم في أخبار إبراهيم بن العباس من هذا الكتاب، وكان المأمون يسميه الرومي لبياض وجهه. ووصف الفضل بن سهل بلاغة عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد إذا سمع كلامه ظن أنه يكتب مثله، فإذا رامه بعد عليه، وهذا كما قيل لجعفر بن يحيى: ما حد البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يقدر على مثلها، فإذا رامها استصعبت عليه.
وحدث العباس بن رستم قال: كان لعمرو بن مسعدة فرس أدهم أغر، لم يكن لأحد مثله فراهة وحسناً فبلغ المأمون خبره، وبلغ عمرو بن مسعدة ذلك، فخاف أن يأمر بقوده إليه فلا يكون له فيه محمدة، فوجه به إليه هدية وكتب معه:
يا إماماً لا يداني ... ه إذا عد إمام
فضل الناس كما يف ... ضل نقصاناً تمام
قد بعثنا بجواد ... مثله ليس يرام
فرس يزهى به لل ... حسن سرج ولجام
دونه الخيل كما دو ... نك في الفضل الأنام
وجهه صبح ولكن ... سائر الجسم ظلام
والذي يصلح للمو ... لى على العبد حرام

وكتب عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل أما بعد: فإنك ممن إذا غرس، وإذا أسس بني، ليستتم تشييد أسه، ويجتني ثمار غرسه، وثناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقي ما غرست إن شاء الله تعالى.
وحدث الصولي قال: لما مات عمرو بن مسعدة رفع إلى المأمون أنه خلف ثمانين ألف درهم فوقع على الرقعة: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه. وعمرو القائل في رواية المرزباني:
ومستعذب للهجر، والوصل أعذب ... أكاتمه حبي فينأى وأقرب
إذا جدت مني بالرضا جاد بالجفا ... ويزعم أني مذنب وهو أذنب
تعلمت ألوان الرضا خوف هجره ... وعلمه حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت طريقه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
قال: وهذان البيتان الأخيران متنازعان
عمرو بن كركرة أبو مالك الأعرابيكان يعلم بالبادية وورق في الحضرة، وهو مولى بني سعد، وكان راوية أبي البيداء، يقال: إنه كان يحفظ لغة العرب، وكان بصري المذهب، وكان أحد الطيبات. قال الجاحظ: كان يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء ويقول: إن فرعون عند الله أكرم من موسى، وكان يلتقم الحار الممتنع فلا يؤذيه، وصنف كتباً منها: كتاب خلق الإنسان، كتاب الخيل.
وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: كان ابن مناذر يقول: كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها، وكان أبو مالك يجيب فيها كلها، وإنما عنى ابن مناذر توسعهم في الرواية والفتيا، لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات، ويلح في ذلك ويمحك، وكان مع ذلك لا يجيب في القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يزيد بعضهم على بعض، وله قصة في أخبار ابن مناذر في كتاب الشعراء من تصنيفنا.
عنبسة بن معدان الفيلأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي ولم يكن فيمن أخذ النحو أبرع منه. وأما معنى تسميته بمعدان الفيل: فحدث محمد بن عبد الملك التاريخي عن يوسف بن يعقوب بن السكيت قال: حدثني عبد الرحيم بن مالك عن الهيثم بن عدي عن أشياخه قال يوسف: وحدثني مسلم بن محمد بن نوح عن هشام بن محمد عن رجل من قريش قال: كانت لزياد بن أبيه فيلة ينفق عليها في كل يوم عشرة دراهم. فأقبل رجل من أهل ميسان يقال له معدان فقال: ادفعوها إلي وأكفيكم المئونة، وأعطيكم عشرة دراهم كل يوم فدفعوها إليه فأثرى وابتنى قصراً، ونشأ له ابن يقال له عنبسة، فروى الأشعار وظرف وفصح، وروى شعر جرير والفرزدق وانتمى إلى بني أبي بكر بن كلاب فقيل للفرزدق: ههنا رجل من بني أبي بكر بن كلاب يروي شعر جرير ويفضله عليك ووصفوا له فقال: رجل من بني أبي بكر بن كلاب على هذه الصفة لا أعرفه، فأروني داره فأروه فقال: هذا ابن معدان الميساني ثم قص قصته وقال:
لقد كان في معدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي علي القصائدا
فروي البيت بالبصرة، ولقي عنبسة أبا عيينة بن المهلب فقال له أبو عيينة: ما أراد الفرزدق بقوله:
لقد كان في معدان الفيل زاجر؟
فقال: إنما قال: لقد كان في معدان واللؤم زاجر. فقال أبو عيينة: وأبيك إن شيئاً فررت منه إلى اللؤم لعظيم. قال التاريخي: فحدثت بهذا الحديث أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً فسر به وسألني أن أكتبه له، فكتبته له والحديث على لفظ مسلم بن محمد بن نوح.
عوانة بن الحكم بن عياض بن وزرابن عبد الحارث بن أبي حصن بن ثعلبة بن جبير بن عامر بن النعمان. كان عالماً بالأخبار والآثار ثقة، روى عنه الأصمعي والهيثم بن عدي وكثير من أعيان أهل العلم. وقال أبو عبيدة في كتاب المثالب: يقال في الحكم بن عوانة الكلبي: إن أباه كان عبداً خياطاً ادعي بعد ما احتلم، وكانت أمه أمة سوداء لآل أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي، وله إخوة موال، قال في ذلك ذو الرمة:
ألكني فإني مرسل برسالة ... إلى حكم من غير حب ولا قرب
فلو كنت من كلب صميماً هجوتها ... ولكن لعمري لا إخالك من كلب
ولكنما أخبرت أنك ملصق ... كما ألصقت من غيره ثلمة القعب

تدهدى فخرت ثلمة من صحيحه ... فلز بأخرى بالغراء وبالشعب
حدث أحمد بن يحيى قال: أنشدني ذو الرمة شعراً وعوانة ابن الحكم حاضر، فعاب شيئاً منه فقال فيه هذه الأبيات المتقدمة. قال: وقال محمد بن احمد الكاتب: وقال عياض بن وزر في ابنه عوانة:
عجباً عجبت لمعشر لم يرشدوا ... جعلوا عوانة لي بغيب إبنما
إني إلى الرحمن أبرأ صادقاً ... ما نكت أمك يا عوانة محرما
أنكرت منك جعودة في حوة ... ومشافراً هدلاً وأنفاً أخثما
ما كان لي في آل حام والد ... عبد فأصبح في كنانة أكشما
واكن يكنى أبا الحكم وكان ضريراً، مات فيما ذكره المرزباني عن الصولي سنة سبع وأربعين ومائة في الشهر الذي مات فيه الأعمش. قال المدائني: مات عوانة سنة ثمان وخمسين ومائة في السنة التي مات فيها المنصور.
حدث الهيثم بن عدي قال: كنت عند عبد الله بن عياش الهمذاني وعنده عوانة بن الحكم فذاكروا أمر النساء فقلت: حدثني ابن الظلمة عن أمه أنها قالت: والله ما أتى النساء مثل أعمى عفيف، فضرب عوانة بيده على فخذي وقال: حفظك الله يا أبا عبد الرحمن، فإنك تحفظ غريب الحديث وحسنه. قال: وكان عوانة ضريراً. قال: قال عبد الله بن جعفر: عوانة بن الحكم من علماء الكوفة بالأخبار خاصة والفتوح مع علم بالشعر والفصاحة، وله إخوة وأخبار ظريفة، وكان موثقاً وعامة أخبار المدائني عنه.
قال: وروى عبد الله بن المعتز عن الحسن بن عليل العنزي أن عوانة بن الحكم كان عثمانياً وكان يضع أخباراً لبني أمية. قال: وحدث أبو العيناء عن الأصمعي قال: أنشد عوانة بيتين فقيل له لمن هما؟ قال: أنا تركت الحديث بغضاً مني للإسناد وليس أراكم تعفوني منه في الشعر.
وحدث هشام بن الكلبي عن عوانة قال: خطبنا عتبة بن النهاس العجلي فقال: ما أحسن شيئاً قال الله عز وجل في كتابه:
ليس حي على المنون بباق ... غير وجه المسبح الخلاق
فقمت إليه فقلت: أيها الرجل، إن الله عز وجل لم يقل هذا، إنما قاله عدي بن زيد ثم نزل عن المنبر، وأتى بامرأة من الخوارج فقال: يا عدوة الله، ما خروجك على أمير المؤمنين؟ ألم تسمعي قول الله عز وجل:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول؟
فحركت رأسها وقالت: يا عدو الله حملني على الخروج جهلكم بكتاب الله عز وجل. وحدث الهيثم بن عدي قال: كنا عند عوانة فورد الخبر بأن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قد قتل بالمدينة، فترحم عليه عوانة وذكر فضله ثم قال: أخطأ الرأي في استهدافه لهم ومقابلته إياهم بالقرب منهم، ولو تباعد عنهم حتى يجتمع أمره، ويرى رأيه لكالت مدته، فقيل له: قد أشير عليه بذلك فلم يقبله، فتمثل عوانة ببقول زهير:
أضاعت فلم تغفر لها غفلاتها ... فلاقت تباباً عند آخر معهد
دماً حول شلو تحجل الطير حوله ... وبضع لحام في إهاب مقدد
قال: ثم قال: هل علينا عين؟. قالوا لا فقل ما شئت، فقال: محمد والله من الذين قال الله فيهم: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله).
وحدث التاريخي عن إسماعيل بن إسحاق عن نصر بن علي عن الأصمعي عن عوانة قال: كان ابن زياد يأكل بعد الشبع أربع جرادق أصبهانية وجبنة ورطلاً عسلاً. وحدث عنه أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن عوانة قال: لقي رجلاً أعرابياً فقال: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا نسي الناس علمهم حفظوه عليهم. قال: فأنت إذاً من كلب، قال أجل. وكان لعوانة أخ يقال له عياض نحوي أديب أقام بإفريقية وانتقل إليها من الكوفة، فحدث المرزباني بإسناده قال: كان عوانة بن الحكم يقول لأخ له - يقال عياض - نحوي: لا تعمق في النحو، فإنه لم يتعمق فيه أحد إلا صار معلماً، قال: فصار عياض بعد ذلك معلماً بإفريقية لولد المعلى.
عوف بن محلم الخزاعي

أبو المنهال، أحد العلماء والأدباء والرواة الفهماء، والندامى الظرفاء والشعراء الفصحاء، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس. وكان طاهر بن الحسين ابن مصعب قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته. وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به.
قال محمد بن داود: ويقال إن سبب اتصاله بطاهر أنه نادى على الجسر بهذه الأبيات في أيام الفتنة ببغداد، وطاهر ينحدر في حراقة دجلة، فسمعها منه فأدخله وأنشده إياها وهي:
عجبت لحراقة بن الحسين ... كيف تعوم ولا تغرق؟
وبحران من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ... وقد مسها كيف لا تورق؟
وأصله من حران فبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق بأهله ويرجع إلى وطنه، فقربه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديباً فاضلاً عالماً بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به وأفضل عليه حتى كثر ماله، وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم، فاتفق أن خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصير عوفاً عديله يستمتع بمسامرته، ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري، فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته، والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا بن محلم، هل سمعت قط أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟ فقال: لا والله أيها الأمير، وإنه لحسن الصوت، شجي النغمة، مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح
فقال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين - إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير فإنه كان يبع في شعره، ويفهم آخر قوله وأوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الإبداع فيه.
قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير؟ قال عوف: أصلح الله الأمير، قد كبر سني، وفني ذهني، وأنكرت كل ما كنت أعرفه. قال عبد الله: سألتك بحق طاهر إلا فعلت؟ وكان لا يسأل بحق طاهر شيئاً إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح؟
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طليح؟
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو البث الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فيلقي عصا التطواف وهي طريح
إن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالمقترين طروح
قال: فاستعبر عبد الله ورق له، وجرت دموعه وقال له: والله إني لضنين بمفارقتك، شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك، ثم أمر له بثلاثين ألف درهم. فقال يمدح عبد الله وأباه:
يا بن الذي دان له المشرقان ... وألبس الأمن به المغربان
إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالشطاط الحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وعوضتني من زماع الفتى ... وهمتي هم الجبان الهدان
وقاربت مني خطىً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
وأنشأت بيني وبين الورى ... عنانة من غير نسج العنان

ولم تدع في لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المصعبي الهجان
وهمت بالأوطان وجداً بها ... وبالغواني أين مني الغوان؟
فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حران والرقتان
سقى قصور الشاذياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميان
فكم وكم من دعوة لي بها ... بأن تخطاها صروف الزمان؟
وهذه قصور بخراسان بناحية نيسابور لآل طاهر، ثم ودع عبد الله وسار راجعاً إلى أهله فمات قبل أن يصل إليهم. وقد روى في خبر هذه الأبيات أن عوف بن محلم دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عبد الله عليه فلم يسمع فأعلم بذلك فزعموا أنه أنحل هذه القصيدة، وكان قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له روح وعرض على عوف شعره، فمنعه من إنشاده عبد الله وقال: إن عبد الله رجل فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه. فقال له قد حسدتني وتوصل حتى أنشده عبد الله فاسترذله واستبرده ورده، فبلغ ذلك عوفاً فقال:
أنشدني روح مديحاً له ... فقلت شعراً قال لي فيش
فصرت لما أن بدا منشداً ... كأنني في قبة الخيش
وقلت: زدني وتفهمته ... والثلج في الصيف من العيش
عون بن محمد الكنديالكاتب أبو مالك، أحد أصحاب ابن الأعرابي، وأخذ عن سلمة بن عاصم صاحب الفراء، وروى عنه الصولي فأكثر. حدث الصولي قال: حدثني عون بن محمد الكندي قال: كنا في مجلس ابن الأعرابي فقدم قادم من سر من رأى فأخبر بنكبة سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب فأنشد ابن الأعرابي:
رب قوم رتعوا في نعمة ... زمناً والعيش ريان غدق
سكت الدهر طويلاً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
عيسى بن إبراهيم الربعي الوحاظيبلدة باليمن. لا أعرف حاله إلا أنه مصنف كتاب نظام الغريب في اللغة، حذا فيه حذو كفاية المتحفظ وأجاده، وأهل اليمن مشتغلون به.
عيسى بن عمر الثقفي أبو عمرمولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنسب إليهم، عالم بالنحو والعربية والقراءة مشهور بذلك، أخذ عن عبد الله بن إسحاق الحضرمي، ومات عيسى بن عمر سنة تسع وأربعين ومائة في خلافة المنصور قبل أبي عمرو بن العلاء بخمس سنين أو ست. حدث التاريخي محمد بن عبد الملك عن المبرد قال: أول من وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود الدؤلي، ثم أخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة بن معدان المهري الذي يقال له عنبسة الفيل، ثم أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون ابن أبي إسحاق الحضرمي، ثم أخذه عن ابن أبي إسحاق عيسى بن عمر، ثم أخذه عن الخليل بن أحمد سيبويه، ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، واسمه سعيد بن مسعدة. قال التاريخي: حدثنا المبرد مرة أخرى عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ووضع عيسى بن عمر كتابين في النحو سمى أحدهما الجامع والآخر المكمل، فقال الخليل بن أحمد:
بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
قال المؤلف: وهذان كتابان ما علمنا أحداً رآهما ولا عرفهما، غير أن أبا الطيب اللغوي ذكر في كتابه أنهما مبسوط ومختصر. وذكر عن المبرد أنه قال: قرأت أوراقاً من أحد كتابي عيسى بن عمر وذكر أيضاً أن عيسى بن عمر أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء.

وحدث المرزباني فيما أسنده إلى الأصمعي قال: كان عيسى بن عمر صاحب تقصير في كلامه، وكان عمر بن هبيرة قد اتهمه بوديعة لبعض العمال فضربه مقطعاً نحواً من ألف سوط فجعل يقول: والله ما كان إلا أثياب في أسيفاط قبضها عشاروك فيقول له: إنك لخبيث. قال:وكان دقيق الصوت. قال: فكان طول دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكر العشر والإجاص اليابس، وربما رأيته واقفاً أو سائراً أو عند بعض ولاة البصرة فتصيبه نهكة في فؤاده، فيخفق عليه حتى يكاد يغلب فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيها في فيه ثم يتمصصها، فإذا فعل ذلك سكن عليه فسئل عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني عمر بن هبيرة، فعالجته بكل شيء فما رأيت له أصلح من هذا.
وحدث التاريخي عن المبرد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عيسى بن عمر النحوي بصري، وعيسى بن عمر الكوفي همذاني وهو صاحب الحروف. وحدث عن يوسف بن يعقوب بن السكيت عن الجماز قال: عيسى بن عمر أخو حاجب بن عمر، ويكنى حاجب أبا خشينة، روى عنه الحديث وهما موليان لبني مخزوم، وهما من ولد الحكم بن عبد الله بن الأعرج الذي روى عنه الحديث. وحدث عن أحمد بن عبيد النحوي عن الأصمعي قال: حدثنا عيسى بن عمر قال: قدمت من سفر فدخل علي ذو الرمة فعرضت ألا أكون أعطيته شيئاً فقال لا، أنا وأنت نأخذ ولا نعطي. قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر قال: لقد كنت أكتب بالليل حتى ينقطع سوئي أي وسطي. وحدث عن أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: اللهازم قيس بن ثعلبة وعجل وعنزة وتيم الله. قال عيسى بن عمر: أرى اللهازم تجمعوا كما تجمع لهازم الدابة. قال: والرباب ثور وعكل وتيم الله، والرباب ثور وعكل وتيم عدي وضبة وأطحل كلهم إخوة، وإنما سموا الرباب لأنهم تجمعوا وتحالفوا، والربابة: جماعة القداح إذا ضمت، وجشم بن بكر وإخوتهم الأراقم وليس بنسب ولكن شبهت عيونهم بعيون الأراقم من الحيات فبقي عليهم. قال مؤلف الكتاب: أما قوله وأطحل فهو عجب من مثله، لأن أطحل اسم جبل سكنه ثور فنسب إليه فقيل: ثور أطحل ولا يفرد في اسم القبيلة. وأما قوله: إنهم تجمعوا مثل الربابة فأكثر أهل هذا الشأن يزعمون أنهم تجمعوا وغمسوا أيديهم في الرب وتحالفوا على بني تميم.
قال أبو العباس ثعلب: جمع الحسن بن قحطبة عند مقدمه مدينة السلام الكسائي والأصمعي وعيسى بن عمر، فألقى عيسى على الكسائي هذه المسألة: همك ما أهمك، فذهب الكسائي يقول: يجوز كذا ويجوز كذا. فقال له عيسى: عافاك الله، إنما أريد كلام العرب، وليس هذا الذي تأتي به كلام العرب قال أبو العباس: وليس يقدر أحد أن يخطئ في هذه المسألة لأنه كيف أعرب هذه الكلمة فهو مصيب، وإنما أراد عيسى بن عمر من الكسائي أن يأتيه باللفظة التي وقعت إليه.
عيسى بن مروان الكوفي أبو موسىذكره محمد بن إسحق النديم قال: قرأت بخط ابن الكوفي أنه أخذ عن أبي طالب المفضل بن سلمة وروى عنه، وله من الكتب: كتاب القياس على أصول النحو.
عيسى بن المعلى بن مسلمة الرافقيأحد أدباء عصرنا، أخمل من ذكره خمول قطره، كان مؤدباً بمدينة الرقة التي على الفرات، وله شعر كثير وفضائل جمة وعدة تصانيف منها: كتاب تبيين الغموض في علم العروض وجدته بخطه وقد كتبه في سنة تسعين وخمسمائة وعاش بعد ذلك. وله كتاب في اللغة حسن في مجلدين ضخمين رأيته بخطه أيضاً. كتاب ديوان شعره مجلدان.
عيسى بن مينا بن وردان بن عيسىابن عبد الصمد بن عمرو بن عبد الله، المدني المعروف بقالون القارئ، كنيته أبو موسى صاحب نافع بن أبي نعيم، مات سنة خمس ومائتين في أيام المأمون، ومولده سنة عشرين ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وقرأ على نافع سنة خمسين ومائة في أيام المنصور، وكان قالون أصم لا يسمع البوق، وكان إذا قرأ عليه قارئ ألقم أذنه فاه ليسمع قراءته، وهو مولى الأنصار.
حدث أبو موسى قالون: كان نافع إذا قرأت عليه يعقد لي ثلاثين ويقول لي: قالون قالون: يعني جيد بالرومية. وإنما كان يكلمه بذلك، لأن قالون أصله من الروم، جد جده عبد الله من سبي أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقدم به من أسره وباعه فاشتراه بعض الأنصار فأعتقه فهو مولى الأنصار.
عيسى بن يزيد بن دأب الليثي

هو عيسى بن يزيد بن بكر بن كرز بن الحارث بن عبد الله بن أحمد بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وفي نسبه اختلاف. هذا أظهره أبو الوليد الراوية النساب من أهل الحجاز، وكان يضعف في روايته، مات سنة إحدى وسبعين ومائة في أول خلافة الرشيد. وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن جعفر كان عيسى بن يزيد بن دأب يكنى أبا الوليد، وكان من رواة الأخبار والأشعار وحفاظهم، وكان معلماً من علماء الحجاز.
وحدث فيما رفعه إلى رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة قال: أنشد ابن دأب:
وهم من ولدوا أشبوا ... بسر الأدب المحض
فبلغ ذلك أبا عمرو بن العلاء فقال: أخطأت استه الحفرة، إنما هو أشبئوا أي كفوا، أما سمع قول الشاعر:
وذو الرمحين أشباء ... من القوة والحزم
فبلغه عن ابن دأب شيء فقال: على نفسها تجني براقش، أما سمعتم قول الليثي:
ألا من مبلغ دأب بن كرز ... أبا الخنساء زائدة الظليم
فلا تفخر بأحمر واطرحه ... فما يخفى الأغر من البهيم
فعند الله سر من أبيه ... كراع زيد في عرض الأديم
وحدث فيما رفعه إلى جابر بن الصلت البرقي قال: وعد المهدي بم دأب جارية فوهبها له فأنشد عبد الله بن مصعب الزبيري قول مضرس الأسدي:
فلا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان قدماً بين أيد تبادره
فضحك المهدي وقال: ادفعوا إلى عبد الله فلانة لجارية أخرى، فقال عبد الله بن مصعب:
أنجز خير الناس قبل وعده ... أراح من مطل وطول كده
فقال ابن دأب: ما قلت شيئاً، هلا قلت:
حلاوة الفضل بوعد منجز ... لا خير في العرف كنهب منهز
فضحك المهدي وقال: أحسن الوفاء ما تقدمه ضمان، وحدث عن سعيد بن سلم قال: ما شيء أجل من العلم، كان ابن دأب أحفظ الناس للأنساب والأخبار وكان تياهاً فكان ينادم الهادي ولا يتغدى معه ولا بين يديه فقيل له في ذلك، فقال: أنا لا أتغدى في مكان لا أغسل يدي فيه، فقال له الهادي: فتغد، فكان الناس إذا تغدوا تنحوا لغسل أيديهم، وابن دأب يغسل يده بحضرة الهادي.
وحدث المرزباني عن الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب عن موسى بن صالح قال: كان عيسى بن دأب كثير الأدب عذب الألفاظ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد، وكان يدعو له بتكأة ولم يكن يطمع أحد من الخلق في هذا في مجلسه ولا يفعل بغيره، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلةً، ولا غبت عن عيني إلا تمنت ألا ترى غيرك، وكان لذيذ المفاكهة، طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له، قال: فأمر له ليلة بثلاثين ألف دينار، فلما أصبح بن دأب وجه قهرمانه إلى باب موسى الهادي وقال له: انطلق إلى باب الحاجب فقل له: توجه إلينا بالمال، فانطلق فأبلغ الحاجب رسالته فتبسم وقال: ليس هذا إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج لك به كتاباً إلى الديوان فتديره هناك، ثم تفعل به كذا وتفعل به كذا، فرجع الرسول إلى ابن دأب فأخبره فقال: دعها فلا تعرض لها ولا تسأل عنها. قال: فبينما موسى في مستشرف له إذ نظر إلى ابن دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد فقال لإبراهيم بن ذكوان الحراني: - وإليه ينسب طاق الحراني ببغداد بالكرخ - أما ترى بن دأب ما غير من حاله ولا تزيى لنا، وقد بررناه بالأمس ليرى عليه أثرنا. فقال إبراهيم: إن أذن لي أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا. فقال: لا، هو أعلم بأمره، ودخل ابن دأب فأخذ في حديثه إلى أن عرض له الهادي بشيء من أمره فقال: أرى في ثوبك غسيلاً، وهذا الشتاء محتاج فيه إلى لبس الجديد واللين. فقال:يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، فقال: وكيف ذاك؟ وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا صلاح شأنك معه، فقال: ما وصل إلي ولا قبضت منه شيئاً، فدعا بصاحب بيت المال فقال له عجل الآن بثلاثين ألف دينار فحملت بين يديه.

وحدث بإسناد رفعه إلى أبي زهير قال: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج افضل بن الربيع يوماً فقال: إن أمير المؤمنين يأمر من ببابه بالانصراف، فأما أنت يابن دأب فادخل، قال ابن دأب: فدخلت وهو منبطح على فراشه، وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل. فقال لي: حدثني بحديث من حديث الشراب، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، خرج نفر من كنانة إلى الشام يجلبون الخمر فمات أحدهم فجلسوا على قبره يشربون، فقال أحدهم:
لا تصرد هامة من شربها ... إسقه الخمر وإن كان قبر
إسق أوصالاً وهاماً وصدى ... ناشعاً ينشع نشع المنبهر
كان حراً فهوى فيمن هوى ... كل عود ذي فنون منكسر
قال: فدعا بداوة فكتبها، ثم كتب إلى الخوان بأربعين ألف درهم وقال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفاً للثلاثة الأبيات. قال: فأتيت الخزان فقالوا: صالحنا على عشرة آلاف أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها حتى يبدأني فمات ولم يذكرها. وحدث قال: دخل ابن دأب على عيسى بن موسى عند منصرفه من فخ فوجده واجماً يلتمس عذراً لمن قتل، فقال له: أصلح الله الأمير، أنشدك شعراً كتب به يزيد بن معاوية يعتذر فيه إلى أهل المدينة من قتل الحسين بن علي عليهما السلام، قال أنشدني فأنشده:
يا أيها الراكب الغادي لطيته ... على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشاً على شحط المزار بها ... بيني وبين حسين، الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما يرعى به الذمم
عنفتم قومكم فخراً بأمكم ... أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت الرسول وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم وفضل وغيركم ... من قومكم لها في فضلها قسم
إني لأعلم أو ظناً كعالمه ... والظن يصدق أحياناً فينتظم
أن سرف يترككم ما تطلبون بها ... قبلي تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشهوا القوم إذ خمدت ... ومسكوا بجبال السلم واعتصموا
قد جرت الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً ... فرب ذي بذخ زلت به القدم
قال فسري عن عيسى بعض ما كان فيه. قال ابن مناذر يهجو ابن دأب:
ومن يبغ الوصاة فإن عندي ... وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن دأب
ترى الغاوين يتبعون منها ... ملاهي من أحاديث كذاب
إذا طلبت منافعها اضمخلت ... كما ينجاب رقراق السراب
وحدث عن عمر بن أبي عبيدة النميري عن خاله ابن أبي شميلة قال: كان خلف الأحمر ينسب ابن دأب إلى الكذب قال: فغدوت يوماً أنا وخلف على ابن دأب فأخذ في حديث ذي الخلصة حتى انقضى، فلما انصرفنا قلت لخلف يا أبا محرز: أتراه كذب؟ قال: لا أدري، والله لا أعرف مما حدث به قليلاً ولا كثيراً. قال عمر: ولخلف الأحمر في أبي العيناء محمد ابن عبيد الله:
لنا صاحب مولع بالمراء ... كثير الخطاء قليل الصواب
أشد لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا مشى من غراب
وليس من العلم في فقرة ... إذا حصل العلم غير التراب
أحاديث ألفها شوكر ... وأخرى مؤلفة لابن دأب
قال المرزباني: وقوم يروون في هذه الأبيات زيادة، وأبيات خلف هي هذه، والزيادة عليها فيما ذكر المقدمي والكراني لأبان بن عبد الحميد اللاحقي. وروى عبد الله بن المعتز عب عمر بن شبة قال: شوكر شاعر بالبصرة يضع الأخبار والأشعار.
وحدث الرياشي قال: قال الأصمعي: قلت لخلف الأحمر: أما ترى ما جاء به ابن دأب من الحجاز؟ والشوكري من الكوفة؟ فقال: إنما يروى لهؤلاء من يقول: قالت ستي، ويدعو ربه من دفتر، ويسبح بالحصى، ويحلف محيت المصحف، ويدع حدثنا وأخبرنا ويقول: أكلنا وشربنا. وزعم العنزي أن ابن دأب كان يتشيع ويضع أخباراً لبني هاشم، وكان عوانة ابن الحكم عثمانياً ويضع أخباراً لبني أمية.

وحدث مصعب بن عبد الله الزبيري قال: شيطان الردهة شيء وضعه ابن دأب، وهو ذو الثدية فيما زعم قال: جاءت أمة تستقي ماءً فوقع بها شيطان فحملته فولدته.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى مصعب الزبيري عن أبيه قال: كنا جماعة تجالس الهادي أنا وسعيد بن سلم الناهلي وابن دأب وعبد الله بن مسلم العزيزي وكان أجرأنا عليه، فخرج علينا مغيظاً متغيراً فسأله العزيزي عن خبره فقال: لم أر كصاحب الدنيا أكثر آفات ولا أدوم هموماً، قد عرفتم موضع لبانة بنت جعفر بن أبي جعفر مني، وأثرتها عندي، وأنها أغلظت لي بإدلالها في شيء فلم أجد صبراً فنلتها بيدي فندمت عليه. فسكتنا خوفاً من تعنيفه أو تصويب رأيه فيبلغها ذلك. فقال ابن دأب: وما في ذلك يا أمير المؤمنين؟ هذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ضرب امرأته أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي من أفضل نساء زمانها حتى كسر يدها وكان ذلك سبب مفارقته إياها لأنه قال: أنت طالق إن حال عبد الله بيني وبينك يعني ابنه عبد الله بن الزبير، فلم يخله وخلصها، وهذا عمر رضي الله عنه يقول: لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته؟ وهذا كعب بن مالك الأنصاري وهو أخو الزبير - آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما - عتب على امرأته وهي من المهاجرات في شيء ضربها حتى حال بنوها بينهما فقال:
لولا بنوها حولها لخبطتها ... إلى أن تداني الموت غير مذمم
ولكنهم حالوا بمنعي دونها ... فلا تعدميهم بين ناه ومقسم
فمالت وفيها حائش من عبيطها ... كحاشية البرد اليماني المسهم
قال: فضحك الهادي وسري عنه وأمر بالطعام، وأمر لابن دأب بخمسين ألف درهم وخمسين ثوباً. قال عبد الله بن مصعب: فتأسفت كيف سبقني إلى شيء أحفظه مثل حفظه.
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين قال: فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تعلم بها إماماً بالعربية.
حدث الأصمعي قال: أقمت بالمدينة زماناً مع جعفر بن سليمان الهاشمي واليها، فما رأيت بالمدينة قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاماً ينسبه إلى العرب فسقط وذهب علمه وخفيت روليته. قال: وكان شاعراً وعلمه بالأخبار أكثر. قال الأصمعي: وأتعجب لابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان يقول:
من رأى لي غزيلي ... أربح الله تجارته
وخضاب بكفه ... أسود اللون قارته
ثم قال الأصمعي: يا سبحان الله، يحذف الألف التي قبل الهاء في الله ويسكن الهاء ويرفع تجارته وهو منصوب؟ ويجوز هذا عنه، ويروي الناس عن مثله قال: ولقد سمعت خلفاً الأحمر يقول: لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين يجوز مثل هذا عنه.
عيينة بن عبد الرحمن المهلبييكنى أبا المنهال ذكره الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور فقال: عيينة بن عبد الرحمن أبو المنهال اللغوي المهلبي صاحب العربية تلميذ الخليل بن أحمد، مؤدب الأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين، ورد معه نيسابور وتوفي بها، وروى عن داود بن أبي هند، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن سليمان، ثو حدث بإسناد رفعه إلى المنهال أنه كان يقول: لا تتصدر إلى فائق أو مائق. قال:قرأت بخط عمر المستملي: سمعت أبا أحمد الفراء، سمعت عيينة المهلبي يقول: سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول: ما وصى الله الناس بشيء ما وصاهم بأوطانهم.
قال عيينة: جاء رجل إلى جعفر بن محمد الصادق وهو يصلي فقال: إني مسترشد، قال: اجلس فجلس، فلما قضى صلاته جاء إليه فقال: إن أبانا مات وتركني وأخاً لي هجيناً. فقال جعفر الملك بينكم أثلاث. فقال الأعرابي: والله الذي لا إله إلا هو أمر بهذا؟ قال: نعم، قال: رضيت رضيت رضيت. له كتاب في النوادر وكتاب في الشعر.

قال أبو العباس: كان أبو المنهال مع إسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان آنساً به يحادثه ويجالسه ويقرأ عليه، وكان السبب في ذلك، أن أبا المنهال كان مع عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان وكان يقدمه وأحسن إليه ووصله بمائة ألف درهم وكنا نجلس إليه وقرأت عليه شيئاً كثيراً. ومما قرأته عليه كتاب الأنصار، وكتاب الأزد، وكان ينزل إلى القنطرة عند منازل العاصميين في موضع يقال له دار المهالبة، وكان أحد من لقي الناس وسمع، وكان حسن المعرفة بالإسناد والأخبار والأيام، وعمل كتاباً لإسحاق في القرآن، وكان ابن الأعرابي لا يأتي إسحاق ولا يلقاه وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه، يوجه إليه في كل سنة بدرج فيه من سماعه الإشارات الحسنة واللغة الفصيحة، فإذا قرأه إسحاق وقع إلى كاتبه: ادفع إليه ثلاثمائة، فكان على ذلك إلى أن مات.
باب الغين
غانم بن وليد المالقيأبو محمد المخزومي النحوي: قال ابن خاقان: هو عالم متفرس، وفقيه مدرس، وأستاذ مجود، وإمام لأهل الأندلس مجرد. وأما الأدب فكان جل شرعته وهو رأس بغيته، مع فضل وحسن طريقة، وجد في جميع أموره وحقيقة، وله:
صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين
لا أعرف من أمره إلا ما ذكره ابن عساكر في ترجمة علي بن أحمد بن طيز. قال: أنشدني غانم بن وليد النحوي لنفسه:
ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت
قال: وأنشدني غانم لبعض الشعراء:
يا لأيها المبتغي أخا ثقة ... عدمت ما تبتغي فدع طمعك
داج المداجين ما لقيتهم ... وخادع النفس لامرئ خدعك
لا تكشف المرء عن سرائره ... ودعه تحت النفاق ما ودعك
أظهر له مثل قول ذي بله ... تريه إن ضر أنه نفعك
ولغانم أنشده ابن خاقان:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله ... كان على أيامه بالخيار
باب الفاء
فاطمة بنت الأقرع الكاتبةوجدت بخطها رقعة هذه نسختها: الأمة الكاتبة.
بسم الله الرحمن الرحيم: ثقتي بالله وحده، خشعت لصولة عز المجلس العالي العادلي المؤيدي المظفري المنصوري العزي السعدي الركني النصيري المجدي الشرفي الأميري - أعز الله أنصاره - ، وضاعف اقتداره عقب الدهور، وانقادت لمشيئته تصاريف الأمور، وامتدت إلى نواله آمال السؤال، وأناخت بفنائه رواحل الرجال. فما إنسان إلا موفور ببره، ولا لسان إلا مسبح بشكره، ولا آمل إلا مصروف إليه، فأعطاه الله تعالى من الآمال في نفسه وذويه مالا يرنو إليه طرف، ولا يأتي عليه وصف:
حتى تسير مسير الشمس رايته ... وتعتلي باسمه العالي على القمر
ويختم الأرض طراطين خاتمه ... ويغتدي أمره أمضى من القدر

ومن بعد: فقد ذهبت - أطال الله بقاء المجلس العالي وأعز سلطانه - ، في درج قد قرنته بهذه الرقعة - مذهب المطرف المعجب، وهو مما لم أسبق إلى مثله من مقدمي أهل هذه الصناعة من الذكور دون الإناث، أظهرت فيه المعجز من عاجز، والكامل من ناقص، كما قال قابوس بن وشمكير، وقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق، ويستطاب الصهيل من مخرج النهاق. جعلت في ذلك إقبال المجلس العالي - ضاعف الله اقتداره - قائداً إلى طرق الرشاد، وعز سلطانه هادياً مبصراً إلى سبل الإصابة والمراد، وأظهرت الحروف مفصولة وموصولة ومعماة ومفتحة في أحسن صيغها وأبهج خلقها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والبناء. فهي لينة المعاطف والأرداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتشها رهج مائن، وإن استخدمت إلى مهم يسنح، أوفيت فيه على كل مرتسم في هذا الشأن قديماً وحديثاً، وسالفاً وآنفاً، أؤمل بذلك الحظوة من إحماده وجميل رعايته، سمع الله سبحانه فيه كل دعاء مستجاب من الأمة الكاتبة، ومن يتعلق عليها من وليدة ومولود، وشريف ومشروف، وعجوز داعية، وأمة خادمة لما يوليها وينعم عليها، ويعرف موضع خدمتها، ومحل صنعتها، - لا سلبها الله وسائر الخلق ظله بمنه - ، قد ترادف الإنعام عليها دفعة واحدة بعد أخرى، وثانية بعد أولى، على يد الشيخ الأجل السيد فخر الكفاءة أبي الحسين - أدام الله تأييده - وتولى عني من غير حق عارفته، ما لا يقوم بوسعه ألسنة القائلين، وشكر الشاكرين، فإذا أنعم على ما أصدرته من الخدم بلحظة، وأحسن إليه بلمحة، أدركت حظي وحزنت أملي، والرأي السامي في إجابتي إلى ما سألت، وإثباتي في جملة المغمورين بالإحسان من الأدباء والحشم والعبيد والخدم، علوه وشرفه أن شاء الله تعالى.
ترجمة ثانية فاطمة بنت الحسن بن علي العطارأم الفضل المعروفة بابنة الأقرع الكاتبة، صاحبة الخط المليح المعروف، ماتت فيما ذكره تاج الإسلام ومن خطه نقلت - قاله المؤلف عن أبي الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي الحافظ - في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم من شهور سنة ثمانين وأربعمائة. قال السمعاني: وكان لها خط مليح حسن، وهي التي أهلت لكتابة كتاب الهدنة إلى ملك الروم من الديوان العزيز، وسافرت إلى بلاد الجبل إلى العميد أبي نصر الكندري. وكتب الناس على خطها، وكانت تكتب طريقة ابن البواب، سمعت أبا عمر عبد الواحد بن عبد الله بن مهدي الفارسي وغيره. سمع منها أبو القاسم مكي بن عبد الله الزميلي الحافظ.
وروى عنها أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، وأبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي ببغداد، وأبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن البغدادي الحافظ بأصبهان وغيرهم. سمعت أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار العروضي يقول: سمعت الكاتبة بنت الأقرع تقول: كتبت ورقة لعميد الملك أبي نصر الكندري وأعطاني ألف دينار.
أخبرنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الحافظ بقراءتي عليه، أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن علي العطار المقرئ قالت: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي الفارسي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا الأعمش عن عبد العزيز بن رفيع، عن تميم بن طرفة، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). أنشدنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر الحافظ الأشعبي، أنشدتنا الكاتبة أم الفضل فاطمة بنت الحسن بن علي المقرئ قالت: أنشدنا أبو القاسم المطرز في ديارنا بقطيعة الربيع لنفسه:
سرى مغرماً بالعيس ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
إذا ملأ البدر العيون فعنده ... لعينك بدر يملأ العين والقلبا
ولما هوى دمعي ليوم فراقه ... عقيقاً تهاوى دمعه لؤلؤاً رطبا
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا
الفتح بن خاقان بن أحمد القائد

وقيل: الفتح بن خاقان بن غرطوج، كذا قال المرزباني في كتاب المعجم، قال محمد بن إسحق النديم: كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب وكان من أولاد الملوك، واتخذه المتوكل أخاً وكان يقدمه على جميع أولاده. قتل مع المتوكل ليلة قتل بالسيوف لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية، وكانت له خزانة كتب جمعها له علي بن يحيى المنجم لم ير أعظم منها كثرة وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبو هفان: ثلاثة لم أر قط ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم من الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي.
قال المؤلف: وباقي القصة في أخبار الجاحظ فكرهت التكرار. وللفتح من التصانيف: كتاب البستان صنفه رجل يعرف بمحمد بن عبد ربه، ويلقب برأس البغل ونسبه إليه، كتاب الصيد والجوارح. وذكره أبو القاسم في تاريخ الشام فقال: الفتح بن خاقان بن غرطوج التركي أبو محمد قدم الشام مع المتوكل معادله على جمازة، ثم نزل بالمزة فلما رحل المتوكل عن دمشق استخلف بها كلباتكين التركي. وكان على خاتم المتوكل وقتل معه. روى عنه أبو زكريا يحيى بن حكيم الأسلمي شيئاً من شعره وأبو العباس المبرد، وأحمد بن يزيد المؤدب، فلم يذكره الخطيب في تاريخه. وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوماً إلى خاقان بن غرطوج يعوده فرأى الفتح بن خاقان ابنه وهو صبي لم يتغد فمازحه ثم قال: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال الفتح بن خاقان: يا سيدي دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح والله حتى أنثر عليه مائة ألف درهم وفعل ذلك. وعن أبي العباس المبرد قال: أنشد الفتح بن خاقان:
لست مني ولست منك فدعني ... وامض عني مصاحباً بسلام
وإذ ما شكوت ما بي قالت ... قد رأينا خلاف ذا في المنام
فزاد الفتح بن خاقان:
لم تجد علة تجنى بها الذن ... ب فصارت تعتل بالأحلام
قال المبرد وسمعت الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات هذا البيت وهو:
وقد يقتل الغتمي مولاه غيلة ... وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل
وكان الفتح يتعشق خادماً للمتوكل اسمه شاهك، وله فيه أشعار منها:
أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دماً بعد الدموع تسيل
وبي منك والرحمن ما لا أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل
أشاهك لو يجزى المحب بوده ... جزيت ولكن الوفاء قليل
قال ابن حمدون: كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله، إني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة يعني جاريته فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت ما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا من مستحسن كلام الفتح، فكأن الوأواء الدمشقي سمع هذا حين قال:
سقى الله ليلاً طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
يطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
تملكني لما تملك مهجتي ... وفارقني لما أمنت فراقا
ووجدت في بعض المجاميع للفتح بن خاقان يصف الورد:
أما ترى الورد يدعو الشاربين إلى ... حمراء صافية في لونها صنب
مداهن من يواقيت مركبة ... على الزمرد في أجفانها ذهب
خاف الملال إذا طالت إقامته ... فصار يظهر أحياناً ويحتجب
كان أديباً فاضلاً، زكي النفس حسن العشرة، لطيف الأخلاق، متودداً محبباً إلى كل من يكلمه، وكان غاية في الجود، وكان قد تنزل من المتوكل بمنزلة الروح من الجسد، وكان خدم قبله المعتصم والواثق. فذكر أبو العيناء قال: قال الفتح بن خاقان: غضب علي المعتصم ثم رضي عني وقال لي: ارفع حوائجك لتقضى، فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شيء من عرض الدنيا وإن جل، يفي برضا أمير المؤمنين وإن قل. قال: فأمر فحشي فمي جوهراً.

أخبرني أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم الثعلبي، حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا الخطيب أبو بكر، أخبرنا محمد بن محمد بن المظفر السراج، حدثنا المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى الصولي، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني وهب بن وهب بن وهب، حدثني البحتري قال: قال المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي، ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى، فقلت أبياتي:
سيدي أنت كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي
فقلت فيها:
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي
حسداً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى قبل وحدي
قال البحتري: فقتلا معاً وكنت حاضراً وربحت هذه الضربة، وأومأ إلى ضربة في ظهره فقال: أحسنت والله يا بحتري وجئت بما في نفسي، وأمر لي بألف دينار. وقال غير وهب الراوي للخبر: قال البحتري: قد كنت عملت هذه الأبيات في غلام كنت أكلف به، فلما أمرني المتركل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات، وأريته أنني عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة، فإنني كنت قد قلت:
لا أرتني الأيام فقدك ما عشت
فجعلته يا فتح. ويحدث الشمشاطي علي بن محمد، حدثني محمد بن عبد الله، حدثني أحمد بن الفضل الهاشمي، حدثنا علي بن الجهم القرشي قال: دخلت على المتوكل يوماً وهو جالس وحده، فسلمت عليه فرد السلام وأجلسني فحانت مني التفاتة فرأيت الفتح بن خاقان واقفاً في غير رتبته التي كان يقوم فيها متكئاً على سيفه مطرقاً، فأنكرت حاله فكنت إذا نظرت إليه نظر إلى الخليفة، فإذا صرفت وجهي نحو الخليفة أطرق، فقال: يا علي، أأنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: ما هو؟ قلت: وقوف الفتح في غير رتبته التي كان يقوم فيها.
قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام. قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند قبيحة آنفاً فأسررت إليه سراً فما عداني السر إذ عاد إلي.
قلت: لعلك أسررته إلى غيره يا أمير المؤمنين؟ قال: ما كان هذا. قلت: فلعل مستمعاً استمع عليكما. قال: ولا هذا أيضاً. قال: فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي فقلت: يا أمير المؤمنين، قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً. قال: ما هو؟ قلت: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا المستمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلقت امرأتي في نفسي وأنا في المسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: أطلقتني يا أبا الجوزاء؟ قلت: من أين لك هذا؟ قالت: خبرتني جارتي الأنصارية، قلت: ومن خبرها بذلك؟ قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك. فغدوت على ابن عباس فقصصت عليه القصة فقال: علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل، فمن ههنا يفشو السر.
قال أبو النعيم: فكان في نفسي من هذا شيء حتى حدثني حمزة الزيات قال: خرجت سنة من السنين أريد مكة، فلما جزت في بعض الطريق ضلت راحلتي، فخرجت أطلبها فإذا باثنين قد قبضا علي، أحس حسهما وأسمع كلامهما ولا أرى شخصهما، فأخذاني وجاءا بي إلى شيخ قاعد على تلعة من الأرض حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام، فأفرخ روعي ثم قال: من أين وإلى أين؟ فقلت: من الكوفة أريد مكة. قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ فقلت: ضلت راحلتي فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه فقال: زاملة، فأنيخت بين يدي، ثم قال لي: أتقرأ القرآن؟ قلت: هاته. فقرأت حم الأحقاف حتى انتهيت إلى هذه الآية: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)، الآية، فقال لي: على رسلك تدري كم كانوا؟قلت: اللهم لا، قال: كنت أربعة وكنت المخاطب لهم عنه صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا قومنا أجيبوا داعي الله. ثم قال لي: أتقول الشعر؟ قلت: اللهم لا. قال: أفترويه؟ قلت: نعم. قال: هاته، فأنشدته قصيدة:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم

فقال: لمن هذه؟ فقلت: لزهير بن أبي سلم، قال: الجني؟ قلت: بل الإنسي مراراً، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه، فقال: زهير: فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه فقال له: يا زهير، قال: لبيك، قال: أمن أم أوفى، لمن؟ قال: لي. قال: هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى الإنسي، قال: صدق هو، وصدقت أنت. قال: وكيف هذا؟ قال: هو إلفي من الإنس، وأنا تابعه من الجن، أقول الشيء فألقيه في وهمه، ويقول الشيء فآخذه عنه، فأنا قائلها في الجن، وهو قائلها في الإنس. قال أبو نعيم: فصدق عندي هذا الحديث حديث أبي الجوزاء: أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل، فمن ههنا يفشو السر.
قال: فاستفرغ المتوكل ضحكاً وقال: إلي يا فتح، فصب عليه خلعاً، وحمل على شيء من الظهر، وأمر له بمال وأمر لي بدون ما أمر له به، فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح ما أخذ، فصار الأكثر إلي والأقل عنده، قال جحظة في أماليه: حدثني المبرد قال: أنشدني الفتح بن خاقان لنفسه:
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
إذا ازددت منها ازددت وجداً بقربها ... فكيف احتراس من الهوى متجدد؟
قال: فحدثني ابن حمدون قال: لما قال الفتح هذه الأبيات أنشدتها المتوكل فسألني عن قائلها، فعرفت أنه الفتح فاستحسنها وقال لي: بأبي أنت من جامع محاسن الدنيا. وبلغ هذا الشعر أبا علي البصير الفضل بن جعفر فقال في الفتح:
سمعت بأشعار الملوك فكلها ... إذا عض متنيه الثقاف تأودا
سوى ما رأينا لامرئ القيس أننا ... نراه إذا لم يشعر الفتح أوحدا
قال المرزباني: ومن شعر الفتح بن خاقان:
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستملح في حكم الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
قال المؤلف: وهذان البيتان يرويان لعلية بنت المهدي. قال المرزباني: وللفتح بن خاقان:
أيها العاشق المعذب صبراً ... فخطايا أخي الهوى مغفوره
زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجة مبروره
وقال عمران بن موسى: سمعت الفتح بن خاقان يقول لأحمد بن أبي فنن الشاعر: يا أحمد، قال: لبيك يا سيدي، وهذا في أول سنة سبع وأربعين ومائتين، اعمل أبياتاً حساناً تمدح بها سيدي أمير المؤمنين، واذكر في آخرها أنس شفيعك حتى آخذ لك منه ما يسد خلتك، فما أسرع فقدك لي! فبكى ابن أبي فنن، قال: يا سيدي على الدنيا بعدك لعة الله. قال له: على الدنيا قبلي وبعدي لعنة الله، فما صافت منحرفاً عنها نابذاً لها، ولا وفت لمتمسك بها راغب فيها أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا علي بن الجهم قال: إني لعند المتوكل يوماً والفتح بن خاقان حاضر إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له فدخل ومعه وصيفة فقال له أمير المؤمنين: ما صناعة هذه الوصيفة؟ قال: تقرأ بالألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول:
قد جاء نصر الله والفتح ... وشق عنا الظلمة الصبح
خدين ملك ورجا دولة ... وهمه الإشفاق والنصح
الليث إلا أنه ماجد ... والغيث إلا أنه سمح
وكل باب للندى مغلق ... فإنما مفتاحه الفتح
قال: فوالله لقد دخل المتوكل من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله ووثب الفتح فقبل رجله، فأمره أمير المؤمنين بشرائها، وأمر له بجائزة وكسوة وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات:
قد قلت للموت حين نازله ... والموت مقدامة على البهم
لو تبينت ما فعلت إذن ... قرعت سنا عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد فتح للموت من ألم
ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.
الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقانالقيسي الإشبيلي، وقيل: هو من أهل الأندلس، أديب فاضل شاعر بليغ فصيح بذيء اللسان قوي الجنان في هجاء الأعيان، وكان متهم الخلوة فيما بلغني، مات في حدود سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

وقال العماد: سألت عنه بمصر فقيل: إنه عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر، فقد توفي بعد سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وقال لي بعض المغاربة: إنه توفي قبل هذا التاريخ. له من التصانيف: كتاب قلائد العقيان، كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس.
حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين بن أكرم - أدام الله علوه - قال: لما عزم ابن خاقان على تصنيف كتاب قلائد العقيان جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة يعرفه عزمه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه، وكانوا يعرفون شره وثلبه فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكل من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه، وكان ممن تصدى له وأرسل إليه، أبو بكر بن باجة المعروف بابن الصائغ، وكان وزير ابن فلويت صاحب المرية، وهو أحد الأعيان وأركان العلم والبيان، شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أهل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبهونه بالمغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوى نحوها عطفه وذكر ابن خاقان بسوء فعله، فجعله ختم كتابه، وصيره مقطع خطابه وقال: أبو بكر الصائغ: هو رمد جفن الدين وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، وضل فيما يتسرع، ولا يأخذ في غير الأباطيل ولا يشرع، ولا يرد سوى الغمة ولا يكرع، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده توار في جدث، ولا أقر بباريه ومصوره، ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره، والإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله العلي العظيم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون إلى الله الفيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور، مع منشأ وخيم ولؤم أصل وخيم، وصورة شوهها الله وقبحها، وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذارة يوبئ البلاد نفسها، ووضارة يحكي الحداد دنسها، وله نظم أجاد فيه بعض الإجادة، وشارف الإحسان أو كاده، مع كلام طويل، وهجو وبيل، وبلغ ذلك ابن الصائغ فأنفذ له مالاً استكفه به واستصلحه. وصنف ابن خاقان كتاباً آخر سماه: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ذيل شعراء الأندلس، وصله بقلائد العقيان، وافتتحه يذكر ابن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناءً جميلاً فقال: الوزير أبو بكر بن الصائغ هو بدر فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تفرحت بعطره الأعصار، وتطيبت بذكره الأمصار، وقام به وزن المعارف واعتدل، ومال وتهدل، وعطل بالبرهان التقليد، وينفق بعد عدمه الاختراع والتوليد، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى أن يعرفه، ونظم تتمناه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور. وقد أتيت بما تهوى الأعين النجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفس حزنها وكمدها، فمن ذلك قوله يتغزل:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استحفظوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان؟
وهل جردت أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان؟
وله:
أتأذن لي آتي العقيق اليمانيا ... أسائله ما للمغاني وماليا؟
وسل دارهم بالحزن أقفر إنني ... تركت الهوى يقتاد فضل زماميا
فيا مكرع الوادي أما فيك شوبة ... لقد سال فيك الماء أزرق صافيا؟
ويا شجرات الجزع هل فيك وقفة ... فقد فاء فيك الفيء أخضر ضافيا؟
وقد جرى في هذا الميدان فأحسن كل الإحسان.
الفضل بن إسماعيل التميمي

أبو عامر الجرجاني أديب أريب فاضل لبيب، أحد أصحاب عبد القاهر الجرجاني النحوي، وكان مليح الخط صحيح الضبط رائق النظم فصيح النثر، جيد التصنيف، حسن التأليف، ذكره محمد بن محمود في كتاب سر السرور فقال: رباع الفضل بتصانيفه عامرة، ورياض الأدب بكلماته ناضرة، فكان الربيع فضلة من بدائعها، والزهر ضرة لروابعها، وشعره يطرق السحر بين يديه، ويهتف الملح بحفافيه تقرأ آيات الإحسان من أبياته. وتخفق عذبات الإبداع من راياته.
وله تصنيفات باسم الشيخ الأجل عبد الحميد أهداها إليه بغزنة فأشرقت بها أرجاؤها، وأغدقت أنواؤها منها: كتاب البيان في علم القرآن. وكتاب عروق الذهب من أشعار العرب. وكتاب سلوة الغرباء وغيرها. وقال عبد الغافر في كتاب السياق: الفضل بن إسماعيل التميمي الشيخ أبو عامر الجرجاني النحوي الكاتب الأديب الشاعر من أفاضل عصره، وأفراد دهره، حسن النظم والنثر، متين في الفضل: كتب مدة للشيخ الرئيس أبي المحاسن الجرجاني وغيره، وصحب الكتاب والمشايخ، سمع الحديث من المشايخ الذين سمعنا منهم، مثل الشيخ أبي سعد بن رامش، وأبي نصر بن رامش المقرئ، وأبي بكر احمد بن علي بن خلف الشيرازي، وأبي القاسم إسماعيل بن زاهر النوقاني، وسمع من الشيخ أبي بكر أحمد بن منصور بن خلف المغربي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وسمع من المشايخ الإسماعيلية وغيرهم في شبابه، ولم يذكر وفاته لكنه كان قد مات في حياة عبد الغافر. وكان ورد نيسابور واجتمع به الأديب يعقوب بن أحمد المذكور في بابه، وسأله أن يكتب له بخطه في كتابه الذي سماه: جونة الند. وهو مجموع جمع فيه يعقوب من أشعار نفسه وغيره من اهل عصره ومن تقدمه، وظفرت أنا بأصل يعقوب الذي بخطه وفيه بخط أبي عامر الذي لا أرتاب به ما نقلته بصورته بعد أن أسقطت بعض النظم، وأما النثر فلا. وهذا نسخة خطه: سألني الشيخ الجليل الأديب - أدام الله نعمته - أن أكتب له في هذا الدفتر شيئاً من هاذوري، فترجحت بين صوارف تنهاني عن الإجابة ستراً لعورتي، ودواع تحثني على امتثال رسمه إظهاراً لطاعتي، وأنا على كل حال واثق بكرمه، ساكن إلى حسن شيمه، وعالم أنه يحرص على إقالة عثرة الإخوان، وستر عيوبهم بقدر الإمكان، والله أسأل أن يجبر نقيصتنا بفضيلته، ويمحو إساءتنا بحسنته فإنه عليه قدير، وهاهو الهاذور:
بالله يا حتفي أما تستحي ... حتى متى توردني حتفي؟
تحلف لي أنك في كفي ... وعض كفي منك في كفي
وأنت يا قلبي إلى كم وكم ... تحيل بالذنب على طرفي!
وأيضاً:
خده الياسمين والخط فيه ... سنبل نابت على ياسمين
سمته قبلة فقال تحرز ... بين صدغي عقدنا التنين
وأيضاً:
إذا حفزتك نائبة لأمر ... فجئت إلى صغير أو كبير
فكاثره بهز بعد هز ... فإن الزبد بالمخض الكثير
وأيضاً في الرئيس أبي الفضل - أدام الله علوه - :
تولى الغانيات فليس عندي ... لهن سوى هوى أخفي وأبدي
رأين الشيب ألبسني قتيراً ... على حد البلى فنقضن عهدي
وسالمني الغيور فكل يوم ... يوازن بيننا، ود بود
وقنعني الزمان فلست آس ... على فوت الثراء وأنت عندي
وكل تعجبي طول الليالي ... لذلة ماجد يسعى لوغد!
فشكراً للإله فقد كفاني ... تولى غير عباس بن سعد
له قلبي وخالصتي وودي ... وفيه ترددي وإليه قصدي
ومنه معيشتي وصلاح حالي ... ومنصوب به غيي ورشدي
وكل الناس يشرك في هواه ... وقد أفردته بهواي وحدي
فإن أفزع فكهف علاه حرزي ... وإن أعطش فبحر نداه وردي
فضلت الناس مأثرة وفخراً ... وطلتهم بإحسان ومجد
ولما صرت عبدك صار يرضى ... أنوشروان لو أرضاه عبدي
أدل عليك إدلال الموالي ... فلا نكر لديك ولا تعدي
وتلك مزية لي ليس تخفى ... ورثت مكانها من أبي وجدي
فعش ألفً معي في خير حال ... وألفاً بعدها ألفان بعدي

فكل الناس دونك آل قفر ... يغر بلمعة من غير رفد
وأنت الفرد مكرمة فكن لي ... تكن فرداً بلا شك لفرد
وأيضاً:
نشد على الموت مستبسلين ... غلاظ الرقاب غلاظ الكبود
ونفترع البيض سود القرو ... ن صفر الترائب حمر الخدود
وله أيضاً:
عذيري من شاطر أغضبوه ... فجرد لي مرهفاً باتكا
يقول: أنا لك يا بن الوكيل ... وهل لي رجاء سوى ذلكا؟
وأيضاً:
إني بليت بشادن ... بلواه عندي تستحب
فإذا بلوت طباعه ... فالماء يشرب وهو عذب
وإذا نضوت ثيابه ... فاللوز يقشر وهو رطب
وقصارى وصفي أنه ... فيما أحب كما أحب
وأيضاً:
قد ضاق صدري من صدور زماننا ... فهم جماع الشر بالإجماع
يتضارطون فإن شكوت ضراطهم ... شفعوا سماع الضرط بالإسماع
هذا يفرقع في الضراط وذاكم ... يرمي بمثل حجارة المقلاع
ومن البلية أن تعاشر معشراً ... يتضارطون الدهر بالإيقاع
وله:
مللت مكافحة الحادثات ... وكنت بها معجباً عاجبا
وحيرني الدهر حتى نشدت ... حماري وكنت له راكبا
وأياً:
أصبحت مثل عطارد في طبعه ... إذ صرت مثل الشمس في الإشراق
فلذاك ما ألقاك يوماً واحداً ... إلا قضيت علي بالإحراق
الشيخ الجليل الأديب - أدام الله نعمته - ، وأنعم علي بقراءة ما علقه عن دفتري علي، والله يمتعه به وبفضله، ويقر عين العلم بحراسته. وسمع معه ابنه الشيخ الفاضل أبو بكر الحسن، والفقيه الفاضل العالم أبو المجد محمد بن أبي القاسم - أبقاهما الله - وكذلك سمعوا جميعاً ما أبنته من هاذوري بخطي. وكتب الفضل بن إسماعيل أبو عامر الجرجاني ومن خطه نقلت: كتب إلى الكيا الأجل أبو الفتح رحمه الله:
أبا عامر إن الرتائم إنما ... تذكر بالأمر، العبام المغمرا
ولكن من عيناه درج فؤاده ... فليس بمحتاج إلى أن يذكرا
وكتب أيضاً إلى الشيخ الإمام أبي بكر عبد القاهر:
ما أبو عامر سوى اللطف شيء ... إنه جملة كما هو روح
كل ما لا يلوك من سر معنى ... عند تفكيره فليس يلوح
قال المؤلف: هذا آخر ما نقلته من خط أبي عامر رحمه الله - . وله من التصانيف: كتاب عروق الذهب في الشعر واختياره، كتاب قلائد الشرف في الشعر أيضاً، كتاب البيان في علم القرآن، كتاب سلوة الغرباء.
ونقلت من خط الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري وتصنيفه رقعة كتبها الشيخ الفقيه الجليل أبو عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني - أدام الله تأييد - إلى الشيخ الرئيس الشهيد أبي المحاسن سعد - رحمه الله - . قال يعقوب: وكتبتها من خطه إبان مقدمه نيسابور في شعبان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة: أنا في هذه السنة - أطال الله بقاء الشيخ - من الاختلال والتكشف والاعتلال والتشعث، على صورة أستحيي من عرضها، وآنف من شرحها، وقد رحب عامتها بما أشكر الله تعالى عليه، وأدرع الصبر في كل ما يمتحن عباده به، وأعمل الحيلة من الآن في استقراض ما عسى أن يبلغني المحل، ولكن من يقرض أبا فرعون بعد وقوفه بالأبواب مع العصا والجراب؟ وأسأل الله تعالى السلامة، ثم أسأل سيدنا أن ينظر واحدة فيما أقول من قبل أن يعضل الداء فلا ينفع الدواء، ويعظم النقب فلا ينجع الهناء، وأن يجعل عنوان بره ألا يرى تعليق هذه الرقعة ضراعة أو رفاعة، فما في شرط الحكمة أن أكتم عنه متربة، وأتضور جوعاً ومسغبة. ولولا مكاني من خدمته، ومكاني من شفقته، لكان استفاف الملة أحب إلي من إظهار الخلة، والسلام.
ومن كتاب مرو لأبي سعد السمعاني لأبي عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني التميمي يصف هرة:
إن لي هرة خضبت شواها ... دون ولدان منزلي بالرقون
ثم قلدتها لخوفي عليها ... ودعات ترد شر العيون
كل يوم أعولها قبل أهلي ... بزلال صاف ولحم سمين
وهي تلعابة إذا ما رأتني ... عابس الوجه وارم العرنين

فتغني طوراً وترقص طوراً ... وتلهى بكل ما يلهيني
لا أريد الصلاء إن ضاجعتني ... عند برد الشتاء في كانون
وإذا ما حككتها لحستني ... بلسان كالمبرد المسنون
وإذا ما جفوتها استعطفتني ... بأنين من صوتها ورنين
وإذا ما وترتها كشفت لي ... عن جراب ليست متاع العيون
أملح الخلق حين تلعب بالفا ... ر فتلقيه في العذاب المهين
وإذا مات حسه أنشرته ... بشمال مكروبة أو يمين
وتصاديه بالغفول فإن را ... م انحجاراً علته كالشاهين
وإذا ما رجا السلامة منها ... عاجلته بنشطة التنين
وكذاك الأقدار تفترس المر ... ء وتغتاله بقطع الوتين
بينما كان في نشاط وأنس ... إذ سقاه ساق بكاس المنون
ويروى له.
علقتها بيضاء ظامية الحشا ... تسبي القلوب بحسنها وبطيبها
مثل الشقائق في احمرار خدودها ... للناظرين وفي اسوداد قلوبها
وله:
وقد يستقيم المرء فيما ينوبه ... كما يستقيم العود في عرك أذنه
ويرجح من فضل الكلام إذا مشى ... كما يرجح الميزان من فضل وزنه
الفضل بن إبراهيم بن عبد الله الكوفيأبو العباس النحوي المقري، أخذ القراءة عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، وقرأ الكسائي على عيسى بن عمر الهمذاني عن حمزة الزيات، ولا أعرف من حاله أكثر من هذا، وله اختيار في أحرف يسيرة، وإنما ذكرته لأنه يعرف بالنحوي.
الفضل بن الحباببن محمد بن شعيب ابن صخر الجمحي يكنى أبا خليفة من أهل البصرة، قال أبو الطيب اللغوي: هو ابن أخت محمد بن سلام الجمحي من رواة الأخبار والأدب والأشعار والأنساب، مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة، وكان قد ولي القضاء بالبصرة وكان أعمى، روى عن خاله كتبه فأكثر وعن غيره، وروى له من الكتب: كتاب طبقات شعراء الجاهلية، كتاب الفرسان، وكان شاعراً. فمن شعره ما أنشد محمد بن عمر بن عثمان البغدادي عنه.
قالوا: نراك تطيل الصمت قلت لهم: ... ما طول صمتي من عي ولا خرس
لكنه أحمد الأمرين عاقبة ... عندي وأبعده من منطق شكس
أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ... أو أنثر الدر للعميان في الغلس
قالوا: نراك أديباً لست ذا خطل ... فقلت: هاتوا أروني وجه مقتبس
لو شئت قلت ولكن لا أرى أحداً ... يروي الكلام فأعطيه مدى النفس
وقد روى من جهة أخرى أن هذه الأبيات لابن دريد لما نول سيراف سئل أن يجلس للقراءة عليه فأبى ذلك إن لم يكن هناك من يساوي أن يجلس له، فكتب هذه الأبيات في قبلة مسجد سيراف وانصرف.
نقلت من خط أبي سعد السمعاني بإسناد له قال: ألقيت رقعة إلى أبي خليفة الفضل بن الحباب القاضي فيها:
قل للحكيم أبي خليفه ... يا زين شيعة ابي حنيفه
إني قصدتك للذي ... كاتمت من حذر وخيفه
ماذا تقول لطفلة ... في الحسن منزلها شريف؟
تصبو إلى زين الورى ... من غير ما بأس عفيفه
فقرأ الرقعة ثم كتب على ظهرها:
يا من تكامل ظرفها ... حال الهوى حال شريفه
إن كنت صادقة الذي ... كاتمت من حزن وخيفه
فلك السعادة والشها ... دة والجلالة يا شريفه
هذا النصاح بعينه ... وبه يقول أبو حنيفه
نقلت من خط الإمام الحافظ حقاً صديقنا ومفيدنا أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن وهبان من كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث تصنيف الخليل بن عبد الله بن محمد الحافظ القاضي، أنشدني الصاحب إسماعيل بن عباد الوزير، أنشدني أبي، أنشدني أبو خليفة لنفسه:
شيبان والكبش حدثاني ... شيخان بالله عالمان
قالا: إذا كنت فاطمياً ... فاصبر على نكبة الزمان

قال: إني سألت أبا خليفة عن الكبش من هو؟ قال: أبو الوليد الطيالسي، وشيبان هو ابن فروخ الأبلي، قال الخليل: قلت لعبد الله بن محمد: هذا يدل على أن أبا خليفة كان يميل إلى التشيع، فقال: نعم. قرأت بخط أبي سعد أيضاً بإسناد له إلى أبي سهل هارون بن أحمد بن هارون الأستراباذي قال: أنشدنا الفضل بن الحباب الجمحي القاضي لنفسه:
ومتعب السفر مرتاح إلى بلد ... والموت يرصده في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيباً مات من كمد
آماله فوق ظهر النجم شامخة ... والموت من تحت إطليه على الرصد
من كان لم يعط علماً في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد؟
قرأت في كتاب هراة للفامي قال: روى عن محمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن علي أبي عبد الله المسندي أنه قال: كنا عند أبي خليفة القاضي بالبصرة، فدخل عليه اللص داره فصاح ابنه باللص، فخرج أبو خليفة إلى صحن الدار وقال: أيها اللص، مالك ولنا؟ إن أردت المال فعليك بفلان وفلان، إنما عندنا قمطران: قمطر فيه أحاديث، وقمطر فيه أخبار، إن أردت الحديث حدثناك عن أبي الوليد الطيالسي، وأبي عمر الجوصي وابن كثير وهو محمد وإن أردت الأخبار أخبرناك عن الرياشي عن الأصمعي ومحمد بن سلام. فصاح ابنه إنما كان كلباً. فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً ورد عنا حربا.
وذكر التنوخي هذه الحكاية وقال في آخرها: فقال له غلامه: يا مولاي، ليس إلا الخير، إنما هو سنور. فقال أبو خليفة: الحمد لله الذي مسخه هراً وكفانا شراً.
قال المؤلف: ومثل هذه الحكاية تحكى عن أبي حية النميري مشهورة عنه وقال في آخرها: الحمد لله الذي يمسخه كلباً وردنا حرباً.
وقرأت في كتاب أبي علي التنوخي.
حدثني أبي رضي الله عنه: أن صديقاً لأبي خليفة القاضي اجتاز عليه راكباً وهو في مسجده فسأله أن ينزل عنده فيحادثه. فقال: أمضي وأعود، فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد، وإيناسك وعد. قال: وكان أبو خليفة كثير الاستعمال للسجع في كلامه، وكان بالبصرة رجل يتحامق ويتشبه به يعرف بأبي الرطل، لا يتكلم إلا بالسجع هزلا كله، فقدمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة وهو يلي قضاء البصرة إذ ذاك وادعت عليه الزوجية والطلاق، فأقر لها بهما. فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها. فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها ولم تقلع مسحاتي نهرها؟. فقال له أبو خليفة: فأعطها نصف صداقها. فقال: لا، أو أرفع بساقها وأضعه في طاقها. فأمر به أبو خليفة فصفع. قال وأخبرني غير واحد أن أبا الرطل هذا، كان إذا سمع رجلاً يقول: لا ننكر لله قدرة، قال هو: ولا للهندبا خضرة.
ولا للزردج صفرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للقفا نقرة.
حدث أبو علي التنوخي حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، وكان يخلف أبا علي على القضاء بإيذج ورامهرمز ثم لم يزل على الحكم، ونادم أبا محمد المهلبي في وزارته فغلب عليه، وعلا محله عنده وتخالع وتهتك فيما لا يجوز للقضاة، وكان يدعي بالقضاء ويخاطبه أبو محمد في الوزارة في كتبه بسيدي القاضي، وكان له محل مكين من الأدب. قال: وردت البصرة وأنا حديث السن لأكتب العلم وأتأدب، فلزمني أبو عبد الله المسمعي وكنت أقتصر عليه، فكتب إلي يوماً وقد قرص الهواء:
أيهذا الفتى وأنت فتى ال ... دهر إذا عز أن يقال فتى
طوبى لمن كان في الشتاء له ... كاس وكيس وكسوة وكسا

وكتب في الرقعة: وقد بقيت كاف أخرى لولا أني أحب تقليل المئونة عليك لذكرتها يعين الكس فبعث إليه بجميع ما التمسه. قال التنوخي: وحدثني قال: كان أبو خليفة القاضي صديقاً لأبي وعمي أيام وفد إلى كور الأهواز في فتنة الزنج، فلما قدمت إلى البصرة قدمتها مع أبي فأنزلنا أبو خليفة داره وأكرمنا وأمكنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه كل ما أريد، وأسمع كيف شئت؟ وأكتب وأنسخ لنفسي، وأصوله لي مبذولة، فإذا كان الليل جلسنا وتحادثنا، فربما أحببت القراءة عليه فيجيبني فإذا أضجرته يقول: يا بني روحني فأقطع القراءة، وإذا استراح أخرج من كمه دفتراً من ورق أصفر فيقول: اقرأ علي منه فإنه خطي، وما تقرؤه علي فهو من خط غيري، فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان، فكان يبكي على مواضع منه، فأنشدته ليلة القصيدة التي فيها البيتان المشهوران - :
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فبكى عليهما لما انتهيت إليهما حتى كاد يغمى، فاستطرفت ذلك وعجبت منه، فلما كان من الغد اجتمعت مع المفجع فحدثته بذلك واغتررت به للأدب واستكتمته إياه فأشاعه وأذاعه وعمل:
أبو خليفة مطوي على دخن ... للهاشميين في سر وإعلان
ما زلت أعرف ما يخفى وأنكره ... حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وأنشدنيها لنفسي أنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب في رقعة لطيفة وجعلها في مقلمته وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام فنفض الرجل مقلمته وقد أنسي ما فيها فسقطت الرقعة وانصرف الناس ووجدها أبو خليفة وقرأها فاستشاط. وقال ابن الإيذجي: قبحه الله وترحه أشاط بدمي؟ علي بأبي العباس الساعة، يعني والدي، فجاءه وحدثه الحديث، فوقعت في ورطة وكادت الحال أن تنفرج بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة واحتشمني، فحملت إليه ثياباً لها قدر، وأهديت إليه من مأكل الجند واعتذرت إليه، فرجع إلي وقبل عذري، وداود تدريسي ومكنني من القراءة عليه، فقرأت كتاب الطبقات وغيره مما كان عنده. وقال: لا أظهر الرضا عنك أو تكذب نفسك، ففعلت ذلك وأعطيت المفجع ثوباً دبيقياً حتى كف عن إنشاد الأبيات وجحدها واعتذر إلى أبي خليفة قال: وقال أبو علي عقيب هذا: أكثر رواة العرب فيما بلغني عنهم إما خوارج وإما شعوبية كأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي حاتم سهل السجستاني، وفلان وفلان وعدد جماعة. وقرأت بخط ابن مختار اللغوي المصري: أبو خليفة الفضل بن الحباب اشترى جارية فوجدها خشنة فقال: يا جارية، هل من بزاق أو بصاق أو بساق؟، العرب تنقل السين صاداً أو زاياً، فتقول: أبو الصقر والزقر والسقر، فقالت: الحمد لله الذي ما أماتني حتى رأيت حري قد صار ابن الأعرابي يقرأ عليه غرائب اللغة.
الفضل بن خالد أبو معاذ النحويالمروزي مولى باهلة، روى عن عبد الله بن المبارك وعبيد بن سليم. روى عنه محمد بن علي بن الحسن بن شقيق وأهل بلده، مات سنة إحدى عشرة ومائتين. ذكر ذلك الحاكم بن البيع في تاريخ نيسابور.
قال الأزهري: ولأبي معاذ كتاب في القرآن حسن. قلت: وقد روى عنه الأزهري في كتاب التهذيب فأكثر، وذكره محمد بن حيان في تاريخ الثقات في الطبقة الرابعة بمثل ذلك سواء، ولعل الحاكم عنه نقل.
الفضل بن صالح العلوي الحسنيالنحوي أبو المعالي اليماني، مات في سنة نيف وثمانين وأربعمائة، قال عبد الغافر: قال: وحضر نيسابور وسمع الحديث من مشايخنا الذين رأيناهم، ولا شك أنه سمع في أسفاره الكتب.
الفضل بن عمر بن منصور بن عليأبو منصور، يعرف بابن الرائض الكاتب، من أهل باب الأزج، كان حافظاً لكتاب الله، قرأ بالعشر على علي ابن عساكر بالطائحي، وخطه غاية في الجودة على طريقة ابن هلال البواب، ولذلك أوردناه في هذا الكتاب. بلغني أن مولده في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ومات في جمادى الآخرة سنة تسع وستمائة.
الفضل بن محمد بناليزيدي

أبي محمد اليزيدي يكنى أبا العباس، وقد ذكرنا نسبه ونسب أهله والسبب الذي لأجله سموا اليزيديين في باب جده أبي محمد يحيى بن المبارك، وكان الفضل أحد الرواة العلماء، والنحاة النبلاء، أخذ عنه العلم الكثير، ورواه من جهته الجم الغفير، ومات فيما ذكره ابن النديم سنة ثمان وسبعين ومائتين.
حدث المرزباني عن الصولي عن احمد بن يزيد المهلبي قال: قال إبراهيم بن المدبر: اجتمع عندي يوماً الفضل اليزيدي والبحتري وأبو العيناء، فجلس الفضل يلقي على بعض فتياننا نحواً فقال له أبو العيناء: هذا بابي وباب الوالدة حفظها الله، فغضب الفضل وانصرف، وخرج البحتري إلى سامرا من بغداد وكتب إلي شعراً أوله:
ذكرتنيك روحة للشمول
وهجا فيها الفضل فقال:
جل ما عنده التردد في الفا ... عل من والديه والمفعول
قال إبراهيم: فأمرت أن يكتب جواب الكتاب ويوجه إليه بمائة دينار. ودخل أبو العيناء فأقرأته الشعر فقال: أعطني نصف المائة فإنه هجاه والله بكلامي، فأخذ خمسين ووجهت إلى البحتري بخمسين وعرفته الخبر فكتب إلي: صدق والله وما بنيت أبياتي إلا على معناه.
وحدث المرزباني في كتاب المعجم قال: كتب الفضل ابن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى أبي صالح بن يزداد وكان يداعبه وجرت بينهما جفوة:
استحي من نفسك في هجري ... واعرف بنفسي أنت لي قدري
واذكر دخولي لك في كل ما ... يجمل أو يقبح من أمر
قد مر لي شهر ولم ألقكم ... لا صبر لي أكثر من شهر
وحدث ابن ناقياء في كتاب ملح الممالحة قال: قال الفضل بن محمد اليزيدي: كان محمد بن نصر بن منصور بن بسام الكاتب اشترى منزلاً وآلة وطعاماً وعبيداً، وكان ناقص الأدب، وكنت أختلف إلى ولده وولد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ليقرؤوا علي الأشعار، وكان عبد الله بن إسحاق سرياً جاهلاً، فدخلت يوماً والستارة مضروبة ومحمد بن بسام وعبد الله بن إسحاق يشربان وأولادهما بين أيديهما وكانوا قد تأدبوا وفهموا، فغنى بشعر جرير:
ألا حي الديار بسعد إني ... أحب لحب فاطمة الديارا
فقال عبد الله بن إسحاق: لولا جهل العرب ما كان ذكر لسعد ههنا. فقال محمد بن بسام: لا تفعل يا أخي فإنه يقوي معدتهم ويصلح أسنانهم. قال الفضل اليزيدي: فقال لي علي ابن محمد بن نصر: بالله يا أستاذ اصفعهما وابدأ بأبي.
قال المؤلف: أراد بسعد ههنا اسم موضع معروف، وكتب الحمدوني إلى الفضل:
يا أبا العباس إنا ... في نعيم وسرور
ولدينا أسعد الأم ... ة في كل الأمور
ما لنا عيب سوى بع ... دك فامنن بحضور
فأجاب سمعنا وأطعنا.
الفضل بن محمد بن علي بن الفضلالقصباني أبو القاسم النحوي البصري، كان واسع العلم غزير الفضل إماماً في علم العربية، وإليه كانت الرحلة في زمانه وكان مقيماً بالبصرة، مات في سنة أربع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وأخذ عنه أبو زكرياء يحيى ابن التبريزي، وأبو محمد الحريري، وله تصانيف منها: كتاب في النحو، وكتاب في حواشي الصحاح، وكتاب الأمالي، وكتاب في أشعار العرب ومختارها كبير وسمه بالصفوة.
قال القاسم بن محمد بن الحريري صاحب المقامات: أنشدنا شيخنا أبو القاسم القصباني النحوي لنفسه:
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس بإضرار
كالعود لا يطمع في ريحه ... إلا إذا أحرق بالنار
باب القاف
قابوس بن وشمكير بن زيار

الديلمي المقلب بشمس المعالي من الملوك، وكان صاحب جرجان وطبرستان، وكان أخوه بهستون وأبوه وشمكير وعمه مرداويج ملوك الري وأصبهان وتلك النواحي، لأن أول من ملك من الديلم ليلى بن النعمان فاستولى على نيسابور في أيام نصر بن احمد الساماني، وقام بعده أسفار بن شيرويه، وكان مرداويج بن زيار أحد قواده فخرج عليه فحاربه فظفر به مرداويج فقتله وملك مكانه، وعمل لنفسه سريراً من ذهب فجلس عليه واشترى عبيداً كثيرةً من الأتراك وجعل يقول: أنا سليمان وهؤلاء الشياطين، وكان فيه ظلم وجبروت، فدخل عليه غلمانه الأتراك فقتلوه في الحمام، وكان بنو بويه من أتباعه فولاهم ولاية استظهروا بها عليه وحاربوه حتى ملكوا، وأما هو فلما مات ولت الديلم عليهم أخاه وشمكير، فاستولى على جرجان وطبرستان، ودامت الحرب بينه وبين ركن الدولة أبي علي بن بويه نيفاً وعشرين سنة، وركب في آخر أيامه فرساً له فعارضه خنزير فشب به الفرس وهو غافل عنه فسقط على دماغه فهلك.
وكتب ابن العميد عن ركن الدولة كتاباً يقول فيه: ألحمد لله الذي أغنانا بالوحوش عن الجيوش: وقام بعده ابنه أبو منصور بهستون بن وشمكير مقامه، وتوفى سنة سبع وستين وثلاثمائة، وكان عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ابن ركن الدولة أبي علي زوج ابنة بهستون، فنفذ معز الدولة إلى المطيع وسأله أن ينفذ إليه الخلع والعهد على جرجان وطبرستان ففعل ذلك ولقبه ظهر الدولة، ووصله ما نفذ إليه في جمادى الأولى سنة ستين وثلاثمائة، فزين بلاده للرسول ونزل عن سريره عند وصول الخلع إليه ونثر عليه النثار العظيم: ونفذ للمطيع لله في جواب اللقب ستين ألف دينار عيناً وغير ذلك من الثياب والخيل، ولما توفى خلف أخوه قابوس بن وشمكير، ونفذ إليه الطائع لله الخلع والعهد على طبرستان وجرجان ولقبه شمس المعالي، وكان فاضلاً أديباً مترسلاً شاعراً ظريفاً، وله رسائل بأيدي الناس يتداولونها، وكان بينه وبين الصاحب بن عباد مكاتبة: مات سنة ثلاث وأربعمائة، وكان فيه عسف وشدة فسئمه عسكره فتغيروا عليه وحسنوا لابنه منوجهر حتى قبض على أبيه وقالوا له: إن لم تقبض أنت عليهم إلا قتلناه، وإذا قتلناه فلا نأمنك على نفوسنا فنحتاج أن نلحقك به، فوثب عليه وقبض عليه وسجنه في القلعة ومنعه ما يتدثر به في شدة البرد، فجعل يصيح: أعطوني ولو جل دابة حتى هلك، وكان حكم على نفسه في النجوم أن منيته على يد ولده، فأبعد ابنه دارا لما كان يراه من عقوقه، وقرب ابنه منوجهر لما رأى من طاعته وكانت منيته بسببه، ثم أن منوجهر قتل قتلته، وكانوا ستة تواطئوا عليه فقتل خمسة وهرب السادس إلى خراسان فقبضه محمود ابن سبكتكين وحمله إليه وقال له: إنما فعلت هذا لئلا يتجرأ أحد على قتل الملوك - فقتل الآخر - ، ثم مات منوجهر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، فقام ابنه أنوشروان بن منوجهر مقامه، وتوفي أنوشروان سنة خمس ولثلاثين وأربعمائة، ثم ولي ابنه حسان بن أنوشروان.
ومن شعر قابوس بن وشمكير:
خطرات ذكرك تستثير صبابتي ... فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... فكأن أعضائي خلقن قلوبا
ومن رسائله ما كتب به إلى بعض إخوانه: كتبت - أطال الله بقاء مولاي - وما في جسمي جارحة إلا وهي تود لو كانت يداً تكاتبه، ولساناً يخاطبه، وعيناً تراقبه، وقريحة تعاتبه بنفس ولهى، وبصيرة ورهى، وعين عبرى، وكبد حرى، ومنازعة إلى ما يقرب منه، وتمسكاً بما يتصل عنه، ومثابرةً على أمل هو غايته وتعلقاً بحبل عهد هو نهايته: وخاطري يميل نحوه، ونفسي تأمل دنوه وترجو وتقول أتراه، بل لعله وعساه يرق لنفس قد تصاعد نفسها، ويرحم روحاً قد فارقها روحها ومؤنسها؟ وكيف بقلبه لو عاين صورة هذه صورتها؟ وشاهد مهجة هذه جملتها؟ فليرفق جعلت فداه بمن عاند برحاً عظيماً، وكابد قرحاً أليماً، وليرق لكبد قذفها البعاد، وعين أرقها السهاد، وأحشاء محرقة بنار الفراق، وأجفان مقروحة بدمعها المهراق، وقلب في أوصابه متقلب، ولب في عذابه معذب، فلو أني أسعدت فأعطيت الرضا، وخيرت فاخترت المنى، لتمنيت أن أتصور صورتك وأطالع طلعتك، وأمثل لها مثالي لتراه، فأخبرها بكنه حالي ومعناه، لترفق لإزالة ما أزله، وأشكو بعض ما نابني من نوائبه وغوائله، وأطلقني من أشراكه وحبائله.

وكان قد تمت عليه نكبة أخرجته من مقر عزه وموطن ملكه، فشتتته عن الأوطان، وألحقته بخراسان، فأقام بها برهة من الزمان إلى أن أسفر صبحه وفاز بعد الخيبة قدحه، وتحرج الزمان من جور عليه فرد ملكه إليه، فقال في حال نكبته:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر؟
أما ترى البحر يطفو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر؟
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تأذى بؤسه ضرر
ففي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
أما البيت الثاني فأخذه من قول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به ... وغدا الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلاً ويعلو فوقه جيفه
وقوله: وفي السماء نجوم مأخوذ من قو أبي تمام:
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت ... عيدان نخل ولا يعبأن بالرتم
بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرقم
وكتب شمس المعالي قابوس إلى عضد الدولة وقد أهدى له سبعة أقلام:
قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... م لها في البهاء حظ عظيم
مرهفات كأنها ألسن الحي ... ات وقد جاز حدها التقويم
وتفاءلت أن ستحوي الأقالي ... م بها كل واحد إقليم
وهذا يشبه قول ابن الصابئ وقد ذكر في بابه قال مؤلف الكتاب: وكنت في سنة سبع وستمائة قد توجهت إلى الشام وفي صحبتي كتب من كتب العلم أتجر فيها، وكان في جملتها كتاب صور الأقاليم للبلخي نسخة رائقة مليحة الخط والتصوير فقلت في نفسي: لو كانت هذه النسخة لمن يجتدي بها بعض الملوك ويكتب معها هذه الأبيات - وقلتها ارتجالاً - لكان حسناً، والأبيات في معنى أبيات قابوس، ولم اكن شهد الله وقعت عليها ولا سمعتها. وهي:
ولما رأيت الدهر جار ولم أجد ... من الناس من يعدى على الدهر عدواكا
ركبت الفلا يحدو بي الأمل الذي ... يدني على بعد التنائف مثواكا
ورمت بأن أهدي إليك هدية ... فلم أر ما يهديه مثلي لشرواكا
فجئتك بالأرضين جمعاً تفاؤلاً ... لعلمي بأن الفال رائد عقباك
فخذ هذه واستخدم الفلك الذي ... براه إلهي كي يدور ببغياكا
ثم إنني بعت النسخة من الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب بتخيير المشتري من غير مكسب، وجرت لي فيها قصة ظريفة أنزه هذا السلطان عن ذكرها، فإنه وإن كان الحظ حرمني فإنه جواد عند غيري. وكان السبب في خروج قابوس عن دار ملكه ولحوقه بخراسان: أن عضد الدولة أبا شجاع فناخسرو تقم على أخيه فخر الدولة أبي الحسن علي بن الحسن بن بويه أمراً خالفه فيه فخر الدولة، فقصده عضد الدولة إلى همذان وكان مالكها وما والاها فهرب منه حتى لحق بجبال طبرستان فتلقاه قابوس وأكرم مثواه وأنزله عنده وآواه، فأنفذ عضد الدولة أخاه الآخر الملقب بأمير الأمراء مؤيد الدولة نحوهما فانحازا عنه وذلك سنة إحدى وسبعين، وبعثا إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور وكان يتولى إمارة نيسابور ومادون جيحون من قبل السديد أبي صالح منصور بن نوح الساماني يستجديانه ويستعينانه فوعدهما وأبطأ عليهما لانحلال الاحوال بخراسان لاختلاف الأيدي بها، فسارا هاربين حتى وردا نيسابور ومنها إلى بخارى، فأرسل صاحب بخارى معهما جيشاً صحبة تاش الحاجب وولاه نيسابور فلم يصنع معهما شيئاً، وقال قابوس في تلك الحال:
لئن زال أملاكي وفات ذخائري ... وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها ... منال لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حر تأنف الضيم مركباً ... وتكره ورد المنهل المتدفق
فإن تلفت نفسي فلله درها ... وإن بلغت ما ترتجيه فأخلق!
من لم يردني والمسالك جمة ... فأي طريق شاء فليتطرق؟
وله:
بالله لا تنهضي يا دولة السفل ... وقصري فضل ما أرخيت من طول

أسرفت فاقتصدي جاوزت فانصرفي ... عن التهور ثم امشي على مهل
مخدمون ولم تخدم أوائلهم ... مخولون وكانوا أرذل الخول
فأما أبو الحسن علي بن بويه فإنه لما مات أخوه في سنة ثلاث وسبعين استدعاه ابن عباد وأقامه مقام أخيه، وأما قابوس فإنه لما تطاولت مدته ولم ير عند السامانية ناصراً قصد أطراف بلاده فتجمعت إليه الجيوش وعاد إلى بلاده، وقاتل المستولي عليها حتى عاد إلى سرير ملكه بعد ثماني عشرة سنة. وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في رسالة له سماها التعلل بإجالة الوهم في معاني منظوم أولي الفضل قال: وكنت أستحسن من شمس المعالي قابوس إعراضه عن إنشاد مدائحه في وجهه وبين يديه، وكان يطلق للشعراء المجتمعين على بابه في النيروز والمهرجان مقداراً من البر، ويرسم لأبي الليث الطبري توزيعه عليهم بحسب رتبهم، ويقول: إنهم قوم مستميحون بما يفاضلون فيه، ولكني لا أستجيز سماع أكاذيبهم التي أعرف من نفسي خلافها، وأتحرز بذلك من الإستغبان ولقابوس فصل يعزي: حشو هذا الدهر - أطال الله بقاء مولاي - أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معلوم، فما أولاه - أيده الله - بأن يتأمل أحواله، ويستشف ضروبه وأحكامه، فإن وجد أحداً سلم من وجد أو عري من فقد لقي خلاف المعهود، وحق له التأسي على المفقود، وإن علم أن الخلق فيه شرع وأن الباقي للماضي تبع قدم من السلوة والصبر، ما لابد من المصير إليه آخر الأمر، ليحصل له الثواب والأجر، والسلام.
قال أبو حيان: قال لي البديهي: مدحت وشمكير بمدائح فاحت رياها شرقاً وغرباً، بعداً وقرباً، فما أثابني عليها إلا بشيء يسير، وقصده بعض الأغتام من الجبال فمدحه بقصيدة ركيكة غير موزونة تعلقها بالهجاء أكثر من تعلقها بالمديح، فأعطاه ما أغناه وأعقابه بعده، فشكوت إلى ابن ساسان ذلك فقال لي: إفراط العلم مضر بالجد. والجد والعلم قلما يجتمعان، والكد للعلم، والجد للجهل، وأنشأ يقول:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم
وللصاحب يهجو قابوس:
قد قبس القابسات قابوس ... ونجمه في السماء منحوس
وكيف يرجى الفلاح من رجل ... يكون في آخر اسمه بوس؟
فاجابه قابوس:
من رام أن يهجو أبا قاسم ... فقد هجا كل بني آدم
لأنه صور من مضغة ... تجمعت من نطف العالم

قال أبو سعد الآبي في تاريخه: في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة كانت الأخبار تواترت بموت قابوس بن وشمكير، ثم ورد خبر بأنه لم يمت ولكنه نكب وأزيل عن الملك، وذلك أنه كان قد أسرف في القتل وتجاوز الحد في سفك الدماء، ولم يكن يعرف أحداً في التأديب وإقامة السياسة غير ضرب الأعناق وإماتة الأنفس، وكان يأتي ذلك في الأقرب فالأقرب، والأخص فالأخص من الجند والحاشية حتى أفنى جميعهم وأتى على جلهم، وأذل الخيل وأصناف العسكر للرعية وجرأهم عليهم، ولم يتظلم أحد من أهل البلد من واحد من أكابر عسكره إلا قتله وأتى على نفسه من غير أن يتفحص عن الشكوى، أصحيحة أم باطلة؟ فتبرم عسكره وحاشيته، وخافوا سطوته ولم يأمنوا ناحيته، فمشى بعضهم إلى بعض وتمالئوا عليه، وتعاهدوا وتحالفوا وخفي الأمر، لأنه كان خرج إلى حصن بناه وسماه: شمراباذ، وعزم القوم أن يتسلقوا عليه ويغتالوه وقد واطأهم على الأمر جميع من كان معه في الحصن، فتعذر عليهم الصعود إليه والهجوم عليه،وعلموا أنهم لو قد أصبحوا وقد عرف الخبر لم ينج منهم أحد، فنعوه إلى الناس وذكروا أنه قضى نحبه، فانتبهت اصطبلاته، وسيقت دوابه وبغاله، ولم يقدر هو على مفارقة الموضع لإعواز الظهور التي تحمل وتنقل عليها خزائنه، وكان عنده وزيره أبو العباس الغانمي فاتهمه بممالأة القوم فأوقع به وقتله. وخاطب العسكر من ذلك الموضع ومن جرجان منوجهر وكان إذ ذاك مقيماً بطبرستان، فاستدعوه وكتبوا إليه بالحضور، وأنه متى تأخر قدموا غيره فبادر إليهم فقلدوه الأمر وبلغ ذلك قابوس وقد تفرق عنه من غدر به، فجمع أمراء الرستاق وفارق المكان وصحبه طائفة من العرب وغيرهم من الجند، وخرج إلى بسطام مع خزائنه وأسبابه، وتبعه منوجهر ابنه مع العسكر فحصره، وامتنع هو عليه ثم أمكن من نفسه عند الضرورة فقبض عليه وحمل إلى بعض القلاع، وتقرر أمر ابنه منوجهر ولقب بفلك المعالي، وكان أبوه يلقب شمس المعالي، ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بصحة موت قابوس وأقام التعزية في ممالكه عنه، وكان موته في مجلسه بقلعة جناشك وذكر أنه اغتيل وحمل تابوته إلى جرجان ودفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه، وأنفق عليه الأموال العظيمة وبالغ في تحصينه وتحسينه.
القاسم بن أحمد الأندلسيبن الموفق أبو محمد الأندلسي اللورقي، يلقب علم الدين، مولده فيما اخبرني عن نفسه في حدود سنة إحدى وستين وخمسمائة، وهو إمام في العربية وعالم بالقرآن والقراءة، اشتغل بالأندلس في صباه، وأتعب نفسه حتى بلغ من العلم مناه، فصار عيناً للزمان ينظر به إلى حقائق الفضائل، فما من علم إلا وقد أخذ منه بأوفر نصيب وحصل منه على أعلى ذروة، وكنت لقيته بمحروسة حلب في سنة ثمان عشرة وستمائة، ففزت من لقائه بالأمنية، واقتضبت من فوائده كل فضيلة شهية.
وحدثني أنه قرأ القرآن بمرسية من بلاد الأندلس على الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعيد بن محمد المرادي المرسي، وعلى أبي الحسن علي بن يوسف بن الشريك الداني بمرسية. وببلنسية على أبي عبد الله محمد بن أيوب بن محمد بن نوح الغافقي الفقيه وعلى الشيخ المقرئ أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن عون الله الأندلسي، وقرأ المحو على أبي الحسن علي بن الشريك المذكور وابن نوح المذكور، ثم خرج إلى مصر في سنة إحدى وستمائة فقرأ بها القرآن على الشيخ أبي الجود غياث بن فارس بن مكي اللخمي، وبدمشق على الشيخ الإمام تاج الدين أبي اليمن الكندي، قرأ عليه القرآن جميعه بكتاب المهج تصنيف أبي محمد المقرئ، وكتاب سيبويه وكثيراً من كتب الأدب، وسمع منه أكثر سماعاته كتاريخ الخطيب والحجة وأدب الكاتب وغير ذلك، وكان وروده إلى دمشق سنة ثلاث وستمائة، وببغداد على الشيخ أبي البقاء الحسين بن عبد الله العكبراوي، وسمع الحديث على جماعة منهم، وأما معرفته بالفقه والأصول وعلوم الأوائل كالمنطق وغيره فهو الغاية فيه.
وله من التصانيف: كتاب شرح المفصل في عشر مجلدات، وكتاب في شرح قصيدة الشاطبي، وكتاب شرح مقدمة الجزولي مجلدان. وأنشدني قال: أنشدني تاج الدين أبو اليمن لنفسه - رحمه الله - :
تركت قيامي للصديق يزورني ... ولا عذر لي إلا الإطالة في عمري
ولو بلغوا من عشر تسعين نصفها ... تبين في تركي القيام لهم عذري


القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الراويةقال محمد بن إسحاق النديم قال أبو سعيد يعني السيرافي: وقد كان في أيام المبرد جماعة نظروا في كتاب سيبويه ولم يكن لهم نباهته: منهم أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل. ولأبي ذكوان كتاب معاني الشعر رواه عنه ابن درستويه، ووقع أبو ذكوان إلى السيراف أيام الزنج، وكان علامةً أخبارياً قد لقي جماعة من أهل العلم وكان التوزي زوج أم أبي ذكوان.
قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسفبن ناصح ابن عطاء البياني أبو محمد، مولى الوليد بن عبد الملك، إمام من أئمة العلم، حافظ مكثر مصنف، كان أصله من بيانة وسكن قرطبة، وبها مات سنة أربعين وثلاثمائة عن سن عالية ويقال: إنه لم يسمع منه شيء قبل موته بسنتين، ذكره الحميدي فقال: سمع محمد بن وضاح، ومحمد بن عبد السلام الحسني وجماعة، ورحل فسمع إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبا إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، والحارث بن أبي أسامة، وأبا قلابة الرقاشي، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وأحمد بن زهير بن حرب، وأبا بكر بن أبي الدنيا، وذكر جماعة ثم قال وغيرهم، وصنف كتباً منها: كتاب الحمر، وكتاب في أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكتاب المجتنى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى.
قال أبو محمد علي بن أحمد: وهو خير منه انتقاء وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدة، وله كتاب في فضائل قريش، وكتاب في الناسخ والمنسوخ، وكتاب في غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطئ، وكتاب في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب. وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره، وانتشر ذكره، وروى عنه جماعة من أهل بلده وغيرهم
قاسم بن ثابت السرقسطيذكره الحميدي فقال: هو مؤلف كتاب غريب الحديث، رواه عنه ابنه ثابت وله فيه زيادات، وهو كتاب حسن مشهور، وذكره أبو محمد علي بن أحمد وأثنى عليه وقال: ما شآه أبو عبيد إلا بتقدم العصر.
القاسم بن الحسين بن محمد أبو محمد الخوارزميصدر الأفاضل حقاً، وواحد الدهر في علم العربية صدقاً، ذو الخاطر الوقاد، والطبع النقاد، والقريحة الحاذقة، والنحيزة الصادقة، برع في علم الأدب، وفاق في نظم الشعر ونثر الخطب، فهو إنسان عين الزمان، وغرة جبهة هذا الأوان. سألته عن مولده فقال: مولدي في الليلة التاسعة من شعبان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وحضرت في منزله بخوارزم فرأيت منه صدراً يملأ الصدر، ذا بهجة سنية وأخلاق هنية، وبشر طلق ولسان ذلق، فملأ قلبي وصدري، وأعجز وصفه نظمي ونثري، واستنشدته من قبله فأنشدني لنفسه بمنزله في خوارزم، في سلخ ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة:
يا زمرة الشعراء دعوة ناصح ... لا تأملوا عند الكرام سماحا
إن الكرام بأسرهم قد أغلقوا ... باب السماح وضيعوا المفتاحا
ورأيته شيخاً، بهي المنظر، حسن الشيبة، كبيرها، سميناً بديناً عاجزاً عن الحركة، وكان له في حلقه حوصلة كبيرة. وقلت له: ما مذهبك؟ فقال: حنفي ولكن لست خوارزمياً لست خوارزمياً يكررها، إنما اشتغلت ببخارى فأرى رأي أهلها، نفى عن نفسه أن يكون معتزلياً رحمه الله. قال: وسألني قاضي القضاة بخوارزم أن أنشئ له أبياتاً يكتبها على جدران دار استحدث بناءها فقلت:
من كان يفخر بالبنيان والشرف ... فليس فخري بغير المجد والشرف
ما قيمة الدار لولا فضل ساكنها؟ ... وأي وزن بدون الدر للصدف؟
إن كان يعجبني خشب مسندة ... فلست أكرم نجل من بني خلف
قد صح لي باتفاق الناس كلهم ... رواية العدل والإنصاف عن سلفي
إني لمن معشر كانت معايشهم ... بالقصد أما عطاياهم فبالسرف
قوم متى طلعت ليلاً مآثرهم ... رأيت بدر الدجى في زي منخسف
بدولة الملك الميمون طائره ... أني توجهت فالإقبال مكتنفي؟
وأنشدني لنفسه:
أيا سائلي عن كنه علياه إنه ... لأعطي ما لم يعطه الثقلان
فمن يره في منزل فكأنما ... رأى كل إنسان وكل مكان
وأنشدني لنفسه في أنباء شيخ الإسلام الرستاني، - ورشتان من قرى مرغينان، ومرغينان من بلاد فرغانة:
=======
ج12. كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


فديت إماماً صيغ من عزة النفس ... أنامله والسحب نوعان من جنس
أشد ارتياحاً نحو طلعة معتف ... من المفلس الخاوي اليدين إلى الفلس
وأفقه في تدريسه من محمد ... وأجود من كعب وأخطب من قس
مناقب لو أن الحرابي مرة ... بصرن بها استنكفن عن خدمة الشمس
ويغدو على طرف من الشقر كلما ... رأته إماء الحي وافته للقبس
على سابح من خلقة الوهم طالع ... وأهون شيء عنده درك الأمس
فتى ساومته خلقه وهو فاغم ... ولا فغمة المسك، والخرائد للعرس
له الصفو من ودي وإخوته الألى ... غدوا من سهام الزيغ للدين كالترس
لفتيان صدق ما اقتنوا طول عمرهم ... سوى البحث والإفتاء والوعظ والدرس
لأربعة شادوا الهدى بعد شيخهم ... فقد بنى الإسلام منهم على خمس
بنور ألهي عليهم وزهدهم ... وعلمهم أضحوا ملائكة الأنس
فعاشوا لترشيح الهدى ويراعهم ... بصائبة الأحكام يقطر في الطرس
وقال بعض الفضلاء الخراسانية في الإمام صدر الأفاضل يمدحه:
إن للعالمين فخراً وزيناً ... وجمالاً يجل عن كل شين
بفتىً وافر العلوم نقاب ... مثله ما رأيت قط بعيني
ليس ذاك الفتى المبرز إلا ... أفضل الناس قاسم بن الحسين
وحدثني صدر الأفاضل: قال بعض الفضلاء العراقية في وهو من أصحابي:
يقولون إن الأصمعي لبارع ... وبالنحو والآداب والشعر عالم
كذا ابن دريد والخليل وجاحظ ... وكل لدر العلم والفضل ناظم
فقلت أجل، قد جل في الناس شأنهم ... وأفضل منهم صدر خورزم قاسم
وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:
أتحمل مني نحو ذيالك الرشا ... سلاماً كصدغيه وحالي مشوشا؟
وإني لوجدي أستضيء لذي الحمى ... بشعلة أنفاسي إذا الليل أغطشا
ويرحمني العذال حتى يقول لي ... أموقد نار بين جنبيك أم حشا؟
وهل ترد الجرعاء مني بحنة ... على طرفيها رونق العهد قد مشى؟
وإني قد كتمت سري وإنما ... برغمي صوب المدمعين به فشا
كما أن صدر الشرق أخفى سخاءه ... ولكنه بشر الجبين به وشى
متى جحدت نعماه أنهض جوده ... شهوداً من الإحسان لا تقبل الرشا
وإن هزه الإطراء ثم تبجست ... أياديه لم يسكر له فقد انتشا
أيلحقه الوهم القطوف، إذا سعى ... لإدراك غايات العلا متكمشا؟
لك المنهل المسكي ما زال نقعه ... يعلل صلا في يمينك أرقشا
فيلفظ في منسابه من لعابه ... حتوفاً وأرزاقاً على حسب ما تشا
وهو أطول من هذا وحدثني الإمام صدر الأفاضل قال: كتب إلي الصوفي المعروف بالصواف يسألني عن بيت حسان بن ثابت وهو:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وقولهم بأن فيه ثلاثة عشر مرفوعاً فأجبته:
أفدي إماماً وميض البرق منصرع ... من خلف خاطره الوقاد حين خطا
يبغي الصواب لدينا من مباحته ... أما درى أن ما يعدو والصواب خطا؟

الذي يحضرني في هذا البيت من المرفوعات اثنا عشر،فمنها قوله: فمن يهجو، فيه ثلاثة مرفوعات، المبتدأ، والفعل، المضارع، والضمير المستكن، ومنها المبتدأ المقدر في قوله ويمدحه، المعنى: ومن يمدحه، فيكون هاههنا على حسب المثال الأول ثلاثة مرفوعات أيضاً، ومنها المرفوعان في قوله وينصره، أحدهما الفعل المضارع، والثاني الضمير المستكن، ومنها المرفوعات الأربعة في قوله سواء، إثنان من حيث إنه في مقام الخبرين للمبتدأين، واثنان آخران من حيث إن في كل واحد ضميراً راجعاً إلى المبتدإ، فهذا يا سيدي جهد المقل وغير مرجو قطع المدى من الكل، فليعذرني سيدي قبل الله معاذيره من المرفوع الثالث عشر، فإنه لعمري قد استكن واستتر حتى لا أعرف عنه عيناً، وكيف يعرف له وجار وقد صار أعزب من العنقاء، وأشد عوزاً من الوفاء.
وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:
سرى ناشداً أنسي قضيب من الآس ... فناولني الصهباء والشهد في كاس
وأرشدني وهناً لتقبيل خاله ... وميض ثناياه وشعلة أنفاسي
ولو لم يكن يلقي على جمر خده ... من الطرة السوداء ظلة أنقاس
إذاً لأضاء الليل حتى انجلت لنا ... هواجس تخفيهن أفئدة الناس
وكتب الإمام صدر الأفاضل إلى بعض أصدقائه: كتابي إلى المجلس الرفيع جمال الحرمين، إمام الفريقين يديم الله رفعته ثم يديم، وينيم عنه طوارق الحدثان ثم ينيم، وأنا إليه كالصادي إلى قعقعة الجمد، وبجماله كهو بجمال المجد، لا أروي إلا عن فضله وإفضاله ولا أرتوي إلا من ورده وزلاله، ولا أتحسر إلا على ليال وشيتها بجواره، ثم طرزتها بحواره:
إذا ذكرتها النفس باتت كأنها ... على حد السيف بين جنبي ينتضى
تولى الصبا والمالكية أعرضت ... وزال التصابي والشباب قد انقضى
رفع الله البين من البين، حتى أرى نضاره في قميص من اللجين.
ومن إنشائه إلى الدار العزيزة ببغداد حرسها الله تعالى: رايات مولانا الصوام القوام أمير المؤمنين وإمام المتقين، وخليفة رب العالمين، الإمام الذي ليس للتابعين غيره إمام، ولا دون عتبته متمسك واعتصام، هي التي لم أزل أدعو الله أن يعقد بعذباتها النصر، ويجعل من أشياعها الذئب والنسر، تسايرها الآمال، وتحل حيثما رفعت الآجال، ويحتف بها الجدود، ويرفرف عليها السعود، وهذا دعاء لو سكت كفيته، وأمل إن لم أسأله فقد أوتيته، مني العبد أن يسعى إلى المواقف المقدسة مسعى القلم، يحبو على رأسه لا على القدم، ليشم بثراها الثرى لخلخة المسك الذكي، ويعفر بها جبينه وأنفه، ويجيل في مسارح الحمد طرفه، ويستلم عتبة بها التف الثقلان، ودانت لها الأيام بعد حران، لكن الحوادث قلما توافقه، والأيام تماكسه في ذلك وتضايقه، وظني بأن الله سوف يريك. ولما ورد الرسم - أعلى نور الله به مشارق الأرض ومغاربها - ، تلقاه العبد بالتعظيم والإجلال، ووضعه على قمة الامتثال، وفض ختامه عن الدر المكنون، بل أناسي العيون، وعن مشمول من الرض مجنوب، وكلم على صفحات الدهر مكتوب، فما زالت أعضاؤه تود أن تكون شفاهاً تقبله، وخواطر تتأمله، تمنياً يلذ به المستهام، ويحلو له الغرام، ثم استدعى الأرامل والأيامى فأعطاهم، واستحضر المساكين واليتامى فأغناهم، وأنحى على ما ملكت يمينه من العبيد والأسرى فأعتقهم وأطلقهم شكراً، وسأل الله تعالى أن يديم أكناف العرصة الفيحاء مرتعاً للعزة القعساء، إن شاء الله تعالى.
سنا جبينك مهما لاح في الظلم ... بتنا نطالع منه نسخة الكرم
إن يزرع الناس في أخلافهم كرماً ... فالبذر من جودك الطنان بالديم
تبدو على أشقر خظر حوافره ... بحراً يلاطم أمواجاً على ضرم
تشم عندك صيد العجم لخلخة ... من الرغام بآناف من القمم
كادت لحبك تأتي وهي ساعية ... على الرءوس بدون الساق كالقلم
من ظن غير نظام الملك ذا كرم ... نادى به لؤمه استسمنت ذا ورم

لما أنشدني هذا البيت قال لي: من نظام الملك؟. قلت: أنت - حرسك الله - قائل الشعر تسألني عن ممدوحك. فقال لي متبسماً: لست تعرفه؟ قلت: لا والله. قال: ولا أنا شهد الله أعرفه، لأني ما تعرضت لمدح أحد قط، ولا رغبت في جداه، ولا أعرف أحداً أفضل علي إلا مرة واحدة، فإن الغربة أحوجتني إليه فلعن الله الغربة. قلت له: وكيف ذلك؟ قال: إني مضيت إلى بخارى طالباً للعلم وقاصداً للقراءة على الرضى، فاجتمع إلي أولا صدر جيهان وغيره فقد أنسيت القصة، فلما حذفوا الأدب برني بسبعين ديناراً ركنية، ووعدني بوعود جميلة، ولولا الحاجة والغربة ما قبلتها منه، ولقد عرض علي الشهاب الحوفي، وهو أحد صدور خوارزم المتقربين من السلطان على أن ينصب لي منصباً ومجلساً بطراحة سوداء إلى جانبه، ويعطيني كل شهر عشرة دنانير لأقرأ الأدب فلم أفعل. قلت: فمن أين مادة الحياة؟ قال لي: خلف لي والدي قدراً يسيراً لا يقنع بمثله إلا أصحاب الزوايا، فأنا أنفقه بالميسور، وأتلذذ بالغنى عن الجمهور، وأنا أقول الشعر والنثر تطرباً لا تكسباً، وأستعير اسماً لا اعرفه:
أفديك ذا منظر بالبشر ملتحف ... عن اليمين وللإقبال مبتسم
يد الجلال وشت في لوح جبهته: ... الناس من خولي والدهر من خدمي
ولو أناف على هام السها وطني ... لما لوت نحوه أجيادها هممي
على النجى وقفت أيامه وعلى ... نشر المحامد منه ألسن الأمم
ما جئت أخدمه إلا وقد سحقت ... يدا تلطفه عطراً من الشيم
زف الندى نحوه بكراً مخدرةً ... لولاه زفت إلى كفن من العدم
يريه شعري نجوم الليل طالعة ... والنيرين معاً من مشرق الكلم
لا زال مثل هلال العيد حضرته ... في الحسن واليمن والإقبال والشمم
وعاش للملك يحيمه وينصره ... فالملك من دونه لحم على وضم
ودام كاليم للعافين ملتطماً ... بنانه وهو مرشوف بكل فم
وله من التصانيف: كتاب المجمرة في شرح المفصل صغير، وكتاب السبيكة في شرحه أيضاً وسط، وكتاب التجمير في شرح المفصل أيضاً بسيط، كتاب شرح سقط الزند كتاب التوضيح في شرح المقامات، كتاب لهجة الشرع في شرح ألفاظ الفقه، كتاب شرح المفرد والمؤلف، كتاب شرح النموذج، كتاب شرح الأحاجي لجار الله، كتاب خلوة الرياحين في المحاضرات، كتاب عجائب النحو، كتاب السر في الإعراب، كتاب شرح الأبنية، كتاب الزوايا والخبايا في النحو، كتاب المحصل للمحصلة في البيان، كتاب عجالة السفر في الشعر، كتاب بدائع الملح، كتاب شرح اليميني للعتبي.
القاسم بن سلام أبو عبيد

كان أبوه رومياً مملوكاً لرجل من أهل هراة، وكان أبو عبيد إمام أهل عصره في كل فن من العلم، وولي قضاء طرسوس أيام ثابت بن نصر بن مالك، ولم يزل معه ومع ولده ومات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، أو أربع وعشرين ومائتين أيام المعتصم بمكة، وكان قصدها مجاوراً في سنة أربع عشرة ومائتين، وأقام بها حتى مات عن سبع وستين سنة، وأخذ أبو عبيد عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي وأبي محمد اليزيدي وغيرهم من البصريين، وأخذ عن ابن الأعرابي، وأبي زياد الكلابي، ويحيى بن سعيد الأموي، وأبي عمرو الشيباني، والفراء، والكسائي من الكوفيين، وروى الناس من كتبه المصنفة نيفاً وعشرين كتاباً في القرآن والفقه واللغة والحديث. وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: وأما أبو عبيد القاسم بن سلام فإنه مصنف حسن التأليف إلا أنه قليل الرواية، يقتطعه عن اللغة علوم افتن فيها. وأما كتابه المترجم بالغريب المصنف فإنه اعتمد فيه على كتاب عمله رجل من بني هاشم جمعه لنفسه. وأخذ كتب الأصمعي فبوب ما فيها وأضاف إليه شيئاً من علم أبي زيد الأنصاري وروايات عن الكوفيين. وأما كتابه في غريب الحديث، وكذلك كتابه في غريب القرآن منتزع من كتاب أبي عبيدة، وكان مع هذا ثقة ورعاً لا بأس به ولا بعلمه. سمع من أبي زيد شيئاً وقد أخذت عليه مواضع في غريب المصنف، وكان ناقص العلم بالإعراب، وروي أنه قال: عملت كتاب غريب المصنف في ثلاثين سنة، وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار. وذكره الجاحظ في كتاب المعلمين وقال: كان مؤدباً لم يكتب الناس أصح من كتبه ولا أكثر فائدة. وبلغنا أنه إذا ألف كتاباً حمله إلى عبد الله بن طاهر فيعطيه مالاً خطيراً، فلما صنف غريب الحديث أهداه إليه فقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لحقيق ألا يحوج إلى طلب معاش، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم. وسمعه منه يحيى بن معين وكان ديناً ورعاً جواداً، وسير أبو دلف القاسم بن عيسى إلى عبد الله طاهر يستهدي منه أبا عبيد مدة شهرين فأنفذه، فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لا يحوجني إلى غيره، فلما عاد أمر له ابن طاهر بثلاثين ألف دينار فاشترى بها سلاحاً وجعله للثغر، وخرج إلى مكة مجاوراً في سنة أربع عشرة ومائتين فأقام بها إلى أن مات في الوقت المقدم ذكره.
وقال إسحاق بن راهويه: يحب الله الحق، أبو عبيد أعلم مني ومن احمد بن حنبل، ومن محمد بن إدريس الشافعي. قال: ولم يكن عنده ذاك البيان، إلا أنه إذا وضع وضع. ولما قدم أبو عبيد مكة وقضى حجه أراد الانصراف فاكترى إلى العراق ليخرج في صبيحة غد. قال أبو عبيد: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو جالس في فراشه وقوم يحجبونه والناس يدخلون إليه ويسلمون عليه ويصافحونه. قال: فلما دنوت لأدخل مع الناس منعت فقلت لهم: لم لا تخلون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إي والله، لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غداً إلى العراق، فقلت لهم، فإني لا أخرج إذاً، فأخذوا عهدي ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت وصافحت، فلما أصبح فاسخ كريه وسكن مكة حتى مات بها ودفن في دور جعفر.
وقال أبو عبد الله بن طاهر: علماء الإسلام أربعة: عبد الله بن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه. ثم قال يرثيه:
يا طالب العلم قد مات ابن سلام ... وكان فارس علم غير محجام
كان الذي كان فيكم ربع أربعة ... لم نلق مثلهم إستار أحكام
إستار أي أربعة. وحدث أبو بكر الزبيدي قال: قال علي بن عبد العزيز، قال عبد الرحمن اللحنة صاحب أبي عبيد: قيل لأبي عبيد وقد اجتاز على دار رجل من أهل الحديث كان يكتب عنه الناس وكان يزن بشر إن صاحب هذه الدار يقول: أخطأ أبو عبيد في مائتي حرف من المصنف. فقال أبو عبيد - ولم يقع في الرجل بشيء مما كان يعرف به - : في المصنف مائة ألف حرف، فلم أخطئ في كل ألف حرف إلا حرفين، ما هذا بكثير مما استدرك علينا، ولعل صاحبنا هذا لو بدا لنا فناظرناه في هاتين المائتين بزعمه لوجدنا لها مخرجاً.

وحدث عن عباس الخياط قال: كنت مع أبي عبيد فاجتاز بدار إسحاق الموصلي فقال: ما أكثر علمه بالحديث والفقه الشعر مع عنايته بالعلوم! فقلت له: إنه يذكرك بضد هذا. قال: وما ذاك؟ قلت: إنه يزعم أنك صحفت في المصنف نيفاً وعشرين حرفاً. فقال: ما هذا بكثير، في الكتاب عشرة آلاف حرف مسموعة يغلط فيها بهذا ليسير، لعلي لو ناظرت فيها لاحتججت عنها، ولم يذكر إسحاق إلا بخير.
قال الزبيدي: ولما اختلفت هاتان الروايتان في العدد امتحنت ذلك في المصنف فوجدت فيه سبعة عشر ألف حرف وتسعمائة وسبعين حرفاً. وحدث موسى بن نجيح السلمي قال: جاء رجل إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فسأله عن الرباب فقال: هو الذي يتدلى دون السحاب، وأنشد لعبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
فقال: لم أدر هذا، فقال: الرباب اسم امرأة، وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننا ... وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها ... في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم ادر هذا أيضاً، فقال: عساك أردت قول الشاعر:
رباب ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: هذا أردت. فقال: من أين أنت؟. قال: من البصرة. قال: على أي شيء جئت، على الظهر أو في الماء؟ قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟. قال محمد بن إسحاق النديم: ولأبي عبيد من التصانيف: كتاب غريب المصنف، كتاب غريب الحديث، كتاب غريب القرآن، كتاب معاني القرآن، كتاب الشعراء، كتاب المقصور والممدود، كتاب القراءات، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الأموال، كتاب النسب، كتاب الأحداث، كتاب الأمثال السائرة، كتاب عدد آي القرآن، كتاب أدب القاضي، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب الأيمان والنذور، كتاب الحيض، كتاب فضائل القرآن، كتاب الحجر والتفليس، كتاب الطهارة، وله غير ذلك من الكتب الفقهية.
قال علي بن محمد بن وهب المشعري عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: سمعته يقول: هذا الكتاب يعني غريب المصنف أحب إلي من عشرة آلاف دينار: فاستفهمته ثلاث مرات فقال: نعم، هو أحب إلي من عشرة آلاف دينار: وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم فوجه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأحضر ابن الأعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي، ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد، فغضب إسحاق من قوله ورسالته، وكان عبد الله بن طاهر يجزى له في الشهر ألفي درهم، فقطع إسحاق عند الرزق وكتب إلى عبد الله بالخير، فكتب إليه عبد الله: قد صدق أبو عبيد في قوله وقد أضعفت له الرزق من أجل فعله، فأعطه فائته وأدر عليه بعد ذلك ما يستحقه.
القاسم بن علي بن محمد بن عثمانابن الحريري أبو محمد البصري، من أهل بلد قريب من البصرة يسمى المشان، مولده ومنشؤه به، وسكن البصرة في محلة بني حرام، وقرأ الأدب علي أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري بها، ومات ابن الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة عن سبعين سنة، ومولده في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة في خلافة المسترشد، وبالبصرة كانت وفاته، وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقر بنبله، وكفاه شاهداً كتاب المقامات التي أبر بها على الأوائل، وأعجز الأواخر، وكان مع هذا الفضل قذراً في نفسه وصورته ولبسته وهيئته، قصيراً ذميماً بخيلاً مبتلى بنتف لحيته.

قال العماد في كتاب الخريدة: لم يزل ابن الحريري صاحب الخبر بالبصرة في ديوان الخلافة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي: أخبرني عبد الخالق ابن صالح بن علي بن زيدان المسكي البصري بها في سنة اثنتي عشرة ستمائة في صفر قال: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي البندهي - قال: وكان يكتب هو بخطه: الفنجديهي قال: وهي قرية من قرى مرو الشاهجان - قال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد يقول: سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول: أبو زيد السروجي كان شيخاً شحاذاً بليغاً، ومكدياً فصيحاً، ورد علينا البصرة فوقف يوماً في مسجد بني حرام فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضراً والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته، وحسن صياغة كلامه وملاحته، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون. قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا لسائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فضلاً أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن ابن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنو شروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها،وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها، فأتممها خمسين مقامة.
وحدثني من أثق به: أن الحريري لما صنع المقامة الحرامية وتعاني الكتابة فأتقنها وخالط الكتاب، أصعد إلى بغداد فدخل يوماً إلى ديوان السلطان وهو منغص بذوي الفضل والبلاغة، محتفل بأهل الكفاية والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري إلا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا أشهر بينهم بلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أي شيء تتعانى من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلماً وقال: كل ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا، فسأله كل واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتم خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أو شروان بن خالد، فأدخله عليه ومال بكليته إليه وأكرمه وناداه، فتحدثا يوماً في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدم ذكره، وأورد ابن الحريري المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنو شروان جداً وقال: ينبغي أن يضاف إلى هذه أمثالها وينسج عن منوالها عدة من أشكالها. فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم اصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على أنو شروان فاستحسنها وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب فضائله ولا تشاكل ألفاظه وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادعاها لنفسه.
وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل وكان مما أخذ جراب بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادعاه، فإن كان صادقاً في أنها من عمله فليصنع مقامة أخرى. فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوماً فلم يتهيأ له تركيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسود كثيراً من الكاغد فلم يصنع شيئاً فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويغيطون في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد فحينئذ بان فضله، وعلموا أنها من عمله، وكان مبتلى بنتف لحيته، فلذلك قول ابن جكينا فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس

وقرأت بخط صديقنا الكمال عمر بن أبي بكر الدباس رحمه الله، حدثني علي بن جابر بن هبة الله بن علي حاكم ساقية سليمان قال: حدثني والدي جابر بن هبة الله أنه قرأ على القاسم بن علي الحريري المقامات في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة قال: وكنت أظن أن قوله:
يا أهل ذا المغنى وقيتم شرا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرا
قد دفع الليل الذي اكفهرا ... إلى ذراكم شعثاً مغبرا
أنه سغباَ معتراً، فقرأت كما ظننت سغباً معترا، ففكر ساعة ثم قال: والله لقد أجدت في التصحيف فإنه أجود، فرب شعب مغبر غير محتاج، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أنني قد كتبت خطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرت الشعث بالسغب، والمغبر بالمعتر.
قال مؤلف الكتاب: ولقد وافق كتاب المقامات من السعد ما لم يوافق مثله كتاب ألفته فإنه جمع بين حقيقة الجودة والبلاغة، واتسعت له الألفاظ، وانقادت له نور البراعة حتى أخذ بأزمتها وملك ربقتها، فاختار ألفاظها وأحسن نسقها، حتى لو ادعى بها الإعجاز لما وجد من يدفع في صدره ولا يرد قوله، ولا يأتي بما يقاربها فضلاً عن أن يأتي بمثلها، ثم رزقت مع ذلك من الشهرة وبعد الصيت والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما استحقت وأكثر.
ومن عجيب ما رأيته وشاهدته: أني وردت آمد في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وأنا في عنفوان الشباب وريعه، فبلغني أن بها علي بن الحسن بن عنتر المعروف بالشميم الحلي وكان من العلم بمكان مكين، واعتلق من حباله بركن ركين، إلا أنه كان لا يقيم لأحد من أهل العلم المتقدمين ولا المتأخرين وزناً، ولا يعتقد لأحد فضيلة، ولا يقرأ لأحد بإحسان في شيء من العلوم ولا حسن، فحضرت عنده وسمعت من لفظه إزراءه على أولي الفضل، وتنديده بالمعيب عليهم بالقول والفعل، فلما أبرمني وأضجر، وامتد في غيه وأصحر، قلت له: أما كان فيمن تقدم على كثرتهم وشغف الناس بهم عندك قط مجيد؟ فقال: لا أعلم إلا أن يكون ثلاثة رجال: المتنبي في مديحه خاصة، ولو سلكت طريقه لما برز علي، ولسقت فضيلته نحوي ونسبتها إلي. والثاني ابن نباتة في خطبه، وإن كانت خطبي أحسن منها أسير، وأظهر عند الناس قاطبة وأشهر. والثالث ابن الحريري في مقاماته. قلت: فما منعك أن تسلك طريقته وتنشئ مقامات تخمد بها جمرته؟ وتملك بها دولته.
فقال: يا بني، الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولقد أنشأتها ثلاث مرات ثم أتأملها فأسترذلها، فأعمد إلى البركة فأغسلها ثم قال: ما أظن الله خلقني إلا لإظهار فضل الحريري. وشرح مقاماته بشرح قرئ عليه وأخذ عنه وكتب ابن الحريري إلى سديد الدولة في صدر الكتاب:
وما نومة بعد الضحى لمسهد ... زوى همه بالليل عن جفنه السنه
بأحلى من البشرى بأن ركابكم ... ستسري إلى بغداد في هذه السنه
وقرأت في كتاب لبعض أدباء البصرة: قال الشيخ أبو محمد حرس الله نعمته معاياة:
ميم موسى من نون نصر ففسر ... أيهذ الأديب ماذا عنيت؟
تفسيره: ميم الرجل: إذا أصابه الموم وهو البرسام، ويقال: إنه أشد الجدري. ونون نصر: حوت نصر، والنون السمكة، يعني أنه أكل سمكة نصر فأصابه الموم. وله في الأمثلة:
باء بكر بلام ليلى فما ين ... فك منها إلا بغين وها
باء: أي اقرأ، واللام: الدرع، فلما أقرأ لليلى به ألزمته فلا ينفك منها إلا بعين أي الدرع بعينه هاء أي خذي.
حدثني أبو عبد الله الدبيثي قال: حدثني أبو الحسن علي بن جابر، حدثني أبي أبو الفضل جابر بن زهير قال حضرنا مع ابن الحريري في دعوة لظهير الدين بن الوجيه رئيس البصرة في ختان ابنه أبي الغنائم وكان هناك مغن يعرف بحمد المصري وكان غاية في امتداد الصوت وطيب النغمة فغنى:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟
فطرب الحاضرون وسألوا ابن الحريري أن يزيد فيها شيئاً فقال:
قل لمن عذب قلبي ... وهو محبوب محابي
والذي إن سمته الوص ... ل تغالى وتغابى
ثم البيتان. فاستحسنها الجماعة وأقسموا على المغنى ألا يغنيهم غيرها، فمضى يومهم أجمع بهذه الأبيات.
وأنشد أيضاً لحريري:

لا تخطون إلى خطء ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا
وأي عذر لمن شابت ذوائبه ... إذا سعى في ميادين الصبا وخطا؟
ومن شعره:
خذ يا بني بما أقول ولا تزغ ... ما عشت عنه تعش وأنت سليم
لا تغترر ببني الزمان ولا تقل ... عند الشدائد لي أخ ونديم
جربتهم فإذا المعاقر عاقر ... والآل آل والحميم حميم
ولابن الحريري من التصانيف: كتاب المقامات، كتاب درة الغواص في أوهام الخواص، كتاب ملحة الإعراب وهي قصيدة في النحو، كتاب شرح ملحة الإعراب، كتاب رسائله المدونة، كتاب شعره.
حدثني أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الدبيثي قال: سمعت القاضي أبو الحسن علي بن جابر بن زهير يقول: سمعت أبي أبا الفضل جابر بن زهير يقول: كنت عند أبي محمد القاسم ابن الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد المطهر بن سلام البصري الذي عمل المقامات عنه قد شرب مسكراً فكتب إليه وأنشدناه لنفسه:
أبا زيد اعلم أن من شرب الطلا ... تدنس فافهم سر قولي المهذب
ومن قبل سميت المطهر والفتى ... يصدق بالأفعال تسمية الأب
فلا تحسها كيما تكون مطهراً ... وإلا فغير ذلك الاسم واشرب
قال: فلما بلغه الأبيات أقبل حافياً إلى الشيخ أبي محمد وبيده مصحف فأقسم به ألا يعود إلى شرب مسكر. فقال له الشيخ: ولا تحاضر من يشرب.
حدثني ابن الدبيثي قال: وأنشدني ابن جابر قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسن بن المنقبة الفقيه بالرحبة لنفسه يعارض أبا محمد بن الحريري في بيتيه اللذين قال فيهما: أسكنا كل نافث، وأمنا أن يعززا بثالث:
ملأمة الوكعاء بين الورى ... أحسن من حر أتى ملأمه
فمه إذا استجديت عن قول لا ... فالحر لا يملأ منها فمه
نقلت من خط أبي سعد السمعاني، أنشدنا أبو القاسم عبد الله بن القاسم بن علي بن الحريري، أنشدني والدي لنفسه وهو مما كاتب به شيخ الشيوخ أبا البركات إسماعيل بن أبي سعد:
سلام كأزهار الربيع نضارة ... وحسناً على شيخ الشيوخ الذي صفا
ولو لم يعقني الدهر عن قصد ربعه ... سعيت كما يسعى الملبي إلى الصفا
ولكن عداني عنه الدهر مكدر ... ومن ذا الذي واتاه من دهره الصفا؟
ومن خطه: أنشدني أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي الواسطي، أنشدنا القاسم بن علي الحريري لنفسه:
أخمد بحلمك ما يذكيه ذو سفه ... من نار غيظك واصفح إن جنى جاني
فالحلم أفضل ما ازدان اللبيب به ... والأخذ بالعفو أحلى ما جنى جاني
وكتب ابن الحريري إلى سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري كتاباً على يد ولده قال فيه: كتب الخادم وعنده من تباريح الأشواق إلى الخدمة ما يصدع الأطواد، فكيف الفؤاد؟ ويوهي إلى الجبال، فكيف البال؟ ولكنه يستدفع الخوف بسوف، ويبرد حر الأسى بعسى، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
ألا ليت شعري والتمني خرافة ... وإن كان فيه راحة لأخي الكرب
أتدرون أني مذ تناءت دياركم ... وشط اقترابي من جنابكم الرحب
أكابد شوقاً ما يزال أواره ... يقلبني بالليل جنباً إلى جنب
أسكب للبين المشت مدامعاً ... كأن عزاليها امترين من السحب
وأذكر أيام التلاقي فأنثني ... لتذكارها بادي الأسى ذاهب اللب
ولي حنة في كل وقت إليكم ... ولا حنة الصادي إلى البارد العذب
فوالله إني لو كتمت هواكم ... لما كان مكتوماً بشرق ولا غرب
ومما شجا قلبي المعنى وشفه ... رضاكم بإهمال الإجابة عن كتبي
على أنني راض بما ترضونه ... وأفخر بالإعتاب فيكم وبالعتب
ولما سرى الوفد العراقي نحوكم ... وأعوزني المسرى إليكم مع الركب
جعلت كتابي نائباً عن ضرورة ... ومن لم يجد ماء تيمم بالتر

وأنفذت أيضاً بضعة من جوارحي ... تنبئكم مشروح حالي وتستنبي
وقلت له عند الوداع وقلبه ... شج وأبوه الشيخ مكتئب القلب
ألا أبشر بما تحظى به حين تجتلي ... محيا سديد الدولة الماجد الندب
ولست أرى إذكاركم بعد خبركم ... بمكرمة، حسبي اهتزازكم حسبي
هذه على عاهتها بنت ساعتها، فإن حظيت منه بالقبول المأمول، فيا بشرى للحامل والمحمول، وإن لمحت لمحة المستثقل، فيا خيبة المرسِل والمرسَل، والسلام.
ومن رسائل ابن الحريري رسالة التزم في كل كلمة منها السين نثراً ونظماً، كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقاً له أخل به في دعوة دعا غيره إليها وكتب على رأسها: باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجج، سجية سيدنا سيف السلطان سدة سيدنا الإسفهسلار السيد النفيس سيد الرؤساء حرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه، واتسق أنسه استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب، والسيادة تستدعي استدامة السنن، والاستحفاظ بالرسم الحسن. وسمعت بالأمس تدارس الألسن سلاسة خندريسه، وسلسال كئوسه، ومحاسن مجلس مسرته، وإحسان مسمعة ستارته فاستسلفت الاستدعاء، وتوسمت الإسراء، وسوفت نفسي بالإحتساء ومؤانسة الجلساء، وجلست أستقري، السبل، وأستطلع الرسل، وأستطرف تناسي رسمي، وأسامر الوسواس لاستحالة وسمي:
وسيف السلاطين مستأثر ... بأنس السماع وحسو الكئوس
سلاني وليس لباس السلو ... يناسب حسن سمات النفيس
وسنن تناسي جلاسه ... وأسوا السجايا تناسي الجليس
وسر حسودي بطمس الرسوم ... وطمس الرسوم كرمس النفوس
وأسكرني حسرة واستعاض ... لقسوته سكرة الخندريس
وساقى الحسام بكاس السلاف ... وأسهمني بعبوس وبوس
سأكسوه لبسة مستعتب ... وألبس سربال سال يئوس
وأسطر سيناته سيرة ... تسير أساطيرها كالبسوس
وحسبنا السلام رسول السلام.
وكتب إلى أبي طلحة ابن النعمان الشاعر لما قصده إلى البصرة يمدحه ويشكره، ويتأسف على فراقه: بإرشاد المنشئ أنشئ، شغفي بالشيخ شمس الشعراء، ريش معاشه وفشا رياشه، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه، يشاكل شغف المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشم الشراب. وشكري لتجشمه ومشقته، وشواهد شفقته، يشابه شكر الناشد للمنشد، والمسترشد للمرشد، والمستبشر للمبشر، والمستجيش للجيش المشمر. وشعاري إنشاد شعره، وإشجاء المكاشر والمكاشح بنشره.
وشغلي إشاعة وشائعه، وتشييد شوافعه، والإشارة بشذوره وشفوفه، والمشورة بتشييعه وتشريفه، وأشهد شهادة تشده المقشر المكاشف، والمشنع الكاشف. لإنشاؤه ومشاهدته تدهش الشائب والناشئ، ولمشافهته تباشير الرشد، واستشيار الشهد، ولمشاحنته تشقي المشاحن، وتشين المشاين، ولمشاغبته تشظى الأشطان، وتشيط الشيطان. فشرفا للشيخ شرفاً، وشغفاً بشنشنته شغفاً:
فأشعاره مشهورة ومشاعره ... وعشرته مشكورة وعشائره
شأى الشعراء المشمعلين شعره ... فشانيه مشجو الحشا ومشاعره
وشوه ترقيش المرقش رقشه ... فأشياعه يشكونه ومعاشره
وشاق الشباب الشم والشيب وشيه ... فمنشوره بشرى المشوق وناشره
شكور ومشكور وحشو مشاشه ... شهامة شمير يطيش مشاجره
شقاشقه مخشية وشباته ... شبا مشرفي جاش للشر شاهره
شفا بالاناشيد النشاوى وشفهم ... فمشفيه مستشف وشاكيه شاكره
ويشدو فيهتش الشحيح لشدوه ... ويشغفه إنشاده فيشاطره
تجشم غشياني فشرد وحشتي ... وبشر ممشاه ببشر أباشر
سأنشده شعراً تشرق شمسه ... وأشكره شكراً تشيع بشائره

وأشهد شاهد الأشياء، ومشبع الأحشاء، ليشعلن شواظ اشتياقي في شحطه، ولشعثن شمل نشاطي نشطه، فناشدت الشيخ أيشعر باستيحاشي لشسوعه، وإجهاشي لتشييعه، ووشايتي بنشيده الموشي، وتشكل شخصه بالإشراق والعشي، حاشاه تعتشيه شبهة وتغشاه، فليستشف شرح شجوي بشطونه، وليرشحني لمشاركة شجونه، وليشغلني بتمشية شئونه، وليشيد جاشي، ويشارف انكماشي، عاش منتعش الحشاشة، مستشري البشاشة، مشحوذ الشفار، منتشر الشرار، شتاماً للأشرار، شحاذاً بالأشعار، يشرخ ويحوش، ويقنفش المنفوش الشديد البطش، الشامخ العرش، وتشريفه لبشير البشر، وشفيع المحشر.
وله من المقامات:
وأحوى حوى رقي برقة لفظه ... وغادرني إلف السهاد بغدره
تصدى لقتلي بالصدود وإنني ... لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره
أصدق منه الزور خوف ازوراره ... وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وأستعذب التعذيب منه وكلما ... أجد عذابي جد بي حب بره
تناسى ذمامي والتناسي مذمة ... وأحفظ قلبي وهو حافظ سره
له مني المدح الذي طاب نشره ... ولي منه طي الود من بعد نشره
وإني على تصريف أمري وأمره ... أرى المر حلواً في انقيادي لأمره
وقال الرئيس أبو الفتح هبة الله بن الفضل بن صاعد بن التلميذ الكاتب: كان الشيخ الأجل الإمام الأوحد أبو محمد القاسم بن علي بن الحريري - رضي الله عنه - الإمام المشهور الفضل، من أعيان دهره، وفريد عصره، وممن لحق طبقة الأوائل، وغبر عليهم في الفضائل، وكانت بيني وبينه مكاتبة قديمة في سنة خمس وتسعين وأربعمائة عند ابتدائه حمل المقامات التي أنشأ، ولما وقع الاجتماع به في سنة أربع وخمسمائة ببغداد وسماعها منه عدة دفعات، جاريته وسألته أن ينظم في النحو مختصراً يحفظه المبتدئون، فشرع في نظم هذه الأرجوزة، وأملى علي منها أبواباً يسيرة، وانحدر من غير إتمامها، واستعاد مني ما أملاه ليحرره، فكاتبته دفعات أقتضيه بها، وأذكره بإنفاذها وإنفاذ كتابه: درة الغواص في أوهام الخواص، فكتب إلي جوابين نسخة الأول منهما: وصل من حضرة سيدنا - أطال الله بقاءه ومدته، وحرس عزه ونعمته، وضاعف سعادته، وكبت حسدته - ، كتاب كريم، مودعه طول جسيم، وفي ضمنه در نظيم، فابتهجت بتناوله، وقررت عيناً بتأمله، وتذكرت الأوقات التي أسعد الدهر فيها برؤيته، وأحظى باجتلاء فضله وروايته، وشكرت الله على ما يوليه من حسن صنعه، وسألته - جلت عظمته - أن يجعل النعمة راهنة بربعه، والسعادة جاذبة أبداً بضبعه، وسررت بما بشرني به من نجابة السيد الرئيس، الولد النفيس - أمتع الله ببقائه - ، وأتاح لي تجدد الأنس بلقائه، ولم أستبعد أن يقمر هلاله بل يبدر، ولا استبعدت أن يورق إن دوحته الزكية ويثمر، والله تعالى يمليه أطول الأعمار في رفاهة الأسرار، ومواتاة الأقدار حتى يعاين أسباطه، ويضاعف باجتماعهم وتضاعفهم بحوزته اغتباطه. فأما الملحة إن أمكن تنفيذها مع أحد المترددين إلى هذا المكان لألحق بها الزيادة، وأهذبها كما يطابق الإرادة، فأوعز به.
وأما درة الغواص في أوهام الخواص، فأرجو أن ينشئ الإصعاد إلى بغداد لتصفحها من البدء، وكأن قد، وإلى أن يسهل المأمول من الالتقاء، فما أولى همته الكريمة بإتحافي بالأنباء، وإنهاضي بما يسنح من الأوطار والأهواء، ورأيه أعلى إن شاء الله.
نسخة الكتاب الثاني، وهو المنفذ مع الملحة المذكورة:
لئن كانت الأيام أحسن مرة ... إلي لقد عادت لهن ذنوب

إذا فكرت - أطال الله بقاء سيدنا - وضاعف سعادته، وكبت حسدته فيما كان سمح به الزمان من تلك الملاقاة الحلوة، وإن كانت أقل من الحسوة أعظمت قيمة حسناه، ووجدتها أحلى إسعاف وأسناه، ثم فكرت فيما أعقب من الفرقة، وألهب في الصدر من الحرقة، وجدته كمن رجع في المنحة، وطمس الفرحة بالترحة، ولولا تعلة القلب المشجو بالتلاقي المرجو لذاب من اتقاد الشوق، ولقال: شب عمرو عن الطوق، وفي لوامح تلك الألمعية ما يغني عن تبيان تلك الطوية، وكان قد وصل من حضرته أنسها الله تعالى ما أعرب فيه عن كريم عهده، وتباريح وجده، فلم أستبدع العذوبة من ورده، ولا استغربت ما توالى من بره وحسن عهده، وبمقتضى هذه الأوامر والطول المتناصر انعكافي على الشكر، واعترافي بعوارفه الغر، فأما استطلاع ملحة الإعراب المشتبهة بالسراب، فقد آثرت خزائنه - عمرها الله تعالى - بمسودتها على شعب بنيتها، وشوه خلقتها، ولو لم تعرض حادثة العرب، العائقة عن كل أرب، لزففتها كما تزف العروس المقينة، والخطب المزينة، غير أني أرجو أن ترزق حظوة القباح، وألا تجبه بالذم الصراح، ولكتبه - حرس الله نعمته - عندي موقع أنفس التحف، وشكري على التكرم بها شكر من اتشح بها والتحف، وسيدنا أمين الدولة رئيس الحكماء مخدوم بأفضل دعاء، وأطيب ثناء وسلام، ولرأيه - أدام الله نعمته - في الإيعاز بالوقوف على ما شرحته وتمثل ما أوضحته - علوه إن شاء الله تعالى.
نسخة كتاب كتبه ابن الحريري إلى أبي الفتح بن التلميذ قبل اللقاء:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... بني صاعد أهل السيادة والمجد
هم ذكروني والمهامه بيننا ... كما ارفض غيث في تهامة من نجد
لو أخذت في وصف شغفي بمناقب سيدنا - أطال الله بقاءه وأدام علاءه، وحرس نعماءه، وكبت حساده وأعداءه - وما أنا بصدد من مدح سودده، وشرح تطوله وتودده، لكنت بمثابة المغترين، في محاولة عد رمل يبرين، لكنني راج أن أحظى من ألمعيته الثاقبة، وبصيرته الصائبة، بما يمثل له عقيدتي ويطلعه على نخيلة مودتي، وما أملك في مقابلة مفاتحته التي أخلصت له إيجاب الحق وفضيلة السبق، إلا الثناء الذي أتلو صحائفه، والدعاء الذي أقيم في كل وقت وظائفه، والله سبحانه يحسن توفيقي لما يشيد مباني المودة، التي أعتدها أفضل مقاني العدة، ثم إني لفرط اللهج باستملاء فضائله النيرة، واستطلاع محاسنه المسيرة، وأسائل عن خصائصه الركبان، وأطرب بسماعها ولا طرب النشوان. ولما حضر الشيخ الأديب الرئيس أبو القاسم ابن الموذ - أدام الله تمكينه - ألفيته موالياً مغالياً، وداعية إليه وداعياً، فازددت كلفاً بما وعيته منه، وشغفاً بما استوضحته عنه، واستدللت على كمال سيدنا باستخلاص شكر مثله، وتحققت وفور أفضاله وفضله، فافتتحت المكاتبة بتأدية هذه الشهادة، واستمداد سنة المواصلة المعتادة، والتكرمة التي تقتضيها بواعث السيادة، ولرأيه في الوقوف على ما كتبته، والتطول فيه بما توجبه أريحيته، علوه إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى سديد الدولة رسالة صدرها بهذين البيتين:
عندي بشكرك ناطقان فواحد ... آثار طولك واللسان الثاني
ومجال منتك التي أوليتني ... في الشكر أفصح من مجال لساني
وصدر رسالة أخرى إليه بهذه الأبيات:
أهنيك بل نفسي أهني بما سنى ... لك الله من نيل المنى وبما أسنى
شكرت زماني بعد ما كنت عاتباً ... عليه لما أسدى إليك من الحسنى
وأيقنت إذ واتاك أن قد تيقظت ... لإرضاء أهل الأرض مقلته الوسى
ففخراً بما في عظم فخرك شبهه ... ولا لك شبه في الأنام إذا قسنا
جمال الورى مليت تشريفك الذي ... أفاض عليك الصيت والعز والحسنى
ومن عجب أني أهنيك بالذي ... أهني به لكن كذا سن من سنا
وكتب إلى المؤيد أبي إسماعيل الطغرائي يهنئه بولاية الطغرا في سنة تسع وخمسمائة، فأجابه الطغراني بجواب هذا نسخته:
ما الروض أضحكت السحاب ثغوره ... وأفاح أنفاس الصبا منثوره
يوماً بأبهج من كتاب نمنمت ... يمناك يا شرف الكفاة سطوره
وافى إلي فتهت حين رأيته ... تيه الملى إذ رأى منشوره

فلثمته عشراً ولو قبلته ... ألفاً وألفاً لم أوف مهوره
وفضضته عن لؤلؤ ولو أنه ... للسمط زان فصوله وشذوره
وأجلت منه الطرف فيما راقه ... وأتاح للقلب الكئيب سروره
قسماً لأنت الفرد في الفضل الذي ... لولاك أطفأت الجهالة نوره
منك امترى لما ارتضعت لبانه ... وبك ازدهى لما احتلبت شطوره
فاسلم له حتى نجدد ما عفا ... منه وتجبر وهنه وكسوره
واعذر وليك إن تقاصر سعيه ... واغفر له تقصيره وقصوره
وصل من المجلس السامي المؤيدي - ضاعف الله علوه وأضعف عدوه، وأكمل سعوده وأكمد حسوده - كتاب اتسم بالمكرمة الغراء، وابتسم عن التكرمة العذراء فخلته كتاب الأمان من الزمان، وتلقيته كما يتلقى الغنسان صحيفة الغحسان، وقابلت ما أودع من البر والطول المبر، بالشكر الذي هو جهد المقل ونسك المستقل، ووجدت ما ألحف من التجميل وأتحف من الجميل ما كانت أطماعي تتوق إليه، وآمالي تحوم حواليه، إذ ما زلت منذ استمليت وصف المناقب المؤيدية، ورويت خبرها عن الرواية الشريفة الشرفية، أبعث قلمي على ان يفاتح، وأن يكون الرائد لي والماتح، وهو ينكص نكوص الهيوبة، وينكل نكول الهام عن الضريبة، فأكابد لإحجامه الأسى، وأزجي الأيام بلعل وعسى، إلى ان بديت وهديت، وأريت كيف يحي الله من يميت؟ فلم يبق بعد أن أنشط العقال واستدعى المقال، إلا أن أنقل الحشف إلى هجر وأزف الهشيم إلى الشجر، فأصدرت هذه الخدمة المتشحة بالخجل، المرتعشة من الوجل، وأنا معترف بسالف التقصير ومعتذر عنه باللسان القصير، فإن قربت عند الوصول، وقرنت بحظوة القبول، فلذلك الذي كانت تتمنى، وحق لي ولها أن تهنى، وإن ألغيت إلغاء الحوار في الدية، وندد بمفاضحها في الأندية، فما هضمت فيما قوبلت، ولا ظلمت إذ ما قبلت، على أن لكل امرئ ما نوى، وأن تعفوا أقرب للتقوى، وإن كان وضح اجتهادي فيما وقف من الوطر الذي تأكد فيه اعتراض القدر، وانتقاص النظر، فيا بردها على الكبد، ويا بشرى خادمه المجتهد، ثم إن استخدمت بعد في خدمة اجتهدت، وانتهزت فرصة فريضتها ولو جاهدت، وللرأي الشريف في الإمام بتحسين ما يتأمل، وتحقيق ما يؤمل، مزيد السمو إن شاء الله تعالى.
القاسم بن فيرة بن أبي قاسمأبو محمد الرعيني ثم الشاطبي المقرئ، كان فاضلاً في النحو والقراءة، وعلم التفسير، وله لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نظم قصيدة من خمسمائة بيت في كتاب التمهيد لابن عبد البر. وكان شعره صعباً لا يكاد يفهم من ذلك قوله:
يلومونني إذ ما وجدت ملائماً ... ومالي مليم حين سمت الأكارما؟
وقالوا: تعلم للعلوم نفاقها ... بسحر نفاق تستخف العزائما
وهي قصيدة طويلة، وله:
بكى الناس قبلي لا كمثل مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب
وكنا جميعاً ثم شتت شملنا ... تفرق أهواء عراض المواكب
وله قصيدة نظم فيها المقنع لأبي عمرو الداني في خط المصحف، وكان رجلاً صالحاً صدوقاً في القول مجداً في الفعل، ظهرت عليه كرامات الصالحين كسماع الأذان بجامع مصر وقت الزوال من غير مؤذن، ولا يسمع ذلك إلا عباد الله الصالحون، وكان يعذل أصحابه على أشياء لم يطلعوه عليها، وكان مولده في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. ومات رحمه الله يوم الأحد بعد صلاة العصر الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن في مقبرة البيساني بسارية مصر بعد أن أضر. أخذ القراءة عن الشيخين الإمامين أبي الحسن علي بن هذيل، وأبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفري.

قال الشيخ الإمام علم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي تلميذه وشارح قصيدته، وقد وصف دينه وروعه وصلاحه ثم قال: وذكرت له يوماً جامع مصر وقلت له قد قيل: إن الأذان يسمع فيه من غير المؤذنين ولا يدرى ما هو؟ فقال: قد سمعته مراراً لا أحصيها عند الزوال. وقال لي يوماً: جرت بيني وبين الشيطان مخاطبة فقال: فعلت كذا فسأهلكك فقلت له: والله ما أبالي بك. وقال لي يوماً: كنت في طريق وتخلف عني من كان معي وأنا على الدابة، وأقبل اثنان فسبني أحدهما سباً قبيحاً، فأقبلت على الاستعاذة وبقي كذلك إلى ما شاء الله، ثم قال له الآخر: دعه، وفي تلك الحال لحقني من كان معي فأخبرته بذلك، فطلب يميناً وشمالاً فلم يجد أحداً.
وكان رحمه الله يعذل أصحابه في السر على أشياء لا يعلمها منهم إلا الله عز وجل، وكان يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر، لأنه لذكائه لا يظهر منه ما يظهر من الأعمى في حركاته.
القاسم بن عمر بن منصورالواسطي أبو محمد، مولده بواسط العراق في سنة خمسين وخمسمائة في ذي الحجة، ومات بحلب يوم الخميس رابع ربيع الأول سنة ست وعشرين وستمائة، أديب نحوي لغوي فاضل أريب، له تصانيف حسان، ومعرفة بهذا الشأن. قرأ النحو بواسط وبغداد على الشيخ مصدق بن شبيب، واللغة على عميد الرؤساء هبة الله بن أيوب، وقرأ القرآن على الشيخ أبي بكر الباقلاني بواسط، وعلى الشيخ علي بن هياب الجماجي بواسط أيضاً، وسمع كثيراً من كتب اللغة والنحو والحديث على جماعة يطول شرحهم علي، منهم: أبو الفتح محمد بن احمد بن بختيار الماندائي، واحمد بن الحسين بن المبارك بن نغوبا، سمع عليه المقامات عن الحريري، فانتقل من بغداد إلى حلب في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فأقام بها يقرئ العلم ويفيد أهلها نحواً ولغةً وفنون علوم الأدب، وصنف بها عدة تصانيف، وهي على ما أملاه علي هو بباب داره من حاضر حلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة: كتاب شرح اللمع لابن جني، كتاب التصريف الملوكي لابن جني أيضاً، كتاب فعلت أو أفعلت بمعنى على حروف المعجم، كتاب في اللغة لم يتم إلى هذه المدة، كتاب شرح المقامات على حروف المعجم ترتيب العزيزي، كتاب شرح المقامات آخر على ترتيب آخر، كتاب خطب قليلة، كتاب رسالة فيما أخذ على ابن النابلسي الشاعر في قصيدة نظمها في الإمام الناصر لدين الله أبي العباس صلوات الله عليه أولها: الحمد لله على نعمه المتظاهرة، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرة، وبعد: فإنه لما أخرت الفضائل عن الرذائل، وقدمت الأواخر على الأوائل، ونبذ عهد القدماء، وجهل قدر العلماء، وصار عطاء الأموال باعتبار الأحوال لا باختيار الأقوال، وظهر عظيم الإجلال بالأسماء لا بالأفعال، علمت أن الأقدار هي التي تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، فأخملت عند ذلك من ذكري وقدري، وأخفيت من نظمي ونثري، ولأمر ما جدع قصير أنفه ومن شعر فقه:
ومالي إلى العلياء ذنب علمته ... ولا أنا عن كسب المحامد باعد
وقلت: اصبر على كبد الزمان وكده، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده:
فلو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام
إلى أن بلغني ممن يعول عليه، ويرجع في القول إليه عن بعض شعراء هذا الزمان ممن يشار إليه بالبنان، أنه أنشد عنده بيت الوليد، يشهد له بالفصاحة والتجويد وهو قوله:
إذا محاسني اللائي أدل بها ... صارت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟
فقال مقال المفتري: كم قد خرينا على البحتري؟ فصبرت قلبي على أذاته وأغضيت جفني على قذاته حتى ابتدرني بالبادرة، التي يقصر عنها لسان الحادرة، فلو كان النابلسي كابن هانئ الأندلسي، لزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، فيا لله العجب، متى أشرفت الظلمة على الضياء، أو علت الأرض على السماء؟ وأين السها من القمر؟ وكيف يضاهى الغمر بالغمر؟ فإنا لله، وأفوض أمري إلى الله، أفي كل سحاية أراع برعد؟ وفي كل واد بنو سعد:
وإني شقي باللئام ولا ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل
لقد تحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى:
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصا والجنادل

وما ذلك التيه والصلف؟ والتجاوز للحد والسرف، إلا لأنه كلما جر جريراً اعتقد أنه قد جر جريراً، وكلما ركب الكميت ظن انه ارتكب الكميت، وكلما أعظم من غير عظم، وأكرم من غير كرم، شمخ بأنفه وطال، وتطاول إلى ما لن ينال، وزعم أنه قد بلد لبيداً، وعبد عبيداً ولا والله ليس الأمر كما زعم، ولا الشعر كما نظم، ولكنها المكارم السلطانية الملكية الظاهرية التي نوهت بذكره فسترها، ورفعت من قدره فكفرها بقول سأذكره إذا انتهيت إليه. ولما طلب العبد كراعاً فأعطي ذراعاً، خرج على من يعرفه، وبهرج على من يكشفه، فقلت: لا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس:
وما أنا بالغيران من دون جاره ... إذا أنا لم أصبح غيوراً على العلم
وقصدت قصيداً من شعره، يزعم أنها من قلائد دره، قد هذبها في مدة سنين، ومدح بها أمير المؤمنين. وقال فيها:
فانظر لنفسك أي در تنظم؟
فكان لعمري ناظماً غير أنه ... كحاطب ليل فاته منه طائل
فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص؟ ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل؟
وتتبعت ما فيها من غلطاته، وأظهرت ما خفي فيها من سقطاته، ولبست له جلد النمر. واندفقت عليه كالسيل المنهمر. بعد ان كتبها بخطه. وزينها بإعرابه وضبطه:
وابن اللبون إذا مالز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
فوجدته قد أخطأ منها في واحد وعشرين مكاناً، عدم فيها تمكناً من العلم وإمكاناً، فمنها ستة عشر موضعاً توضحها الكتابة والنظر، ومنها خمسة توضحها المجادلة والنظر فهذا من جيد مختاره وما يظهر على اختياره. وإن وقع إلى شيء من مزوق شعره أو منوق مستعاره، لأعصبنه فيه عصب السلمة، ولأعذبنه تعذيب الظلمة:
فإن قلتم: إنا ظلمنا فلم نكن ... بدأنا ولكنا أسأنا التقاضيا
ولو أنه اقتصر على قصوره، وأنفق من ميسوره، وستر عواره ولم يبد شواره لطويته على غره، ولم أنبه على عاره وعره فإن من سلك الجدد أمن العثار وسلم من سالم النقع المثار، ولكن كان كالباحث عن حتفه بظلفه، فلحق بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وخطؤه في هذه القصيدة ينقسم قسمين: قسم فاته فيه أدب الدرس، فيقسم أيضاً قسمين: قسم لغوي، وقسم صناعي، فأما القسم اللغوي: فإنه كذا وكذا لم يحتمل هذا المختصر ذكره. وأنشدني لنفسه من قصيدة:
ديباج وجهك بالعذار مطرز ... برزت محاسنه وأنت مبرز
وبدت على غصن الصبا لك روضة ... والغصن ينبت في الرياض ويغرز
وجنت على وجنات خدك حمرة ... خجل الشقيق بها وحار القرمز
لو كنت مدعياً نبوة يوسف ... لقضى القياس بأن حسنك معجز
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
زهر الحسن فوق زهر الرياض ... منه للغصن حمرة في بياض
قد حمى ورده ونرجسه الغض ... ض سيوف من الجفون مواض
فإذا ما اجتنيت باللحظ فاحذر ... ما جنت صحة العيون المراض
فلها في القلوب فتكة باغ ... رويت عنه فتكة البراض
وإذا فوقت سهاماً من الهد ... ب رمين السهام بالأغراض
واغتنم بهجة الزمان وبادر ... شمس أيامه الطوال العراض
بشموس الكئوس تحت نجوم ... في طلوع من أفقها وانقضاض
واجل من جوهر الدنان عروساً ... نطقت عن جواهر الأعراض
كلما أبرزت أرتك لها وج ... ه انبساط يعطيك وجه انقباض
فعلى الأفق للغمام ملاء ... طرزتها البروق بالإيماض
وكأن الرعود إرزام نوق ... فصلت دونها بنات المخاض
أو صهيل الجياد للملك الظ ... ظاهر تسري بالجحفل النهاض
وأنشدني لنفسه يهجو ابن النابلسي المذكور:
لا تعجبن لمدلوي ... ه إذا بدا شبه المريض
قد ذاب من بخر بفي ... ه بدا من الخلق البغيض
وتكسرت أسنانه ... بالعض في جعس القريض
وتقطعت أنفاسه ... عرضاً بتقطيع العروض

وأنشدني لنفسه يهجو ابن النابلسي المذكور:
يا من تأمل مدلوي ... ه وشك فيما يسقمه
أنظر إلى بخر بفي ... ه وما أظنك تفهمه
ولا تحسبن بأنه ... نفس يغيره فمه
لكنما أنفاسه ... نتنت بشعر ينظمه
وأنشدنا لنفسه في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة بحلب:
أرى بغضي على الجهلاء داء ... يموت ببغضه القلب العليل
فهم موتى النفوس بغير دفن ... وأحياء عزيزهم ذليل
يغطون السماء بكل كف ... لها في الطول تصير طويل
ويبدون الطلاقة. من وجوه ... كما يبدو لك الحجر الصقيل
إذا قاموا لمجد أقعدتهم ... مسالك ما لهم فيها سبيل
وإن طلبوا الصعود فمستحيل ... وإن لزموا النزول فما يزول
كذاك السجل في الدولاب يعلو ... صعوداً والصعود له نزول
وأنشدنا لنفسه بالتاريخ:
لنا صديق به انقباض ... ونحن بالبسط نستلذ
لا يعرف الفتح في يديه ... إلا إذا ما أتاه أخذ
فكفه كيف حين يعطي ... شيئاً وبعد العطاء منذ
وأنشدني لنفسه أيضاً:
لا ترد من خيار دهرك خيراً ... فبعيد من السراب الشراب
رونق كالحباب يعلو على الكا ... س ولكن تحت الحباب الحباب
عذبت في النفاق ألسنة القو ... م وفي الألسن العذاب العذاب
وأنشدني لنفسه أيضاً موشحة على طريقة المغاربة:
في زهرة وطيب ... بستاني من أوجه ملاح
أجلو على القضيب ... ريحاني والورد والأقاح
ما روضة الربيع ... في حلة الكمال
تزهو على ربيع ... مرت به الشمال
في الحسن كالبديع ... بالحسن والجمال
ناهيك من حبيب ... نشوان بالدل وهو صاح
إن قلت وا لهيبي ... حياني من ثغره براح
كم بت والكئوس ... تجلى من الدنان
كأنها عروس ... زفت من الجنان
تبدو لنا الشموس ... منها على البنان
لم أخش من رقيب ... ينهاني ألهو إلى الصباح
من شادن ربيب ... فتان زندي له وشاح
خيل الصبا بركضي ... تجري مع الغواه
في سنتي وفرضي ... لا أبتغي سواه
وحجتي لعرضي ... ما تنقل الرواه
عن عاقل لبيب ... أفتاني أن الهوى مباح
والرشف من شنيب ... ريان ما فيه من جناح
وأنشدني لنفسه أيضاً موشحة:
أي عنبرية ... في غلائل الغلس
من زبرجديه ... تنبه النعس
جادها الغمام ... فانتشى بها الزهر
وابتدا الكمام ... أعيناً بها سهر
وشدا الحمام ... حين صفق النهر
وارتدت عشيه ... كملابس العرس
حللا سنيه ... ما دنت من الدنس
واملإ الكئوسا ... فضة على الذهب
واجلها عروساً ... توجت من الشهب
تطلع الشموسا ... في سناً من اللهب
فلها مزيه ... في الدجى على القبس
بحلىً شهيه ... كمحاسن اللعس
مخبر سناها ... عن تطاير الشرر
فاز من جناها ... من قلائد الدرر
فإن تناهى ... في الخلائق الغرر
قلت ظهريه ... أظهرت لملتمس
من علا أبيه ... ما تنال بالخلس
وأنشدني لنفسه أيضاً:
لا خير في أوجه صباح ... تسفر عن أنفس قباح
كالجرح يبني على فساد ... بظاهر ظاهر الصلاح

فقل لمن ما له مصون ... أصبت في عرضك المباح
وأنشدني أيضاً لنفسه:
جد الصبا في أباطيل الهوى لعب ... وراحة اللهو في حكم النهي تعب
وأقرب الناس من مجد يؤثله ... من أبعدته مرامي العزم والطلب
وقادها كظلام الليل حاملة ... أهلة طلعت من بينها الشهب
منقضة من سماء النقع في أفق ... شيطانه بغمام الدرع محتجب
واسود وجه الضحى مما أثار به ... وأشرق الأبيضان الوجه والنسب
في موقف يسلب الأرواح سالبها ... حيث المواضي قواض والقنا سلب
لا يرهب المرء ما لم تبد سطوته ... لو لا السنان استوى الخطي القصب
إن النهوض إلى العلياء مكرمة ... لها التذاذان مشهود ومرتقب
والملك صنفان محصول وملتمس ... والمجد نوعان موروث ومكتسب
والناس ضدان مرزوق ومحترم ... تحت الخمول ومغصوب ومغتصب
والطاهر النفس لا ترضيه مرتبة ... في الأرض إلا إذا انحطت لها الرتب
والفضل كسب فمن يقعد به نسب ... ينهض به الأفضلان العلم والحسب
لله در المساعي ما استدر بها ... خلف السيادة إلا أمكن الحلب
وحبذا همة في العزم ما انتدبت ... لمبهم الخطب إلا زالت الحجب
وموطن يستفاد العز منه كما ... أفادت العز من سلطانها حلب
ومنها:
مؤيد الرأي والرايات قد ألفت ... ذوائب القوم من راياتها العذب
إن نازلوه وقد حق النزال فمن ... أنصاره الخاذلان الجبن والرعب
أو كاتبوه فخيل من كتائبه ... تجيب لا المخبران الرسل والكتب
مغاور ينهب الأعمار ذابله ... في غارة الحرب والأموال تنتهب
في جحفل قابلوا شمس النهار على ... مثل البحار بمثل الموج يضطرب
حتى كأن شعاع الشمس بينهم ... فوق الدروع على غدرانها لهب
ما أنكر الهام من أسيافه ظبة ... وإنما أنكرت أسيافه القرب
ما يدفع الخطب إلا كل مندفع ... في مدحه الأفصحان الشعر والخطب
ومن إذا ما انتمى في يوم مفتخر ... أطاعه العاصيان العجم والعرب
وأنشدني من قصيدة لنفسه أيضاً:
أفي البان إن بان الخليط مخبر؟ ... عسى ما انطوى من عهد لمياء ينشر
فكم حركات في اعتدال سكونها ... أحاديث يرويها النسيم المعطر
يود ظلام الليل وهو ممسك ... لذاذتها والصبح وهو مزعفر
أحاديث لو أن النجوم تمتعت ... بأسرارها لم تدر كيف تغور؟
يموت بها داء الهوى وهو قاتل ... ويحيا بها ميت الجوى وهو مقبر
فيا لنسيم صحتي في اعتلاله ... وصحوي إذا ما مر بي وهو مسكر
كأن به مشمولة بابلية ... صفت وهي من غصن الشمائل تعصر
إذا نشأت مالت بلبك نشوة ... كما مال مهزور يماح ويمطر
وقال يمدح الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبا الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القفطي من صعيد مصر ويلتمس منه أن يرتبه في خدمة:
يا سيدي قد رميت من زمني ... بحادث ضاق عنه محتملي
وأنت في رتبة إذا نظرت ... إلي صار الزمان من قبلي
والنظم والنثر قد أجدتهما ... فيك فلا تترك الإجادة لي
فداك قوم إذا وقفت بهم ... رأيتني راقفاً على طلل
تشغل أموالهم مساعيهم ... فهم عن المكرمات في شغل
تحمي حماها أعراضهم فإذا ... ماتت حماها سور من البخل
معاول الذم فيه عاملة ... إعمالها في مغائر الجبل
نعلك تاج إذا رفعتهم ... لرأس حاف منهم ومنتعل
فاسمع حديثي في مغازلة ... تبث شكوى في موضع الغزل
قد كنت في راحة مكملة ... أحيي المعالي بميت الأمل

أرفل في عزة القناعة في ... ذيل على النائبات منسدل
فعند ما طالت البطالة بي ... وصار لي حاجة إلى العمل
قال أناس نبه لها عمراً ... فقلت حسبي رأي الوزير علي
يعني عمر بن الوبار أحد حجاب أتابك طغرل شهاب الدين الخادم المستولي في أيامنا على حلب وقلعتها:
قد بت من وعده على ثقة ... أمنت في حليها من العطل
فالأكرم ابن الكرام لو سبقت ... وعوده بالشباب لم يحل
يفر من وعده المطال كما ... تفر آراؤه من الزلل
أخلاقه حلوة المذاق فلو ... شبهتها ما ارتضيت بالعسل
تنظم دراً على الطروس كما ... ينظم در الحلي في الحلل
بمنطق لو سرت فصاحته ... في اللكن لاستعصمت من الخطل
تمج أحلافه إذا كتبت ... ماء المنى من أسنة الأسل
وإن سطت في ملمة نسيت ... صفين منها ووقعة الجمل
مبين علمه لسائله ... مسائلاً أشكلت على الأول
لكل علم في بابه علم ... يهدي إلى قبلة من القبل
أي جمال ما فيه أجمله ... على وجوه التفصيل والجمل؟
جل الذي أظهرت بدائعه ... منه معاني الرجال في رجل
القاسم بن محمد بن بشار الأنباريأبو محمد والد أبي بكر محمد بن الأنباري، كان محدثاً أخبارياً، ثقة صاحب عربية، أخذ عن سلمة بن عاصم وأبي عكرمة الضبي، مات سنة أربع وثلاثمائة غرة ذي القعدة، وقال ثابت بن سنان: مات في صفر سنة خمس وثلاثمائة ومن خطه نقلت: قال محمد بن إسحاق: وله من التصانيف: كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، كتاب الأمثال، كتاب المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب غريب الحديث، كتاب شرح السبع الطوال، رواها أبو غالب بن بشران عن علي بن كردان عن أبي بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز عن أبي بكر عن أبيه.
ومما يروى لابن الأنباري هذا:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
ألغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
الله يعطي وهو يمنع قادراً ... فمن المنجم ويحه والكوكب؟
قرأت في كتاب الفهرست الذي تممه الوزير الكامل أبو القاسم المغربي ولم أجد هذا في النسخة التي بخط المصنف، أو قد ذهب عن ذكرى قال: ذكر أبو عمر الزاهد قال: أخبرني أبو محمد الأنباري قال: قدمت إلى بغداد ومحمد صغير وليس لي دار، فبعث بي ثعلب إلى قوم يقال لهم بنو بدر فأعطوني شيئاً لا يكفيني وذكروا كتاب العين فقلت: عندي كتاب العين، فقالوا لي: بكم تبيعه؟ فقلت بخمسين ديناراً، فقالوا لي قد أخذناه بما قلت إن قال ثعلب إنه للخليل، قلت: فإن لم يقل إنه للخليل بكم تأخذونه؟ قالوا بعشرين ديناراً، فأتيت أبا العباس من فوري فقلت له: يا سيدي، هب لي خمسين ديناراً. فقال لي: أنت مجنون، وهذا تأكيد، فقلت له: لست أريد من مالك وحدثه الحديث، قال: فأكذب؟ قلت حاشاك، ولكن أنت أخبرتنا أن الخليل فرغ من باب العين ثم مات، فإذا حضرنا بين يديك للحكومة فضع يدك على ما لا تشك فيه. فقال: تريد أن أنجش لك؟ قلت نعم، قال هاتهم، فبكروا وسبقوني، وحضرت فأخرجوا الكتاب وناولوه وقالوا: هذا للخليل أم لا؟ ففتح حتى توسط باب العين وقال: هذا كلام الخليل ثلاثاً، قال: فأخذت خمسين ديناراً.
القاسم بن محمد الديمرتيأبومحمد الأصبهاني من قرية من قراها يقال لها ديمرت، روى عن إبراهيم بن متونة الأصبهاني، وقال حمزة: أبو محمد القاسم الديمرتي لغوي نحوي، عني في صغره بتصحيح كتب وقراءاتها، ثم هو منتصب منذ أربعين سنة تقرأ عليه الكتب.
وحدث أبو نصر منصور بن أحمد بن محمد بن الشيرازي خازن كتب عضد الدولة ومعلم ولده صمصام الدولة وقاضي فارس وأعمالها: قال: أنشدنا أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي لنفسه وقد سئل أن يجمع الشعراء العشرة:
الأصل أن تحكم شعر العشرة ... أشعار قوم في زمان لم تره
أشعار بشر ولبيد وعدي ... نعم والأعشى وعبيد الأسدي
حتى إذا أحكمت شعر النابغة:.......

فابتد في شعر امرئ القيس ... فالفخر في ذاك وشعر أوس
وابتدر القوم وفيهم طرفه ... وكل ما قال زهير في صفه
قال المؤلف: وهذا شعر هذا العلامة كما ترى في غاية الركاكة والرداءة، ولم يستطع تصريع البيت الذي فيه ذكر النابغة.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب تقويم الألسنة، كتاب العارض في الكامل، كتاب تفسير الحماسة، كتاب غريب الحديث، كتاب الإبانة.
قال حمزة: وله كتب كبار وصغار، فمن كبار كتبه: كتاب الصفات، كتاب تفسير ضروب المنطق، كتاب سماه كتاب تهذيب الطبع يشتمل على قطعة كبيرة من نوادر اللغة. ذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان فقال: القاسم بن محمد الديمرتي الأديب أبو محمد روى عن إبراهيم بن متونة، وإسحاق بن جميل، ومحمد بن سهل بن الصباح.
الجزء السابع عشر
القاسم بن محمد بن رمضانأبو الجود النحوي العجلاني: كان في عصر أبي الفتح بن جني وفي طبقته وهو بصري. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب المختصر للمتعلمين، كتاب المقصود والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الفرق.
القاسم بن محمد بن الواسطيمباشر الواسطي أبو نصر النحوي، لقي ببغداد أصحاب أبي العلي، وتنقل في البلاد حتى نزل مصر فاستوطنها فقرأ عليه أهلها، وأخذ عنه أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ وبه تخرج، وزوجه من أخته، وكان ابن بابشاذ يخدمه وبه انتفع، ومات بمصر. وله من الكتب: كتاب شرح اللمع، كتاب في النحو رتبه على أبواب الجمل، وشرح من كل باب مسألة.
القاسم بن معن المسعوديهو أبو عبد القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن غافل ابن حبيب بن شمخ بن فاد مخزوم بن صاهلة بن كاهل ابن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من أهل الكوفة، وكان فقيهاً على رأي أبي حنيفة ولقيه، وكان عالماً ولي القضاء بالكوفة ومات سنة خمس وسبعين ومائة، خرج مع بعض أسباب الرشيد إلى الرقة فمات في رأس عين.
وقال أحمد بن كامل القاضي: مات القاسم بن معن في سنة ثمان وثمانين ومائة. قال المرزباني: والأول أصح. وقال عبد الله بن جعفر: من علماء الكوفة بالعربية والفقه والشعر والأخبار والنسب، القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فقيهاً محدثاً قاضياً، وله في اللغة: كتاب النوادر، كتاب غريب المصنف، وكتب في النحو، ومذهب متروك. وكان الليث بن المظفر صاحب الخليل بن أحمد من أخذ عنه النحو واللغة وروى عنه، وأدخل في كتاب الخليل من علم القوم شيئاً فأفسد الكتاب، إلا أن القاسم من المحدثين والفقهاء والزهاد والثقات، ولم يكن له بالكوفة في عصره نظير ولا أحد يخالفه في شيء يقوله، والفراء كثير الرواية عنه.
وحدث محمد بن سعد قال: القاسم بن معن يكنى أبا عبد الله ولي قضاء الكوفة ولم يرزق عليه شيئاً حتى مات، وكان عالماً بالحديث والفقه والشعر والنسب وأيام الناس، وكان يقال له شعبي زمانه، وكان ثقةً سخياً.
وقال أحمد بن كامل: كان القاسم بن معن الهذلي قاضي الكوفة، وكان من أصحاب أبي حنيفة الأثبات في النقل، الرفعاء في اللغة والفقه.
وحدث حماد بن إسحاق الموصلي قال: سمعت محمد بن كناسة قال: سمعت القاسم بن معن يقول: دخلت على عيسى بن موسى فقال لي: ما بعثت إليك إلا لخير. قال: فهان والله في عيني حتى جلست واحتبيت في مجلسه. فقال لي تحتبي في مجلسي؟ يا غلام حل حبوته. قال: قلت لا عدمت نقويم الأمير. قال: بعثت إليك لأوليك القضاء. قلت: لا أفعل. قال: إن أبيت ضربتك خمسة وسبعين سوطاً. قال: قلت لا يجيء من بعد السبعين. قال قلت: وإن لم أفعل فعلت؟ قال نعم. قالقلت فذا إلي.

وحدث الهيثم بن عدي قال: استقضي المنصور على الكوفة بعد عبد الرحمن بن أبي ليلى، شريك بن عبد الله النخعي فلم يزل قاضياً حتى كانت خلافة الرشيد فاستقضى نوح بن دراج. وحدث المرزباني عن علي بن صالح عن القاسم ابن معن قال: عدت خشافاً في مرضه الذي مات فيه فقال لي: يا أبا عبد الله، ما أشوقني إليك! ولو كان لي نهوض خرجت إليك، ولولا أن بيتي قد آلى فأكرس لأحببت أن تدخله - يريد بالموالاة البعر بعر الشاء، وأكرس من الكرس هو السرجين - . قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً
وكان خشاف من علماء أهل الكوفة باللغة. وحدث عن سليمان بن أبي شيخ قال: قال ابن حبيبات الكوفي للقاسم بن معن المسعودي القاضي:
يا أيها العادل الموفق وال ... قاسم بين الأرامل الصدقه
ماذا ترى في عجائز رزح ... أمسين يشكين قلة النفقه؟
ما إن لهن الغداة من نشب ... يعرف إلا قطيفة خلقه
بنات تسعين قد خرفن فما ... يفصلن بين الشواء والمرقة
فهن لولا انتظارهن دنا ... نيرك قطعن بعد في السرقه
قال: فقال القاسم: العجب أنه يوجب علينا دنانير ولا يوجب دراهم. قال وأعطاه ثلاثة دنانير.
قتادة بن دعامة السدوسيأبو الخطابي وكان أكمة ولد أعمى، وكان أبوه أعرابياً ولد بالبادية وأمه سرية من مولدات الأعراب، وكان يقول بشيء من القدر ثم رجع عنه. ويقال أيضاً: إنه كان ذا علم في القرآن والحديث والفقه.
قال الأصمعي: وقتادة حاطب ليل من الطبقة الثالثة من النابغين بالبصرة، مات بالبصرة سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وأخذ القراءة عن الحسن البصري وابن سيرين. عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ما كنا نفقد في كل أيام راكباً من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة يسأله عن خبر أن نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس. ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي عن محمد بن سلام الجمحي عن عامر بن عبد الملك المسمعي قال: لقد كان الرجلان من بني مروان يختلفان في بيت شعر فيرسلان راكباً إلى قتادة يسأله قال: ولقد قدم عليه رجل من عند بعض الخلفاء من بني مروان فقال لقتادة: من قتل عمراً وعامراً؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال: فشخص بها ثم عاد إليه فقال: أجل، قتلهما جحدر ولكن كيف قتلهما جميعاً؟ فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان وهذا بالزج، فعادى بينهما.
قال أبو يحيى الساجي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي مولاي عن خالد بن قيس قال: قال قتادة: ما نسيت شيئاً قط ثم قال: يا غلام ناولني نعلي، قال: نعلك في رجلك.
قثم بن طلحة بن علي بن محمدبن علي ابن الحسن، الزينبي أبو القاسم، يعرف بابن الأتقى، وهو لقب أبيه طلحة، تولى قثم نقابة العباسيين مرتين: أولاهما في أيام المستضيء بأمر الله في سنة ست وستين وخمسمائة، وعزل في ذي الحجة سنة ثمان وستين. والثانية في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في أيام الناصر، وعزل في سابع عشر ذي الحجة تسعين، وولي بعد ذلك حجابة باب النوبي يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة سنة ستمائة، فوقعت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج والمأمونية فركب ليسكن الفتنة فلم تسكن، فأخذ بيده حربة وحمل على إحدى الطائفتين ونادة يا لهاشم، وتداركه الشحنة حتى سكنت الفتنة، فعيب عليه وقيل: أردت خرق الهيبة، لو ضربك أحد العوام فقتلك، فعزل عن حجبه الباب في ثالث عشر من شهر رمضان سنة إحدى وستمائة ولم يستخدم بعد ذلك.
وكان فيه فضل وتميز ومعرفة بالعلم وحرص عليه جداً، خصوصاُ ما يتعلق بالأنساب والأخبار والأشعار، وجمع في ذلك جموعاً بأيدي الناس، وكتب الكثير بخطه المليح إلا أن خطه لا يخلو من السقط مع ذلك، وسمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن عبد الرحمن الغزي، وأبي بكر أحمد بن المقرب الكرخي، وأبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان وغيرهم. وسئل عن مولده فقال: في سابع محرم سنة خمسين وخمسمائة، ومات في سادس رجب سنة سبع وستمائة.
قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتبأبو الفرج، كان نصرانياً وأسلم على يد المكتفي بالله، وكان أحد البلغاء الفصحاء، والفلاسفة الفضلاء، وممن يشار إليه في علم المنطق، وكان أبوه جعفر ممن لا يفكر فيه ولا علم عنده.

وذكر أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه: قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له كتاب في الخراج وصناعة الكتابة، وقد سأل ثعلباً عن أشياء. مات في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة في أيام المطيع، وأنا لا أعتمد على ما تفرد به ابن الجوزي لأنه عندي كثير التخليط، ولكن آخر ما علمنا من أمر قدامة أن أبا حيان ذكر أنه حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى المنطقي في سنة عشرين وثلاثمائة. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب الخراج تسع منازل، كان ثمانية منازل فأضاف إليه تاسعاً، كتاب نقد الشعر، كتاب صابون الغم، كتاب صرف الهم، كتاب جلاء الحزن، كتاب درياق الفكر، كتاب السياسة، كتاب الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام، كتاب حشوحشاء الجليس، كتاب صناعة الجدل كتاب الرسالة في أبي علي بن مقلة وتعرف بالنجم الثاقب، كتاب نزهة القلوب وزاد المسافر، كتاب زهر الربيع في الأخبار.
وبلغني عن بعض متعاطي علم الأدب أنه شرح كتاب المقامات الحريرية فقال عند قوله: ولو أوتي بلاغة قدامة. إن قدامة بن جعفر كان كاتباً لبني بويه، وجهل في هذا القول فإن قدامة كان أقدم عهداً. أدرك زمن ثعلب والمبرد وأبي سعد السكري وابن قتيبة وطبقتهم، والأدب يومئذ طرئ فقرأ واجتهد، وبرع في صناعتي البلاغة والحساب، وقرأ صدراً صالحاً من المنطق وهو لائح على ديباجة تصانيفه، وإن كان المنطق في ذلك العصر لم يتحرر تحريره الآن، واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر، وصنف في ذلك كتباً منها: كتاب نقد الشهر له وقد تعرض ابن بشر الآمدي إلى الرد عليه فيه، وله كتاب في الخراج رتبه مراتب. وأتى فيه بكل ما يحتاج الكاتب إليه، وهو من الكتب الحسان إلى غير ذلك من الكتب، ولم يزل يتردد في أوساط الخدم الديوانية بدار السلام إلى سنة سبع وتسعين ومائتين، فإن الوزير أبا الحسن ابن الفرات لما توفي أخوه أبو عبد الله جعفر بن محمد بن الفرات في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة سبع وتسعين ومائتين، وكان أسن من أخيه أبي الحسن بن محمد الوزير بثلاث سنين، رد ما كان إليه من الديوان المعروف بمجلس الجماعة إلى ولده أبي الفتح الفضل بن جعفر وإليه ديوان المشرق، ثم ظهر له بعد ذلك اختلال من النواب فولاه لولده أبي أحمد المحسن، واستخلف المحسن عليه القاسم بن ثابت، وجعل قدامة بن جعفر يتولى مجلس الزمام في هذا الديوان، وبانت عند صناعة المحسن، وأثار من جهة العمال أموالاً جليلة.
قعنب بن المحرر الباهلي أبو عمروالرواية من أهل البصرة المكثرين، وكان أو هفان يتردد إليه فأخذ عنه ثم وجد عليه فهجاه. حدث قعنب قال: دخلت على سعيد بن سلم الباهلي وهو يضحك فسألته عن سبب ذلك فقال: جاءتني جارية ليست عندي كغيرها فغمزتني فانتشرت فقلت: ادعي لي فلانة لجارية كنت أهواها، فقالت لا والله، فقلت: ولم؟ قالت لأنك تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً مواتاً فهي له). وقد أحييت أنا هذا فهو لي فواقعتها وما كنت فعلت ذلك قبل، وقربت من قلبي.
وحدث أبو العيناء قال: كان قعنب الباهلي قد تعشق فتى من فتيان المهالبة واتصل بأبيه وبخادم له ثم نذر به. فدعاه الفتى وقد جمع له عدة من المهالبة ومواليهم إلى بستان له فأكلوا وشربوا، ثم حملهم على قعنب فهتكوا ستره. فقال أبو العالية الشامي:
نبئت أن المرء قعنب ... دمرت عليه بنو المهلب
بأسنة تدع الكمي ... ي وأنفه دام مترب
فتجلت الغمى وكل ... ل سلاحهم بدم مخضب
قال أبو العيناء: فحدث بهذا الحديث الأصمعي بحضرتي، فذهبت أذب عن قعنب تقرباً إلى الأصمعي للباهلية بينهما. فقال الأصمعي: أسكت يا بني، فقد بلعني أنه لقي بكمر ككيزان الفقاع عندها إرزاز. وقال عبد الصمد بن المعذل في قعنب:
أراك الله يا دلفاء ما قد ... لقيه قعنب يوم الهنيه
غدا يبغي النكاح فعاد فيه ... أيور كالعصى مهلبيه
تشقق دبره ويقول هذا ... جزاء ذوي التلوط بالنشيه

وحدث عمر بن محمد الفقيه قال: سمعت محمد بن عثمان ابن أبي شبيبة يقول: سمعت عمي القاسم بن أبي شبيبة يعاتب قعنب بن المحرر في شربه النبيذ ويقول له: قد كبرت وشخت فلو تركته. فقال له قعنب: يا أبا محمد لم تجد وقتاً تعاتبني فيه إلا أيام الورد
قنبل بن عبد الرحمنبن محمد بن خالد ابن سعيد بن جرجة المكي. قال أبو علي الأهوازي: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد العجلي المقرئ بالبصرة يقول: هو أبو عمر قنبل بن عبد الرحمن، وقنبل لقب غلب عليه، وإنما سمي بذلك لأنه كان يستعمل دواء يقال له قنبيل يسقى للبقر معروف عند العطارين لمرض كان به فسمى بذلك. وقيل: بل هو من قوم يقال لهم القنابلة من أهل مكة، ولو كان كذلك لقيل له قنبلي. مات سنة إحدى وتسعين ومائتين في أيام المكتفي عن ست وتسعين سنة، لأن مولده في سنة خمس وتسعين ومائة في أيام الأمين، وكان قد قطع الإقراء قبل موته بعشر سنين. قرأ على عبد الله ابن كثير وكان من جلة أصحابه، ومن جهته انتشرت قراءته، وكان قنبل يلي الشرطة بمكة، وكان لا يليها إلا أهل العلم والفضل لتقوم بواجباتها، وكان ابن مجاهد يزعم أنه قرأ عليه، وكان ابن شنبوذ يدفع ذلك، وكان ابن مجاهد يقول: قرأت على قنبل ولا يقول قرأت القرآن من أوله إلى آخره عليه.
حدث ابن طرادة الحلواني قال: سألت أبا الحسين بن المنادي وقلت له: إن ابن مجاهد يزعم أنه قرأ على قنبل وابن شنبوذ في سنة واحدة في سنة تسع وسبعين ومائتين، ونحن على نية القراءة على قنبل فوجدناه قد اختل واضطرب وخلط في القراءات، فأما أنا فلم أقرأ عليه ولا حرفاً واحداً، وأما ابن مجاهد فإنه قرأ عليه بعض القرآن فخلط عليه فترك القراءة وأخرج له تعليق ابن عون الواسطي عنه، وكان معه فقرأه عليه إلى آخره، وأما ابن شنبوذ فإنه جاور سنتين بمكة وقرأ عليه ختمتين. فقول ابن مجاهد قرأت عليه يصدق، يعني بعض القرآن، وقول ابن شنبوذ لم يقرأ عليه يصدق يعني القرآن كله لم يقرأه عليه.
باب الكاف
كامل بن الفتحابن ثابت بن سابور أبو تمام الضرير من أهل بادرايا سكن بغداد، وكان أديباً فاضلاً ذكياً جداً، قرأ فنون العلم وحفظ الأشعار والأخبار، وأخذ أهل الأدب ببغداد عنه علماً كثيراً وكان متهماُ في دينه. مات سنة ست وتسعين وخمسمائة، وكان يسكن باب الأزج، وصاهر بني زهمويه الكتاب وله ترسل وشعر، وقد سمع شيئاً من الحديث من أبي الفتح علي بن علي زهموية، وقيل إنه كان يدخل على الناصر ويحاضره ويخلو معه، وأنه علمه علم الأوائل وهون عليه الشرائع والله أعلم. ومن شعره:
وفي الأوانس من بغداد آنسة ... لها من القلب ما تهوى وتختار
ساومتها نفثة من ريقها بدمي ... وليس إلا خفي الطرف سمسار
عند العذول اعتراضات ولائمة ... وعند قلبي جوابات وأعذار
كلاب بن حمزة العقيليأبو الهيذام اللغوي قال محمد بن إسحاق النديم: هو من أهل حران أقام بالباديه، وقيل: إنه كان معلماً ودخل الحضرة أيام القاسم بن عبيد الله بن سليمان ومدحه، وكان عالماً بالشعر وخطه معروف وخلط المذهبين، وكان أبو الحسين محمد ابن محمد بن لنكك البصري الشاعر مولعاُ بهجوه، وكان أبو الهيذام قد ورد البصرة. فمن قول ابن لنكك فيه:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذى ... إني بكل الذي ترضاه لي راضي
ما بال جعسك مركوماً على ذكري ... يا أكرم الناس من باق ومن ماضي
ما كان أيرى فقيهاً إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنية القاضي؟
ووجدت بخط أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري للغوي ما صورته:
مسطح أصدر عكلا وله ... ضغث تشجذ قيظ بن فخز
هذا البيت لأبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي جمع فيه حروف المعجم، فجعل ما لا ينقط في الصدر وما ينقط في العجز، أنشدنيه جماعة من أهل العلم منهم: أبو الحسن علي بن الحسين الآمدي النحوي - رحمه الله - .
وذكره المرزباني في كتاب المعجم فقال: أبو الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي محدث، وهو القائل يرثي أبا أحمد يحيى بن علي المنجم، ومات سنة ثلاثمائة من قصيدة:
لقد عاش يحيى وهو محمود عيشة ... ومات فقيداً واحد العلم والجود

فإن كان صرف الدهر خلى كنوزه ... وأفقدنا منه بأنفس مفقود
فما زال حكم البيض والسود نافذاً ... بحكم الردى في أنفس البيض والسود
فللثكل يرجى حملها كل حامل ... وللموت يغذو والد كل مولود
قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب: كتاب جامع النحو، كتاب الأراكة، كتاب ما يلحن فيه العامة.
وأنشد الخالدي في كتاب الديرة لأبي الهيذام:
سقياً لحران إنه بلد ... أصبح للهو وهو مضمار
بقيعة سجسج تخرقها ... ومن حواشي الرياض أنهار
يشرع فيه من الصنوبر وال ... عرعر والزورفين أشجار
في يوم باعوثهم وقد نشروا الص ... صلبان والمسلمون نظار
فمن مهاة هناك هبلة ... ومن غزال عليه زنار
أزحم هذا وتلك تزحمني ... وفي الحشا والفؤاد إسعار
فعارضتني هناك شاطرة ... منهم بها في الذراع أسوار
تقول لي والدلال يصرعها ... أنحن يا مسلمون كفار؟
فقلت: يا غايتي ويا أملي ... بل أنتم المؤمنون أخيار
أطلب منها بذاك تقربة ... والشعراء الخباث فجار
فرق لي قلبها وملت بها ... في ديرزكي ونعمت الدار
تقول لي عند وقت منصرفي ... إنك من بعدها لغدار
حللت عقد الأمان منك لنا ... فما لعقد لديك إمرار
لا أنس يومي من الفتاة لدي الدي ... رين والمشركون حضار
فقلت: قد كان ذاك عن خطأ ... لا قود عندنا ولا ثار
استغفر الله ثم أسأله التو ... ب فليس بالذنوب إقرار
قرأت في جزازة عتيقة أملاها أبو الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي ما صورته: قال أبو الهيذام: كتبت إلى أبي الحسن محمد بن عبد الوهاب الزينبي الهاشمي بالبصرة بما توهم أنه مديح له وهو:
إسلم على الدهر يا أبا الحسن ... وعش على ما تود ألف سنه
فأنت عندي حليف ضد سوى ... غير حليف الشمائل الحسنة
وأنت سلم لحرب سلم عدى ... حرب عداة اللئام والخونه
يعجب منك الكرام أعجب ما ... يدعو به الله عاقل فتنه
فهو يرى فرقة الفراق لما ... يخشى من الخير غاية الأمنه
إذا بنور الهدى توسم أع ... راض معاريض دهره الدرنه
كم سائل عنك يا محمد لا ... يأذن خلق لجابتي أذنه
ألقيت في روعه جواب فتى ... لو غبن عاقلاً غبنه
إن قلت شروى أبي حسن ... للعرض بالمال أصون الصونه
سنته غرة وناصية للز ... زينبيين فاجتنب سننه
لا سيما وهو قلقل ذهن ... يهرب من رجم ذهنه الشطنه
قد كان بالأمس قال لي وجرى ... ذكر شقي حرمته وسنه
بعداً وسحقاً لمن يشرف بال ... مدح ولم يعط شاعراُ ثمنه
وكيف تحتال فيه إن خزن الن ... نذل وأعطاك خازناً وسنه؟
فقلت: أبدي بكل سيئة ... من مدحه في هجائه حسنه
لعل رب العباد يغفر بال ... عفو أباطيل مدحه اللحنه
كقاتل الصيد وهو في حرم ال ... له يجازي الحمار بالبدنه
والثور بالثور والغزالة ال ... شاة وجفراً بالأرنب الأرنه
أليس هذا الجزاء أثقل إذ ... أحضر للوزن والحساب زنه
ولا تطع في السماح متهماً ... أخلاقه بالسفال ممتحنه
فأنت من أسرة مفضلة ... على كرام الأخلاق مؤتمنه
والزينبيون معشر زهر ... لا سر يلقى وهم له خزنه

غير سوى ضد غير غيرهم ... أيديهم بالسماح مرتهنه
فلا تضع يا ابن خيرهم أملي ... فيك فعقبي الفعال مختزنه
بنت الكنيريحدث أبو نصر قال: ومن طريف ما شاهدته أنا: أنه كان في الجانب الشرقي بمدينة السلام امرأة تعرف ببنت الكنيري وكانت نهاية في الفضل، ولها أخ غاية في الجهل، وكانت حسنة المعرفة بالنحو واللغة، ولها تصانيف فيهما تعرف بها، واختصما في ميراث والدهما فطال التنازع بينهما، وحضرا يوماً مجلس والدي وزاد الكلام بينهما ونقص، فاغتاظ والدي من تفيهقها وحوشي كلامها، ومن سقطه وعاميته في مناقضتها ففطنت لذلك فقالت: أغاظ سيدنا الشيخ - أيده الله - ما يرى مني ومن هذا الأخ أصلحه الله؟. قال: كلا - إن شاء الله - ولكن جردي الدعوى فإنه أقرب للإيجاز. فقالت: - أيد الله الشيخ - ، في ذمته اثنان وعشرون ديناراً مطيعية سلامية. فقال له: ما الذي تقول؟ فقال: أما لها عندي اثنان وسكت، ورام أن يقول مثل ما قالت فلم يقدر فقال بالله يا سيدي كيف قالت فقد والله صدعتنا؟. فقال له: فضولك، قل كما تحسن، وضحك أهل المجلس وصار طنزاً، واندفعت الخصومة ذلك اليوم.
كلثوم بن عمرو العتابي الشاعرقد ذكرنا أخباره مستوفاة في كتابنا أخبار الشعراء، وأما نسبه فهو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش ابن أوس بن مسعود بن عبد الله بن عمرو الشاعر بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب ابن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل. وعمرو بن كلثوم المذكور في أجداده هو شاعر السبع الطوال، وكنية العتابي أبو عمرو، وأصله من الشام من أرض قنسرين، صحب البرامكة ثم صحب طاهر بن الحسين، وعلي بن هشام القائدين. وكان حسن الاعتذار في رسائله وشعره، يشبه في المحدثين بالنابغة في الجاهلية، فمن ذلك قوله في جعفر بن يحيى وقد كان بلغ الرشيد عنه ما أهدر به دمه، فخلصه جعفر فقال فيه:
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... يضيق عني فسيح الرأي من حيلي
فلم تزل دائباً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
قال محمد بن إسحاق النديم: وكان العتابي أديباً مصنفاً، وله من الكتب: كتاب المنطق، كتاب الآداب، كتاب فنون الحكم، كتاب الخليل لطيف، كتاب الألفاظ رواه أبو عمر الزاهد عن المبرد عنه.
قال العتابي: وقفت بباب المأمون أنتظر من يستأذن لي عليه فإذا أنا بيحيى بن أكثم فقلت: استأذن لي على أمير المؤمنين. قال: لست بحاجب. قلت: صدقت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان. قال: سلكت بي غير سبيلي. قلت: إن الله أتحفك بجاه وهو عليك مقبل بالزيادة إن شكرت، وبالتغيير إن كفرت، وأنا لنفسك خير منك لها، أدعوك إلى زيادة النعمة وبقائها عليك فتأباها. قال: فدخل على المأمون وحكى له ما جرى بيني وبينه، فاستحسنه وأذن لي.
قال جحظة في أماليه: كلم العتابي يحيى بن خالد في حاجة له كلمات قليلة. فقال له يحيى: لقد نزر كلامك اليوم وقل. فقال: له وكيف لا يقل وقد تكنفني ذل المسألة وحيرة الطلب وخوف الرد؟ فقال له يحيى: لئن قل كلامك لقد كثرت فوائده. وقال في أماليه: قال العتابي: لو سكت من لا يعلم عما لا يعلم سقط الاختلاف. ومن شعره.
ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزة ملك أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثقلان
قال الحسن بن وهب: بلغ العتابي أن عمرو بن مسعدة ذكره عند المأمون بسوء فقال:
قد كنت أرجو أن تكون نصيري ... وعلى الذي يبغي على ظهيري
وطفقت آمل ما يرجى سيبه ... حتى رأيت تعلقي بغرور
فحضرت قبرك ثم قلت دفنته ... ونفضت كفي من ثرى المقبور
ورجعت مفترياً على الأمل الذي ... قد كان يشهد لي عليك بزور
فبلغ الشعر عمراً فركب من وقته إلى العتابي في موكبه حتى اعتذر إليه.
قال مالك بن طوق للعتابي: أما ترى عشيرتك - يعني بني تغلب - كيف تدل علي وتستطيل وأنا أصبر؟ فقال العتابي: أيها الأمير، إن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن ابن عمك من عمك خيره، وإن قريبك قرب منك نفعه، وإن أحب الناس إليك من كان أخفهم ثقلا عليك، وأنشده

إني بلوث الناس في حالاتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأنساب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أوكد الأسباب
وقيل للعتابي لو تزوجت. فقال: إني وجدت مكابدة العفة خير من الاحتيال لمصلحة العيال، وما أحسن قول العتابي وأحكمه.
لوم يعيذك من سوء تقارفه ... أبقي لعرضك من قول يداجيكا
وقد رمى بك في تيهاء مهلكة ... من بات يكتمك العيب الذي فيكا
ومن منثور كلامه: أما بعد: فإنه ما من مستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه، ومن انتظر بمعالجة الدرك مواجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصتها.
وكتب إلى آخر: من اجتمع فيه من خلال الفضل ما اجتمع فيك وانحاز إلى نواحيك، لم يخش المطنب في الثناء عليه أن يكون مفرطا كما لا يأمن أن يكون مفرطاً، فالاعتراف بالعجز عن بلوغ استحقاقك من التقريظ، أولى من الإطناب الذي غايته التقصير ومآله إلى الحشو.
كيسان بن المعروف النحويأبو سليمان الهجيمي قالوا: كان يخرج معنا إلى الأعراب فينشدونا، فيكتب في ألواحه غير ما ينشدونا، وينقل من ألواحه إلى الدفاتر غير ما فيها، ثم يحفظ من الدفاتر غير ما نقله إليها، ثم يحدث بغير ما حفظ.
وذكر أبو الطيب في كتاب مراتب النحويين عن الأصمعي قال: كيسان ثقة ليس بمتزيد، وقد أخذ عن الخليل.
وحدث أبو العيناء قال: قال كيسان لخلف الأحمر: يا أبا محرز، المخبل كان شاعراً أو من بني ضبة؟ فقال: يا مجنون صحح المسألة حتى يصح الجواب.
وحدث أبو حاتم قال: قال أبو زيد يوماً في مجلسه وكانت العرب تقول: ليس لحاقن رأي. فقال كيسان: ولا لمنعظ. فقال أبو زيد: ما سمعناه ولكن اكتبوه فإنه حق، وكان كيسان من الطياب المزاحين. قال أبو زيد: جاء صبي إلى كيسان يقرأ عليه شعراً حتى مر ببيت فيه ذكر العيس قال: الإبل البيض التي يخلط بياضها حمرة، قال: وما الإبل؟ قال الجمال: قال: وما الجمال؟ فقام على أربع ورغا في المسجد وقال: الذي تراه طويل الرقبة وهو يقول بوع.
وحدث المبرد عن التوزي قال: حبس عيسى بن سليمان الهاشمي كيسان وكان أحد الطياب، وكان أبو عبيدة يعبث به كثيراً فشفع فيه أبو عبيدة إلى الأمير فأمر بإخراجه.
فقال للجلاوزة: من أخرجني؟ قالوا: تكلم فيك شيخ مخضوب. فقال: أمه زانية إن برح من الحبس، إحبيس ظلم، وطليق ذل، لا يكون ذلك أبداً.
وقرأت في كتاب التصحيف لحمزة الأصفهاني: قال الرياشي: سمعت كيسان يقول: كنت على باب أبي عمرو بن العلاء فجاء أبو عبيدة فجعل ينشد شعراً لأبي شجرة وهو قوله:
ضن علينا أبو عمرو بنائله ... وكل مختبط يوماً له ورق
ما زلت يضربني حتى جذبت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق
فقلت: جذبت جذبت وضحكت فغضب وقال: كيف هو؟ فقلت: إنما هو خذيت، فانخزل وما أحار جواباً، خذيت من قولك خذي البازي: إذا ثبت على يد البازيار. قال أبو الحسن على بن سليمان الأخفش: حدثني أبو العباس ثعلب: قرأ بعض أصحاب الأصمعي عليه شعر النابغة الجعدي حتى انتهى إلى قوله:
إنك أنت المخزون في أثر ال ... حي فإن تنونيهم تقم
قال الأصمعي معناه: فإن تنونيهم: تقم صدور الإبل وتظعن نحوهم كما قال الآخر: أقم لها صدورها يا بسبس. فقال كيسان: كذبت، أما إنك قد سمعت من أبي عمرو بن العلاء ولكن أنسيت، إنما أراد أنهم قد نووا فراقك فذهبوا وتركوك، فإن تنولهم مثل ما نووا فيك من القطيعة نقم في دارك ومكانك، ولا ترحل نحوهم ولا تطلبهم كما قال الآخر:
إذا اختلجت عنك النوى ذا مودة ... قربن بقطاع من البين ذا شعب
أذاقتك مر العيش أو مت حسرة ... كما مات مسقي الصباح على ألب
ألب يألب، ولاب يلوب واحد. يقول: إذا باعدت بيني وبين من أحب قربن، يعني إبلي قربت إلى منزلي ووطني ومياهي، ولم أتبع من فارقني لأني صبور على الفراق جلد متعود لذلك فقطاع: يعني نفسه هو القطاع، لأني أقطع من قطعي، وأذاقتك من تحب وهي التي فارقتها، فأنت وإن كنت. كذا وعلى هذه الحال فأنت صبور قوي على القطع. وكما قال الراعي:
وإلف صبرت النفس عنه وقد أرى ... غداة فراق الحي أن لا تلاقيا

وقد قادني الجيران حيناً وقدتهم ... وفارقت حي ما تحن جماليا
الكيس النمري النسابالكيس لقب واسمه زيد بن الحارث بن حارثة بن هلال ابن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج بن تيم الله ابن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة. فعوف بن سعد بن الخزرج هو أخو عامر الضحيان، هذا قول الكلبي. وقال غيره: اسم الكيس زيد بن حارثة بن زيد مناة بن تميم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان رهط نتلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة عامر الضحيان، ولدت لعبد المطلب العباس ومرار ابني عبد المطلب.
قال مسكين الدارمي يخاطب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت مفتخراً:
وحكم دغفلاً وارحل إليه ... ولا تدع المطي من الكلال
وعند الكيس النمري علم ... ولو أمسى بمنخرق الشمال
وقيل مصعب بن الكيس هو النساب وكان يعدل بدغفل. قال الكميت:
وما ابن الكيس النمري معكم ... وما أنتم هناك بدغفلينا
وقيل: الكيس هو مالك بن شراحيل بن زيد بن الحارث ابن حارثة بن هلال كلهم ينسب من عبيد إلى الكيس، يعني كلهم نساب يعلم النسب.
باب اللام
لقيط بن بكير المحاربيقال ابن حبيب في كتاب جمهرة النسب التي رواها عن ابن الكلبي وغيره: ومنهم يعني بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، عائد بن سعيد بن جندب بن جابر بن زيد بن عبد الحارث بن بغيض بن شكم بن عبد بني عوف بن زيد ابن بكر بن عميرة بن علي بن حرب بن محارب، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. من ولده لقيط الرواية، - وكان صدوقاً - ابن بكير - وكان أيضاً عالماً صدوقاً - ابن النضر بن سعيد عائد بن سعيد، وقد لقي هشام بن الكلبي لقيطاً.
حدث المرزباني فيما أسنده إلى الخليل النوشجاني قال: قال لي الجهمي: كان لقيط المحاربي من رواة الكوفة وكان سيئ الخلق. قال الصولي: ويكنى أبا هلال، ومات في سنة تسعين ومائة في خلافة الرشيد. وقال عبد الله بن جعفر: أخبرني ابن مهدي والسكري قالا: للقيط كتاب مصنف في الأخبار مبوب، في كل فن من الفنون كتاب مفرد. فمنها ومن أحسنها كتابه في النساء وهو عندي رواية عنهما عن العمري عنه. وله كتاب السمر، كتاب الخراب واللصوص، كتاب أخبار الجن. وأخذ العلم عن لقيط جماعة من أعيانهم منهم ابن الأعرابي.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى لقيط بن بكير المحاربي قال: أمر المهدي الناس سنة ستين ومائة بصوم ثلاثة أيام لبطء المطر ليستسقي، فلما كان في اليوم الثالث من الليل طرق الناس ليلتهم كلها ثلج ملأ الأرض، فقال لقيط:
يا إمام الهدى سقينا بك الغي ... ث وزالت عنا بك اللأواء
وهي أبيات طويلة. وقال لقيط في ذلك أيضاً:
لما استغاث بك العباد بجهدهم ... متوسلين إلى إله الناس
أسقاهم بك مثل ما أسقاهم ... صوب الغمام بجدك العباس
فأتتهم لما دعوت سماؤهم ... منهلة بالوا كف الرجاس
العدل منه سقاهم وجميل ما ... توليه ذا الإيحاش والإيناس
فإذا أمرت فبالإبانة والهدى ... وإذا وزنت وزنت بالقسطاس
قال: ودخل لقيط على الرشيد وهو ولي عهد وقد اشتكى فأنشد:
ما بال نومك أمسى لا يؤاتيكا ... كأن في الجفن شوكا بات يقذيكا
من غير سقم ولا عشق أرقت له ... إلا لأن قيل أمسى الجود موعوكا
وقيل هارون أمسى شاكياً وصبا ... فقلت: نفسي يا هارون تفديكا
ما كنت أحسب جوداً يشتكي نهكاً ... حتى رأيت ولي العهد منهوكا
فبت مرتفقاً أرعى النجوم إلى ... أن جاوب الديك فينا سحرة ديكا
فكم وكم لي من نذر سأنجزه ... إن كنت عوفيت قد أوجبته فيكا
حج وصوم وعتق لن أخيس به ... فما تركت لنفسي اليوم مملوكا
سعد عتيق وبنتاه وأمهماكانوا وأعجب بهم عندي مماليكا
توقعوني كأني قد حذيتكم ... سود النعال وأهديت المساويكا

وحدث فيما أسنده إلى إسحاق الموصلي قال: كان لقيط ابن بكير في جراية المهدي، وكان الذي وصله به أبو عبد الله وزير المهدي، وكان أبو عبد الله مائلاً إليه لعلمه بالشعر والأخبار. فلما مات المهدي لزم الكوفة. قال إسحاق: فرأيته في سنة تسعين ومائة وهو ينشد قوماً شعراً له في الزهد وهو قوله:
عزفت عن الغواية والملاهي ... وأخلصت المتاب إلى إلهي
وغرتني ليال كنت فيها ... مطيعاً للشباب به أباهي
أجاري الغي في ميدان لهوى ... وقلبي عن طريق الرشد لاهي
وألجمي المشيب لجام تقوى ... وركن الشيب بادي العيب واهي
ومن لم يكفه العذال عزم ... فليس له على عذل تناهي
قال: وكان ذلك من آخر شهره وفي آخر زمانه ثم توفي في هي هذه السنة. وحدث مما رفعه إلى ابن المدور قال: سألت ابن الأعرابيعن لقيط بن بكير وموته فقال: مات في آخر أيام الرشيد وهو أزهد الناس، وكان من دعائه: اللهم اغفر لي، فإن حسناتي لو كانت مثل حسنات جميع خلقك لعلمت أني لا أستحق الجنة إلا بفضلك، ولو كانت على سيئاتهم جميعاً ما يئست من عفوك.
لوط بن مخنف الأزديهو لوط بن يحيى بن مخنف بن سليمان بن الحارث بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن ذبيان بن ثعلبة ابن سعد مناة بن غامد، واسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب ابن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد يكني أبا مخنف، ومخنف بن سليمان من أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مات لوط سنة سبع وخمسين ومائة، وكان راوية أخبارياً صاحب تصانيف في الفتوح وحروب الإسلام. قال يحيى بن معين: هو كوفي وليس حديثه بشيء.
وجدت بخط أحمد بن الحارث الخزاز قال: العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وفتوحها وأخبارها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس والواقدي بالحجاز والسير، وقد اشتركوا في فتوح الشام.
قال محمد بن إسحاق: ولأبي مخنف من الكتب: كتاب الردة، كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق، كتاب الجمل، كتاب صفين، كتاب النهروان، كتاب الغارات: كتاب الخريت بن راشد وبني ناجية، كتاب مقتل علي كرم الله وجهه، كتاب مقتل حجر بن عدي، كتاب مقتل محمد بن أبي بكر والأشتر ومحمد بن أبي حذيفة، كتاب الشورى ومقتل عثمان رضي الله عنه، كتاب المستوردين بن علفة، كتاب مقتل الحسين بن علي عليهما السلام، كتاب المختار ابن أبي عبيد، كتاب وفاة معاوية وولاية ابنه ووقعة الحرة وعبد الله بن الزبير، كتاب سليمان بن صرد وعين الوردة، كتاب مرج راهط ومقتل الضحاك بن قيس الفهري، كتاب مصعب بن الزبير والعراق، كتاب مقتل عبد الله بن الزبير، كتاب مقتل عمرو بن سعيد بن العاص، كتاب حديث باخمرا ومقتل ابن الأشعث، كتاب نجدة الحروري، كتاب الأزارقة، كتاب حديث روستقباذ، كتاب شبيب الحروري وصالح بن مسرح، كتاب المطرف بن المغيرة، كتاب دير الجماجم وخلع بن الأشعث، كتاب يزيد بن المهلب ومقتله بالعقر، كتاب خالد القسري ويوسف بن عمر وموت هشام وولاية الوليد، كتاب زيد بن علي، كتاب يحيى ابن زيد، كتاب الضحاك الخارجي، كتاب الخوارج والمهلب بن أبي صفرة.
الليث بن المظفركذا قال الأزهري في مقدمة كتابه: الليث بن المظفر. وقال ابن المعتز في كتاب الشعراء من تصنيفه: الليث بن رافع بن نصر بن سيار قال الأزهري: ومن المتقدمين الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف كتاب العين حملة لينفق كتابه باسمه ويرغب فيه من حوله، وأثبت لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال: كان الليث رجلاً صالحاً، ومات الخليل ولم يفرغ من كتاب العين فأحب الليث أن ينفق الكتاب كله فسمى لسانه الخليل، فإذا رأيت في الكتاب سألت الخليل أو أخبرني الخليل، فإنه يعني الخليل نفسه. قال: وإذا قال: قال الخليل فإنما يعني لسان نفسه. قال: وإنما وقع الاضطراب فيه من خليل الليث.

قال: وأخبرني المنذري أنه سأل ثعلباً عن كتاب العين فقال: ذاك كتاب مليء غدد - قال: وهذا لفظ أبي العباس، وحقه عند النحويين ملآن غدداً، ولكن كان أبو العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم. قلت: ليس هذا بعذر لأبي العباس فإنه لو قال: ملآن غدداً لم يخف معنى الكلام على صغار العامة، فكيف وفي مجلسه الأئمة من أهل العلم؟ ثم سائله الذي أجابه ليس بتلك الصورة، وإنما عذره أنه كان لا يتكلف الإعراب في المفاوضة وهي سنة جلة العلماء - وأراد أن في جراب العين حروفاً كثيرة قد أزيلت عن صورها ومعانيها بالتصحيف والتغيير فهي تضر حافظها كما تضر الغدد آكلها.
قال أبو الطيب اللغوي: مصنف كتاب العين الليث ابن المظفر بن نصر سيار، روى ذلك عن أبي عمر الزاهد قال: حدثني فتى قدم علينا من خراسان وكان يقرأ على كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهويه قال: كان الليث بن المظفر بن نصر بن سيار صاحب الخليل رجلاً صالحاً، وكان الخليل قد عمل من كتاب العين باب العين فأحب الليث أن ينفق سوق الخليل، ثم ذكر كما ذكر الأزهري.
وحدث عبد الله بن المعتز في كتاب الشعراء عن الحسن ابن علي المهلبي قال: كان الخليل منقطعاً إلى الليث بن رافع ابن نصر بن سيار، وكان الليث من أكتب الناس في زمانه، بارع الأدب بصيراً بالشعر والغريب والنحو، وكان كاتباً للبرامكة وكانوا معجبين به، فارتحل إليه الخليل وعاشره فوجده بحرا فأغناه، وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه، فاجتهد الخليل في تصنيف كتاب العين فصنفه له، وخصه به دون الناس وحبره وأهداه إليه، فوقع منه موقعاً عظيماً وسر به، وعوضه عنه مائة ألف درهم واعتذر إليه، وأقبل الليث ينظر فيه ليلاً ونهاراً لا يمل النظر فيه حتى حفظ نصفه، وكانت ابنة عمه تحته، فاشترى الليث جارية نفيسة بمال جليل فبلغها ذلك فغارت غيرة شديدة فقالت: والله لأغيظنه ولا أبقي غاية، فقالت: إن غظته في المال فذاك ما لا يبالي به، لكني أراه مكباً ليله ونهاره على هذا الدفتر، والله لأفجعنه به، فأخذت الكتاب وأضرمت ناراً وألقته فيها، وأقبل الليث إلى منزله ودخل إلى البيت الذي كان فيه الكتاب فصاح بخدمه وسألهم عن الكتاب فقالوا: أخذته الحرة، فبادر إليها وقد علم من أين أتي؟، فلما دخل عليها ضحك في وجهها وقال لها: ردي الكتاب فقد وهبت لك الجارية وحرمتها على نفسي، وكانت غضبى فأخذت بيده وأدخلته رماده فسقط في يد الليث، فكتب نصفه من حفظه، وجمع على الباقي أدباء زمانه وقال لهم: مثلوا عليه واجتهدوا، فعملوا هذا النصف الذي بأيدي الناس، فهو ليس من تصنيف الخليل ولا يشق غباره، وكان الخليل قد مات.
وجدت على ظهر جزء من كتاب التهذيب لأبي منصور الأزهري:
ابن دريد بقره ... وفيه عجب وشره
ويدعي بجهله ... وضع كتاب الجمهره
وهو الكتاب العين إل ... لا أنه قد غيره
الأزهري وزغه ... وحمقه حمق دغه
ويدعي بجهله ... كتاب تهذيب اللغة
وهو كتاب العين إل ... ا أنه قد صبغه
في الخارزنجي بله ... وفيه حمق ووله
ويدعى بجهله ... وضع كتاب التكملة
وهو كتاب العين إل ... ا أنه قد نقله
حاشية: دغة بنت مغنج يضرب بها المثل في الحمق، زوجت وهي صغيرة في بني العنبر فحملت، فلما ضربها المخاض ظنت أنها تحتاج إلى الخلاء فبرزت إلى بعض الغيطان ووضعت ذا بطنها، فاستهل الوليد فجاءت منصرفة وهي لا تظن إلا أنها أحدثت فقالت لأمها: يا أمتاه، وهل يفتح الجعر فاه؟ قالت نعم ويدعو أباه، فسب بنوا العنبر به وسموا بنوا الجعراء. ولها حماقات كثيرة.

قرأت بخط أبي منصور الأزهري في كتاب نظم الجمان تصنيف أبي الفضل المنذري: نصر بن سيار كان والي خراسان، والليث بن المظفر بن نصر صاحب العربية وصاحب الخليل بن أحمد هو ابنه، حدث عنه قتيبة بن سعيد: سمعت محمد بن إبراهيم العبدي يقول: سمعت قتيبة يقول: كنت عند ليث بن نصر بن سيار فقال: ما تركت شيئاً من فنون العلم إلا نظرت فيه إلا هذا الفن، وما عجزت إلا أني رأيت العلماء يكرهونه - يعني النجوم - . سمعت محمد بن سعيد القزاز قال: نصر بن سيار والي خراسان المحمول إليه رأس جهم، وكان نصر من تحت يدي هشام ابن عبد الملك، وكان بمرو، وكان سلم بن أحوز والي بلخ والجوزجان من تحت يده، وهو الذي قتل يحيى بن زيد ابن علي بن الحسين، جهم بن صفوان الذي ينسب إليه مذهب جهم ووجه برأسيهما إلى مرو إلى نصر بن سيار فنصبا على باب قهندز مرو، فكان سلم بن أحوز يقول: قتلت خير الناس وشر الناس.
قال المنذري: وسمعت محمد بن إبراهيم العبدي قال سمعت أبا رجا قتيبة يقول: دخل الليث بن نصر بن سيار على علي بن عيسى بن ماهان وعنده رجل يقال له حماد الخزربك، فجاءه رجل فقص رؤيا رآها لعلي بن عيسى فهم حماد أن يعبرها فقال ليث: كف فلست هناك. فقال علي: يا أبا هشام وتعبرها؟ قال نعم وأنا أعبرها أهل خراسان. فكانت الرؤيا كأن علي بن عيسى مات وحمل على جنازة وأهل خراسان يتبعونه، ثم انقض غراب من السماء ليحمله فكسروا رجل الغراب. فقال الليث: أما الموت فبقاء، وأما الجنازة فهو سرير وملك، وأما ما حملوك فهو ما علوتهم وكنت على رقابهم، وأما الغراب فهو رسول، قال الله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض)، يقدم فلا ينفذ أمره. فما مكثوا إلا يومين أو ثلاثة حتى قدم رسول من عند الخليفة في حمل علي بن عيسى، فاجتمع قواد خراسان فأثنوا عليه خيراً ولم يتركوه يحمل وقالوا: يخشى انتقاض البلاد فبقي.
قال المنذري: هو الليث بن المظفر بن نصر بن سيار صاحب العربية، وكان له ابن يقال له رافع. سمعت بعض أصحابي قال: سمعت محمد بن إسحاق السراج فال: سمعت إسحاق بن راهويه قال: سألت رافع بن الليث بن المظفر عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سكر حرام)، أيقع على جميع المسكر يعني جميع ما يسكر منه من قليلة وكثيرة؟ أم على الشربة التي تسكرك؟. فقال بل على جميع ما يسكر منه قليله وكثيره، إذا أسكر كثيره فقليله بمنزلته، ولو كان عني الشربة التي تسكرك لقال: كل مسكر حرام.
قال ابن المنذري: وبلغني أن المظفر بن نصر مر به عناق وابنه الليث قد حضره فقال له وأراد أن يخبره: ما هذا؟ قال: بز بالفارسية. فقال: لأسيرنك إلى حيث لا تعرف بز، فسيره إلى البادية فمكث فيها قريباً من عشر سنين أو أكثر، ففيها تأدب ثم رجع فعجب أهله من كثرة أدبه. هذا آخر ما كتبته من خط الأزهري وكتاب المنذري.
وحدث الحاكم أبو عبد الله بن البيع في كتاب نيسابور عن العباس بن مصعب قال: سئل النضر بن شميل عن الكتاب الذي ينسب إلى الخليل بن أحمد ويقال له كتاب العين، فأنكره فقيل له: لعله ألفه بعدك؟ فقال: أو خرجت من البصرة حتى دفنت الخليل بن أحمد؟.
وحدث أبو الحسن علي بن مهدي الكسروي، حدثني محمد بن منصور المعروف بالراج المحدث قال: قال الليث ابن المظفر بن نصر بن سيار: كنت أصير إلى الخليل بن أحمد فقال لي يوماً: لو أن إنساناً قصد وألف حروف أ ب ت ث على ما أمثله لاستوعب في ذلك جميع كلام العرب، وتهيأ له أصل لا يخرج منه شيء ألبتة. فقلت له: وكيف يكون ذلك؟ قال: يؤلفه على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، فإنه ليس يعرف في كلام العرب أكثر منه.
قال الليث: فجعلت أستفهمه ويصف لي ولا أقف على ما يصف، فاختلف إليه في هذا المعنى أياماً ثم اعتل وحججت، فما زلت مشفقاً عليه وخشيت أن يموت في علته فيبطل ما كان يشرحه لي، فرجعت من الحج وصرت إليه فإذا هو قد ألف الحروف كلها على ما في الكتاب، وكان يملي علي ما يحفظ، وما شك فيه يقول لي سل عنه، فإذا صح فأثبته إلى أن عملت الكتاب.
باب الميم
المبارك بن الحسن بن أحمد بن علي

ابن فتحان بن منصور الشهرزوري أبو الكرم المقرئ، إمام في القراءات عالم بها. مات فيما ذكره أبو سعد عن ابن حرز في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة خمسين وخمسمائة للهجرة ودفن في دكة بشر الحافي بباب حرب ببغداد إلى جنب أبي بكر الخطيب. قال: وكتب عنه وذكر أن مولده في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وأربعمائة قال: وكان يسكن دار الخلافة ببغداد مما يلي باب العامة شيخ صالح دين خير قيم بكتاب الله عالم باختلاف الروايات والقراءات، و صنف فيها كتاب المصباح في القراءات، وهو حسن السيرة جيد الأخذ على الطلاب، له روايات عالية، سمع الحديث من أبي الفضل أحمد بن الحسن ابن جيرون الأمين وغيره.
المبارك بن سعيد بن الحمامي المؤدبأبو الفرج المؤدب، كان يسكن قراح بني رزين من بغداد، وله به مكتب يعلم فيه الصبيان، وكان أديباً فاضلاً صالحاً، تخرج به خلق كثير وكان محمود السيرة مشكوراً عند الناس، وكان ذا هيبة على الصبيان، وكان أولاد الأكابر يقصدون مكتبه من جميع بغداد لما شاع من خيره وصلاحه، أدركت زمانه ورأيت مكتبه وكان مكتباً حفيلاً مزدحماً إلا أنني لم ألقه شيئاً، وكان يكتب خطاً حسناً معروفاً عند الناس مرغوباً فيه. مات فيما بلغني في جمادى الآخرة سنة ثمانين وخمسمائة للهجرة، وكان له ابن على سيرته في الصلاح والدين والخير، قام مقامه في مكتبه وخلفه بعده في مكتبه، وكان اسمه أيضاً المبارك، مات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوبأو الكرم النحوي - أخو أبي عبد الله الحسين بن محمد لأمه - المعروف بالبارع الدباس. ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، ومات في ذي القعدة سنة خمسين وخمسمائة ودفن بباب حرب، سمع الحديث من أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهما، وكان قيماً بالنحو عارفاً باللغة. قال أبو الفرج: غير أن مشايخنا جرحوه. كان أبو الفضل ابن ناصر سئ الرأي فيه يرميه بالكذب والتزوير قال: وكان يدعي سماع ما لم يسمعه، ولما مات دفن بمقبرة باب حرب، وقرأ النحو علي ابن برهان الأسدي، وله من الكتب: كتاب المعلم في النحو. كتاب نحو العرف. كتاب شرح خطبة أدب الكاتب. وجدت بخط السمعاني مولده على ما تقدم، فإن صح ذلك لا يصح أخذه النحو عن ابن برهان، لأن ابن برهان مات سنة ست وخمسين وأربعمائة، بل إن كان سمع منه شيئاً جاز ذلك، ثم لما وردت إلى مرو نظرت في كتاب المذيل للسمعاني وقد ألحق بخطه في تضاعف السطور بخط دقيق: قرأت بخط والدي رحمه الله سألت المبارك بن الفاخر عن مولده فقال: ولدت في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. قلت: فإذا صحت هذه الرواية فقد صح أخذه عن ابن برهان، وكان والد السمعاني قد لقي ابن الفاخر وأخذ عنه، وحكى عنه شيئاً من النحو واللغة. رأيت بخط الشيخ أبي محمد عبد الله ابن أحمد بن أحمد بن الخشاب رحمه الله: حكى لي محمد بن محمد ابن قزما الإسكافي عن شيخنا أبي الكرم المبارك بن فاخر ابن يعقوب النحوي المعروف بابن الدباس: أنه كان يكرم المترددين إليه لطلب العلم بالقيام لهم في مجلسه، وكان الشيخ أبو زكريا يحيى بن على يأبى ذلك وينكره عليه وعلى غيره ممن يعتمده وينشده:
قصر بالعلم وأزرى به ... من قام في الدرس لأصحابه
قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إن حرمة العلم آكد من حرمة طالبه، وإعزاز العلم أبعث لطلبه، وبحسب الصبر على مرارة طلبه تحلو ثمرة مكتسبه وكان الشيخ أبو الكرم بن الدباس رحمه الله يجمع إلى هذا، التساهل في الخطاب إذا أخذ خطه على ظهر كتاب ويقصد بذلك اجتذاب الطلاب، لأن النفوس تميل إلى هذا الباب، وحال أبي علي رحمه الله في عكس هذه الحال معلومة متعارفة يأثرها أصحابه عنه، وكان أمره مع العالم في ذاك على حد سواء من ملك وسوقة وعالم ومتعلم، ونحن نسأل الله العون على زمن نحن فيه. آخر ما فيه من خط ابن الخشاب.
المبارك بن المبارك بن المبارك

أبو طالب الكرخي بن أبي البركات الفقيه الشافعي صاحب أبي الحسن بن الخل، مات في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة، أدركت زمانه ولقيت ببغداد أوانه إلا أنني لم أره لصغر السن حينئذ، والاشتغال في ذلك الزمان بغير هذا الشان. كان رحمه الله فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً إماماً أوحد زمانه في حسن الخط على طريقة على بن هلال بن البواب. سمعت جماعة يحكون أنه لم يكتب أحد قبله ولا بعده مثله في قلم الثلث، حتى رأيت من يغالي فيه فيقول: إنه كتب خيراً من ابن البواب، وكان ضنيناً بخطه جداً فلذلك قل وجوده. كان إذا اجتمع عنده شيء من تجويداته يستدعي طستاً ويغسله، فأما إذا استفتى فإنه كان يكسر قلمه ويجهد في تغيير خطه، وكان أحد الشهود المعدلين، تفقه على أبي الحسن ين الخل ولازمه مدة حتى صار بارعاً في الفقه، وصارت له معرفة بالمذهب ولسان تام في الخلاف، شهد عند قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي في تاسع جمادى الآخرة سنة ثلاثين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن عزل نفسه عن تحمل الشهادة وأدائها قبل موته بمدة مديدة ولن يدع الطيلسان، وتولى التدريس بمدرسة كمال الدين أبي الفتوح حمزة بن علي بن طلحة الرازي التي بباب العامة المحروس بعد وفاة شيخه أبي الحسن بن الخل المدرسي كان بها، ثم تولى تدريس النظامية وذكر الدرس بها في تاسع صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وأضيف إليه التقدم بالرباط الجديد المجاور لتربة الجهة الشريفة السلجوقية المعروف بالأخلاطية عند مشهد عون ومعين بالجانب الغربي، وانتقل إلى هناك وسكن الدار المجاورة للرباط المذكور، وكان يعبر إلى الجانب الشرقي ويذكر الدروس بالنظامية ويعود إلى منزله بالجانب الغربي، وكان له قبول عند الخاص والعام وجاه عند أرباب الولايات، وهو الذي تولى خدمة الأمير ابن أبي نصر محمد وأبي الحسن علي ابني مولانا الناصر لدين الله أمير المؤمنين خلد الله سلطانه في تعليم الخط، و سمع الحديث من ابن الحصين وقاضي البيمارستان وشيخه ابن الحاج وغيرهم، وحدث عنهم ثم خرج من منزله لصلاة العصر بالرباط الجديد المذكور وكان يؤم فيه، فلما توجه للصلاة عرضت له سعلة وتتابعت فوقع المقدم إلى الأرض وحمل إلى منزله فمات لوقته في الوقت المقدم ذكره وصلى عليه في غده، واجتمع له خلق عظيم ودفن بتربة الجهة السلجوقية المجاورة للرباط، وهو فيما يقال ابن اثنين وثمانين سنة.
المبارك بن المبارك بن سعيدابن الدهان أبو بكر الضرير النحوي المعروف بالوجيه من أهل واسط، قدم بغداد مع أبيه في صباه فأقام بها إلى أن مات في السادس عشر من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة - رحمه الله - دفن بالوردية، ومولده في سنة اثنتين وخمسمائة، وهو شيخي الذي به تخرجت وعليه قرأت، وهو قرأ بواسط علي أبي سعيد نصر ابن محمد بن سلم المؤدب وغيره، وأدرك ببغداد ابن الخشاب فأخذ عنه، ولازم الكمال أبا البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي، وقرأ عليه وتتلمذ له، فهو أشهر شيوخه وسمع منه تصانيفه، وسمع الحديث من طاهر بن محمد المقدسي، وتولى تدريس النحو بالنظامية سنين، فتخرج عليه جماعة كثيرة منهم: حسن بن الباقلاوي الحلي، والموفق عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، والمنتخب سالم ابن أبي الصقر العروضي وغيرهم. وكان - رحمه الله - قليل الحظ من التلامذة يتخرجون عليه ولا ينسبون إليه، ولم يكن فيه عيب إلا أنه كان فيه كيس ولين، وكان إذا جلس للدرس يقطع أكثر وقته بالأخبار والحكايات وإنشاد الأشعار حتى يسأم الطالب وينصرف عنه وهو ضجر وينقم ذلك عليه، وكان يحسن بكل لغة من الفارسية والتركية، والحبشية، والرومية، والأرمنية، والزنجية، فكان إذا قرا عليه عجمي واستغلق عليه المعنى بالعربية فهمه إياه بالعجمية على لسانه، وكان حسن التعليم طويل الروح كثير الاحتمال للتلامذة، وكان شاعراً مجيداً، أنشدني لنفسه كثيراً من شعره. منه في التجنيس:
ولو وقعت في لجة البحر قطرة ... من المزن يوماً ثم شاء لما زها
ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها ... عبيداً له في الشرق والغرب ما زها

وكان قد فوض إلى عضد الدولة أبي الفتوح بن الوزير عضد الدين بن رئيس الرؤساء أمر المخزن المعمور والأعمال التي كانت مفوضة قبله إلى ابن ناصر في عاشر شعبان سنة خمس وستمائة، وخلع عليه في باب الحجرة الشريفة وهو موضع لا يخلع فيه إلا على الوزراء، وركب منه والعالم بين يديه ليمضي إلى منزله، فعثرت به فرسه وسقط من عليها ثم ركبها سالماً من ساعته، فأكثر الناس القول في الطيرة من هذا، فقال الوجيه وأنشدنيه لنفسه:
لا تعذل الفرس التي عثرت ... بك أمس قبل سماعك العذرا
قالت مقالاً لو علمت به ... لم تولها هجراً ولا هجرا
لما رأى الأملاك أن على ... سرجي فتى أعلى الورى قدرا
رفعت يدي حتى تقبلها ... شغفاً بها فوهت يدي الأخرى
ثم لم يلبث المذكور إلا يسيراً حتى عزل وألزم بيته.
وأنشدني الوجيه أيضاً لنفسه:
لست أستقبح اقتضاءك بالوع ... د وإن كنت سيد الكرماء
فاآله السماء قد ضمن الرز ... ق عليه ويقتضي بالدعاء
وأنشدني الوجيه أيضاً لنفسه في التجنيس:
لا راح مسترفدي جذلان من صفدي ... يوماً ولا عز بي في مشهد جاري
إن لم تكب على الأذقان أوجههم ... سيوف قومي بسيل من دم جاري
وحدثني الوجيه - رحمه الله - قال: دخلت يوماً إلى فخر الدين أبي على الحسن بن هبة الله بن الدوامي وهو من علمت أدباً وفضلاً وحسن بشر وكرم سجية، فجلسنا نتذاكر الشعراء إلى أن انتهى بنا الكلام إلى البحتري فأنشد قوله في الفتح بن خاقان:
هب الدار ردت رجع ما أنت قائلة ... وأبدى الجواب الربع عما تسائله
إلى قوله:
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله
بدا لي محمود السجية شمرت ... سرابيله عنه وطالت حمائله
كما انتصب الرمح الرديني ثقفت ... أنابيبه للطعن واهتز عامله
فكالبدر وافته لوقت سعوده ... وتم سناه واستهلت منازله
فسلمت واعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلي ببشر آنستنى مخايله
دنوت فقبلت الندى من يد امرئ ... جميل محياه سباط أنامله
صفت مثل ما يصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
فهش الجميع وأخذ كل منهم يصف حسن ألفاظها ورشاقة معانيها وجودو مقاصدها، وجعلوا يقولون: هذا هو السهل الممتنع، والفضل المتسع، والديباج الخسرواني، والزهر الأنيق، وأطنبوا في ذلك وحق لهم فقلت ارتجالاً:
لمن تنظم الأشعار والناس كلهم ... سواسية إلا امرؤ أنا جاهله؟
ولو علموا أن اللهي تفتح اللها ... دروا أن ذا الشعر ابن خاقان قائله
وكان الوجيه قد التزم سماحة الأخلاق وسعة الصدر، فكان لا يغضب من شيء ولم يره أحد قط حردان وشاع ذلك عنه، وبلغ ذلك بعض الحرفاء فقال: ليس له من يغضبه ولو أغضب لما غضب وخاطروه على أن يغضبه، فجاءه فسلم عليه، ثم سأله عن مسألة نحوية، فأجابه الشيخ بأحسن جواب ودله على محجة الصواب فقال له: أخطأت، فأعاد الشيخ الجواب بألطف من ذلك الخطاب، وسهل طريقته وبين له حقيقته فقال له: أخطأت أيها الشيخ، والعجب ممن يزعم أنك تعرف النحو ويهتدي بك في العلوم، وهذا مبلغ معرفتك؟ فلاطفه وقال له: يا بني لعلك لم تفهم الجواب، وإن أحببت أن أعيد القول عليك بأبين من الأول فعلت، قال له: كذبت، لقد فهمت ما قلت، ولكن لجهلك تحسب أنني لم أفهم، فقال له الشيخ وهو يضحك: قد عرفت مرادك ووقفت على مقصودك، وما أراك إلا وقد غلبت، فأد ما بايعت عليه، فلست بالذي تغضبني أبداً. وبعد يا بني فقد قيل: إن بقة جلست ظهر فيل فلما أرادت أن تطير قالت له: استمسك فإني أريد الطيران، فقال لها الفيل: والله يا هذه ما أحسست بك لما جلست، فكيف استمسك إذا أنت طرت؟ والله يا ولدي ما تحسن أن تسأل، ولا تفهم الجواب، فكيف أستفيد منك؟

وحدثني محب الدين محمد بن النجار قال: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله، فجرى حديث المعري فذمه الخازن وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب نقض القرآن. فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه واستشاط ابن هبة الله وقال له: مثلك ينهي عن مثل هذا؟ قال نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيراً منه وحاش لله أن يكون ذلك، فلا يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه وذلك ما لا شك فيه فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه. فاستحسن الجماعة قوله ووافقه ابن هبة الله على الحق وسكت.
وكان الوجيه - رحمه الله - حنبلياً ثم صار حنفياً فلما درس النحو بالنظامية صار شافعياً، فقال فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي وكان أحد تلامذته، وسمعته من لفظه غير مرة:
ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت دين الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل
وأنشدني الوجيه لنفسه في التجنيس
أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر ... طغام لئام جودهم غير مرتجى
ترى بابهم لا بارك الله فيهم ... على طالب المعروف إن جاء مرتجا
حموا ما لهم والدين والعرض منهم ... مباح فيما يخشون من هجو من هجا
إذا شرع الأجواد في الجود منهجاً ... لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا
وأنشدني الوجيه النحوي لنفسه يمدح أبا الفضل مسعود ابن جابر صاحب المخزن
ما مر يوم ولا شهر ولا عيد ... فاخضر فيه لنا من وصلكم عود
عودوا تعد بكم الأيام مشرقة ... وإن أبيتم ففي الأسقام لي عودوا
كم ذا التجني وكم هذا الصدود صلوا؟ ... من حظه منكم هم وتسهيد؟
لو تسألوا كيف حالي بعد بعدكم؟ ... فالحال شاهدة والسقم مشهود
لولا التعلل بالآمال مت أسى ... يغنى الزمان وما تفنى المواعيد
ولو شكوت الذي ألقى بحبكم ... إلى الجلاميد رفت لي الجلاميد
يا هذه ما أنام الليل من ولهي ... كأنما حاجبي بالجفن معقود
قل اصطباري وزاد الوجد بي فأنا ... بك الشقي وغيري منك مسعود
تلذ في حبك الأيام لي وأرى الت ... تعذيب عذباً به والقلب مجهود
كأنك المجد أو بذل الندى وأنا ... في فرط حبك فخر الدين مسعود
مولي إذا السحب ضنت بالحيا فله ... في الخلق بحر عظيم الري مورود
وله مطلع قصيدة في ابن جابر أيضاً:
يا من أقام قيامتي بقوامه ... وأطال تعذيبي بطول مطاله
أمط اللثام عن العذار تقم به ... عند العذول عليك عذر الواله
وارفق ببال في هواك معذب ... بجفاك ما خطر السلو بباله
طبع الحبيب على الملال وليته ... يوماً يميل إلى ملال ملاله
لو كنت تسمع ما أقول وقوله ... لعجبت من ذلي له ودلاله
شدا الرحال عقد تصبري ... لما سرت أجماله بجماله
أنشدني الحافظ أبو عبد الله محمد بن النجار صديقنا - حرسه الله - قال: أنشدني شيخنا الوجيه النحوي لنفسه:
أرفع الصوت إن مررت بدار ... أنت فيها إذ ما إليك وصول
وأحيي من ليس عندي بأهل ... أن يحيا كي تسمعي ما أقول

وكان ملازماً لدار الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء ويبيت ويصبح يقرئ أهله ونال من جهته ثروة، فحدثني عز الدين أبو الحسن علي بن محمود بن محمد المعروف بالسرخسي النحوي قال: حدثني الوجيه قال: اقترحت على بعض حظايا الوزير أن أعمل أبياتاً تكتبها على قميص أصفر فعلمت:
انظر إلى لابسي وانظر إلى وكن ... من مثل ما حل بي منه على خطر
هذا اصفراري يراه الناظرون وما ... في القلب من حبه يخفي على البصر
أموت في خلعه بالليل لي كمداً ... لولا انتظار وصال منه في السحر
أقول عجباً إذا ما رام يلبسني ... ما كنت أطمع أن أعلو على القمر
ونقشتها على القميص ورآه الوزير عليها، فنلت منه بذلك السبب خيراً كثيراً
المبارك بن محمد الشيبانيبن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني أبو السعادات الملقب بمجد الدين المعروف بابن الأثير هو أبوه محمد بن محمد بن عبد الكريم من أهل جزيرة ابن عمر. مات فيما حدثني به أخوه عز الدين أبو الحسن علي بن محمد في يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة قال: ومولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة بالجزيرة وانتقل إلى الموصل في سنة خمس وستين ولم يزل بها إلى أن مات.
قال المؤلف: وكان عالماً فاضلاً وسيداً كاملاً، قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث وشيوخه وصحته وسقمه والفقه وكان شافعياً، وصنف في كل ذلك تصانيف هي مشهورة بالموصل وغيره. حدثني أخوه أبو الحسن قال: قرأ أخي الأدب على ناصح الدين أبي محمد سعيد ابن الدهان البغدادي، وأبي بكر يحيى بن سعدون المغربي القرطبي، وأبي الحزم مكي بن الريان بن شبة الماكسي النحوي الضرير، وسمع الحديث بالموصل من جماعة منهم الخطيب أبو الفضل بن الطوسي وغيره، وقدم بغداد حاجاً فسمع بها من أبي القاسم صاحب ابن الخل، وعبد الوهاب ابن سكينة، وعاد إلى الموصل فروى بها وصنف، ووقف داره على الصوفية وجعلها رباطاً.
وحدثني أخوه أبو الحسن قال: تولى أخي أبو السعادات الخزانة لسيف الدين الغازي بن مودود بن زنكي ثم ولاه ديوان الجزيرة وأعمالها، ثم عاد إلى الموصل فناب في الديوان عن الوزير جلال الدين أبي الحسن علي بن جمال الدين محمد ابن منصور الأصبهاني، ثم اتصل بمجاهد الدين قايماز بالموصل أيضاً فنال عنده درجة رفيعة، فلما قبض على مجاهد الدين اتصل بخدمة أتابك عز الدين مسعود بن مودود إلى أن توفي عز الدين فاتصل بخدمة ولده نور الدين أرسلان شاه، فصار واحد دولته حقيقة بحيث إن السلطان كان يقصد منزله في مهام نفسه لأنه أقعد في آخر زمانه فكانت الحركة تصعب عليه فكان يجيئه بنفسه، أو يرسل إليه بدر الدين لؤلؤ الذي هو اليوم أمير الموصل.
وحدثني أخوه المذكور قال: حدثني أخي أبو السعادات قال: لقد ألزمني نور الدين بالوزارة غير مرة وأنا أستعفيه حتى غضب مني وأمر بالتوكيل بي قال: فجعلت أبكي فبلغه ذلك فجاءني وأنا على تلك الحال فقال لي: أبلغ الأمر إلى هذا؟ ما علمت أن رجلاً ممن خلق الله يكره ما كرهت. فقلت: أنا يا مولانا رجل كبير وقد خدمت العلم عمري، واشتهر ذلك عني في البلاد بأسرها، وأعلم أنني لو اجتهدت في إقامة العدل بغاية جهدي ما قدرت أؤدي حقه، ولو ظلم أكار في ضيعة من أقصى أعمال السلطان لنسب ظلمه إلي، ورجعت أنت وغيرك باللائمة علي، والملك لا يستقيم إلا بالتسمح في العسف وأخذ هذا الخلق بالشدة، وأنا لا أقدر على ذلك فأعفاه، وجاءنا إلى دارنا فخبرنا بالحال. فأما والده وأخوه فلاماه على الامتناع فلم يؤثر اللوم عنده أسفاً، وذكر في قصة طويلة بتفاصيلها إلا أن هذا الذي ذكرته هو معناها.
وحدثني عز الدين أبو الحسن قال: حدثني أخي أبو السعادات - رحمه الله - قال: كنت أشتغل بعلم الأدب على الشيخ أبي محمد سعيد بن المبارك ين الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان كثيراً ما يأمرني بقول الشعر وأنا أمتنع من ذلك قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم رأيت الشيخ في النوم وهو يأمرني بقول الشهر فقلت له: ضع لي مثالاً أعمل عليه فقال:
جب الفلا مدمناً إن فاتك الظفر ... وخد خد الثرى والليل معتكر
فقلت أنا:
فالعز في صهوات الخيل مركبه ... والمجد ينتجه الإسراء والسهر

فقال لي: أحسنت، هكذا فقل، فاستيقظت فأتممت عليها نحو العشرين بيتاً.
وحدثني عز الدين أبو الحسن قال: كتب أخي أبو السعادات إلى صديق له في صدر كتاب والشعر له:
وإني لمهد عن حنين مبرح ... إليك على الأقصى من الدار والأدنى
وإن كانت الأشواق تزداد كلما ... تناقص بعد الدار واقترب المغنى
سلاماً كنشر الروض باكره الحيا ... وهبت عليه نسمة السحر الأعلى
فجاء بمسكي الهوا متحلياً ... ببعض سجايا ذلك المجلس الأسمى
وأنشدني عز الدين قال: أنشدني أخي مجد الدين أبو السعادات لنفسه:
عليك سلام فاح من نشر طيبه ... نسيم تولى بثه الرند والبان
وجاز على أطلال مي عشية ... وجاد عليه مغدق الوبل هتان
فحملته شوقاً حوته ضمائري ... تميد له أعلام رضوى ولبنان
واستنشدته شيئاً آخر من شعره فقال: كان أخي قليل الشعر لم يكن له به تلك العناية، وما أعرف الآن له غير هذا. فقلت له: فأمل علي تصانيفه، فأملي علي: كتاب البديع في النحو الأربعين كراسة، وقفني عليه فوجدته بديعاً كاسمه سلك فيه مسلكاً غريباً، وبوبه تبويباً عجيباً، كتاب الباهر في الفروق في النحو أيضاً، كتاب تهذيب فصول ابن الدهان، كتاب الإنصاف في تفسير القرآن أربع مجلدات، كتاب الشافي وهو شرح مسند الشافعي أبدع في تصنيفه، فذكر أحكامه ولغته ونحوه ومعانيه نحو مائة كراسه، كتاب غريب الحديث على حروف المعجم أربع مجلدات، كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول عشر مجلدات جمع فيه بين البخاري ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي والترمذي عمله على حروف المعجم، وشرح غريب الأحاديث ومعانيها وأحكامها ووصف رجالها، ونبه على جميع ما يحتاج إليه منها.
قال المؤلف: أقطع قطعاً أنه لم يصنف مثله قط ولا يصنف، وله رسائل في الحساب مجدولات، كتاب ديوان رسائله، وكتاب البنين والبنات والأباء والأمهات والأذواء والذوات مجلد، كتاب المختار في مناقب الأخبار أربع مجلدات إلى غير ذلك.
مبشر بن فاتك أبو الوفاء الأميرأحد أدباء مصر العارفين بالأخبار والتواريخ المصنفين فيها، وكان في أيام الدولة المصرية في أيام الظاهر والمستنصر وله من التصانيف: كتاب سيرة المستنصر ثلاث مجلدات وله تواليف في علوم الأوائل، وملك من الكتب مالا يحصى عدده كثرة.
مجالد بن سعيد بن عمير الهمدانيروي عن الشعبي فأكثر، وروي عنه الهيثم بن عدي، مات في سنة إحدى وأربعين ومائة، وكان راوية للأخبار والأنساب والأشعار، وهو عند أصحاب الحديث ضعيف.
مجاهد بن جبر القارئوقيل مجاهد بن جبير مولى عبد الله بن السائب، وقيل مولى قيس بن السائب المخزومي من كبار التابعين يكنى أبا الحجاج، مات سنة أربع ومائة، وقيل سنة ثلاث عن ثلاث وثمانين سنة من عمره. سمع ابن عباس وجابراً وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وأبا ريحانه وعبد الله بن عمر وغيرهم. أخذ القراءة عن عبد الله بن عباس وعن عبد الله ابن أبي ليلى، وقرأ على علي بن أبي طالب وأبي بن كعب رضي الله عنهم. روى عنه الأعمش والليث بن أبي سليم والحكم ومنصور بن نجيح وغيرهم.
وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة. قال مجاهد: وكنت أصحب ابن عمر في السفر فكنت إذا أردت أن أركب يأتيني فيمسك ركابي، فإذا ركبت سوى على ثيابي. قال مجاهد: فجاءني مرة فكأني كرهت ذلك فقال يا مجاهد: إنك ضيق الخلق، نقلت ذلك كله من كتاب الأمالي لأبي بكر محمد بن منصور السمعاني.
وقرأت بخط أبي سعد بإسناد رفعه إلى مجاهد أنه قال: انطلق غلام من بني إسرائيل بفخ فنصبه منتبذاً عن الطريق، فجاء عصفور فوقع قريباً منه وأنطلق الله العصفور وأفهم الفخ فقال العصفور: مالي أراك منتبذاً عن الطريق؟ قال: اعتزلت شرور الناس. قال فمالي أراك نحيفاً؟ قال: أنهكتني العبادة. قال: فما هذه الحبة في فيك؟ قال أرصد بها مسكيناً أو ابن سبيل. قال: فأنا مسكين وابن سبيل، قال: فدونكها. قال فوثب العصفور فأخذ الحبة فوثب الفخ فوقع في عنقه، فجعل العصفور يقول: عيق عيق، وعزة ربي لاغرني بعدها قارئ مراء أبداً.
قال مجاهد: وهذا مثل قرائين مرائين يكونون آخر الزمان.

وذكرابن عفير قال: قدم عمرو بن العاص بهد فتحه مصر على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد متين استخلف في إحداهما زكريا بن الجهم العبدري على الجند، ومجاهد بن جبر مولى بني نوفل بن عبد مناف على الخراج، وهو جد معاذ بن موسى النفاط أبي إسحاق بن معاذ الشاعر فسأله عمر من استخلفت؟ فذكر له مجاهد بن جبر، فقال له عمر: مولى ابنة غزوان؟ قال نعم إنه كاتب، فقال عمر: إن العلم ليرفع صاحبه. وبنت غزوان هي أخت عتبة بن غزوان وقد شهد عتبة بدراً، وكان حليف بني نوفل بن عبد مناف قال: وخطة مجاهد بن جبر دار صالح صاحب السوق.
مجاهد بن عبد الله العامريأبو الجيش الموفق، مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس، مات بدانية في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وأصله مملوك رومي من مماليك ابن أبي عامر، كان من أهل الأدب والشجاعة والمحبة للعلوم وأهلها، نشأ بقرطبة وكانت له همة وجلادة وجرأة، فلما جاءت أيام الفتنة وتغلبت العساكر على النواحي سار هو فيمن تبعه إلى الجزائر التي في شرق الأندلس وهي: دانية ومنورقة بالنون، ودانية هي ذات خصب وسعة فغلب عليها وحماها، وقصد سردانية في قصة ذكرتها في التاريخ الذي سميته المبدأ، وكان من الكرماء على العلماء يبذل لهم الرغائب خصوصاً على القراء حتى صارت دانية معدن القراء بالغرب، وهو الذي بذل لأبي غالب تمام بن غالب ألف دينار ليزيد اسمه في ديباجة كتابه كما ذكرنا في باب تمام.
وفيه يقول أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي - وقد استماله بخريطة مال ومركب أهداهما إليه - قصيدة أولها:
أتتني الخريطة والمركب ... كما اقترن السعد والكوكب
وحط بمينائه قلعة ... كما وضعت حملها المقرب
على ساعة قام فيها الثنا ... ء على هامة المشتري يخطب
مجاهد رضت إباء الشمو ... س فأصبحت ما لم يكن بصحب
فقل واحتكم لي فسمع الزمان ... مصيخ إليك بما ترغب
وقد ألف مجاهد كتاب عروض يدل على قوته فيه: ومن أعظم فضائله تقديمه للوزير أبي العباس أحمد بن رشيق وتعويله عليه، وبسط يده في العدل.
المحسن بن إبراهيم بن هلال بن زهرونالصابئ أبو علي ين أبي إسحاق صاحب الرسائل، ووالد هلال بن المحسن صاحب التواريخ والرسائل. كان أديباً فاضلاً بارعاً، قد لقي الأدباء والعلماء وأخذ عنهم كأبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي وأبي عبيد الله المرزباني. مات في ثامن محرم سنة إحدى وأربعمائة عن ابنه هلال وله شعر حسن من مثله، وكان بوجهه شامة حمراء فكان بعرف بصاحب الشامة، وابنه هلال بن المحسن أعلى منزلة منه. ومات هذا على دين أبيه، وأما ابنه فأسلم على ما ذكرته في بابه، وكان لأبي إسحاق ابن آخر يقال له أبو سعيد سنان ليس بالنبيه، وآخر كنيته أبو العلاء صاعد. ومات أبو سعيد سنان في حياة أبيه في رجب سنة ثمانين. ولمات قبض على أبيه أبي إسحاق قبض معه على ولديه أبي علي هذا وأبي سعيد. فحدث أبو الحسين هلال قال: حدثني أبو علي والدي قال: أمر عضد الدولة أبا القاسم المطهر بن عبد الله وزيره وقال له: أفرج عن ابن أبي إسحاق صاحب الشامة، فإن له قديم خدمة فتقدم بذاك، فثقل على أبي سعيد أخي إطلاقي من دونه، ودمدم على والدنا دمدمة قال له عندها: أي أمر لنا يا بني في نفوسنا؟ أم أي ذنب لي فيما لطف به لأخيك وحرمته؟. ثم عدل إلى مسألتي أن أخرج أسبوعاً ويخرج أسبوعاً، ويقع بيننا مناوبة في ذاك فامتنعت وأبيت ورفق بي رفقاً استحييت معه وأجبت، فكتب أبو إسحاق إلى أبي القاسم المطهر:
ابناي عيناي كف الحبس لحظهما ... وعز حسمها عن منظر النور
أطلقت لي منهما عيناً وقد بقيت ... عين فصرت من الإبنين كالعور
فسو بينهما في فك أسرهما ... مستوفراً منهما من أجر مأجور
يفديك بالأنفس التي مننت بها ... أبوهما وهما من كل محذور

فقال المطهر: الأمر إلى الملك، والذي رسم لي إطلاق ولدك صاحب الشامة، ولو كنت مستطيعاً للجمع بينهما لفعلت، بل لم أقنع حتى تكون أنت المطلق، فعاوده وشكره وقال: إذا كان قد أخذ في تخلية واحد فيجوز أن يتناوبا في الخروج وفسح المطهر في ذلك. قال أبو علي: وكانت خدمتي التي راعاها الملك عضد الدولة أن أبا طاهر بن بقية لما أفرج عن أبي إسحاق والدي بعد القبض عليه عقيب خروج عضد الدولة من مدينة السلام استخلفه على أن يعرفه ما يرد عليه من كتبه ويسلم إليه من يجيئه من رسله، فاتفق أن جاء أبو سعد المدبر إليه بكتاب من عضد الدولة وعمل على تسليمه فاجتهدت به ألا يفعل، فخاف وأشفق ولم يقبل وحمله إلى ابن بقية، فتقدم باعتقاله بعد أن ضربه وقرره، وشق ذلك على لما يراعي من عواقبه، وحملني الشباب ونزقه، والاغترار وبواعثه، على أن قمت ليلاً وحملت معي خمسين درهماً في صرة وعشرين درهماً في صرة أخرى، وجئت إلى الحبس متنكراً وعلى رأسي منشفة وقلت للسجان: هذه عشرون درهماً خذها ومكني من الدخول على هذا الجاسوس وأجتمع معه وأخاطبه وأخرج، فأخذها وأدخلني وجئت إلى أبي سعد وتوجعت له مما حصل فيه ووعدته بما أستطيعه من المعاونة على خلاصة ثم قلت له: أنت غريب وربما احتجت إلى شيء وهذه خمسون درهماً اصرفها في نفقتك واستعن بها على أمرك فشكرني وانصرفت، وأظنه ذكر ذلك لعضد الدولة عند خلاصه وعوده إليه، فحصل لي في نفسه ما كانت هذه الحال ثمرته. قرأت بخط أبي علي المحسن في مجموع جمعه لولده هلال ما هذا صورته لبعض المحدثين في عصرنا - وعلى الحاشية بخط ابنه هلال، هذه الأبيات لأبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال رحمه الله - :
أأهجو مجوسياً لو أني أمرته ... بنيك أمه جهر إذا تأثما
إذا ذكرت يوماً له ريع قلبه ... وأنعظ مشتاقاً إليها متيماً
يحن إليها حنتين لأنه ... يكون لها بعلاً وكان لها ابنما
قضاها رضاع الثدي منه بأيره ... ففر لها فرجاً وفرت له فما
فإن طرقت بالحمل يوماً فإنما ... يكون أخاً وابناً له كلما انتمى
ينيك الاقاصي والأداني محللاً ... بذلك ما كان الإله محرما
إذا ماذوو الأديان صلوا لربهم ... تقدم يهذي في الصلاة مزمزما
ويخرج مما كلفوا من مشقة ... ويحتسب اللذات أجراً ومغنما
وكتب أبو علي إلى أبيه في بعض نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللهي عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارف أو تالد عرض
فأجابه أبو إسحاق بأبيات ذكرتها في بابه فأغني. قرأت بخط أبي علي المحسن: أنشدني القاضي أبو سعيد الحسن ابن عبد الله السرافي رحمه الله:
الجواد والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
وأنشدني:
ألهي بني جشم عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غيرهم مسؤوم
وأنشدني في المعنى:
كأن وجوه شماس بن لأي ... من السوءات ملبسة عصيما
إذا ذكروا الحطيئة لم يعدوا ... حديثاً بعد ذاك ولا قديما
وأنشدني:
يا ابن صليبا أين طبك والذي ... به كنت تشفي من به مثل دائكا؟
أأنكرت مما قيل ما قد عرفته ... بغيرك أم آثرتهم بشفائكا؟
بل الموت ميقات النفوس متى يحن ... فداء الذي داويته في دوائكا
ومن خط أبي علي المحسن قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد وكنت أقرؤها عليه: أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها ثم تقرأ عليه. وسألت أبا عبد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله عن ذلك فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها ثم يخرجها إلينا بخطه، فإذا كتبناها خرق ما كانت فيه. وقرأت بخط أبي على المحسن: لأبي الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي إلي يتقاضاني دفتراً أعطانيه:

كنت يا سيدي استعرت كتاباً ... لي فيه قصائد للخليع
في الربيع وهذا ربيع ... فتفضل برده يا ربيعي
تغتنم مدحتي وإن جدت أيضاً ... لي بفلسين لم يكن ببديع
يا جميل الصنيع لم قد تغير ... ت وعملتني بسوء الصنيع؟
من عذيري يا آل زهرون منكم ... من تراه يطفي لهيب ضلوعي؟
لست في المنع بالملوم تعلم ... ت من السيد الجليل الرفيع
كنت أعددتكم لنائبة الده ... ر وللحادث الملم الفظيع
ورجوت الغني فخاب رجائي ... لم يخب فيك أنت بل في الجميع
واقريضي واخيبتي وأعنائي ... واضنائي واذلتي واخضوعي
واشبابي الذي تقضي ضياعاً ... واسهادي وافقد طيب هجوعي
واشقائي من ذل بختي عليكم ... من إليكم يا قوم كان شفيعي؟
كنت أبكي منكم فلما نكبتم ... قمت أبكي لكم فعزت دموعي
قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن بن سكرة على المائدة فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة فاضطربت يده وانقلب شيء منها على ثياب أبي الحسن فادعى عليه أنه ضرط وهجاه بأبيات لم يبق في حفظي منها غير بيتين وهما:
قليل الصواب كثير الغلط ... شديد العثار قبيح السقط
جني بالمضيرة ما قد جنى ... ولم يكفه ذاك حتى ضرط
المحسن بن الحسينكوجكبن علي كوجك أبو القاسم الأديب من أهل الفضل، وكان الغالب عليه الوراقة ويقول الشعر، وخطة معروف مرغوب فيه يشبه خط الطبري. قال أبو محمد أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذباري في تاريخه الذي ألف بمصر: وفي شوال سنة ست عشرة وأربعمائة، مات أبو القاسم المحسن بن الحسين العبسي الأديب الوراق، سمع من أبي مسلم محمد بن أحمد كاتب بن حنزابة، وسمع معه أخوه علي بن الحسين وكان أبوه أيضاً من أهل الفضل، وله شعر ذكرته في ترجمة ابنه الآخر علي ابن الحسين. وقرأت في كتاب الشام: المحسن بن علي بن كوجك أبو عبد الله من أهل الأدب، أملي بصيدا حكايات مقطعة بعضها عن ابن خالويه، روي عنه أبو نصر طلاب قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن عمر قال: أخبرنا أبو نصر ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب قال: أملي علينا الأستاذ أبو عبد الله المحسن بن علي بن كوجك بصيدا، وقرأته عليه في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة أنشدنا لبعضهم:
ودعك الحسن فهو مرتحل ... وانصرفت عن جمالك المقل
ومت من بعد ما أمت وأح ... ييت وكل الأمور تنتقل
كم قائل لي وقد رأى كلفي ... فيك ووجدي فقال مكتهل
يرحمك الله يا غلام إذا ... قال لك العاشقون يا رجل
قال ابن طلاب: وحضرنا معه يوماً في محرس غرق بمدينة صيدا، وفيه قبة فيها مكتوب أسماء من حضرها وأشعار: من جملتها:
رحم الله من دنا لأناس ... نزلوا ههنا يريدون مصراً
فرقت بينهم صروف الليالي ... فتخلوا عن الأحبة قسرا
فقال له قائل من جماعتنا: إن المائدة لا تقعد على رجلين ولا تستقر إلا على ثلاثة فأجز لنا هذين البيتين بثالث، فأطرق ساعة ثم قال اكتبوا:
نزلوا والثياب بيض فلما ... أزف البين منهم صرن حمرا
قال ابن طلاب: وكان بين الاستاذ وبين رجل كاتب لبني بزال إحن وملاحاة مستهجنة أوقعت بينهما العداوة بعد وكيد الصداقة، وكان هذا الرجل يقال له أبو المنتصر مبارك الكاتب، فهجاه الأستاذ بأشعار كثيرة وجمعها في جزء وكتب على ظهر هذا الجزء شعراً له وهو:
هذا جزاء صديق ... لم يرع حق الصداقة
سعى على دم حر ... محرم فأرقه
قال: وأنشد لنفسه فيه أيضاً:
مبارك بورك في الطول لك ... فأصبحت أطول من في الفلك
ولولا انحناؤك نلت السما ... ء ولكن ربك ما عدلك
المحسن بن علي التنوخي

بن محمد بن داود بن الفهم التنوخي أبو علي القاضي، وقد مر ذكر أبيه علي بن محمد وابنه علي ابن المحسن في مواضعهما. مات لخمس بقين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة وكانت وفاته ببغداد، وله من التصانيف: كتاب الفرج بعد الشدة ثلاث مجلدات، كتاب نشوار المحاضرة اشترط فيه أنه لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب أحد عشر مجلداً كل مجلد له فاتحة بخطبة.
قال غرس النعمة: صنف أبو علي المحسن كتاب نشوار المحاضرة في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة، وذيله غرس النعمة بكتاب سماه كتاب الربيع قال: ابتدأته في سنة ثمان وستين وأربعمائة. ولي القضاء بعدة نواح. حكى عن نفسه أنه في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة كان متولي القضاء بواسط، وقال في موضع آخر من كتابه: حضرت أنا مجلس أبي العباس بن أبي الشوارب قاضي القضاة إذ ذاك وكنت حينئذ أكتب له على الحكم والوقوف بمدينة السلام مضافاً إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقاء وخانيجار، وقصر ابن هبيرة، والجامعين، وسوراء وبابل والإيغارين وخطرنية. وذكر قصة. وذكر في موضع آخر أنه كان يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله وعز الدولة بن بويه. وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة وقد ذكرت ذلك في خبر الشلجي.
قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة قضاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركر الشاهد وكان خليفته على القضاء قبلي كتاباً على يدي وعنونه: إلى المخالف الشاق، السئ الأخلاق الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق.
وذكر الثعالبي فقال: هلال ذلك القمر، وغصن ذلك الشجر، الشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المشيد لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله الحسين بن الحجاج:
إذا ذكر القضاة وهم شهود ... تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه إلا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
قال: وأخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان: أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، ومما علق بحفظ أبي نصر من شعره قوله في معنى طريف لم سبق إليه:
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما ... فما تم إلا والغمام قد انفضا
قال: وأنشدني غيره له وأنا مرتاب به لفرط جودته وارتفاعه عن طبقته.
أقول لها والحي قد فطنوا بنا ... ومالي عن أيدي المنون براح
لما ساءني أن وشحتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
وأنشد لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الحساد صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقام وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد

قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتجديد العهد بخدمته فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز؟ قلت نعم، قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: ألا إن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالاً - وكانت سني يومئذ عشرين سنة - قال: وجب أن تجئ إلى الحضرة لأتقدم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملاً تقبلي أنت فيه شهوداً. قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب، فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها؟ ثم قال لي: اخرج معي إلى بغداد فقبلت يده ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلدني عملاً بسقي الفرات، وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالس أنسه، اتفق أن جلس يوماً مجلساً عاماً وأنا بحضرته وقيل له: أبو السائب في الدار قال: يدخل، ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه فتقدمت، ومد يده ليسارني فقبلتها فمد يدي وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارني في مثل هذا المجلس الحافل فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة فيرهبك ويحشمك، ويتوفر عليك ويكرمك، فإنه لا يجئ إلا بالرهبة وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك، وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفن من الحديث إلى أن دخل أو السائب، فلما رآه في سرار وقف ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له تقرباً إليه وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه فقال الحاجب لأبي السائب: يجلس قاضي القضاة وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له اجلس يا سيدي وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشد من تلك، فامض إليه في غد فسترى ما يعاملك به، وقطع السرار وقال لي ظاهراً: قم فامض فيما أنفذتك فيه وعد إلي الساعة بما تعمله، فوهم أبا السائب بذاك أننا في مهم، فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب ثم عدت إليه وقد قام عن ذلك المجلس وجئت من غد إلى أبي السائب فكاد يحملني على رأسه، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة، وكان ذلك دهراً طويلاً.
قال القاضي أبو علي في نشوار المحاضرة: حضر بين يدي رجلان بالأهواز فادعى أحدهما على الآخر حقاً فأنكره فسأل غريمه إحلافه فقال له أتحلف؟ فقال: ليس له علي شيء فكيف أحلف؟ ولو كان له علي شيء حلفت له وأكرمته.
حدث أبو علي قال: كنت جالساً بحضرة عضد الدولة في مجلس أنسه بنهاوند فغناه محمد بن كالة الطنبوري - شيخ كان يخدمه في جملة المغنين باق إلى الآن - :
ذد بماء المزن والعنب ... طارقات الهم والكرب
قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت قحطان في العرب
وهي تكسو كف شاربها ... دستبانات من الذهب
فاستحين الشعر والصنعة وسأل عنها. فقال له ابن كالة: هذا شعر غنت به مولانا سلمة بنت حسينة فاستعاده منها استحساناً له فسرقته منها. قال التنوخي: فقلت له: أما الشعر فللخباز البلدي، وأظن أبا الحسن بن طرحان قال لي: إن الصنعة فيه لأبيه، والمعنى حسن ولكنه مسروق. فقال: من أين؟ فقلت: أما البيت الثاني فمن قول أبي نواس:
عنقت حتى لو اتصلت ... بلسان صادق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
ووصفها بالعتق والقدم كثير في القوم في أبلغ من هذا البيت، ولكن التشبيه في البيت الثالث هو الحسن، وقد سرقه مما أنشدناه أبو سهل بن زياد القطان قال: أنشدنا يعقوب بن السكيت ولم يسم قائلاً:
أقرى الهموم إذا ضاقت معتقة ... حمراء يحدث فيها الماء تفويغا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
وقد كشف - أطال الله بقاء مولاي - هذا المعنى من قال:
كأن المدير لها باليمن ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار

وكان أبو علي أحمد بن علي المدائني المعروف بالهائم الراوية قائماً في المجلس فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية سرى الرفاء حيث يقول في صفة الدنان:
ومستسلمات هززن لها ... مداري القيان لسفك الدماء
وقد نظم الصلح أجسامها ... مع الخدر نظم صفوف اللقاء
تمد إليها أكف الرجال ... فترجع مثل أكف النساء
وكشف المعنى الثاني في الأبيات بقوله:
إزدد من الراح وزد ... فالغي في الراح رشد
يديرها ذو عنة ... وغد يثنيه الغيد
مد إليها يده ... فالتهبت إلى العضد
قال القاضي التنوخي: فقلت له: فأين أنت عما هو خير من هذا؟ وهو قول ابن المعتز:
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا
قال الهائم: فقد قال بكارة الرسغي:
وبكر شريناها على الورد بكرة ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيض للباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
وقول أبي النصر النحوي:
فلو رآني إذا اتكأت وقد ... مددت كفي للهو والطرب
يخالني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف عن ذهب
فبدأت أذكر شيئاً فقال الهائم: اصبر اصبر فهاهنا ما لا يلحقه أحد كان في الدنيا قط حسناً وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف ... يفيض على الشروب يد النضار
فقطعت المذاكرة وأقبلت أعظم البيت وأفخم أمره، وأفرط في استحسانه، والاعتراف بأنني لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به. قال التنوخي: وكنت بحضرته في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له المؤانسة بشهور يسيرة فغنى له من وراء ستارته الخاصة صوت وهو:
نحن قوم من قريش ... ما هممنا بالفرار
وبعده أبيات بعضها ملحون وبعض جيد. فاستملح اللحن وقال: هو شعر ركيك جداً فتعلمون لم هو ولمن اللحن؟ فقال له أبو عبد الله بن المنجم: بلغني أن الشعر للمطيع لله وأن اللحن له أيضاً. فقال لي: اعمل أبياتاً تنقل هذا اللحن إليها في وزنها وقافيتها فجلست ناحية وعملت:
أيهذا القمر الطا ... لع من دار القمار
رائحاً من خيلاء ال ... حسن في أبهى إزار
والذي يجني ولا يت ... بع ذبناً باعتذار
أنا من هجرك في بع ... د على قرب المزار
أوضح العذر عذارا ... ك على خلع العذار
وعدت وأنشدته إياها في الحال فارتضاها وقال: لولا أنه قد هجس في نفسي أن أعمل في معناها لأمرت بنقل اللحن إليها، ثم أنشدنا بعد أيام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العه ... على بعد المزار
ونمر السحب سحباً ... من أكف كالبحار
أبداً ننجز للضي ... ف قدوراً من نضار

وأمر جواريه بالغناء فيه. وأما أبياتي فإني تممتها قصيدة ومدحته بها وهي مثبته في ديوان شعري. قال: وجلس عضد الدولة وقد تحولت له سنة شمسية من يوم مولده على عادة له في ذلك، وكان عادته أنه إذا علم أنه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقل أو أكثر، أن يأكل ويتبخر ويخرج في حال التحويل إلى مجلس عظيم قد عبي فيه آلات الذهب والفضة ليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست عظيم القيمة ويجئ المنجم فيقبل الأرض بين يديه ويهنئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنون وأخذوا مواضعم وجلسوا، وحضر الندماء وأخذوا مواقفهم قياماً ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته غيري وغير أبي علي الفسوي، وأبي الحسن الصوفي المنجم، وأما أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف صاحب ديوان الرسائل فإنه كان يجلس ليوقع بين يديه ويستدعي له إذا نشط فيجعل بين يديه أقداحاً ويشرب معه. ومن قبل أن يشرب يوقع بمال الصدقات فيخرج، والغناء يمضي ثم يجئ المهنون من أهل المجلس مثل رؤساء دولته ووجوه الكتاب والعمال وكبار أهل البلد من الأشراف وغيرهم فيدخلون إليه فيهنونه والشعراء فيمدحونه. فلما جلس ذلك اليوم على هذه الصفة قيل له: إن الناس قد اجتمعوا للخدمة وفيهم أبو الحسن بن أم شيبان وقد حضر، فعجب من هذا ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل وليس هذا من أيامه وما حضر إلا لفرط موالاته، وأنه ظن أنه يوم لا يشرب فيه لنا، وإن حجبناه غضضنا منه، وإن أوصلناه فلعله لا يحب ذلك لأجل الغناء والنبيذ، ولكن اخرج إليه يا فلان - لبعض من كان قائماً من الندماء - واشرح له صفة المجلس ما قلته من أمره، وأد الرسالة إليه ظاهراً ليسمعها الناس، فإن أحب الدخول فأدخله قبلهم، وإن أراد الانصراف فلينصرف والناس يسمعون وقد علموا منزلته منا. فخرج الحاجب وأبلغ ذلك، فدعا وشكر وآثر الانصراف، فانصرف وهم جلوس يسمعون، ثم قال لحاجب النوبة: اخرج وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأخوه أبو محمد علي ابن العباس يتقدمون الناس جميعهم لرياستهم القديمة حتى دخلوا وقبلوا الأرض على الرسم في ذلك وأعطوه الدينار والدرهم ووقفوا، وابتدأ الشعراء فكان أول من ينشده من الشعراء السلامي أبو الحسن محمد بن عبد الله إلا أنه يريد مني أن أنشده في الملإ شيئاً، فإنه كان يأمرني بذلك من الليل فأحضر وأبتدئ فأنشده أو يحضر رجل علوي ينشد شعراً لنفسه فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلامي أبو الحسن ثم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشامي من أهل معرة النعمان يعرف بابن جلباب، ثم يتتابع الشعراء.
فلما انصرف الناس وتوسط الشرب جاءه الحاجب فقال: قد حضر أبو بكر بن عبد الرحيم الفسوي، وكان هذا شيخاً قد أقام بالبصرة وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة قبل ذلك وأقام، وكان خادماً له فيما يخدم فيه التجار يختصه بعض الاختصاص، فأقبل وكان بين يدي الدست التمري الذي يوضع بين يدي في كل يوم، وفيه من الأشربة المحللة ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد وسمني وألزمني ذلك بعد امتناعي منه شهوراً حتى قد ردني وأخافني. فقال لي: يا قاضي، إن هذا الرجل الذي استؤذن له عامي جاهل بالعلم، وإنما استخدمته رعاية لحرمات له علي، ولأنه كان يخدم أمي في البز ويدخل إليها بإذن ركن الدولة لتقاه وأمانته فلا تستتر عنه وهذا قبل أن أولد فلما ولدت كان يحملني على كتفه إلى أن ترجلت، ثم صار يشتري البز ويبيعه علي واستمرت خدمته لحرمته وهو قاطن بالبصرة، ولعله يدخل فيرى ما بين يديك فيظنه خمراً فيرجع إلى البصرة فيخبر قاضيها وشهودها بذلك فيقدح فيك، ومحلة يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله المنجم - وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم يجلس دوني بفسحة في المجلس - فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك. فقبلت الأرض شكراً لهذا التطول في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله ثم قال: أدخلوه، وشاهد المجلس وهنأ ودعا وأعطى ديناراً ودرهماً كبيرين فيهما عدة مثاقيل وانصرف.

قال أبو علي: ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلبي، وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفاً مع قاضي القضاة أبي السائب، وحديث تقريبه منه ومسارته إياه في المحفل ليعظم بذلك قدره، وتكبر منزلته في عين قاضي القضاة، أبي السائب، لله در القائل
لولا ملاحظة الكبير صغيره ... ما كان يعرف في الأنام كبير
قال الرئيس أبو الحسن هلال: وفي شهر ربيع الأول سخط عضد الدولة على القاضي أبي المحسن بن علي التنوخي وألزم منزله وصرف عما كان يتقلده، وقسم ذلك على أبي بكر بن أبي موسى، وأبي بكر بن المحاملي، وأبي محمد ابن عقبة، وأبي تمام بن أبي حصين، وأبي بكر بن الأزرق، وأبي محمد بن الجمهري. وكان السبب في ذلك ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني القاضي أبو علي والدي قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة فاتفق أن مضيت يوماً إلى أبي بكر بن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدولة وبينهم وكان له صديقاً، ومعي أبو علي الهائم وجلسنا نتحدث، وقعد أبو علي على باب خركاه، كنا فيه وقدم إليه ما يأكله فقال لي: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد. فقلت لم؟ فقال: إن الملك مدبر في القبض على الصاحب أبي القاسم بن عباد وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان، وإذا كان كذلك تشاغل بما يتطاول معه الأيام وانصرف من عنده. فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج به إلى أحد ولا سيما إلى أبي الفضل بن أحمد الشيرازي. فقلت أفعل ونزلت إلى خيمتي وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي ومواصلتي ومواكلتي ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل بن أحمد الشيرازي فقال لي: أيها القاضي، أنت مشغول القلب فما الذي حدث؟ فاسترسلت على أنس كان بيننا وقلت: أما علمت أن الملك مقيم وقد عمل على كذا في أمر الصاحب وهذا دليل على تطاول السنة. فلم يتمالك أن انصرف واستدعى ركابياً من ركابيتي وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال: عند أبي بكر ابن شاهويه. قال: وما صنعتم؟ قال: لا أدري، إلا أن القاضي أطال عنده الجلوس وانصرف إلى خيمته عنه ولم يمض إلى غيره، فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي فقال كذا وكذا، وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه، وعرفت أنه كان عند أبي بكر بن شاهويه وربما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به وأظهر السر فيه فسد ما دبر في معناه.
فلم وقف عضد الدولة على الرقعة وجم وجوماً شديداً وقام من سماط كان قد عمل في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم مغيظاً واستدعاني وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا حاكياً عن أبي بكر بن شاهويه، فما الذي جرى بينكما في ذلك؟ قلت: لم أقل من ذلك شيئاً فجمع بيني وبين أبي الفضل ابن أبي أحمد وواقفني وأنكرته وراجعني وكذبته، وأحضر أبو بكر بن شاهويه وسئل عن الحكاية فقال: ما أعرفها ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها، وثقل على أبي بكر هذه المواقفة وقال: ما نعامل الأضياف بهذه المعاملة.

وسئل أبو علي الهائم عما سمعه فقال: كنت خارج الخركاه وكنت مشغولاً بالأكل وما وقفت على ما كانا فيه، فمد وضرب مائتي مقرعة وأقيم فنفض ثيابه، وخرج أبو عبد الله سعدان وكان لي محباً فقال لي: الملك يقول لك: ألم تكن صغيراً فكبرناك، ومتأخراً فقدمناك، وخاملاً فنبهنا عليك، ومقتراً فأحسنا إليك؟؟ فما بالك جحدت نعمتنا وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته فما علمت أنني فعلته، ومع ذلك فقد كنت مستوراً فهتكني، ومتصوناً ففضحني، وأدخلني من الشرب والمنادمة بما قدح فيّ؟ فقال أبو عبد الله: هذا قول لا أرى الإجابة له لئلا يتضاعف ما نحن محتاجون إلى الاعتذار والتخلص منه، ولكنني أقول عنك كذا وكذا بجواب لطيف فاعرفه حتى إن سئلت عنه وافقني فيه. وتركني وانصرف، وجلست مكاني طويلاً وعندي أنني مقبوض علي ثم حملت نفسي على أن أقوم وأسبر الأمر وقمت وخرجت من الخيمة فدعا البوابون دابتي على العادة ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس منكسف البال، فصار الوقت الذي أدعى فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم وحضرت المجلس، فلم يرفع الملك إلي طرفاً ولا لوى إلي وجهاً، ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوماً، ثم استدعاني وهو في خركاه وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف وعلى رأسه أبو الثناء شكر الخادم فقال: ويلك، اصدقني عما حكاه أبو الفضل بن أحمد فقلت: كذب منه، ولو ذكرت لمولانا ما يقوله لما أقاله العثرة. فقال: أومن حقوق عليكم أن تسيئوا غيبتي وتتشاغلوا بذكري؟ فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائماً. فالتفت إلى أبي القاسم وقال: اسمع ما يقول. فقال له بالفارسية وعنده أنني لا أعرفها: هؤلاء البغداديون مفتونون ومفسدون ومتسوفون. وقال شكر: الأمر كذلك، إلا أن التسوق على القاضي لا منه.
ثم قال لي عضد الدولة: عرفنا ما قاله أبو الفضل قلت: هو ما لا ينطق لساني به. فقال: هاته، وكان يجب أن تعاد الأحاديث و الأقاويل على وجهها من غير كناية عنها ولا احتشام فيها. فقلت: نعم قال: إنك عند وفاة والدك بشيراز أنفذت من كرمان وأخذت جاريته زرياب، وأن الخادم المخرج في ذاك وافي ليلة الشهر فاجتهد به أن يتركها تلك الليلة لتوفي أيام الحق فلم يفعل ولا رعى للماضي حقاً ولا حرمة. فقال: والله لقد أنكرنا على الخادم إخراجه إياها على هذا الإعجال ولو تركها يوماً وأياماً لجاز، وبعد فهذا ذنب الخادم ولا عمل لنا فيه ولا عيب علينا به، ثم ماذا؟ قلت: وقال: إن مولانا يعشق كنجك المغنية ويتهالك في أمرها وربما نهض إلى الخلاء فاستدعاها إلى هناك وواقعها. فقال: إنا لله لعنكما الله ولا بارك فيكما، ثم ماذا؟ فأوردت عليه أحاديث سمعتها من غير أبي الفضل ونسبتها إليه وقلت: لم أعلم أنني أقوم هذا المقام فأحفظ أقواله، وقد ذكر أيضاً هذا الأستاذ وأومأت إلى أبي القاسم وأبي الريان وجماعة الحواشي فقال ما قال في أبي القاسم؟ قلت قال. إنه ابتاع من ورثة ابن بقية ناحية الزاوية من راذان بأربعة آلاف درهم بعد أن استأذنك استئذاناً سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة واستغلها في سنة واحدة نيفاً على ثلاثين ألف درهم وإنه أعطى فلاناً وفلاناً ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة فأعطاه نيفاً وستين ألف درهم، فمات أبو القاسم عند سماعه ذلك، وأوردت ما أوردته منه مقابلة على ما ذكرني به. قلت: وقال في أبي الريان كذا وكذا لأمور ذكرتها.

وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي فعاود التقريب لي والإقبال علي، واتفق أنه سكر في بعض الأيام وولع بكنجك ولعاً قال لي فيه: وهذا من حديث أبي الفضل وأشار إليه، فقلق أبو الفضل وقرب مني وكنت أقعد ويقوم. وقال لي: ما الذي أومأ إلي الملك فيه؟ قلت: لا أدري فسله أنت عنهن ثم رحلنا عائدين إلى بغداد فرآني الملك في الطريق وعلي ثيابه حسنة وتحتي بغلة بمركب وجناغ جواد فقال لي: من أين لك هذه البغلة؟ قلت: حملني عليها الصاحب أبو القاسم بمركبها وجناغها وأعطاني عشرين قطعة ثياباً وسبعة آلاف درهم. فقال: هذا قليل لك منه مع ما تستحقه عليه، فعلمت أنه اتهمني به وبأني خرجت بذلك الحديث إليه وما كنت حدثته به، ووردنا إلى بغداد فحكى لي: أن الطائع لله متجاف عن ابنته المنقولة إليه وأنه لم يقربها إلى تلك الغاية فثقل ذلك عليه وقال لي: تمضي إلى الخليفة وتقول له عن والدة الصبية: إنها مستزيدة لإقبال مولانا عليها وإدنائه إياها، ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال ويزول معه الانقباض، فقد كنت وسيط هذه المصاهرة فقلت: السمع والطاعة، وعدت إلى داري لألبس ثياب دار الخلافة، فاتفق أن زلقت ووثئت رجلي، فأنفذت إلى الملك أعرفه عذري في تأخري عن أمره فلم يقبله، وأنفذ إلي من يستعلم خبري، فرأى الرسول لي غلماناً روقة وفرشاً جميلاً فعاد إليه وقال له: هو متعالل وليس بعليل، وشاهدته على صورة كذا وكذا والناس يغشونه ويعودونه، فاغتاظ غيظاً مجدداً حرك ما في نفسه مني أولاً، فراسلني بأن ألزم بيتك ولا تخرج عنه ولا تأذن لأحد في الدخول عليك فيه إلا نفر من أصدقائي استأذنت فيهم فاستثنى بهم، ومضيت الأيام وأنفذ إلى أبو الريان فطالبني بعشرة آلاف درهم وكنت أستسلفتها من إقطاعي فأديتها إليه، واستمر على السخط والصرف عن الأعمال إلى حين وفاة عضد الدولة.
وذكر عرس النعمة بن هلال: حدثني بعض السادة الأصدقاء وأنسيته وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفاً أن تحمل منه فتستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حباً شديداً زائداً موفياً، ويقفل عليها باب حجرتها إذا شرب ويقول للخدم: خذوا المفتاح ولا تعطونيه إذا سكرت ورمت الدخول إليها ولو فعلت مهما فعلت، فأقسم بالله لئن مكنت من ذاك لأقتلن الذي يمكنني منه، فإذا سكر منعه السكر من التماسك، وحمله الحب والهوى على المضي إليها والدخول عليها فيجئ إلى بابها ويأمر بفتحه ويتهدد ويتوعد ولا يقبل منه، ولا يقر له أحد بمعرفة المفتاح أين هو؟ ولا من هو معه إلى أن ينصرف أو ينام، فذاك كان دأبه ودأبها، وتقدم عضد الدولة إلى أبي علي التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه عن والدة الصبية في المعنى بما يستزيده فيه لها ويبعثه به عليها بأسباب يتوصل إليها وأقول يصفها ويومئ إلى الغرض فيها رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه فقال: السمع والطاعة، ومضى إلى بيته ولن يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضاً وعاده أصدقاؤه منه واعتذر به إلى عضد الدولة، فوقع لعضد الدولة باطن الأمر، وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف خيره وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب، ثم يعود فيدخل عليه هاجماُ، فإن كان على حاله في فراشه لم يتغير له أمر أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأظهر أنه عاد لأجلها لأنه أنسيها معه؟ وإن وجده قاعداً أو قائماً عن الفراش قال له: الملك يقول لك: لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا، وانصرف. قال الخادم: فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك فشكر وأعاد جواباً ضعيفاً لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك، فهجمت عليه فوجدته قائماً يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحير فقلت له: الملك يقول لك: لا تبرح دارك لا إلينا ولا إلى غيرنا وخرجت، فبقي على ذلك إلى أن مات عضد الدولة.
محمد بن آدم بن كمال الهروي

أبو المظفر الهروي ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في السياق وقال. مات بغتة سنة أربع عشرة وأربعمائة ودفن بمقبرة الحسين، وقبره ظاهر بقرب قبر أبي العباس السراج ووصفه فقال: الأستاذ الكامل الإمام في الأدب والمعالي، المبرز على إقرانه وعلى من تقدمه من الأئمة باستخراج المعاني وشرح الأبيات، وله أمثال وغرائب التفسير بحيث يضرب به المثل، ومن تأمل فوائده في كتاب شرح الحماسة وكتاب شرح الإصلاح وكتاب شرح أمثال أبي عبيد وكتاب شرح ديوان أبي الطيب وغيرها اعترف له بالفضل والانفراد، وتتلمذ للأستاذ أبي بكر الخوارزمي الطبري، وتفقه على القاضي أبي الهيثم، ثم جدد الفقه على القاضي أبي العلاء صاعد، وكان يقعد للتدريس في النحو وشرح الدواوين والتفسير وغير ذلك، فأما الحديث فما أعلم أنه نقل عنه منه شيء لاشتغاله بما سواه لا لعدم السماع له.
محمد بن أبان بن سيد أباناللخمي أبو عبد الله القرطبي، كان عالماً باللغة والعربية حافظاً للأخبار والآثار والأيام والمشاهد والتواريخ، أخذ عن أبي على البغدادي وعن غيره، ولي أحكام الشرطة وكان مكيناً عند المنتصر، وألف له الكتب وكتب عنه، وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن حبيب بن سمرةابن جندب بن هلال بن جريج بن مسرة بن حزن بن عمرو ابن جابر بن ذي الرأسين واسمه خشين بن لاي بن عصيم بن شمخ ابن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عبد الله الفزاري. ولسمرة بن جندب صحبه بالنبي صلي الله عليه وسلم وكان عبيد الله بن زياد يستعمله على شرط البصرة إذا قدم الكوفة، وكان الفزاري هذا نحويا ضابطاً جيد الخط، أخذ عن المازني وحكى عنه أنه قال: قرأت كتاب الأمثال للأصمعي على الأصمعي. ومن زعم أنه قرأه عليه غيره فقد كذب.
قال المرزباني: كان محمد بن إبراهيم الفزاري الكوفي عالماً بالنجوم. وهو الذي يقول فيه يحيى بن خالد البرمكي: أربعة لم يدرك مثلهم في فنونهم: الخليل بن أحمد، وابن المقفع، وأبو حنيفة، والفزاري.
وقال جعفر بن يحيى، لم ير أبدع في فنه من الكسائي في النحو، والأصمعي في الشعر، والفزاري في النجوم، وزلزل في ضرب العود. وللفزاري القصيدة التي تقوم مقام زيجات المنجمين وهي مزدوجة طويلة تدخل مع تفسيرها عشرة أجلاد أولها:
الحمد لله العلي الأعظم ... ذي الفضل والمجدالكبير الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم
الخالق السبع العلي طباقا ... والشمس يجلو ضوءها الإغساقا
والبدر يملأ نوره الآفاقا
وهي هكذا ثلاثة أقفال، ثلاثة أقفال
محمد بن إبراهيم العواميقال ابن إسحاق: يعرف بالقاضي وكان صديقي وتوفي بعد الخمسين والثلاثمائة، وله كتاب الإصلاح والإيضاح في النحو.
محمد بن إبراهيم بن عمرانابن موسى الحوزي الأديب أبو بكر النحوي، من حوز فارس، وكان الأدباء المنقرين علامة في معرفة الأنساب وعلوم القرآن، ونزل نيسابور مدة وكثر الانتفاع به، وسمع حماد بن مدرك وجعفر بن درستويه الفارسيين وأبا بكر محمد ابن دريد وأقرانهم. قال الحاكم: وجاءنا نعمه من فارس سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله أبو سعيدالأديب الرجل الصالح، درس الأدب على أبي حامد الخارزنجي، وسمع أبا العباس بن يعقوب وأبا بكر القطان وأبا عثمان البصري وخرجت له الفوائد وحدث. ومات يوم الجمعة النصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وثلاثمائة ذكر ذلك كله الحاكم في كتاب نيسابور.
محمد بن إبراهيم بن الحسين بن دادا

الجرباذقاني أبو جعفر، ذكره أحمد بن صالح بن شافع في تاريخه وقال: مات في حادي عشر ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة ووصفه فقال: رفيقنا الفقيه المحدث النحوي الأديب اللغوي الفرضي كالكاتب العفيف، ذو الموات والخصائص، ولما مات صلى عليه شيخنا أبو الفضل ابن ناصر ودفن في تربة استجدها أبو النجيب بظاهر التوثة وكنا نسمع معاً، ولم أر له مثلاً زهداً وعلماً ونبلاً، وصل إلى بغداد سنة أربعين وخمسمائة واصطحبنا، وكان متيقظاً زاهداً ورعاً، وصنف كتباً في الفرائض وغيرها، وكان شافعي المذهب، ولو عاش لكان صدر الآفاق، ولقد فت في عضدي فقده، وأثر عندي بعده، فعند الله نحتسب مصيبتنا فيه.
محمد بن إبراهيم بن خلف اللخمي الأديبأبو عبد الله يعرف بابن زروقه، قال ابن بشكوال: كان من أهل الأدب معتنياً بطلبه قديماً مشهوراً فيه، وممن يقول الشعر الحسن، له تأليفان في الأدب والأخبار. قال ابن خزرج: قرأتهما عليه، ومن شيوخه أبو نصر النحوي وابن أبي الحباب وغيرهما، وتوفي في حدود سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وهو ابن سبع وستين سنة.
محمد بن إبراهيم لبيهقيبن أحمد البيهقي أبو سعيد قال عبد الغافر: هو رجل فاضل متدين حسن العقيدة، صنف في اللغة كتباً منها: كتاب الهداية، كتاب الغيبة، وكان ماهراً في ذلك النوع، سمع الحديث من مشايخ نيسابور كالإمام شيخ الإسلام الصابوني والإمام ناصر المروزي.
محمد بن إبراهيم بن داودبن سليمان أبو جعفر الأردستاني - وأردستان من نواحي أصبهان بليدة - أديب فاضل، حدث عن أحمد بن عبد الله النهرديري وأحمد ابن محمد بن العباس الأسفاطي البصري، وكتب عنه أحمد ابن محمد الحداد وغيره بأصفهان، ذكره يحيى بن مندة وقال: مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن عبد اللهبن عبد الصمد ابن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، وقال المرزباني: هو أحمد بن محمد، قتل في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالله، وكنيته أبو العباس ويلقب بأبي العبر.
قال جحظة: لم أر قط احفظ منه لكل عين ولا أجود شعراً، ولم يكن في الدنيا صناعة إلا وهو يعلمها بيده حتى لقد رأيته يعجن ويخبز، وكان أبوه أحمد يلقب بالحامض، وكان حافظاً أديباً في نهاية التسنن، قتل بقصر ابن هبيرة وقد خرج لأخذ أرزاقه من هناك، سمعه قوم من الشيعة ينتقص علياً عليه السلام فرموا به من فوق سطح كان بائتاً عليه فمات في السنة المقدم ذكرها.
وذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني فقال: كان أبوه أحمد يلقب حمدون الحامض، ولد لمضي خمس سنين من خلافة الرشيد والرشيد بويع في سنة سبعين ومائة وعاش إلى أيام المستعين بالله، وكان في أول أمره يسلك في شعره الجد ثم عدل إلى الهزل والحماقة فنفق نفاقاً كثيراً، وجمع به ما لم يجمع أحد من شعراء عصره المجيدين.
ومن سائر شعره قوله:
بأبي من زارني مكتئباً ... خائفاً من كل حس جزعا
رصد الخلوة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا
قمر نم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا؟
ركب الأهوال في زورته ... ثم ما سلم حتى ودعا
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب جامع الحماقات وحاوي الرقاعات، كتاب المنادمة وأخلاق الرؤساء. حدث أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي السلامي حدثني أبو أحمد الهذلي قال: حدثنا أبو عبد الله الشعيري وكان شاعراً من أهل بغداد قال: اجتمعت مع جماعة من الشعراء في مجلس نتناظر ونتناشد ونتساءل ونعد شعراء زماننا، فمر بنا أبو العبر فقلنا: هذا أيضاً يعد نفسه في الشعراء فمال إلينا وقال: والله أشعر منكم وأعلم. فقلنا: قد اختلفنا في بيت فاشتبه علينا فهل نسألك عنه؟ فقال نعم، فسألناه عن معنى هذا البيت:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برديه تصادفيه سخينا

كيف تصادفه سخياً إذا بردته؟. فقال: أخفي عليكم؟ قلنا نعم. فقال هو ليس من التبريد وإنما هو صرف مدغم، ومعناه بل رديه من الورود، فأدغموا اللام في الراء كما قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم)، وقوله: (وقيل من راق). قال: فاستحسنا ما فسره وأقررنا له بالفضل. فقال: إني أسألكم بيتاً كما سألتموني، أما ترون إلى قول دغفل:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
فقلنا: سل: فقال: ما معنى قول القائل؟:
يا من رأى رحلاً واقفاً ... أحرقه الحر من البرد
كيف يحرقه الحر من البرد؟ قال: فاضطربنا في معناه، فلم نخرجه فسألناه عنه فقال: هذا قولي: وذلك أنني مررت بحداد يبرد حديداً فمسست تلك البرادة فأحرقت يدي، وإنما البرد مصدر برد الحديد برداً، وليس هو من الشيء البارد. قال: فأقررنا بفضل معرفته فأنشأ يقول:
أقر الشعراء أني ... ومرواً في الحرمرم
إنهم عندي جميعاً ... .... العنمنم
فقطعت الرأس منهم ... ثم جلد القد دمدم
فعلمنا منه طبلاً ... من طبول الخد دمدم
فضربنا به دمدم ... ثم دمدم ثم دمدم
عجبنا يا قوم مني ... كنت معكم كالململم
وقال المرزباني: أبو العبر أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد لصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
وقال محمد بن داود: اسمه محمد بن أحمد، وهو حمدون ابن عبد الله بن عبد الصمد يكنى أبا العباس، صاحب الشعر الأحمق والكلام المختلق، وهو أبرد الناس غير مدافع وربما قال شعراً صالحاً، وهو القائل وأنشدناه الأخفش:
لو يكون الهوى بجسم من الصخ ... رعلى أن فيه قلب حديد
فعل الحب فيهما مثل ما يف ... عل شعر اللحى بورد الخدود
وله ورواه أبو الحسن علي بن العباس الرومي:
لو كنت من شيء خلافك لم تكن ... لتكون إلا مشجباً في مشجب
لو أن لي من جلد وجهك رقعة ... لجعلت منها حافراً للأشهب
قال: وكان يظهر الميل على العلويين والهجاء لهم، وجرت منيته على يد رجل من أهل الكوفة من رماة الجلاهق، وخرج معه من بغداد إلى آجام الكوفة للرمي فسمع الرامي منه كلاماً استحل به دمه فقتله وهو القائل لموسى بن عبد الملك وكان دفع إليه توقيعاً بصلة من المتوكل فدافعه موسى وماطله مدة فوقف له يوماً فلما ركب أنشده:
حتى متى نتبرد ... وكم وكم أتردد؟
موسى أدر لي كتابي بحق ربك الأسود
يعني محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق، وكان محمد من أمة سوداء فنحلته سوادها، فجزع موسى بن عبد الملك من قوله، وسأله كتم الحال وقضي شغله.
وقال جحظة: اجتمعت أنا وجماعة من إخواننا مع أبي العبر في براح أراد أن يبنيه داراً فأقبلنا نقدر البيوت وأين مواقعها؟ فبينا نحن كذلك إذ ضرط بعض من كان معنا فقال أبو العبر: مهما شككنا فيه فما نشك أن هذا الموضع الكنيف.
محمد بن أحمد بن محمد المغربيأبو الحسن راوية المتنبي، أحد الأئمة الأدباء والأعيان الشعراء، خدم سيف الدولة ولقي المتنبي وصنف تصانيف حسنة وله ذكر في مصر والعراق والجبل وما وراء النهر والشاش، وجالس الصاحب ابن عباد، ولقي أيا الفرج الأصبهاني وروي عنه، وله معه أخبار. ومن تصانيفه التي شاهدتها: كتاب الانتصار المنبئ عن فضائل المتنبئ، كتاب النبيه المنبئ عن رذائل المتنبئ، كتاب تحفة الكتاب في الرسائل - مبوب - ، كتاب تذكرة النديم - مجموع حسن جيد ممتع - ، كتاب الرسالة الممتعة كتاب بقية الانتصار المكثر للاختصار. وغير ذلك من الرسائل والكتب. قال: وأخذت قول المتنبئ:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فزدت عليه فلم أدع لغيري فيه زيادة وقلت من قصيدة:
عدمت من النحول فلا بلمس ... يكفيني الوجود ولا عيان
ولولا أنني أذكى البرايا ... لكنت خفيت عني لا أراني
قال: واختفائي عني أبدع من اختفائي من غيري وأبلغ في المعنى. وله إلى بعض جلة الكتاب يستهدنه عمامة:
أريد عمامة حسناء عنها ... أعممك الجميل من الثناء

فوجهها وقد نبلت ... بلبسك في صباح أم مساء
معافى نشرها من كل عاب ... يولد لونه أيدي العناء
أدق من الذكاء إذا اجتلتها ... على مهل لواحظ ذي ذكاء
وأضوى لحمة وسدى ولوناً ... من الشمس النيرة في ضحاء
لو الغرقى قاربها لأربت ... عليه في الصفاقة والصفاء
لبم أو لنيسابور تعزى ... فتصلح للمصيف وللشتاء
كعرضك إنه عرض نقي ... عن الأدناس جمعاً في عطاء
تتوجني بهاء منه أكسى ... مدى لبسي لها حلل البهاء
إذا ما مست فيها معجباً لا ... أفكر من أمامي أو ورائي
يقول المبصروها أي تاج ... به أصبحت فينا ذا رواء
وتعلم أن قول العرب حق ... بلا كذب يدوم ولا افتراء
عمائمنا لنا تيجان فخر ... سناها قد أضيف إلى سناء
قرأت في كتاب مذاكرة النديم من تصنيف محمد بن أحمد المغربي هذا: قلت أصف رغيفاً أمرني بوصفه الصاحب الجليل أبو القاسم إسماعيل بن عباد وأنا معه على مائدته، واقترح أن يكون وصفي له ارتجالاً فقلت:
ورغيف كأنه الترس يحكى ... حمرة الشمس بالغدو احمراره
خفت أن يكتسي نهار مآقي ... ى به الليل مذ تبدى نهاره
جمعته أناملي ثم خلت ... ه فسيان طيه وانتشاره
لم تقع منه قطعة لا ولا با ... ن للحظ شقيقه وانكساره
ناعم لين كمبسم من قا ... م بعذري عند البرايا عذارة
لست أنسى به تنعم ضرسي ... إذ لجزعي وهج توقد ناره
كان أحظى إذ ذاك عندي من الوف ... ر إذا قر في محلى قراره
يعلم الله أني لست أنسا ... ه وإن شط عن مزاري مزاره
فاستحسن الأبيات وتعجب من سرعة خاطري بها ثم قال لي مداعباً نفاسة أخلاق فيه: خذه صلة لك، فأخذته وتركته على رأسي إلى أن قمنا عن المائدة، ثم خرجت ماراً إلى منزلي وكنت أنزل بعيداً من منزله، فعرف خروجي على تلك الحال فقال: ردوه، فرجعت فقال لي: عزمت أن تشق الأسواق والشوارع وهذا على رأسك؟ فقلت: نعم لأسأل فأقول: هذا صلة مولانا وأذكر الأبيات، فضحك ثم قال: بعناه. فقلت: قد بعته من مولانا بخمسمائة دينار فقال: أنقضنا واجعلها دراهم، فقلت: قد فعلت، فأمري لي بخمسمائة درهم وخلعة من ثياب جسده. وقال في هذا الكتاب: ولي في وصف مضيرة وصفتها وأنا على مائدة أبي عبد الله بن جيهان وزير صاحب خراسان:
نعم الغذاء إذا ما أينع العشب ... وراقت العين أبراد له قشب
مضيرة كاللجين، السبك يحكمها ... معقودة مصطفى للطبخ منتخت
تخالها أرض بلور وما حملت ... من الدسومة نقشاً حشوة ذهب
أبرنجها أكر سود ملبسة ... قباطياً عن قريب سوف تستكب؟
ولحمها حلل للزهر قد جعلت ... من أبيض الثلج فيما بينها حجب
توافق الشيخ والكهل اللذين هما ... من الرطوبة في حال هي العطب
وللأبازير نفح من دواخلها كالمسك ... لا بل إليها المسك ينتسب
يا حسنها وهي بالأيدي تغار بلا ... جرم أتته وبالألحاظ تنتهب
من حالفته فقد جلت مواهبه ... ونال من دهره أضعاف ما يجب
محمد بن أحمد الوشاءن إسحاق بن يحيى الوشاء أبو الطيب النحوي من أهل الأدب حسن التصنيف مليح التأليف أخباري. قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه: مات أبو الطيب الوشاء سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وله ابن يعرف بابن الوشاء. حدث الوشاء عن أحمد بن عبيد بن ناصح والحارث بن أسامة وثعلب والمبرد قال الخطيب: روت عنه منية جارية خلافة أم ولد المعتمد.

قال ابن النديم: وكان نحوياً معلماً لمكتب العامة وكان يعرف بالأعرابي، وله من الكتب: كتاب مختصر في النحو، كتاب الجامع في النحو، كتاب في المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الفرق، كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، كتاب المثلث، كتاب أخبار صاحب الزنج، كتاب الزاهر في الأنوار والزهر، كتاب السلوان، كتاب المذهب، كتاب الموشح، كتاب سلسلة الذهب، كتاب أخبار المتظرفات، كتاب الحنين إلى الأوطان، كتاب حدود الطرف الكبير، كتاب الموشى. نقلت من خط أبي عمرو محمد بن أحمد النوقاتي أنشدني الشافعي أحمد بن محمد، أنشدني بن محمد بن حفص، أنشدني أبو الطيب الوشاء لنفسه:
لا صبر لي عنك سوى أنني ... أرضى من الدهر بما يقدر
من كان ذا صبر فلا صبر لي ... مثلي عن مثلك لا يصبر
ومن خطه وإسناده للوشاء:
يا من يقوم مقام الروح في الجسد ... لا تحسبني خلي البال من سهد
حاشاك من أرقى حاشاك من قلقي ... حاشاك من طول ما ألقى من الكمد
حزني عليك جديد لا نفاد له ... أوهى فؤادي وأوهى عقدة الجلد
والصبر عنك قليل مضرم قلقاً ... بين الضلوع كصبر الأم عن ولد
محمد بن أحمدلأصبغبن الحسين بن الأصبغ بن الحرون ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو عالم فاضل حسن التصنيف مليح التأليف كثير الأدب واسع الرواية من أهل بغداد ومن أولاد الكتاب، وله من الكتب: كتاب المطابق والمجانس، كتاب الحقائق كبير، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الآداب، كتاب الرياض، كتاب الكتاب، كتاب المحاسن، كتاب مجالسة الرؤساء.
محمد بن أحمد بن مروان بن سبرهأبو مسهر النحوي، ذكره محمد بن إسحاق النديم ثم قال: وله من الكتب: كتاب الجامع في النحو، كتاب المختصر، كتاب أخبار أبي عيينة محمد بن أبي عيينة.
محمد بن أحمد المزني أبو الحسنوزير نوح بن منصور الساماني، أحد أصحاب البلاغة والرسائل، شاع ذكرها في الآفاق، وتناجت بحسنها الرفاق.
محمد بن أحمد بن عبد الحميد الكاتبذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل السير، وله من الكتب: كتاب أخبار خلفاء بني العباس كبير
محمد بن أحمد الحكيميبن إبراهيم بن قريش الحكيمي أبو عبد الله، روي عن يموت بن المزرع، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وأحمد بن عبيد بن ناصح، والحارث بن أبي أسامة، روي عن أبو عبد الله المرزباني وغيره، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب خلية الأدباء تشتمل على أخيار ومحاسن وأشعار، كتاب سفط الجوهر، كتاب الشباب، كتاب الفكاهة والدعابة. حدث أبو علي قال: حدثني ابن أبي قيراط قال: أقر أني أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي كتاباً بخط علي بن عيسى الوزير وأخبرني أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة وهو يتقلد له طساسيج طريق خراسان يحثه فيه على حمل المال وضمنه: قد كنت - أكرمك الله - بعيداً من التقصير، غنياً عن التنبيه والتبصير، راغباً فيما خصك بالجمال، وقدمك على نظرائك من العمال، واتصلت بك ثقتي، وانصرفت إليك عنايتي، ورددت الجميل من العمل إليك، واعتمدت في المهم عليك، ثم وضح لي من أثرك، وصح عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطائك ولأئمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال، وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجد في الجباية، حتى تدر حمولك وتتوفر ويتصل ما يتوقع وروده من جهتك ولا تتأخر، فنشدتك لما تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب عن كتابي هذا بمال، تثيره من سائر جهاته وتحصله، وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخيره ضيق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
محمد بن أحمد بن إبراهيم

بن كيسان أبو الحسن النحوي، وكيسان لقب واسمه إبراهيم، مات فيما ذكره الخطيب لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومائتين في خلافة المقتدر. قال أبو بكر الزبيدي: وليس هذا بالقديم الذي له في العروض والمعمى كتاب. وقال الخطيب بن برهان: كيسان - ليس باسم جده إنما هو لقب أبيه - . وكان يحفظ المذهبين الكوفي والبصري في النحو لأنه أخذ عن المبرد وثعلب، وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: أبو الحسن ابن كيسان أنحى من الشيخين يعني المبرد وثعلباً. قال المؤلف: وكان كما قال: يعرف المذهبين إلا أنه كان إلى البصريين أميل.
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين قال: كان ابن كيسان يسأل المبرد عن مسائل فيجيبه فيعارضها بقول الكوفيين فيقول في هذا: على من يقوله كذا ويلزمه كذا، فإذا رضي قال له: قد بقي عليك شيء لم لا تقول كذا؟ فقال له يوماً وقد لزم قولاً للكوفيين ولج فيه: أنت كما قال جرير:
أسليك عن زيد لتسلى وقد أرى ... بعينيك من زيد قذى غير بارح
إذا ذكرت زيداً ترقرق دمعها ... بمذروفة العينين شوساء طامح
تبكي على زيد ولم تر مثله ... براء من الحمى صحيح الجوانح
فإن تقصدي فالقصد منك سجية ... وإن تجمحي تلقي لجام الجوامح
وحدث أبو بكر محمد بن مبرمان قال: قصدت بن كيسان لأقرأ عليه كتاب سيبويه فامتنع وقال: أذهب به إلى أهله يعني الزجاج وابن السراج، وكان أبو بكر بن الأنباري يتعصب عليه ويقول: خلط المذهبين فلم يضبط منهما شيئاً، وكان يفضل الزجاج عليه جداً. وله من الكتب: كتاب المهذب في النحو، كتاب غلط أدب الكاتب، كتاب اللامات، كتاب الحقائق، كتاب البرهان، كتاب مصابيح الكتاب، كتاب الهجاء والخط، كتاب غريب الحديث نحو أربعمائة ورقة، كتاب الوقف والابتداء، كتاب القراءات، كتاب التصاريف، كتاب الشاذاني في النحو، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب المقصور والممدود، كتاب معاني القرآن، كتاب مختصر في النحو، كتاب المسائل على مذهب النحويين ما اختلف فيه الكوفيين والبصريون، كتاب الفاعل والمفعول به كتاب المختار في علل النحو ثلاث مجلدات أو أكثر قرأت بخط إبراهيم بن محمد بن بندار، قرأت بخط أبي جعفر السعال في آخر العروض: - إلى ههنا أملي على بن كيسان وأنا كنت أستمليه، وفرغنا من العروض لخمس بقين من شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين - .
وقال أبو حيان التوحيدي: وما رأيت مجلساً أكثر فائدة وأجمع لأصناف العلوم وخاصة ما يتعلق بالتحف والطرف والنتف من مجلس ابن كيسان، فإنه كان يبدأ بأخذ القرآن والقراءات، ثم بأحاديث رسول الله صلى الله عله وسلم، فإذا قرئ خبر غريب أو لفظة شاذة أبان عنها وتكلم عليها وسأل أصحابه عن معناها، وكان يقرأ عليه مجالسات ثعلب في طرفي النهار، وقد اجتمع على باب مسجده نحو مائة رأس من الدواب للرؤساء والكتاب والأشراف والأعيان الذين قصدوه، وكان مع ذلك إقباله على صاحب المرقعة الممزقة والعباء الخلق والطمر البالي كإقباله على صاحب القصب والوشي والديباج والدابة والمركب والحاشية والغاشية. ويوماً من الأيام جرى في مجلسه ما امتعض منه وأنكره وقضى منه عجباً، وأنشد في تلك الحالة من غرر الشعر والمقطعات الحسنة وغيرها ما ملاء السمع وحير الألباب حتى قال الصابئ: هذا الرجل من الجن إلا أنه في شكل إنسان. ومن جملة ما أنشد في تلك الحال:
مالي أرى الدهر لا تفني عجائبه؟ ... أبقى لنا ذنباً واستؤصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا ينقصان ولكن ينقص الناس
أبقى كل محمول وفجعنا ... بالحاملين فهم أثواء أرماس
يرون أن كرام الناس إن بذلوا ... حمقى وأن لئام الناس أكباس
وتمثل أيضا ببيتي أبي تمام:
قوم إذا خافوا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام
ولضربة من كاتب بمداده ... أمضى وأنفذ من رقيق حسام

قال المؤلف: هكذا حكى أبو حيان، ولا أرى أبا حيان أدرك ابن كيسان، هذا إن صحت وفاته التي ذكرها الخطيب، ولا يكون الصابئ أيضاً أدركه، لأن مولد الصابئ في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، والذي ذكره الخطيب لاشك سهو، فإني وجدت في تاريخ أبي غالب همام ابن الفضل بن المهذب المغربي أن كيسان مات في سنة عشرين وثلاثمائة.
محمد بن أحمد بن منصورأبو بكر بن الخياط النحوي، أصله من سمرقند وقدم بغداد، ومات فيما ذكره أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني في سنة عشرين وثلاثمائة قال: وكان قد انحدر مع البريد لما غلبوا على البصرة وبها مات، وجرت بينه وبين الزجاج ببغداد مناظرة وكان يخلط المذهبين، وقد قرأ عليه أبو علي الفارسي وكتب عنه شيئاً من علم العربية، رأيت ذلك بخط أبي علي. وله مع أصحاب الخياط قصة قد ذكرت في أخبار أبي علي، وأخذ عنه أبو القاسم الزجاجي أيضاً، وكان ابن الخياط جميل الأخلاق طيب العشرة محبوب الخلقة. وله من الكتب: كتاب معاني القرآن، كتاب النحو الكبير، كتاب الموجز في النحو، كتاب المقنع في النحو.
وقال أبو علي الفارسي في ضمن رقعة كتبها إلى سيف الدولة جواباً عن رقعة وردت منه ذكرتها في أخبار أبي علي: وأما قوله: إني قلت إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئاً فغلط في الحكاية كيف أستجيز ذلك؟ وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة، ولكني قلت: إنه لا لقاء له لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمود بن يزيد وصادف أحمد ابن يحيى وقد صم صمماً شديداً لا يخرق الكلام سمعه فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يقوله فيما كان يؤخذ عنه ما يمليه دون ما كان يقرأ عليه، وهذا أمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم.
محمد بن أحمد بن عليبن إبراهيم بن زيد ابن حاتم بن المهلب بن أبي صفرة، المهلبي النحوي أبو يعقوب، مات بمصر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع، وكان عالماً نحوياً لغوياً، ذكره الزبيدي. قال المؤلف: وعساه أن يكون أخا أبي الحسين علي بن أحمد المهلبي والله أعلم.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمدابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عبد المطلب بن هاشم، شاعر مفلق، وعالم محقق، شائع الشعر نبيه الذكر. مولده بأصبهان، وبها مات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وله عقب كثير بأصبهان، فيهم علماء وأدباء ونقباء ومشاهير، وكان مذكوراً بالذكاء والفطنة وصفاء القريحة وصحة الذهن وجودة المقاصد، معروف بذلك مشهور به. وهو مصنف كتاب عيار الشعر، كتاب تهذيب الطبع، كتاب العروض لم يسبق إلى مثله، كتاب في المدخل في معرفة المعمى من الشعر، كتاب في تقريظ الدفاتر.
ذكر أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني قال: سمعت جماعة من رواة الأشعار ببغداد يتحدثون عن عبد الله بن المعتز أنه كان لهجاً بذكر أبي الحسن مقدماً له على سائر أهله ويقول: ما أشبهه في أوصافه إلا محمد بن يزيد مسلمة بن عبد الملك، إلا أن أبا الحسن أكثر شعراً من المسلمي وليس في ولد الحسن من يشبهه، بل يقاربه علي بن محمد الأفواه.
قال: وحدثني أبو عبد الله بن أبي عامر قال: كان أبو الحسن طوال أيامه مشتاقاً إلى عبد الله بن المعتز متمنياً أن يلقاه أو يرى شعره، فأما لقاؤه فلم ينفق له لأنه لم يفارق أصبهان قط، وأما ظفره بشعره فإنه اتفق له في آخر أيامه. وله في ذلك قصة عجيبة: وذلك أنه دخل إلى دار معمر وقد حملت إليه من بغداد نسخة من شعر عبد الله بن المعتز، فاستعارها فسوف بها فتمكن عندهم من النظر فيها، وخرج عدل إلى كالا معيياً كأنه ناهض بجمل ثقيل، فطلب محبرة وكاغداً وأخذ يكتب عن ظهر قلبه مقطعات من الشعر فسألته لمن هي؟ فلم يجبني حتى فرغ من نسخها وملأ منها خمس ورقات من نصف المأموني، وأحصيت الأبيات

فبلغ عددها مائة وسبعة وثمانين بيتاً تحفظها من شعر ابن المعتز في ذلك المجلس واختارها من بين سائرها. وذكر عنه حكايات، منها ما حدثني به أبو عبد الله بن أبي عامر قال: من توسع أبي الحسن في أتي القول وقهره لأبيه، أن عبد الله فتى أبي الحسين بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل كانت به لكنه شديدة حتى كان لا يجري على لسانه حرفان من حروف المعجم، الراء والكاف، يكون مكان الراء غيناً ومكان الكاف همزة، فكان إذا أراد أن يقول كركي يقول: أغ إي، وإذا أراد أن يقول كركرة يقول: أغ أغة، وينشد للأعشى: قالت إغى غجلاً في أفه أتف. يريد: قالت أرى رجلاً في كفه كتف. فعمل أبو الحسن قصيدة في مدح الحسين حذف منها حرفي لكنة الحسين ولقنه حتى رواها لأبيه أبي الحسين فجن عليها. وقال أبو الحسن: والله أنا أقدر على أبي الكلام من واصل بن عطاء، والقصيدة:
يا سيداً دانت له السادات ... وتتابعت في فعله الحسنات
وتواصلت نعماؤه عندي فلي ... منه هبات خلفهن هبات
نعم ثنت عني الزمان وخطبه ... من بعد ما هيبت له غدوات
فأدلت من زمن منيت بغشمه ... أيام للأيام بي سطوات
فلميت آمالي لديه حياته ... ولحاسدي نعمى يديه ممات
أوليتني مننا تجلى وتعتلي ... عن أن يحيط بوصفهن صفات
فإذا نثثن بمنطق من مادح ... فالمدح مني والثناء صمات
عجنا عن المدح التي استحققتها ... والله يعلم ما تعي النيات
يا ماجداً فعل المحامد دينه ... وسماحه صوم له وصلاة
فيبيت يشفع راجياً بتطوع ... منه وقد غشى العيون سبات
فالجود مثل قيامة وسجوده ... إن قيس والتسبيح منه عدات
مازال يلفي جائداً أو واعداً ... وعدا تضايق دونه الأوقات
ليمينه بالنجح عند عفاته ... في ليل ظنهم البهيم ثبات
ذو همة علوية توفي على ال ... جوزاء تسقط دونها الهمات
تنأى عن الأوهام إلا أنها ... تدنو إذا نيطت بها الحاجات
وعزيمة مثل الحسام مصونة ... عن أن يفل به الزمان شباة
فإذا دهى خطب مهم أيد ... خلي العداة وجمعهم أشتات
لأبي الحسين سماحة لو أنها ... للغيث لم تجدب عليه فلاة
وله مساع في العلا عدد الحصى ... في طيئ منن جلها مسعاة
كحيا السحاب على البقاع سماته ... وله على عافي نداه سمات
يحيى بنائله نفوساً مثل ما ... يحيا بجود الهاطلات نبان
شاد العلاء أبو الحسين وحازه ... عن سادة هم شائدون بناة
سباق غايات تقطع دونها ... سباقها إن مدت الحلبات
فإذا سعوا نحو العلا وسعى لها ... متمهلاً حيزت له القصبات
مستوفز عند السماح وإن تقس ... أحداً به في الحلم قلت حصاة
طود يلوذ به الزمان وعنده ... لجميع أحداث الزمان أداة
بيمينه قلم إذا ماهزه ... في أوجه الأيام قلت قناة
في سنة باس السنان وهيبة الس ... يف الحسام وقد حوته دواة
سحبان عيا وهو عيا باقل ... عجل إلى النجوى وفيه أناة
وسنان إلا أنه متنبه ... يقظان منه الزهو والإخبات
لم يخط في ظلمات ليل مداده ... إلا انجلت عنا به الظلمات
وأبو علي أحمد بن محمد ... قد نمقت عني لديه هنات
فتقاعست دوني عوائد فضله ... وسعت سعاة بيننا وعداة
فافتله عن طول العقوق وهزه ... فله لدي فعل العلا هزات
والله ما شأني المديح وبذله ... لمؤمل ليمينه نفحات
إلا مجازاة لمن أضحت له ... عندي يد أغذي بها وأقات

والمسمعي له لدي صنائع ... أيامهن لطيها ساعات
فإخالها عهد الشباب وحسنه ... إذ طار لي في ظله اللذات
خذها الغداة أبا الحسين قصيدة ... ضيمت بها الراءات والكافات
غيبن عنها ختلة أخواتها ... عند النشيد فما لها أخوات
ولو أنهن شهدن لازدوجت ... لها الغينات والألفات
فاسعد أبا عبد الإله بها إذا ... شقيت بلثغة منشد أبيات
نقصت فتمت في السماع وألغيت ... منها التي هي بينها آفات
صفيتها مثل المدام له فما ... فيها لدي حسن السماع قذاة
معشوقة تسبي العقول بحسنها ... ياقوتة في اللين وهي صفاة
علوية حسنية مزهوة ... تزهى بحسن نشيدها اللهوات
ميزانها عند الخليل معدل ... متفاعلن متفاعلن فعلات
لو واصل بن عطاء الباني لها ... تليت توهم أنها آيات
لولا اجتنابي أن يمل سماعها ... لأطلتها ما خطت التاءات
وقال أيضاً في الفخر:
حسود مريض القلب يخفى أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم راغباً ... أجمع من عند الرواة فنونه
وأملك أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن الجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
إذا عد أغني الناس لم أك دونه ... وكنت أرى الفجر المسود دونه
إذا ما رأى الراؤون نطقي وعيه ... رأوا حركاتي قد هتكن سكونه
وما ثم ريب في حياتي وموته ... فأعجب بميت كيف لا يدفنونه؟
أبي الله لي من صنعه أن يكونني ... إذا ما ذكرنا فخرنا وأكونه
وجدت في كتاب شعراء أصبهان لحمزة الأصبهاني قال: وجدت بخط أبي الحسن - رحمه الله - يعني ابن طباطبا، أن أبا علي يحيى بن علي بن المهلب وصف له دعوة لأبي الحسن أحمد بن محمد بن إبراهيم الكراريسي، ذكر أنهم قربوا فيها مائدة عليها خيار وفي وسطها جامات عليا - فطر نخشب - فسميتها مسيحية لأنها أدم النصارى، وأنهم قربوا بعد ذلك سكباجة بعظام عارية فسميتها شطرنجية، وأنهم قربوا بعدها مضيرة في غضائر بيض فسميتها معتدة وكانت بلا دسم، والمعتدة لا تمس الدهن والطيب، وأنهم قدموا بعدها زيرباجة قليلة الزعفران فسميتها عابدة تشبيهاً بلون العباد في الصفرة، وأنهم قربوا بعدها لونا فسميتها قنبية وأنهم قربوا بعدها زبيبية سوداء فسميتها موكبية، وأنهم قربوا بعدها قلية بعظام الأضلاع فسميتها حسكية، ثم قربوا بعدها فالوذجة بيضاء فسميتها صابونية، وأنه اعتل على الجماعة بأنه عليل فحولهم من منزله إلى باغ قد طبق بالكراث فهيأ المجلس هناك، وأحضرهم جرة منثلمة وكانوا يمزجون شرابهم منها، فإذا أرادوا الغائط نقلوها معهم، فكانت مرة في المجلس ومرة في المخرج وأن الباغبان ربط بحذائهم عجله كانت تخور عليهم خواراً مناسباً لقول القائل يا فاطمة، فقلت في ذلك:
يا دعوة مغبرة قاتمة ... كأنها من سفر قادمه
قد قدموا فيها مسيحية ... أضحت على أسلافها نادمه
نعم وشطرنجية لم تزل ... أيد وأيد حولها حائمه
فلم نزل في لعبها ساعة ... ثم نفضناها على قائمه
وبعدها معتدة أختها ... عابدة قائمة صائمه
في حجرها أطراف مؤودة ... قد قتلتها أمها ظالمه
والقنبيات فلا تنسها ... فحيرتي في وصفها دائمه
أقنب ما امتد في إصبعي ... أم حية في وسطها نائمه
والموكبيات بسلطانها ... قد تركت آنافنا راغمه
والحسكيات فلا تنس في ... خندقها أوتادها القائمه
وجام صابونية بعدها ... فافخر بها إذ كانت الخاتمه

ظل الكراريسي مستعبراً ... من عصبة في داره طاعمه
وقال إن ابني عليل ولي ... قيانه من أجله قائمه
وولولت داياته حوله ... وليس إلا عبرة ساجمه
والقصيدة طويلة باردة نشبت في كتابتها فكتبت منها هذا. وله:
لا تنكرن إهداءنا لك منطقاً ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عز وجل يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
وقال: وقد صادف على باب ابن رستم عثمانيين أسودين معتمين بعمامتين حمراوين فامتحنهما فوجدهما من الأدب خاليين، فدخل إلى مجلس أبي علي وتناول الدواة والكاغد من بين يديه وكتب بديهة:
رأيت باب الدار أسودين ... ذي عمامتين حمراوين
كجمرتين فوق فحمتين ... قد غادرا الرفض قريري عين
جدكما عثمان ذو النورين ... فما له أنسل ظلمتين؟
يا قبح شين صادر عن زين ... حدائد تطبع منلجين
ما أنتما إلا غرابا بين ... طيرا فقد وقعتما للحين
زورا ذوي السنة في المصرين ... المظهرين الحب للشيخين
وخليا الشيعة للسبطين ... الحسن المرضي والحسين
لا تبرما إبرام رب الدين ... ستعطيان في مدى عامين
قال: وقال لابن أبي عمر بن عصام وكان ينتف لحيته:
يا من يزيل خلقة الر ... حمن عما خلقت
تب وخف الله على ... ما ... اجترحت
هل لك عذر عنده ... إذا الوحوش حشرت؟
في لحية إن سئلت ... بأي ذنب قتلت؟
وقال:
ما أنس لا أنس حتى الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل
إذا أقبل الجدي مكشوفاً ترائبه ... كأنه متمط دائم الكسل
قد مد كلتا يديه لي فذكرني ... بيتاً بمثله من أحسن المثل
كأنه عاشق قد مد بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
وقد تردى بأطمار الرقاق لنا ... مثل الفقير إذا ما راح في سمل
وله:
لنا صديق نفسنا ... في مقته منهمكه
أبرد من سكونه ... وسط الندى الحركه
وجدري وجهه ... يحكيه جلد السمكه
أو جلد أفعى سلخت ... أو قطعة من شبكه
أو حلق الدرع إذا ... أبصرتها مشتبكه
أو كدر الماء إذا ... ما الريح أبدت حبكه
أو سفن محبب ... أو كرش منفركه
أو منجل أو عرض ... رقيقة منهتكه
أو حجر الحمام كم ... من وسخ قد دلكه
أو كور زنبور إذا ... أفرخ فيه تركه
أو سلحه يابسة ... قد نقرتها الديكه
ومن محاسن ابن طباطبا في أبي علي الرستمي يهجوه بالدعوة والبرص:
أنت أعطيت من دلائل رسل ال ... له آيا بها علوت الرؤوسا
جئت فرداً بلا أب وبيمنا ... ك بياض فأنت عيسى وموسى
محمد بن أحمد بن نصر الجيهانيأبو عبد الله، قال السلامي في تاريخ خراسان: وفي سنه إحدى وثلاثمائة في جمادى الآخرة، ولي أبو الحسن نصر ابن أحمد بن إسماعيل وهو ابن ثمان سنين، وتولي التدابير أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني فأجرى الأسباب على وجوهها، وكان حسن النظر لمن أمله وقصده، معيناً لمن أمه واعتمده، وكان مبتلي بالمذهب فلم يكن يصافح أحداً إلا دون ثوب أو كاغد، ومر يوماً بنخاس يعالج دابة فتأفف وأبرز يده من كمه وعلقها إلى أن نزل وصب عليها قماقم من الماء تقذراً مما فعله النخاس كأنه هو الذي تولى ذلك، ولم يكن يأذن في إمساك السنانير في دوره، فكان الفأر يتعابث فيها، وفيه يقول أبو الطيب الطاهري:
رأيت الوزير على بابه ... من المذهب الشائع المنتشر
يرى الفأر أنظف شيء يدب ... ب على ثوبه ويعاف البشر
يبيت حفياً بها معجباً ... ويضحي عليها شديد الحذر

وإن سغبت فهو في جحرها ... يفت لها يابسات الكسر
فلم صار يستقذر المسلمين ... ويألف ما هو عين القذر؟
وله أيضاً فيه:
ما فيك من خس نثني عليك به ... إلا التصنع بالوسواس للناس
ليوهموا شغفاً بالطهر منك فلا ... تعد فيمن يؤدي جزية الراس
يا لهف نفسي على دنيا حظيت بها ... عفواً بلا طول إبساس وإيناس
وله أيضاً فيه:
قل للوزير الذي عجائبه ... يضرب في سوقنا بها المثل
أنت إذا كمن طول دهرك بال ... مخرج عما سواه تشتغل
فأين ألقاك للحوائج أو ... في أي حين يهمك العمل؟
قال: وكان هجيري الجيهائي يقول في أضعاف كلامه بدواندرون، وأن هجيري علي بن محمد العارض يقول هزين، وفيهما يقول الطاهري:
وزيران أما بالمقدم منهما ... فخبل وبالثاني يقال جنون
إذا نحن كلمناهما فجوابنا ... بدواندرون دائم وهزين
متى تلق ذا أو تلق ذلك لحادث ... تلاقي مهيناً لا يكاد يبين
ومعنى بدواندرون اعد على داخل ومعنى هزين الفرار. وللطاهري فيهم:
إن الأمور إذا أضحت يدبرها ... طفل رضيع وسكران ومجنون
لمخبرات بأن لن يستقيم بها ... لمن توسطها دنيا ولا دين
محمد بن أحمد أبو الندى الغندجاني اللغويرجل واسع العلم راجح المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها، وما عرفت له شيخاً ينسب إليه ولا تلميذاً يعول عليه غير الحسن بن أحمد الأعرابي المعروف بالأسود صاحب التصانيف المشهورة التي تصدى فيها للأخذ على أعيان العلماء فإن روايته في كتبه كلها عن أبي الندى هذا، وأنا أرى أن هذا الرجل خرج إلى البادية واقتبس علومه من العرب الذين يسكنون الخيم وقد وقع لي شيء من خبره في ذلك أنا أورده ههنا ليستدل به على ما ذهبت إليه كما استدللت أنا به: وجدت بخط صديقنا كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد ابن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي الفقيه المدرس الكاتب الأديب ما أسنده إلى ليث الطويل قال: سألت أبا الندى وكان من أعلم من شاهدت بأخبار العرب، هل تعرف من شعر الذلفاء بنت الأبيض في ابن عمها نجدة بن الأسود؟ قال نعم، كنت فيمن حضر جنازة نجدة حتى وضعناه في قبره وأهلنا عليه التراب وصدرنا عنه غير بعيد، فأقبلت نسوه يتهادين فيهن امرأة قد فاقتهن طولاً كالغصن الرطب وإذا هي الذلفاء فأقبلت حتى أكبت على القبر وبكت بكاء محرقاً، وأظهرت من وجدها ما خفن معه على نفسها، فقلن لها: يا ذلفاء، إنه قد مات السادات من قومك قبل نجدة، فهل رأيت نساءهم قتلن أنفسهن عليهم؟ فلم يزلن بها حتى قامت فانصرفت عن القبر، فلما صارت منه غير بعيد عطفت بوجهها عليه وقالت:
سئمت حياتي حين فارقت قبره ... ورحت وماء العين ينهل هامله
وقالت نساء الحي قد مات قبله ... شريف فلم تهلك عليه حلائله
صدقن لقد مات الرجال ولم يمت ... كنجدة من إخوانه من يعادله
فتى لم يضق عن جسمه لحد قبره ... وقد وسع الأرض الفضاء فضائله
قال: فقلت أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت، فهل تعرف من شعرها شيئاً آخر؟ قال نعم، كنت ممن حضر قبر نجدة عند زيارتها إياه لتمام الحول فرأيتها قد أقبلت حتى أكبت على القبر وبكت بكاء شديداً ثم أنشأت تقول:
يا قبر نجدة لم أهجرك مقلية ... ولا جفوتك من صبري ولا جلدي
لكن بكيتك حتى لم أجد مدداً ... من الدموع ولا عوناً من الكمد
وآيستي جفوني من مدامعها ... فقلت للعين فيضي من دم الكبد
فلم أزل بدمي أبكيك جاهدة ... حتى بقيت بلا عين ولا جسد
والله يعلم لولا الله ما رضيت ... نفسي سوى قتل لها بيدي

قال: فقلت: أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت، فهل تعرف من شعرها شيئاً آخر؟ قال نعم، حضرنا عيداً لنا في زمن الربيع ونحن في رياض خضرة معشبة فركب الفتيان وعقدوا العذب الصفر في القنا الحمر، وجعلوا يتجاولون فلما أردنا الانصراف قال بعضنا لبعض: ألا تجعلون طريقكم على الذلفاء! ولعلها إذا نظرت إليكم تسلت بمن بقي عمن هلك. قال: فخرجنا نؤمها فأصبناها بارزة من خبائها وهي كالشمس الطالعة، إلا أنه يعلوها كسوف الحزن فسلمنا عليها وقلنا: يا ذلفاء إلى كم يكون هذا الوجد على نجدة؟ أما آن لك أن تتسلي بمن بقي من بني عمك عمن هلك، هانحن سادات قومك وفتيانهم ونجومهم، وفينا السادة والذادة، والبأس والنجدة. فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسها باكية تقول:
صدقتم إنكم لنجوم قومي ... ليوث عند مختلف العوالي
ولكن كان نجدة بدر قومي ... وكهفهم المنيف على الجبال
فما حسن السماء بلا نجوم ... وما حسن النجوم بلا هلال!
ثم دخلت خباءها وأرسلت سترها فكان آخر العهد بها. وقرأت بخط أبي سعد في المذيل: أنشدنا شافع بن علي الحمامي، أنشدنا إسماعيل عبد الغافر الفارسي، أنشدني أبو حرب رزماشوب بن زياد الجيلي بشيراز، أنشدنا أبو محمد الحسن بن علي الغندجاني الأديب، أنشدنا أبو محمد الأسود الغندجاني الأديب، أنشدنا أبو الندى قال: سمعت أعرابياً بالبصرة يقال له الوليد بن عاصم ينشد لنفسه:
وما مغزل بالغور غور تهامة ... بأودية صابت عليها عهودها
ترود الضحى أفنان ضال وتتقي ... ويخرج من بين الأراكة جيدها
بأحسن من سلمى ولا ضوء درة ... تسمى إليها غائض يستجيدها
قرأت في كتاب اللقائط لأبي يعلى بن الهبارية وقد ذكر أبا محمد الأعرابي ووضع منه وانتصر للنمري الذي شرح الحماسة وغيره، واستدل على صحة رواياتهم وإتقان علمهم ومقالاتهم ثم قال: فكيف نترك أمثال هذه الروايات لرواية مثل أبي الندى؟ ولم يذكر لي من لقيته من شيوخ بلاد فارس من فضل أبي الندى إلا أنه غاب عن أهله مدة وأقام في البادية سنين عدة، وعاد يروي ويخبر، وكان له ابن فأخذ يطليه بالزيت ويقفه في شمس القيظ بالغندجان وهي حارة جداً ولم يزل يفعل به ذلك ليكون أسمر اللون كالعرب حتى مات ذلك المسكين
محمد بن أحمد الأزهري طلحة بن نوحابن الأزهر بن نوح حاتم بن سعيد بن عبد الرحمن، الأزهري أبو منصور اللغوي الأديب الشافعي المذهب الهروي، مات فيما ذكره أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار بن أبي سعيد الفامي في تاريخ هراة في سنة سبعين وثلاثمائة، ووافقه الحاكم أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الكتبي الهروي في كتاب الوفيات له وزاد في ربيع الآخر. قال الحاكم: ورأيت في كتاب تاريخ السنين تصنيف أبي يعقوب إبراهيم ابن محمد بن عبد الرحمن بن الفرات الهروي الحافظ وأصله عندي بخطة في عشرة أجزاء: أن مولد أبي منصور الأزهري في سنة اثنتين ومائتين، أخذ الأزهري عن أبي الفضل محمد ابن أبي جعفر المنذري عن ثعلب وغيره فأكثر. وعن أبي محمد المزني عن أبي الخليفة الجمحي، وعن أبي محمد عبد الله بن عبد الوهاب البغوي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي، وعن عبد الله بن محمد بن هاجك، وأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي. ورد بغداد وأدرك ابن دريد فلم يرو عنه قال: ودخلت داره ببغداد مرة فألفيته على كبر سن سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره. وأخذ الأزهري ببغداد عن أبي عبد لله إبراهيم بن عرفة نفطويه، وعن ابن السراج، وصنف: كتاب التهذيب في اللغة، كتاب معرفة الصبح، كتاب التقريب في التفسير، كتاب تفسير ألفاظ كتاب المزني، كتاب علل القراءات، كتاب في الروح وما جاء فيه من القرآن والسنة، كتاب تفسير أسماء الله عز وجل، كتاب معاني شواهد غريب الحديث، كتاب الرد على الليث، كتاب تفسير شواهد غريب الحديث، كتاب تفسير إصلاح المنطق، كتاب تفسير السبع الطوال، كتاب تفسير شعر أبي تمام، كتاب الأدوات.

وذكر في مقدمة كتابه قال: وكنت امتحنت بالإسار سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير، وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عرباً نشئوا بالبادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع، ويرجعون إلى إعداد المياه في محاضرهم زمن القيظ ويرعون النعم ويعيشون بألبانها ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يكون في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في إسارهم دهراً طويلاً، وكنا نتشتى الدهناء، ونتربع الصمان، ونتقيظ الستارين، واستفدت من مخاطبتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمة، ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها من الكتاب، وستراها في مواضعها إذا أنت قرأتها علينا إن شاء الله تعالى، وذكر في تضاعيف كتابه أنه أقام بالصمان شتوتين، ورأى ببغداد أبا إسحاق الزجاج وأبا بكر بن الأنباري ولم يذكر أنه أخذ عنهم شيئاً.
قال المؤلف: كانت سنة الهبير هي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وذكر بعهم أنها كانت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، عارضهم أبو طاهر الجناني فقتل بعضهم واسترق بعضهم واستولى على جميع أموالهم، وذلك في أيام المقتدر بالله بن المعتضد.
محمد بن أحمد بن طالب الأخباريقال الخطيب: مات بعد سنة سبعين وثلاثمائة ويكنى أبا الحسن، سكن الشام وحدث بطرابلس، أنشد أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي قال: أنشدني أبو علي الأعرابي لنفسه:
كنت دهراً أعلل النفس بالوع ... د وأخلوا مستأنساً بالأماني
فمضى الواعدون ثم اقتطعنا ... عن فضول المنى لصرف الزمان
محمد بن احمدبن شنبودبن أيوب بن الصلت بن شنبود أبو الحسن المقرئ، مات فيما ذكره الخطيب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، قال الخطيب قد تخير لنفسه حروفاً من شواذ القراءات فقرأ بها، فصنف أبو بكر الأنباري وغبره كتباً في الرد عليه.
قرأت بخط أبي علي بن إسحاق الصابئ، قال القاضي أبو سعيد السيرافي - رحمه الله - : كان ابن شنبوذ واسمه محمد ابن أحمد بن أيوب كثير اللحن قليل العلم، وكان ديِّناً وفيه سلامة وحمق، ثم ذكر توبته كما ذكرنا بعد.
حدث إسماعيل بن علي الخطيبي في كتاب التاريخ قال: واشتهر ببغداد أمر رجل بعرف بابن شنبوذ يقرئ الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف فيما يروي عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما مما كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان، ويتتبع الشواذ فيقرأ بها ويجادل حتى عظم أمره وفحش وأنكره الناس، فوجه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وحمل إلى دار الوزير محمد بن مقلة وأحضر القضاة والفقهاء والقراء وناظرة الوزير بحضرته، فأقام على ما ذكر عنه ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أن ينزل عنه أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره إلى الرجوع، فأمر بتجريده وإقامته بين الخبازين، وأمر بضربه بالدرة على قفاه فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة فخلى عنه وأعيدت عليه ثيابه واستتيب، وكتب عليه كتاب توبته وأخذ فيه خطه بالتوبة فتقول أصحابه أنه دعا على ابن مقلة بقطع اليد فاستجيب له.

قال المؤلف: وهذا من عجيب الاتفاق إن صح، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: كان ابن شنبوذ يناوئ أبا بكر بن مجاهد ولا يعشره، وكان ديناً فيه سلامة وحمق. وقال لي الشيخ أبو محمد يوسف بن السيرافي: إنه كان كثير اللحن قليل العلم، وقد روى قراءات كثيرة، وله كتب مصنفة في ذلك، وكان مما خالف فيه قراءة الجمهور. قال القاضي أبو يوسف: وسئل عنه بحضرة الوزير أبي علي ابن مقلة فاعترف به ولم ينكره: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله). وقرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً). وقرأ كصوف المنفوش. وقرأ: (تبت يداً أبي لهب وتب ما أغنى). وقرأ: (فاليوم ننجيك بيديك لتكون لمن خلفك آية). وقرأ: (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون). وقرأ: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى). وقرأ: (وقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاماً). وقرأ: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). إلى غير ذلك. وله من التصانيف: كتاب ما خالف فيه ابن كثير أبا عمرو، كتاب قراءة علي عليه الصلاة والسلام. كتاب اختلاف القراء، كتاب القراءات، كتاب انفراداته.
وقرأت في كتاب ألفه القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني سماه أفواج القراء قال: كان ابن شنبوذ أحد القراء والمتنسكين، وكان يرجع إلى ورع ولكنه كان يميل إلى الشواذ ويقرأ بها، وربما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة، وسمع ذلك منه وأنكر عليه فلم ينته للإنكار فقام أبو بكر بن مجاهد فيه حق القيام، وأشهر أمره ورفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت، وهو أبو علي بن مقلة فأخذ وضرب أسواطاً زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين، وحبس واستتيب فتاب وقال: إني قد رجعت عما منت أقرأ به ولا أخالف مصحف عثمان، ولا أقرأ إلا بما فيه من القراءة المشهورة، وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظة، وأمره أن يكتب في آخره بخطه. وكان المحضر بخط أبي الحسين أحمد بن محمد ميمون، وكان أبو بكر بن مجاهد تجرد في كشفه ومناظرته، فانتهى أمره إلى أن خاف على نفسه من القتل، وقام أبو أيوب السمسار في إصلاح أمره وسأل الوزير أبا علي أن يطلقه وأن ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفة عليه لئلا يقتله العامة ففعل ذلك، ووجه إلى المدائن سراً مدة شهرين، ثم دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامة. ونسخة المحضر المعمول على ابن شنبوذ بخط ابن ميمون: يقول محمد ابن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: قد كنت أقرأ حروفاً تخالف ما في مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المجمع عليه والذي اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على تلاوته، ثم بان لي أن ذلك خطأ فأنا منه تائب وعنه مقلع وإلى الله عز وجل برئ، إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافة، ولا يقرأ بغير ما فيه. نسخة خط ابن شنبوذ في هذا المحضر: يقول محمد بن أحمد بن أيوب ابن شنبوذ: ما في الرقعة صحيح، وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عز جل وسائر من حضر على نفسي بذلك وكنت بخطه، فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره فأمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - في حل وسعة من دمي، وذلك في يوم الأحد لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في مجلس الوزير أبي علي محمد بن علي - أدام الله توفيقه - وحسبي الله وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله.
خط ابن مجاهد: اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الرقعة وكتب ابن مجاهد بيده وذكر التاريخ.
خط ابن أبي موسى: اعترف المعروف بابن شنبوذ بما في هذه الرقعة بحضوري طوعاً. وكتب محمد بن أبي موسى الهاشمي وذكر التاريخ. شهادة أخرى: شهد محمد بن أحمد بن محمد على إقرار محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ بجميع ما في هذا الكتاب وذكر التاريخ. وقال ابن شنبوذ في المجلس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من أصحابه خالفوا بعض ما في هذا المصحف الذي في أيدينا وكان اعترافه به طوعاً. شهد بذلك محمد بن أبي موسى وكتب بيده. وشهد أحمد بن موسى بن مجاهد وكتب بيده. قال القاضي أبو يوسف: كنت قد سمعت من مشايخنا بالري ثم ببغداد أن سبب الإنكار على ابن شنبوذ أنه قرأ أو قرئ عليه في آخر سورة المائدة عند حكاية قول عيسى: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم من العزيز الحكيم).
محمد بن أحمدلشنبوذي

بن إبراهيم الشنبوذي أبو الفرج المقرئ يعرف بغلام ابن شنبوذ، مات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وقيل سنة ثمان، ومولده في سنة ثلاثمائة. قال الخطيب: روي عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ وغيره كتباً في القراءات وتكلم الناس في رواياته، وسئل الدارقطني عنه فأساء القول فيه والثناء عليه قال: وسمعت عبيد الله الصيرفي يذكر أبا الفرج الشنبوذي فعظم أمره، ووصف علمه بالقرآن وحفظ التفسير وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن. وله من التصانيف: كتاب الشارة في تلطيف العبارة في علم القرآن، كتاب التفسير ولم يتم.
محمد بن أحمد المعمريأبو العباس النحوي، أحد شيوخ النحاة ومشورتهم، صحب الزجاج وأخذ عنه، وكان أبو الفتح المراغي تلميذه وصاحبه، وكان أكثر مقامه بالبصرة وبها توفى وأظنه من أهلها، وله شعر صالح متوسط من أشعار الأدباء، ومات فيما أحسب بين الخمسين وثلاثمائة قال ذلك ابن عبد الرحيم. قال: وأنشدي أبو القاسم التنوخي عن أبيه له من قصيدة مدح بها جده أبا القاسم أولها:
وجفون المضانيات المراض ... والثنايا يلحن بالإيماض
والعهود التي تلوح بها الصح ... ف خلاف الصدود والإعراض
لبرتني الخطوب حتى نضتني ... حرضاً بالياً من الأحراض
وجدتني والدهر سلمى سليمى ... لم ينلني بنا به العضاض
بين برد من الشباب جديد ... ورداء من الصبا فضفاض
ومدبر عرى الأمور برأي ... يقظ الحزم مبرم نقاض
دق معنى وجل قدراً فجادت ... في معانيه نهية الأغماض
وانشد أيضاً له:
لو قد وجدت إلى شفائك منهجاً ... جبت الصباح إليه أوحلك الدجى
لكن رأيتك لا يحيك العتب في ... ك ولا العتاب ولا المديح ولا الهجا
فاذهب سدى ما فيك شر يتقي ... يوماً وليس لديك خير يرتجى
وإذا امرؤ كانت خلائق نفسه ... هذي الخلائق فالنجا منه النجا
قال: وحدثني أبو علي محمد بن وشاح قال: حدثني أبي قال: حدثني القاضي أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي رحمه الله قال: جاءتني في تعض البكر رسالة محمد بن أحمد المعمري النحوي بالبصرة - وكنت أغشى مجلسه دائماً وآخذ عنه - أن أدركني، فبادرت إليه وتبعني جماعة من أصحابي، فلما صرت إليه عرفني أن صبية مملوكة له مولدة قد كنت أشاهدها في ولده قد هربت منه، وتناولت صدراً مما كان في منزله، فأنفذت أصحابي وبثثتهم في الجيران، وبحيث يظن بها الحصول فيه، فما بعد أن أحضرت وما أخذت، فسر المعمري وطابت نفسه، فلما هممت بالانصراف أنشدني:
ما لا يرى كسبت عا ... دية الدهر عموده
كان حرباء فاضحى ... بشقاء البخت دوده
قال ابن وشاح: وحدثني أبي قال: حدثني القاضي رحمه الله قال: كان رسم المعمري أن يجلس لأهل العمي في يوم الأربعاء فبكرنا إليه في بعض الأيام فقال للجماعة: ليس لكم اليوم عندي فائدة ولا مني حظ، فلما هممنا بالانصراف قال:
إذا كان يوم الأربعاء ولم أنك ... ولم أصطبح بالأربعاء مشوم
فإن نكت فيه واصطحبت ولمته ... فإني ليوم الأربعاء ظلوم
انصرف مأجورين فانصرفنا. قال: وكان شديد المحبة لشرب النبيذ كثير التوفر عليه قاطعاً أكثر زمانه به. ولما مات رثاه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي صاحب كتاب الموازنة بقوله:
ياعين أذري الدموع وانسكبي ... أصبح ترب العلوم في الترب
لقيت بالمعمري يوم ثوى ... أول رزء بآخر الأدب
كان على أعجمي نسبته ... فضيلة من فضائل العرب
وكتب أبو القاسم الآمدي إلى المعمري جواب أبيات كتب بها إليه:
يا مهدي الشعر إلى من يرى ... أنك تستعلي عن الشعر
أنت الذي تحكم فيه إذا ... أعيا على الباقلاني الحبر
وتكشف الغامض حتى يرى ... أوضح أسباباً من الفجر
بنت عن المثل ومن ذا الذي ... إلى مدى تبلغه يجري؟
كل إلى علمك ذو حاجة ... كحاجة الأرض إلى القطر


محمد بن أحمدالقطانبن عبد الله بن زياد القطان ويعرف بالمتوثي، ويكنى أبا سهل. أحد الشيوخ الفضلاء المقدمين، سمع الحديث ورواه وكان ثقة جيد المعرفة بالعلوم، ومات سنه تسع وأربعين وثلاثمائة. وسمع كثيراً من كتب الأدب عن بشر من موسى الأسدي، ومحمد بن يونس الكديمي، وأبي العيناء وثعلب والمبرد وغيرهم، ولقي السكري أبا سعيد، وسمع عليه أشعار اللصوص من صنعه، وسمعه منه الخلع أبو عبد الله الشاعر وفلج في آخر عمره، وكان ينزل بدار القطن من غربي دار السلام - بغداد - وله بقية حال حسنة. قال الخالع: وحكى لنا أنه كان في ابتداء أمره يتوكل لعلي بن عيسى بن الجراح الوزير وأنه صحبه حين نفي من بغداد وعاد بعوده، وأنهم نزلوا في بعض طريقهم بأحد أمراء الشام، وأنه حمل على يده إلى علي بن عيسى سمكة فضة وزنها زيادة على خمسة آلاف درهم مبيتة للطيب وعليها جوهر وياقوت قد رصعت به، فامتنع من قبولها على عادته في ذلك فرددتها إلى صاحبها فوهبها لي ولم أتجاسر على قبولها إلا بعد استئذانه، فاستأذنته فأذن لي فكانت أصل حالي.
قال الخالع: وكانت بضاعة أبي سهل جيدة في العلم، فكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات ويرويها، ويطلع على قطعة من اللغة، ويعرف النحو ويحفظ الشعر ويقوله، وكان يتشيع على مذهب الإمامية ويظاهر به، إلا أنه كان في الأصول على رأي المجبرة، ولم يعقب ولد ذكراً، وكانت له ابنه بقيت إلى سنة أربعين وباعت كتبه، وله أشعار كثيرة ركيكة باردة ومن أصلها:
غضب الصولي لما ... كسر الضيف وسمي
ثم عند للمضغ منه ... كاد أن يتلف غما
قال للضيف ترفق ... شم ريح الخبز شما
واغتنم شكري فقال ال ... ضيف بل أكلاً وذما
محمد بن أحمد بن يونس الفسويأبو عبد الله يعرف بخاطف. صاحب أب بكر بن السراج، وروي عن ابن دريد وغيره.
محمد بن أحمد أبو الريحان البيرونيالخوارزمي، وهذه النسبة معناها البراني، لأن بيرون بالفارسية معناه براً، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلاً، وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم، كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق يعني أنه من براً البلد. ومات السلطان محمود بن سبكتكين في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وأبو الريحان بغزنة.
وجدت كتاب تقاسيم الأقاليم تصنيفه وخطه وقد كتبه في هذا العام، ذكره محمد بن محمود النيسابوري فقال: له في الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضرون غباره، ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره، وقد جعل الله الأقسام الأربعة له أرضاً خاشعة، سمت له لواقح مزنها، واهتزت به يوانع نبتها، فكم مجموع له على روض النجوم ظله، ويرفرف على كبد السماء طله. وبلغني أنه لما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي، فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه، ورفض العادة في الاستغناء به، وكان - رحمه الله - مع الفسحة في التعمير وجلالة الحال في عامة الأمور مكباً على تحصيل العلوم منصباً إلى تصنيف الكتب يفتح أبوابها، ويحيط بشواكلها وأقرابها ولا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النظر، وقلبه الفكر إلا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لإعداد ما تمس إليه الحاجة في المعاش من بلغة الطعام وعلقة الرياش، ثم هجيراه في سائر الأيام من السنة علم يسفر عن وجهه قناع الإشكال، ويحسر عن ذراعيه كمام الإغلاق.

حدث القاضي كثير بن يعقوب البغدادي النحوي في الستور عن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه وضاق به صدره فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا، أودع الدنيا وأنا علم بهذه المسالة، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها. فأعدت ذلك عليه وحفظ وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ. وأما نباهة قدره وجلالة خطره عند الملوك فقد بلغني من حظوته لديهم أن شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلصه لصحبته ويرتبطه في داره، على أن تكون له الإمرة المطاعة في جميع ما يحويه ملكه، ويشتمل عليه ملكه، فأبى عليه ولم يطاوعه، ولما سمحت قرونته بمثل ذلك أسكنه في داره، وأنزله معه في قصره. ودخل خزارزمشاه يوماً وهو يشرب على ظهر الدابة فأمر باستدعائه من الحجرة فأبطأ قليلاً فتصور الأمر على غير صورته، وثنى العنان نحوه ورام النزول، فسبقه أبو الريحان إلى البروز وناشده الله ألا يفعل فتمثل خوارزمشاه:
العلم من أشرف الولايات ... يأتيه كل الورى ولا ياتي
ثم قال: لولا الرسوم الدنيا لما استدعيتك، فالعلم يعلو ولا يعلى، وكأنه سمع هذا في أخبار المعتضد، فإنه كان يوماً يطوف في البستان وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني إذ جذبها دفعة وخلاها فقال ثابت: ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يدك والعلم يعلو ولا يعلى. ولما استبقاه السلطان الماضي لخاصة أمره وحوجاء صدره كان يفاوضه فيما يسنح لخاطره من أمر السماء والنجوم، فيحكي أنه ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك وحدث بين يديه بما شاهد فيما وراء البحر نحو القطب الشمالي من دور الشمس عليه ظاهرة في كل دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل فتسارع على عادته في التشدد في الدين إلى نسبة الرجل إلى الإلحاد والقرمطة على براءة أولئك القوم عن هذه الآفات حتى قال أبو نصر بن مشكان: إن هذا لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه، ولكن عن مشاهدة يحكيه، وتلا قوله عز وجل: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً). فسأل أبا الريحان عنه، فأخذ يصف له على وجه الاختصار ويقرره على طريق الإقناع، وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الإصغاء ويبدل الإنصاف، فقبل ذلك وانقطع الحديث بينه وبين السلطان وقتئذ، وأما ابنه السلطان مسعود فقد كان فيه إقبال على علم النجوم ومحبة لحقائق العلوم، ففاوضه يوماً في هذه المسألة وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض، وأحب أن يتضح له برهان ما لم يصح له من ذلك بعيان، فقال له أبو الريحان: أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين، والمستحق بالحقيقة اسم ملك الأرض، فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور، وتصاريف أحوال الليل وانهار، ومقدارها في عامرها وغامرها، وصنف له عند ذلك كتاباً في اعتبار مقدار الليل والنهار بطريق تبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم، ويقرب تصورهم من فهم من لم يرتض بها ولم يعتدها، وكان السلطان الشهيد قد مهر بالعربية فسهل وقوفه عليه، وأجزل إحسانه إليه. وكذلك صنف كتابه في لوازم الحركتين بأمره، وهو كتاب جليل لا مزيد عليه مقتبس أكثر كلماته عن آيات من كتاب الله عز وجل. وكتابه المترجم بالقانون المسعودي يعفي على أثر كل كتاب صنف في تنجيم أو حساب. وكتابة الآخر المعنون بالدستور الذي صنفه باسم شهاب الدولة أبي الفتح مودود ابن السلطان الشهيد مستوف أحاسن المحاسن.
قال مؤلف الكتاب: هذا ذكره محمد بن محمود، وإنما ذكرته أنا ههنا لأن الرجل كان أديباً أريباً لغوياً، له تصانيف في ذلك رأيت أنا منها: كتاب شرح شعر أبي تمام رأيته بخطه لم يتمه، كتاب التعليل بإحالة الوهم في المعاني نظم أولي الفضل، كتاب تاريخ أيام السلطان محمود وأخبار أبيه، كتاب المسامرة في أخبار خوارزم، كتاب مختار الأشعار والآثار. وأما سائر كتبه في علوم النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فإنها تفوق الحصر، رأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في نحو الستين ورقة بخط مكتنز.

وحدثني بعض أهل الفضل: أن السبب في مصيره إلى غزنة أن السلطان محمودا لما استولى على خوارزم قبض عليه وعلى أستاذه عبد الصمد الأول ابن عبد الصمد الحكيم، واتهمه بالقرمطة والكفر فأذاقه الحمام وهم أن يلحق به أبا الريحان، فساعده فسحة الأجل بسبب خلصه من القتل، وقيل له: إنه إمام وقته في علم النجوم، وإن الملوك لا يستغنون عن مثله، فأخذه معه ودخل إلى بلاد الهند وأقام بينهم وتعلم لغتهم واقتبس علومهم، ثم أقام بغزنة حتى مات بها أرى في حدود سنة ثلاث وأربعمائة عن سن عالية، وكان حسن المحاضرة، طيب العشرة خليعاً في ألفاظه عفيفا في أفعاله، لم يأت الزمان بمثله علماً وفهماً، وكان يقول شعراً إن لم يكن في الطبقة العليا فإنه من مثله حسن، منه في ذكر صحبة الملوك، ويمدح و يمدح أبا الفتح البستي من كتاب سر السرور.
مضى أكثر الأيام في ظل نعمة ... على رتب فيها علوت كراسيا
فآل عراق قد غذوني بدرهم ... ومنصور منهم قد تولى غراسيا
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي ... على نفرة مني وقد كان قاسيا
وأولاد مأمون ومنهم عليهم ... تبدى بصنع صار للحال آسيا
وأخرهم مأمون رفه حالتي ... ونوه باسمي ثم راس راسيا
و لم ينقبض محمود عني بنعمة ... فأغنى و أقنى مغضيا عن مكاسيا
عفا عن جهالاتي وأبدي تكرماً ... وطرى بجاه رونقي ولباسيا
عفاء على دنياي بعد فراقهم ... وواحزني إن لم أزر قبل آسيا
ولما مضوا وأعتضت منهم عصابة ... دعوا بالتناسي فاغتنمت التناسيا
وخلفت في غزنين لحماً كمضغة ... على وضم للطير للعلم ناسيا
فأبدلت أقواماً وليسوا كمثلهم ... معاذ إلهي أن يكونوا سواسيا
بجهد شأوت الجالبين أئمة ... فما اقتبسوا في العمل مثل اقتباسيا
فما بركوا للبحث عند معالم ... ولا احتبسوا في عقدة كاحتباسيا
فسائل بمقداري هنوداً بمشرق ... وبالغرب من قد قاس قدر عماسيا
فلم يثنهم عن شكر جهدي نفاسة ... بل اعترفوا طرا وعافوا انتكاسيا
أبو الفتح في دنياي مالك ربقتي ... فهات بذكراه الحمية كاسيا
فلا زال للدنيا وللدين عامراً ... ولا زال فيها للغواة مواسيا
ومن أقوم شعره قوله لشاعر اجتداه.
يا شاعر جاءني يخرى على الأدب ... وافي ليمدحني والذم من أدبي
وجدته ضارطاً في لحيتي سفهاً ... كلا فلحيته عثنونها ذنبي
وذاكراً في قوافي شعره حسبي ... ولست والله حقاً عارفاً نسبي
إذ لست أعرف جدي حق معرفة ... وكيف أعرف جدي إذ جهلت أبي؟
إني أبو لهب شيخ بلا أدب ... نعم ووالدتي حمالة الحطب
المدح والذم عندي يا أبا حسن ... سيان مثل استواء الجد واللعب
فأعفني عنهما لا تشتغل بهما ... بالله لا توقعن مفساك في تعب
وله:
ومن حام حول المجد غير مجاهد ... ثوى طاعماً للمكرمات وكاسيا
وبات قرير العين في ظل راحة ... ولكنه عن حلة المجد عاريا
وله في التجنيس:
فلا يغررك مني لين مس ... تراه في دروس واقتباس
فإني أسرع الثقلين طرا ... إلى خوض الردى في وقت باس
ومنه:
تنغص بالتباعد طيب عيشي ... فلا شيء أمر من الفراق
كتابك إذ هو الفرج المرجى ... أطب لما ألم من ألف راق
وله:
أتأذنون لصب في زيارتكم ... إن كان مجلسكم خلواً من الناس؟
فأنتم الناس لا أبغي بكم بدلاً ... وأنتم الراس والإنسان بالراس
وكدكم لمعال تنهضون بها ... وغيركم طاعم مسترجع كاسي
فليس يعرف من أيام عيشته ... سوى التلهي بأير قام أو كاس

لدي المكايد إن راجت مكايده ... ينسى الإله وليس الله بالناس
محمد بن أحمد بن عبيد الله الكاتبالمعروف بالمفجع صاحب ثعلب. كذا وجدت نسبه بخط الطبري المعروف بمضراب اللبن من أهل البصرة، ويكنى أبا عبد الله ذكره ابن النديم فقال: إنه لقي ثعلباً وأخذ عنه وعن غيره وكان شاعراً شيعياً، وله قصيدة يسميها بالأشباه يمدح فيها علياً عليه السلام، وبينه وبين ابن دريد مهاجاة. وذكره أبو المنصور الثعالبي في كتاب اليتيمة فقال: المفجع البصري صاحب ابن دريد والقائم مقامه في التأليف والإملاء. حدث ابن نصر قال: حدثني بعض المشايخ البصريين قال: كان المفجع وشمال يتهاجيان وكان شمال سنياً والمفجع شيعياً، فقال فيه المفجع:
دار شمال في بني أصمع ...
فقال شمال كذا هو، فقال المفجع:
أنظر إليها فهي في بلقع
قال شمال: أي شيء ذنبي إذا خربت المحلة؟ قال:
هو خبيث النفس مستهتر ... بكل أير قائم أصلع
فقال شمال: هو شيعي، وكان يجب أن ينزه ذكر القائم والأصلع عن لفظ الهجاء. قال:
وذا قبيح أن يرى شاعر ... يناك في السرم على أربع
قال شمال: وغير الشاعر أيضاً قبيح أن يرى كذا. ثم عمل فيه شمال يعرض به:
رجل نازل بدرب سطيح ... أي شخص بالليل يركب سطحه؟
أخذ الله لابن عفان منه ... ولشيخه والزبير وطلحة
فلما سمعت ربيعة بذلك قصدت دار المفجع فهرب منها. ومن شعر المفجع:
لي أير أراحني الله منه ... صار حزني به عريضاً طويلاً
نام إذ زارني الحبيب عناداً ... ولعهدي به ينيك الرسولا
حسبت زورة على لحيني ... وافترقنا وما شفيت غليلا
ووجدت له أيضاُ فيما رواه الحميدي:
لنا صديق مليح الوجه مقتبل ... وليس في وده نفع ولا بركه
شبهته بنهار الصيف يوسعنا ... طولاً ويمنع منا النوم و الحركه
وقد هجاه بعض الشعراء فقال:
إن المفجع ويله ... شر الأوائل والأواخر
ومن النوادر أنه ... يملي على الناس النوادر
كأنه من قول أبي تمام:
ومالك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
قال المرزباني: لقب بالمفجع لبيت قال، وهو شاعر مكثر عالم أديب، مات قبل الثلاثين والثلاثمائة. قال: وهو القائل في أبي الحسن محمد بن عبد الوهاب الزينبي الهاشمي يمدحه:
للزينبي على جلالة قدره ... خلق كطعم الماء غير مزند
وشهامة تقصي الليوث إذا سطا ... وندى يغرق كل بحر مزبد
يحتل بيتاً في ذؤابة هاشم ... طالت دعائمه محل الفرقد
حر يروح المستميح ويغتدي ... بمواهب منه تروح وتغتدي
فإذا تحيف ماله إعطاؤه ... في يومه نهك البقية في غد
بضياء سنته المكارم تهتدي ... وبجود راحته السحائب تقتدي
مقدار ما بيني وما بين الغنى ... مقدار ما بيني وبين المربد
وقال الثعالبي: وأما شعره فقليل كثير الحلاوة يكاد يقطر منه ماء الظرف وفيه يقول اللحام:
إن المفجع فالعنوه مؤنث ... نغل يدين ببغض أهل البيت
يهوى العلوق وإنما يهواهم ... بمؤخر حي وقلب ميت
ومن شعره ويروي لابن لنكك:
لنا سراج نوره ظلمة ... ليس له ظل على الأرض
كأنه شخص الإمام الذي ... يبغي الهدى منه أولو الرفض
وللمفجع تصانيف منها: كتاب الترجمان في الشعر ومعانيه يشتمل على ثلاثة عشر حداً وهي: حد الإعراب، حد المديح، حد البخل، حد الحلم والرأي، حد الغزل، حد المال حد الإغتراب، حد المطايا، حد الخطوب، حد النبات، حد الحيوان حد الهجاء، حد اللغز وهو آخر الكتاب. وله أيضاً: كتاب المنقد في الإيمان يشبه كتاب الملاحن لابن دريد إلا أنه أكبر منه وأجود وأتقن. كتاب أشعار الجواري لم يتم، كتاب عرائس المجالس، كتاب غريب شعر زيد الخيل الطائي، كتاب قصيدته في أهل البيت ذكره أبو جعفر في مصنفي الإمامية.

ومما أنشده الثعالبي له في غلام يكنى أبا سعد:
زفرات تعتادني عند ذكرا ... ك وذكراك ما تريم فؤادي
وسروري قد غاب عني مذ غب ... ت فهل كنتما على ميعاد؟
حاربتني الأيام فيك أبا سع ... د بسيف الهوى وسهم العباد
ليس لي مفزع سوى عبرات ... من جفون مكحولة بالسهاد
في سهادي لطول أنسي بذكرا ... ك اعتياض من الكرى والرقاد
وبحسبي من المصائب أني ... في بلاد وأنتم في بلاد
وله:
ألا ياجامع البص ... رة لا خربك الله
وسقي صحنك الغي ... ث من المزن فرواه
فكم من عاشق فيك ... يرى ما يتمناه
وكم ظبي من الإنس ... مليح فيك مرعاه
نصبنا الفخ بالعلم ... له فيك فصدناه
بقرآن قرأناه ... وتفسير رويناه
وكم من طالب للشع ... ر بالشعر طلبناه
فما زالت يد الأيا ... م حتى لان متناه
وحتى ثبت السرج ... عليه وركبناه
ألا يا طالب الأمر ... د كذب ما ذكرناه
فلا يغررك ما قلناه ... فما بالجد قلناه
وإن كان من البغض ... يزني حين تلقاه
فرد الدرهم الضرب ... إليه تتلقاه
فبالدرهم يستنز ... ل ما في الجو مأواه
وبالدرهم يستخر ... ج ما في القفر مثواه
قال أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن بشران بن إبراهيم بن العباس بن محمد بن العباس بن محمد ابن جعفر في تاريخه قال: وفيها يعني في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله المفجع الكاتب الشاعر، وكان شاعر البصرة وأديبها، وكان يجلس في الجامع بالبصرة فيكتب عنه ويقرأ عليه الشعر واللغة والمصنفات، وامتنع من الجلوس مدة لسبب لحقه من بعض من حضره فخوطب في ذلك فقال: لو استطعت أن أنسيهم أسماءهم لفعلت. وشعره مشهور، فمنه دامت الأمطار وقطعت عن الحركة:
يا خالق الخلق أجمعينا ... وواهب المال والبنينا
ورافع السبع فوق سبع ... لم يستعن فيهما معينا
ومن إذا قال كن لشيء ... لم تقع النون أو يكونا
لا تسقنا العم صوب غيث ... أكثر من ذا فقد روينا
وله يخاطب أبا عبد الله البريدي وقد أعاد عليه ذكر سبب:
قل لمن كان قد عفا ... عن ذنوب المفجع
لا تعد ذكر ما مضى ... من عفا لم يقرع
وله وقد سأل بعض أصدقائه أيضاً رقعة وشعراً له يهنئه في مهرجان إلى بعضهم فقصر حتى مضى المهرجان:
إن الكتاب وإن تضمن طيه ... كنه البلاغة كالفصح الأخرس
فإذا أعانته عناية حامل ... فجوابه يأتي بنجح منفس
وإذا الرسول ونى وقصر عامداً ... كان الكتاب صحيفة المتلمس
قد فات يوم المهرجان فذكره ... في الشعر أبرد من سخاء المفلس
فسئل عن سخاء المفلس فقال: يعد في إفلاسه بما لا يفي به عند إمكانه. قال: دخل المفجع يوماً إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي فوجده يقرأ معاني الشعر على العبيسي فأنشد:
قد قدم العجب على الرويس ... وشارف الوهد أبا قبيس
وطاول البقل فروع الميس ... وهبت العنز لقرع التيس
وادعت الروم أباً في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس
إذ قرأ القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
وألقى ذلك إلى التنوخي وانصرف. وكان أبو عبد الله الأكفاني راويته وكتب لي بخطه من مليح شعره شيئاً كثيراً قال: ومدح أبا القاسم التنوخي فرأى منه جفاء فكتب إليه:
لو أعرض الناس كلهم وأبوا ... لم ينقصوا رزقي الذي قسما
كان وداد فزال وانصرما ... وكان عهد فبان وانهدما
وقد صحبنا في عصرنا أمماً ... وقد فقدنا من قبلهم أمما

فما هلكنا هزلاً ولا ساخت ال ... أرض ولم تقطر السماء دما
في الله من كل هالك خلف ... لا يرهب الدهر من به اعتصما
حر ظننا به جميل فما ... حقق ظنا ولا رعى الذمما
فكان ماذا ما كل معتمد ... عليه يرعى الوفاء والكرما
غلطت والناس يغلطون وهل ... تعرف خلقاً من غلطه سلما؟
من ذا إذا أعطى السداد فلم ... يعرف بذنب ولم يزل قدما
شلت يدي لم جلست عن تفه ... أكتب شجوى وأمتطي القلما؟
يا ليتني قبلها خرست فلم ... أعمل لساناً ولا فتحت فما
يا زلة ما أقلت عثرتها ... أبقيت على القلب والحشا ألما
من راعه بالهوان صاحبه ... فعاد فيه فنفسه ظلما
وله:
أظهرت للرئم بعض وجدي ... وإنما الوجد ما سترته
وقلت حبيك قد براني ... فقال دعه بذا أمرته
وله قصيدته ذا الأشباه، وسميت بذات الأشباه لقصده فيما ذكره من الخبر الذي رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في محفل من أصحابه: (إن تنظروا إلى آدم في علمه، ونوح في همه، وإبراهيم في خلقه، وموسى في مناجاته، وعيسى في سنه، ومحمد في هديه وحلمه، فانظر إلى هذا المقبل). فتطاول الناس فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام، فأورد المفجع ذلك في قصيدته وفيها مناقب كثيرة وأولها:
أيها اللائمي لحبي عليا ... قم ذميماً إلى الجحيم خزيا
أبخير الأنام عرضت لا زل ... ت مذوداً عن الهدى مزويا
أشبه الأنبياء كهلاً وزولاً ... وفطيماً وراضعاً وغذيا
كان في علمه كآدم إذ عل ... م شرح الأسماء والمكنيا
وكنوح نجى من الهلك من س ... ير في الفلك إذ علا الجوديا
وجفا في رضا الإله أباه ... واجتواه وعده أجنبيا
كاعتزال الخليل آزر في ال ... له وهجرانه أباه مليا
ودعا قومه فآمن لوط ... أقرب الناس منه رحماً وريا
وعلي لم دعاه أخوه ... سبق الحاضرين والبدويا
وله من أبيه ذي الأيد إسما ... عيل شبه ما كان عني خفيا
إنه عاون الخليل على الكع ... بة إذ شاد ركنها المبنيا
ولقد عاون الوصي حبيب ال ... له إذ يغسلان منها الصفيا
رام حمل النبي كي يقطع الأص ... نام من سطحها المثول الحبيا
فحناه ثقل النبوة حتى ... كاد ينآد تحته مثنيا
فارتقى منكب النبي على ... صنوه ما أجل ذا المرتقيا
فأماط الأوثان عن ظاهر الكع ... بة ينفي الرجاس عنها نفيا
ولو أن الوصي حاول مس ال ... نجم بالكف لم تجده قصيا
أفهل تعرفون غير علي ... وابنه استرحل النبي مطيا
وشعر أبي عبد الله المفجع كثير حسن. وكان يوماً بالأهواز جالساً مع جماعة فاجتاز به غلام لموسى بن الطيب نديم أبي عبد الله البريدي يقال له طريف وهو أمرد مليح فسأل المفجع عنه فقيل: هذا غلام نديم البريدي فقال:
اجتاز بي اليوم في الطريق فتى ... يختال في مورق من البان
فقلت من ذا؟ فقال لي خبر ... بالأمر هذا غلام صفعان
ولأبي عبد الله في جماعة من كبار أهل الأهواز مدائح كثيرة وأهاج، وله قصيدة في أبي عبد الله بن درستوريه يرثيه فيها وهو حي يقول فيها ويلقبه بدهن الآجر:
مات دهن الآجر فاخضرت الأر ... ض وكادت جبالها لا تزول
ويصف أشياء كثيرة فيها. قال: وكان المفجع يكثر عند والدي ويطيل المقام عنده، وكنت أراه عنده وأنا صبي بالأهواز، وله إليه مراسلات وله فيه مدح كثيرة كنت جمعتها فضاعت أيام دخول ابن أبي ليلى الأهواز ونهب رزناماتها، وكان منها قصيدة بخطه عندي يقول فيها:

لو قيل للجود من مولاك قال نعم؟ ... عبد المجيد المغيرة بن بشران
وأذكر له من قصيدة أخرى:
يا من أطال يدي إذ هاضني زمني ... وصرت في المصر مجفوا ومطرحا
أنقذتني من أناس عند دينهم ... قتل الأديب إذا ما علمه اتضحا
قال: وكانت وفاته قبل وفاة والدي بأيام يسيرة، ومات والدي في يوم السبت لعشرة خلون من شعبان سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وفيها مات الخروري الشاعر. ومن ملحه المشهورة قوله لإنسان أهدى إليه طبقاً فيه قصب السكر والأترنج والنارنج وأراه أبا سعد غلامه:
إن شيطانك في الظر ... ف لشيطان مريد
فلهذا أنت فيه ... تبتدي ثم تعيد
قد أتتنا تحفة من ... ك على الحسن تزيد
طبق فيه قدود ... ونهود وخدود
وأنشد الثعالبي له في غلام مغن جدر فازداد حسناً وجمالاً:
يا قمراً جدر حتى استوى ... فزاده حسناً وزادت هموم
كأنه غني لشمس الضحى ... فنقتطته طرباً بالنجوم
وأنشد له أيضاً:
فسا على قوم فقالوا له ... إن لم تقم من بيننا قمنا
فقال لا عدت فقالوا له ... من نتن فيه ذا كما كنا
وأنشد له أيضاً:
أداروها ولليل اعتكار ... فخلت الليل فاجأه النهار
فقلت لصاحبي والليل داج ... ألاح الصبح أم بدت العقار؟
فقال هي العقار تداولوها ... مشعشعة يطير لها شرار
فلولا أنني أمتاح منها ... حلفت بأنها في الكأس نار
محمد بن أحمد بن غيثةبن سليمان بن أيوب بن غيثة النوقاتي بالتاء قبل ياء النسبة، ونوقات محلة بسجستان يقال لها نوها فعربت، يكنى أبا عمر السجستاني وهو والد عمر وعثمان، وصاحب التصانيف المشهورة. ذكره أبو سعد السمعاني في كتاب تاريخ مرو فقال: دخل إلى خراسان وكتب بهراة ومرو وبلخ وما وراء النهر، وسمع الكثير من الشيوخ وأكثر واشتغل بالتصانيف، وبلغ فيها الغاية وكان مرزوقاً فيها محسناً، جمع من كل جنس وفن، وأحسن في كل التصانيف، وسمع أبا عبد الله محمد بن إسحاق القرشي ثم ذكر خلقاً كثيراً، منهم الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن البيع الحافظ، وأبو حاتم محمد بن حيان البستي، وأبو يعلى النسفي، وأبو على حامد بن محمد الرفاء، وأبو سليمان الخطابي.
وروى عنه ابناه عمر وعثمان، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب آداب المسافرين، كتاب العتاب والإعتاب، كتاب فضل الرياحين، كتاب العلم، كتاب الشيب، كتاب محنة الظراف في أخبار العشاق، كتاب معاشرة الأهلين. وأنشد لنفسه في كتاب محنة الظراف:
نمت دموعي على سرى وكتماني ... وشرد النوم عن عيني أحزاني
وأقلقني عما أستعين به ... على الهوى حسرات منك تغشاني
يا من جفاني وأقصاني وغادرني ... صبا وأشمت بي من كان يلحاني
لا تنس أيام أنس قد مننت بها ... وداو غلة قلب فيك أعياني
ومن كتاب محنة الظراف مما نسبه أبو عمر إلى نفسه ومن خطه نقلت:
سأهجركم ما دمتم في حجابكم ... على الكره حتى تأمنوا الرقباء
مساعدة مني لكم لا تصبراً ... ولم يصبر العطشان يبصر ماء
وأنشد أيضاً لنفسه:
أصابك أيضاً عين بعد فرطك في حي ... أم أذنبت فاستحسنت يا سيدي ذنبي؟
أحين سلبت القلب من صبابة ... وصيرتني عبداً تجافيت عن قربي؟
سأصبر حتى تعجبوا من تصبري ... وأنتظر الحسنى على ذاك من ربي
وأنشد السمعاني بإسناد له رفعة إلى النوقاتي عن الحسين بن أحمد عن الصولي عن ثعلب عن أبي العالية:
أرى بصري في كل يوم وليلة ... يكل وخطوي عن مدى الخطو يقصر
ومن يصحب الأيام ستين حجة ... يغيرنه والدهر لا يتغير
لعمري لئن أمسيت أمشي مقيداً ... لما كنت أمشي مطلق القيد أكثر
قال: وحدث أبو عمر بن النوقاتي في رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، فتكون وفاته بعد هذا الشهر.
محمد بن أحمد بن عمر الخلال

أبو الغنائم اللغوي، إمام عالم جيد الضبط، صحيح الخط، معتمد عليه معتبر، أخذ عن أبي سعيد السيرافي، وأبي علي الفارسي، وأبي الحسن الرماني وتلك الطبقة.
محمد بن أحمد بن طالب الفقيهالأديب الحلبي أبو الحسن، سمع ببغداد أبا بكر بن دريد وأبا بكر بن الأنباري، وأبا علي بن الحسين بن أحمد الكاتب المعروف بالكوكبي، وأبا عبد الله نفطويه، وأبا عيسى محمد بن أحمد بن قطن السمسار، وبحلب أبا عبد الله أحمد بن جعفر بن أحمد بن ماست الحاضري الحلبي، والقاضي أبا حصين، ومات بعد سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، قرئ عليه كتابه في هذه السنة، وله كتاب الشبان والشيب أحسن فيه.
محمد بن أحمد بن محمد أشرسأبو الفتح النحوي اللغوي، أديب فاضل شاعر من أهل نيسابور، وكان من تلاميذ أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي بنيسابور، وقدم بغداد فلقي بها جماعة من أصحاب أبي علي الفارسي كالربعي علي بن عيسى، وأبي الحسن السمسمي وغيرهما، ذكره الباخرزي في كتابه فقال: حدثني القاضي أبو جعفر البحاثي قال: حدثني الحاكم أبو سعد بن دوست قال: كان أبو الفتح بن أشرس من ناحية الرخ، وكان يؤدب بنيسابور ويختلف إلى أبي بكر الخوارزمي، فلما نزف ما عنده ارتحل إلى مدينة السلام قال: فرأيت كتاباً بخط يده وقد كتب به إلى بعض أصدقائه وذكر في أثنائه أن ليس اليوم بخراسان من يقوم باختيار فصيح الكلام لثعلب، وألفاظ الكتبة لعبد الرحمن عيسى.
قال أبو سعد: وكان الخوارزمي يومئذ حياً يرزق، والألسنة لفضله تطلق. وهذان الكتابان من زغب فراخ الكتب، وأنكر معرفة أهل خراسان بهما، فما ظنك بالقشاعم اللقمانية من أمهاتنا. وأنشدني القاضي أبو جعفر قال: أنشدني الحاكم أبو سعد قال: أنشدني ابن الأشرس لنفسه في أبي الحسن الأهوازي يهجوه.
يا عجباً لشيخنا الأهوازي ... يزهى علينا وهو في هوان
قال الحاكم أبو سعد: وأنشدني أيضاً لنفسه:
كأنما الأغصان لما علا ... فروعها قطر الندى قطرا
ولاحت الشمس عليها ضحى ... زبرجد قد أثمر الدرا
نقد الحاكم أبو سعد على بيته فقال: قوله قد أثمر الدر، لا يستقيم في النحو، لأنه لا يقال أثمرت النخلة الثمر، وإنما يقال أثمرت ثمراً بغير الألف واللام. وكتب ابن أشرس من بغداد إلى أبي الفتح الحداد بنيسابور:
رب غلام صار في ... بغداد إحدى الفتن
رقعتت خرق ظهره ... برقعة من بدني
قال الحاكم: في هذين البيتين خلل، لأنه لا يمكن أن يفسر على وجه قبيح لأن لحيته أيضاً من بدنه. قال القاضي البحاثي: فقلت له: وهذا التفسير أشبه، لأن اللحية أشبه بالرقعة من الفعل، قال نعم. لأن اللحية ترقع وذاك يمزق. هذا آخر ما ذكره الباخرزي في كتابه.
قال القاضي أبو المحاسن بن مسعر المغربي في كتابه: وممن قرأت عليه: أبو الفتح محمد بن أشرس النيسابوري، وكان ملازماً دار الخلافة ويأتي يوم الثلاثاء إلى قطيعة الملحم فكنت أصل إليه في هذا الموضع، وكان واسع العلم غزير الحفظ، وكان حياً في سنة خمس عشرة وأربعمائة، ولم تتجاوز وفاته سنة عشرين وأربعمائة وما لقيت أحداً من البغداديين يحقق لي وقت وفاته فأثبته على الحقيقة.
محمد بن أحمد بن محمد أبو سعدالعميدي، أديب نحوي لغوي مصنف سكن مصر. قال أبو إسحاق الحبال: أبو سعد العميدي له أدبيات، مات يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وكان العميدي يتولى ديوان الترتيب وعزل عنه كما ذكر الروذباري في سنة ثلاث عشرة في أيام الظاهر ووليه ابن معشر، ثم تولى ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر استخدم فيه عوضاً من ولي الدولة ابن خيران الكاتب في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتولى الديوان بعده أبو الفرج الذهلي في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وأربعمائة. وله تصانيف في الأدب منها: كتاب تنقيح البلاغة في عشر مجلدات، رأيته بدمشق في خزانة الملك المعظم - خلد الله دولته - وعليه خطه، وقد قرئ عليه في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، كتاب الإرشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور، كتاب انتزاعات القرآن، كتاب العروض، كتاب القوافي كبير.

قال علي بن مشرف: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمود ابن الدليل الصواف بمصر قال: أنشدنا أبو سعد محمد بن أحمد العميدي لنفسه:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي ... مقر عبادة إلا القرافة
لئن لم يرحم المولى اجتهادي ... قلة ناصري لم ألق رافه
محمد بن أحمد محمد بن سلمان كاملابن عبد الله بن عامر بن سنان، البخاري المعروف بالغنجار الحافظ أبو عبد الله بن أبي بكر. لم يكن من أهل الأدب فيجب ذكره، إنما ذكرته لأنه ألف كتاب تاريخ بخارى.
قال أبو سعد السمعاني: مات الغنجار البخاري سنة عشرة وأربعمائة، ومولده في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في مقبرة حوض الفدام ببخارى.
قال أحمد بن ماما الأصبهاني الحافظ فيما زاده على تاريخ غنجار بعد ذكر نسب غنجار كما ذكرنا قال: سمي غنجار لتتبعه وجمعه في حال شبابه أحاديث أبي أحمد عيسى بن موسى غنجار البخاري قال: وأول من كتب عنه الحديث كثير عن أبي بكر محمد بن أحمد بن حبيب، ومشايخه أكثرهم مذكورون في تصنيفه لتاريخ بخارى. سمعته يقول: ولدت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ومات يوم الجمعة عند طلوع الشمس الثاني والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن على المعمري أبو بكر الأديب. مات في محرم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. قال عبد الغافر: الأديب المعمري مشهور ثقة حدث عن جماعة من الشيوخ، وكان يؤدب وتخرج عليه جماعة من أولاد المشايخ، سمع أبا حفص محمد بن على الفقيه إملأ. روي عنه أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الكريزي.
محمد بن أحمد بن سهليعرف بابن بشران وبشران جده لأمه، ويعرف بابن الخالة أيضاً، ويكنى أبا غالب من أهل واسط، أحد الأئمة المعروفين والعلماء المشهورين، تجمع فيه أشتات العلوم، وقرن بين الرواية والدراية والفهم وشدة العناية، صاحب نحو ولغة وحديث وأخبار ودين وصلاح، وإليه كانت الرحلة في زمانه، وهو عين وقته وأوانه، وكان مع ذلك ثقة ضابطاً محرراً حافظاً إلا أنه كان محدوداً، أخذ العلم عن خلق لا يحصون: منهم أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار الكاتب صاحب أبي علي الفارسي.
وحدث أبو عبد الله الحميدي قال: كتب إلى أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الجلابي الواسطي صديقنا من واسط: أن أبا غلاب بن بشران النحوي مات بواسط في خامس عشر رجب سنة اثنتين وستين وأربعمائة، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة. قال الجلابي: ودخلت إلية قبل موته وجاءه من أخبره أن القاضي وجماعة معه قد ختموا على كتبه حراسة لها وخوفاً عليها فقال:
لئن كان الزمان على أنحى ... بأحداث غصصت لها بريقي
فقد أسدى إلى يداً بأني ... عرفت بها عدوي من صديقي
قال: وهذا آخر ما قاله من الشعر. قال الحميدي: وما أظن البيتين إلا لغيره. قال: وأنشدنا وقد انقطع الناس عن عيادته والدخول إليه:
مالي أرى الأبصار بي جافيه ... لم تلتفت مني إلى ناحية؟
لا ينظر الناس إلى الميت لا ... وإنما الناس مع العافية
وله حظ وافر من الشعر في قوله وعلمه، فمن شعره:
لولا تعرض ذكر من سكن الغضا ... ما كان قلبي للضنى متعرضا
لكن جفا جفني الكرى بجفائهم ... وحشا حشاي فراقهم جمر الغضا
ولو أن ما بي بالرياح لما جرت ... والبرق لو يمنى به ما أومضا
يا راكباً يطوي الدجنة عيسه ... فتريه رضراض الحصا مترضرضا
بلغ رعاك الله سكان الغضا ... عني التحية إن عرضت معرضا
وقل انقضي عصر الشباب وودنا ... باق على مر الليالي ما انقضى
إن كان قد حكم الزمان ببعدكم ... أبداً فتسليماً لما حكم القضا
ونضا الشباب قناعه لما رأى ... سيف المشيب على المفارق منتضى
قد كنت ألقى الدهر أبيض ناضراً ... فاسود لما صار رأسي أبيضا
لولا اعترافي بالزمان وريبه ... ما كنت ممن يرتضي غير الرضا
وله:
لا تغترر بهوى الملاح فربما ... ظهرت خلائق للملاح قباح ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...