Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج13.وج14.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

 

ج13.وج14.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

 
وكذا السيوف يرون حسن صقالها ... وبحدها تتخطف الأرواح
وله:
هوى النفس سكر والسلو إفاقه ... ولن يستبين الرشد ذو الرشد أو يصحو
فدع نصح من أعماه عن رشده الهوى ... فإن سواء عنده الغش والنصح
وله:
ولما أثاروا العيس للبين بينت ... غرامي لمن حولي دموع وأنفاس
فقلت لهم لا بأس بي فتعجبوا ... وقالوا الذي أبديته كله باس
تعوض بأنس الصبر من وحشة الأسى ... فقد فارق الأحباب من قبلك الناس
وله:
توهمه قلبي فأوحى ضميره ... قبولاً فأحكمنا الهوى بالسرائر
فلما التقينا شبت الحرب بيننا ... على السلم منا مقلتاه وناظري
جرحت بلحظي وجنتيه فأقصدت ... لواحظه قلبي بأسنهم ثائر
وله:
سقى الله ليلاً بت فيه مغازلاً ... غزالاً حكى لي وجهه طلعة البدر
أصبت به غرة الدهر فرصة ... فبادرتها علماً بعاقبة الدهر
وله:
أفدى الذي عارضا خديه لم يدعا ... إذ أعرضا جوهراً مني ولا عرضا
ولم يزل ممرضي تمريض مقلته ... حتى ثناني على فرش الضنى حرضا
قال الوشاة إلى كم ذا الغرام به؟ ... فقلت حتى أرى من حسنه عوضا
قالوا فقد كنت ذا صبر تعوذ به ... فقلت شرده عني الهوى فمضى
وله:
إن قدم الحظ قوماً ما لهم قدم ... في فضل علم ولا حزم ولا جلد
فهكذا الفلك العلوي أنجمه ... تقدم الثور فيها رتبة الأسد
وله:
لما بدا يفتن الألباب رؤيته ... أبديت من حبه ما كنت أخفيه
وبان عذري لعذالي فكلهم ... إلى متعذر من عذله فيه
لكن سكرت براح من لواحظه ... فما أفقت بغير الراح من فيه
قال: وقد سئل ابن بشران إجازة هذا البيت:
ليس يخفى عليك وجدي عليكا ... واشتكائي شوقي إليك إليكا
فقال:
ونزول المشيب قبل أوان الشي ... ب في عارضي من عارضيكا
وحياتي لديك في قبضة الأسد ... فكن حافظاً حياتي لديكا
وعليك اعتمدت في حفظ عهدي ... فارع لي حرمة اعتمادي عليكا
ناظري ناظر إلى جنت ... ك وقلبي في النار من ناظريكا
نقلت من خط خميس الحوزي قال: قال قاضي القضاة أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة قال: اجتمعت مع أبي غالب بن بشران في جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة بواسط فسألته أولاً عن سبب تجنبه الانتساب إلى ابن بشران وهو به مشهور فقال: هو جدي لأمي، وهو ابن عم بشران المحدث الذي كان ببغداد، فسألته عن مولده فقال: مولدي في سنة ثمانين وثلاثمائة. قال الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة: وسألته يعني خمسين بن علي الحوزي أبا الكرم عن أبي غالب النحوي فقال: هو محمد ابن أحمد بن سهل يعرف بابن الخالة أصله من نهر سابس ينسب إلى خاله ابن بشران وكان أحد الأعيان، قدم واسط فجالس ابن الجلاب وابن دينار وتخصص بابن كروان، وقرأ عليه كتاب سيبويه ولازم حلقة أبي إسحاق الرفاعي صاحب السيرافي وكان يقول: قرأت عليه من أشعار العرب ألف ديوان، وكان مكثراً حسن المحاضرة مليح العارضة إلا أنه لم ينتفع به أحد بواسط ولن يبرع به أحد في الأدب وكان جيد الشعر مع ذلك، رأينا في كتبه بعده خطوط أشياخ عدة بكتب كثيرة في الأدب وغيره إلا أنه كان معتزلياً وشهد عند إسماعيل قاضي واسط في آخر شوطه وذكر وفاته كما تقدم. ومن شعره في أمرد التحي:
قالوا التحي من قد براك صدوده ... وعما قليل سوف عنك يفرج
فقلت لهم: إني تعشقت روضة ... بها نرجس غض وورد مضرج
وقد زاد فيها بعد ذاك بنفسج ... أأتركها إذ زاد فيها بنفسج؟
وله
طلبت صديقاً في البرية كلها ... فأعيا طلابي أن أصيب صديقا
بلى من تسمى بالصديق مجازة ... ولم يك في حفظ الوداد صدوقا
وطلقت ود العالمين صريمة ... وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا

ومن مستحسن قوله في الشيب:
وقائله إذ راعها شيب مفرقي ... وفودي ما هذا جعلت لك الفدا؟
تراه الذي خبرت قدماً بأنه ... يصير أهل الود في صورة العدا؟
لقد راعني حتى تخليت أنه ... وحاشاك مما قلته حادث الردى
فقلت لها بل روضة غاض ماؤها ... ونبت أنيق حال إذ بلغ المدى
وإن عشت لا قيت الذي قد لقيته ... وأيقنت أني لم أكن فيه أوحدا
وكل امرئ إن عاش للشيب عرضة ... وإن عف عنه اليوم جاز به غدا
قال: وكان لابن بشران كتب حسنة كثيرة وقفها على مشهد أبي بكر الصديق فذهبت على طول المدى. وسئل ابن بشران عن مقدمة العسكر ومقدمة الكتاب فقال: أما مقدمة العسكر فلا خلاف فيه أنه بكسر الدال، وأما مقدمة الكتاب فيحتمل الوجهين، والوجه حمله على مقدمة العسكر.
وله:
قل للوزير الذي ما في وزارته ... لمن يلوذ به ظل ولا شرف
حتام ويلي أنا وقف عليك ولي ... إلى سواك من الأمجاد منصرف؟
كأنني فرس الشطرنج ليس له ... في ظل صاحبه ماء ولا علف
محمد بن أحمد بن علي بن محمدابن يزيد بن حاتم البارودي النحوي أبو يعقوب. قال أحمد ابن محمد بن مرزوق الأنماطي المصري: مات يوم الأربعاء لسبع وعشرين ليلة خلت من ربيع الآخر سنة تسع وأربعين و أربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد الصفارأبو بكر الأديب الأصبهاني، ذكره يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة فقال: كان يختلف إلى الحديث إلى أن مات، وكان يعظ الناس مدة ثم اشتغل بالعلم إلى أن مات، كان أديباً فاضلاً بارعاً في الأدب حسن الخلق مائلاً إلى الخيرات. مات في شهر ربيع الأول سنة سبعين وأربعمائة.
محمد بن أحمد المعموري البيهقيالأديب الفيلسوف، مات مقتولاً في شهور سنة خمس وثمانين وأربعمائة، كذا ذكر البيهقي في كتاب الوشاح وقال: كان من عليه الحكماء والأئمة، وقد ألقت العلوم إليه أطراف الأزمة، واتفق أنه انتقل إلى أصبهان في خدمة تاج الملك الذي كان وزيراً بعد نظام الملك، وكان قد نظر في زائرجة طالعة فرأى من التسييرات إلى القواطع وشعاع النحوس ما يدل على الخوف والوجل، فأغلق باب داره عليه فأخرج وقتل وأحرق على سبيل الغلط. قضاء الله ليس له مرد. ومن منظومه:
دعاك الربيع وأيامه ... ألا فاستمع قول داع نصوح
يقول اشرب الراح وردية ... ففي الراح يا صاح روح وروح
وغنى البلابل عند الصباح ... لأهل الشراب: الصبوح الصبوح
قال: ومن تصانيفه: كتاب في التصريف مجدول، كتاب في النحو، كتاب في المخروطات والهندسة وغير ذلك.
محمد بن أحمد بن عبد الباقيبن منصور ابن إبراهيم الدقاق، أبو بكر المعروف بابن الخاضبة الحافظ العالم، مات فيما نقلت من المذيل بخط أبي سعد السمعاني في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة ودفن بمقبرة الأجمة المتصلة بباب أبرز. قال أبو سعد: وكان حافظاً فهماً درس القرآن وتفقه زماناً وقرأ الحديث فأكثر، وكان مفيد والمشار إليه في القراءة الصحيحة والنقل المستقيم، وكان مع ذلك صالحاً ورعاً ديناً خيراً سمع بمكة والشام والعراق، وأكثر ببغداد عن أبي بكر أحمد ابن علي الخطيب، وأصحاب أبي طاهر المخلص، وأبي حفص الكتاني، وعيسى بن على الوزير وطبقتهم. وأدركته المنية قبل وقت الرواية، سمع منه جماعة من مشايخنا وسمعوا بقراءته وإفادته الكثير، ورأيتهم مجمعين على الثناء عليه والمدح له:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان

قال السمعاني: سمعت أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ: ذكر أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي الدقاق المعروف بابن الخاضبة يقول: لما كانت سنة الغرق وقعت داري على قماشي وكتبي وكان لي عائلة: والوالدة والزوجة والبنت، فكنت أورق الناس وأنفق على الأهل، فأعرف أنني كتبت صحيح مسلم في تلك السنة سبع مرات، فلما كان ليلة من الليالي رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، ومناد ينادي: ابن الخاضبة، فأحضرت فقيل لي: ادخل الجنة، فلما دخلت الباب وصرت من داخل استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت: آه استرحت والله من النسخ.
قال السمعاني: وسمعت أبا المناقب محمد بن حمزة بن إسماعيل العلوي بهمذان مذاكرة يقول: ذكر أبو بكر بن الخاضبة رحمه الله أنه كان ليلة من الليالي قاعداً ينسخ شيئاً من الحديث بعد أن مضى قطعة من الليل قال: وكنت ضيق اليد فخرجت فأرة كبيرة وجعلت تعدو في البيت وإذا بعد ساعة قد خرجت أخرى وجعلا يلعبان بين يدي ويتقافزان إلى أن دنوا من ضوء السراج، وتقدمت إحداهما إلي وكانت بين يدي طاسة فأكببتها عليها، فجرى صاحبه فدخل سربه، وإذا بعد ساعة قد خرج وفي فيه دينار صحيح وتركه بين يدي فنظرت إليه وسكت واشتغلت بالنسخ ومكث ساعة ينظر إلي فرجع وجاء بدينار آخر، ومكث ساعة أخرى وأنا ساكت أنظر وأنسخ فكان يمضي ويجئ إلى أن جاء بأربعة دنانير أو خمسة - الشك مني - وقعد زماناً طويلاً أطول من كل نوبة، ورجع ودخل سربه وخرج وإذا في فيه جليدة كانت فيها الدنانير وتركها فوق الدنانير، فعرفت أنه ما بقي معه شيء، فرفعت الطاسة فقفزا فدخلا البيت وأخذت الدنانير وأنفقتها في مهم لي، وكان في كل دينار دينار وربع.
قال السمعاني: حكى أبو المناقب العلوي هذا أو معناه، فأني كتبت من حفظي والعهدة عليه فيما حكى وروى. فإني ذاكرت بهذه الحكاية بعض أهل العلم بدمشق فنسبها إلى غير ابن الخاضبة والله أعلم.
قال: وسمعت أبا الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي يقول: سمعت أبا بكر بن الخاضبة يحكي هذه الحكاية عن مؤدبة أبي طالب المعروف بابن الدلو، كان يسكن بنهر طابق وكان رجلاً صالحاً. وحكى عنه حكايات أخر أيضاً في إجابة الدعاء، ولم يحكها ابن الخاضبة عن نفسه، فذهبت على أبي المناقب ولم يكن ضابطاً، كان متسائلاً في الرواية.
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذه حكاية على ما يرى من الاستحالة، وقد أوردتها أنا لثقة موردها وتحريه في الرواية، فإن صحت فقد فزت بخط من العجب، وإلا فاجعلها كالسمر تستمتع به.
قال السمعاني: وأنشدني أبو صالح عبد الصمد بن عبد الرحمن الحنوي، أنشدنا محمد بن أحمد بن عبد الباقي الدقاق، أنشدنا أبو علي إسماعيل بن قلية ببيت المقدس:
كتبت إليك إلى الكتاب ... وأودعته منك حسن الخطاب
لتقرأه أنت لا بل أنا ... وينفذ مني إلى الجواب
قال مؤلف الكتاب: إنما ذكرت ابن الخاضبة في كتابي هذا وإن لم يكن ممن اشتهر بالأدب لأشياء منها: أنه كان قارئاً ورافاً، وله حكايات ممتعة، ولم يكن بالعاري من الأدب بالكلية.
محمد بن أحمد الكركانجي

بن علي بن حامد الكركانجي أبو نصر المروزي من أهل مرو، صاحب أبي الحسين الدهان. مات فيما ذكره السمعاني في المذيل عن ابنه عبد الرحمن الكركانجي قال: توفي الإمام الوالد في ثاني عشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وهو ابن نيف وتسعين سنة، ومولده في حدود سنة تسعين وثلاثمائة بمرو. قال: كان إماماً فاضلاً في علوم القرآن صاحب التصانيف الحسنة فيها، مثل كتاب المعول، وكتاب التذكرة لأهل البصرة وغير ذلك، سافر الكثير إلى العراق والحجاز والجزيرة والشام والسواحل في طلب علم القرآن والقراءة على المشايخ إلى أن صار أوحد عصره وفريد دهره في فنه، وكان مع فضله زاهداً ورعاً متديناً. قال: حكى لي بعض المشايخ أن أبا بصر المقرئ المروزي قال: غرقت نوبة في البحر وانكسر المركب، فكنت أخوض في الماء وتلعب بي الأمواج، فنظرت إلى الشمس وقد زالت ودخل وقت الظهر، فغصت في الماء ونويت أداء فرض الظهر وأنا أنزل في الماء، وشرعت في الصلاة على حسب الوقت، فخلصني الله تعالى ببركة ذلك. وقرأ القرآن على جماعة كثيرة: منهم بمرو على أستاذه أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الدهان المقرئ، وبنيسابور على أبي عبد لله محمد بن علي الخبازي، وأبي عثمان سعيد بن محمد المعدل، وببغداد على أبي الحسن على بن أحمد بن عمر بن حفص بن الحمامي، وذكر غير هؤلاء قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الرزاق المقرئ بسرخس يقول: سمعت أستاذي أبا نصر محمد بن أحمد بن علي المقرئ الكركانجي بجيرنج يسأل ويقول: أين في القرآن كلمة متصلة عشرة أحرف؟ فأفخمنا فقال: (ليستخلفهم في الأرض)، ثم قال: فأين جاء في القرآن بين سبع كلمات ثمان نونات؟ فلم نحر جواباً فقال: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك).
وذكر السمعاني بإسناد آخر أن أبا نصر الكركانجي قال: نصف القرآن في قوله تعالى: (لقد جئت شيئاً نكراً)، النون والكاف من النصف الأول والراء والألف من النصف الثاني. قال: وسمعت المقرئ أبا عبد الله محمد بن عبد الرزاق الحداد بسرخس يقول: سمعت المقرئ أبا نصر محمد بن أحمد الكركانجي بجيرنج يقول: أردت أن أقرأ القرآن على بعض القراء بالشام برواية وقعت له عالية فامتنع علي ثم قال لي: تقرأ على كل يوم عشراً وتدفع إلى مثقالاً من الفضة، فقبلت ذلك منه شئت أو أبيت. قال: فلما وصلت إلى المفضل، أذن لي كل يوم في قراءة سورة كاملة، وكنت أرسل غلماني في التجارة إلى البلاد، وأقمت عنده سنة وخمسة أشهر أو سنة حتى ختمت، واتفق أن لم يرد علي في هذه الرواية خلافاً من جودة قراءتي، فلما قرب أن أخيم الكتاب جمع أصحابه الذين قرؤوا عليه في البلاد القريبة منه وأمرهم أن يحمل إلى كل واحد منهم شستكة قيمتها ديناراً أحمر، وفيها من دينارين إلى خمسة وقال لهم المقرئ: اعلموا أن هذا الشاب قرأ على الرواية الفلانية ولم احتج أن أرد عليه، ووزن لي في كل يوم مثقالاً من الفضة وأردت أن أعرف حرصه في القراءة مع الجودة. ورد على ما كان أخذه مني ودفع إلى كل ما حمله أصحابه من الشساتك والذهب فامتنعت، فأظهر الكراهية حتى أخذت ما أشار إليه وخرجت من تلك البلدة.
محمد بن أحمد الأبيوردي الكوفي

أحد قراء أبيورد. هو أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد أبي العباس أحمد بن إسحاق بن أبي العباس محمد الإمام بن إسحاق بن الحسن أبي الفتيان بن أبي مرفوعة منصور بن معاوية الأصغر بن محمد بن أبي العباس عثمان بن عنبسة بن عتبة بن عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. نقلت هذا النسب من تاريخ جمعه منوجهر بن أسفرسيان بن منوجهر، ابتدأه فيما ذكر لي في أوله من بعد ما ذكره الوزير أبو شجاع فقال فيه عند ذكر الأبيوردي: حكى أنه كان من أبيورد ولم يعرف له هذا النسب، وأنه كان ببغداد في خدمة مؤيد الملك ابن نظام الملك، فلما عادى مؤيد الملك عميد الدولة بن منوجهر ألزمه أن يهجوه ففعل، فسعى عميد الدولة إلى الخليفة بأنه قد هجاك ومدح صاحب مصر، فأبيح دمه فهرب إلى همذان واختلق هذا النسب حتى ذهب عنه ما قرف به من مدح صاحب مصر، وكان يكتب على كتبه المعاوي وكان فاضلاً في العربية والعلوم الأدبية نسابة ليس مثله، متكبراً عظيماً. وسمع سنقر كفجك بخبره فأراد أن يجعله طغرائي الملك أحمد فمات أحمد فرجع إلى أصفهان بحال سيئة، وبقي سنين يعلم أولاد زين الملك برسق ثم شرح سنقر الكفجك للسلطان محمد ذلك وأعطاه أشراف المملكة، وكان يدخل مع الخطير وأبي إسماعيل والمعين وشرف الدين، فتوفي فجأة بأصفهان يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة وكذا ذكر ابن منده. ويقال: سقاه الخطير ودفن بباب دبره، وكان كبير النفس عظيم الهمة، لم يسأل أحداً شيئاً قط مع الحاجة والمضايقة، وكان من دعائه في الصلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغربها، ورثى الحسين عليه السلام بقصيدة قال فيها ومن خطه نقلت:
فجدي وهو عنبسة بن صخر ... برئ من يزيد ومن زياد
قال السمعاني: قال شيرويه: سمع الأبيوردي إسماعيل ابن مسعدة الجرجاني، عبد الوهاب بن محمد بن الشهيد، وأبا بكر بن خلف الشيرازي حديثاً واحداً، وأبا محمد الحسن ابن أحمد السمرقندي وعبد القاهر الجرجاني النحوي.
قال ابن طاهر المقدسي: عنبسة الأصغر بن عتبة الأشراف ابن عثمان بن عنبسة الأكبر بن أبي سفيان قال: ومعاوية الأصغر هو الذي ينتسب إليه الأبيوردي، ومعاوية أول من تدبر كوفن وهي قصبة بين نسا وأبيورد، ونقله إليها حبان بن حكيم العابدي. وكتب مرة قصة إلى الخليفة وكتب على رأسها الخادم المعاوي، يعني معاوية بن محمد بن عثمان لا معاوية بن أبي سفيان، فكره الخليفة النسبة إلى معاوية واستبشعها، فأمر بكشط الميم ورد القصة فبقيت الخادم العاوي.
وحدث السمعاني عن أحمد بن سعد العجلي قال: كان السلطان نازلاً على باب همذان فرأيت الأديب الأبيوردي راجعاً من عندهم فقلت: له من أين؟ فأنشأ يقول ارتجالاً:
ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم مضمر الياس
وقال حتام تؤذيني فإن سنحت ... جوانح لك فاركبني إلى الناس؟
وحدث أبو سعد السمعاني عن أبي علي أحمد بن سعيد العجلي المعروف بالبديع قال: سمعت الأبيوردي يقول في دعائه: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها، فقلت له: أي شيء هذا الدعاء؟ فكتب إلي بهذه الأبيات:
يعيرني أخو عجل إبائي ... على عدم وتيهي واختيالي
ويعلم أنني فرط لحي ... حموا خطط المعالي بالعوالي
فلست بحاصن إن لم أزرها ... على نهل شبا الأسل الطوال
وإن بلغ الرجال مداى فيما ... أحاول فلست من الرجال
قال أبو علي العجلي: وكنت يوماً متكسراً فأردت أن أقوم فعضدني الأبيوردي وعاونني على القيام ثم قال: أموياً يعضد عجلياً كفى بذلك شرفاً. وقد ولى الأبيوردي خزن خزانة دار الكتب بالنظامية التي ببغداد بعد القاضي أبي يوسف يعقوب بن سليمان الأسفرايني، وكانت وفاة الأسفرايني هذا في رمضان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وكان أبو يوسف الأسفرايني أيضاً شاعراً أديباً وهو القائل في بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب حلة بني مزيد:
أيا شجرات النيل من يضمن القرى ... إذا لم يكن جار الفرات ابن مزيد
إذا غاب منصور فلا النور ساطع ... ولا الصبح بسام ولا النجم مهتدي

وحدث العماد محمد بن حامد الأصبهاني في كتاب خريدة القصر: الأبيوردي تولى في آخر عمره أشراف مملكة السلطان محمد بن ملشكاه فسقوه السم وهو واقف عند سرير السلطان فخانته رجلاه فسقط وحمل إلى منزله فقال:
وقفنا بحيث العدل مد رواقه ... وخيم في أرجائه الجود والباس
وفوق السرير ابن الملوك محمد ... تخر له من فرط هيبته الناس
فخامرني ما خانني قدمي له ... وإن رد عني نفرة الجأش إيناس
وذاك مقام لا نوفيه حقه ... إذا لم ينب فيه عن القدم الراس
لئن عثرت رجلي فليس لمقولي ... عثار وكم زلت أفاضل أكياس
قال العماد الأصبهاني: وكان - رحمه الله - عفيف الذيل غير طفيف الكيل، صائم النهار قائم الليل، متبحراً في الأدب، خبيراً بعلم النسب، وأورد له صاحب وشاح الدمية فيه:
من أرتجي وإلى من ينتهي أربي ... ولم أطأ صهوات السبعة الشهب؟
يا دهر هبني لا أشكو إلى أحد ... ما ظل منتهساً شكوى من النوب
تركتني بين أيدي النائبات لقى ... فلا على حسبي تبقى ولا نسبي
يريك وجهي بشاشات الرضا كرماً ... والصدر مشتمل مني على الغضب
إن هزني اليسر لم أنهض على مرح ... أو مسني الضر لم اجثم على الكعب
حسب الفتى من غناه سد جوعته ... وكل ما يقتنيه نهزه العطب
وله:
خليلي إن الحب ما تعرفانه ... فلا تنكرا أن الحنين من الوجد
أحن وللأنضاء بالغور حنة ... إذا ذكرت أوطانها بريا نجد
وله:
خطرت لذكرك يا أميمة خطرة ... بالقلب تجلب عبرة المشتاق
وتذود عن قلبي سواك كما أبى ... دمعي جواز النوم بالآماق
لم يبق مني الحب غير حشاشة ... تشكو الصبابة فاذهبي بالباقي
أيبل من جلب السقام طبيبه ... ويفيق من سحرته عين الراقي؟
إن كان طرفك ذاق ريقك فالذي ... ألقى من المسقي فعل الساقي
نفسي فداؤك من ظلوم أعطيت ... رق القلوب وطاعة الأحداق
فلقلة الأشباه فيما أوتيت ... أضحت تدل بكثرة العشاق
وله:
علاقة بفؤادي أعقبت كمدا ... لنظرة بمنى أرسلتها عرضا
وللحجيج ضجيج في جوانبه ... يقضون ما أوجب الرحمن وافترضا
فأيقظ القلب رعباً ما جنى نظري ... كالصقر نداه طل الليل فانتفضا
وقد رمتني غداة الخيف غانية ... بناظر إن رمى لم يخطئ الغرضا
لما رأى صاحبي ما بي بكى جزعاً ... ولم يجد بمنى عن خلتي عوضا
وقال دع يا فتى فهر فقلت له ... يا سعد أودع قلبي طرفها مرضا
فبت أشكو هواها وهو مرتفق ... يشوقه البرق نجديا إذا ومضا
تبدو لوامعه كالسيف مختضباً ... شباه بالدم أو كالعرق إن نبضا
ولم يطق ما أعانيه فغادرني ... بين النقا والمصلي عندها ومضى
وقرأت من خط تاج الإسلام اختلاف في نسبه وهو محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن الحسن بن منصور بن معاوية ابن محمد بن عمثان بن عتبة بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب، الأموي العبشمي، أوحد عصره وفريد دهره في معرفة اللغة والأنساب وغير ذلك، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل

وله تصانيف كثيرة منها كتاب تاريخ أبيورد ونسا، كتاب المختلف والمؤتلف، كتاب قبسة العجلان في نسب آل أبي سفيان، كتاب نهزة الحافظ، كتاب المجتبي من المجتمى في رجال، كتاب أبي عبد الرحمن النسائي في السنن المأثورة وشرح غريبة، كتاب ما اختلف وائتلف في أنساب العرب، كتاب طبقات العلم في كل فن، كتاب كبير في الأنساب، كتاب تعلة المشتاق إلى ساكني العراق، كتاب كوكب المتأمل يصف فيه الخيل، كتاب تعلة المقرور في وصف البرد والنيران وهمذان، كتاب الدرة الثمينة، كتاب صهلة القارح رد فيه على المعري - سقط الزند - . وله في اللغة مصنفات ما سبق إليها، وكان حسن السيرة جميل الأمر منظرانياً من الرجال، سمع الحديث فأكثر، ولقي عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي وأخذ عنه. وروى عنه جماعة غير محصورة.
وقال السمعاني: سمعت أبا الفتح محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم النطنزي يقول: سمعت الأبيوردي يقول: كنت ببغداد عشرين سنة حتى أمرن طبعي على العربية، وبعد أنا أرتضخ لكنة. قال: وقرأت بخط يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة: سئل الأديب الأبيوردي عن أحاديث الصفات فقال: نقر ونمر. وأنشد السمعاني للأبيوردي بإسناد:
جدي معاوية الأغر سمعت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وورثته شرفاً رفعت مناره ... فبنو أمية يفخرون به وبي
وأنشد له:
كفى أميمة غرب اللوم والعذل ... فليس عرضي حال بمبتذل
إن مسني العدم فاستبقي الحياء ولا ... تكلفني سؤال العصبة السفل
فشعر مثلي وخير القول أصدقه كان يفتر عن فخر وعن غزل
أما الهجاء فلا أرضي به خلقاً ... والمدح إن قلته فالمجد يغضب لي
وكيف أمدح أقواماً أوائلهم ... كانوا لأسلافي الماضين كالخول
وله أيضاً في مدح الأئمة الخمسة:
زاهر العود وطيبة ... ولياليه تشيبه
كل يوم من مكان ... يلبس الذل غريبه
وهو يسعى طالباً لل ... علم والهم يذيبه
وطوى برد صباه ... قبل أن يبلى قشيبه
وافتدى بالقوم يدعو ... ه هواه فيجيبه
خمسة لا يجد الحا ... سد فيهم ما يعيبه
منهم الجعفي لا يع ... رف في العلم ضريبه
وإذا اعتل حديث ... فالقشيري طبيبه
وأخونا ابن شعيب ... حازم الرأي صلبيه
وأبو داود موفو ... ر من الفضل نصيبه
وأبو عيسى يرى الجه ... مي منه ما يريبه
حاديهم ذو زجل يس ... تضحك الروض نحيبه
طار فيه البرق حتى ... خالط الماء لهيبه
وأنشد له:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه؟ ... وبت أريه الصبر كيف يكون؟
وله في الغزل:
أعصر الحمى عد فالمطايا مناخة ... منزلة جرداء ضاح مقيلها
لئن كانت الأيام فيك قصيرة ... فكم حنة لي بعدها أستطيلها؟
وله:
رمتني غداة الخيف ليلى بنظرة ... على خفر والعيس صعر خدودها
شكت سقماً ألحاظها وهي صحة ... فلست ترى إلا القلوب تعودها
وله:
صلي يا ابنة الأشراف أروع ماجداً ... بعيد مناط الهم جم المسالك
ولا تتركيه بين شاك وشاكر ... ومطر ومغتاب وباك وضاحك
فقد ذل حتى كاد ترحمه العدا ... وما الحب يا ظبياء إلا كذلك
ووجدت بعد ذلك رسالة - كتبها إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله يعتذر - تدل على صحة ما نسب إليه من الهرب من بغداد نسختها:

إحسان المواقف المقدسة النبوية الإمامية الطاهرة الزكية الممجدة العلية، زاد الله في إشراق أنوارها، وإعزاز أشياعها وأنصارها، وجعل أعداءها حصائد نقمها، ولا سلب أولياءها قلائد نعمها، شمل الأنام، وغمر الخاص والعام، وأحق خدمها من انتهج المذاهب الرشيدة في الولاء الناصع، والتزام الشاكلة الحميدة في الثناء المتتابع، ولا خفاء باعتلاق الخادم أهداب الإخلاص، واستيجابة مزايا الاجتباء والاختصاص، لما أسلفه من شوافع الخدم، ومهده من أواصر الذمم، متوافراً على دعاء يصدره من خلوص اليقين، ويعد المواصلة به من مفترضات الدين، ولئن صدت الموانع عن المثول السدة المنيفة، والاستدراء بالجناب الأكرم في الخدمة الشريفة، فهو في حالتي دنوه منها واقترابه، وتارتي انتزاحه عنها واغترابه، على السنن القاصد في المشايعة مقيم، ولما يشمله من نفحات الأيام الزاهرة مستديم، وقد علم الله سبحانه - ولا يستشهده كاذباً إلا من كان لرداء الغي جاذباً - أنه مطوي الجنان على الولاء منطلق اللسان بالشكر والدعاء، يتشح بهما الصبح كاشراً عن نابه، ويدرعهما الليل ناشراً سابغ جلبابه، وكان يغب خدمه اتقاء لقوم يبغونه الغوائل، وينصبون له الحبائل، وتدعوهم العقائد المدخولة إلى تنفيره، ويزنون عنه غير ما أجنه في ضميره، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذماماً ويزيدهم الاستدراج على الجرائم جرأة وإقداماً، حتى استشعر وجلاً، فاتخذ الليل جملاً، والتحف بناشئه الظلماء، والفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء، ولم يزل يستبطئ فيهم المقادير، والأيام ترمز بما يعقب التبديل والتغيير، فحاق بهم مكرهم، وانقضت شرتهم وشرهم:
عذرت الذرى لو خاطرتني قرومها ... فما بال أكاريه فدع القوائم؟
وعاود الخادم المثابرة على الممادح الإمامية مطنباً ومطيلاً إذ وجد إلى مطالعة مقار العز والعظمة ومواقف الإمامية المكرمة بها سبيلاً، وهذه فاتحة ما نظم، وانتهز فرصة الإمكان فيه واغتنم:
لك من غليل صبابتي ما أضمر ... وأسر من ألم الغرام وأظهر
وتذكري زمن العذيب يشفني ... والوجد ممنو به المتذكر
إذ لمتي سحماء مد على النقا ... أظلالها ورق الشباب الأخضر
والدتك النشأ الصغار وليس ما ... ألقاه فيك من الملاوم يصغر
هو ملعب شرفت بنا أرجاؤه ... إذ نحن في حلل الشبيبة نخطر
فبحر أنفاسي وصوب مدامعي ... أضحت معالمه تراح وتمطر
وأجيل في تلك المعهد ناظري ... فالقلب يعرفها وطرفي ينكر
وأرد عبرتي الجموح لأنها ... بمقيل سرك في الجوانح تخبر
فأبيت محتضر الجوى قلق الحشا ... وأظل اعذر في هواك وأعذر
غضبت قريش إذ ملكت مقادتي ... غضباً يكاد السم منه يقطر
وتعاودت عذلي فما أرعيتها ... سمعاً يقل به الكلام ويكثر
ولقد يهون على العشيرة أنني ... أشكو الغرام فيرقدون وأسهر
وبمهجتي هيفاء يرفع جيدها ... رشأ ويخفض ناظريها جؤذر
طرقت وأجفان الوشاة على الكرى ... تطوي وأردية الغياهب تنشر
والشهب في غسق الدجى كأسنة ... زرق يصافحها العجاج الأكدر
فنجاد سيفي مس ثنى وشاحها ... بمضاجع كرمت وعف المئزر
ثم افترقنا والرقيب يروع بي ... أسداً يودعه غزال أحور
والدر ينظم حين تضحك عقدة ... وإذا بكيت فمن جفوني ينثر
فوطئت خد الليل فوق مطهم ... تسمو لغايته الرياح فتحسر
طرب العنان كأنه في حضره ... نار بمعترك الجياد تسعر
والعز يلحفني وشائع برده ... حلق الدلاص وصارمي والأشقر
وعلام أدرع الهوان وموئلي ... خير الخلائق أحمد المستظهر؟
هو غرة الزمن الكثير شياته ... زهى السرير به وتاه المنبر
وله كما اطردت أنابيب القنا ... شرف وعرق بالنبوة يزخر

وعلا ترف على التقى وسماحة ... علق الرجاء بها وبأس يحذر
لا تنفع الصلوات من هو ساحب ... ذيل الضلال وعن هواه أزور
ولو استميلت عنه هامة مارق ... لدعا صوارمه إليها المغفر
والله يحرس بابن عم رسوله ... دين الهدى وبه يعان وينصر
فعفاته حيث الغنى يسع المنى ... وعداته حيث القنا يتكسر
وبسيبه وبسيفه أعمارهم ... في كل معضلة تطول وتقصر
وكأنه المنصور في عزماته ... ومحمد في المكرمات وجعفر
وإذا معد حصلت أنسابها ... فهم الذرا والجوهر المتخير
ولهم وقائع في العدا مذكورة ... ترى الذئاب حديثها والأنسر
والسمر في اللبات راعفة دماً ... والبيض يخضبها النجيع الأحمر
والقرن يركب ردعه سهل الخطا ... والأعوجية بالجماجم تعثر
ودجا النهار من العجاج وأشرقت ... فيه الصوارم فهو ليل مقمر
يا بن الشفيع إلى الحيا ما لامرئ ... طامنت نخوته، المحل الأكبر
أنا عبد نعمتك التي لا تجتدي ... معها السحائب فهي منها أغزر
والنجح يضمنها، لمن يرتادها ... منا الطلاقة والجبين الأزهر
ولقد عداني عن جنابك حادث ... أنحى علي به الزمان الأغبر
وإن اقتربت أو اغتربت فإنني ... لهج بشكر عوارف لا تكفر
وعلاك لي في ظلها ما أبتغى ... منها ومن كلمي لها ما يذخر
يسدي مديحك هاجسي وينيره ... فكري وحظي في امتداحك أوفر
بغداد أيتها المطي فواصلي ... عنقاً تئن له القلاص الضمر
إني وحق المستجن بطيبة ... كلف بها إلى ذراها أصور
وكأنني مما تسوله المنى ... والدار نازحة إليها أنظر
أرض تجر بها الخلافة ذيلها ... وبها الجباة من الملوك تعفر
فكأنها جلبت علينا جنة ... وكأن دجلة فاض فيها، الكوثر
وهواؤها أرج النسيم وتربها ... مسك تهاداه الغدائر أذفر
يقوي الضعيف بها ويأمن خائف ... قلقت وسادته ويثري المقتر
فتركتها إذ صدعني معشري ... وبغى علي من الأراذل معشر
من كل ملتحف بما يصم الفتى ... يؤذي ويظلم أو يجور ويغدر
فنفضت منه يدي مخافة كيده ... إن الكريم على الأذى لا يصبر
والأبيض المأثور يخطم بالردى ... من لا ينهنهه القطيع الأسمر
فارفض شملهم وكم من مورد ... للظالمين وليس عنه مصدر
وآبى لشعري أن أدنسه بهم ... حسبي وحسب ذوي الخنا أن يحقروا
قابلت سيئ ما أتوا بجميل ما ... آتى فإني بالمكارم أجدر
وإلى أمير المؤمنين تطلعت ... مدح كما ابتسم الرياض تحبر
ويقيم مائدهن ليل مظلم ... ويضم شاردهن صبح مسفر
فبمثل طاعته الهداية تبتغي ... وبفضل نائله الخصاصة تجبر
وله:
ألا ليت شعري هل تخب مطيتي ... بحيث الكثيب الفرد والأجرع السهل
ألذ به مس الثرى ويروقني ... حواشي ربا يغدو أزاهيرها الوبل
ولولا دواعي حب رملة لم أقل ... إذا زرت مغناها به سقى الرمل
فيا حبذا أثل العقيق ومن به ... وإن رحلت عنه فلا حبذا الأثل
ضعيفة رجع القول من ترف الصبا ... لها نظرة تنسيك ما يفعل النصل
وقد بعثت سراً إلى رسولها ... لأهجرها والهجر شيمة من يسلو
تخاف على الحي إذ نذروا دمي ... سأرخصه فيها على أنه يغلو
أيمنعي خوف الردى أن أزورها ... وأروح من صبري على هجرها القتل؟

إذا رضيت عني فلا بات ليلة ... على غضب إلا العشيرة والأهل
وله:
خطوب للقلوب بها وجيب ... تكاد لها مفارقنا تشيب
نرى الأقدار جارية بأمر ... يريب ذوي العقول بما يريب
فتنجح في مطالبها كلاب ... وأسد الغاب ضارية تخيب
وتقسم هذه الأرزاق فينا ... فما ندري أتخطى أم تصيب؟
ونخضع راغمين لها اضطراراً ... وكيف يلاطم الإشفي لبيب؟
وله:
وغادة لو رأتها الشمس ما طلعت ... والرئم أغضى وغصن البان لم يمس
عانقتها برداء الليل مشتملاً ... حتى انتبهت ببرد الحلى في الغلس
فظلت أحميه خوفاً أن ينبهها ... وأتقي أن أذيب العقد بالنفس
وله:
ومتشح باللؤم جاذبني العلا ... فقدمه يسر وأخرني عسر
وطوقت أعناق المقادير ما أتى ... به الدهر حتى ذل للعجز الصدر
ولو نيلت الأرزاق بالفضل والحجى ... لما كان يرجو أن يثوب له وفر
فيا نفس صبراً إن للهم فرجة ... فمالك إلا العز عندي أو القبر
ولي حسب يستوعب الأرض ذكره ... على العدم والأحساب يدفنها الفقر
وله أيضاً وهو من جيد شعره:
وعليلة الألحاظ ترقد عن ... صب يصافح جفنه الأرق
وفؤاده كسوارها حرج ... ووساده كوشاحها قلق
عانقتها والشهب ناعسة ... والأفق بالظلماء منتطق
ولثمتها والليل من قصر ... قد كاد يلثم فجره الشفق
بمعانق ألف العفاف به ... كرم بأذيال التقى علق
ثم افترقنا حن فاجأنا ... صبح تقاسم ضوءه الحدق
وبنحرها من أدمعي بلل ... وبراحتي من نشرها عبق
وله:
بيضاء إن نطقت في الحي أو نظرت ... تقاسم السحر أسماع وأبصار
والركب يسرون والظلماء عاكفة ... كأنهم في ضمير القلب أسرار
وله:
وقصائد مثل الرياض أضعتها ... في باخل ضاعت به الأحساب
فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ال ... ممدوح قالوا ساخر كذاب
وله:
ما للجبان ألان الله ساحته ... ظن الشجاعة مرقاة إلى الأجل
وكم حياة جبتها النفس من تلف ... ورب أمن حواه القلب من وجل
فقت الثناء أبلغ مداك به ... حتى توهمت أن العجز من قبلي
والعي أن يصف الورقاء مادحها ... بالطوق أو يمدح الأدماء بالكمل
وله:
وقد سئمت مقامي بين شرذمة ... إذا نظرت إليهم قطبت هممي
أراذل ملكوا الدنيا وأوجههم ... لم يكشف الفقر عنها بهجة النعم
وله:
ألام على نجد وأبكي صبابة ... رويدك يا دمعي ويا عاذلي رفقا
فلي بالحمى من لا أطيق فراقه ... به يسعد الواشي ولكنني أشقى
وأكرم من جيرانه كل طارئ ... يود وداداً أنه من دمي يسقى
إذا لم يدع مني نواه وحبه ... سوى رمق يا أهل نجد فكم يبقى؟
ولولا الهوى مالان للدهر جانبي ... ولا رضيت مني قريش بما ألقى
قرأت بخط محمد بن عبيد الله الشاعر المعروف بابن التعاويذي قال: حدثني الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب قال: حدثني الشيخ أبو منصور بن الجواليقي قال: كنت أقرأ على أبي زكريا شعر أبي دهبل الجمحي حتى وصلت إلى هذا البيت:
يجول وشاحاها ويغرب حجلها ... ويشبع منها وقف عاج ودملج

قال: فقلت له: وصفها بقوله يجول وشاحها بأنها هضيمة الحشا، وبقوله: ويشبع منها وقف عاج ودملج: أنها عبلة الزند والعضد، فما معنى قوله ويغرب حجلها؟ فقال لا أدري، وكان الأبيوردي حاضراً فلما قمت من عنده قال لي الأبيوردي: أتحب أن تعرف معنى هذا البيت؟ قلت نعم. فقال اتبعني، فمضيت معه إلى بيته فأجلسي وأخرج سلة فيها جزاز فجعل يطوفها إلى أن أخرج ورقة فنظر فيها وقال لي: إنه مدح امرأة من آل أبي سفيان، هم يوصفون بأنهم سته حمش. والحمش: رقة السافين. ومن افتخاراته قوله:
يا من يساجلني وليس بمدرك ... شأوى وأين له جلالة منصبي؟
لا تتبعن فدون ما أملته ... خرط القتادة وامتطاء الكوكب
المجد يعلم أينا خير أبا؟ ... فاسأله تعلم أي ذي حسب أبي
جدي معاوية الأغر سمت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وورثته شرفاً رفعت مناره ... فبنوا أمية يفخرون به وبي
قال عبد الله بن علي التميمي: ولقد حصل للأبيوردي بعد ما تراه من شكوى الزمان في أشعاره مما انتجعه بالشعر من ملوك خراسان ووزرائها وخلفاء العراق وأمرائها ما يحصل للمتنبئ في عصره، ولابن هانئ في مصره، فمن ذلك ما حدثنيه القاضي أبو سعد محمد بن عبد الملك بن الحسن النديم: أن أفضل الدولة الأبيوردي لما قدم الحلة على سيف الدولة صدقة ممتدحاً له - ولم يكن قبلها اجتمع به قط - خرج سيف الدولة لتلقيه قال: وكنت فيمن خرج فشاهدت الأبيوردي راكباً في جماعة كثيرة من أتباعه، منهم من المماليك الترك ثلاثون غلاماً ووراءه سيف مرفوع وبين يديه ثمان جنائب بالمراكب والسرفسارات الذهب، وعددنا ثقله فكان على أحد وعشرين بغلاً، وكان مهيباً محترماً جليلاً معظماً لا يخاطب إلا بمولانا، فرحب به سيف الدولة، وأظهر له من البر والإكرام ما لم يعهد مثله في تلقي أحد ممن كان يتلقاه، وأمر بإنزاله وإكرامه والتوفر على القيام بمهامه، وحمل إليه خمسمائة دينار وثلاثة حصن وثلاثة أعبد، وكان الأبيوردي قد عزم على إنشاد سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها:
وفي أي عطفيك التفت تعطفت ... عليك به الشمس المنيرة والبدر
في يوم عينه. ولم يكن سيف الدولة أعد له بحسب ما كان في نفسه أن يلقاه به ويجيزه على شعره، واعتذر إليه ووعده يوماً غير ذلك اليوم ليعد ما يليق بمثله إجازته مما يحسن به بين الناس ذكره، ويبقى على ممر الأيام أثره، فاعتقد أفضل الدولة أن سيف الدولة قد دافعه عن سماعه منه استكباراً لما يريد أن يصله به ثانياً، فأمر الأبيوردي أصحابه أن يعبروا ثقله الفرات متفرقاً في دفعات، وخرج من غير أن يعلم به أحد سوى ولد أبي طالب بن حبش فإنه سمعه ينشد على شاطئ الفرات حين عبوره:
أبابل ولا واديك بالخبر مفعم ... لراج ولا ناديك بالرفد آهل
لئن ضقت عني فالبلاد فسيحة ... وحسبك عاراً أنني عنك راحل
فإن كنت بالسحر الحرام مدلة ... فعندي من السحر الحلال دلائل
قواف تعير الأعين النجل سحرها ... وكل مكان خيمت فيه بابل
فبادر ولد أبي طالب إلى سيف الدولة فقال له: رأيت على شاطئ الفرات فارساً يريد العبور إلى الشرق وهو ينشد هذه الأبيات. فقال سيف الدولة: وأبيك ما هو إلا الأبيوردي، فركب لوقته في قل من عسكره، فلحقه فاعتذر، وسأله الرجوع وعرفه عذره في امتناعه من سماع شعره، وأمر بإنزاله في داره معه، وحمل إليه ألف دينار، ومن الخيل والثياب ما يزيد على ذلك قيمة.
قال عبيد الله التيمي: أنشدني أبو إسحاق يحيى بن إسماعيل المنشئ الطغرائي قال: سمعت والدي ينشد لنفسه مرتية للأبيوردي:
إن ساغ بعدك لي ماء على ظمإ ... فلا تجرعت غير الصاب والصبر
أو إن نظرت من الدنيا إلى حسن ... مذ غبت عني فلا متعت بالنظر
صحبتني والشباب الغض ثم مضى ... كما مضيت فما في العيش من وطر
هبني بلغت من الأعمار أطولها ... أو انتهيت إلى آمالي الكبر
فكيف لي بشباب لا ارتجاع له ... أم أين أنت فما لي منك من خبر؟
سبقتماني ولو خيرت بعد كما ... لكنت أول لحاق على الأثر


محمد بن أحمد بن طاهر بن حمدأبو منصور الخازن لدار الكتب القديمة، من ساكني درب منصور بالكرخ، مات في ثالث عشر شعبان سنة عشرة وخمسمائة ذكر ذلك ابن الجوزي وقال: كان أديباً فاضلاً نحوياً، وخطه موجود بأيدي الناس كثير يرغب فيه ويعتمد غالباً عليه، وكان أبو السعادات بن الشجري النحوي والنقيب حيدرة كثيراً ما يستكتبانه، سمع علي بن المحسن التنوخي، وابن غيلان وغيرها. وكان علي فقيها على مذهب الشيعة، ووجدت سماعه على كتاب بخطه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
وحدث غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابئ في كتاب الهفوات قال: كان بدار العلم التي وقفها سابور بن أزدشير الوزير خازن يعرف بأبي منصور، واتفق بعد ذلك بسنين كثيرة من وفاة سابور أن آلت مراعاة الدار إلى المرتضى أبي القاسم علي بن الحسن الموسوي نقيب الطالبيين، فرتب معه آخر يعرف بأبي عبد الله بن حمد مشرفاً عليه وكان داهية، فصمد لأبي منصور كيداً ومكراً فصار يتلهى به دائماً. فمن ذلك أنه قال له يوماً: قد هلكت الكتب وذهب معظمها. فقال له وانزعج: بأي شيء؟ قال: بالبراغيث وعيثهم فيها وعبثهم بها. قال: فما تفعل في ذلك؟ قال: تقصد الأجل المرتضي وتطالعه بالحال وتسأله إخراج شيء من دوائهم المعد عنده لهم لننشره بين الورق ويؤمن الضرر، فمضى إلى المرتضى وخدمه. وقال له بسكون ووقار، ومن طريق النصح والاحتياط: يتقدم سيدنا إلى الخازن بإخراج شيء من دواء البراغيث، فقد أشرفت الكتب على الهلاك بهم، لنتدارك أمرهم بتعجيل إخراج الدواء المانع لهم المبعد لضررهم. فقال المرتضي: البراغيث البراغيث مكرراً، لعن الله ابن حمد، فأمره كله طنز وهزل، قم أيها الشيخ مصاحباً ولا تسمع لابن حمد نصيحة ولا قولاً.
قال المؤلف: هكذا وجدت هذا الخبر، وقد وافق رواية ابن الجوزي في كون ابن حمد خازن الكتب بين السورين وفي مقاربة العصر وخالفه في الكنية، ولا أدري هل هو هذا أو غيره؟ أو قد غلط أحدهما في الكنية والله أعلم. ثم وقفت على المذيل الذي للسمعاني بخطه على حاشيه ملحقة أن محمد بن عطاف الموصلي سأل أبا منصور بن حمد الخازن عن مولده فقال: سنة ثماني عشرة وأربعمائة. قال: وسأله فقال: سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهذا يدل على أن هذه الحكاية ليست عنه، لأن المرتضى مات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فيكون حينئذ قد كان ابن حمد ابن ثماني عشرة سنة، فيستحيل أن تكون الحكاية عنه وعساها عن أبيه، عز وجل أعلم بالصواب.
محمد بن أحمد بن جرامرد الشيرازيأبو بكر القطان النحوي، شيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد الخشاب ومخرجه ومؤدبه وعنه أخذ النحو، قرأ ابن جرامرد على علي بن فضال المجاشعي القيرواني وعلى غيره، وسمع الحديث ورواه، ومات بعد سنة عشرة وخمسمائة. قال الشيخ أبو محمد بن الخشاب فيما قرأته بخطه: كان في أبي علي الحسن بن علي المحولي شيخنا سلامة صدر. ولقد كان شيخنا أبو بكر محمد بن جرامرد الشيرازي المعروف بالقطان - رحمه الله - يولع به وبغيره كثيراً، فكان يقول معرضاً به وبغيره ممن هو أعلى منه منزلة وأرفع ذكراً وأبعد صيتاً، فكان من قوله ما عبر عن البلادة والجمود بأحسن من قولهم هو ثقة، وله أعني الشيخ أبا بكر مع هذا المحولي نوادر أقاصيص لا أطول بذكرها.
محمد بن أحمد بن حمزة بن جياأبو الفرج من أهل الحلة المزيدية يلقب شرف الكتاب، كان نحوياً لغوياً فطناً شاعراً مترسلاً، شعره ورسائله مدونة. قدم بغداد فقرأ على النقيب أبي السعادات هبة الله بن الشجري النحوي وأخذ عنه، ثم أخذ بعده عن أبي محمد بن الخشاب، وسمع الحديث على القاضي أبي جعفر عبد الواحد بن الثقفي، وأصله ومولده من مطيراباذ وصحب ابن هبيرة الوزير. وله رسائل مدونة عملها أجوبة لرسائل أبي محمد القاسم بن الحريري.
حدثني أبو علي القيلوي قال: أنا رأيته. ومات في سنة تسع وسبعين وخمسمائة وقد نيف على الثمانين. أنشدني ابن الدبيثي قال: أنشدني أبو الثناء محمود بن عبد الله بن المفرج الحلي قال: أنشدني شرف الكتاب أبو الفرج محمد ابن أحمد بن جيا لنفسه:
حتام أجرى في ميادين الهوى ... لا سابق أبداً ولا مسبوق
ما هزني طرب إلى أرض الحمى ... إلا تعرض أجرع وعقيق

شوق بأطراف البلاد مفرق ... نحوي، شتيت الشمل منه فريق
ومدامع كفلت بعارض مزنة ... لمعت لها بين الضلوع بروق
فكأن جفني بالدموع موكل ... وكأن قلبي للجوى مخلوق
قدم الزمان، فصار شوقي عادة ... فليتركن دلاله المعشوق
قد كان في الهجران ما يزع الهوى ... لو يستفيق من الغرام مشوق
لكنني آبى لعهدي أن يرى ... بعد الصفاء وورده مطروق
إن عادت الأيام لي بطويلع ... أو ضمني والنازحين طريق
لأنبهن على الغرام بزفرتي ... ولتطربن بما أبث النوق
حدثني أبو علة القيلوي قال: سمعت شرف الكتاب يحدث أنه كان يوماً في مجلس الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فجاءه فراش من دار الخلافة وحدثه بمحضري شيئاً كان يحب كتمانه من كل أحد. قال: واتفق خروج الفراش وقد اجتمع عنده الناس فشغل بهم عني، وقمت أنا وخرجت ومضيت فما وصلت باب العامة حتى جاءني من ردني إلى حضرته، فلما وقفت بين يديه قلت: أحسن الله إلى مولانا الوزير وأدام أيامه. بيت الحماسة؟ فقال نعم، امض بارك الله فيك، كذا الظن بمثلك. قال وخرجت من عنده ولم يفهم أحد شيئاً مما جرى بيننا، وإنما أردت قول شاعر الحماسة:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها
ومن شعره:
أما والعيون النجل تصمي نبالها ... ولمع الثنايا كالبروق تخالها
ومنعطف الوادي لأرج نشره ... وقد زار في جنح الظلام خيالها
وقد كان في الهجران ما يزع الهوى ... ولكن شديد في الطباع انتقالها
ومنها:
أيا ابنالألى جادوا وقد بخل الحيا ... وقادوا المذاكي والدماء نعالها
ذد الدهر عني من رضاك بعزمة ... معودة ألا يفل رعالها
ووجدت بخط بعض بني معية العلويين الحسينين: أنشدني الشيخ أبو الفرج ابن جيا الكاتب لنفسه:
قل لحادي عشر البروج أبا العا ... شر منها، رب القرون الثاني
يا ابن شكران ضلة لزمان ... صرت فيه تعد في الأعيان
ليس طبي ذم الزمان ولكن ... أنت أغريتني بذم الزمان
ومن كلامه في جواب رسالة لابن الحريري كتبها إلى سديد الدولة بن الأنباري يشكره: سيدنا الشيخ الإمام في توالي مباره، والقصور مني عن تأدية حقه وإيفائة، كمن يقرض غريماً مع عسرته، ويتكثر بمن أفراده الزمان عن أهله وأسرته، فهلا اقتصر بي من دينه على ما تقادم عهده، ولم يشفعه بطول أضعف قوى شكري وكان مستحكماً عقدة:
أنت امرؤ أو ليتني منناً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك بعد اليوم معذرتي ... لاقتك بالتصريح منكشفا
لا تسدين إلى عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
فأما ما يعزوه إلي من البراعة وحسن الصناعة، ويقرره من إحسان كان الطي أولى به من الإذاعة، فتلك حال إن ثبت فيها الدعاوى، واتفق على صحة نقلها المخالف والموالي، فإنما جريت إليها بجيادهن التوالي لسوابقه، الصوادي إلى مناهل حقائقه، وأين الرذايا بعد ذلك من السابقات؟. والمقصرة من اللاحقات؟ والمقرفة من كريمات المناسب؟ والمكدية مطالبها من نجيحات المكاسب:
سبقت إلى الآداب أبناء دهرنا ... فبؤت بعادي على الدهر أقدم
وليست كما أبقت ضبيعة اضخم ... وليست كما سادت قبائل جرهم
ولكن طوداً لم يحلحل رسيه ... وفارعة قعساء لم تتسنم
إذا ما بناء شاده الفضل والتقى ... تهدمت الدنيا ولم يتهدم
فالله تعالى يحرس عليه ما خوله من هذه الخصائص النفسية والمنح الشريفة، ولا تعدم القلوب الراحة بمحاضرته، كما لم يخله من النصر إذا أشرع رماح الجدل يوم مناصرته بمنه وجوده. فأما اعتذاره عن إنفاذ ذلك التأليف، وإنكاره للفراغ منه بعد التعريف، فما يخفى ما وراء ذلك من المغالطة، وما يقصده في كل وقت من قطع حبال المباسطة، ولولا أن المعاتبة إذا حقت فلما يسلم معها وداد، ويجود في مطاويها من الصفاء عهاد:

لأرسلتها مقطوعة العقل تغتدي ... شوارد قد بالغن في الجولان
قوارص تبقى ما رأى الشمس ناظر ... وما سمعت من سامع أذنان
لكن المقصود ما عاد بإجمام خاطره وصفاء مشاربه، وألا أكون عليه عوناً للدهر ونوائبه، ولا سيما وقد رأيت الصبر على فعاله أيسر من الصبر على ترك وصاله، فأما الملحة فإنني وجدتها عند الوصول كما سماها، غريبة في لفظها ومعناها، عارية من لبسة التكلف بعيدة عن التصنع تقتاد القلوب بأزمتها، وما كان أولاه لو قرنها إلى ذلك العقد المكنون والدر المصون، فكانت النعمى تكمل، والمسرة تشمل، وهأنا أرتقب لذلك السمط أن تؤلف فرائده، وتجمع بدائده، وأنتظر لوصوله يوماً تقل همومه وتكثر حواسده، فما ذاك بمتعذر عليه متى رامه، ولا بمعوزه إن سرح سوام الفكر فيه وشامه، ولرأيه في ذلك ومعرفته، وإنجاز الوعد جرياً على كريم عادته، مزيد من علاء لا يطرأ الأفول على أهلته، إن شاء الله تعالى وحده.
محمد بن أحمدالزاهريبن سليمان الزاهري أبو عبد الله الأندلسي، رجل فاضل وأديب كامل متقن، سمع الحديث الكثير ببغداد من ابن كليب وابن بوش وغيرهما فأكثر، وكتب بخطه الكثير وصنف، ولقيته ببغداد وكان لي صديقاً معاشراً حسن الصحبة عذري القلب جيد الشعر، أنشدني كثيراً من شعره لم أثبته، ثم فارق بغداد وحصل في بلاد الجبال، واستوطن بروجرد وتأهل بها وولد له، وصنف بها تصانيف في الأدب كثيرة منها شرح الإيضاح.
محمد بن أحمدبن بريكبن محمد بن حمزة بن بريك الأنصاري الدسكري المعروف بابن البرفطي، والدسكرة: قرية من قرى نهر الملك، سكن بها أجداده وقرف وغلظ اسمه بالنسبة إلى برفطا، وهي أيضاً قرية من قرى نهر الملك فغلب عليه هذا الاسم. ولد ببغداد في شهر رمضان من شهور سنة ست وستين وخمسمائة، ومات رحمه الله في أول رجب سنة خمس وعشرين وستمائة، وخلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن البواب لم نجتمع في زماننا عند كاتب، وكان يغالي في شرائها. وله شعر من جملته:
أبدأ أميل إليك ميل تذلل ... وتصد صد تجنب ودلال
حتف المتيم منط يوم قطيعة ... وحياته في الحب يوم وصال
قد كدت أغرق في بحار مدامعي ... لولا التمسك فيك بالآمال
عذبت مراشفه وصال بقده ... فحمى جني المعسول بالعسال
عهدي وظل الوصل غير مقلص ... عنا وعمر المطل غير مطال
وكأنما لبس الزمان سناء بد ... ر الدين ذي الإنعام والإفضال
خضر الجناب فإن دجت في أزمة ... سوء الخطوب فأبيض الأفعال
منح ابتداء رافعاً خبر الندى ... وكفى الوجوه مئونة التسآل
كثرت صنائعه فقل نظيره ... وكذا البدور قليلة الأمثال
وحوت أزمة دجلة أعماله ... وكذا الجنان تجاز بالأعمال
حاط العلا فرماحه أقلامه ... حيث المداد لها رؤوس نصال
في ليل ذاك النقس تطرقنا المنى ... فكأنه في الهدى طيف خيال
يحكى بياض الطرس تحت سواده ... أسرار صبح في صدور ليالي
وابن البرفطي هذا أوحد عصرنا في حسن الخط والمشار إليه في التحرير، قد تخرج به خلق كثير وسافر إلى دمشق، وكتب عليه كتابها وأقام بحلب مدة مديدة ثم عاد إلى بغداد، وهو صديقنا أنشدني لنفسه أشعار منها ما أثبته. وحفزه السفر في يوم الخميس ثامن المحرم سنة ثلاث عشرة وستمائة إلى تستر صحبة الأمير ابن أبي محمد الحسن، وأبي عبد الله الحسين ابني الأمير الملك المعظم أبي الحسن علي بن سيدنا ومولانا اللإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين لما ولاهما أرض خوزستان بعد موت أبيهما أبي الحسن علي، تقدم إلى ابن البرفطي بالخروج في خدمتهما والكون في جملتهما ليكتبا عليه ويصلحا خطهما به ويكون معلماً لهما، وهو دمث الأخلاق حسن العشرة، لين الكلام قصير من الرجال فيه دهاء، وكان أول أمره معلماً، فلما جاد خطه صار محرراً، وكان يبالغ في أثمان خطوط ابن البواب فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره. وجدت عنده أكثر من عشرين قطعة بخطه أرانيها.

وحدثني قال: بلغني عن رجل معلم في بعض محال بغداد أن عنده جزازاً كثيرة ورثه عن أبيه، فخيل لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة، فمضيت إليه وقلت له: أحب أن تريني ما خلف لك والدك عسى أنأشتري منه شيئاً، فصعد بي إلى غرفة جلست أفتش حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب قلم الرقاع أرانيها أيضاً، فضممت إليها شيئاً آخر لا حاجة بي إليه وقلت له: بكم هذا؟ فقال لي يا سيدي: ما صلح لك في هذا كله شيء آخر؟ فقلت له: أنا الساعة مستعجل، ولعلي أعود إليك مرة أخرى. فقال: هذا الذي اخترته لا قيمة له فخذه هبة مني. فقلت لا أفعل وأعطيته قطعة قراضة مقدارها نصف دانق، فاستكثرها وقال: يا سيدي ما أخذت شيئاً يساوي هذا المقدار فخذ شيئاً آخر، فقلت: لا حاجة لي في شيء آخر، ثم نزلت من غرفته فاستحييت وقلت هذا مخادعة، ولا شك أنه قد باعني ما جهله، ووالله لا جعلت حق خط ابن البواب أن يشترى بالمخادعة، فعدت إليه وقلت له: يا أخي هذه الورقة بخط ابن البواب. فقال وإذا كانت بخط ابن البواب أي شيء أصنع؟ قلت له قيمتها ثلاثة دنانير إمامية. فقال يا سيدي لا تسخر بي، ولعلك قد عزمت على ردهها فخذها وحط الذهب. فقلت: بل أحضر ميزاناً للذهب فأحضرها، فوزنت ثلاثة دنانير وقلت له: بعتني هذا بهذا؟ فقال بعتك، فأخذتها وانصرفت.
محمد بن إدريس الشافعي الإمامهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد ابن أدد.
وهاشم هذا الذي في نشب الشافعي ليس هو هاشماً جد النبي صلى الله عليه وسلم، ذاك هاشم بن عبد مناف، فهاشم هذا هو ابن أخي ذاك. ولد فيما حكاه الشافعي عن نفسه أنه قال: ولدت بغزة سنة خمسين ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين قال: وكانت أمي من الأزد، وغزة من بيت المقدس على ثلاث مراحل. وفي رواية أخرى عن الشافعي أنه قال: ولدت بعسقلان، وعسقلان من غزة على ثلاثة فراسخ وكلاهما في فلسطين.
وكان مولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة، ولا اختلاف في أن وفاة أبي حنيفة كانت سنة خمسين ومائة. ومات الشافعي - رحمه الله عليه - في رجب سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة، وكان قدومه مصر سنة ثمان وتسعين ومائة.
وقد روى الزعفراني عن أبي عثمان بن الشافعي: أن الشافعي مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة. وفي رواية أن الشافعي قال: ولدت باليمن فخافت أمي على الضيعة، فحملتني إلى مكة وأنا يومئذ ابن عشر أو شبيه بذلك، وتأول بعضهم قوله باليمن بأرض أهلها وسكانها قبائل اليمن. وبلاد غزة وعسقلان كلها من قبائل اليمن وبطونها. قلت وهذا عندي تأويل حسن إن صحت الرواية، وإلا فلا شك أنه ولد بغزة وانتقل إلى عسقلان إلى أن ترعرع. وأما طلبه للعلم، فحدث الزبير بن بكار عن عمه مصعب بن عبد الله بن الزبير: أنه خرج إلى اليمن فلقي محمد بن إدريس الشافعي وهو مستحض في طلب الشعر والنحو والغريب. قال فقلت له: إلى كم هذا؟ لو طلبت الحديث والفقه كان أمثل بك، وانصرفت به معي إلى المدينة فذهبت به إلى مالك بن أنس وأوصيته به. قال: وكان فتى حلواً. قال فما ترك عند مالك بن أنس إلا الأقل، وعند شيخ من مشايخ المدينة إلا جمعه، ثم شخص إلى العراق فانقطع إلى محمد بن الحسن فحمل عنه ثم جاء إلى المدينة بعد سنين. قال: فخرجت به إلى مكة فكلمت له ابن داود وعرفته حاله الذي صار إليه، فأمر له بعشره آلاف درهم.

حدث اللآبري، وهو أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم اللآبري السجزي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن المولد الرقي يحكي عن زكريا بن يحيى البصري، ويحيى بن زكريا بن جبرية النيسابوري كلاهما عن الربيع بن سليمان، وبعضهم يزيد على بعض في الحكاية. قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: كنت أنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها أنا، ولقد كنت - ويكتبون أئمتهم فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم - قد حفظت جميع ما أملي، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً. قال: ثم لما خرجت من الكتاب كنت أتلقط الخزف والدفوف وكرب النخل أكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث وأجئ إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور فأكتب فيها حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً وخزفاً وكرباً مملوءة حديثاً، ثم إني خرجت عن مكة فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها وكانت أفصح العرب. قال: فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله: عز علي ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: فمن بقي نقصد؟ فقال لي: مالك بن أنس سيد المسلمين يومئذ. قال: فوقع في قلبي فعمدت إلى الموطإ فاستعرته من رجل بمكة فحفظته في تسع ليال ظاهراً قال: ثم دخلت إلى والي مكة وأخذت كتابه إلى والي المدينة، وإلى مالك بن أنس قال: فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأ قال يا فتى إن مشى من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه فقلت: - أصلح الله الأمير - إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. قال: هيهات، ليت أني إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا. قال فواعدته العصر وركبنا جميعاً، فوالله لكان كما قال: لقد أصابنا من تراب العقيق. قال: فتقدم رجل فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب. قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف، فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. قال فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية فجلس وهو متطلس فرفع إليه الوالي الكتاب، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجل من أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع، رمى بالكتاب من يده ثم قال: سبحان الله! أوصار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟ قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه فتقدمت إليه وقلت: - أصلحك الله - إني رجل مطلي ومن حالي وقصتي، فلما أن سمع كلامي نظر إلى ساعة وكانت لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد. فقال لي يا محمد. اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن ثم قال: نعم كرامة، إذا كان غداً تجئ ويجئ من يقرأ لك. قال: فقلت أنا أقوم بالقراءة. قال: فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأه ظاهراً والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: يا فتى زد حتى قرأته في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة حتى توفى مالك بن أنس، ثم خرجت إلى اليمن فارتفع لي بها الشأن، وكان بها وال من قبل الرشيد وكان ظلوماً غشوماً، وكنت ربما آخذ على يديه وأمنعه من الظلم. قال: وكان باليمن تسعة من العلوية قد تحركوا وإني أخاف أن يخرجوا، وإن ههنا رجلاً من ولد شافع المطلب لا أمر لي معه ولا نهي. قال: فكتب إليه هارون: أن احمل هؤلاء واحمل الشافعي معهم فقرنت معهم. قال: فلما قدمنا على هارون الرشيد أدخلنا عليه وعنده محمد بن الحسن. قال: فدعا هارون بالنطع والسيف وضرب رقاب العلوية، ثم التفت محمد بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين، هذا المطلي، لا يغلبنك بفصاحته فإنه رجل لسن. فقلت مهلاً يا أمير المؤمنين فإنك الداعي وأنا المدعو، وأنت القادر على ما تريد مني، ولست القادر على ما أريد منك، يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين: أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده

أيهما أحب إلي؟ قال: الذي يراك أخاه. قال: قلت فذاك أنت يا أمير المؤمنين. قال فقال لي: كيف ذاك؟ فقلت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس ترونا إخوتكم وهم يرونا عبيدهم. قال: فسري ما كان به فاستوى جالساً فقال: يا ابن إدريس: كيف علمك بالقرآن؟ قلت عن أي علومه تسألني؟ عن حفظه فقد حفظته ووعيته بين جنبي وعرفت وقفه وابتداءه، وناسخه ومنسوخه وليليه ونهاريه ووحشيه وأنسيه، وما خوطب به العام يراد به الخاص، وما خوطب به الخاص يراد به العام. أحب إلي؟ قال: الذي يراك أخاه. قال: قلت فذاك أنت يا أمير المؤمنين. قال فقال لي: كيف ذاك؟ فقلت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس ترونا إخوتكم وهم يرونا عبيدهم. قال: فسري ما كان به فاستوى جالساً فقال: يا ابن إدريس: كيف علمك بالقرآن؟ قلت عن أي علومه تسألني؟ عن حفظه فقد حفظته ووعيته بين جنبي وعرفت وقفه وابتداءه، وناسخه ومنسوخه وليليه ونهاريه ووحشيه وأنسيه، وما خوطب به العام يراد به الخاص، وما خوطب به الخاص يراد به العام.
فقال لي: والله يا بن إدريس لقد ادعيت علما فكيف علمك بالنجوم؟ فقلت: إني لأعرف منها البري من البحري، والسهلي والجبلي والفيلق والمصبح وما تجب معرفته. قال: فكيف عمك بأنساب العرب. قال: فقلت إني لأعرف أنساب اللئام وأنساب الكرام ونسبي ونسب أمير المؤمنين. قال: لقد ادعيت علماً فهل من موعظة تعظ بها أمير المؤمنين؟ قال: فذكرت موعظة لطاوس اليماني فوعظته بها، فبكى وأمر لي بخمسين ألفاً وحملت على فرس وركبت من بين يديه وخرجت، فما وصلت الباب حتى فرقت الخمسين ألفاً على حجاب أمير المؤمنين وبوابيه. قال: فلحقني هرثمة وكان صاحب هارون فقال: اقبل هذه مني. قال: فقلت له إني لا آخذ العطية ممن هو دوني، وإنما آخذها ممن هو فوقي. قال: فوجد في نفسه. قال: وخرجت كما أنا حتى جئت منزلي فوجهت إلى كاتب محمد ابن الحسن بمائة دينار وقلت: اجمع الوراقين الليلة على كتب محمد بن الحسن وانسخها لي ووجه بها إلي. قال: فكتبت لي ووجه بها إلي.

قال: اجتمعنا أنا ومحمد بن الحسن على باب هارون وكان يجلس فيه القضاة والأشراف ووجوه الناس إلى أن يؤذن لهم. قال: واجتمعنا في ذلك المكان. قال وفيه جماعة من بني هاشم وقريش والأنصار والخلق يعظمون محمد بن الحسن لقربه من أمير المؤمنين وتمكنه. قال: فاندفع يعرض بي ويذم أهل المدينة فقال: من أهل المدينة؟ وأي شيء يحسن أهل المدينة؟ والله لقد وضعت كتاباً على أهل المدينة كلها لا يخالفني فيه أحد، ولو علمت أن أحداً يخالفني في كتابي هذا تبلغني إليه آباط الإبل لصرت حتى أرد عليه. قال الشافعي: فقلت إن أنا سكت نكست رؤوس من هاهما من قريش، وإن أنا رددت عليه أسخطت على السلطان، ثم إني استخرت الله في الرد عليه، فتقدمت إليه فقلت: - أصلحك الله - ، طعنك على أهل المدينة وذمك لأهل المدينة؟ إن كنت أردت رجلاً واحداً وهو مالك بن أنس فألا ذكرتذلك الرجل بعينه ولم تطعن على أهل حرم الله وحرم رسوله وكلهم على خلاف ما ادعيته، وأما كتابك الذي ذكرت أنك وضعته على أهل المدينة، فكتابك من بعد بسم الله الرحمن الرحيم، خطأ إلى آخره، قلت في شهادة القابلة كذا وكذا وهو خطأ، وفي مسألة الحامل كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة كذا، وكذا وكذا وهو خطأ، فاصفر محمد بن الحسن ولم يحر جواباً. وكتب أصحاب الأخبار إلى الرشيد بما كان فضحك وقال: ماذا ننكر لرجل من ولد المطلب أن يقطع مثل محمد بن الحسن. قال: فعارضني رجل من أهل المجلس من أصحابه فقال: ما تقول في رجل دخل منزل رجل فرأى بطة ففقأ عينها، ماذا يجب عليه؟ قال قلت: ينظر إلى قيمتها وهي صحيحة وقيمتها وقد ذهبت عينها، فيقوم ما بين القيمتين، ولكن ما تقول أنت وصاحبك في رجل محرم نظر إلى فرج امرأة فأنزل؟ قال: ولم يكن لمحمد حذاقة بالمناسك. قال: فصاح به محمد وقال له: ألم أقل لك لا تسأله؟ قال: ثم أدخلنا على الرشيد فلما أن استوينا بين يديه قال لي: يا أبا عبد الله، تسأل أو أسأل؟ قال: قلت ذاك إليك. قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم، فقال: ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك). فدل أنها واجبة. قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة؟ فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟ فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعاً؟ قال: فسكت ثم قال: يأهل المدينة ما أجرأكم على كتاب الله؟ فقلت: الأجرأ على كتاب الله من خالفه. قال فقد قال الله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، فقلتم أنتم: نقضي باليمين مع الشاهد فقلت: لكنا نقول بما قال الله، ونقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنك أنت إذا خالفت كتاب قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خالفت كتاب الله. قال: وأين لكم رد اليمين؟ قال: قلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال وأين؟ قلت قصة حويصة ومحيصة وعبد الرحمن حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القتيل: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لم نشهد ولم نعاين؟ قال: فيحلف لكم يهود، فلما أن نكلوا رد اليمين إلى اليهود. قال: فقال لي: إنما كان ذلك استفهاماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت يا أمير المؤمنين، هذا بحضرتك يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهم من اليهود. فقال الرشيد: ثكلتك أمك يا بن الحسن، رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهم من اليهود؟. نطع وسيف، فلما رأيت الجد من أمير المؤمنين قلت مهلاً يا أمير المؤمنين، فأن الخصمين إذا اجتمعا تكلم كل واحد منهما بما لا يعتقده ليقطع به صاحبه، وما أرى أن محمداً يرى نقصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فسريت عنه. قال: ثم ركبنا جميعاً وخرجنا من الدار. قال: فقال لي: يا أبا عبد الله فعلتها؟ قال: فقلت فكيف رأيتها بعد ذلك؟.
وللشافعي رضي الله عنه مع محمد بن الحسن مناظرات في عدة مواطن، اقتصرنا على هذه قصداً للاختصار.
مناظرة إسحاق بن راهويه مع الشافعي رضي الله عنه

نقلت من تاريخ نيسابور للحاكم، ومن كتاب مناقب الشافعي للآبري، وجمعت بين الخبرين قصداً للاختصار مع نسبة كل قول إلى قائله.

حدث الآبري بإسناده: قال إسحاق بن راهويه: كنا عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل فقال لي يا أبا يعقوب: قم حتى أريك رجلاً لم ترعيناك مثله. قال: فقمت فأتى بي فناء زمزم فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه فقال له: يا أبا عبد الله، هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي فرحب بي وحياني، فذاكرته وذاكرني فانفجر لي منه علم أعجبني حفظه قال: فلما أن طال مجلسنا قلت له: يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، قال: هذا هو الرجل، فقلت يا سبحان الله، أقمتنا من عند رجل يقول: حدثنا الزهري، فما توهمت إلا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريب منه. فأتيت بنا إلى هذا الشاب أو هذا الحدث، فقال لي يا أبا يعقوب: اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله. قال الآبري: قال إسحاق: فسألته عن سكني بيوت مكة - أراد الكرى - فقال جائز. فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كره كرى بيوت مكة وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه. فلما فرغت سكت ساعة وقال: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار؟ قال فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها ولا أرى أن أحداً فهمه. قال الحاكم: فقال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال نعم، فقلت: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك. قال الحاكم: ولم يكن الشافعي عرف إسحاق، فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: هذا إسحاق بن إبراهيم بن الحنظلي بن راهويه الخراساني. فقال له الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قال إسحاق: هكذا يزعمون. قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بعرك أذنيه. وقال الحاكم في خبر آخر: قال له الشافعي: لو قلت قولك احتجت إلى أن أسلسل أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: عطاء وطاوس ومنصور وإبراهيم والحسن وهؤلاء لا يرون ذلك، هل لأحد مع رسول الله صلى عليه وسلم حجة؟. قال إسحاق لبعض من معه من المراوزة بلسانهم: مردك لا كما لا نيست، قرية عندهم بمرو يدعون العلم، وليس لهم علم واسع. وقال الآبري: قال إسحاق لبعض من معه: الرجل مالاني، ومالان: قرية من قرى مرو وأهلها فيهم سلامة. قال الحاكم في خبره: فلما سمع الشافعي تراطنه علم أنه قد نسبه إلى شيء. فقال تناظر؟ وكان إسحاق جريئاً فقال: ما جئت إلا للمناظرة. فقال له الشافعي: قال الله عز وجل: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) الآية. نسب الدار إلى المالكين أو غير المالكين قال إسحاق: إلى المالكين. قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن)، أنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أو إلى غير مالك؟. قال إسحاق: إلى مالك. فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وذكر له جماعة من أصحاب صلى الله عليه وسلم اشتروا دور مكة وجماعة باعوها. وقال إسحاق له: قال الله عز وجل: (سواء العاكف فيه والباد). فقال الشافعي: اقرأ أول الآية. قال: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد). قال الآبري: قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: (للطائفين والعاكفين) والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله عز وجل: (وأنتم عاكفون في المساجد)، فدل ذلك أن قوله عز وجل: (سواء العاكف فيه والباد) في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكرى وأن يبيع. قال الحاكم: وقال الشافعي: ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز أن تنشد فيها ضالة ولا ينحر فيها البدن ولا تنثر فيه الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة. قال فسكت إسحاق ولم يتكلم. وفي خبر الآبري: فلما تدبرت ما قال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟. علمت أنه قد فهم ما ذهب عنا. قال إسحاق: ولو كنت قد أدركني هذا الفهم وأنا بحضرته لعرفته ذاك، ثم نظرنا في كتبه فوجدنا الرجل من علماء هذه الأمة.

قال الآبري: وقرأت في بعض ما حكى عن أبي الحسن أنه كان يأخذ بلحيته في يده ويقول: واحيائي من محمد بن إدريس الشافعي، يعني في هذه المسألة.
ومن كتاب الحاكم: سمعت أبا بكر محمد بن علي ابن إسماعيل الفقيه الأديب الشاشي أبا بكر القفال، إمام عصره بما وراء النهر للشافعيين يقول: دخلت على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة أول ما قدمت نيسابور وتكلمت بين يديه وأنا شاب حدث السن فقال لي: من أين أنت؟ فقلت من أهل الشاش. قال لي إلى من اختلفت؟. قلت إلى أبي الليث. قال: وأبو الليث هذا أي مذهب يعتقد؟ قلت حنبلي. فقال: يا بني قل شافعي، وهل كان أحمد بن حنبل إلا غلاماً من غلمان الشافعي؟ قال: ومات أبو بكر القفال بالشاش في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلاثمائة.
ومن كتاب الآبري: حدثني محمد بن عبد الله الرازي، حدثنا الحسن بن حبيب الدمشقي عن محمود المصري وكان من أفصح الناس قال: سمعت ابن هشام. قال محمود: وما رأيت بعيني ممن فهمت عنه مثل ابن هشام. قال محمود: ورأيت الشافعي وأنا صغير. قال محمود: وسمعت ابن هشام يقول: جالست الشافعي زماناُ فما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر، ولا يجد كلمة في العربية أحسن منها. قال: وسمعت ابن هشام يقول: الشافعي كلامه لغة يحتج بها.
وحدثت عن الحسن بن محمد الزعفراني قال: كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا ويجلسون ناحية قال: فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي. قال: وسمعت أبا علي الحسين بن أحمد البيهقي الفقيه ببغداد قال: سمعت حسان بن محمد يحكي عن الأصمعي أنه قال: صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي. قال: وحكى لنا عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظاً وقال: لا تعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا. قال الشافعي رضي الله عنه قال ما رأيت أحداً أعلم بهذا الشأن مني، وقد كنت أحب أن أرى الخليل بن أحمد.
وحدث ابن خزيمة قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: كان الشافعي إذا أخذ في العربية، قلت هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده، قلت هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه، قلت هو بهذا أعلم. وتحدث ابن عيينه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقروا الطير على مكناتها)، قال: وكان الشافعي إلى جنب ابن عيينه فالتفت إليه سفيان فقال: يا أبا عبد الله، ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقروا الطير على مكناتها)؟ فقال الشافعي: إن علم العرب كان زجر الطير والخط والاعتياف، كان أحدهم إذا غدا من منزله يريد أمراً نظر أول طير يراه، فإن سنح عن يساره فاجتاز عن يمينه قال: هذا طير الأيامن، فمضى في حاجته ورأى أنه يستنجحها. وإن سنح عن يمينه فمر عن يساره قال: هذا طير الأشائم، فرجع وقال: هذه حالة مشئومة، فيشبه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأقروا الطير على مكناتها)، أي لا تهيجوها، فإن تهييجها وما تعملون به من الطيرة لا يصنع شيئاً، وإنما يصنع فيما توجهون فيه قضاء الله عز وجل. قال: وكان سفيان يفسره بعد ذلك على ما قال الشافعي.

وحدث الآبري، حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الرقي إملاء قال: حدثنا عبد الواحد بن سعيد عن صالح بن أحمد قال: جاء الشافعي يوماً إلى أبي يعوده وكان عليلاً فوثب أبي إليه فقيل ما بين عينيه ثم أجلسه في مكانه وجلس بين يديه قال: فجعل يسائله ساعة، فلما وثب الشافعي ليركب قام أبي فأخذ بركابه ومشى معه، فبلغ يحيى بن معين فوجه إلى أبي: يا أبا عبد الله، يا سبحان الله! آضطرك الأمر إلى أن تمشي إلى جانب بغلة الشافعي؟ فقال له أبي: وأنت يا أبا زكريا لو مشيت من الجانب الآخر لا انتفعت به. قال: ثم قال أبي: من أراد الفقه فليشم ذنب هذه البغلة. وفي رواية أخرى عن أحمد بن حنبل أنه قال: قدم علينا نعيم ابن حماد فحضنا على طلب المسند، فلما قدم الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء. ورواية أخرى عن حميد بن الربيع الخراز قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أعلم أحداً اعظم منه على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، وإني لأدعو الله له في أدبار صلواتي فأقول: اللهم اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي. وحدث الحارث بن محمد الأموي عن أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي قال: كنت من أصحاب محمد بن الحسن فلما قدم الشافعي علينا جئته إلى مجلسه شبه المستهزئ فسألته عن مسألة من الدور فلم يجبني وقال لي: كيف ترفع يديك في الصلاة؟ قلت هكذا. قال لي أخطأت. فقلت: كيف أصنع؟ فقال حدثني ابن عيينه عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع. قال أبو ثور: فوقع في قلبي من ذاك، فجعلت أزيد في المجيء إلى الشافعي وأقصر في الاختلاف إلى محمد بن الحسن. فقال لي ابن الحسن يوماً: يا أبا ثور، أحسب هذا الحجازي قد غلب عليك. قال: قلت أجل، الحق معه. قال: وكيف ذاك؟ قال: فقلت كيف ترفع يديك في الصلاة؟ فأجابني على نحو ما أحببت الشافعي فقلت أخطأت، قال: كيف أصنع؟ قلت حدثني الشافعي عن ابن عيينه عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع وإذا رفع. قال أبو ثور: فلما كان بعد شهر قال: يا أبا ثور، خذ مسألتك في الدور فإنما منعني أن أجيبك يومئذ أنك كنت متعنتاً.
وحدث المزني وهو إبراهيم إسماعيل بن يحيى قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله جل ذكره وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة أو إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم يقدر بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما؟
وحدث الربيع بن سليمان أنه قال: كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف رضى الله عنه.
وحدث يونس بن عبد الأعلى الصدفي قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا أبا موسى، رضا الناس غاية لا تدرك، ما أقوله لك إلا نصحا، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه، ودع الناس وما هم فيه.

وحدث الحسن بن محمد الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنا لا نقدر على مناظرته، فمشينا إلى أحمد ابن حنبل فقلنا له: ائذن لنا في أن نحفظ الجامع الصغير الذي لأبي حنيفة، لنخوض معهم إذا خاضوا. فقال: اصبروا فالآن يقدم عليكم المطلبي الذي رأيته بمكة. قال: فقدم علينا الشافعي فمشوا إليه وسألناه شيئاً من كتبه، فأعطانا كتاب اليمين مع الشاهد فدرسته في ليلتين، ثم غدوت على بشر المريسي وتخطيت إليه فلما رآني قال: ما جاء بك يا صاحب حديث؟ قال: قلت: ذرني من هذا، إيش الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد؟، فناظرته فقطعته فقال: ليس هذا من كيسكم هذا من كلام رجل رأيته بمكة، معه نصف عقل أهل الدنيا.
وحدث الربيع بن سليمان قال: كنا عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة فنظر فيها وتبسم، ثم كتب فيها ودفعها إليه قال: فقلنا يسأل الشافعي عن مسألة لا ننظر فيها وفي جوابها؟ فلحقنا الرجل وأخذنا الرقعة فقرأناها وإذ فيها:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاد جناح؟
قال: وإذا إجابة أسفل من ذلك:
أقول معاذ الله أن يذهب التقي ... تلاصق أكباد بهن جراح
قرأت في أمال أملاها أبو سليمان الخطابي على بعض تلامذته قال الشيخ: كان الشافعي - رحمه الله - يوماً من أيام الجمع جالساً للنظر فجاءت امرأة فألقت إليه رقعة فيها:
عفا الله عن عبد أعان بدعوة ... خليلين كانا دائمين على الود
إلى أن مشى واشي الهوى بنميمة ... إلى ذاك من هذا فزالا عن العهد
قال: فبكى الشافعي - رحمه الله - وقال: ليس هذا يوم نظر، هذا يوم دعاء ولم يزل يقول: اللهم اللهم حتى تفرق أصحابه. ومثله ما بلغني أن رجلاً جاءه برقة فيها:
سل المفتي المكي من آل هاشم ... إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنع؟
قال: فكتب الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجده ... ويصبر في كل الأمور ويخضع
فأخذها صاحبها وذهب بها ثم جاءه وقد كتب تحت هذا البيت الذي هو الجواب:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى ... وفي كل يوم غصة يتجرع
فكتب الشافعي رحمه الله:
فإن هو لم يصبر على ما أصابه ... فليس له شيء سوى الموت أنفع
ويروي للشافعي رحمه الله:
أأنثر درا بين سارحة البهم ... وأنظم منثور لراعية الغنم؟
لعمري لئن ضيعت في شر بلدة ... فسلت مضيعاً فيهم غرر الكلم
لئن سهل الله العزيز بلطفه ... وصادفت أهلاً للعلوم وللحكم
بثثت مفيداً واستفدت ودادهم ... وإلا فمكنون لدى ومكتتم
ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وله رضي الله عنه في تعزية:
إني أعزيك لا أني على طمع ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزي بباق بعد صاحبه ... ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
وحدث بإسناد رفعه إلى ابن عمر الشافعي قال: كان لأبي عبد الله الشافعي امرأة يحبها فقال:
ومن البلية أن تحب ... ب ولا يحبك من تحبه
ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت فلا تغبه
وحدث الآبري بإسناد إلى المزني عن الشافعي قال: كنا في سفر بأرض اليمن فوضعنا سفرتنا لنتعشى وحضرت صلاة المغرب فقلنا نصلي ثم نتعشى، فتركنا سفرتنا كما هي، وكان في السفرة دجاجتان فجاء ثعلب فأخذ إحدى الدجاجتين فلما قضينا صلاتنا أسفنا عليها وقلنا حرمنا طعامنا، فبينا نحن كذلك إذ جاء الثعلب وفي فيه شيء كأنه الدجاجة فوضعه فبادرنا إليه لنأخذ ونحن نحسبه الدجاجة قد ردها، فلما قمنا لخلاصها فإذا هو قد جاء إلى الأخرى فأخذها من السفرة وأصبنا الدي قمنا إليه لنأخذه ليفة قد هيأها مثل الدجاجة.
وحدث الحسن بن محمد الزعفراني قال: سئل الشافعي عن مسألة فأجاب فيها أنشأ يقول:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
ولست كشقشقة الأرحبي ... ي أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بإمعة في الرجا ... ل أسأل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الأصغري ... ن جلاب خير وفراج شر

وحدث الربيع بن سليمان قال: لما دخل الشافعي مصر أول قدومه إليها جفاه الناس فلم يجلس إليه أحد قال: فقال له بعض من قدم معه: لو قلت شيئاً يجتمع إليك الناس، قال فقال: إليك عني وأنشأ يقول:
أأنثر دراً بين سارحة النعم ... وأنظم منثوراً لراعية الغنم؟
الأبيات التي مرت آنفاً. وجرى بين الشافعي وبين بعض من صحبه مجانة فقال:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله
أحامقة حتى تقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وحدث الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول:
يا راكباً قف بالمحصب من مني ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً بمتلطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ومن كتاب الإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا. فقال له السائل: يا أبا عبد الله، أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر لونه وحال وتغير وقال: ويحك، أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أقل به، نعم على الرأس والعينين. قال: وسمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عنه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي وجعل يردد هذا الكلام. وبإسناده عن أحمد بن حنبل أنه قال لعبد الملك بن عبد الحميد الميموني: مالك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أتبع للسنة من الشافعي رضي الله عنه. وبإسناده إلى أبي عثمان المازني قال سمعت الأصمعي يقول: قرأت شعر الشنفري على الشافعي بمكة. قال زكريا بن يحيى الساجي: فذكرت ذلك للرياشي فقال ذلك ما أنكره، قرأتها على الأصمعي فقال: أنشدنيها رجل من قريش بمكة. وبإسناده إلى عبد لرحمن بن أخي الأصمعي قال: قلت لعمي يا عماه، على من قرأت شعر هذيل؟ فقال: على رجل من آل المطلب يقال له محمد بن إدريس.

وحدث الصولي عن المبرد أنه قال: كان الشافعي من أشعر الناس وآدب الناس وأعرفهم بالقراءات. وبإسناده إلى عبد الملك ابن هشام النحوي صاحب كتاب المغازي أنه قال: طالت مجالستنا للشافعي فما سمعت منه لحنة قط ولا كلمة غيرها أحسن منها. وبإسناده إلى جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخوتنا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. أخرجه البخاري في الصحيح. وهذا لأن عبد مناف كان له أربعة أولاد: هاشم والمطلب وعبد شمس جد بني أمية ونوفل. وكان جبير بن مطعم من بني نوفل، وعثمان من بني عبد شمس وهما أخوا المطلب. وبإسناده إلى الحارث بن سريج النقال قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أنا أدعو الله للشافعي أخصه به. وبإسناده: كتب عبد الرحمن ابن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة. قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها. وبإسناده قال أحمد بن حنبل: كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي. وبإسناده قال إبراهيم الحربي: سئل أحمد بن حنبل عن مالك بن أنس فقال: حديث صحيح ورأي صحيح. وسئل عن آخر فقال: لا رأي ولا حديث. وبإسناده إلى محمد بن مسلم بن وارة قال: لما قدمت من مصر أتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه فقال لي: كتبت كتب الشافعي؟ فقلت لا. فقال لي: فرطت، ما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي. قال ابن وارة: فحملني ذلك على أن رجعت إلى مصر فكتبتها. وبإسناده قال الزعفراني: كنت مع يحيى بن معين في جنازة فقلت له: يا أبا زكريا، ما تقول في الشافعي؟ فقال دعنا، لو كان الكذب له مطلقاً لكانت مروءته تمنعه أن يكذب. وبإسناده على عبد الملك الميموني قال: كنت عند أحمد ابن حنبل وجرى ذكر الشافعي فرأيت أحمد يرفعه وقال: يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها). فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى. وبإسناده قال: الشيخ أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول: كنا في مجلس القاضي أبي العباس ابن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال له: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وإنه بعث على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة ثلاث ومائة، وبعث على رأس المائتين أبا عبد الله بن إدريس الشافعي وتوفي سنة أربع ومائتين، وبعثك على رأس الثلاثمائة. ثم أنشأ يقول:
اثنان مضيا فبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم حلف السودد
الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقياً لنوبة أحمد

قال: فصاح القاضي وبكى وقال: إن هذا الرجل قد نعى إلى نفسي. قال: فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة. وذكر الخطيب في تاريخه أن ابن سريج مات سنة ست وثلاثمائة. وبإسناد البيهقي إلى داود بن علي الأصبهاني أنه قال: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره. فأقول: ذلك شرف نفسه ومنصبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم، منها صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع، ومنها سخاوة النفس، ومنها معرفته بصحة الحديث وسقمه، ومنها معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها حفظه لكتاب الله وحفظه لأخبار رسول اله صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بسير النبي صلى الله عليه وسلم وبسير خلفائه، ومنها كشفه لتمويه مخالفيه، ومنها تأليف الكتب القديمة والجديدة، ومنها ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة مثل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي، وعبد الله ابن الزبير الحميدي، والحسين القلانسي، وأبي ثور إبراهيم ابن خالد الكلبي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبي الوليد موسى ابن الجرود، والحارث بن سريج النقال، وأحمد بن خالد الخلال، وأبي عبيد القاسم بن سلام. والقائم بمذهبه أبو إبراهيم إسملعيل بن يحيى المزني.
قال الشيخ أحمد البيهقي: إنما عد داود بن علي من أصحاب الشافعي جماعة يسيرة، وقد عد أبو الحسن الدارقطني من روى عنه أحاديثه وأخباره أو كلامه زيادة على مائة، هذا مع قصور سنة عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما تكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنة الستين أو السبعين، والشافعي لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين.
ومن كتاب مرو مسنداً إلى عبد الله بن محمد بن هارون الفرياني قال: وقفت بمكة على حلقة عظيمة وفيها رجل فسألت عنه فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم أخبركم بآية من كتاب الله وسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول صحابي. فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جرئ، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذه، وما نهاكم عنه فانتهوا). وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر). وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه أمر المحرم بقتل الزنبور.
وعن المزني سمعت الشافعي يقول: رأيت بالمدينة أربع عجائب. رأيت جدة لها إحدى وعشرين سنة، ورأيت رجلاً فلسة القاضي في مدين نوى، ورأيت شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة يدور نهاره حافياً راجلاً على القيان يعلمهن الغناء فإذا جاءت الصلاة صلى قاعداً، وكان بالمدينة والٍ وكان رجلاً صالحاً فقال: مالي لا أرى الناس يجتمعون على بابي كما يجتمعون على أبواب الولاة؟ فقالوا: إنك لا تضرب أحداً ولا تؤذي الناس. فقال أهكذا؟ علي بالإمام فنصب بين العقابين وجعل يضرب والإمام يقول: - أعز الله الأمير - إيش جرمي، وهو يقول: حملنا بنفسك، حتى اجتمع الناس على بابه.
وعن خيثمة بن سليمان بن حيدرة قال: جاء رجل إلى الشافعي فقال له: - أصلحك الله - صديقك فلان عليل، فقال الشافعي: والله لقد أحسنت إلي وأيقظني لمكرمة، ودفعت عني اعتذار يشوبه الكذب ثم قال: يا غلام، هات السبتية ثم قال: للمشي على الحفاء، على علة الوجاء في حر الرمضاء من ذي طوى أهون من اعتذار إلى صديق يشوبه الكذب. ثم أنشأ يقول:
أرى راحة للحق عند قضائه ... ويثقل يوماً إن تركت على عمد
وحسبك حظاً أن ترى غير كاذب ... وقولك لم أعلم وذاك من الجهد
ومن يقض حق الجار بعد ابن عمه ... وصاحبه الأدنى على القرب والعبد
يعش سيداً يستعذب الناس ذكره ... وإن نابه حق أتوه على قصد
ومما يروي للشافعي رضي الله عنه:
أصبحت مطرحاً في معشر جهلوا ... حق الأديب فباعوا الرأس بالذنب
والناس يجمعهم شمل وبينهم ... في العقل فرق وفي الآداب والحسب

كمثل ما الذهب الإبريز يشركه ... في لونه الصفر، والتفضيل للذهب
والعود لو لم تطب منه روائحه ... لم يفرق الناس بين العود والحطب
وعن أبي بكر بن بنت الشافعي قال: قال الشافعي بمكة حين أراد الخروج إلى مصر:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى القبر؟
قال: فخرج فقطع عليه الطريق فدخل بعض المساجد وليس عليه إلا خرقة فدخل الناس وخرجوا فلم يلتفت إليه أحد فقال:
على ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو يقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان عضباً أين وجهته فرى؟
قرأت في كتاب خطط مصر لأبي عبد الله محمد بن سلامة ابن جعفر بن علي القضاعي المصري صاحب كتاب الشهاب قال: محمد بن إدريس الشافعي المطلي الفقيه يكنى أبا عبد الله، توفي في سلخ رجب سنة أربع ومائتين بمصر، ودفن غربي الخندق في مقابر قريش وحوله جماعة من بين زهرة من ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري وغيرهم، وقبره مشهور هناك مجمع على صحته، ينقل الخلف عن السلف في كل عصر إلى وقتنا هذا، وهو البحري من القبور الثلاثة التي تجمعها مصطبة واحدة غربي الخندق بينه وبين المشهد، والقبران الآخران اللذان إلى جنب قبر الشافعي أحدهما قبر عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع مولى قريش، مات سنة أربع عشرة ومائتين، ودفن إلى جنب من الشافعي وهو ما يلي القبلة، وهو القبر الأوسط من القبور الثلاثة، وكان من ذوي الجاه والمال والدبابج، وكان يزكي الشهود ولم يشهد قط لدعوة سبقت فيهم، والقبر الثالث قبر ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، مات في سنة سبع وخمسين ومائتين وقبره مما يلي القبلة، وعبد الرحمن هذا هو صاحب كتاب فتوح مصر وكان عالماً بالتواريخ.
يقال: إن الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة في أول خلافة المأمون، وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله ابن العباس استصحبه فصحبه، وكان العباس هذا خليفة لأبيه عبد الله على مصر، ولم يزل الشافعي بمصر إلى أن ولي السري ابن الحكم البلخي - من قوم يقال لهم الزط - مصر واستقامت له، وكان يكرم الشافعي ويقدمه ولا يؤثر أحداً عليه، وكان الشافعي محبباً إلى الخاص والعام لعلمه وفقهه، وحسن كلامه وأدبه وحلمه، وكان بمصر رجل من أصحاب مالك بن أنس يقال له فتيان فيه حدة وطيش، وكان يناظر الشافعي كثيراً ويجتمع الناس عليهما، فتناظرا يوماً في مسألة بيع الحر وهو العبد المرهون إذا أعتقه الراهن ولا مال له غيره، فأجاب الشافعي بجوار بيعه على أحد أقواله، ومنع فتيان منه، لأنه يمضي عتقه بكل وجه وهو أحد أقوال الشافعي، فظهر عليه الشافعي في الحجاج، فضاق فتيان بذلك ذرعاً فشتم الشافعي شتماً قبيحاً فلم يرد عليه الشافعي حرفاً ومضى في كلامه في المسألة، فرفع ذلك رافع إلى السري، فدعا الشافعي وسأله عن ذلك وعزم عليه فأخبره بما جرى، وشهد الشهود على فتيان بذلك، فقال السري: لو شهد آخر مثل الشافعي. على فتيان لضربت عنقه، وأمر فتيان فضرب بالسياط وطيف به على جمل وبين يديه مناد ينادي: هذا جزاء من سب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن قوماً تعصبوا لفتيان من سفهاء الناس وقصدوا حلقة الشافعي حتى خلت من أصحابه وبقى وحده، فهجموا عليه وضربوه فحمل إلى منزله، فلم يزل فيه عليلاً حتى مات في الوقت المقدم ذكره.
قال ابن يونس: كان لشافعي ابن اسمه محمد، قدم مع أبيه مصر وتوفي بها في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وقيل: كان له ولد آخر اسمه محمد أيضاً يروي عن سفيان ابن عيينة. ولي قضاء الجزيرة وتوفي بها بعد أربعين ومائتين. هذا آخر ما ذكره القضاعي نقلته على وجهه.

ومن مشهور أصحاب الشافعي: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني مات في سنة أربع ومائتين. والربيع ابن سليمان وكان من أجل أصحاب الشافعي وأورعهم وأكثرهم تصنيفاً. ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم يكنى أبا عبد الله صحب الشافعي وقرأ عليه، ومات سنة ثمان وستين ومائتين، ودفن إلى جنب الشافعي مع قبر أخيه وأبيه المذكورين، وكان من أهل الدين والورع. والربيع بن سليمان ابن عبد الجبار المرادي - مولى لهم - المؤذن الفقيه يكنى أبا محمد، وهو صاحب الشافعي المشهور بصحبته، ومات سنة سبعين ومائتين، وقبره غربي الخندق ممايلي الفقاعي، وهو آخر من روى بمصر عن الشافعي وكان جليلاً مصنفاً، حدث بكتب الشافعي كلها ونقلها الناس عنه ويقال: إنه أعان المزني على غسل الشافعي، والربيع بن سليمان بن داود ابن الأعرج الجيزي مولى الأزد وأظنه صحب الشافعي، ومات في سنة ست وخمسين ومائتين وقبره بالجيزة. وهذا فهرست كتب الشافعي رضى الله عنه: كتاب الطهارة، كتاب مسألة المني، كتاب استقبال القبلة، كتاب الإمامة، كتاب إيجاب الجمعة، كتاب صلاة العيدين، كتاب صلاة الكسوف، كتاب صلاة الاستسقاء، كتاب صلاة الجنائز، كتاب الحكم في تارك الصلاة، كتاب الصلاة الواجبة والتطوع والصيام، كتاب الزكاة الكبير، كتاب زكاة الفطر، كتاب زكاة مال اليتيم، كتاب الصيام الكبير، كتاب المناسك الكبير، كتاب المناسك الأوسط، كتاب مختصر المناسك، كتاب الصيد والذبائح، كتاب البيوع الكبير، كتاب الصرف والتجارة، كتاب الرهن الكبير، كتاب الرهن الصغير، كتاب الرسالة، كتاب أحكام القرآن، كتاب اختلاف الحديث، كتاب جماع العلم، كتاب اليمين مع الشاهد، كتاب الشهادات، كتاب الإجازات الكبير، كتاب كري الإبل والرواحل، كتاب الإجارات إملاء، كتاب اختلاف الأجير والمستأجر، كتاب الدعوى والبينات، كتاب الإقرار والمواهب، كتاب رد المواريث، كتاب بيان فرض الله عز وجل، كتاب صفة نهي النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب النفقة على الأقارب، كتاب المزارعة، كتاب المساقاة، كتاب الوصايا الكبير، كتاب الوصايا بالعتق، كتاب الوصية للوارث، كتاب وصية الحامل، كتاب صدقة الحي عن الميت، كتاب المكاتب، كتاب المدبر، كتاب عتق أمهات الأولاد، كتاب الجناية على أم الولد، كتاب الولاء والحلف، كتاب التعريض بالخطبة، كتاب الصداق، كتاب عشرة النساء، كتاب تحريم ما يجمع من النساء، كتاب الشغار، كتاب إباحة الطلاق، كتاب العدة، كتاب الإيلاء، كتاب الخلع والنشوز، كتاب الرضاع، كتاب الظهار، كتاب اللعان، كتاب أدب القاضي، كتاب الشروط، كتاب اختلاف العراقيين، كتاب اختلاف علي وعبد الله، كتاب سير الأوزاعي، كتاب الغصب، كتاب الاستحقاق، كتاب الأقضية، كتاب إقرار أحد الابنين بأخ، كتاب الصلح، كتاب قتال أهل البغي، كتاب الأساري والغلول، كتاب القسامة، كتاب الجزية، كتاب القطع في السرقة، كتاب الحدود، كتاب المرتد الكبير، كتاب المرتد الصغير، كتاب الساحر والساحرة، كتاب القراض، كتاب الأيمان والنذور، كتاب الأشربة، كتاب الوديعة، كتاب العمري، كتاب بيع المصاحف، كتاب خطأ الطبيب كتاب جناية معلم الكتاب، كتاب جناية البيطار والحجام، كتاب اصطدام الفرسين والنفسين، كتاب بلوغ الرشد، كتاب اختلاف الزوجين في متاع البيت، كتاب صفة النفي، كتاب فضائل قريش والأنصار، كتاب الوليمة، كتاب صول الفحل، كتاب الضحايا، كتاب البحيرة والسائبة، كتاب قسم الصدقات، كتاب الاعتكاف، كتاب الشفعة، كتاب السبق والرمي، كتاب الرجعة، كتاب اللقيط والمنبوذ، كتاب الحوالة والكفالة، كتاب كرى الأرض، كتاب التفليس، كتاب اللقطة، كتاب فرض الصدقة، كتاب قسم الفئ، كتاب القرعة، كتاب صلاة الخوف، كتاب الديات، كتاب الجهاد، كتاب جراح العمد، كتاب الخرص، كتاب العتق، كتاب عمارة الأرضين، كتاب إبطال الاستحسان، كتاب العقول، كتاب الأولياء، كتاب الرد على محمد بن الحسن كتاب صاحب الرأي، كتاب سير الواقدي، كتاب حبل الحبلة، كتاب خلاف مالك والشافعي، كتاب قطاع الطريق. قال: والذي لم يسمعه الربيع من الشافعي رضى الله عنه وأرضاه: كتاب الوصايا الكبير، كتاب اختلاف أهل العراق على علي وعبد الله، كتاب ديات الخطأ، كتاب قتال المشركين، كتاب الإقرار بالحكم الظاهر، كتاب الأجناس، كتاب اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتاب

مسألة الجنين، كتاب وصية الشافعي، كتاب ذبائح بني إسرائيل، كتاب غسل الميت، كتاب ما ينجس الماء مما خالطه، كتاب الأمالي في الطلاق، كتاب مختصر البويطي، رواه الربيع عن الشافعي رضي الله عنه.لة الجنين، كتاب وصية الشافعي، كتاب ذبائح بني إسرائيل، كتاب غسل الميت، كتاب ما ينجس الماء مما خالطه، كتاب الأمالي في الطلاق، كتاب مختصر البويطي، رواه الربيع عن الشافعي رضي الله عنه.
/الجزء الثامن عشر
محمد بن أزهر بن عيسىأحد الأخباريين المشهورين، قال محمد بن إسحاق النديم: مات سنة تسع وسبعين ومائتين ومولده سنة تسع وسبعين. وكان قد سمع من الأعرابي وغيره، وله من الكتب: كتاب التاريخ، من جياد الكتب.
محمد بن إسحاق بن يسارصاحب السيرة كنيته أبو عبد الله، وقيل أبو بكر مولى عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، ويسار من سبي عين التمر، وهو أول سبي دخل المدينة من العراق. قال ابن أبي خيثمة: وموسى بن يسار أخو إسحاق بن يسارعم محمد بن إسحاق رواية أيضاً علامة. مات محمد بن إسحاق سنة خمسين أو إحدى أو اثنتين وخمسين ومائة. ودفن بمقادير الخيزران عند قبر أبي حنيفة.
قال المرزباني: ومحمد بن إسحاق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفها، وكان يروي عن عاصم ابن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان، ومحمد بن إبراهيم، وابن شهاب والأعمش، ويروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير امرأة هشام بن عروة، فبلغ ذلك هشاماً فقال: هو كان يدخل على امرأتي؟ كأنه أنكر ذلك، وخرج عن المدينة قديماً فلم يرو عنه منهم أحد غير إبراهيم بن سعد. وكان محمد بن إسحاق مع العباس بن محمد بالجزيرة، وكان قصد أبا جعفر المنصور بالحيرة فكتب إليه المغازي فسمع منه أهل الكوفة لذلك السبب، وسمع منه أهل الجزيرة حين كان مع العباس بن محمد، وأتى الري فسمع منه أهلها فرواته، هذه البلدان أكثر ممن روى عنه من أهل المدينة، وأتى بغداد فأقام بها إلى أن مات بها، وكان كثير الحديث، وقد كتب عنه العلماء ومنهم من يستضعفه، وكان له أخوان عمر وأبو بكر ابنا إسحاق، وقد رويا الحديث.
وحدث بإسناد رفعة إلى المفضل بن غسان الغلابي قال: سألت يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق فقال: قال عاصم ابن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق. قال يحيى: وابن إسحاق يسمع من عاصم فكان يقال: وحدث فيما رفعه إلى علي المديني قال: سمعت بن يحيى بن سعيد القطان يقول: كان محمد بن إسحاق والحسن بن ضمرة وإبراهيم بن محمد كل هؤلاء يتشيعون ويقدمون علياً على عثمان.
وقال الشاذكاني: كان محمد بن إسحاق بن يسار يتشيع، وكان قدرياً. وقال أحمد بن يونس: أصحاب المغازي يتشيعون كابن إسحاق وأبي معشر ويحيى بن سعيد الأموي وغيرهم. وأصحاب التفسير السدي والكلبي وغيرهما، وكان له انقطاع إلى عبد الله بن حسن بن حسن، وكان يأتيه بالشيء فيقول له: أثبت هذا في علمك فيثبته ويرويه عنه.
وحدث فيما أسنده إلى الواقدي قال: كان محمد بن إسحاق يجلس قريباً من النساء في مؤخر المسجد فيروي عنه أنه كان يسامر النساء، فرفع إلى هشام وهو أمير المدينة وكانت له شعرة حسنة فرقق رأسه وضربه أسواطاً ونهاه عن الجلوس هنالك وكان حسن الوجه.
وحدث عبد الله بن إدريس قال: كنت عند مالك بن أنس فقال له رجل: إن محمد بن إسحاق يقول: اعرضوا علي علم مالك بن أنس فإني أنا بيطاره. فقال مالك: انظروا إلى دجال من الدجاجلة يقول: اعرضوا على علم مالك. قال إدريس: وما رأيت أحداً جمع الدجال قبله.

وحدث هارون بن عبد الله الزهري قال: سمعت ابن أبي خازم قال: كان ابن إسحاق في حلقته فأغفى ثم انتبه فقال: رأيت حماراً اقتيد بحبل حتى خرج من المسجد، فلم يبرح حتى أتته رسل الوالي فاقتادوه بحبل فأخرجوه من المسجد. وقال محمد بن إسحاق: كانت تعمل له الأشعار فيضعها في كتب المغازي فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار، وأخطأ في كثير من النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العمل الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه ويتهمونه. وله من الكتب: كتاب الخلفاء رواه عنه الأموي، كتاب السير والمغازي، كتاب المبدإ رواه عنه إبراهيم بن سعد ومحمد بن عبد الله بن نمير النفيلي، ومات النفيلي بحران سنة أربع وثلاثين ومائتين، وكان يكنى أبا عبد الرحمن.
محمد بن إسحاق أبو العنبس الصيمريقال الخطيب في تاريخه: محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي العنبس بن المغيرة بن ماهان أبو العنبس الصيمري الشاعر أحد الأدباء الملحاء، خبيث اللسان هجاء، هجاه أكثر شعراء زمانه وقدم بغداد، مات سنة خمس وسبعين ومائتين، وحمل إلى الكوفة فدفن بها ونادم المتوكل، وهو القائل يهجو أحمد بن المدبر:
أسل الذي عطف الموا ... كب والمراكب نحو بابك
وأراك نفسك مالكاً ... ما لم يمن لك في حسابك
وأذل موقفي العزي ... ز على وقوف في رحابك
ألا يطيل تجرعي غصص المنية من حجابك
وهو القائل:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد
قد يصاد القطا فينجو سليماً ... ويحل القضاء بالصياد
وذكره محمد بن إسحاق النديم في الفهرست فقال: محمد بن إسحاق أبو العنبس الصيمري من أهل الفكاهات وأصله من الكوفة وكان قاضي الصيمرة، وكان مع استعماله للهزل شريفاً عارفاً بالنجوم، وله فيه كتاب يمدحه المنجمون، وأدخله المتوكل في ندمائه وخص به، وله مع البحتري خبر معروف بين يدي المتوكل، وعاش إلى أيام المعتمد ودخل في ندمائه، وله يهجو طباخ المعتمد:
يا طيب أيامي بمعشوق ... ونحن في بعد من السوق
إذا طلبت الخبر من فارس ... ينفخ لي صالح البوق
وله من الكتب: كتاب تأخير المعرفة، كتاب العاشق والمعشوق، كتاب الرد على المنجمين، كتاب الطبلبنب، كتاب كرزابلا، كتاب طوال اللحى، كتاب الرد على المتطببين، كتاب عنقاء مغرب، كتاب الراحة ومنافع القيادة، كتاب فضائل حلق الرأس، كتاب هندسة العقل، كتاب الأحاديث الشاذة، كتاب فضائل الزو، كتاب الرد على ميخائيل الصيدناني في الكيمياء، كتاب عجائب البحر، كتاب مساوي العوام وأخبار السفلة والأغتام، كتاب فضل السلم على الدرجة، كتاب الفاس بن الحائك، كتاب الدولتين في تفضيل الخلافتين، كتاب تذكية العقول، كتاب السحاقات والبغائين، كتاب الخضخضة في جلد عميرة، كتاب أخبار أبي فرعون كندر بن حجدر، كتاب تفسيرالرؤيا، كتاب الثقلاء، كتاب نوادر القواد، كتاب دعوة العامة، كتاب الإخوان والأصدقاء، كتاب كنى الدواب، كتاب أحكام النجوم، كتاب المدخل في صناعة التنجيم، كتاب صاحب الزمان، كتاب الحلقتين، كتاب استغاثة الجمل على ربه، كتاب فضل السرم على الفم.
وقال أبو العنبس الصيمري: قوام أمر الإنسان بتسع دالات: دار ودينار ودرهم ودقيق ودابة ودبس ودن ودسم ودعوة.
وحدث الصولي قال: حدثني ابن أبي العنبس وكان قدم إلينا بغداد من سر من رأى وكان متأدباً قال: عرضت لأبي حاجة إلى الحسن بن مخلد وزير المعتمد في أقطاع له فخاف معارضته وذلك أيام تقلده ديوان الضياع فقال:
زارني بدر على غصن ... قابلاً وصلى يقبلني
خلته في النوم من فرحي ... قد أعاد الروح في بدني
إن لي عن مثله شغلاً ... بمقال الشعر في الحسن
وأبيه مخلد فبه ... قد لبسنا سابغ المنن
كاتب قل النظير له ... فاضل في العلم واللسن
قال: فأمضى له كل ما أراد ولم يعارضه في شيء. وأنشد جحظة لأبي العنبس الصيمري:
لئن كنت عن أرض تقلك نازحاً ... فلم يحكني غير السليم المسهد
وعلمت مذ جرعتني صاب بينكم ... غريب البكا عين الحمام المغرد

وعن أبي الفرج، حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني أبو العنبس الصيمري قال: كنت عند المتوكل والبحتري ينشده:
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم
حتى بلغ إلى قوله:
قل للخليفة جعفر ال ... متوكل بن المعتصم
والمجتدي بن المجتدي ... والمنعم بن المنتقم
إسلم لدين محمد ... وإذا سلمت فقد سلم
قال: وكان البحتري من أبغض الناس إنشاداً، يتشدق ويتزاور في مشيه مرة جائياً ومرة القهقري، ويهز رأسه مرة ومنكبه أخرى، ويشير بكمه ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون: أحسنت؟ هذا واله مالا يحسن أحد أن يقول مثله، فضجر المتوكل من ذلك وأقبل علي فقال: أما تسمع يا صيمري ما يقول؟ فقلت بلى يا سيدي، فمر فيه بما أحببت فقال: بحياتي اهجه على هذا الروى الذي أنشدنيه. فقلت:
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
يا بحتري حذار وي ... لك من قضاقضة ضغم
فلقد أسلت لوالدي ... ك من الهجاسيل العرم
والله حلفه صادق ... وبقبر أحمد والحرم
وبحق جعفر الإما ... م ابن الإمام المعتصم
لأصيرنك شهرة ... بين المسيل إلى العلم
فبأي عرض تعتصم ... وبهتكه جف القلم؟
حي الطلول بذي سلم ... حيث الأراكة والخيم
يا بن الثقيلة والثقي ... ل على قلوب ذوي النعم
وعلى الصغير مع الكب ... ير مع الموالي والحشم
في أي سلح تلتطم ... وبأي كف تلتقم؟
يا بن المباحة للورى ... أمن العفاف أو التهم؟
إذ رحل أختك للعجم ... وفراش أمك في الظلم
وبباب دارك حانة ... في بيته يؤتى الحكم
قال: وخرج البحتري مغضباً يعد وجعلت أصيح به خلفه:
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عنه. هذه رواية جحظة، والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس كان واقفاً خلف السرير والبحتري ينشد قوله:
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم؟
فقال أبو العنبس ارتجالاً
في أي سلح ترتطم ... وبأي كف تلتقم؟
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
فغضب البحتري وخرج وضحك المتوكل حتى أكثر، وأمر لأبي العنبس الصيمري بعشرة آلاف درهم.
محمد بن إسحاق بن أسباط الكنديأبو النضر المصري، ذكره أبو بكر الزبيدي، قال الزبيدي: أخذ عن الزجاج. وله كتاب في النحو سماه كتاب العيون والنكت ذهب فيه إلى اخذ الاسم والفعل والحرف، وتلا ذلك بذكر شيء من أبواب الياء والواو ولم يصنع شيئاً. وقال ابن مسعر: نزل أبو النضر أنطاكية مدة ثم سار عنها إلى مصر، وله كتابان: كتاب التلقين، كتاب الموقظ. ورأيت أنا له كتاب المغني في النحو. وذكره ابن عبد الرحيم فقال: نقلت من خط أبي الحسن بن الخطيب: حدثنا الببغا قال: كان يجتمع معنا في خدمة سيف الدولة شيخ من أهل الأدب والتقدم في النحو وعلم المنطق ممن درس على الزجاج وأخذ عنه يكنى بأبي النضر وذكر اسمه ونسبه، وحكى أنه كان حسن الشعر، وأخبرنا أن الأبيات التي ينسبها قوم إلى ابن المغيرة وآخرون إلى أبي نضلة، قلت: أنا وجدتها أنا في ديوان أبي القاسم التنوخي ومعزوة إلى أبي القاسم وتروى لغيرهم أيضاً أنها لأبي النضر من قديم شعره، وأنشدها لنفسه وهي:
وكأس من الشمس مخلوقة ... تضمنها قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاجتمعا بالجوار
كأن المدير لها باليمين ... إذا طاف للسقي أو باليسار
تدرع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار

وقد أورد التنوخي هذه الحكاية في كتاب النشوار وحكى أن أبا النضر كان عالماً بالهندسة قيماً بعلوم الأوائل. ولأبي النضر أيضاً:
هات اسقني بالكبير وانتخب ... نافية للهموم والكرب
فلو تراني إذا انتشيت وقد ... حركت كفي بها من الطرب
لخلتني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف من ذهب
وقال أبو علي التنوخي: أنشدني أبو عمر بن جعفر الخلال لأبي النضر المصري النحوي من قصيدة يذكر فيها رجلاً مدحه قال: وكان متسعاً في الشعر الجيد المستحسن:
ورأيت أحمدنا وسيدنا ... متصدراً للورد والصدر
خلت النجوم خلقن دائرة ... موصولة الطرفين بالقمر
محمد بن إسحاق الشابستيأبو عبد الله الشابستي صاحب خزنة كتب العزيز بن المعز بمصر والمتولي عرضها وكان من أهل الفضل والأدب. مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة للهجرة في أيام الحاكم بن العزيز، وله عدة تصانيف منها: كتاب الديارات، كتاب اليسر بعد العسر، كتاب مراتب الفقهاء، كتاب التوقيت والتخويف، كتاب مراسلات، كتاب ديوان شعره، كتاب في الزهد والمواعظ وقد اختلف في اسمه فرأيت أنا كتاب الدايات من تصنيفه وهو مترجم، محمد بن إسحاق كما ترى. ونقل لي بمصر بعض من اختبرت صحة نقله أنه: أبو الحسن علي بن أحمد والله أعلم.
محمد بن إسحاق النديمكنيته أبو الفرج، وكنية أبيه أبو يعقوب، مصنف كتاب الفهرست الذي جود فيه، واستوعب استيعاباً يدل على اطلاعه على فنون من العلم وتحققه لجميع الكتب، ولا أبعد أن يكون قد كان وراقاً يبيع الكتب، وذكر في مقدمة هذا الكتاب أنه صنف في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وله من التصانيف: فهرست الكتب، كتاب التشبيهات. وكان شيعياً معتزلياً.
محمد بن إسحاق بن علي بن داودابن حامد أبو جعفر القاضي الزوزني البحاثي، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي وأنه مات بغزنة سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقال: هو أحد الفضلاء المعروفين جداً وهزلاً، والفائق أهل عصره ظرفاً وفضلاً، والتعصب لأهل السنة المخصوص بخدمة البيت الموفقي، المحترم بين الأئمة والكبار لفضله مرة، وللتوقي من حماة لسانه وعقارب هجائه ثانية. ولقد رزق من الهجاء في النظم والنثر طريقة لم يسبق إليها، وما ترك أحداُ من الكبراء والأئمة والفقهاء وسائر الأصناف من الناس إلا هجاه ووقع فيه، فكان الكل يتترسون باحترامه وإيوائه عن سهام هجائه.

قال عبد الغافر: وكان صديق والدي من البائتين عنده في الأحايين، والمقترحين عليه ما يشتهيه من الطبائخ والمطعومات، سمعته رحمه الله يحكي عنه أحواله وتهتكه واشتغاله في جميع الأحوال بما لا يليق بالعلماء والأفاضل، ولكنه كان يحتمل عنه اتقاء لسانه، ومما حكاه لي رحمه الله أنه قال: ما وقع بصري قط على شخص إلا تصور في قلبي هجاؤه قبل أن أكلمه وأجربه أو أخبر أحواله. وحكى لي بعض من أثق به أنه قال: لم يفلت أحد من هجائي إلا القاضي الإمام صاعد بن محمد رحمه الله، فإني كنت قد وزرت في نفسي أن أهجوه، فحيث تأملت في حسن عبادته وكمال فضله ومرضي سيرته استحييت من الله تعالى، وتركت ما أجلته في فكري. على أني سمعت فيما قرع سمعي تشبيباً منه بشيء من ذلك عفا الله عنه، ولقد خص طائفة من الأكابر والعلماء بوضع التصنيف فيهم ورميهم بما برأهم الله عز وجل عنه، وبلغ في الإفحاش وأغرق في قوس الإيحاش وأظهر النسك بين الناس وأغرب في فنون الهجاء، وأتى بالعبارات الرشيقة والمعاني الصحيحة من حيث الصنعة، وإن كانت عن آخرها أوزاراً وآثاماً وكذباً وبهتاناً، واتفق الأفاضل على أنه أهجى أهل عصره من الفضلاء، وأفتقهم شتماً قبيحاً، وتعريضاً وتصريحاً، وكان يسكن مدرسة السيوري بباعذراً، ويخص جماعة سكانها من الأئمة في عصره بالهجاء، وله معهم ثارات وأحوال يطول ذكرها، ثم مع تبحره وانفراده بفن الهجاء كان له شعر في الطبقة العليا في المدح والثناء وسائر المعاني، قصائده الغر في السادة والأئمة مشهورة، ومقطعاته في الغزل مأثورة، وكان ينسخ كتبالأدب بخط مقروء صحيح أحسن النسخ، ولقد رأيت نسخة من كتاب يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي في خمس مجلدات بخطة المليح بيعت بثلاثين ديناراً نيسابورية وكانت تساوي أكثر من ذلك، ولقد كتب نسخة غريب الحديث لأبي سليمان الخطابي وقرأها على جدي الشيخ عبد الغافر ابن محمد الفارسي قراءة سماع، وعلى الحاكم الإمام أبي سعد ابن دوست قراءة تصحيح وإتقان أقطع على الله تعالى أن لم يبق من ذلك الكتاب نسخة أبين ولا أملح منها، وهي الآن برسم خزانة الكتب الموضوعة في الجامع القديم موقوفة على المسلمين، ومن أراد صدقي في ادعائي فليطالعه منها، ولم أظفر من مسموعاته في الأحاديث بشيء يمكنني أن أودعه هذا الكتاب مع أني لا أشك في سماعه، ولقد ذكر الحافظ أنه روى عنه خاله أبي الحسن هارون الزوزني عن أبي حاتم بن حيان ولم يقع إلى بعد، ومن شعره في بعض الأكابر:
يرتاح للجد مهتزاً كمطرد ... مثقف من رماح الخط عسال
فمرة باسم عن ثغر برق حياً ... وتارة كاشف عن ناب رئبال
فما أسامة مطروراً براثنه ... ضخم الجزارة يحمي خيس أشبال
يوماً بأشجع مه حشو ملحمة ... والحرب تصدع أبطالاً بأبطال
ولا خضارة صخاباً غواربه ... تسمو أواذيه حالاً على حال
أندى واسمح منه إذ يبشره ... مبشوره برواد ونزال
إلى غير ذلك من أمثاله إلى تمام القصيدة، وله:
وذي شنب لو أن جمرة ظلمه ... أشبهها بالجمر خفت به ظلما
فبضت عليه حالياً واعتنقته ... فأوسعني شتماً وأوسعته لما
ومن شعره يصف البرد:
متناثر فوق الثرى حباته ... كثغور معسول الثنايا أشنب
برد تحد من ذرى صخابة ... كالدر إلا أنه لم يثقب
قال عبد الغافر: واقتصرت على هذا النموذج من كلامه مخافة الإملال، ومن أراد المزيد عليه فديوان شعره هزلاً وجداً موجود، والله يغفر له ويعفو عنه.
قال المؤلف: ولم أر من تصانيف البحاثي هذا شيئاً إلا شرح ديوان البحتري، ولعمري إن هذا شيء ابتكره، فإني ما رأيت هذا الديوان مشروحاً، ولا تعرض له أحد من أهل العلم ولا سمعت أحداً قال: إني رأيت ديوان أبي عبادة البحتري مشروحاً، وتأملته فرأيته قد ملئ علماً وحشي فهماً، وذاك أن شروح الدواوين المعرفة كأبي تمام والمتنبئ وغيرهما تساعدت القرائح عليها، وترافدت الهمم إليها، وما أرى له فيما اعتمده من شرح هذا الكتاب عمدة إلا أن يكون كتاب عبث الوليد للمعري، وكتاب الموازنة للآمدي لا غير. وقد ذكر البحاثي هذا أبو منصور الثعالبي في تتمة يتيمة الدهر بما أنا ذاكره إن شاء الله.

قال أبو منصور: أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي زينة زوزن، وطرف الطرف، وريحان الروح، يقول في هجاء لحيته الطويلة:
يا لحية قد علقت من عارضي ... لا أستطيع لقبحها تشبيهاً
طالت فلم تفلح ولم تك لحية ... لتطول إلا والحماقة فيها
إني لأظهر للبرية حبها ... والله يعلم أنني أقليها
ويقول في ذم خال على وجه بعض من يهجوه:
أبو طاهر في الشؤم واللؤم غاية ... بعيد عن الإسلام والعقل والدين
على وجهه خال قريب من انفه ... كمثل ذباب واقع فوق سرقين
وله:
ينيكون غزلان الحسان ولا أرى ... غزالاً من الغزلان فرداً بساحتي
فمن يك قد لاقى من النيك راحة ... ففي راحتي أنسي ورفقي وراحتي
وله:
ولما رأيت الفقر ضربة لازب ... ولم يك لي في الكف عقد على نقد
ولا لي غلام قد يناك ولم يكن ... سبيل إلى الترك المكحلة الجرد
شريت قبيحاً من بني الهند أسوداً ... ونيك الهنود السود خير من الجلد
وله أيضاً يهجو:
فسوي وضرطي والخرا مائعاً ... على الذي مقلوبه فسوى
من خلقه أقبح من خلقه ... وجحره أوسع من دلوى
وله:
تعود هتك الستر نسوان سكبر ... وجئن لباس الفسق من أحسن الكسا
وطرن سروراً حين لقبن سكبراً ... فسكبر إذ قلبته صار رب كسا
وللبحاثي في صفة دعوة:
سألونا عن قراه ... فاختصرنا في الجواب
كان فيه كل شيء ... بارداً غير الشراب
ومن خبيث شعره:
الحمد لله وشكراً على ... إنعامه الشامل في كل شيء
إن الذي لاعبني في الصبا ... مات ومن قد نكته بعد حي
نقلت من خط أبي سعد السمعاني عن رجل، عن أسعد بن محمد العتبي قال: حكى أبو جعفر البحاثي أن أبا بكر الصيفي كان يختلف معنا إلى الحاكم أبي سعد بن دوست وكان من أنجب تلامذته نظماً ونثراً، فاختطف في ريعان شبابه ونضارة عمره فرأيته في المنام ليلة قلت: ما وجدت من أشعارك شيئاً يكون لي تذكرة فقال: ليس لي شعر. فقلت: ألست القائل؟:
باكر أبا بكر بكاس ... ما بين إبريق وطاس
فقال: وأنا أقول:
حل الخطوب بساحتي ... لا كنت أيتها الخطوب
غادرتنا فغدرت إ ... ن الدهر خداع خلوب
دنيا تقضت لم يكن ... لي في أطايبها نصيب
قال: فانتبهت وأشعلت السراج وكتبت عنه هذه الأبيات. حكى يعقوب بن أحمد النيسابوري أن القاضي البحاثي دخل على أبي سعد بن دوست فانشده:
ليت شعري إذا خرجت من الدن ... يا فأصبحت ساكن الأجداث
هل يقولن إخوتي بعد موتي ... رحم الله ذلك البحاثي؟
فلما مات البحاثي قال فيه أبو سعد بن دوست:
يا أبا جعفر بن إسحاق إني ... خانني فيك نازل الأحداث
من هوى من مصاعد العز قسراً ... يك تحت الرجام في الأجداث
فلك اليوم من قواف حسان ... سرن في المدح سيرها في المراثي
مع كتب جمعن في كل فن ... حين يروين ألف باك وراثي
قائل كلها بغير لسان ... رحم الله ذلك البحاثي
وذكر محمد بن محمود النيسابوري في كتاب سر السرور: أن شعر البحاثي على نيف عشرين ألف بيت وأنه وقف عليه في تسع مجلدات، فانتخبت من ذلك المنتخب في هذه الورقة:
بأبي من عند لثمي ... زاد في عشقي بشتمه
ومضى يبكي ويمحو ... أثر اللثم بكمه
وله مثله:
بليت بطفل قل طائل نفعه ... سوى قبل يزرى بها طول منعه
ويمسحها من عارضيه بكمه ... ويغسلها عن وجنتيه بدمعه
يكاشفني إن لاح شخصي بعينه ... ويغتابني إن مر ذكري بسمعه
ولم أجد له في غير الهجاء السخيف شيئاً استحسنته، قال يهجو:
ألا إن هذا البيهقي محدث ... مسيلمة الكذاب في جنبه ملك
ففي وجهه قبح وفي قلبه عمى ... وفي نطقه كذب وفي دينه حلك

لو ابن معين كان حيا لجاءه ... بالسلح الكلب لحيته دلك
فلا تعجباً إن مد في عمر مثله ... ويهلك أهل الفضل إذ خرف الفلك
وله:
مأتم الشيخ مأنس للكرام ... جئته قاضياً لحق الحمام
مع حزن يحكي حزين الأغاني ... وبكاء يحكي بكاء الحمام
كجهام الغمام جفناً ووجهاً ... مكدي الدمع واري الابتسام
وكان البارع الزوزني عرضة لأهاجيه وغرضاً لطعان قوافيه، وكان يلقبه بالباعر ويدعى أنه افترسه ظبياً غريراً وافترشه بدراً منيراً، فلما التحى أنكر صحبته، ونبذ وراء ظهره مودته، فمن ذلك:
كان البويعر بدراً في حداثته ... ما كان أحسنه وجهاً وأبهاه
والطيب اجمع فيما تحت مئزره ... والسحر ما بثه في الناس عيناه
ربيته وهو في حجري ألاعبه ... نهاره وفراشي كان مأواه
أفيده من جنايا العلم أحسنها ... واستفيد لذيذاً من جنى فاه
حتى إذا ما عشا جلد استه وغدا ... مشعراً ودجا واسود قطراه
وصار كلباً وخنزيراً وزوبعة ... وغول قفر يميت الإنس لقياه
أنشأ يمزق عرضي منكراً أدبي ... وليس يحسن إلا ما أفدناه
إن كان ينكر ما قدمت من أدبي ... فليس ينكر أيرى شم مفساه
لو لم تغير صروف الدهر صورته ... لكان مغفورة عندي خطاياه
وله في السخف أبيات وله:
إني لمرزوق من الناس إذ ... أصبحت من أحذق حذاقهم
ما ذاك من فضل ولكنني ... أخالق الناس باخلاقهم
محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن محمدابن مكيال أبو جعفر الميكالي، قد استوفينا هذا النسب في باب أبي الفضل عبد الله بن أحمد فأغنى، وكان أبو جعفر أديباً شاعراً لغوياً فقيهاً، مات في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكان قد تفقه على قاضي الحرمين أبي الحسين، وعقد له المجلس الإملاء سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، سمع منه الحاكم أبو عبد الله بن البيع الحافظ.
محمد بن إسماعيل النحويأبو عبد الله يعرف بالحكيم من أهل قرطبة، سمع محمد بن وضاح، ومحمد بن عبد السلام الخشني، ومطرف بن قيس، وعبد الله ابن مسرة، ومحمد بن عبد الله بن الغاز، وكان عالماً بالنحو والحساب دقيق النظر، مثيراً للمعاني الغامضة مؤكداً لها، لا يتقدمه أحد في ذلك، وعمر إلى أن بلغ ثمانين عاماً وأدب الحكم المستنصر، وتوفي لعشر خلون من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ونسلة انقرض.
محمد بن إسماعيل بن زنجيأبو عبد الله الكاتب، له نباهة وذكر في أيام المعتضد وإلى آخر أيام الراضي، وكان من جلة الكتاب ومشايخهم، معروف بجودة الخط، وله تصانيف: منها كتاب الكتاب والصناعة، وكتاب رسائله. قال ابن بشران: مات محمد ابن إسماعيل المعروف بزنجي الكاتب الأنباري في شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان متقدماً في كتاب الإنشاء والرسائل والكلام حسن المجلس، وله أخبار كثيرة حسنة.
محمد بن بحر الرهنيأبو الحسين الشيباني والرهني بالراء المهملة والنون منسوب إلى رهنة: قرية من قرى كرمان، وكان يسكن نرماسير من أرض كرمان، وهو يكنى أبا الحسين شيباني الأصل، معروف بالفضل والفقه. قال ابن النحاس في كتابه قال بعض أصحابنا: إنه كان في مذهبه ارتفاع وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين قيل.

قال شيخنا رشيد الدين: كان لقناً حافظاً يذاكر بثمانية آلاف حديث غير أنه كثر حفظه، وتتبع الغرائب فعمر، ومن طلب غرائب الحديث كذب. قال: ووقفت على كتابة البدع فما أنكرت فيه شيئاً وعند الله علمه. وكان عالماً بالأنساب وأخبار الناس شيعي المذهب غالياً فيه، وله تصانيف منها: كتاب سماه كتاب نحل العرب يذكر فيه تفرق العرب في البلاد في الإسلام، ومن كان منهم شيعياً ومن كان منهم خارجياً أو سنياً فيحسن قوله في الشيعة ويقع فيمن عداهم. وقفت على جزء من هذا الكتاب ذكر فيه نحل أهل المشرق خاصة من كرمان وسجستان وخراسان وطبرستان، وذكر فيه أن له تصنيفاً آخر سماه كتاب الدلائل على نحل القبائل، وذكر فيه أعني كتاب النحل: أخبرني ابن المحتسب ببغداد في درب عبدة بالحربية قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز قال: أخبرني المدائني علي بن محمد بن أبي سيف عن سلمة بن سليمان المغني وغيره، فذكر قصة الملبد بن يزيد عن عون بن حرملة بن بسطام بن قيس بن حارثة بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان الخارج في أيام المنصور شارياً بالجزيرة حتى قتل.
وقال في موضع آخر: حدثنيسعد بن عبد الله بن أبي خلف قال: حدثني أبو هاشم الجعفري وقال فيه: حدثني النوفلي علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أبيه وقال فيه: سمعت أحمد بن محمد بن كيسان النحوي وأنا أقرأ عليه كتاب سيبويه يقول: لم يجئ على فعل إلا أربعة أسماء: البقم: هي الخشبة التي يصبغ بنها وهي معروفة، وشلم: اسم بيت المقدس بالنبطية. وبذر: وهو اسم ماء من مياه العرب. قال كثير:
سقى الله أمواهاً عرفت مكانها ... جراباً وملكوماً وبذر والغمرا
وخصم: اسم للعنبر بن عمرو بن تميم.
محمد بن بكر البسطاميلا أعرف من حاله إلا ما ذكره حمزة الأصبهاني وقد ذكر الخليل وغيره ثم قال: وصنف بالأمس محمد بن بكر البسطامي كتاباً على كتاب محمد بن الحسن بن دريد المسمى الجمهرة وقال: كان السبب لوضعي هذا الكتاب تطرفي الكتاب المسمى كتاب الياقوتة، وأن مصنفه حشا أكثر الكتاب بما ينطق به العرب وعزاه إلى ثعلب، وقد طلبنا ما ادعى من ذلك على العرب في المصنفات فلم نجده ثم سألنا عنه أصحاب ثعلب فلم يعرفوه، والذي صنف هذه الكتب لم يقم ما أودعه شاهداً ولا ودليلاً من القرآن أو الحديث أو المثل، ولا نما فيما رواه إلا إلى: أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي، فتمت له رواية تلك الأباطيل بين قوم لم يطالبوه بدليل وظنوا أنه فيها مصيب، ثم ذكر كتاب العين وأنه من تصنيف تلاميذ الخليل كما ذكرته في ترجمة الخليل.
محمد بن ثابتبن محمد بن سوار بن علوان النمري الأصبهاني أبو بكر إمام الجامع بأصبهان في باب كوشك، وذكره يحيى بن مندة فقال: كان سنياً فاضلاً من الناس بارعاً في الأدب شاعراً فصيحاً كثير السماع قليل الرواية، مسكنه في درب البخاري، روى عن عبد الله بن محمد ابن محمد بن فورك، وأبي بكر محمد إبراهيم بن المقرئ وأحمد بن عبد الله النهرديري، كتب عنه عمي الإمام وجماعة رحمهم الله.
محمد بن تميم أبو المعاني البرمكياللغوي، له كتاب كبير في اللغة سماه المنتهي في اللغة منقول من كتاب الصحاح للجوهري، وزاد فيه أشياء قليلة وأغرب في ترتيبه، إلا أنه والجوهري كانا في عصر واحد، لأني وجدت كتاب الجوهري بخطه وقد فرغ منه سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وذكر البرمكي في مقدمة كتابه، أنه صنفه في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، ولا شك أن أحد الكاتبين منقول من الآخر نقلاً، والذي أشك فيه أن البرمكي نقل كتاب الصحاح، لأن أبا سهل محمد بن علي الهروي كان بمصر وحكى عن البرمكي، وقد روى الهروي الصحاح عن ابن عبدوس، ولعل الكتاب خرج عن الجوهري وهو حي وقدم به إلى مصر.
محمد بن بحر الأصفهانيالكاتب، يكنى أبا مسلم، كان كاتباً مترسلاً بليغاً متكلماً جدلاً، مات فيما ذكره حمزة في تاريخه في آخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح يشتاقه ويصفه.

وقال أبو علي التنوخي وقد ذكر محمد بن زيد الداعي فقال: وهو الذي كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني الكاتب المعتزلي العالم بالتفسير وبغيره من صنوف العلم، قد صار عامل أصبهان وعامل فارس للمقتدر يكتب له ويتولى أمره. ذكره محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب: كتاب جامع التأويل لحكم التنزيل على مذهب المعتزلة أربعة عشر مجلداً، كتاب جامع رسائله كتاب حمزة كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب في النحو، وسمي حمزة كتابه في القرآن شرح التأويل. وكان ابن أبي البغل ولي في سنة ثلاثمائة ديوان الخراج والضياع بأصبهان وهو ببغداد، فورد كتابه على أبي مسلم بن بحر بأن يخلفه على ديوان الضياع بها، ثم ورد ابن أبي البغل إلى أصبهان فأقره على خلافته، ثم مات أبو علي محمد بن رستم في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة فرتب مكانه أبو مسلم بن بحر وذلك في شوال، ثم ورد على بن بويه في خمسمائة فارس فهزم المظفرين بن ياقوت في خمسة آلاف فارس، ودخل ابن بويه أصبهان في منتصف ذي القعدة فعزل أبو مسلم. نقلت من كتاب أصفهان قال: وقال أبو مسلم في أبيات بالفارسية لأبي الأشعث القمي:
يا للشباب وغصنه النضر ... والعيش في أيامه الزهر
لو دام لي عهد المتاع به ... وأمنت فيه حوادث الدهر
لكنه لي معقب هرماً ... وهو النذير بآخر العمر
قال: وقال في أبي المعمر:
هل أنت مبلغ هذا القائد البطل ... عني مقالة طب غير ذي خطل
إن كنت أخطأت قرطاساً عمدت له ... فأنت في رمي قلبي من بني ثعل
قال: ودخل يوماً إلى دار أخيه أحمد بن بحر فرأى معه دفتراً على ظهره أبيات نصر بن سيار، وذاك عند ما بيض ما كان بن كاكي الديلمي ووردت خيله قم، وأبيات نصر:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
وإن النار بالزندين تورى ... وإن الحرب يقدمه الكلام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام؟
فكتب أبو مسلم تحتها:
أرى ناراً تشب بكل واد ... لها في كل منزلة شعاع
وقد رقدت بنو العباس عنها ... وأضحت وهي آمنة رتاع
كما رقدت أمية ثم هبت ... لتدفع حين ليس بها دفاع
ولما مات قال فيه علي بن حمزة بن عمارة الأصبهاني يرثيه:
وقالوا ألا ترثى ابن بحر محمداً ... فقلت لهم ردوا فؤادي واسمعوا
فلن يستطيع القول من طار قلبه ... جريحاً قريحاً بالمصائب يقرع
ومن بان عنه إلفه وخليله ... فليس له إلا إلى البعث مرجع
ومن كان أوفى الأوفياء لمخلص ... ومن حيز في سرباله الفضل أجمع
سحاباً كماء المزن به الجني ... جنى الشهد في صفو المدام يشعشع
وغرب ذكاء واقد مثل جمرة ... وطبع به العضب المهند يطبع
ومن كان بيت الكتابة في الذرى ... وذا منطق في الحفل لا يتتعتع
وله
وقد كنت أرجو أنه حين يلتحي ... يفرج عني أو يجدد لي صبرا
فلما التحى واسود عارض وجهه ... تحول لي البلوى بواحدة عشرا
محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحدابن عبد الله السعيدي الصوفي، نقلت نسبه هذا من خط يده يكنى أبا عبد الله، مات في سنة عشرين وخمسمائة وقيل: إن مولده في سنة عشرين وأربعمائة، فيكون عمره على هذا مائة سنة. أحد فضلاء المصريين وأعيانهم المبرزين. أخذ النحو والأدب عن أبي الحسن بن بابشاذ فأتقنه، وله أيضاً معرفة حسنة بالأخبار والأشعار وكان يقول الشعر فيجيد. ومن قوله:
يا عنق الأبريق من فضة ... ويا قوام الغصن الرطب
هبك تخافيت واقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي؟
ومنه:
وإذا الصنيعة وافقت أهلالها ... دلت على توفيق مصطنع اليد
وله من الكتب: كتاب خطط مصر أجاد فيه، وله عدة تصانيف في النحو، كتاب الناسخ والمنسوخ فيما بلغني والله أعلم. وقال محمد بن بركات السعيدي يخاطب أبا القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت البوصيري الأنصاري:

فله أوامر من حجاه حكيمة ... وله زواجر من نهاه
يقظان من فهم لكل فضيلة ... بنباهة جلت عن الأشباه
علامة ما مشكل مستبهم خاف عن الأفهام عن أساه
محمد بن جرير بن يزيد بن كثيربن غالب أبو جعفر الطبري المحدث الفقيه المقرئ المؤرخ المعروف المشهور. مات فيما ذكره أبو بكر الخطيب يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن يوم الأحد بالغداة في دار برحبة يعقوب ولم يغبر شيبه، وكان السواد في شهره رأسه ولحيته كثيراً. ومولده سنة أربع أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين. وكان أسمر إلى الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان.
قال غير الخطيب: ودفن ليلاً خوفاً من العامة لأنه كان يتهم بالتشيع، وأما الخطيب فإنه قال: ولم يؤذن به أحد فاجتمع على جنازته من لا يحصى عددهم إلا الله، وصلى على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب.
قال وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وأحمد ابن منيع البغوي، وأحمد بن حميد الرازي، وأبا همام الوليد ابن شجاع، وأبا كريب محمد بن العلاء، وعدد خلقاً كثيراً من أهل العراق والشام ومصر. وحدث عنه أحمد بن كامل القاضي وغيره، واستوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته. قال: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله عز وجل، عارفاً بالقرآن بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها وصحيحيها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أرسواه في معناه لم يتممه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة قال: وقال أبو حامد الإسفرايني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً، أو كلاماً هذا معناه.
وحدث عن القاضي أبي عمر عبيد الله بن أحمد السمسار وأبي القاسم بن عقيل الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ثم قال تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك فقال: إنا الله ماتت الهمم، فاختصر في نحو مما اختصر التفسير.
وحدث فيما أسنده إلى أبي بكر بن بالويه قال: قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق يعني ابن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت تعم، كتبنا التفسير عنه إملاء، قال كله؟ قلت نعم، قال في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. قال: فاستعاره مني أبو بكر ورده بعد سنين ثم قال: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة قال: وكانت الحنابلة تمنع ولا تترك أحداً يسمع عليه، وأنشد محمد بن جرير:
إذا أعسرت لم أعلم رفيقي ... وأستغني فيستغني صديقي
حياتي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي ... لكنت إلى الغنى سهل الطريق
وأنشد أيضاً:
خلقان لا أرضى طريقهما ... تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر
وحدث فيما أسنده إلى محمد بن جرير قال: كتب إلى أحمد بن عيسى العلوي من بلد:
ألا إن إخوان الثقات قليل ... فهل لي إلى ذاك القليل سبيل؟
سل الناس تعرف غثهم من سمينهم ... فكل عليه شاهد ودليل
قال أبو جعفر فأجبته:
يسئ أميري الظن في جهد جاهد ... فهل لي بحسن الظن منه سبيل؟

تأمل أميري ما ظننت وقلته ... فإن جميل القول منك جميل
هذا آخر ما نقلته من تاريخ أبي بكر.
وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصلة، وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار منها على كل يوم أربع عشر ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق. وفرغ من تصنيف كتاب التاريخ ومن عرضه عليه في يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثمائة وقطعه على آخر سنة اثنتين وثلاثمائة. وجدت على جزء من كتاب التفسير لابن جرير بخط الفرغاني، ما ذكر فيه قطعة من تصانيف ابن جرير فنقلته على صورته لذلك وهو: قد أجزت لك يا علي بن عمران، وإبراهيم بن محمد ما سمعته من أبي جعفر الطبري رحمه الله من كتاب التفسير المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن، وكتاب تاريخ الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، والقطعين من الكتاب ولم أسمعه وإنما أخذته إجازة، وكتاب تاريخ الرجال المسمى بذيل المذيل، وكتاب القراءات وتنزيل القرآن، وكتاب لطيف القول وخفيفه في شرائع الإسلام، وما سمعته من كتاب التهذيب من مسند العشرة، ومسند ابن عباس إلى حديث المعراج، وكتاب آداب القضاة والمحاضر والسجلات، وكتاب اختلاف علماء الأمصار فليرويا ذلك عني. وكتب عبد الله بن أحمد الفرغاني بخطه في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
وحدث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ في كتاب الإقناع في إحدى عشرة قراءة قال: كان أبو جعفر الطبري عالماً بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة إلا أنه كان بخطوط كبار، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها من المشهور ولم يكن منتصباً للإقراء، ولا قرأ عليه أحداً إلا آحاد من الناس كالصفار شيخ كان ببغداد من الجانب الشرقي يروي عنه رواية عبد الحميد بن بكار عن ابن عامر. وأما القراءة عليه باختياره فإني ما رأيت أحداً أقرأ به غير أبي الحسين الجبي وكان ضنيناً به، ولقد سألته زماناً حتى أخذ علي به قال: وترددت إلى أبي جعفر نحواً من سنة أسأله ذلك زماناً حتى أجرمت عليه وسألته وكنت قد سمعت منه صدراً من كتبه فأخذه علي على جهته وقال: لا تنسبها إلي وأنا حي، فما أقرأت بها أحداً حتى مات رحمه الله في شوال سنة عشر وثلاثمائة.
وقال أبو الحسين الجبي: ما قرأ عليه به إلا اثنان وأنت ثالثهم، ولا قرأ عليه أحد إلى أن مات سنة ثمانين وثلاثمائة. وقرأت بخط أبي سعد بإسناده رقعة إلى أبي العباس البكري من ولد أبي بكر الصديق قال: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونهم، وأضربهم الحال فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أن يستهموا، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق عليهم فأجابوه وفتحوا له الباب فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً ودفعها إليه وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين ديناراً ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق ابن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً ثم قال: إن الأمير كان قائلاً فرأى في النوم خيالً أو طيفاً يقول له: إن المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.
قال المؤلف: وقد ذكر أبو بكر الخطيب هذه الحكاية في ترجمة محمد بن حرب إلا أنني نقلتها من كتاب السمعاني وسأله يوماً سائل عن نسبه فقال: محمد بن جرير. فقال السائل: زدنا في النسب، فأنشده لرؤبة:
قد رفع العجاج ذكري فادعني ... باسمي إذا الأنساب طالت يكفني

قال القاضي ابن كامل: كان مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين، أو أول خمسة وعشرين ومائتين. قال ابن كامل: فقلت له: كيف وقع لك الشك في ذلك؟ فقال: لأن أهل بلدنا يؤرخون الأحداث دون السنين، فأرخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع. وقال آخرون: بل كان في أول سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان مولده بآمل طبرستان، وهي قصبة طبرستان.
قال أبو جعفر: جئت إلى أبي حاتم السجستاني وكان عنده حديث عن الأصمعي عن أبي زائدة عن الشعبي في القياس فسألته عنه فحدثني به. وقال لي أبو حاتم: من أي بلد أنت؟ فقلت: من طبرستان. فقال: ولم سميت طبرستان؟. فقلت: لا أدري. فقال لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضاً ذات شجر فالتمسوا ما يقطعون به الشجر، فجاؤوهم بهذا الطبر الذي يقطع به الشجر فسمى الموضع به.
وقال أبو بكر بن كامل: جئت إلى أبي جعفر قبل المغرب ومعي ابني أبو رفاعة وهو شديد العلة، فوجدت تحت مصلاه كتاب فردوس الحكمة لعلي بن زين الطبري سماعاُ له، فمددت يدي لأنظره، فأخذه ودفعه إلى الجارية وقال لي: هذا ابنك؟ فقال: قلت نعم. قال: ما اسمه؟ قلت عبد الغني. قال: أغناه الله وبأي شيء كنيته؟ قلت بأبي رفاعة. قال: - رفعه الله - أفلك غيره؟ قلت: نعم، أصغر منه. قال: وما اسمه؟ قلت عبد الوهاب أبو يعلى: قال - أعلاه الله - : لقد اخترت الكني والأسماء، ثم قال لي: كم لهذا سنة؟ قلت: تسع سنين. قال لم لم تسمعه مني شيئاً؟. قلت كرهت صغره وقلة أدبه. فقال لي: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه. فقال له المعبر: إنه كبر نصح في دينه وذب عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
قال ابن كامل: فأول ما كتب الحديث ببلده ثم بالري وما جاورها وأكثر من الشيوخ حتى حصل كثيراً من العلم وأكثر من محمد بن حميد الرازي، ومن المثنى بن إبراهيم الأبلي وغيرهم.
قال أبو جعفر: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات ويسألنا عما كتبناه ويقرؤه علينا قال: وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي وكان في قرية من قرى الري بينها وبين الري قطعة، ثم نعدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه. وكتب عن أحمد بن حماد كتاب المبتدأ، والمغازي عن سلمة بن المفضل عن محمد بن إسحاق وعليه بني تاريخه. يقال: إنه كتب عن ابن حميد فوق مائة ألف حديث.
قال أبو جعفر: كان يقرأ علينا ابن حميد من التفسير، فإذا بلغ إلى قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك)، قال: أويخرجوك. ثم دخل أبو جعفر إلى مدينة السلام وكان في نفسه أن يسمع من أبي عبد الله أحمد بن حنبل فلم يتفق ذلك لموته قبيل دخوله إليها، وقد كان أبو عبد الله قطع الحديث قبل ذلك بسنين، فأقام أبو جعفر بمدينة السلام وكتب عن شيوخها فأكثر، ثم انحدر إلى البصرة فسمع من كان بقي من شيوخها في وقته كمحمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد ابن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بم معاذ، وأبي الأشعث، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المعني وغيرهم فأكثر، وكتب في طريقه عن شيوخه الواسطيين، ثم صار إلى الكوفة فنكتب فيها عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمذاني، وهناد بن السري وإسماعيل بن موسى، وغيرهم. وكان أبو كريب شرس الخلق من كبار أصحاب الحديث.
قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث فاطلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجون فقال: أيكم بحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلي وقالوا: أنت يحفظ ما كتبت عنه؟ قال: قلت نعم. فقالوا: هذا فسله. فقلت: حديثنا في كذا بكذا، وفي يوم كذا بكذا.

قال: واخذ أبو كريب في مسألته إلى أن عظم في نفسه فقال له: أدخل إلي، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته ومكنه من حديثه، وكان الناس يسمعون به فيقال: إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، ثم عاد إلى مدينة السلام فكتب بها ولزم المقام بها مدة وتفقه بها وأخذ في علوم القرآن. وقال رجل لأبي جعفر: إن أصحاب الحديث يختارون فقال: ما كنا نكتب هكذا كتبت مسند يعقوب بن إبراهيم الدورقي وتركت شيئاً منه ولم أعلم ما كتبت منه ثم رجعت لأضع الحديث موضعه وأصنفه، فبقى علي حديث كثير مما كتبته وطال علي ما فاتني، وكتبت المسند كله ثانياً، والناس يختارون، فربما فاتهم أكثر ما يحتاجون إليه أو نحو هذا الكلام. ثم غرب فخرج إلى مصر وكتب في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها، ثم صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم ثم عاد إلى الشام ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن على بن سراج المصري، وكان متأدباً فاضلاً في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه، وتعرض له فوافي أبو جعفر إلى مصر، وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه الحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن بن سراج فوجده فاضلاً في كل ما يذاكره من العلم، ويجيب في كل ما يسأله عنه حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلاً بارعاً فيه، فسأله عن شعر الطرماحوكان من يقوم به مفقوداً في البلد فإذا هو يحفظه، فسئل أن يمليه حفظاً بغريبة، فعهدي به وهو يمليه عند بيت المالفي الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني فتكلما في أشياء منها الكلام في الإجماع، وكان أبو جعفر قد أختار من كذاهب الفقهاء قولاً اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في المدينة السلام على مذهب الشافعي رضى الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ودرسه في العراق على جماعة منهم: أبو سعيد الإصطخري وغيره وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط. وقال أبو بكر بن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن تقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمر بن العلاء الكبير فوجدنا نتناظر في: بسم الله الرحمن الرحيم، مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا؟ وكان المجلس حفلاً بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي. فقال لي: كسائي فيم أنتم؟ فعرفته فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت على مذهب أبي جعفر الطبري. فقال رحم الله أبا جعفر، حديثاً بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم اخذ أبو بكر بن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه؟ والشافعيون حضور يسمعونه ولم يذكر مما جرى بينهما شيئاً. قال أبو بكر بن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني فلم يذكرها لأنه كان افضل من أن يرفع نفسه وأن يذكر ظفره على خصم في مسألة، وكان أبو جعفر يفضل المزني فيطريه ويذكر دينه وقال: جفاني بعض أصحابه في مجلسه فانقطعت عنه زماناً ثم إنه لقيني فاعتذر إلي كأنه قد جنى جناية ولم يزل في ترققه وكلامه حتى عدت إليه. وبلغنا أنه سئل بالفسطاط أن يرد على مالك في شيء فرد عليه في شيء كان الكلام فيه لابن عبد الحكم وكانت أجزاء ولم تقع في أيدينا، ولعله مما منع الخصوم نشره. وقال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة ست وخمسين ومائتين نزلت على الربيع بن سليمان فأمر من يأخذ لي داراً قريبة منه وجاءني أصحابه فقالوا: تحتاج إلى قصرية وزير وحمارين وسدة. فقلت: أما القصرية فأنا لا ولد لي، وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط، وأما الزير فمن الملاهي وليس هذا من شأني، وأما الحماران فإن أبي وهب لي بضاعة أنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن حمارين فبأي شيء اطلب العلم؟. قال: فتبسموا فقلت: إلى كم تحتاج هذا؟ فقالوا يحتاج إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني بإجانه وحب للماء وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبر

والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفاً منها.الحماران والسدة تنام عليها من البراغيث فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفاً منها.
وقال هارون بن عبد العزيز: قال أبو جعفر: لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوماً رجل فسألني عن شيء من العروض ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: على قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض فإذا كان في غد فصر إلي، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد فجاء به، فنظرت فيه ليلتي فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضياً. ثم رجع إلى مدينة السلام وكتب أيضاً ثم رجع إلى طبرستان وهي الدفعة الأولى، ثم الثانية كانت في سنة تسعين ومائتين، ثم رجع إلى بغداد فنزل في قنطرة البردان واشتهر اسمه في العلم وشاع خبره بالفهم والتقدم.
قال عبد العزيز بن هارون: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضياً إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت يا أبا جعفر، ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد اله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثاً، وأغرب علي ثمانية عشر حديثاً قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر بن سهل الدينوري وكان من العلماء والحفاظ للحديث فحدثته بذلك فقال: كذب، والله الذي لا إله إلا هو لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي ودعا معه أهل العلم وكنت حاضراً ومعنا بان حمدان فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من الاختلاف فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه، وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء. فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به، وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثاً، وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثاً، وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر: هذا خطأ من جهة كذا، ومثلي لا يذاكر به فيخجل وينقطع. فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش.
فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف فقال: ما رأيته روى عنه ولا رأيت له أصحاباً يعول عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه. وكان قد كتب على بابه:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس
فأمر نازوك بمحو ذلك. وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
لأحمد منزل لا شك عال ... إذا وافى إلى الرحمن وافد
فيدينه ويقعده كريماً ... على رغم لهم في أنف حاسد
على عرش يفلغه بطيب ... على الأكباد من باغ وعاند
له هذا المقام الفرد حقاً ... كذاك رواه ليث عن مجاهد
فخلافي في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكره مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجده مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه أعني اختلاف الفقهاء، هكذا سمعت من جماعة منهم أبي - رحمه الله - .

وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحاً في علوم القرآن والقراءات وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك واختلاف الفقهاء مع الراوية، كذلك على ما في كتابه البسيط والتهذيب وأحكام القراءات من غير تعويل على المناولات والإجازات ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبراً عن حاله فيه. وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به، وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دل عليه كتابه في آداب النفوس، وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والإسلام ما لا يجهله إلا جاهل به. وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: قرأ علي أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عندي بمدة طويلة. وقال أبو بكر بن مجاهد: قال أبو العباس يوماً: من بقى عندكم؟ يعني في الجانب الشرقي ببغداد من النحويين؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ. فقال: حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه. فقال لي: ابن جرير؟ قلت: نعم، قال: ذاك من حذاق الكوفيين. قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه.
وقال عبد العزيز بن محمد: قنطرة البردان محفوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عبيد القاسم بن سلام، ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان فيها علان الأزدي ومسجده في الموضع معروف به، وكان بها أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان فاضلاً مسجده عند مسجد أبي عبد الله الكسائي، وكان بها أبو عبيد الله محمد بن يحيى الكسائي، وعنه انتشرت رواية أبي الحارث عن الكسائي، وقرأ عليه كبار الناس، ونزلها أبو جعفر الطبري وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون أبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطاً وافراً يدل عليه كلامه في الوصايا، وكان عازفاً عن الدنيا تاركاً لها ولأهلها يرفع نفسه عن التماسها، وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب وكان عالماً بالعبادات جامعاً للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلاً على غيرها. ومن كتبه: كتابه المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن.
قال أبو بكر بن كامل: أملي علينا من كتاب التفسير مائة وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل أبي جعفر الرستمي، وأبي حسن بن كيسان، والمفضل بن سلمة، والجعد، وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً وقرأه كل من كان في وقته من العلماء، وكل فضله وقدمه.
قال أبو جعفر: حدثني بن نفسي وأنا صبي. قال عبد العزيز ابن محمد الطبري: كان أبو عمر الزاهد يعيش زماناً طويلاً بمقابلة الكتب مع الناس. قال أبو عمر: فسألت أبا جعفر عن تفسير آية فقال: قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره فما وجدت فيه حرفاً واحداً خطأ في نحو ولا لغة. قال أبو جعفر: استخرت الله في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جسر ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفاً بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب.

وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟، وكتاب التفسير كتاب ابتدأه بخطبة، ورسالة التفسير تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والإعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير وفي وجوه تأويل القرآن وما يعلم تأويله وما ورد في جواز تفسيره وما حظر من ذلك والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وبأي الألسنة نزل؟ والرد على من قال: إن فيه أشياء من غير الكلام العربي وتفسير أسماء القرآن والسور وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفاً حرفاً فذكر أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من تابعي التابعين، وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين، وجملاً من القراءات واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه وأحكام القرآن والخلاف فيه والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد عليهم على مذاهب أهل الإثبات ومبتغى السنن إلى آخر القرآن، ثم أتبعه بتفسير أبي جاد وحروفها وخلاف الناس فيها، وما اختاره من تأويلها بما لا يقدر أحد أن يزيد فيه بل لا يراه مجموعاً لأحد غيره، وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وربما كان عنه في مواضع أكثر من ذلك، وعن قتادة بن دعامة ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود طريقاً، وتفسير عبد الرحمن بن زيد أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حيان سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يدخل في كتابه شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبي، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدي لأنهم عنده أظناء والله أعلم.
وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلا عنهم، وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي، ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء، ومن كتاب أبي الحسن الأخفش، ومن كتاب أبي علي قطرب وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كانوا هؤلاء هم المتكلمون في المعاني وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئاً من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه.
قال عبد العزيز بن محمد الطبري: وقد رأيت منه نسخة ببغداد تشتمل على أربعة آلاف ورقة. ومن كتبه: كتاب الفصل بين القراءة ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن وهو من جيد الكتب، وفصل فيه أسماء والقراء بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وغيرها، وفيه من الفصل بين كل قراءة فيذكر وجهها وتأويلها والدلالة على ما ذهب إليه كل قارئ لها، واختياره الصواب منها والبرهان على صحة ما اختاره مستظهراً في ذلك بقوته على التفسير والإعراب الذي لم يشتمل على حفظ مثله أحد من القراء، وإن كان لهم - رحمهم الله - من الفضل والسبق ما لا يدفع ذو بصيرة بعد أن صدره بخطبة تليق به، وكذلك كان يعمل في كتبه أن يأتي بخطبته على معنى كتابه فيأتي الكتاب منظوماً على ما تقتضيه الخطبة، وكان أبو جعفر مجوداً في القراءة موصوفاً بذلك يقصده القراء البعداء من الناس للصلاة خلفه يسمعون قراءته وتجويده.

وقال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد: - وقد كان لا يجري ذكره إلا فضله - : ما صنف في معنى كتابة مثله، وقال لنا: ما سمعت في المحراب أقرأ من أبي جعفر، أو كلاماً هذا معناه. قال ابن كامل: وكان أبو جعفر يقرأ قديماً لحمزة قبل أن يختار قراءته. وقال أبو عبد الله بن أحمد الفرغاني: قال لنا أبو جعفر: قرأت القرآن على سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وكان الطلحي قد قرأ على خلاد، وخلاد قرأ علي سليم بن عيسى، وسليم قرأ على حمزة، ثم أخذها أبو جعفر عن يونس بن عبد الأعلى عن علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. وقال ابن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد وقد ذكر فضل كتابه في القراءات وقال: إلا أني وجدت فيه غلطاً وذكره لي، وعجبت من ذلك مع قراءته لحمزة وتجويده لها، ثم قال: والعلة في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام لأنه بنى كتابه على كتاب أبي عبيد فأغفل أبو عبيد هذا الحرف فنقله أبو جعفر على ذلك.
وقال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو جعفر وصف لي قارئ بسوق يحيى فجئت إليه فتقدمت فقرأت عليه من أول القرآن حتى بلغت إلى قوله: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً)، فأعاد على فأعدته في كل قراءتي بين فيه الياءين، وهو يرد على إلى أن قلت له: تريد أكثر من تبيين الياءين بكسر الأولى فلم يدر ما أقول، فقمت ولم أعد إليه. قال: وكان عند أبي جعفر رواية ورش عن ناقع عن يونس بن عبد الأعلى عنه، وكان يقصد فيها فحرص - على ما بلغني - أبو بكر ابن مجاهد - مع موضعه في نفسه وعند أبي جعفر - أن يسمع منه هذه القراءة منفرداً فأبى إلا أن يسمعها مع الناس، فما أثر ذلك في نفس أبي بكر وكان ذلك كرهاً من أبي جعفر أن يخص أحداً بشيء من العلم، وكان في أخلاقه ذلك لأنه كان إذا قرأ عليه جماعة كتاباً ولم يحضره أحدهم لا يأذن لبعضهم أن يقرأ دون بعض، وإذا سأله إنسان في قراءة كتاب وغاب لم يقرئه حتى يحضر إلا كتاب الفتوى فإنه كان أي وقت سئل عن شيء منه أجاب فيه. وكتابه في القراءات يشتمل على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لأنه كان عنده عن أحمد بن يوسف الثعلبي عنه وعليه نبي كتابه. ومنها كتابه كتاب التاريخ الكبير المسمى بتاريخ الرسل والملوك وأخبارهم، ومن كان في زمن كل واحد منهم، بدأ فيه الخطبة المشتملة على معانيه ثم ذكر الزمان ما هو؟ ثم مدة الزمان على اختلاف أهل العلم من الصحابة وغيرهم والأمم المخالفة لنا في ذلك والسنن الدالة على ما اختاره من ذلك وهذا باب لا يندر وجوده إلا له.

قال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه وكان أفضل من رأيناه فهماً وعناية بالعلم ودرساً له: ولقد كان لعنايته بدرس العلم تعبي كتبه في جانب حائر ثم يبتدئ فيدرس الأول فالأول منها إلى أن يفرغ منها، وهو ينقلها إلى الجانب الآخر، فإذا فرغ منها عاد في درسها ونقلها إلى حيث كانت فقال يوماً: ما عمل أحد في تاريخ الزمان وحصر الكلام فيه مثل ما عمله أبو جعفر. قال: ولقد قال لي أبو الحسن بن المغلس يوماً وهو يذاكرنا شيئاً من العلم وفضل العلماء فقال: والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره، وذكر رجلاً كبيراً من أهل العلم. ثم ذكر أبو جعفر في التاريخ الكلام في الدلالة على ما حدث الزمان الأيام والليالي، وعلى أن محدثها الله عز وجل وحده، وذكر أول ما خلق وهو القلم وما بعد ذلك شيئاً شيئاً على ما وردت الآثار به، واختلاف الناس في ذلك. ثم ذكر آدم وحواء واللعين إبليس وما كان من نزول آدمٍ عليه السلام، وما كان بعده من أخبار نبي نبي ورسول رسول وملك وملك على اختصار منه كذلك إلى نبينا عليه السلام مع ملوك الطوائف وملوك الفرس والروم، ثم ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه وآباءه وأمهاته وأولاده وأزواجه ومبعثه ومغازيه وسراياه وحال أصحابه رضي الله عنهم، ثم ذكر الخلفاء الراشدين المهديين بعده، ثم ذكر ما كان من أخبار بني أمية وبني العباس في القطين المنسوب أحدهما إلى قطع بني أمية والثاني إلى قطع بني العباس وما شرحه في كتاب التاريخ، وإنما خرج ذلك إلى الناس على سبيل الإجازة إلى سنة أربع وتسعين ومائتين، ووقف على الذي بعد ذلك لأنه كان في دولة المقتدر، وقد كان سئل شرح القطعين، فلما سئل ذلك شرحه وسماه القطعين، وهذا الكتاب من الأفراد في الدنيا فضلاً ونباهة، وهو يجمع كثيراً من علوم الدين والدنيا، وهو نحو خمسة آلاف ورقة. ومنها كتابة المسمى بكتاب ذيل المذيل المشتمل على تاريخ من قتل أو مات من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم في حياته أو بعده على ترتيب الأقرب بالأقرب منه أو من قريش من القبائل، ثم ذكر موت من مات من التابعين والسلف بعدهم ثم الخالفين إلى أن بلغ شيوخه الذين سمع منهم وجملاً من أخبارهم ومذاهبهم، وتكلم في الذب عن ذوي الفضل منهم ممن رمى بمذهب هو برئ منه كنحو الحسن البصري وقتادة وعكرمة وغيرهم، وذكر صنف من نسب إلى ضعف من الناقلين ولينه، وفي آخره أبواب حسان من باب من حدث عنه الإخوة أو الرجل وولده ومن شهر بكنيته دون اسمه، أو باسمه دون كنيته، وهو من محاسن الكتب وأفاضلها يرغب فيه طلاب الحديث وأهل التواريخ، وكان خرج إملاءه بعد سنة ثلاثمائة وهو في نحو من ألف ورقة، ومنها كتابه المشهور بالفضل شرقاً وغرباً المسمى بكتاب اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم، ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي، وقد كان أولاً ذكر في كتابه بعض أهل النظر وهو عبد الرحمن بن كيسان، لأنه كان في الوقت الذي عمله ما كان يتفقه على مذهبه، فلما طال الزمان به وفقه أصحابه بسهو أسقطه من كتابه، وكان أول ما عمل هذا الكتاب - على ما سمعته يقول وقد سأله عن ذلك أبو عبد الله أحمد بن عيسى الرازي - : إنما عمله ليتذكر به أقوال من يناظره، ثم انتشر وطلب منه فقرأه على أصحابه، وقد كان محمد بن داود الأصبهاني لما صنف كتابه المعروف بكتاب الوصول إلى معرفة الأصول ذكر في باب الإجماع عن أبي جعفر الطبري: أن الإجماع عنده إجماع هؤلاء المقدم ذكرهم الثمانية النفر دون غيرهم تقليداً منه لما قال أبو جعفر: أجمعوا وأجمعت الحجة على كذا، ثم قال في تصدير باب الخلاف: ثم اختلفوا فقال مالك وقال الأوزاعي كذا وقال فلان كذا: إن الذين حكى عنهم الإجماع هم الذين حكى عنهم الاختلاف وهذا غلط من ابن داود، ولو رجع إلى كتابه في رسالة اللطيف وفي رسالة الاختلاف وما أودعه

كثيراً من كتبه من أن الإجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأياً ومأخوذاً جهة القياس، لعلم أن ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين. وكان أبو جعفر يفضل كتاب الاختلاف وهو أول ما صنف من كتبه وكان يقول كثيراً: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف، وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جود ذلك في كتاب اللطيف، ولئلا يتكرر كلامه في ذلك، وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها عند الكلام في الإجماع وأخبار الآحاد والعدول زيادات ليست في كتاب اللطيف، وشيئاً من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ. وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول وهو من جيد كتبه التي يعول عليها أهل مدينة السلام. وكان أبو جعفر مقدماً في علم الشروط قيماً به. ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبره رأي ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر بن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر اللطيف لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيراً في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر ثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب وهو من جيد الكتب وأحسنها وهو كالمنفرد فيه، ولا يظن ظان أن قوله: كتاب الطيف إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة. وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام وفي الإجماع وأخبار الآحاد والمراسيل والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل الخصوص والعموم والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان إلى غير ذلك مما تكلم فيه. ومن جياد كتبه: كتابه المعروف بكتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه كثير المسائل يصلح لتذكر العالم والمبتدئ المتعلم. ومنها كتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى عليه وسلم من الأخبار، وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته. من كتبه من أن الإجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأياً ومأخوذاً جهة القياس، لعلم أن ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين. وكان أبو جعفر يفضل كتاب الاختلاف وهو أول ما صنف من كتبه وكان يقول كثيراً: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف، وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جود ذلك في كتاب اللطيف، ولئلا يتكرر كلامه في ذلك، وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها عند الكلام في الإجماع وأخبار الآحاد والعدول زيادات ليست في كتاب اللطيف، وشيئاً من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ. وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول وهو من جيد كتبه التي يعول عليها أهل مدينة السلام. وكان أبو جعفر مقدماً في علم الشروط قيماً به. ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبره رأي ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر بن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر اللطيف لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيراً في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر ثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب وهو من جيد الكتب وأحسنها وهو كالمنفرد فيه، ولا يظن ظان أن قوله: كتاب الطيف إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة. وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام وفي الإجماع وأخبار الآحاد والمراسيل والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل الخصوص والعموم والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان إلى غير ذلك مما تكلم فيه. ومن جياد كتبه: كتابه المعروف بكتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه كثير المسائل يصلح لتذكر العالم والمبتدئ المتعلم. ومنها كتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى عليه وسلم من الأخبار، وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته.

قال أبو بكر بن كامل: لم أر بعد أبي جعفر أجمع للعلم وكتب العلماء ومعرفة اختلاف الفقهاء وتمكنه من العلوم منه، لأني أروض نفسي في عمل مسند عبد الله بن مسعود في حديث منه نظير ما عمله أبو جعفر فما أحسن عمله ولا يستوي لي.
ومن كتبه الفاضلة: كتابه المسمى بكتاب المسمى بكتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام، وهذا الكتاب قدم له كتاباً سماه كتاب مراتب العلماء حسناً في معناه، ذكر فيه خطبة الكتاب وحض فيه على طلب العلم والتفقه وغمز فيه على من اقتصر من أصحابه على نقله دون التفقه بما فيه. ثم ذكر فيه العلماء ممن تفقه مذهبه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم، ثم من أخذ عنهم ثم من أخذ عمن أخذ عنهم من فقهاء الأمصار. بدأ بالمدينة لأنها مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، ثم بمكة لأنها الحرم الشريف، ثم العراقين الكوفة والبصرة ثم الشام وخراسان، ثم خرج إلى كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكر في هذا الكتاب اختلاف المختلفين واتفاقهم فيما تكلموا فيه على الاستقصاء والتبيين في ذلك والدلالة لكل قائل منهم، والصواب من القول في ذلك، وخرج منه نحو ألفي ورقة. وأخرج من هذا الكتاب كتاب آداب القضاة وهو أحد الكتب المعدودة له المشهورة بالتجويد والتفضيل، لأنه ذكر فيه بعد خطبة الكتاب الكلام في مدح القضاة وكتابهم، وما ينبغي للقاضي إذا ولي أن يعمل به وتسليمه له ونظره فيه ثم ما ينقض فيه أحكام من تقدمه، والكلام في السجلات والشهادات والدعاوى والبينات وسيأتي ذكر ما يحتاج إليه الحاكم من جميع الفقه إلى أن فرغ منه وهو في ألف ورقة، وكان يجتهد بأصحابه أن يأخذوا البسيط والتهذيب ويجدوا في قراءتهما، ويشتغلوا بهما دون غيرهما من الكتب.
ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة، وربما سماه بأدب النفس الشريفة والأخلاق الحميدة، وربما زاد في ترجمته المشتمل على علوم الدين والفضل والورع والإخلاص والشكر والكلام في الرياء والكبر والتخاضع والخشوع والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ فيه بالكلام في الوسوسة وأعمال القلوب، ثم ذكر شيئاً كثيراً من الدعاء وفضل القرآن وأوقات الإجابة ودلائلها، وما روى من السنن وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك، وقطع الإملاء في بعض الكلام في الأمر بالمعروف والنهي والمنكر، وكان ما خرج منه نحو خمسمائة ورقة، وكان قد عمل أربعة أجزاء ولم يخرجها إلى الناس في الإملاء، ووقع ذلك إلى أبي سعيد عمر بن أحمد الدينوري الوراق، وخرج به إلى الشام فقطع عليه ولم يبق معه إلا جزءان فيهما الكلام في حقوق الله الواجبة على الإنسان في بصره والحقوق الواجبة في سمعه، وكان ابتدأ في سنة عشر وثلاثمائة، ومات بعد مديدة من قطعة الإملاء وكان يقول: إن خرج هذا الكتاب كان فيه جمال لأنه كان أراد أن يخرج بعد الكلام في الحقوق اللازمة للإنسان إلى ما يعيذنا منه من أهوال القيامة وشروطها وأحوال الآخرة وما ورد فيها وذكر الجنة والنار. ومما صنف وخرج: كتاب المسند المجرد، وقد كتب أصحابه الحديث الأكثر منه، وذكر فيه من حديثه عن الشيوخ ما قرأه على الناس. ومنها كتابه المسمى بكتاب الرد على ذي الأسفار يرد فيه على داود بن علي الأصبهاني، وكان سبب تصنيف هذا الكتاب أن أبا جعفر كان قد لزم داود بن علي مدة، وكتب من كتبه كثيراً.

ووجدنا في ميراثه من كتبه ثمانين جزءاً بخطه الدقيق، وكان فيها المسألة التي جرت بن داود بن على وبين أبي المجالد الضرير المعتزلي بواسط عند خروجهما إلى الموفق لما وقع التنازع في خلق القرآن، وكان داود بن علي قد أخذ من النظر ومن الحديث ومن الاختلاف ومن السنن حظاً ليس بالمتسع، وكان بسيط اللسان حسن الكلام متمكناً من نفسه، وله أصحاب فيهم دعابة قد تمكنت منهم حنى صارت لبعضهم خلقاً يستعمله في النظر لقطع مخالفيه. وكان ربما ناظر داود ابن علي الإثبات في المسألة في الفقه فيراه مقصراً في الحديث فينقله إليه أو يكلمه في الحديث فينقله إلى الفقه أو إلى الجدل إذا كان خصمه مقصراً فيهما، وكان هو مقصراً في النحو واللغه وإن كان عارفاً بقطعة منه. وكان أبو جعفر ملياً بما نهض فيه من أي علم كان، وكان متوقفاً عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، وكان يحب الجد في جميع أحواله. وجرت مسألة يوماً بين داود بن علي وبين أبي جعفر فوقف الكلام على داود بن علي فشق ذلك على أصحابه وكلم رجل من أصحاب داود بن على أبا جعفر بكلمة مضة فقام من المجلس وعمل هذا الكتاب، وأخرج منه شيئاً بعد شيء إلى أن أخرج منه قطعة نحو مائة ورقة، وكان ابتدأ الكلام فيه بخطبة من غير إملاء وهو من جيد ما عمله أبو جعفر ومن أحسنه كلاماُ فيه حملاً على اللفظ عليه، ثم قطع ذلك بعد ما مات داود بن علي فلم يحصل في أيدي أصحابه من ذلك إلا ما كتبه منه مقدمو أصحابه ولم ينقل. فممن كتب هذا الكتاب منه أبو إسحاق بن الفضل بن حيان الحلواني. - قال أبو بكر بن كامل: وسمعناه منه عنه - وأبو الطيب الجرجاني وأبو علي بن الحسن بن الحسين بن الصواف، وأبو الفضل العباس بن محمد المحسن وغيرهم، وقال الرؤاسي وكان من مقدمي أصحاب داود بن علي: إن داود قطع كلام ذلك الإنسان الذي كلم أبا جعفر سنة مجازاة له على ما جرى منه على أبي جعفر، ثم تعرض محمد بن داود بن علي للرد على أبي جعفر فيما رده على أبيه فتعسف الكالم على ثلاث مسائل خاصة وأخذ في سب أبي جعفر وهو كتابه المنسوب إلى الرد على أبي جعفر بن جرير.
قال أبو الحسن بن المغلس: قال لي أبو بكر بن داود ابن علي: كان في نفسي مما تكلم به ابن جرير علي أبي، فدخلت يوماً على أبي بكر بن أبي حامد وعنده أبو جعفر فقال له أبو بكر: هذا أبو بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني، فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحب بي وأخذ يثني على أبي ويمدحه ويصفني بما قطعني عن كلامه.
ومن كتب أبي جعفر: رسالته المسماة بكتاب رسالة البصير في معالم الدين التي كتب بها إلى أهل طبرستان فيما وقع بينهم فيه من الخلاف في الاسم والمسمى وفي مذاهب أهل البدع وهو نحو ثلاثين ورقة، ومنها أيضاً رسالته المعروفة بكتاب صريح السنة في أوراق، ذكر فيها مذهبه وما يدين به ويعتقده، كتاب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم، ثم تلاه بالفضائل ولم يتم كتاب فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يتم أيضاً، كتاب فضائل العباس وانقطع أيضاً بموته، كتاب في عبارة الرؤيا جمع فيه أحاديث فمات ولم يعمله، وكتاب مختصر مناسك الحج، كتاب مختصر الفرائض، كتاب في الرد على ابن عبد الحكم على مالك ولم يقع إلى أصحابه، كتاب الموجز في الأصول ابتدأ فيه برسالة الأخلاق، ثم قطع ووعد بكتاب الآدر في الأصول ولم يخرج منه شيء وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله.
قال أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس، فجمعت له نيفاً وثلاثين فأقامت عنده مديدة، ثم كان من قطعه للحديث قبل موته بشهور ما كان، فردها علي وفيها علامات له بحمرة قد علم عليها.
قال عبد العزيز بن محمد: وقد وقع إلى كتاب صغير في الرمي بالنشاب منسوب إليه وما علمت أحداً قرأه عليه ولا ضابطاً ضبط عنه لا ينسبه إليه، وأخاف أن يكون منحولاً إليه.

وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر يذهب في جل مذاهبه إلى ما عليه الجماعة من السلف، وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن، شديداً عليه مخالفتهم ماضياً على مناهجهم لا تأخذ في ذلك ولا في شيء لومة لائم، وكان يذهب إلى مخالفة أهل الاعتزال في جميع ما خالفوا فيه الجماعة من القول بالقدر وخلق القرآن وإبطال رؤية الله في القيامة، وفي قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار وإبطال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قولهم إن استطاعة الإنسان قبل فعله. وكان أبو جعفر يزعم أن ما في العالم من أفعال العباد فخلق الله، وأن ما من الله به على أهل الإيمان من الاستطاعة التي وفقهم لها غير ما أعطاه لأهل الكفر من الدار والعقل، وأن الله ختم على قلوب من كفر به مجازاة لهم على كفرهم. قلت: وهذا الفصل رديء جداً لأنه إن كان ختم قبل الكفر فقد ظلم، وإن كان بعده فقد ختم على مختوم، وهذا لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة، إنما هو من أقوال الروافض والمعتزلة قبحهم الله. وكان أبو جعفر يعتقد أن ما أخطأه ما كان ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن جميع ما في العالم لا يكون إلا بمشيئة الله، وأن الله جل وعز لم يزل موصوفاً بصفاته التي هي عامة وقدرته، وكلامع غير محدث.
قال أبو علي: وهذا الفصل يدل على أن ما لم يكن من الصفات كالعلم والقدرة والكلام أنها محدثة مخلوقة وهذا محض كلام المعتزلة والأشعرية.
قال: وكان أبو جعفر يذهب في الإمامة إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وما عليه أصحاب الحديث في التفصيل، وكان يكفر من خالفه في كل مذهب إذ كانت أدلة العقول تدفع كالقول في القدر، وقول من كفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروافض والخوارج ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم، وذكر ذلك في كتابه في الشهادات وفي الرسالة وفي أول ذيل المذيل، وكان لا يورث من الكفرة منهم، وذكر ذلك في مسند أسامة بن زيد عند كلامه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يورث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ولا يتوارث أهل ملتين شتى) وكان لا يورث متكافرين، لا يورث يعقوبياً من النصارى من ملكي، ولا ملكياً من نسطوري، ولا شمعتياً من اليهود سامرياً، ولا عنانياً من الشمعتي، ووافقه على هذا المذهب الأوزاعي، فإذا اختلفت الكنائس والبيع لم يورث بعضهم من بعض.
قال أبو بكر بن كامل: حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة فسألته أن يجعل كل من عاداه في حل، وكنت سألته ذلك لأجل أبي الحسن بن الحسين الصواف لأني كنت قرأت عليه القرآن فقال: كل من عاداني وتكلم في حل إلا رجلاً رماني ببدعه. وكان الصواف من أصحاب أبي جعفر وكانت فيه سلامة ولم يكن فيه ضبط دون الفصل، فلما أملى أبو جعفر ذيل المذيل ذكر أبا حنيفة وأطراه وقال كان فقيهاً عالماً ورعاً فتكلم الصواف في ذلك الوقت فيه لأجل مدحه لأبي حنيفة وانقطع عنه وبسط لسانه فيه.
قال أبو بكر بن كامل: من سبقك إلى إكفار أهل الأهواء؟ قال فقال: إماماً عدل عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى ابن سعيد القطان، وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطرحه، وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم وقال: إن بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، وقال هذا الإنسان في قصيدة مزدوجة فيها بلداً بلداً ومنزلاً منزلاً أبياتاً يلوح فيها إلى معنى حديث غدير خم فقال:
ثم مررنا بغدير خم ... كم قائل فيه بزور جم
على علي والنبي الأمي
وبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ الكلام في فضائل علي بن أبي طالب، وذكر طرق حديث خم فكثر الناس لاستماع ذلك، واجتمع قوم من الروافض ممن بسط لسانه بما لا يصلح في الصحابة رضي الله عنهم فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم سأله العباسيون في فضائل العباس فابتدأ بخطبة حسنة وأملى بعضه وقطع جميع الإملاء قبل موته وكان يظن أن فيه لجاجة، قال أبو بكر بن كامل: ولم يكن فيه ذلك، وقد كان رجع طبرستان فوجد الرفض قد ظهر، وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلها قد انتشر، فأملى فضائل أبي بكر وعمر حتى خاف أن يجري عليه ما يكرهه فخرج منها من أجل ذلك.

وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: أخبرني غير واحد من أصحابنا أنه رأى عند أبي جعفر شيخاً مسناً فقام له أبو جعفر وأكرمه ثم قال أبو جعفر: إن هذا الرجل ناله في ماقد صار له علي به الحق الكثير، وذلك أني دخلت إلى طبرستان وقد شاع سب أبي بكر وعمر فيهما، فسألوني أن أملي فضائلهما ففعلت، وكان سلطان البلدة يكره ذلك فاجتمع إليه من عرفه ما أمليته، فوجه إلي فبادر هذا وأرسل إلي من أخبرني أني قد طلبت، فخرجت من وقتي عن البلد ولم يشعر بي وحصل هذا في أيديهم فضرب بسبي ألفاً قال: وكان شديد التوقي والحذر والنزاهة والورع، يدل على ذلك ما أودعه كتاب آداب النفوس المنبه على دينه وفضله، ومع ما كان فيه من الاشتغال بالتصانيف والحديث والإملاء لا بد له مع ذلك من حزبه من القرآن، ويقال: إنه كان يقرأ كل ليلة ربعاً أو حظاً وافراً.
قال عبد لعزيز بن محمد: وكان أبو جعفر ظريفاً في ظاهره، نظيفاً في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقداً لأحوال أصحابه، مهذباً في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه، وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه، حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جئ بين يديه بشيء من الفكاهة فيجري في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجد جد وأحسن علم. وكان إذا أهدى إليه مهد هدية مما يمكنه المكافأة عليه قبلها وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليه ردها واعتذر إلى مهديها. ووجه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها عجب منها ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافأة عنه، ومن أين لي ما أكافئ عن هذا؟ فقيل: ما لهذا مكافأة، إنما أراد التقرب إلى الله عز وجل، فأبى أن يقبله ورده إليه.
وكان يختلف إليه أبو الفرج بن أبي العباس الأصبهاني يقرأ عليه كتبه، فالتمس أبو جعفر حصيراً لصفة له صغيرة، فدخل أبو الفرج الأصفهاني وأخذ مقدار الصفة واستعمل له الحصير متقرباً بذلك له وجاءه به وقد وقع موقعه، فلما خرج دعا ابنه دفع إليه أربعة دنانير فأبى أن يأخذها وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها. وأهدى إليه أبو المحسن المحرر جاره فرخين فأهدى إليه ثوباً.
وقال أبو الطيب القاسم بن أحمد بن الشاعر وسليمان بن الخاقاني: أهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر محمد بن جرير برمان فقبله وفرقه في جيرانه، فلما كان بعد أيام وجه إليه بزنبيل فيه بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها. قال سليمان: قال لي الوزير: إن قبلها وإلا فسلوه أن يفرقها في أصحابه ممن يستحق، فصرت بالبدرة إليه فدفقت الباب وكان يأنس إلي، وكان أبو جعفر إذا دخل منزله بعد المجلس لا يكاد يدخل إليه أحد لتشاغله بالتصنيف إلا في أمر مهم. قال: فعرفته أني جئت برسالة الوزير فأذن لي، فدخلت وأوصلت إليه الرقعة فقال: - يغفر الله لنا وله - اقرأ عليه السلام وقل له: أرددنا إلى الرمان، وامتنع من قبول الدراهم. فقلت له: فرقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردها. فقال: هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك، وأجاب عن الرقعة وانصرفت.
قال أبو الطيب وسليمان: فلما كان بعد مدة قدم الحاج وكان يأتيه مال ضيعته معهم فربما جئ إليه بالشيء فجعله بضاعة، فدعانا وإذا بين يديه شيء مشدود فقال: امضيا بهذا إلى الوزير واقرءا عليه السلام، وأوصلا إليه هذه الحزمة والرقعة. قالا: فصرنا إليه ولا نعرف ما فيها قرأ الرقعة وإذا فيها إنه قد أنفذ إليه شيء من طبرستان فآثر إنفاذه إليه قال: فتقدم من فتحه فإذا فيه سمور حسن فقوم له ذلك بأربعين ديناراً ولم يجد بداً من قبوله. وكان داعياً إلى امتناعه من الإهداء إليه. قال: وقد كان يمضي إلى الدعوة يدعى إليها وإلى الوليمة يسأل فيها ويكون ذلك يوماً مشهوداً من أجله وشريفاً بحضوره، وكان يخرج مع بعضهم إلى الصحراء فيأكل معهم.

قال ابن كامل: قال لي أبو علي محمد بن إدريس الجمال - وكان من وجوه الشهود بمدينة السلام - : حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة فجلست معه على مائدة فكان أجمل الجماعة أكلاً وأظرفهم عشرة. قال: وحضر جماعة من الغلمان على رؤوسنا لسقي الماء والخدمة قال: فرأيت بعض الغلمان قد مد عينه إلى بعض ما قدم إلينا فأخذت لقمة فناولتها الغلام. قال: فزبرني أبو جعفر وقال: من أذن لك أن تأكل أو تطعم؟ قال: فأخجلني. قال ابن كامل: ما رأيت أظرف أكلاً من أبي جعفر، كان يدخل يده في الغضاره فيأخذ منها لقمة فإذا عاد بأخرى كسح باللقمة ما التطخ من الغضارة باللقمة الأولى فكان لا يتلطخ من الغضارة إلا جانب واحد، وكان إذا تناول اللقمة ليأكل سمى ووضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الزهومة فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده.
قال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد: كان أبو جعفر ربما خرج إلى الصحراء فنخرج معه فدعانا يوماً أبو الطيب بن المغيرة الثلاج وكان جاراً لأبي جعفر في محلة ببغداد، فجاء بنا إلى قراح باقلي فأكلنا وأكل أبو جعفر أكلاً فيه إفراط، ورأينا من حسن عشرته وانبساطه أمراً عظيماً، ثم انصرفنا فصرت إليه لأعرف خبره من تعبه مما أكله، فإذا بين يديه أدوية وجوارشنات يأكل منها ليدفع بها ضرر ما كان أكله. وكان إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فيه، قال أبو بكر ابن كامل: ولقد حرصت مراراً أن يستوي لي مثل ما يفعله فيتعذر على اعتياده. قال: وما سمعته قط لاحنا ولا حالفاً بالله عز وجل. قال: وكان لا يأكل الدسم، وإنما يأكل اللحم الأحمر الصرف ولا يطبخه إلا بالزبيب وكان يقول: السمين يلطخ المعدة، وكان يتجنب السمسم والشهد ويقول: إنهما يفسدان المعدة، ويغيران النكهة ويقول إن التمر يلطخ المعدة، ويضعف البصر، ويفسد الأسنان، ويفعل في اللحم كذا وكذا. فقال له أبو علي الصواف: أنا آكله طول عمري ولا أرى من إلا خيراً. فقال أبو جعفر: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل. قال: وكان الصواف قد وقعت أسنانه وضعف بصره، ونحف جسمه وكثر اصفراره. قال: وكان أبو جعفر كبير اللحية حسن القيام على نفسه لا يأكل من الخبز إلا السميذ لأجل غسل القمح، لأن من كذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهر نجساً، وكان ربما أكل من العنب الرازق والتين الوزيري والرطب وربما أخذ له من اللبن الحليب من غنم ترعى فيصفي ويجعل في قدر على النار حتى يذهب منه جزء ثم يثرد في الإناء ويصب عليه اللبن الحار، ويدعه حتى يبرد ويطرح عليه الصعتر وحبة السوداء والزيت، وكان يكثر من الإسفيذباج والزيرباج، وكان ربما أكل بالحصرم في وقته، وكان لا يعدم في الصيف الحيس والريحان واللينوفر، فإذا أكل نام في الخيش في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم فيصلي الظهر في بيته ويكتب في تصنيفه إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ويجلس للناس يقرئ ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى عشاء الآخرة ثم يدخل منزله، وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل.
وكان أبو الطيب الثلاج قد سأله أن يجعل شربه الماء من عنده، لأنه كان يكره الثلج وكان له كراز يدفئه فيه، وكان أبو القاسم سليمان بن فهد الموصلي يهدي له العسل ويقبله منه، فلما مات وجد عنده إحدى عشرة جرة عسلاً ومنها ما قد نقص منه. وكان قد كتب فردوس الحكمة لعلي بن زين الطبري وأخذه عن علي بن زين مصنفه سماعاً.

قال أبو بكر بن كامل: ورأيته عنده في ستة أجزاء وقال أبو العباس بن المغيرة الثلاج: لما اعتل ابني أبو الفرج وكان حسن الأدب ويتفقه على مذهب أبي جعفر. قال لي أبو جعفر تقبل مني ما أصفه لك؟ فقلت نعم، وكنت أتبرك بقوله ورأيه. قال: احلق رأسه واعمل له جواذابة سمينة من رقاق وأكثر دسمها وقدمها إليه وأطعمه منها حتى يمتلئ شبعاً ثم خذ ما بقي فاطرحه على دماغه، واحرص أن ينام على حاله تلك فإنه يصلح إن شاء الله تعالى ففعلت فكان سبب برئه. وأبو الفرج هذا مات قبل أبي جعفر بمديدة، وكان أبو الفرج هذا يتعسف في كلامه. تجاورا يوماً عند أبي جعفر فذكر الطبيخ فقال أبو الفرج: لكني أكلت طباهقة. قال أبو جعفر: وما الطباهقة؟ قال: الطباهقة: ألا ترى أن العرب تعمل الجيم قافاً. قال أبو جعفر: فأنت إذاً أبو الفرق بن الثلاق، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق ويمزح معه بذلك.
وكان أبو بكر بن الجواليقي يأخذ لسانه بالإعراب ويكثر الإشارات فيه إلى حد البغض، فأخذ يوماً في ذلك فقال أبو جعفر: أنت بغيض فسمي بغيض الطبري. قال: ورأيت أنا هذا الإنسان يوماً وقد ورد على باب الطاق وكان مهاجراً لبعض الوراقين فوقف علينا فسلم ثم أعتذر من وقوفه بالمكان لأجل الوراق فقال: لولا من ما كنت بالذي، يعني لولا من ههنا ما كنت لأقف على حانوتك، وكان بأبي جعفر ذات الجنب تعتاده وتنتقض عليه، فوجه إليه علي بن عيسى طبيباً فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله، فعرفه حاله وما استعمل وأخذه لعلته وما انتهى إليه في يومه ذاك وما كان رسمه أن يعالج به وما عزم على أخذه من العلاج. فقال له الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيء، والله لو كنت في ملتنا لعددت من الحواريين - وفقك الله - ، ثم جاء إلى علي بن عيسى فعرفه ذلك فأعجبه. قلت: أكثر هذه الأخبار عن عبد العزيز بن محمد الطبري من كتاب له أفرده في سيرة أبي جعفر، ومن كتاب لأبي بكر بن كامل في أخباره والله ولي الخير.
قال أبو علي الأهوازي: مات ببغداد في سنة عشر وثلاثمائة، وكذا وجدته بخط أبي سليمان بن يزيد مكتوباً، ورأيت أيضاً من يقول: إنه مات في سنة إحدى عشرة وست عشرة والله أعلم وأحكم، وهذه السنون كلها في أيام المقتدر بالله.
محمد بن جعفر الصيدلانيكان صهر أبي العباس المبرد على ابنته ويلقب برمة، وكان أديباً شاعراً، روى عن أبي هفان الشاعر أخبارأً وحدث عنه أبو الفرج الأصفهاني وغيره، وأنشد الخطيب في تاريخه لمحمد بن جعفر الصيدلاني:
أما ترى الروض قد لاحت زخارفه ... ونشرت في رباه الريط والحلل
واعتم بالأرجوان النبت منه فما ... يبدو لنا منه إلا مونق خضل
والنرجس الغض يرنو من محاجره ... إلى الورى مقل تحيا بها المقل
تبر حواه لجين فوق أعمدة ... من الزمرد فيها الزهر مكتهل
فعج بنا نصطلح يا صاح صافية ... صهباء في كأسها من لمعها شعل
فقد تجلت لنا عن حسن بهجتها ... رياض قطربل واللهو مشتمل
وعندنا شادن شدت قراطقه ... على نقا وقضيب فهو معتدل
يدور بالكأس بين الشرب آونة ... ما دام للشرب منه العل والنهل
وقينة إن تشأ غنتك من طرب ... ودع هريرة إن الركب مرتحل
وإن أشرت إلى صوت تكرره ... إنا محيوك فاسلم أيها الطلل
ليست بمظهرة تيهاً ولا صلفاً ... وليس يغضبها التجميش والقبل
فنحن في تحف منها وفي غزل ... مما يغازلنا طرف لها غزل
محمد بن جعفر بن ثوابة الكاتب

يكنى أبا الحسن، كاتب بليغ منشئ فاضل، كان ينشئ في الديوان أيام المقتدر بالله، ومات في سن اثنتي عشرة وثلاثمائة، قال الرئيس أبو الحسين: كان أبو الحسن هذا صاحب ديوان الرسائل في ديوان المقتدر. وقال ثابت: في سنة أربع وثلاثمائة قيض على علي بن عيسى بن الجراح الوزير، واستوزر أبو الحسن محمد بن الفرات، فأقر أبا الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة على ديوان الرسائل والمعاون، ومن كلامه رسالة كتبها عن المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى البلدان في وزارة ابن الفرات الثانية: لما لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه، ولا للملك بداً منه، وكان كتاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا، واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحول القلب. المحنك المجرب، العالم بدرة المال كيف تحلب؟ ووجوهه كيف تطلب؟ انتضاه من غمده، فعاود ما عرف من حده، فنفذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبر الأمور كأن لم يخل منها.
ورأى أمير المؤمنين ألا يدع شيئاً من أسباب التكرم كان قديماً جعله له إلا وفاه إياه، ولا نوعاً من أنواع المثوبة والجزاء كان أخره عنه إلا حباه به، فخاطبه بالتلبية. ومما يستحسنه الكتاب من كلامه قوله لما أجاب خمارويه بن أحمد عن المعتضد عن الكتاب بإنفاذ ابنته فقال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها: وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك عناية بها وحياطة لرأيك فيه.
محمد بن جعفر بن محمد بن سهلابن شاكر الخرائطي. قال أبو بكر الخطيب: كنيته أبو بكر، وهو من أهل سر من رأي، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعسقلان من بلاد الشام، وكان سمع عمر بن شبة وغيره، وكان حسن الأخبار مليح التصانيف سكن الشام وحدث بها فحصل حديثه عند أهلها. ومن مصنفاته: كتاب اعتلال القلوب في أخبار العشاق، وكان قدم دمشق في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ثم مات بعد ذلك بعسقلان في الوقت المقدم ذكره.
وله من التصانيف: كتاب مكارم الأخلاق، كتاب مساوي الأخلاق، كتاب قمع الحرص بالقناعة، كتاب هواتف الجان وعجيب ما يحكى من الكهان، كتاب القبور.
محمد بن جعفر بن حاتم الواسطيأبو جعفر غلام ثعلب، له شعر صالح، مات في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وذكر ذلك كله أبو محمد عبد الله ابن بشران في تاريخه.
محمد أبي جعفر المنذريالهروي أبو الفضل، ذكره أبو النضر عبد الرحمن بن عبد الجبار بن أبي سعيد الفامي في تاريخ هرة وقال: مات في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
قال المؤلف: وهو نحوي لغوي مصنف في ذلك، وهو شيخ أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الذي أملى كتاب التهذيب بالرواية عنه وقدم بغداد لأنه قال: سألت ثعلباً عن كتاب العين فقال: ذلك كتاب ملئ غدد، قال: وهذا لفظ أبي العباس، وحقه عند النحويين ملآن غدداً، ولكن أبا العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم.
وذكر الأزهري في مقدمة كتابه: أن أبا الفضل المنذري لازم أبا الهيثم الرازي سنين وعرض عليه الكتب، وكتب عنه من أماليه وفوائده أكثر من مائتي مجلد. قال الأزهري: فما وقع في كتابي لأبي الهيثم فهو ما أفادنيه المنذري عنه في كتاب الشامل وكتاب الفاخر، وكتاب الزيادات التي زادها في معاني القرآن للفراء، وكتاب زيادات أمثال أبي عبيد، وكتاب ما زاد في المصنف وغريب الحديث.
وقال أبو النضر: صنف أبو الفضل المنذري كتاب نظم الجمان وكتاب الملتقط، وذكر الفاخر والشامل. قال الأزهري: اخبرني أبو الفضل المنذري أن أبا الهيثم الرازي حثه على النهوض إلى أبي العباس يعني ثعلباً قال: فرحلت إلى العراق ودخلت مدينة السلام يوم الجمعة ومالي همة غيره، فأتيته وعرفته خبري وقصدي إياه، فاتخذ لي مجلساً في النوادر التي سمعها من ابن الأعرابي حتى سمعت الكتاب كله منه قال: وسألته عن حروف كانت أشكلت على أبي الهيثم فأجابني عنها.

قال الأزهري: أخبرني المنذري أنه اختلف إلى ثعلب سنة في سماع كتاب النوادر لابن الأعرابي لأنه كان في أذنه وقر وكان يتولى قراءة ما يسمع منه قال: وكتبت عنه من أماليه في معاني القرآن وغيرها أجزاء كثيرة فما عرض ولا صرح بشيء من أسباب الطمع قال واختلفت إلى أبي العباس المبرد وانتخبت عليه أجزاء من كتابيه المعروفين بالروضة والكامل قال: وقاطعته من سماعها على شيء مسمى وإنه لم يأذن لي في قراءة حكاية واحدة لم يكن وقع عليها الشرط.
محمد بن جعفر العطار النحويأبو جعفر، ويلقب فرتك. قال الخطيب: هو من أهل المخرم. حدث عن الحسن بن عرفة، روي عنه الدارقطني ولم يزد الخطيب على هذا.
محمد بن جعفر بن محمد الهمذانيثم المراغي. ذكره محمد بن إسحاق فقال: كان يعلم عز الدولة أبا منصور بختيار بن معز الدولة بن بويه. قال الخطيب: يكنى أبا الفتح، سكن بغداد وروى بها عن أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة. حدث عنه أبو الحسين المحاملي القاضي وروى عنه في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
قال محمد بن إسحاق: وكان حافظاً نحوياً بليغاً في نهاية السرو والحرية. وله من الكتب: كتاب النهجة مثال الكامل، كتاب الاستدراك لما أغفله الخليل.
وقال أبو حيان في الإمتاع: وصف جماعة من النحويين أبا سعد السيرافي والرماني وأبا علي الفارسي ثم قال: وأما ابن المراغي قلا يلحق هؤلاء مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ، وقوة النفس، وبلل الريق، وغزارة النفث، وكثرة الرواية، ومن نظر في كتاب النهجة له عرف ما أقول، واعتقد فوق ما أصف، ونحل أكثر مما أبذل.
ذكر أبو حيان في كتاب المحاضرات قال: ولما مات المراغي - وكان قدوة في النحو وعلما في الأدب كبيراً مع حداثة سنه ورقة حاله، وإن قلت إني ما رأيت في الأحداث مثله كان كذلك - استرجع أبو سعيد السيرافي واستعبر وأنشد:
من عاش لم يخل من هم ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلف الباقي على الظعن
وكلنا بالردى والموت مرتهن ... فما نرى فيهما فكا لمرتهن
من الذي أمن الدنيا فلم نحن ... أو الذي اعتز بالدنيا فلم يهن؟
كل يقال له قد كان ثم مضى ... كأن ما كان من دنياه لم يكن
ثم قال: قوموا بنا لتجهيزه وتولية أمره فتبعناه على ذلك، فلما أخرجت جنازته بكى وأنشد:
أساءت بنا الأيام ثمت أحسنت ... وكل من الأيام غير بديع
وما زال صرف مذ كان مولعاً ... بتأليف شتى أو بشت جميع
محمد بن جعفر بن محمد بن هارونابن فروة بن ناجية بن مالك، أبو الحسن التميمي النحوي المعروف بابن النجار من أهل الكوفة، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة بالكوفة، وقدم بغداد وحدث بها عن ابن دريد ونفطويه والصولي وغيرهم.
قال الخطيب: وهو ثقة، مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعمائة بالكوفة، نقلت ذلك من تاريخ ابن الجوزي، ونقله هو من تاريخ الخطيب حرفاً حرفاً، ونقلت من زيادات الوزير المغربي في فهرست ابن النديم: أنه ولد سنة إحدى عشرة وثلاثمائة قال: وكان من مجودي القراء، أخذ عن النقار وغيره، وكان يقرئ لحمزة والكسائي الغالب في أخذه، ولقي أحمد بن يونس، وروى قراءة عاصم عنه عن الأعشى عن أبي بكر عياش عن عاصم، ولقي من المحدثين القدماء ابن الأشناني الكبير وابن الأشناني القاضي، وابن مروان القطان، وأبا عبيدة وغيرهم. قال: وكنا سمعنا منه: كتاب القراءات، وكتاب مختصر في النحو، وكتاب الملح والنوادر، وكتاب التحف والطرف، وكتاب الملح والمسار، وكتاب روضة الأخبار ونزهة الأبصار، وكتاب تاريخ الكوفة رأيته.
محمد بن جعفر بن محمد الغوري

أبو سعيد، أحد أئمة اللغة المشهورين والأعلام في هذا اللسان المذكورين، صنف كتاب ديوان الأدب في عشرة أجلد ضخمة، أخذ كتاب أبي إبراهيم إسحاق الفارابي المسمى بهذا الاسم وزاد في أبوابه، وأبرزه في أبهى أثوابه، فصار أولى به منه، لأنه هذبه وانتقاه، وزاد فيه ما زينه وحلاه، لم أعرف شيئاً من حاله فأذكره إلا أنه ذكر في أول كتابه بعد البسملة: قال محمد بن جعفر بن محمد المعروف جده بالغوري، ثم ذكر أنه هذب كتاب الفارابي وختم الكلام بأن قال: وأهديته - يعني الكتاب - إلى الدهقان الكبير أبي نصر منصور مولى أمير المؤمنين.
محمد بن أبي جعفر القزاز القيروانيأبو عبد الله التميمي، كان إماماً علامة قيماً بعلوم العربية، ذكره الحسن بن رشيق في كتاب النموذج فقال: مات بالقيروان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وقد قارب التسعين، وهو جامع كتاب الجامع في اللغة، وهو كتاب كبير حسن متقن يقارب كتاب التهذيب لأبي منصور الأزهري رتبه على حروف المعجم، وكتاب ما يجوز للشاعر استعماله في ضرورة الشعر.
قال ابن رشيق: وكان مهيباً عند الملوك والعلماء وخاصة الناس. محبوباً عند العامة، يملك لسانه ملكاً شديداً وقد مدحه الشعراء فقال فيه يعلى بن إبراهيم الأربسي:
نسجت شعاعاً بيننا منها فبت ... نا جميعنا من تحت ثوب مذهب
فمزجتها من فيه ثم شربتها ... ولثمته برضاب ثغر أشنب
في ليلة للدهر كانت غرة ... يرنو إليها الخطب كالمتعجب
فت الأنام بها كما فت الورى ... سبقاً محمد بالفخار الأغلب
أبداً على طرف السؤال جوابه ... فكأنما هو دفعه من صيب
يغدو مساجلة بغرة صافح ... ويروح معترفاً بذلة مذنب
فالأبعد النائي عليه في الذي ... يفتر كالداني إليه الأقرب
وكان القزاز معجباً بهذه الكلمة ويقول: ما مدحت بأحب إلي منها. وقال الحسن بن رشيق في العمدة: وحاجي شيخنا أبو عبد الله بعض تلاميذه فقال:
أحاجيك عباد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلا من صديق وصحب
فأجابه التلميذ في الحال:
سأكتم حتى ما تحس جوارحي ... بما انهل منها في دموعي السواكب
فمعكوس: عباد كزينب: سرك ذائع. وسأكتم: جواب على الظاهر حسن، ومعكوسة منك أتيت، وهو جواب لما حوجي به بديع مقابل، ولم تؤت إلا من صديق وصاحب، تفسير حسن بديع جداً. وشعر أبي عبد الله جيد مطبوع مصنوع، ومن شعره يتغزل:
أما ومحل حبك من فؤادي ... وقدر مكانه فيه المكين
لو انبسطت لي الآمالي حتى ... تصير لي عنانك في يميني
لصنتك في مكان سواد عيني ... وخطت عليك من حذر جفوني
فأبلغ منك غايات الأماني ... وآمن فيك آفات الظنون
فلي نفس تجرع كل حين ... عليك بهن كاسات المنون
إذا أمنت قلوب الناس خافت ... عليك خفي ألحاظ العيون
فكيف وأنت دنياي ولولا ... عقاب الله فيك لقلت ديني
ومن شعره أيضاً:
إذا كان حظي منك لحظة ناظر ... على رقبة لا أستديم لها لحظاً
رضيت بها في مدة الدهر مرة ... وأعظم بها من حسن وجهك لي حظاً!
وله أيضاً:
لو أن لي حكم قلبي فيك أو بصري ... ما استمعت لي عين منك بالنظر
أخشى وأحذر من عيني القريحة ما ... أخشى وأحذره من أعين البشر
ويلاه إن كان حظي فيه مشتركاً ... وكيف يشترك الحيان في عمر؟
يناله وادع لا يستعد له ... ولست أبلغ أولاه من الحذر
وله أيضاً:
أضمروا لي وداً ولا تظهروه ... يهده منكم إلي الضمير
ما أبالي إذا بلغت رضاكم ... في هواكم لأي حال أصير؟
وله أيضاً:
أحين علمت أنك نور عيني ... وأني لا أرى حتى أراكا
جعلت مغيب شخصك عن عياني ... يغيب كل مخلوق سواكا
وله أيضاً:
واحسر تامات أحبابي وخلاني ... وشيب الدهر أترابي وأخداني

وغيرت الأيام خالصتي ... والمنتضي الحر من أهلي وإخواني
ومن تصانيف أبي عبد الله أيضاً: كتاب أدب السلطان والتأدب له عشر مجلدات، كتاب التعريض والتصريح مجلد، كتاب إعراب الدريدية مجلد، كتاب شرح رسالة البلاغة في عدة مجلدات، كتاب أبيات معان في شعر المتنبي، كتاب ما أخذ على المتنبي من اللحن والغلط، كتاب الضاد والظاء مجلد.
محمد بن الجهم بن هارون السمريأبو عبد الله الكاتب، مات سنة سبع وسبعين ومائتين عن تسع وثمانين سنة، ذكر ذلك أبو بكر بن علي وقال: سمع يعلى بن عبيد الطنافسي، وعبد الوهاب بن عطاء، ويزيد ابن هارون، وآدم بن أبي إياس، وروى عن الفراء تصانيفه. حدث عنه موسى بن هارون الحافظ، والقاسم بن محمد الأنباري، وأبو بكر بن مجاهد المقرئ، ونفطويه، وإسماعيل بن محمد الصغار وغيرهم. وقال الدارقطني: هو ثقة صدوق قال المرزباني: محمد بن الجهم بن هارون السمري أبو عبد الله صاحب الفراء، وروى كتابه في معاني القرآن وهو أحد الثقات من رواة المسند، وهو القائل يمدح الفراء ويصف مذهبه في النحو:
أكثر النحو يزعم الفراء ... من وجوه تأويلهن الجزاء
وهي أبيات يقول فيها:
نحوه أحسن النحو فما في ... ه معيب ولا به إزراء
ليس من صنعة الضعائف لكن ... فيه فقه وحكمة وضياء
حجة توضح الصواب وما قا ... ل سواه فباطل وخطاء
ليس من قال بالصواب كمن قا ... ل بجهل والجهل داء عياء
وكأني أراه يملي علينا ... وله واجباً علينا الدعاء
كيف نومي على الفراش ولما ... يشمل الشام غارة شعواء
تذهل المرء هن بنيه وتبدي ... عن براها العقيلة العذراء
هذان البيتان لعبد الله بن قيس الرقيات ضمنهما.
محمد بن حارث الخشني الأندلسيصاحب التواريخ، ذكره الحميدي في كتابه فقال: هو من أهل العلم والفضل فقيه محدث، روى عن ابن وضاح ونحوه، وله من الكتب: كتاب أخبار القضاة بالأندلس، كتاب أخبار الفقهاء والمحدثين، كتاب الاتفاق والاختلاف لمالك بن أنس وأصحابه وغير ذلك. ومات في حدود الثلاثين والثلاثمائة، ذكره أبو عمر بن عبد البر، وأبو محمد علي بن أحمد، وأورد عنه أبو سعيد بن يونس في تاريخه وفيات الجماعة من أهل الأندلس ممن مات قبل الثلاثمائة وبعدها بمدة، وقد افصح أبو سعيد باسمه في موضعين من تاريخه في باب السين وباب النون، وما أراه لقيه ولكنه عاصره وكان في زمانه، وإنما يقول فيما يورده عنه: ذكره الخشني في كتابه. وذكر الحميدي في باب محمد بن عبد السلام الخشني: أن عبد الغني بن سعيد الحافظ غلط فيه فقال: محمد بن عبد السلام الخشني صاحب التاريخ، وإنما هو محمد بن حارث فغلط، هذا تلخيص كلام الحميدي لا على وجهه.
محمد بن حبيب أبو جعفرذكره المرزباني فقال: قال عبد الله بن جعفر: من علماء بغداد باللغة والشعر والأخبار والأنساب الثقات محمد بن حبيب ويكنى أبا جعفر وكان مؤدباً. ولا يعرف أبوه وإنما نسب إلى أمه وهي حبيب، وهو ممن يروي كتب ابن الأعرابي وابن الكلبي، وقطرب وكتبه صحيحة، وله مصنفات في الأخبار منها: كتاب المحبر والموشي وغيرهما. مات ابن حبيب بسامرا في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائتين في أيام المتوكل. قال أبو الحسن بن أبي رؤبة: قال أبو رؤبة: عبرت إلى ابن حبيب في مكتبه وكان يعلم ولد العباس بن محمد في شكوك شككت فيها، وروى محمد بن موسى البربري عن ابن حبيب قال: إذا قلت للرجل ما صناعتك؟ فقال معلم فاصفع، وأنشد ابن حبيب:
إن المعلم لا يزال معلماً ... لو كان علم آدم الأسماء
من علم الصبيان صبوا عقله ... حتى بنى الخلفاء والخلفاء

ومحمد بن حبيب مولى لبني هاشم ثم مولى لمحمد بن العباس بن محمد الهاشمي، وأمه مولاة لهم. وقال ابن النديم: نقلت من خط أبي سعيد السكري قال: هو محمد بن حبيب ابن أمية بن عمرو، وكان يروي عن هشام بن الكلبي وابن الأعرابي وقطرب وأبي عبيدة وأبي اليقظان، وأكثر الأخذ عنه أبو سعيد السكري. قال المرزباني: وكان محمد ابن حبيب يغير على كتب الناس فيدعيها ويسقط أسماءهم، فمن ذلك: الكتاب الذي ألفه إسماعيل بن أبي عبيد الله، واسم أبي عبيد الله معاوية، وكنيته هي الغالبة على اسمه فلم يذكرها لئلا يعرف، وابتدأ فساق كتاب الرجل من أوله إلى آخره فلم يخلطه بغيره، ولم يغير منه حرفاً ولا زاد فيه شيئاً، فلما ختمه أتبع ذلك بذكر من لقب من الشعراء ببيت قاله. قال: وما علمت أن أحداً من العلماء صنع صنيعه هذا، ولا من استحسن أن يضع نفسه هذا الموضع القبيح، وأحسب أن الذي حمله على ذلك أن كتاب إسماعيل هذا لم تكثر روايته ولا اتسع ي أيدي الأدباء، فقدر ابن حبيب أن أمره ينستر، وأن إغارته عليه تميت ذكر صاحبه.
وحدث المرزباني عن أحمد بن محمد الكاتب عن علي ابن عبد الله بن المسيب قال: كان علي بن العباس الرومي يختلف إلى محمد بن حبيب، لأن محمداً كان صديقاً لأبيه العباس بن جورجس، وكان يخص علياً لما يرى من ذكائه، فحدث علي عنه أنه كان إذا مر به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن، ضع هذا في تامورك. وحدث أبو بكر بن علي قال: قال أبو طاهر القاضي محمد بن حبيب وهي أمه وهو ولد ملاعنه. وحدث أيضاً فيما أسنده إلى ثعلب قال: حضرت مجلس ابن حبيب فلم يمل فقلت ويحك أمل، مالك؟ فلم يفعل حتى قمت، وكان والله حافظاً صدوقاً، وكان يعقوب أعلم منه، وكان هو أحفظ للأنساب والأخبار منه وهو بغدادي.
وحدث أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي في كتابه قال: قال ثعلب: أتيت ابن حبيب وقد بلغني أنه يملي شعر حسان بن ثابت، فلما عرف موضعي قطع الإملاء فانصرفت وعدت إليه، وترفقت به فأملي وكان لا يقعد في المسجد الجامع، فعذلته على ذلك حتى قعد جمعة من الجمع واجتمع إليه الناس فسأله سائل عن هذه الأبيات:
أزحنة عني تطردين تبددت ... بلحمك طير طرن كل مطير
ففي لا تزلي زلة ليس بعدها ... جبور وزلات النساء كثير
وإني وإياه كرجلي نعامة ... على كل حال من غنى وفقير
ففسر ما فيه من اللغة، فقيل له كيف قيل: غني وفقير، ولم يقل من غني وفقر. قال: فاضطرب، فقلت للسائل: هذه غريبة، وأنا أنوب عنه وبينت العلة وانصرف، ثم لم يعد للقعود بعد ذلك وانقطعت عنه. قوله رجلي نعامة: إنما شبه به لأنه لا تنوب إحداهما عن الأخرى لأنه لامخ فيها، وسائر الحيوان إذا أعيت إحدى رجليه استعان بالأخرى فيقال هما رجلا نعامة، أي لا غنى لإحداهما عن الأخرى، والأسماء ترد على المصادر والمصادر على الأسماء، لأن المصادر إنما ظهرت لظهور الأسماء وتمكن الإعراب منها.
قال محمد بن إسحاق: ولابن حبيب من الكتب: كتاب النسب، كتاب الأمثال على أفعل ويسمى المنمق، كتاب السعود والعمود، كتاب العمائر والربائع، كتاب الموشح، كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء القبائل، كتاب المحبر وهو من جيد كتبه، كتاب المقتني، كتاب غريب الحديث، كتاب الأنواء، كتاب المشجر، كتاب من استجيب دعوته، كتاب الموشى، كتاب المذهب في أخبار الشعراء وطبقاتهم، كتاب نقائض جرير وعمر بن لجأ، كتاب نقائض جرير والفرزدق، كتاب المفوف، كتاب تاريخ الخلفاء كتاب من سمي ببيت قاله، كتاب مقاتل الفرسان، كتاب الشعراء وأنسابهم، كتاب العقل، كتاب كني الشعراء، كتاب السمات، كتاب أيام جرير التي ذكرها في شعره، كتاب أمهات أعيان بني عند المطلب، كتاب المقتبس، كتاب أمهات السبعة من قريش، كتاب الخيل، كتاب النبات، كتاب ألقاب القبائل كلها، كتاب الأرحام التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سوى العصبة، كتاب ألقاب اليمن ومضر وربيعة، كتاب القبائل الكبير الأيام جمعه للفتح بن خاقان.

قال محمد بن إسحاق: ورأيت أنا النسخة بعينها في طلحى نيفاً وعشرين جزءاً، وكانت تنقص ما يدل على أنها كانت نحواً من أربعين جزءاً في كل جزء مائتا ورقة وأكثر، ولهذه النسخة فهرست لما تحتوي عليه من القبائل والأيام في طلحى نحو خمسة عشر ورقة. ومن صنعه في أشعار العرب: كتاب ديوان زفر بن الحارث، كتاب شعر الشماخ، كتاب شعر الأقيشر، كتاب شعر الصمة، كتاب شعر لبيد العامري.
محمد بن حرب بن عبد الله النحويالحلبي أبو المرجي، أحد أعيان حلب والمشهورين منهم بعلم الأدب، مات بدمشق في سنة إحدى وثمانين أو اثنتين وثمانين، وحدثني ابن الجيراني قال: مات شيخنا بدمشق في سنة ثمانين وخمسمائة.
حدثني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة - أدام الله أيامه - قال: حدثني محمد بن عبد الواحد بن حرب الخطيب خطيب قلعة حلب إملاء من لفظه قال: حدثني أبو المرجي محمد بن حرب أبو عبد الله النحوي قال: رأيت في النوم إنساناً ينشدني هذا البيت:
أروم عطا الأيام والدهر مهلكي ... ممر لها والدهر رهن عطاها
فأجزته بأبيات:
أيا طالب الدنيا الدنية إنها ... سترديك يوماً إن علوت مطاها
صن النفس لا تركن إليها فإن أبت ... فردد عليها آي آخر طه
ودع روضي الآمال والحرص إنه ... إذا ردع النفس الهدى سطاها
فلا بد يوماً أن تلم ملمة ... فتبسط منا عقدة نشطاها
أنشدني الأخ أبو القاسم أحمد بن هبة الله سعد الجيراني النحوي الحلبي قال: أنشدني شيخي أبو المرجي محمد بن حرب الأنابي، وأناب قرية من بلد أعزاز من نواحي حلب لنفسه في صفة الرمان:
ولما فضضت الختم عنهن لا ح لي ... فصوص عقيق في بيوت من التبر
ودر ولكن لم يدنسه غائص ... وماء ولكن في مخازن من جمر
وأنشدني قال: أنشدني المذكر لنفسه:
لما بدا ليل عارضيه لنا ... يحكي سطوراً كتبن بالمسك
تلا علينا العذار سورة وال ... ليل وغنى لنا قفا نبك
وأنشدني له:
تجل سنا شمعه تشابهني ... وقداً ولوناً وأدمعاً وفنا
قال: وله أرجوزة في مخارج الحروف.
محمد بن حسان النملي يكنى أبا حسانأحد الكتاب الطياب والأدباء، وكان في أيام المتوكل وله معه أحاديث، وله كتاب برجان وحباحب وهو كبير في أخبار النساء والباه، كتاب آخر صغير في هذا المعنى، كتاب البغاء، كتاب السحق، كتاب خطاب المكاري لجارية البقال.
محمد بن حسان الضبي أبو عبد اللهكان نحوياً فاضلاً وأديباً شاعراً، وكان يؤدب العباس ابن المأمون وغيره من ولده فماتوا فقال يرثيهم:
خل دمع العين ينهمل ... بان من أهواه فاحتملوا
كل دمع صانه كلف فهو يوم البين مبتذل
يا أخلائي الذين نأت ... بهم الطيات وانتقلوا
قد أبى أن ينثني بكم ... أوبة يحيا بها الأمل
وحدث شباب العصفري قال: ولي المأمون محمد بن حسان الضبي مظالم الجزيرة وقنسرين والعواصم والثغور سنة خمس عشرة ومائتين، ثم زاده بعد ذلك مظالم الموصل وأرمينية قال: وولي المعتصم محمد بن الحسن مظالم الرقة في سنة أربع وعشرين ومائتين إلى أن توفي المعتصم فأقره الواثق عليها.
وحدث المرزباني بإسناده قال: قدم محمد بن حسان الضبي على أبي المغيث الرافقي فمدحه فوعده بثواب فتأخر عنه فكتب إليه محمد:
عذبت بالمطل وعدً رف مورقه ... حتى لقد جف منه الماء والعود
سقيا للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب في أثنائه سود
فلما قرأها أبو المغيث تبسم وأجابه:
لا تعجلن على لومي فقد سبقت ... مني إليك بما تهوى المواعيد
فإن صبرت أتاك النجح عن كثب ... وكل طالعة سعد ومسعود
وفي الكريم أناة ربما اتصلت ... إن لم يعامل بصبر أيبس العود
وعجل له صلته. وقال أبو الحسن بن البراء: أنشدني محمد ابن حسان الضبي لنفسه:
كتمت الهوى حتى بدا السقم ظاهراً ... وحتى جرى دمعي يسيل بدارا
وأخفيت من أهوى وألقيت دونه ... من الحب أستاراً فعدن جهارا

وله أيضاً في رواية المرزباني:
ففيم أجن الصبر والبين حاضر ... وأمنع تذراف الدموع السواكب
وقد فرقت جمع الهوى طية النوى ... وغودرت فرداً شاهداً مثل غائب
محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسييكنى أبا جعفر، هو ابن أخي معاذ الهراء، وهم من موالي محمد بن كعب القرظي قال: وسمي الرؤاسي لكبر رأسه، وكان ينزل النيل فقيل له النيلي، وكان أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو، ومات في أيام الرشيد.
قال أحمد بن يحيى تغلب: كان الرؤاسي أستاذ علي بن حمزة الكسائي والفراء. قال الفراء: فلما خرج الكسائي إلى بغداد قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي وأنت أسن منه، فجئت إلى بغداد فرأيت الكسائي فسألته عن مسائل الرؤاسي فأجابني بخلاف ما عندي، فغمرت عليه قوماً كوفيين كانوا معي فرآني فقال لي: مالك قد أنكرت؟ لعلك من أهل الكوفة، قلت نعم. قال: الرؤاسي يقول كذا وكذا وليس صواباً. وسمعت العرب تقول كذا وكذا حتى أتى على مسائلي فلزمته. قال: وكان الرؤاسي رجلاً صالحاً وقال: بعث الخليل إلي يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه قال: وكل ما في كتاب سيبويه وقال الكوفي كذاً فإنما يعني الرؤاسي. قال: وكتاب الرؤاسي يقال له الفيصل. وزعم ثعلب أن أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو أبو جعفر الرؤاسي، وكان له كتاب معروف عندهم يقدمونه. وقال سلمة: سئل الفراء عن الرؤاسي فأثنى عليه وقال: قد كان دخل البصرة دخلتين، وقل مقامه بالكوفة فلذلك قل أخذ الناس عنه قال: وقال المبرد: ما عرف الرؤاسي بالبصرة، وقد زعم بعض الناس أنه صنف كتاباً في النحو فدخل البصرة ليعرضه على أصحابنا فلم يلتفت إليه، أو لم يجسر على إظهاره ولما سمع كلامهم.
وقال ابن درستويه: وزعم جماعة من البصريين أن الكوفي الذي يذكره الأخفش في آخر كتاب المسائل ويرد عليه هو الرؤاسي.
حدث محمد بن جعفر الأشعثي عن الرؤاسي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: إن لي تجارة بالنيل أفأشتري بالنيل داراً؟ فقال: اشتر ما ينفعك، فرب عزلة كانت داعية خير، وإياك وجميع ما يعنيك، فأما لا يعنيك فإياك وإياه.
وحدث عبد الله بن جعفر عن علي بن المبارك الأحمر عن الكسائي قال: كان للرؤاسي امرأة من أهل النيل تزوجها بالكوفة وانتقلت إليه من النيل وشرطت عليه أنها تلم بأهلها في كل مدة فكانت لا تقيم عنده إلا القليل، ثم يحتاج إلى إخراجها وردها فمل ذلك منها وفارقها وقال فيها:
بانت لمن تهوى حمول ... فأسفت في أثر الحمول
أتبعتهم عيناً علي ... هم ما تفيق من الهمول
ثم ارعويت كما ارعوى ... عنها المسائل للطلول
لاحت مخائل خلفها ... وخلافها دون القبول
ملت وأبدت جفوة ... لا تركنن إلى ملول
ولأبي جعفر الرؤاسي قصيدة منها:
ألا يا نفس هل لك في صيام ... عن الدنيا لعلك تهتدينا
يكون الفطر وقت الموت منها ... لعلك عنده تستبشرينا
أجيبيني هديت وأسعفيني ... لعلك في الجنان تخلدينا
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب المراتب قال: وممن أخذ عن أبي عمرو بن العلاء من أهل الكوفة أبو جعفر الرؤاسي عالم أهل الكوفة إلا أنه ليس بنظير لمن ذكرنا ولا قريباً منهم، وكان ذكر يونس بن حبيب وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد ونظائرهم قال: وقال أبو حاتم: كان بالكوفة نحوي يقال له أبو جعفر الرؤاسي وهو مطروح العلم ليس بشيء.
وقال محمد بن إسحاق في الكتاب الذي ألفه في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: وللرؤاسي من الكتب: كتاب الفيصل رواه جماعة وهو يروي إلى اليوم، كتاب معاني القرآن، كتاب التصغير، كتاب الوقف والابتداء الكبير، كتاب الوقف والابتداء الصغير.
محمد بن الحسن بن دينار الأحولأبو العباس، كان غزير العلم واسع الفهم جيد الدراية حسن الرواية. روي عنه أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي وقرأ عليه ديوان عمرو بن الأهتم في سنة خمسين ومائتين.

قال أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه: جمع أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار الأحوال أشعار مائة شاعر وعشرين شاعراً، وعلمت أنا خمسين شاعراً. وذكره أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي وجعله في طبقة المبرد وثعلب. وحدث المرزباني أنه كان وراقاً يورق لحنين بن إسحاق المتطبب في منقولاته لعلوم الأوائل، وكان ممدودأ أي قليل الحظ من الناس، وحدث عن علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن الحسن الأحول قال: اجتمعنا مع أبي العباس ثعلب في بيته وحضر ابن بوكران رجل من أهل الأدب فقال بعض أصحابنا: عرفوني ألقابكم. فقال ثعلب: أنا ثعلب، وقال الآخر: أنا كذا، والآخر أنا كذا، فلما بلغوا إلي قالوا: وأنت ما لقبك؟ فقلت منعت العاهة من اللقب.
وحدث المرزباني عن نفطويه قال: كان أبو العباس الأحول يقول: لم يزلوا، وكذا رد علي فقلت له: لم يزالوا أراد أنه كان لحاناً. وحدث عن أبي عبد الله اليزيدي قال: كان أبو العباس الأحول يكتب لي مائة ورقة بعشرين درهماً. وقال محمد بن إسحاق النديم: كان محمد بن الحسن الأحول ناسخاً وله من الكتب: كتاب الدواهي، كتاب السلاح، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، كتاب فعل وأفعل، كتاب الأشباه، وجمع كما تقدم دواوين مائة وعشرين شاعراً.
محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهيةابن حنتم بن حمامي بن واسع بن وهب بن سلمة بن حنتم ابن حاضر بن جشم بن ظالم بن أسد بن عدي بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهير - ويقال: زهران - ابن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب ابن يعرب بن قحطان.
مات بوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وفي هذا اليوم مات أبو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي فقيل: مات علما اللغة والكلام ودفنا جميعاً في مقبرة الخيزران. وقال المرزباني: دفن بالعباسية من الجانب الشرقي في ظهر سوق السلاح من الشارع الأعظم. وقال التنوخي ورجاله: دفن ابن دريد بظهر السوق الجديد المعروفة بمقابر العباسية من الجانب الشرقي، ومولده البصرة في سكة صالح في خلافة المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وبالبصرة تأدب وعلم اللغة وأشعار العرب، وقرأ على علماء البصرة ثم صار إلى عمان فأقام بها مدة، ثم صار إلى جزيرة ابن عمر ثم صار إلى فارس فسكنها مدة ثم قدم بغداد فأقام بها إلى أن مات.
وحدث أبو بكر بن علي قال: أبو بكر بن دريد بصري المولد ونشأ بعمان وتنقل في جزائر البحر والبصرة وفارس وطلب الأدب وعلم العربية، وكان أبوه من الرؤساء وذوي اليسار، وورد بغداد بعد أن أسن فأقام بها إلى آخر عمره. وروى عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي. وكان رأس أهل العلم. وروى عنه خلق منهم أبو سعيد السيرافي، وأبو عبيد الله المرزباني، وأبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، وله شعر كثير، وروي من أخبار العرب وأشعارهم ما لم يروه كثير من أهل العلم.
وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين عند ذكر ابن دريد: هو الذي انتهت إليه لغة البصريين، وكان أحفظ الناس وأوسعهم علماً وأقدرهم على شعر، وما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد. وتصدر ابن دريد في العلم ستين سنة. وأول شعر قاله:
ثوب الشباب علي اليوم بهجته ... فسوف تنزعه عني يد الكبر
أنا ابن عشرين ما زادت ولا نقصت ... إن ابن عشرين من شيب على خطر
وكان يقال: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء. قال الخطيب: وقال محمد بن دريد: كان أول من أسلم من آبائي حمامي وهو من السبعين راكباً الذين خرجوا مع عمرو بن العاص من عمان إلى المدينة لما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليهم وسلم حتى أدوه وفي ذلك يقول قائلهم:
وفينا لعمرو يوم عمرو كأنه ... طريد نفته مذحج والسكاسك
وحدث أبو علي التنوخي قال: حدثني جماعة أن ابن دريد قال: كان أبو عثمان الاشنانداني معلمي، وكان عمي الحسين ابن دريد يتولى تربيتي، فكان إذا أراد الأكل استدعى أبا عثمان ليأكل معه، فدخل يوماً عمي وأبو عثمان يرويني قصيدة الحارث بن حلزة التي أولها:

آذنتنا ببينها أسماء
فقال لي عمي: إذا حفظت هذه القصيدة وهبت لك كذا وكذا، ثم دعا المعلم ليأكل معه فدخل إليه فأكلا وتحدثا بعد الأكل ساعة، فإلى أن رجع المعلم حفظت ديوان الحارث بن حلزة بأسره فخرج المعلم فعرفته ذلك فاستعظمه وأخذ يعتبره علي فوجدني قد حفظته، فدخل إلى عمي فأخبره فأعطاني ما كان وعدني به.
قال الخطيب عمن رأى ابن دريد إنه قال: كان ابن دريد واسع الحفظ جداً ما رأيت أحفظ منه وكانت تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها وتحفظها، وما رأيته قط قرئ عليه ديوان شاعر إلا وهو يسابق إلى روايته لحفظه له. قال: وسئل عنه الدارقطني فقال: قد تكلموا فيه. قال: وقال أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي: سمعت ابن شاهين يقول: كنا ندخل على ابن دريد ونستحي منه لما نرى من العيدان المعلقة، والشراب المصفى موضوع وقد كان جاوز التسعين سنة. هذا كله من كتاب أبي بكر بن علي.
وقال أبو منصور الأزهري في مقدمة كتاب التهذيب: وممن ألف في زماننا الكتب فرمى بافتعال العربية وتوليد الألفاظ وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها: أبو بكر محمد بن دريد صاحب كتاب الجمهرة، وكتاب اشتقاق الأسماء، وكتاب الملاحن، وقد حضرته في داره ببغداد غير مرة فرأيته يروي عن أبي حاتم والرياشي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي. وسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة عنه فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته، وألفيته أنا على كبر سنه سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره، وقد تصفحت كتابه الذي أعاره اسم الجمهرة فلم أردلا على معرفة ثاقبة ولا قريحة جيدة، وعثرت من هذا الكتاب على حروف كثيرة أنكرتها ولم أعرف مخارجها فأثبتها في كتابي في مواقعها منه لأبحث أنا وغيري عنها.
وقال أبو ذر الهروي: سمعت أبا منصور الأزهري يقول: دخلت على ابن دريد فرأيته سكران فلم أعد إليه. وقال غير أبي منصور: كان ابن دريد قد أملى الجمهرة في فارس ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه قال: فلذلك قلما تتفق النسخ وتراها كثيرة الزيادة والنقصان، ولما أمله بفارس غلامه تعلم من أول الكتاب، والنسخة التي عليها المعول هي الأخيرة، وآخر ما صح من النسخ: نسخة أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي جخجخ لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه.
وحدث المرزباني قال: قال ابن دريد: خرجت أريد زهران بعد دخول البصرة فمررت بدار كبيرة قد خربت فكتبت على حائطها:
أصبحوا بعد جميع فرقاً ... وكذا كل جميع مفترق
فمضيت ورجعت فإذا نحته مكتوب:
ضحكوا والدهر عنهم صامت ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
قال: وخرجنا نريد عمان في سفر لنا فنزلنا بقرية تحت نخل فإذا بفاختتين تتزاقان فسنح لي أن قلت:
أقول لورقاوين في فرع نخلة ... وقد طفل الإمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتا لتلك جناحها ... ومر على هاتيك من هذه النحر
ليهنكما أن لم تراعا بفرقة ... وما دب في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلي قطع الشوق قلبه ... على أنه يحكي قساوته الصخر
قال: وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: سقطت من منزلي بفارس فانكسرت ترقوتي فسهرت ليلي فلما كان في آخر الليل حملتني عيناي فرأيت في نومي رجلاً طويلاً أصفر الوجه كوسجا دخل علي وأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر. فقلت: ما ترك أبو نواس شيئاً. فقال: أنا أشعر منه. فقلت: ومن أنت؟ قال: أبو ناجية من أهل الشام ثم أنشدني:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت. قال ولم؟ قلت: لأنك قلت وحمراء فقدمت الحمرة ثم قلت: بدت بين ثوبي نرجس وشقائق، فقدمت الصفرة، فألا قدمتها على الأخرى كما قدمتها على الأولى؟ فقال: وما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض؟.
وحدث قال: كتب ابن دريد إلى ابن أبي علي أحمد بن محمد بن رستم:
حجابك صعب يجبه الحر دونه ... وقلبي إذا سيم المذلة أصعب
وما أزعجتني نحو بابك حاجة ... فأجشم نفسي رجعة حين أحجب

وحدث أيضاً قال: وعد أبو بكر أبا الحسين عمر بن محمد ابن يوسف القاضي أن يصير إليه فقطعه المطر فكتب إليه أبو بكر:
مناويك في بذل النوال وإنه ... ليعجز عن أدني مداك ويحسر
عداني عن حظي الذي لا أبيعه ... بأنفس ما يحظى به المتخير
لم الغيث واعذر من لقاؤك عنده ... يعادل نيل الخلد بل هو أكبر
فأجابه أبو الحسين:
على الرسل في بري فقد عظم الشكر ... ولم أك ذا شكر وإن جل ما يعرو
مدائح مثل الغيث جادت عيونها ... سحاب توالي من جوانبها قطر
ومن شعر أبي بكر بن دريد:
عانقت منه وقد مال النعاس به ... والكأس تقسم سكراً بين جلاسي
ريحانة ضمخت بالمسك ناضرة ... تمج برد الندى في حر أنفاسي
وله يرثي عبد الله بن عمارة:
بنفسي ثرى ضاجعت في بيته البلى ... لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا
فلو أن حيا كان قبراً لميت ... لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا
ولو أن عمري كان طوع إرادتي ... وساعدني المقدار قاسمتك العمرا
وما خلت قبراً وهو أربع أذرع ... يضم ثقال المزن والطود والبحرا
وحدث الخطيب فيما أسنده إلى إسماعيل بن سويد: أن سائلاً جاء إلى ابن دريد فلم يكن عنده غير دن نبيذ فوهبه له فجاء غلامه وأنكر عليه ذلك فقال: أي شيء أعمل؟ لم يكن عندي غيره، ثم تلا قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). فما تم اليوم حتى أهدى له عشرة دنان فقال الغلام: تصدقنا بواحد وأخذنا عشرة.
وقال جحظة يرثيه:
فقدت بابن دريد كل منفعة ... لما غدا ثالث الأحجار والترب
وكنت أبكي لفقد الجود مجتهداً ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب
وقال محمد بن إسحاق: ولابن دريد من الكتب: كتاب الجمهرة في اللغة، كتاب المجتني، كتاب الأمالي، كتاب اشتقاق أسماء القبائل، كتاب الملاحن، كتاب المقتبس، كتاب المقصور والممدود، كتاب الوشاح على حذو المحبر لابن حبيب، كتاب الخيل الكبير، كتاب الخيل الصغير، كتاب الأنواء، كتاب السلاح، كتاب غريب القرآن لم يتم، كتاب فعلت وأفعلت، كتاب أدب الكاتب، كتاب تقويم اللسان على مثال كتاب ابن قتيبة ولم يجرده من المسودة فلم يجرده منه شيء يعول عليه، كتاب المطر.
وقال أبو الحسن الدريدي: حضرت وقد قرأ أبو علي بن مقلة وأبو حفص كتاب المفضل بن سلمة الذي يرد فيه على الخليل بن أحمد، على أبي بكر بن دريد فكان يقول: صدق أبو طالب، في شيء إذا مر به كذب أبو طالب في شيء آخر، ثم رأيت هذا الكلام وقد جمعه أبو حفص في نحو المائة ورقة وترجمه بالتوسط.
ومن شعر ابن دريد:
وقد ألفت زهر النجوم رعايتي ... فإن غبت عنها فهي عني تسأل
يقابل بالتسليم منهن طالع ... ويومئ بالتوديع منهن آفل
وأما مقصورة ابن دريد المشهور فإنه قالها يمدح بها الأمير أبا العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال بن عبد الواحد بن جبريل بن القاسم بن بكر بن ديواستي، وهو سور بن سور بن سور بن سور أربعة الملوك ابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور قالها فيه وفي أبيه، وكان الأمير أبو العباس رئيس نيسابور ومتقدمها، وذكر أبو علي البيهقي المعروف بالسلامي في كتاب النتف والطرف: أن ابن دريد صنف كتاب الجمهرة للأمير أبي العباس إسماعيل بن عبد الله ابن ميكال أيام مقامه بفارس فأملاه عليه إملاء ثم قال: حدثني أبو العباس الميكالي قال: أملي على أبو بكر الدريدي كتاب الجمهرة من أوله إلى آخره حفظاً في سنة سبع وتسعين ومائتين، فما رأيته استعان عليه بالنظر في شيء من الكتب إلا في باب الهمزة واللفيف فإنه طالع له بعض الكتب قال: وكفاك بها فضيلة وعجيبة أن يتمكن الرجل من علمه كل التمكن ثم لا يسلم مع ذلك من الألسن حتى من قيل فيه:
ابن دريد بقره ... وفيه عي وشره
ويدعي من حمقه ... وضع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين إلا ... أنه قد غيره

وقد ذكرت هذه الحال في أخبار أبي العباس إسماعيل ابن عبد الله بأبسط من هذا. وكتب ابن دريد إلى عيسى بن داود الجراح الوزير:
أبا حسن والمرء يخلق صورة ... تنم على ما ضمنته الغرائز
إذا كنت لا ترجى لنفع معجل ... وأمرك بين الشرق والغرب جائز
ولم تك يوم الحشر فينا مشفعاً ... فرأى الذي يرجوك للنفع عاجز
على بن عيسى خير يوميك أن ترى ... وفضلك مأمول ووعدك ناجز
وإني لأخشى بعد هذا بأن ترى ... وبين الذي تهوى وبينك حاجز
قرأت بخط أبي سعد السمعاني من المذيل بإسناد أن ابن دريد قال:
ودعته حين لا تودعه ... روحي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب لنا ... ضيق مكان وفي الدموع سعه
قال أبو هلال: أخبرنا أو بأحمد قال: كنا في مجلس ابن دريد وكان يتضجر ممن يخطئ في قراءته، فحضر غلام وضئ فجعل يقرأ ويكثر الخطأ وابن دريد صابر عليه، فتعجب أهل المجلس فقال رجل منهم: لا تعجبوا فإن في وجهه غفران ذنوبه، فسمعها ابن دريد فلما أراد أن يقرأ قال له: هات يا من ليس في وجهه غفران ذنوبه، فعجبوا من صحة سمعه مع علو سنه. قال: وقال بعضهم في مجلس ابن دريد:
من يكن للظباء طالب صيد ... فعليه بمجلس ابن دريد
إن فيه لأوجهاً قيدتني ... عن طلاب العلا بأوثق قيد
قال الرصافي: حدثنا بعض أصابنا قال: حضرت مجلس أبي بكر بن دريد وقد سأله بعض الناس عن معنى قول الشاعر:
هجرتك لا قلي مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود
تفيض نفوسها ظمأ وتخشى ... حماماً فهي تنظر من بعيد
فقال: الحائم: الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه، يقال: حام يحوم حياماً.
ومعنى الشعر أن الأيائل تأكل الأفاعي في الصيف فتحمى فتلتهب بحرارتها وتطلب الماء، فإذا وقعت عليه امتنعت من شربه وحامت حوله تنسمه، لأنها إن شربته في تلك الحال صادف الماء السم الذي في جوفها فتلفت، فلا تزال تدفع بشرب الماء حتى يطول بها الزمان فيسكن ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها. ويقال: فاظ الميت وفاضت نفسه وفاظت نفسه أيضاً، جائز عند الجميع إلا الأصمعي فإنه يقول: فاظ الميت، فإذا ذكر النفس قال فاضت نفسه بالضاد ولم يجمع بين الظاء والنفس.
وحدث أبو علي المحسن، حدثني أبو القاسم الحسن بن علي ابن إبراهيم بن خلاد الشاهد العكبري إمام الجامع فيها، حدثني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: كنت بعمان مع الصلت بن مالك الشاري وكانت الشراة تدعوه أمير المؤمنين، وكانت السنة كثيرة الأمطار ودامت على الناس فكادت المنازل أن تتهدم، فاجتمع الناس وصاروا إلى الصلت وسألوه أن يدعوا لهم فأجل بهم أن يركب من الغد إلى الصحراء ويدعوا فقال لي بكرة: لتخرج معي في غد فبت مفكراً كيف يدعو؟ فلما أصبحت خرجت معه فصلى بهم وخطب ودعا فقال: اللهم إنك أنعمت فأوفيت، وسقيت فأرويت، فعلى القيعان ومنابت الشجر، وحيث النفع لا الضرر، فاستحسنت ذلك منه. وقال ابن دريد في النرجس:
عيون ما يلم بها الرقاد ... ولا يمحو محاسنها السهاد
إذا ما الليل صافحها استهلت ... وتضحك حين ينحسر السواد
لها حدق من الذهب المصفى ... صياغة من يدين له العباد
وأجفان من الدر استفادت ... ضياء مثله لا يستفاد
على قضب الزبرجد، في ذراها ... لأعين من يلاحظها مراد

قرأت في كتاب التحبير وهو ما أخبرنا به الشريف افتخار الدين أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي إذناً، قال أبو سعد السمعاني إجازة إن لم يكن سماعاً قال: سمعت الأمير أبا نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الله ابن أحمد بن الميكالي يقول: تذاكرنا المتنزهات يوماً وابن دريد حاضر فقال بعضهم: أنزه الأماكن غوطة دمشق. وقال آخرون: بل نهر الأبلة؟ وقال آخرون: بل سغد سمرقند. وقال بعضهم بل نهر نهروان بغداد. وقال بعضهم: شعب بوان بأرض فارس. وقال بعضهم: نوبهار بلخ. فقال: هذه منتزهات العيون، فأين أنتم عن متنزهات القلوب؟ قلنا وما هي يا أبا بكر؟ قال: عيون الأخبار للقتيبي، والزهرة لابن داود، وقلق المشتاق لابن أبي طاهر، ثم أنشأ يقول:
ومن تك نزهته قينة ... وكأس تحت وكأس تصب
فنزهتنا واستراحتنا ... تلاقي العيون ودرس الكتب
وقرأت في التاريخ الذي ألفه أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن بشران الأهوازي قال: وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة مات أبو أحمد حجر بن أحمد الجويمي وكان من أهل الفضل بجويم ونواحي فارس، وقد خلف القراء بها فمدحه جماعة من الشعراء وقصده من انتفع به، ولأبي بكر بد دريد فيه مدائح منها:
نهنه بوادر دمعك المهراق ... أي ائتلاف لم ير ع بفراق؟
حجر بن أحمد فارع الشرف الذي ... خضعت لعزته طلى الأعناق
قبل أنامله فلسن أناملاً ... لكنهن مفاتح الأرزاق
وانظر إلى النور الذي لو أنه ... للبدر لم يطبع برين محاق
محمد بن الحسن بن سهلالمعروف بشيملة الكاتب، وشيلمة لقب لمحمد هذا، وأبوه الحسن بن سهل هو الوزير المعروف، أخو الفضل بن سهل مات محروقاً، وكان شيلمة أولاً مع العلوي صاحب الزنج، ثم صار إلى بغداد وأومن ثم خلط وسعى لبعض الخوارج فحرقه المعتضد حياً وكان مصلوباً على عمود خيمة، ذكر ذلك محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب المصنفة: كتاب أخبار صاحب الزنج، كتاب رسائله.
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق قال: حدثني أبي قال: كنت أكتب لبدر اللاني في أيام الموفق وابنه المعتضد بالله وأدخل الدار معه، فرأيت محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة وقد جعله كردناكاً قال: قلت له وكيف كان ذلك وما كان سببه؟ فقال: إن رجلاً من أولاد الواثق كان يسكن مدينة المنصور سعى في طلب الخلافة هو وشيلمة ليستوزره، وأخذ له البيعة على أكثر أهل الحضرة من الهاشميين والقضاة والقواد والجيش وأهل بغداد والأحداث وأهل العصبية وقوى أمره وانتشر خبره، وهم بالظهور في المدينة والاعتصام بها حتى إذا أخذ المعتضد صار إلى دار الخلافة، فبلغ المعتضد الخبر على شرحه إلا اسم المستخلف فكبس شيلمة وأخذ فوجد في داره جرائد بأسماء من بايع، وبلغ الخبر الهاشمي فهرب وأمر المعتضد بالجرائد فأحرقت ظاهراً ولم يقف على شيء منها لئلا يفسد قلوب الجيش بوقوفه عليها لما يعتقدون من فساد نيته عليهم، وأخذ يسائل شيلمة عن الخبر، فصدقه عن جميع ما جرى إلا اسم الرجل الذي يستخلف، فرفق به ليصدقه عنه فلم يفعل، فطال الكلام بينهما فقال له شيلمة: والله لو جعلتني كردناكاً ما أخبرتك باسمه قط. فقال المعتضد للفراشين: هاتوا أعمدة الخيم الكبار الثقال وأمر أن يشد عليها شداً وثيقاً وأحضروا فحماً عظيماً وفرش على الطوابيق بحضرته وأججوا ناراً، وجعل الفراشون يقلبون تلك النار وهو مشدود على الأعمدة إلى أن مات وأخرج من بين يديه ليدفن فرأيته على هذه الصورة.
محمد بن الحسن بن رمضان النحويله من الكتب فيما ذكره محمد بن إسحاق: كتاب أسماء الخمر وعصيرها، كتاب الديرة.
محمد بن الحسن بن محمد بن زيادابن هارون بن جعفر بن سند النقاش الشعراني الدارقطني أبو بكر المقرئ، مات فيما ذكره الخطيب يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، ومولده سنة ست وستين وستمائة، ودفن في داره بدار القطن. قال أبو بكر: وأصله من الموصل.

ويقال: إنه مولى أبي دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان حافظاً للتفسير، صنف فيه كتاباً سماه شفاء الصدور، وله تصنيف في القراءات وغيرها من العلوم، وكان قد سافر الكثير شرقاً وغرباً، وكتب بالكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والجزيرة والموصل والجبال وبلاد خراسان وما وراء النهر وحدث عن خلق كثير، وروى عنه أبو بكر ابن مجاهد والدارقطني وأبو حفص بن شاهين قال: وحدثنا عنه أبو الحسن بن رزقويه وجماعة آخرهم أبو علي بن شاذان وفي حديثه مناكير بأسانيد مشهورة. قال: حدثني عبيد الله بن أبي الفتح عن طلحة بن محمد بن جعفر أنه ذكر النقاش فقال: كان يكدب في الحديث والغالب عليه القصص؟ قال: وسألت البرقاني عنه فقال: كل حديثه منكر. قال: وحدثني من سمع أبا بكر البرقاني وذكر تفسير النقاش فقال: ليس فيه حديث صحيح.
وقال هبة الله بن الحسن الطبري وذكر تفسير النقاش فقال: ذاك إشفاء الصدور وليس شفاء الصدور. هذا كله من تاريخ أبي بكر بن علي.
وقال محمد بن إسحاق: له من الكتب: كتاب الإشارة في غريب القرآن، كتاب الموضح في معاني القرآن، كتاب المناسك، كتاب فهم المناسك، كتاب أخبار القصاص، كتاب ذم الحسد، كتاب دلائل النبوة، كتاب الأبواب في القرآن، كتاب إرم ذات العماد، كتاب المعجم الأوسط، كتاب المعجم الأصغر، كتاب المعجم الأكبر في أسماء القراء وقراءاتهم، كتاب السبعة الأوسط، كتاب السبعة الأصغر، كتاب التفسير الكبير اثنا عشر ألف ورقة، كتاب العقل، كتاب ضد العقل.
حدث القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقرئ قال: لقيت رقعة قد رفع فيها إلى القاضي أبي بكر أحمد بن موسى الأنطاكي:
أيهذا القاضي الكبير بعدل ... صانك الله عن مقام الدنات
أيكون القصاص في فتك لحظ ... من غزال مورد الوجنات؟
أم يخاف العذاب من هو صب ... مبتلي بالزفير والحسرات؟
ليس إلا العفاف والصوم والنس ... ك له زاجر عن الشبهات
فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها:
يا ظريف الصنيع والآلات ... وعظيم الأشجان واللوعات
إن تكن عاشقاً فلم تأت ذنباً ... بل ترقبت رفعة الدرجات
فلك الحق واجباً إن عرفنا ... من تعلقته من الحجرات
أن أكون الرسول جهراً إليه ... إذ تنكبت موبق الشبهات
ومتى أقصى بالقصاص على لح ... ظ حبيب أخطئ طريق القضاة
محمد بن الحسن بن جمهور القمي الكاتبأبو علي. قال أبو علي التنوخي: وكان من شيوخ أهل الأدب بالبصرة وكثر الملازمة لأبي، وحرر لي خطى لما قويت على الكتابة لأنه كان جيد الخط حين الترسل كثير المصنفات لكتب الأدب، فكثرت ملازمتي له، وكان يمدح أبي فأنشدني لنفسه وه من مشهور شعره:
إذا تمنع صبري ... وضاق بالهجر صدري
ناديت والليل داج ... وقد خلوت بفكري
يا رب هب لي منه ... وصال يوم بعمري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
كثرت عندي أيادي ... ك فجل الوصف عنها
فأحاطت بجميع ال ... فهم حتى لم أبنها
فمتى ازددتك منها ... كنت كالناقص منها
قلت أنا: وهو صاحب النوادر مع زادمهر المغنية جارته المنصورية.
محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن

ابن الحسين بن محمد بن سليمان بن داود بن عبيد الله ابن مقسم أبو بكر العطار المقرئ، ولد سنة خمس وستين ومائتين، ومات لثمان خلون من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، سمع أبا مسلم الكجي وثعلباً وإدريس ابن عبد الكريم وغيرهم. روى عنه ابن رزقويه وابن شاذان وغيرهما. وكان ثقة من أعرف الناس بالقراءات وأحفظهم لنحو الكوفيين، وله في معاني القرآن كتاب سماه الأنوار وما رأيت مثله، وله عدة تصانيف: ولم يكن له عيب إلا أنه قرأ بحروف تخالف الإجماع واستخرج لها وجوهاً من اللغة والمعنى مثل ما ذكر في كتاب الاحتجاج للقراء في قوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجباء) بالباء لكان جائزاً هذا مع كونه يخالف الإجماع بعيد من المعنى، إذ لا وجه للنجابة عند يأسهم من أخيهم إنما اجتمعوا يتناجون. وله كثير من هذا الجنس من تصحيف الكلمة واستخرج وجه بعيد لها مع كونها لم يقرأ بها أحد.
وحدث أبو بكر الخطيب قال: ومما طعن به على أبي بكر بن مقسم أنه عمد إلى حروف من القرآن فخالف الإجماع فيها وقرأها على وجوه ذكر أنها تجوز في اللغة والعربية، وشاع ذلك عنه عند أهل العلم فأنكروه، وارتفع الأمر إلى السلطان فأحضره واستتابه بحضرة القراء والفقهاء فأذعن بالتوبة وكتب محضراً بتوبته، وأثبت. جماعة من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه. وقيل إنه لم ينزع عن تلك الحروف وكان يقرأ بها إلى حين وفاته.
قال الخطيب: وقد ذكر حاله أبو طاهر بن أبي هاشم المقرئء صاحب ابن مجاهد في كتابه الذي سماه كتاب البيان فقال: وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية كحرف من القرآن يوافق خط المصحف، فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها فابتدع بقيله ذلك بدعه ضل بها قصد السبيل، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله، وحاول إلحاق كتاب الله من الباطل مالا يأتيه من بين يديه ولا خلفه، إذ جعل لأهل الإلحاد في دين الله بسئ رأيه طريقاً من بين يدي أهل الحق بتخير القراءات من جهة البحث والاستخراج بالآراء دون الاعتصام والتمسك بالأثر المفترض.
وقد كان أبو بكر شيخنا نضر الله وجهه يسأله عن بدعته المضلة باستتابة منها، وأشهد عليه الحكام والشهود المقبولين عند الحكام بترك ما أوقع نفسه فيه من الضلالة بعد أن سئل البرهان على صحة ما ذهب إليه فلم يأت بطائل، ولم يكن له حجة قوية ولا ضعيفة، فاستوهب أبو بكر رضي الله عنه تأديبه من السلطان عند توبته وإظهاره الإقلاع عن بدعته، ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى به أصاغر المسلمين ممن هم في الغفلة والغباوة دونه ظناً منه أن ذلك يكون للناس ديناً، وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماماً، ولن يعدو ما ضل به مجلسه، لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه حافظ لكتابه من لفظ الزائغين وشبهات الملحدين بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وقد دخلت عليه شبهة لا يخيل بطولها وفسادها على ذي لب وذلك أنه قال: لما كان لخلف بن هشام وأبي عبيد وابن سعدان أن يختاروا وكان ذلك مباحاً لهم غير منكر، كان ذلك أيضاً مباحاً غير مستنكر. فلو كان حذا حذوهم وسلك طريقهم كان لعمري له غير مستنكر، ولكنه سلك من الشذوذ مالا يقول به إلا مبتدع. قال الخطيب: وذكر أبو طاهر كلاماً كثيراً نقلنا منه هذا المقدار وهو في كتابه مستقصي.
وحدث فيما أسنده إلى أحمد الفرضي قال: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، وكان ابن مقسم قد ولي ظهره للقبلة وهو يصلي مستدبرها، فأولت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره لنفسه من القراءات.
وذكر محمد بن إسحاق فقال: مات في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وله من الكتب: كتاب الأنوار في تفسير القرآن، كتاب المدخل إلى علم الشعر، كتاب الاحتجاج في القراءات، كتاب في النحو كبير كتاب المقصور والممدد، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الوقف والابتداء، كتاب المصاحف، كتاب عدد التمام، كتاب أخبار نفسه، كتاب مجالسات ثعلب، كتاب مفرداته، كتاب الانتصار لقراء الأمصار، كتاب الموضح، كتاب شفاء الصدور، كتاب الأوسط، كتاب اللطائف في جمع هجاء المصاحف، كتاب في قوله تعالى: (ومن يقتل) والرد على المعتزلة. ولابن مقسم ابن يكنى أبا الحسن وكان حفظة عالماً، له كتاب عقلاء المجانين.


محمد بن الحسن بن المظفر الحاتميأبو علي، ذكره الخطيب في تاريخه فقال: روي عن أبي عمرو عنه أخباراً في مجالس الأدب، قلت أنا: وأدرك ابن دريد وأخذ عنه، وهو من حذاق أهل اللغة والأدب شديد العارضة، وكان مبغضاً إلى أهل العلم فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرة. ومات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وذكره الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر فقال: محمد بن الحسن الحاتمي حسن التصرف في الشعر موف على كثير من شعراء العصر وأبوه أيضاً شاعر. وأبو علي شاعر كاتب يجمع بين البلاغة في النثر والبراعة في النظم، وله الرسالة المعروفة في وقعة الأدهم قال: وليس يحضرني من شعره إلا بيتان:
لي حبيب لو قيل لي ما تمنى ... ما تعديته ولو بالمنون
أشتهي أن أحل في كل جسم ... فأراه بلحظ تلك العيون
قال: ومما اخترته لأبيه قوله من قصيدة في القادر بالله أمير المؤمنين - رحمه الله - وأولها:
حي رسم الغميم محي الغميما ... إن فقدت الهوى فحي الرسوما
وذكر قصيدة. وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحصري في كتاب النورين، وذكر أشعار في قصر الليل وطوله فقال: وقال بعض أهل العصر وهو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي:
يا رب يوم سرور خلته قصراً ... كعارض البرق في أفق الدجى برقا
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشفقا
كأنما طرفاه طرف اتفق ال ... جفنان منه على الإطراق وافترقا
قال: وقد ملح الحاتمي في وصف الثريا:
وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر
ونجم الثريا في السماء كأنه ... على حلة زرقاء جيب مدنو
وللحاتمي تصانيف عدة منها: كتاب حلية المحاضرة في صناعة الشعر، كتاب الموضحة في مساوي المتنبي، كتاب الهلباجة في صنعة الشعر، كتاب سر الصناعة في الشعر أيضاً، كتاب الحالي والعاطل في الشعر أيضاُ، كتاب المجاز في الشعر أيضاً، كتاب الرسالة الناجية، كتاب مختصر العربية، كتاب في اللغة لم يتم، كتاب عيون الكاتب، كتاب الشراب رسالة، كتاب منتزع الأخبار ومطبوع الأشعار، كتاب المعيار والموازنة لم يتم، كتاب المغسل وهي الرسالة الباهرة في خصال أبي الحسن البتي.
قرأت في كتاب الهلباجة من تصنيفه وهو كتاب صنفه للوزير أبي عبد الله بن سعدان في رجل سبعه عنده وسمي الرجل الهلباجة من غير أن يصرح باسمه قال فيه: وقد خدمت سيف الدولة - تجاوز الله عن فرطاته - وأنا ابن تسع عشرة سنة تميل بي سنة الصبا، وتنقاد بي أريحية الشباب بهذا العلم، وكان كلفاً به علقاً علاقة المغرم بأهله منقباً عن أسراره، ووزنت في مجلسه تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة - ولم تسفر خداي عن عذاريهما - بأبي علي الفارسي وهو فارس العربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله بن خالويه وكان له السهم الفائز في علوم العربية تصرفاً في أنواعه، وتوسعاً في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل حتف الكلمة والشرود حفظاً وتيقظاً، ونازعتالعلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني، وأبو سعيد المعلى وقدحه الأعلى، واتخذت بعضاً ممن كان يقع الإيماء إليه سخرة وأنا إذ ذاك غزير الغزارة، تميد بي أسرار السرور ويسري علي رخاء الإقبال، وأختال في ملاءة العز في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة. وأنشد لنفسه في هذا الكتاب يمدح سيف الدولة:
تأوبني هم من الليل وارد ... وعاودني من لاعج الوجد عائد
فبت قضيض الجنب مسترجف الحشا ... كأني سقتني سمهن الأوساد
كأن القنا فيه على القرن ضاغن ... وحد الحسام الهندواني حاقد
قصمت به الإشراك وهو مقوم ... وقومت دين المصطفى وهو مائد
فلا يشفق الإسلام من سوء عثرة ... وفي الروع من آل ابن حمدان ذائد
وأنشد لنفسه في هذا الكتاب أبياضاً ضمنها أعجاز أبيات للنابغة وهي في الحماسة:
لا يهنأ الناس ما يرعون من كلأ ... وما يسوقون من أهل ومن مال
فقال الحاتمي:

وليلة عنها الصبح داجية ... لبستها بمطول الجرى هطال
وقد رمى البين شعب الحي فاقتسموا ... أيدي سبا بين تقويض وترحال
فناسبت أنجم الآفاق عيسهم ... وما يسوقون من أهل ومن مال
ترى الهلال نحيلاً في مطالعة ... أمسي ببلدة لا عم ولا خال
والجدي كالطرف يستن المراح به ... إلى ذوات الذرى حمال أثقال
والليل والصبح في غبراء مظلمة ... هذا عليها وهذا تحتها بال
وفي هذا الكتاب لنفسه في الهلباجة الذي صنف الكتاب لأجله:
لقد سخف الفعلي لما تحذقا ... فنكر في تعريفه ما تعرفا
ويا رب وجه حذفوه لزينة ... فأصبح من قبح لصاحبه قفا

وهذه مخاطبة جرت بين أبي الطيب المتنبي وبين علي الحاتمي حكيتها كما وجدتها. قال أبو علي الحاتمي: كان أبو الطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكبر وأذال ذيول التيه وصعر خده ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحداً إلا نافضاً مذروية، رافلاً من التيه في برويه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائة غيره، وروض لم يرع نواره سواه، فدل بذلك مديدة أجرته رسن الجهل فيها، فظل يمرح في تثنيه حتى إذا تخيل أنه القريع الذي لا يقارع، والنزيع الذي لا يجارى ولا ينازع، وأنه رب الغلب ومالك القصب، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينه السلام، فطأطأ كثير منهم رأسه وخفض جناحه وطامن على التسليم له جأشه، وتخيل أبو محمد المهلبي أن أحداً لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معز الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته، ويساويه في منزلته. نهدت حينئذ متتبعاً عواره، ومتعقباً آثاره، ومطفياً ناره، ومهتكاً أستاره، ومقلماً أظفاره، وناشراً مطاويه، وممزقاً جلباب مساويه، متحيناً أن تجمعنا دار فأجرى أنا وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق، حتى إذا لم أجد ذلك قصدت موضعه الذي كان يحله في ربض حميد، فوافق مصيري إليه حضور جماعة تقرأ شيئاً من شعره عليه، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعاً، ووارى شخصه عني مستخفياً، فنزلت عن بغلة كانت تحتي ناحية وهو يراني نازلاً عنها لانتهائي بها إلى أن حاذيته، فجلست في موضعه وإذا تحته قطعة من زيلو مخلقة قد أكلتها الأيام وتعاورتها السنون، فهي رسوم خافية وسلوك بادية، حتى وإذا خرج إلى نهضت إليه فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه ألا ينهض لي عند موافاتي، وإذا هو قد لبس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكان الوقت آخر أيام الصيف وأخلقها بتخفيف اللبس، فجلست وجلس وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه، ولا يسألني عما قصدت له، وقد كدت أتميز غيظاً وأقبلت أسخف رأيي في قصده، وأفنده نفسي في التوجه نحو مثله. ولوى عذراه عني مقبلاً على تلك الزعنفة التي بين يديه، كل واحد يومئ إليه ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني بيده، ويوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً وجرياً على شاكلة خلقه المشكلة، ثم رأى أن يثني رأسه إلي، فوالله ما زادني على أن قال: أي شيء خبرك؟ قلت أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار وقلت له: أبن لي عافاك الله ممن تيهك وخيلاؤك وعجبك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر؟ هل ها هنا نسب في الأبطح تبحبحت في بحبوحة الشرف وفرعت سماء المجد به؟ أم علم أصبحت علماً يقع الإيماء إليك فيه؟ هل أنت إلا وتد بقاع في شر البقاع؟ وجفاء سيل دفاع. يا لله استنت الفصال حتى القرعى وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحناً، فامتقع لونه عند سماع كلامي وعصب ريقه، وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار ليناً كاد يعطف عليه عطف صفحي عنه. ثم قلت: يا هذا، إن جاءك رجل شريف في نسبة تجاهلت نسبه، وأو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه لم تعرف موضعه، فهل العز تراث لك دون غيرك؟ كلا والله! لكنك مددت الكبر ستراً على نقصك، وضربته رواقاً دون جهلك. فعاد إلى الاعتذار، وأخذت الجماعة في تليين جانبي والرغبة إلي في قبول عذره واعتماد مياسرته، وأنا آبي إلا استشراء واجتراء، وهو يؤكد الأقسام ويواصلها أنه لم يعرفني فأقول: يا هذا، ألم يستأذن لي عليك باسمي ونسبي أما في هذه العصابة من يعرفك بي لو كنت جهلتني؟ وهب ذلك كذلك، ألم ترني ممتطياً بغلة رائعة يعلوها مركب ثقيل وبين يدي عدة من الغلمان؟ أما شاهدت لباسي؟ أما شمعت نشر عطري؟ أما راعك شيء من أمري أتميز به في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفض عليك، ارفق استأن، فأصبحت جانبي بعض الإصحاب ولان شماسي بعض الليان، وأقبل علي وأقبلت عليه ساعة ثم قلت: أشياء تختلج في صدري من شعرك أحب أن أرجعك فيها. قال وما هي؟ قلت خبرني عن قولك:
فإن كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
أهكذا تمدح الملوك؟ وعن قولك:

=======

ج14. كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


ولا من في جنازتها تجار ... يكون وداعهم نفض النعال
أهكذا تؤبن أخوات الملوك؟ والله لو كان هذا في أذني عبيدها لكان قبيحاً. وأخبرني عن قولك:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
أهكذا تنسب بالمحبوبين؟ وعن قولك في هجاء ابن كيغلغ:
وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
أما كان لك في أفانين الهجاء التي تصرفت فيها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الرذل الذي ينفر عنه كل طبع، ويمجه كل سمع. وعن قولك:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً
أفتعلم مرئياً يتناوله النظر لا يقع عليه اسم شيء؟ وما أراك نظرت إلا إلى قول جرير:
مازلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالاً
فأحلت المعنى عن جهته، وعبرت عنه بغير عبارته. وعن قولك:
أليس عجيباً أن وصفك معجز ... وأن ظنوني في معاليك تظلع
فاستعرت الظلع لظنونك، وهي استعارة قبيحة وتعجبت من غير متعجب، لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحيرها في معاليه، وإنما نقلته وأنشدته من قول أبي تمام:
ترقت مناه طود عز لو ارتقت ... به الريح فتراً لانثنت وهي ظالع
وعن قولك تمدح كافوراً:
فإن نلت ما أملت منك فربما ... شربت بماء يعجز الطير ورده
إنها مدح أو ذم؟ قال: مدح. قلت: إنك جعلته بخيلاً لا يوصلك إلى خيره من جهته، وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إله منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده لبعده وترامي موضعه. وأخبرني أيضاً عن قولك في صفة كلب وظبي:
فصار ما في جلده في المرجل ... فلم يضرنا معه فقد الأجدل
فأي شيء أعجبك من هذا الوصف؟ أعذوبة عبارته؟، أم لطف معناه؟، أما قرأت رجز ابن هانئ و طرد ابن المعتز؟ أما كان هناك من المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران وغرر المعاني التي اقتضباها ما تتشاغل به عن بنيات صدرك هذه؟. وألا اقتصرت على ما في أرجوزتك هذه من الكلام السليم ولم تسف إلى هذه الألفاظ القلقة والأوصاف المختلفة، فأقبل علي ثم قال: أين أنت من قولي؟:
كأن الهام في الهيجاء عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
وأين أنت من قولي في صفة جيش؟:
في فيلق من حديد لو رميت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
وأين أنت من قولي؟:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
وأين أنت من قولي؟:
أيقدح في الخيمة العذل ... وتشمل من دهره يشمل
وما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
وفيها أصف كتيبة:
وملومة زرد ثوبها ... ولكنه بالقنا مخمل
وأين أنت عن قولي؟:
ألناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه
والجود عين وأنت ناظرها ... والبأس باع وفيك يمناه
أما يلهيك إحساني في جميع هذه عن إساءتي في تلك؟ قلت: ما أعرف لك إحساناً في جميع ما ذكرته، إنما أنت سارق متبع، وآخذ مقصر، وفيما تقدم من هذه المعاني التي ابتكرها أصحابها مندوحة عن التشاغل بقولك. فأما قولك: كأن الهام في الهيجا عيون البيت فهو منقول من بيت منصور النمري:
فكأنما وقع الحسام بهامة ... خدر المنية أو نعاس الهاجع
وأما قولك: في فيلق، البيت فنقلته. نقلاً لم تحسن فيه من قول الناجم:
ولي في حامد أمل بعيد ... ومدح قد مدحت به طريف
مديح لو مدحت به الليالي ... لما دارت علي لها صروف
والناجم إنما نظمه من قول أرسطاطاليس، قد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت علي صروفه. وأما قولك: لو تعقل الشجر التي قابلتها البيت هذا معنى متداول تساجلته الشعراء وأكثرت فيه، فمن ذلك قول: الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ثم تكرر في أفواه الشعراء إلى أن قال أبو تمام:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى ... لسعى نحوها المكان الجديب
وأخذه البحتري فقال:

لو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر
وأما قولك: وما اعتمد الله تقويضهاً فقد نظرت فيه إلى قول رجل مدح بعض الأمراء بالموصل وقد كان عزم على السير فاندق لواؤه فقال:
ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مزيلا
لكن لأن العود ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
وأما قولك: وملمومة زرد ثوبهاً فمن قول أبي نواس:
أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد
وأما قولك: الناس ما لم يروك أشباه، فمن قول علي ابن نضر بسام في عبيد الله بن سليمان يرثيه:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وصاح صرف الدهر أين الرجال؟
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال؟
فقوله: قد استوى الناس ومات الكمال، هو قولك: الناس ما لم بروك أشباه. فقال بعض من حضر: ما أحسن قوله: قوموا انظروا كيف تزول الجبال! فقال أبو الطيب: اسكت ما فيه من حسن، ألم يسرقه من قول النابغة الذبياني؟:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح؟
فقال الحاتمي فقلت: قد سرقه النابغة من أوس حين قال:
ألم تكسف الشمس شمس النها ... ر والبدر للقمر الواجب
لفقد فضالة لا يستوي ال ... قعود ولا خلة الذاهب
قلت: والله لئن كان أخذه فقد أحسن وأخفى الأخذ. فقال الرجل أجل. فقال المتنبي: يا محسد خذ بيده وأخرجه يريد بمحسد ابنه. فرجعت إلى أن تركه ثم قلت له: وأما قولك: والدهر لفظ وأنت معناه، فمن قول من قول الأخطل إن كان البيت له في عبد الملك بن مروان:
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وقد قال جرير حين قال له الفرزدق:
فإني أنا الموت الذي هو نازل ... بنفسك فانظر كيف أنت تحاوله؟
وقال جرير:
أنا الدهر يفنى والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً تطاوله
ثم قلت له: أترى أن جريراً أخذ قوله: يفنى الموت من أحد، وأن أحداً شركه في إفناء الموت؟ ففكر طويلاً ثم قال لا، قلت: بلى عمران بن حطان حيث يقول:
لن بعجز الموت شيء دون خالقة ... والموت فان إذا ما ناله الأجل
وكل كرب أمام الموت متضع ... بالموت والموت فيما بعده جلل
فأمات الموت وأحياه وما سبقه إلى ذلك أحد. ثم قلت له: أترى أن البيت المتقدم الذي يقول فيه: لك الدهر لا عار بما فعل الدهر، مأخوذ من أحد؟ فأطرق هنيهة ثم قال: وما تصنع بهذا؟ قلت يستدل على موضعك ومواضع أمثالك من سرقة الشعر. فقال: الله المستعان، أساء سمعاً فأساء إجابة، ما أردت ما ذهبت إليه. قلت: فإنه أخذه من قول النابغة وهو أول من ابتكره:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وما علي بأن أخشاك من عار
ثم أخذه أبو تمام فأحسن بقوله:
خشعوا لصولتك التي هي فبهم ... كالموت يأتي ليس فيه عار
قال: ومن أبو تمام؟ قلت: الذي سرقت شعره فأنشدته. قال: هذه خلائق السفهاء لا خلائق العلماء. قلت أجل، أنت سفهت رأيي ولم يكن سفيهاً ألست القائل؟
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلالا
شرف ينطح الثريا بروقي ... ه وفخر يقلقل الأجبالا
قال بلى. قلت فإنك أخذت البيت الأول من بيت بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرق المزاح
وأخذت البيت الثاني فأفسدته من قول أبي تمام:
همة تنطح الثريا وجد ... آلف للحضيض فهو حضيض
قال: وبأي شيء أفسدته؟ قلت: بأن جعلت للشرف قرناً، قال: وأني لك بذلك؟ قلت ألم تقل: ينطح السماء بروقيه؟ والروقان: القرنان؟ قلت أجل، إنما هي استعارة؟ قلت نعم، هي استعارة خبيثة. قال: أقسمت غير محرج في قسمي إنني لم أقرأ شعراً قط لأبي تمامكم هذا. فقلت: هذه سوءة لو سترتها كان أولى. قال: السوءة قراءة شعر مثله، أليس هو الذي يقول:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
والذي يقول:

لعمري لقد حررت يوم لقيته ... لو أن القضاء وحده لم يبرد
والذي يقول:
تكاد عطاياه يجن جنونها ... إذا لم يعوذها بنغمة طالب
والذي يقول:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب
والذي يقول:
ولي ولم يظلم وهل ظلم امرؤ ... حث النجاء وخلفه التنين
والذي يقول:
فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته عوداً ركو
والذي يقول:
كانوا رداء زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا
والذي يقول:
أقول لقرحان من البين لم يصب ... رسيس الهوى بين الحشا والترائب
ما قرحان البين اخرس الله لسانه؟ فأحفظني ذلك وقلت: يا هذا، من أدل الدليل على أنك قرأت شعر هذا الرجل تتبعك مساويه: فهل في الدالة على اختلاقك إنكاره أوضح مما ذكرته؟ وهل يصم أبا تمام أو يسمه بميسم النقيصة ما عددته من سقطاته وتخونته من أبياته، وهو الذي يقول في النونية:
نوالك رد حسادي فلولا ... وأصلح بين أيامي وبيني
فهلا اغتفرت لأول لهذا البيت الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله؟ وأما قوله:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب
فلهذا البيت خبر لو استقريت صفحة لأقصرت عما تناولته بالطعن فيه. ثم قصصت الخبر وقلت في هذه القصيدة مالا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء وأمراء الكلام وأرباب الصناعة أن يأتي بمثله. قال: وما هو؟ قلت لو قال قائل: إن أحداً لم يبتدي بأوجز ولا أحسن ولا أخصر من قوله:
ألسيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
لما عنف في ذلك. وفيها يقول:
رمى بك الله برجيها فهدمها ... ولو رمى بك غير الله لم يصب
وفيها يقول:
لما رأى الحرب رأى العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب
وفيها يقول:
فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أبرادها القشب
وفيها يقول:
بكر فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب
وفيها يقول:
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى ... يشبها وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ... عن لونها وكأن الشمس لم تغب
وفيها يقول:
أجبته معلناً بالسيف منصلتاً ... ولو أجبت بغير السيف لم تصب
وأما قوله: أقول لقرحان من البين، فإنه يريد رجلاً لم يقطعه أحبابه ولم يبينوا عنه قبل ذلك، وإذا كانت حاله كذلك كان موقع البين أشد عليه وأفت في عضده، والأصل في هذا: أن القرحان الذي لم يجدر قط. وقد قال جرير:
وكنت من زفرات البين قرحاناً
وفي هذه القصيدة من المعاني الرائعة، والتشبيهات الواقعة، والاستعارات البارعة ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله. على أنا أبنا عن صحته معناه وعن أمثاله، فمن ذلك:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطع ما بيني وبين النوائب
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من نور يفتحه الندى ... بياض العطايا في سواد المطالب
وقد علم الأفشين وهو الذي به ... يصان رداء الملك عن كل جاذب
بأنك لما استحكم النصر واكتسى ... إهابي تسفى في وجوه التجارب
تجللته بالرأي حتى أريته ... به ملء عينيه مكان العواقب
بأرشق إذ سالت عليهم غمامة ... جرت بالعوالي والتعاق الشوارب
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه فيض العقول إذا انجلت ... سحائب جود أعقبت بسحائب

فبهره مما أوردته ما قصر عنان عبارته، وحبس بنيات صدره، وعقل عن الإجابة لسانه، كاد يشغب لولا ما تخوفه من عاقبة شغبه، وعرفه من مكاني في تلك الأيام، وأن ذلك لا يتم له، فما زاد على أن قال: قد أكثرت من أبي تمام، لا قدس الله أبا تمام وذويه. قلت: ولا قدس السارق منه والواقع فيه. ثم قلت له: ما الفرق - في كلام العرب - بين التقديس والقداس والقادس؟ فقال: وأي شيء غرضك في هذا؟ فقلت: المذاكرة. فقال: بل المهاترة ثم قال: التقديس: التطهير في كلام العرب، ولذلك سمي القدس قدساً لأنه يشتمل على الذي به الطهور، وكل هذه الأحرف تؤول إليه.
فقلت له: ما أحسبك أنعمت النظر في شيء من علوم العرب، ولو تقدمت منك مطالعة لها لما استجزت أن تجمع بين معاني هذه الكلمات مع تباينها، وذلك لأن القداس بتشديد الدال: حجر يلقى في البئر ليعلم به غزارة مائها من قلته، حكى ذلك ابن الأعرابي، والقداس: الجمان، حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله: كنظم قداس سلكه متقطع والقادس: السفينة. قال الشاعر يصف ناقةً:
وتهفو بهاد لها متلع ... كما اقتحم القادس الأردمونا
فلما علوته بالكلام قال: يا هذا، مسلمة إليك اللغة. قلت: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها؟ ومن نصابها وسرها، وأولى الناس بالتحقق بها والتوسع في اشتقاقها والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن لغته منك. فشرعت الجماعة الحاضرة في إعفائه وقبول عذره والتواطؤ له، وقال كل منهم: أنت أولى بالمراجعة والمياسرة لمثل هذا الرجل من كل أحد. وكنت قد بلغت شفاء نفسي وعلمت أن الزيادة على الحد الذي انتهيت إليه ضرب من البغي لا أراه في مذهبي، ورأيت له حق القدمة في صناعته. فطأطأت له كتفي واستأنفت جميلاً من وصفه، ونهضت فنهض لي مشيعاً إلى الباب حتى ركبت وأقسمت عليه أن يعود إلى مكانه، وتشاغلت بقية يومي بشغل عن لي تأخرت معه عن حضرة المهلب وانتهى إليه الخبر، وأتتني رسله ليلاً فأتيته فأخبرته بالقصة على الحال، فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة قائلاً له: أعلمت ما كان من فلان والمتنبي؟ قال نعم، قد شفا منه صدورنا.
محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيليأبو بكر النحوي اللغوي. سكن قرطبة من بلاد الأندلس، وأخذ عن أبي إسماعيل القالي، واعتمد عليه الحكم ابن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس - والحكم هو المتغلب على بلاد الغرب المتقلب بالمستنصر - في تعليم ولده، مات الزبيدي بإشبيلية في جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة. كذا ذكر ابن بشكوال.
وقال الحميدي: توفي قريباً من سنة ثمانين وثلاثمائة، وروى عنه غير واحد منهم: ابنه الوليد محمد وإبراهيم ابن محمد الأفليلي النحوي وغيرهما. والزبيدي نسبة إلى زبيد ابن صعب بن سعد العشيرة رهط عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وقد ذكر الحميدي في كتابه في باب الحسن بن عبد الله ابن مذحج بن محمد بن عبيد الله بن بشير بن أبي حمزة بن ربيعة بن مذحج بن الزبيدي: سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى ابن يحيى الليثي ومن غيره وسمع. وكانت وفاته بالأندلس قريباً من سنة عشرين وثلاثمائة، وقد سمعت من يقول: إنه والد أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي مؤلف كتاب الواضح، ويشبه أن يكون ذلك والله أعلم.
قال الحميدي: أبو بكر الزبيدي من الأئمة في اللغة والعربية، وألف في النحو كتاباً سماه كتاب الواضح. واختصر كتاب العين اختصاراً حسناً، وله كتاب في أبنية سيبويه، وله كتاب ما يلحن فيه عوام الأندلس، وكتاب طبقات النحويين.
قال المؤلف: وقد نقلت إلى كتابي هذا ما نسبته إليه. وبلغني أن أهل الغرب يتنافسون في كتبه خصوصاً كتابه الذي اختصره من كتاب العين، لأنه أتمه باختصاره وأوضح مشكله، وزاد فيه ما عساه كان مفتقراً إليه، وله غير ما ذكرناه من التصانيف في كل نوع من الأدب.
قال الحميدي: وكان شاعراً كثير الشعر، أخبرنا أبو عمر ابن عبد البر قال: كتب الزبيدي إلى أبي مسلم بن فهد:
أبا مسلم إن الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللبس

وليس ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصوراً على قصر النفس
وليس يقيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي
قال: وقال أبو محمد علي بن أحمد: كتب الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي إلى صاحب الشرطة أبي بكر محمد ابن الحسن الزبيدي بمنظوم بين له فيه الخطأ بتصريح وهو:
قل للوزير السني محتده ... لي ذمة منك أنت حافظها
عناية بالعلوم معجزة ... قد بهظ الأولين باهظها
يقر لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظامها وجاحظها
قد كان حقاً قبول حرمتها ... لكن صرف الزمان لافظها
وفي خطوب الزمان لي عظة ... لو كان يثني النفوس واعظها
إن لم تحافظ عصابة نسبت ... إليك قدماً فمن يحافظها؟
لا تدعن حاجتي مطرحة ... فإن نفسي قد فاظ فائظها
فأجابه المصحفي:
خفض فواقاً فأنت أوحدها ... علماً ونقابها وحافظها
كيف تضع العلوم في بلد ... أبناءه كلهم تحافظها؟
ألفاظهم كلها معطلة ... ما لم يعول عليك لافظها
من ذا يساويك إن نطقت وقد ... أقر بالعجز عنك جاحظها؟
علم ثنى العالمين عنك كما ... ثنى سنا الشمس من يلاحظها
فقد أتتني فديت شاغله ... للنفس أن قلت فاظ فائظها
فأوضحنها نفز بنادرة ... قد بهظ الأولين باهظها
فأجابه الزبيدي وضمن الشعر الشاهد على ذلك:
أتاني كتاب من كريم مكرم ... فنفس عن نفس تكاد تفيظ
فسر جميع الأولياء وروده ... وسئ رجال آخرون وغيظوا
لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لدى سواه والكريم حفيظ
وباحث عن فاظت وقبلي قالها ... رجال لديهم في العلوم حظوظ
روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا ... مقال أبي الغياظ وهو مغيظ
فلا حفظ الرحمن روحك حية ... ولا هي في الأرواح حين تفيظ
قال الحميدي: قال لي أبو محمد: وقد يقال: فاضت نفسه بالضاد، ذكر يعقوب ابن السكيت في كتاب الألفاظ له. قال: وله - وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى إشبيلية فلم يأذن له فكتب إلى جارية له هناك تدعى سلمى - :
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للبين من زماع
لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع
ما خلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع
ما بينها والحمام فرق ... لولا المناحات والنواعي
إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع
فكل شمل إلى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع
وكل قرب إلى بعاد ... وكل وصل إلى انقطاع
قال المؤلف: هذا آخر ما كتبنا من كتاب الحميدي وهو الذي وجدناه فيه من خبره.
محمد بن الحسن المذحجي أبو عبد اللهيعرف بان بالكتاني، ذكره الحميدي في تاريخ الأندلس وقال: له مشاركة قوية في علم الأدب والشعر، وله تقدم في علوم الطب والمنطق والكلام في الحكم، ورسائل في كل ذلك وكتب معروفة، مات بعد الأربعمائة، وله كتاب محمد وسعدي مليح في معناه.
ومن شعره:
ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل ... وبانت ليالي البين واشتمل الشمل
فسعدي نديمي والمدامة ريقها ... ووجنتها روضي وقبلتها النقل
ومنه أيضاً:
نأيت عنكم فلا صبر ولا جلد ... وصحت واكبدي حتى مضت كبدي
أضحى الفراق رفيقاً لي يوصلني ... بالبعد والشجو والأحزان والكمد
وبالوجوه التي تبدو فأنشدها ... وقد وضعت على قلبي يدي بيدي
إذا رأيت وجوه الطير قلت لها: ... لا بارك الله في الغربان والصرد
محمد بن الحسن الجبلي النحويذكره الحميدي في تاريخه أيضاً، وهو أديب شاعر كثير القول كان يقرأ عليه الأدب

وأنشدني لنفسه:
وما الأنس بالأنس الذين عهدتهم ... بأنس ولمن فقد أنسهم أنس
إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أن العرض مني لهم ترس
قال ابن ماكولا: قتل سنة خمس وأربعمائة، وقال لي الحميدي: تركته حيا.
محمد بن الحسن البرجيالأديب الأصفهاني قال ابن مندة: مات في محرم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
محمد بن الحسين الفارسيبن محمد بن الحسين بن عبد الوارث أبو الحسين الفارسي النحوي ابن أخت أبي علي الفارسي، وأخذ عن خاله علم العربية، وطوف الآفاق ورجع إلى الوطن، وكان خاله أوقده على الصاحب بن عباد إلى جهة الري فارتضاه وأكرم مثواه، ثم تغرب أبو الحسين ولقي الناس في انتقاله، وورد خراسان ونزل بنيسابور دفعات، وأملي بها من الأدب والنحو ما سارت به الركبان، وآل أمره إلى أن وزر للأمير شاد عرسي ستان ثم أختص بالأمير إسماعيل بن سبكتكين بغزنة ووزر له، ثم عاد إلى نيسابور، ثم توجه إلى مكة وجاور بها ثم عاد إلى غزنة ورجع إلى نيسابور، ثم انتقل إلى أسفراين، ثم استوطن جرجانة إلى أن مات، وقرأ عليه أهلها منهم: عبد القاهر الجرجاني وليس له أستاذ سواه، وللصاحب بن عباد مكاتبات إليه مدونة، وله تصانيف منها: كتاب الهجاء، وكتاب الشعر. مات سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، ومن شعره:
ولا غصن إلا ما حواه قباؤه ... ولا دعص إلا ما خبته مآزره
وأمضى من السيف المنوط بحضره ... إذا شيم سيف تنتضيه محاجره
محمد بن الحسين الطبريبن محمد الطبري النحوي يعرف بابن نجدة مشهور في أهل الأدب، وله خط مرغوب فيه، قرأ على الفضل بن الحباب الجمحي بن خليفة، ومن شعره:
شفاء العمى حسن السؤال وإنما ... يطيل العمى طول السكوت على الجهل
فكن سائلاً عما عناك فإنما ... خلقت أخا عقل لتسأل بالعقل
محمد بن حمد بن محمدبن عبد الله بن محمود ابن فورجة بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم، والبروجردي، أديب فاضل مصنف، له كتاب الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني، يرد فيه على أبي الفتح بن جني في شرح شعر المتنبي، ومولده في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاثمائة، كان موجوداً سنة خمس وخمسين وأربعمائة ومن شعره:
أيها القاتلي بعينيه رفقاً ... إنما يستحق ذا من قلاكا
أكثر اللائمون فيك عتابي ... أنا واللائمون فيك فداكا
إن لي غيرة من اسمي ... إنه دائماً يقبل فاكا
محمد بن حيويه بن المؤملالوكيل أبو بكر بن أبي روضة الكرجي النحوي، روي عن إبراهيم بن الحسين، ومحمد بن المغيرة السكري من أهل همذان، وروي عنه كامل بن أحمد النحوي، وأبو الحسن ابن الصباح، وأبو سعد بن عبد الرحمن بن محمد الإدريسي السمرقندي الحافظ وقال لا أعتمد عليه، وقد تكلموا فيه، وليس عندهم بذاك، وسئل عن سنة فقال: مائة واثنتي عشرة سنة، ومات سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابيأبو عبد الله، كان مولى لبني هاشم لأنه من موالي العباس ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان أبوه زياد عبداً سندياً، وكان من أكابر أئمة اللغة المشار إليهم في معرفتها نحوياً، لم يكن للكوفيين أشبه برواية البصريين منه رواية لأشعار القبائل ناسباً. وكان ربيباً للمفضل الضبي، سمع منه الدواوين وصححها، وأخذ عن الكسائي كتاب النوادر، وأخذ عن أبي معاوية الضرير والقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود القاضي، وأخذ عنه إبراهيم الحربي، وأبو عكرمة الضبي، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وابن السكيت، وكانت طريقته طريقة الفقهاء والعلماء، وكان أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب.
وقال أبو العباس ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل. وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان قليلاً ولا كثيراً.

وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي: سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي. وقال: شاهدت ابن الأعرابي وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، كل يسأله أو يقرأ عليه ويجيب من غير كتاب. قال: ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتاباً قط، وما أشك في أنه أملي على الناس ما يحمل على أجمال، ولم ير أحد في علم الشعر واللغة أغزر منه.
وقال محمد بن الفضل الشعراني: كان للناس رؤساء، كان سفيان الثوري رأساً في الحديث، وأبو حنيفة رأساً في القياس، والكسائي رأساً في القرآن، فلم يبن الآن رأس في فن من الفنون أكبر من ابن الأعرابي فإنه رأس في كلام العرب، وكان ممن وسم بالتعليم، فكان يأخذ كل شهر ألف درهم فينفقها على أهله وإخوانه، وتماسك في آخر أيامه بعد سوء حاله. ويحكي أنه اجتمع أبو عبد الله بن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد، فسأل أبو زياد ابن الأعرابي عن قول النابغة على ظهر منباة فقال: النطع بفتح النون وسكون الطاء، فقال أبو زياد: النطع بكسر النون وفتح الطاء. فقال أبو عبد الله نعم. وإنما أنكر أبو زياد النطع بفتح النون وسكون الطاء لأنها لم تكن لغته، ورأى ابن الأعرابي في مجلسه يوماً رجلين يتحدثان فقال لأحدهما: من أين أنت؟ فقال من أسفيجاب، وقال للآخر من أين أنت؟ فقال من الأندلس، فعجب من ذلك وأنشد
رقيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
ثم أملى علي من حضر مجلسه بقية الأبيات الآتيه
نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحين هجان
فقالت وأرخت جانب الستر بيننا ... لأية أرض أم من الرجلان؟
فقلت لها: أما رفيقي فقومه ... تميم وأما أسرتي فيماني
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
وحكى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: اجتمع عندنا أبو نصر أحمد بن حاتم وابن الأعرابي فتجاذبا الحديث إلى أن حكى أبو نصر أن أبا الأسود دخل على عبيد الله بن زياد وعليه ثياب رثة فكساه ثياباً جدداً من غير أن يعرض به بسؤال فخرج وهو يقول:
كساك ولم تستكسه فاحمدنه ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
فإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والعرض وافر
فأنشد أبو نصر قافية البيت الأول، وياصر بالياء يريد ويعطف، فقال له ابن الأعرابي وناصر بالنون، فقال دعني يا هذا ويا صرى وعليك بناصرك. وحدث الصولي قال: غني في مجلس الواثق بشعر الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
فقيل بسوار وبسئار، فوجه إلى ابن الأعرابي وهو يومئذ بسر منرأي فسأل عن ذلك فقال: بسوار يريد بوثاب أي لا يثب على ندمائه، وبسئار: أي لا يفضل في القدح سؤره وقد رويا جميعاً، فأمر له الواثق بعشرة آلاف درهم. وحكى عن ابن الأعرابي أنه روي قول الشاعر:
ولاعيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام وأنا لا نحط على النمل
نحط بحاء مهملة وقال معناه: إنا لا نحط على بيوت النمل لنصيب ما جمعوه وهذا تصحيف، وإنما الرواية لا نخط على النمل واحدتها نملة، وهي قرحة تخرج بالجنب تزعم المجوس أن ولد الرجل إذا كان من أخته ثم خط على النملة شفى صاحبها، ومعنى البيت: إنا لسنا بمجوس ننكح الأخوات. وعن أبي عمران قال: كنت عند أبي أيوب أحمد ابن محمد بن شجاع فبعث غلامه إلى أبي عبد لله بن الأعرابي يسأله المجيء إليه فعاد إليه الغلام فقال: قد سألته ذلك فقال لي: عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت. قال الغلام: وما رأيت عنده أحداً إلا أني رأيت بين يديه كتباً ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة، ثم ما شعرنا حتى جاء فقال له أيوب: إنه ما رأى عندك أحداً وقد قلت له أنا مع قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي أتيت فأنشد:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أموات فما أنت كاذب ... وإن قلت أحياء فلست مفندا

وقال محمد بن حبيب: سأل أبا عبد الله بن الأعرابي في مجلس واحد عن بضع عشرة مسالة من شعر الطرماح يقول في كلها لا أدري ولم أسمع، أفأحدث لك برأيي؟ وقال أبو العباس ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: من لا قبول عليه فلا حياة لأدبه. وقال: ما رأيت قوماً أكذب على اللغة من قوم يزعمون أن القرآن مخلوق. واغتاب رجل عنده بعض العلماء فقال له: لو لم نقل فينا ما قلت عندنا فلا تجلسن إلينا. وله من التصانيف كتاب النوادر وهو كبير، كتاب الأنواء، كتاب صفة النخل، كتاب صفة الزرع، كتاب الخيل، كتاب النبت والبقل، كتاب نسب الخيل، كتاب تاريخ القبائل، كتاب تفسير الأمثال، كتاب النبات، كتاب معاني الشعر، كتاب صفة الدرع، كتاب الألفاظ، كتاب نوادر الزبيريين، كتاب نوادر بني فقعس، كتاب الذباب وغير ذلك.
قال أبو العباس ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: ولدت في الليلة التي مات فيها أو حنيفة. وقال أبو غالب علي بن النضر: توفي ابن الأعرابي سنة ثلاثين ومائتين، وقيل سنة إحدى وثلاثين، وقيل سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وقد بلغ من العمر إحدى وثمانين سنة وأربع أشهر وثلاثة أيام، وكانت وفاته في خلافة الواثق بن المعتصم، وصلى عليه قاضي احمد بن أبي داؤد الإيادي.
محمد بن زيد بن مسلمةأبو الحسن النحوي المعروف بابن أبي الشملين، لا أعرف من حاله إلا ما قرأته في كتاب أدب المريض والعائد لأبي شجاع البسطامي قال: كتب أبو محمد بن علي بن سمعون النرسي الحافظ بخطه وأذن لنا في روايته عنه: أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن، أنشدنا أبو الحسن محمد بن زيد بن مسلمة النحوي قال: أنشدنا أبو علي الفارسي والسيرافي قالا: أنشدنا أبو بكر السراج قال: عدنا أبا الحسن ابن الرومي في مرضه فأنشدنا لنفسه:
ولقد سئمت مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
محمد بن السرى بن سهلأبو بكر السراج البغدادي النحوي. قال المرزباني: كان أحدث أصحاب أبي العباس المبرد مع ذكاء وفطنة، قرأ عليه كتاب سيبويه، ثم اشتغل بالموسيقى فسئل عن مسألة بحضرة الزجاج فأخطأ في جوابها فوبخه الزجاج وقال مثلك يخطئ في مثل هذه المسألة؟ والله لو كانت في منزلي لضربتك، ولكن المجلس لا يحتمل ذلك. فقال: قد ضربتني يا أبا إسحاق، وكان علم الموسيقى قد شغلني عن هذا الشأن، ثم رجع إلى كتاب سيبويه ونظر في دقائقه، وعول على مسائل الأخفش والكوفيين، وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة. ويقال: ما زال النحو مجنوناً حتى عقله ابن السراج بأصوله، وكان أحد العلماء المذكورين وأئمة النحو المشهورين، وإليه انتهت الرياسة في النحو بعد المبرد.
وأخذ عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، وأبو سعيد السيرافي، وأبو علي الفارسي، وعلي بن عيسى الرماني.
ويحكي أنه اجتمع هو وأبو بكر بن مجاهد وإسماعيل القاضي في بستان وكان فيه دولاب، فعن لهم أن يبعثوا بإدارتها فلم يقدروا على ذلك، فالتفت أحدهم وقال: أما تستحيون؟ مقرئ البلد ونحويه وقاضيه لا يجئ منهم ثور.
وحكى أن أبا بكر بن السراج كان يهوى جارية فجفته، فاتفق وصول الإمام المكتفي في تلك الأيام من الرقة فاجتمع الناس لرؤيته، فلما شاهد أبو بكر جمال المكتفي تذكر جمال معشوقته وجفاءها له، فانشد بحضرة أصحابه:
ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا ألا تخون عهودنا ... فكأنما حلفت لنا ألا تفي
والله لا كلمتها ولو أنها ... كالبدر أو الشمس أو كالمكتفي
ثم إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي الكاتب أنشدها لأبي العباس بن الفرات وقال هي لابن المعتز، وأنشدها أبو العباس للقاسم بن عبيد الله الوزير، فاجتمع الوزير بالمكتفي وأنشدها إياه وقال للمكتفي: هي لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأمر بألف دينار فوصلت إليه فقال ابن زنجي: ما أعجب هذه القصة، يعمل أبو بكر بن السراج أبياتاً تكون سبباً لوصول الرزق إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر!.

قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو بكر ابن السراج يوم الأحد لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر. وله من المصنفات: كتاب الأصول وهو أحسنها وأكبرها وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه جمع فيه أصول علم العربية، وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب، وكتاب جمل الأصول وهو الأصول الأصغر، وشرح كتاب سيبويه، والموجز، وكتاب الاشتقاق لم يتم كتاب الرياح والهواء والنار، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الجمل، كتاب احتجاج القراء، كتاب الخط، كتاب المواصلات والمذكرات، كتاب الهجاء وغير ذلك.
وحكى الرماني قال: ذكر كتاب الأصول بحضرته فقال قائل: هو أحسن من المقتضب. فقال أبو بكر لا نقل هكذا وأنشد:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدي شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدم
وقال أبو علي الفارسي: جئت لأسمع من كتاب سيبويه وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر على إتمامه فانقطعت عنه لتمكني من مسائله، فقلت في نفسي بعد مدة: إذا عدت إلى فارس وسئلت عن إتمامه فإن قلت نعم كذبت، وإن قلت لا بطلت الرواية فدعتني الضرورة أن حملت إليه رزمة وأقبلت إليه، فلما أبصرني من بعيد أنشد:
كم قد تجرعت من غيظ ومن حنق ... لكن تجدد وجدي هون الماضي
وكم غضبت ولم يلووا على غضبي ... فعدت طوعاً بقلب ساخط راضي
محمد بن سعدان بقلب الضريرأبو جعفر الكوفي النحوي المقرئ، ولد سنة إحدى وستين ومائة، وروي عن عبد الله بن إدريس وأبي معاوية الضرير، وروي عنه محمد بن سعد كاتب الواقدي، وعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، وأبن المرزبان وكان ثقة، وكان يقرأ بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه ففسد عليه الأصل والفرع إلا أنه كان نحوياً. وقال بعضهم: أخذ ابن سعدان القراءات عن أهل مكة والمدينة والشام والكوفة والبصرة ونظر في الاختلاف وكان ذا علم بالعربية، وصنف كتاباً في النحو، وكتاباً في القراءات.
قال ابن عرفه: مات يوم عيد الأضحى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في خلافة الواثق بن المعتصم، وله ولد يقال له إبراهيم من أهل العلم.
وقال الداني في طبقات القراء: أخذ القراءة عرضاً عن سليم بن عيسى عن حمزة، وعن يحيى بن المبارك اليزيدي عن أبي عمرو عن إسحاق بن محمد المسيبي عن نافع وعن معلى ابن منصور عن أبي بكر بن عاصم، وروى عنه القراء محمد ابن أحمد بن واصل وهو أجل أصحابه وأثبتهم له.
محمد بن سعد ويقال ابن سعيد الرباحيبالباء الموحدة، أبو عبد لله الأعرج الطليطلي الخطيب النحوي اللغوي، أصله من قلعة رباح من أعمال طليطلة بالأندلس، رحل إلى المشرق وسمع بمصر ابن الورد وابن السكن وحدث وأفاد، مولده سنة تسع وثلاثمائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
محمد بن سعيدأبو جعفر البصير الموصلي العروضي النحوي، كان أبو إسحاق الزجاج معجباً به، وكان في النحو ذا قدم ثابتة، اجتمع يوماً مع أبي علي الفارسي عند أبي بكر بن شقير فقال لأبي علي: في أي شيء تنظر يا فتى؟ فقال في التصريف، فجعل يلقي عليه المسائل على مذهب البصريين والكوفيين حتى ضجر، فهرب أبو علي منه إلى النوم وقال: إني أريد النوم. فقال: هربت يا فتى؟ فقال: نعم هربت، وكان ذكياً فهيماً - له في الشعر رتبة عالية - إماماً في استخراج المعمي والعروض، قال له الزجاج يوماً وقد سأله عن أشياء من العروض: يا أبا جعفر، لو رآك الخليل لفرح بك، قرأ عليه عبيد الله بن جعفر الأسدي النحوي وغيره.
محمد بن سلام الجمحيبن عبد الله بن سالم الجمحي البصري أبو عبد الله، كان من أعيان أهل الأدب، وألف كتاباً في طبقات الشعراء، وله غريب القرآن، وأخذ عن حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة وجماعة. وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وابنه عبد الله وأبو العباس ثعلب وأحمد علي بن الأبار.
قال أبو خليفة: ابيضت لحية محمد بن سلام ورأسه وله سبع وعشرين سنه. وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شبة: حدثنا جدي قال: كان محمد بن سلام له علم بالشعر والأخبار وهما من جملة علوم الأدب.

وقال الحسين بن فهم: قدم علينا محمد بن سلام سنة اثنتين وعشرين ومائتين فاعتل علة شديدة فما تخلف عنه أحد، وأهدى له الأجلاء أطباءهم، فكان ابن ما سويه من جملة من أهدى إليه، فلما جسه ونظر إليه قال له: لا أرى بك من العلة ما أرى بك من الجزع. فقال: والله ما ذاك على الدنيا مع اثنتين وسبعين سنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة. فقال ابن ماسويه: لا تجزع فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية ما إن سلمت ممن العوارض بلغك عشر سنين. قال ابن فهم: فوافق كلامه قدراً، فعاش محمد بن سلام بعد ذلك عشر سنين. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في السنة التي مات فيها الواثق وبويع المتوكل بن المعتصم؟ وقال موسى بن هارون: توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
محمد بن سليمان البغداديابن قطر مش بن تركان شاه أبو نصر، البغدادي المولد السمرقندي الأصل، النحوي اللغوي الأديب، أحد أدباء عصرنا، واعيان أولي الفضل بمصرنا، تجمعت فيه أشتات الفضائل، وقد أخذ من كل فن من العلم بنصيب وافر، وهو من بيت الإمارة، وكانت له اليد الباسطة في حل إقليدس وعلم الهندسة مع اختصاصه التام بالنحو واللغة وأخبار الأمم والأشعار، خلف له والده أموالاً كثيرة فضيعها في القمار واللعب بالنرد، حتى احتاج إلى الوراقة فكان يورق بأجرة بخطه المليح الصحيح المعتبر، فكتب كثيراً من الكتب حتى ذكر الإمام الناصر فولاه حاجب الحجاب، فلم يزل بها إلى أن مات في ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، ومولده في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وله شعر رائق فمن ذلك:
ولا الذي سخر قلبي لها ... عبد كما سخرني قلبها
ما فرحي في حبها غير أن ... زين عندي هجرها قلبها
محمد بن طويس القصريأبو الطيب، هو من النحويين المعتزلة، أحد تلاميذ أبي علي الفارسي، أملي عليه المسائل القصريات وبه سميت، وأظنه من قصر ابن هبيرة من نواحي الكوفة، وقرأت في المفاوضة أنه لما كان حدثاً كان أبوة علي الفارسي يتعشقه ويخصه بالطرف ويحرص على الإملاء عليه والالتفات إليه، مات شاباً.
محمد بن حمدان الدلفي العجليأبو الحسن النحوي من أصحاب أبي الحسن علي الرماني كان نحوياً فاضلاً بارعاُ، شرح ديوان المتنبي ومات بمصر سنة ستين وأربعمائة.
محمد بن عبد الله بن قادمأبو جعفر النحوي، كان حسن النظر في علل النحو، وكان يؤدب ولد سعيد بن قتيبة الباهلي، وكان من أعيان أصحاب الفراء وأخذ عنه ثعلب. حكى عنه قال: وجه إلي إسحاق ابن إبراهيم المصعبي يوماً فأحضرني ولم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل وهو على غاية الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: إنه إسحاق، ومر غير متلبث حتى رجع إلى مجلس إسحاق فراعني ذلك، فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال: وهذا المال مال أوهذا المال مالاً؟ قال: فعلمت ما أراد ميمون، فقلت: الوجه مال، ويجوز مالاً، فأقبل إسحاق على ميمون يغلطه وقال: الزم الوجه في كتبك ودعنا من يجوز ويجوز ورمى بكتاب كان في يده، فسألت عن الخبر، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون - وهو ببلاد الروم عن إسحاق وذكر مالاً حمله إليه - وهذا المال مالاً. فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه على الحاشية: تخاطبني بلحن؟ فقامت القيامة على إسحاق، فكان ميمون بعد ذلك يقول: لا أدري كيف ابن قادم أبقى على روحي ونعمتي.

وحكى عن أحمد بن إسحاق بن بهلول: أنه دخل هو وأخوه بغداد فدار على الحلق يوم الجمعة فوقف على رجل يتلهب ذكاء ويجيب عن كل مت يسأل عنه من مسائل الأدب والقرآن فقلنا: من هذا؟ قالوا ثعلب، فبين نحن كذلك، إذ ورد شيخ يتوكأ على عصا فقال لأهل الحلقة أفرجوا للشيخ فأفرجوا له حتى جلس إلى جانبه، ثم إن سائلاً سأل ثعلباً عن مسألة فقال: الرؤاسي فيها كذا، وقال الكسائي كذا، وقال الفراء كذا، وقال هشام كذا، وقلت أنا كذا، فقال له الشيخ: لا أراني اعتقد فيها إلا جوابك، فالحمد لله الذي بلغني فيك هذه المنزلة. فقلنا: من هذا الشيخ؟ فقيل: أستاذه ابن قادم، وكان ابن قادم يعلم المعتز قبل الخلافة، فلما ولي بعث إليه فقيل له: أجب أمير المؤمنين، فقال أليس هو ببغداد يعني المستعين؟ فقالوا: لا وقد ولي المعتز، وكان قد حقد عليه بطريق تأديبه له، فخشي من بادرته، فقال لعياله: عليكم السلام، فخرج ولم يرجع إليهم وذلك في سنة إحدى وخمسين ومائتين، وله من الكتب: الكافي في النحو، المختصر فيه أيضاً، وكتاب غرائب الحديث.
محمد بن عبد الله بن محمدبن أبي الفضل أبوة عبد الله المرسي السلمي، شرف الدين الأديب النحوي، المفسر المحدث الفقيه أحد أدباء عصرنا، أخذ من النحو والشعر بأوفر نصيب، وضرب فيه بالسهم المصيب، وخرج التخاريج، وتكلم على المفصل للزمخشري، وأخذ عليه عدة مواضع بلغني أنها سبعون موضعاً أقام على خطئها البرهان، واستدل على سقمها ببيان، وله عدة تصانيف، خرج من بلاد المغرب سنة سبع وستمائة، ودخل مصر وسار إلى الحجاز ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد، وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنظامية، ورحل إلى خراسان ووصل إلى مرو الشاهجان، وسمع بنيسابور وهراة ومرو، ولقي المشايخ وعاد إلى بغداد، وأقام بحلب ودمشق ورأيته بالموصل، ثم حج ورجع إلى دمشق ثم عاد إلى المدينة فأقام على الإقراء. ثم انتقل إلى مصر وأنابها سنة أربع وعشرين وستمائة ولزم النسك والعبادة والانقطاع.
أخبرني أن مولده بمرسية سنة سبعين وخمسمائة، وأنه قرأ القرآن على ابن غلبون وغيره، والنحو على أبي الحسن علي ين يوسف بن شريك الداني، والطيب بن محمد بن الطيب النحوي، والشلوبيني، وتاج الدين الكندي، والأصول على إبراهيم بن دقماق والعميدي، والخلاف على معين الدين الجاجرمي، وسمع الحديث الكثير بواسط من ابن عبد السميع، ومن ابن الماندائي ومشيخته، وبهمذان من جماعة، وبنيسابور صحيح مسلم من المؤيد الطوسي وجزءا من ابن نجيد، ومن منصور بن عبد المنعم الفراوي، وأم المؤيد زينب بنت الشعري، وبهراة من ابن روح الهروي، وبمكة من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي، وكان نبيلاً ضريراً يحل بعض مشكلات إقليدس، وحدث بكتاب السنن الكبرى للبيهقي عن منصور بن عبد المنعم الفراوي، وبكتاب غريب الحديث للخطابي، صنف الضوابط النحوية في علم العربية، والإملاء على المفصل، وتفسيراً للقرآن سماه ري الظمآن في تفسير القرآن كبير جداً قصد فيه ارتباط الآي بعضها ببعض، وكتاباً في أصول الفقه والدين، وكتاباً في البديع والبلاغة، وله تفسير القرآن الأوسط عشرة أجزاء، وتفسير القرآن الصغير ثلاثة أجزاء، ومختصر صحيح مسلم، والكافي في النحو وتعليق الموطأ وتعاليق أخرى، وكان كثير الشيوخ والسماع. وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز، وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل فيها بحيث لا يستصحب كتباً في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه، وله النظم الرائق، والنثر الفائق، فمن شعره قوله:
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بكم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى
ألدين ما قال النبي وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا
وقال أيضاً:
قالوا فلان أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام
فأجبتهم: بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي
إستقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدها بسهام
وقال:

قالوا محمد قد كبرت وقد أتى ... داعي المنون وما اهتممت بزاد
قلت: الكريم من القبيح لضيفه ... عند القدوم مجيئه بالزاد
محمد بن عبد الله بن محمد بن موسىأبو عبد الله الكرماني النحوي الوراق، كان عالماً فاضلاً عارفاً بالنحو واللغة، مليح الخط صحيح النقل يورق بالأجرة، قرأ على ثعلب وخلط المذهبين، وله من الكتب: الموجز في النحو، وكتاب آخر فيه لم يتم، والجامع في اللغة ذكر فيه ما أغفله الخليل في العين، وما ذكر أنه مهمل وهو مستعمل وقد أهمل، وكان بينه وبن ابن دريد مناقضة، مات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
محمد بن عبد الله أبو الخيرالضرير المروزي النحوي، كان فقيهاً فاضلاً أديباً لغوياً نحوياً، تفقه على القفال المروزي فبرع في الفقه، واشتهر في النحو واللغة والأدب.
قال السمعاني. كان من أصحاب الرأي فصار من أصحاب الحديث بصحبته الإمام أبا بكر القفال، سمع الحديث منه ومن أبي نصر المحمودي، وروى عنه القاضي الحافظ أبو منصور السمعاني، وكان إذا دخل في داره يقرأ عليه الفقهاء الأدب والباب مردود، فإذا اجتاز به القفال راكباً وسمع صوت حافر فرسه على الأرض قام إلى داخل الدار لئلا يسمع الصوت القفال تعظيماً للأستاذ. مات أبو الخير سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.
والمروزي هذا هو المعروف بالمسعودي عند الشافعية، وقد يلقبونه بأبي عبد الله وهو أحد أئمتهم، معدود من أقران شيخه القفال، وله شرح على مختصر المازني عمدة في المذهب. ومن شعره:
تنافى المال والعقل ... فما بينها شكل
هما كالورد والنر ... جس لا يحويهما فصل
فعقل حيث لا مال ... وما حيث لا عقل
محمد بن عبد اللهخطيب القلعة الفخرية أبو عبد لله المعروف بالخطيب الإسكافي، الأديب اللغوي صاحب التصانيف الحسنة أحد أصحاب ابن عباد الصاحب، وكان من أهل أصبهان وخطيباً بالري.
قال ابن عباد: فاز بالعلم من أهل أصبهان ثلاثة: حائك وحلاج وإسكاف. فالحائك أبو المرزوقي. والحلاج أبو منصور ماشد، والإسكاف أبو عبد الله الخطيب. وصنف كتاب غلط كتاب العين، والغرة تتضمن شيئاً من غلط أهل الأدب، ومبادئ اللغة وشوهد كتاب سيبويه، ونقد الشعر، ودرة التنزيل وغرة التأويل في الآيات المتشابهة، وكتاب لطف التدبير في سياسات الملوك وغير ذلك، توفي سنة عشرين وأربعمائة.
محمد بن عبد الرحمنبن محمد بن مسعود ابن احمد بن الحسين بن مسعود أبو سعيد البندهي، وكان يكتب بخطه البنجديهي، اللغوي الفقيه الشافعي، من أهل الفضل والأدب والدين والورع. ورد بغداد ثم الشام وحصل له سوق نافقة وقبول تام عند صلاح الدين بن أيوب، وأقبلت عليه الدنيا فحصل كتباً لم تحصل لغيره ووقفها بخانقاه السميساطي، وأكثرها من خزنة كتب حلب التي أباح له السلطان صلاح الدين أن يأخذ منها ما شاء، وكان البنجديهي يعلم الملك الأفضل أبا الحسن علي بن صلاح الدين وحدث وأملى بالشام، وصنف شرحاً لمقامات الحريري في خمس مجلدات متوسطة استوعب وأحسن فيها ما شاء، ولد في وقت الغروب ليلة الثلاثاء غرة ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ومات بدمشق في ليلة السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربعة وثمانين وخمسمائة، وكان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات
قالت عهدتك تبكي ... دماً حذار التنائي
فلم تعوضت عنا ... بعد الدماء بماء؟
فقلت ما ذاك مني ... لسلوة أو عزاء
لكن دموعي شابت ... من طول عمر بكائي
محمد بن عبد الملك بن زهر

ابن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الأندلسي الإشبيلي أبو بكر، ولد بإشبيلية ونشأ بها، وحفظ القرآن وسمع الحديث، واقبل على الأدب واللغة والعربية فبرع في ذلك كله، وعانى الشعر فبلغ الإجادة فيه، وكان يحفظ شعر ذي الرمة، وانفرد بالإجادة فينظم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب على أهل المشرق، ولازم عبد الملك الباجي سبع سنين، وقرأ عليه المدونة في مذهب مالك، وأخذ صناعة الطب عن أبيه أبي مروان عبد الملك، وباشر أعمالها ففاق أهل زمانه، وخدم بها دولة الملثمين في آخر عهدهم، ثم خدم بها دولة الموحدين بني عبد المؤمن. ومات في أول دولة الناصر محمد، وكان حسن المعالجة جيد التدبير لا يماثله أحد في ذلك، وكان صحيح البنية قوي الأعضاء، وبلغ الشيخوخة ولم يفقد قوة عضو من أعضائه إلا ثقلاً في السمع اعتراه في أواخر عمره.
حكى أبو مروان محمد بن احمد الباجي أن أبا بكر بن زهر كان شديد البأس يجذب قوساً مائة وخمسين رطلاً بالإشبيلي وهو ست عشرة أوقية، وكان يحسن اللعب بالشطرنج بارعاً فيه، ولد سنة سبع وخمسمائة، وتوفي بمراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وقيل في أول سنة ست وتسعين، ودفن بمقابر الشيخ وقد ناهز التسعين.
ومن شعر الوزير أبي بكر بن زهر قوله:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخاً لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك الفتى
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى
كان الغواني يقلن يا أخي ولقد ... صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا
وقال في كتاب حيلة البرء لجالينوس وأجاد:
حيلة البرء صنفت لعليل ... يترجى الحياة أو لعليله
فإذا جاءت المنية قالت ... حيلة البرء: ليس في البرء حيلة
ومن موشحاته قوله:
أيها الشاكي إليك المشتكي ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته وشربت الراح من راحته كلما استيقظت من سكرته
جذب الزق إليه واتكا ... وسقاني أربعاً في أربع
غصن بان مال من حيث استوى بات من يهواه من فرط الجوى خفق الأحشاء موهون القوى
كلما فكر في البين بكى ... ما له يبكي بما لم يقع
ليس لي صبر ولا لي جلد يا لقوم هجروا واجتهدوا أنكروا شكواي مما أجد
إن مثلي حقه أن يشتكي ... كمد اليأس وذل الطمع
ما لعيني عشيت بالنظر أنكرت بعدك ضوء القمر وإذا ما شئت فاسمع خبري
قرهت عيني من طول البكا ... وبكا بعضي على بعضي معي
كبد حرى ودمع يكف يعرف الذنب ولا يعترف أيها المعرض عما أصف
قد نما حبك عندي وزكا ... لا يظن الحب أني مدعي
ومن موشحاته أيضاً:
شاب مسك الليل كافور الصباح ... ووشت بالروض أعراف الرياح
فاسقنيها قبل نور الفلق وغناء الورق بين الورق كاحمرار الشمس عند الشفق
نسج المزج عليها حين لاح ... فلك اللهو وشمس الاصطباح
وغزال سامني بالملق وبرى جسمي وأذكى حرقي أهيف مذ سل سيق الحدق
قصرت عنه مشاهير الصفاح ... وانثنت بالذعر أغصان الرماح
صار بالذل فؤادي كلفا وجفوني ساهرات وطفا كلما قلت جوى الحب انطفا
أمرض القلب بأجفان صحاح ... وسبى العقل بجد ومزاح
يوسفي الحسن عذب المبتسم قمري الوجه ليلي اللمم عنتري البأس عبسي الهمم
غصني القد مهضوم الوشاح ... ما درى الوصل طائي السماح
قد بالقد فؤادي هيفاً وسبا عقلي لما انعطفا ليته بالوصل أحيا دنفا
مستطار العقل مقصوص الجناح ... ما عليه في هواه من جناح
يا علي أنت نور المقل جد بوصل منك لي يا أملي كم أغنيك إذا ما لحت لي
طرقت والليل ممدود الجناح ... مرحباً بالشمس من غير صباح
وقال أيضاً:
لله ما صنع الغرام بقلبه ... وأودى به لما ألم بلبه
لباه لما أن دعاه وهكذا ... من يدعه داعي الغرام يلبه

بأبي الذي لا يستطيع لعجبه ... رد السلام وإن شككت فعج به
ظبي من الأعراب ما ترك الضنا ... في لحظة من سلوة لمحبه
إن كنت تنكر ما جنى بلحاظه ... في سلبه يوم الغوير فسل به
أو شئت أن تلقى غزالاً أغيداً ... في سربه أسد العرين فسر به
ياما أميلحه وأعذب ريقه ... وأعزه وأذلني في حبه
بل ما أليطف وردة في خده ... وأرقها وأشد قسوة قلبه
كم من خمار دون خمرة ريقه ... وعذاب قلب دون رائق عذبه
نادى بنفسج عارضيه وقد بدا ... : يا عاشقين تمتعوا من قربه
وقال أيضاً:
مازلت اسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعلم حين تأخذ ثارها ... أني أملت إناءها فأمالني
وقال أيضاً وأوصى أن يكتب على قبره:
تأمل بحقك يا واقفاً ... ولاحظ مكاناً دفعت إليه
فإني حذرت منه الأنا ... م وهأنا قد صرت رهناً لديه
محمد بن عبد الملكأبو عبد الله الكلثومي النحوي من الفضلاء الكبراء علامة في الإعراب واللغة والحساب ومعرفة الأيام والأنساب والنجوم، دخل خوارزم مع عدة من الأدباء والشعراء حين ضاق بهم الحال بخراسان وأنشد بها:
تقول سعاد ما تغرد طائر ... على فنن إلا وأنت كئيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
أجارتنا إن الغريب وإن غدت ... عليه غوادي الصالحات غريب
أجارتنا من يغترب يلق للأذى ... نوائب تقذى عينه فيشيب
يحن إلى أوطانه وفؤاده ... له بين أحناء الضلوع وجيب د
سقى الله ربعاً بالعراق فإنه ... إلي وإن فارقته لحبيب
أحن إليه من خراسان نازعاً ... وهيهات لو أن المزار قريب
وإن حنيناً من خوارزم ينتهي ... إلى منتهى أرض العراق عجيب
محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشمأبو عمر الزاهد المطرز الباوردي غلام ثعلب اللغوي، من أئمة اللغة وأكابر أهلها وأحفظهم لها. قال أبو علي ابن أبي علي التنوخي عن أبيه: ومن الرواة الذين لم يرقط أحفظ منهم أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب، أملي من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة فيما بلغني، وكان لسعة حفظه يطعن بعض أهل الأدب ولا يوثقونه في علم اللغة، حتى قال عبيد الله بن أبي الفتح: لو طائر طار في الجو لقال أبو عمر الزاهد: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ويذكر في معنى ذلك شيئاً، وكان المحدثون يوثقونه.
قال الخطيب البغدادي: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروي أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذكروا ما يرمي له من الكذب فقال أحدهم: أنا أصحف له القنطرة وأساله عن معناها فننظر ما يجيب.
فلما دخلوا عليه قال له الرجل: أيها الشيخ، ما الهرطنق عند العرب؟ فقال كذا وكذا، وذكر شيئاً فتضاحك الجماعة وانصرفوا، فلما كان بعد شهر أرسلوا إليه شخصاً آخر فسأله عن الهرطنق فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا ثم قال: هو كذا وكذا كما أجاب أولاً، قال القوم: فما ندري من أي الأمرين نعجب، من حفظه إن كان علماً؟ أم من ذكائه إن كان كذباً؟ فإن كان علماً فهو اتساع عجيب، وإن كان كذباً فكيف تناول ذكاؤه المسألة وتذكر الوقت بعد أن مر عليه زمان فأجاب بذلك الجواب بعينه. وحكى أن معز الدولة بن بويه قلد شرطة بغداد غلاماً تركياً من مماليكه اسمه خواجا، فبلغ ذلك أبا عمر الزاهد وكان يملي كتابه اليواقيت في اللغة، فقال للجماعة في مجلس الإملاء: اكتبوا يا قوتة خواجا، الخواج في أصل اللغة: الجوع، ثم فرع هذا باباً وأملاه عليهم، فاستعظموا كذبه وتتبعوه، فقال أبو علي الحاتمي وكان من أصحابه: أخرجنا في أمالي الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج: الجوع.

وحكى رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن عمن حدثه: أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى على الغلام نحواً من ثلاثين مسألة في النحو، وذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر، وحضر أبو بكر بن دريد وأبو بكر بن الأنباري وأبو بكر ابن مقسم العطار المقرئ عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل فما عرفوا منها شيئاً وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك واعتذر باشتغاله بالقراءات.
وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي عمر الزاهد ولا أصل لشيء منها في اللغة وانصرفوا، فبلغ ذلك أبا عمر فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم ففتح القاضي خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر الزاهد يعمد إلى كل مسألة منها ويخرج لها شاهداً من تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميع المائل ثم قال: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب كما ذكر أبو عمر وانتهت القصة إلى ابن دريد، فلم يذكر أبا عمر الزاهد بلفظه إلى أن مات. وقال رئيس الرؤساء أيضاً: رأيت أشياء كثيرة مما أنكر على أبي عمر ونسب فيها إلى الكذب فوجدتها مدونة في كتب اللغة، وخاصة في الغريب المصنف لأبي عبيد.
وقالب أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن رهان الأسدي: لم يتكلم في اللغة أحد من الأولين والآخرين بأحسن من كلام أبي عمر الزاهد، أخذ أبو عمر عن أبي العباس ثعلب وصحبه زماناً طويلاً فنسب إليه وعرف بغلام ثعلب، وأخذ عنه أبو علي الحاتمي الأديب الكاتب اللغوي، وأبو القاسم ابن برهان وغيرهما.
وروى عنه أبو الحسن محمد بن رزقويه وأبو علي ابن شاذان وغيرهما. وقال أبو الحسن المرزباني: كان إبراهيم بن أيوب بن ماسي ينفذ إلى أبي عمر الزاهد كفايته وقتاً فقطع ذلك عنه مدة لعذر ثم أنفذ إليه جملة ما كان انقطع عنه، وكتب إليه رقعة يعتذر بها من تأخير رسمه فرده، وأمر بعض من كان عنده من أصحابه أن يكتب له على ظهر رقعته:
أكرمتنا فملكتنا ... وتركتنا فأرحتنا
وكانت صناعة أبي عمر الزاهد التطريز فنسب إليها، وكان جماعة من الأشراف والكتاب يحضرون مجلسه للسماع منه وكان قد جمع جزأ في فضائل معاوية، فكان لا يمكن احداً من السماع حتى يبتدئ بقراءة ذلك الجزء.
وعن محمد بن العباس بن الفرات قال: كان مولد أبي عمر الزاهد سنة إحدى وستين ومائتين، وقال الخطيب البغدادي: توفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وذلك في خلافة المطيع لله. ودفن يوم الاثنين في الصفة التي تقابل قبر معروف الكرخي وبينهما عرض الطريق. وعن أبي الحسن ابن رزقويه: توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. والصحيح الأول. ولأبي عمر من الكتب: شرح الفصيح لثعلب، وفائت الفصيح جزء لطيف، واليواقيت في اللغة، والمرجان في اللغة، والكتاب الحضري في الكلمات، وغريب الحديث، صنفه على مسند أحمد بن حنبل، كتاب المكنون والمكتوم، وفائت المستحسن، وكتاب ما أنكره الأعراب على أبي عبيدة فيما رواه، والموشح، والسريع، والتفاحة، وفائت الجمهرة، وفائت العين، وتفسير أسماء القراء، والمداخل في اللغة، وحل المداخل، والنوادر، وكتاب العشرات، وكتاب البيوع، وكتاب الشورى، والمستحسن في اللغة، وكتاب القبائل، وكتاب يوم وليلة، وكتاب الساعات وغير ذلك، وأملي في آخر كتابه اليواقيت في اللغة قوله:
لما فرغنا من نظام الجوهرة ... إعورت العين وفض الجمهرة
ووقف الفصيح عند القنطره وعن أبي علي الحاتمي: أنه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر فسأل عنه فقيل: إنه كان عليلاً، فجاءه من الغد يعوده، فاتفق انه كان قد خرج إلى الحمام فكتب على باب داره بالإسفيداج:
وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد
قال وهو من شعره. وحدث عباس بن محمد الكلوذاي قال: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضائها رفعة، فاحمدوا الله تعالى على ذلك، وسارعوا في قضاء حوائجهم مسارهم تكافئوا عليه.
وحكى أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: قال: أنشد أبو العباس اليشكري في مجلس أبي عمر الزاهد يمدحه:

أبو عمر يسمو من العلم مرتقى ... يزل مساميه ويردى مطاوله
ولو أنني أقسمت ما كنت حانثاً ... بأن لم ير الراؤون حبراً يعادله
هو الشخت جسماً والسمين فضيلة ... فأعجب بمهزول سمان فضائله
تدفق بحراً بالمسائل زاخراً ... تغيب عمن لج فيه سواحله
إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجر حتى قلت هذي أوائله
محمد بن عبيد الله بن الحسن بن الحسينابن أبي البقاء البصري، قاضي البصرة أبو الفرج النحوي، قدم بغداد وواسط، وقرأ الأدب على أبي غالب بن بشران وغيره، والفقه على القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق الشيرازي والماوردي، وسمع بالأهواز من الحسين الخوزي، وبالبصرة من الفضل القصباني وعبيد الله الرقي والحسن بن رجاء وابن الدهان النحويين، وروى عن الماوردي كتبه كلها، وكان حافظاً للفقه حسن المذاكرة كثير القراءة، محتشماً عن السلاطين، وله تصانيف حسان منها: مقدمة في النحو، كتاب المتقعرين. توفي في تاسع عشر المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وسمع في مرضه يقول: ما أخشى أن الله يحاسبني أنني أخذت شيئاً من وقف أو مال يتيم.
محمد بن عبيد الله أبو الفتحابن التعاويذي، ويعرف أيضاً بسبط ابن التعاويذي، وكلاهما نسبة لجده لأمه أبي محمد المبارك بن المبارك بن السراج الجوهري المعروف بابن التعاويذي الزاهد، كان شاعر العراق في وقته، وكان كاتباً بديوان الأقطاع ببغداد، واجتمع به العماد الكاتب الأصفهاني لما كان بالعراق وصحبه مدة، فلما انتقل العماد إلى الشام واتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان ابن التعاويذي يراسله، فكان بينهما مراسلات ذكر بعضها العماد في الخريدة، وعمي أبو الفتح في آخر عمره سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وله في ذلك أشعار كثيرة يندب بها بصره وزمان سبابه. مدح السلطان صلاح الدين بثلاث قصائد أنفذها إليه من بغداد، إحداها عارض بها قصيدة أبي المنصور علي ابن الحسن المعروف بصردر التي أولها:
أكذا يجازي كل قرين؟
فقال ابن التعويذي وأحسن ما شاء:
إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطي برملتي يبرين
والثم ثرى لو شارفت بي هضبه ... أيدي المطي لثمته بجفوني
وانشد فؤادي في الظباء معرضاً ... فبغير غزلان الصريم جنوني
ونشيدتي بين الخيام وإنما ... غالطت عنها بالظباء العين
لولا العدا لم أكن عن ألحاظها ... وقدودها بجآذر وغصون
لله ما اشتملت عليه قبابهم ... يوم النوى من لؤلؤ مكنون
من كل تائهة على أترابها ... في الحسن غانية عن التحسين
خود ترى قمر السماء إذا بدت ... ما بين سالفة لها وجبين
غادين ما لمعت بروق ثغورهم ... إلا استهلت بالدموع شؤوني
إن تنكروا نفس الصبا فلأنها ... مرت بزفرة قلبي المحزون
وإذا الركائب في المسير تلفتت ... فحنينها لتلفتي وحنيني
يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم ... فأنا الذي استودعت غير أمين
أو عدت مغبوناً فما أنا في الهوى ... لكم بأول عاشق مغبون
رفقاً فقد عسف الفراق بمطلق ال ... عبرات في أسر الغرام رهين
مالي ووصل الغانيات أرومة ... ولقد بخلن علي بالماعون
وعلام أشكو والعهود نقضنها ... بلحاظهن إذا لوين ديوني
هيهات ما للغيد في حب امرئ ... أرب وقد أربي على الخمسين
ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أو وفاء خئوون
ليت الضنين على المحب بوصلة ... ألف السماحة عن صلاح الدين
ملك إذا علقت يد بذمامه ... علقت بحبل في الوفاء متين
قاد الجياد معاقلاً وإن اكتفى ... بمعاقل من رأيه وحصون
سهرت جفون عداه خيفة فاتح ... خلقت صوارمه بغير جفون

لو أن لليث الهزبر سطاه لم ... يلجأ إلى غاب له وعرين
أضحت دمشق وقد حللت بجوها ... مأوى الضعيف وموئل المسكين
لك عفة في قدرة وتواضع ... في عزة وصرامة في لين
وأريتنا بجميل صنعك ما روى ال ... راوون عن أمم خلت وقرون
وضمنت أن تحي لنا أيامهم ... بالمكرمات فكنت خير ضمين
كاد الأعادي أن يصيبك كيدها ... لو لم تكدك برأيها المأفون
تخفي عداوتها وراء بشاشة ... فتشف عن نظر لها مشفون
دفنت حبائل مكرها فرددتها ... تبلى بغيظ صدورها المدفون
وعلمت ما أخفوا كأن قلوبهم ... أفضت إليك بسرها المخزون
فهوت نجوم سعودهم وقضى لهم ... بالنحس طائر جدك الميمون
وأما قصيدته الثانية فهي:
حتام أرضي في هواك وتغضب ... وإلى متى تجني علي وتعتب؟
ما كان لي لولا ملالك زلة ... لما مللت زعمت أني مذنب
خذ في أفانين الصدود فإن لي ... قلباً على العلات لا يتقلب
أتظنني أضمرت يوماً سلوة ... هيهات عطفك من سلوى أقرب
لي فيك نار جوانح لا تنطفي ... شوقاً وماء مدامع لا ينضب
أنسيت أياماً لنا وليالياً ... للهو فيها والخلاعة ملعب
أيام لا الواشي يش بتولهى ... بك للرقيب ولا العذول يؤنب
قد كنت تصفي المودة راكباً ... في الحب من أخطاره ما أركب
واليوم أقنع أن يمر بمضجعي ... في النوم طيف خيالك المتأوب
قالت وريعت من بياض مفارقي ... ونحول جسمي بان عنك الأطيب
إن تنقمي سقمي فخصرك ناحل ... أو تنكري شيبي فثغرك أشنب
يا طالباً بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزمان المذهب
أتروم بعد الأربعين تعدها ... وصل الدمى؟ هيهات عز المطلب
لولا الهوى العذري يا دار الهوى ... ما هاج لي ذكراك برق خلب
كلا ولا استسقيت للطلل الحيا ... وندا صلاح الدين هام صيب
ثم مضى في المدح فأجاد وأحسن، وأما الثالثة فنكتفي بإيراد أبيات من مديحها قال:
فلا يضجرنك ازدحام الوفود ... عليك وكثرة ما تبذل
فإنك في زمن ليس فيه ... جواد سواك ولا مفضل
وقد قل في أهله المنعمون ... وقد كثر البائس المرمل
وما فيه غيرك من يستماح ... وما فيه إلاك من يسأل
وقال من قصيدة يندب بصره:
لقد رمتني رميت بالأذى ... بنكبة قاصمة الظهر
وأوترت في مقلة قلما ... علمتها باتت على وتر
جوهرة كنت ضنيناً بها ... نفيسة القيمة والقدر
إن أنا لم أبك عليها دماً ... فضلاً عن الدمع فما عذري؟
مالي لا أبكي على فقدها ... بكاء خنساء على صخر
وقال أيضاً في ذلك من أبيات:
حالان مستنى الحوا ... دث منها بفجيعتين
إظلام عين في ضيا ... ء من مشيب سرمدين
صبح وإمساء معاً ... لا خلفة فاعجب لذين
قد رحت في الدنيا من الس ... سراء صفر الراحتين
أسوان لا حي ولا ... ميت كهمزة بين بين
وقال أيضاً في ذلك من أبيات:
فهأنا كالمقبور في كسر منزلي ... سواء صباحي عنده ومسائي
يرق ويبكي حاسدي لي رحمة ... وبعداً لها من رقة وبكاء
وقال في الشيخوخة:
من شبه العمر بالكاس يرسو ... قذاه ويرسب في أسفله
فإني رأيت القذى طافياً ... على صفحة الكاس من أوله
وقال في الهرم أيضاً:
وعلو السن قد كس ... سر بالشيب نشاطي

كيف سموه علوا ... وهو أخذ في انحطاط
وقال في ذلك أيضاً:
أسفت وقد نفت عني الليالي ... جديداً من شباب مستعار
وكان يقيم عذري في زمان الص ... صبا لون الشبيبة في عذاري
ولم أكره بياض الشيب إلا ... لأن العيب يظهر في النهار
وقال أيضاً:
سقاك سار من الوسمي هتان ... ولا رقت للغوادي فيك أجفان
يا دار لهوى وإطرابي ومعهد أت ... رابي وللهو أوطار وأوطان
أعائد لي ماض من جديد هوى ... أبليته وشباب فيك فينان؟
إذ الرقيب لنا عين مساعدة ... والكاشحون لنا في الحب أعوان
وإذ جميلة توليني الجميل وعن ... د الغانيات وراء الحسن إحسان
ولي إلى البان من رمل الحمى طرب ... فاليوم لا الرمل يصيبني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر ... إذ بكى الربع، والأحباب قد بانوا
إن المغاني معان والمنازل أم ... وات إذا لم يكن فيهن سكان
لله كم قمرت لي بجوك أق ... مار وكم غازلتني فيك غزلان
وليلة بات يجلو الراح من يده ... فيها أغن خفيف الروح جذلان
خال من الهم في خلخاله حرج ... فقلبه فارغ والقلب ملآن
يذكي الجوى بارد من ريقه شبم ... ويوقد الظرف طرف منه وسنان
إن يمس ريان من ماء الشباب فلي ... قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجله قيل للأغماد أجفان
فكيف أصحوا غراماً أو أفيق جوى ... وقده ثمل بالتيه نشوان؟
أفديه من غادر بالعهد غادرني ... صدوده ودموعي فيه غدران
في خده وثناياه ومقلته ... وفي عذاريه للعشاق بستان
شقائق وأقاح نبته خضل ... ونرجس أنا منه الدهر سكران
وكان له راتب في الديوان فلما عمى طلب أن يجعل باسم أولاده، ثم كتب هذه القصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر التمس بها تجديد راتب مدة حياته:
خليفة الله أنت بالدين والد ... نيا وأمر الإسلام مضطلع
أنت لما سنه الأئمة أع ... لام الهدى مقتف ومتبع
قد عدم العدم في زمانك والجو ... ر معاً والخلاف والبدع
فالناس في الشرع والسياسة وال ... إحسان والعدل كلهم شرع
يا ملكاً يردع الحوادث وال ... أيام عن ظلمها فترتدع
ومن له أنعم مكررة ... لنا مصيف منها ومرتبع
أرضى قد أجدبت وليس لمن ... أجدب يوماً سواك منتجع
ولي عيال لا در درهم ... قد أكلوا دهرهم وما شبعوا
إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي ومالوا إلي واجتمعوا
وطالما قطعوا حبالي إع ... راضاً إذا لم تكن معي قطع
يمشون حولي شتى كأنهم ... عقارب كلما سعوا لسعوا
فمنهم الطفل والمراهق والر ... ضيع يحبو والكهل واليفع
لا قارح منهم أؤمل أن ... ينالني خيرة ولا جذع
لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع
من كل رحب المعاء أجوف نا ... ري الحشا لا يمسه الشبع
لا يحسن المضغ فهو يطرح في ... فيه بلا كلفة ويبتلع
ولي حديث يلهي ويعجب من ... يوسع لي خلقه ويستمع
نقلت رسمي جهلاً إلى ولد ... لست بهم ما حييت أنتفع
نظرت في نفعهم وما أنا في اج ... تلاب نفع الأولاد مبتدع
وقلت هذا بعدي يكون لكم ... فما أطاعوا أمري ولا سمعوا

واختلسوه مني فما تركوا ... عيني عليه ولا يدي تقع
فبئس والله ما صنعت فأض ... ررت بنفسي وبئس ما صنعوا
فإن أردتم أمراً يزول به ال ... خصام من بيننا ويرتفع
فاستأنفوا لي رسماً أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع
وإن زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع
حاشا لرسم الكريم ينسخ من ... نسخ دواوينكم فينقطع
فوقعوا لي بما سألت فقد ... أطمعت نفسي واستحكم الطمع
ولا تطيلوا معي فلست ولو ... دفعتموني بالراح أندفع
وحلفوني ألا تعود يدي ... ترفع في نقله ولا تضع
وكل شعر أبي الفتح غرر وديوانه كبير يدخل في مجلدين، جمعه بنفسه قبل أن يضر وافتتحه بخطبة لطيفة ورتبه على أربعة أبواب، وما حدث من شعره بعد المعي سماه الزيادات، وهي ملحقة ببعض نسخ ديوانه المتداولة، وبعض النسخ خلو منها.
وله كتاب سماه الحجبة والحجاب في مجلد كبير ونسخه قليلة. ولد أبو الفتح بن التعاويذي في اليوم العاشر من رجب سنة تسع عشرة وخمسمائة، وتوفي في ثاني شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد ودفن في مقبرة باب أبرز.
محمد بن عثمان بن بلبلأبو عبد الله. لغوي نحوي، صحب السيرافي والفارسي وروى عنه كتابه الحجة في القراءات، وسمعه ابن بشران النحوي، وقرأ على ابن خالويه وبرع في الشعر والأدب، وتوفي يوم الجمعة لسبع بقين من رمضان سنة عشر وأربعمائة، ومن شعره يمدح الوزير سابور
أضحى الرجاء لبرق جودك شائماً ... وارتاد روض الحمد وهفاً ناعما
سميت نفسي غذ رجوتك واثقاً ... ودعوتها لك مذ خدمتك خادما
فمتى أقوم بشكر نعمتك التي ... عقدت علي من الخطوب تمائما
لا زال جدك للعدو مزاحماً ... يعلو وآناف البغاة رواغما
محمد بن عثمان بن مسيحأبو بكر المعروف بالجعد، الشيباني النحوي، أحد أصحاب أبي الحسن بن كيسان، كان من العلماء الفضلاء مقدماً في النحو واللغة والأدب، وله من الكتب: كتاب الألفات، والناسخ والمنسوخ، كتاب معاني القرآن، كتاب القراءات، المختصر في النحو، كتاب الهجاء، كتاب المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب العروض، كتاب خلق الإنسان، كتاب الفرق، مات سنة نيف وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن علي بن إبراهيم بن زبرجأبو المنصور بن أبي البقاء البغدادي، قرأ النحو على أبي السعادات هبة الله بن علي بن الشجري، واللغة على أبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، وسمع الحديث من جده لأمه أبي العباس أحمد بن القاسم بن قريش، وأبي القاسم هبة الله ابن الحصين، وأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، سمع منه القاضي أبو المحاسن عمر بن علي بن الخضر القرشي، وأبو المفاخر محمد بن محفوظ الجرباذقاني، وعبد الرحمن بن يعيش بن سعدان القواريري، كان إماماً في النحو والعلوم العربية وتصدر للقراء، وكتب الخط المليح مع الصحة والضبط، وكان بينه وبين أبي محمد بن الخشاب البغدادي النحوي منافرات ومناظرات، ولد في ربيع الأول سنة أربع وثمانين، ومات يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وخمسمائة.
محمد بن علي بن أحمدأبو عبيد الله الحلي المعروف بابن حميدة النحوي، كانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة، قرأ على أبي محمد بن الخشاب البغدادي ولازمه حتى برع في علم العربية، وصنف كتباً منها: شرح أبيات الجمل لأبي بكر بن السراج، شرح اللمع لابن جني، وشرح المقامات الحريرية، وكتاب التصريف، والروضة في النحو، والأدوات في النحو أيضاً، وكتاب الفرق بين الضاد والظاء، ومولده سنة ست وثمانين وأربعمائة، ومات سنة خمسين وخمسمائة، أنشدني أبو الحسن علي بن نصر بن هارون الحلي قال: أنشدني محمد بن علي بن حميدة الحلي لنفسه:
سلام على تلك المعاهد والربا ... وأهلاً بأرباب القباب ومرحبا
وسقياً لربات الحجال وأهلها ... ورعياً لأرباب الخدور بيثربا
أحن لتياك الحجال وإن غدت ... ربائبها تبدي إلي التجنبا

وأصبوا لربع العامرية كلما ... تذكرت من جرعائها لي ملعبا
فلا هم إلا دون همي غدوة ... إذا جرت النكباء أوهبت الصبا
محمد بن أبي سارة عليأبو جعفر الرؤاسي ابن أخي معاذ الهراء، وسمي الرؤاسي لعظم رأسه، كان إماماً في النحو بارعاً في العربية، وهو أستاذ أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي.
قال أبو محمد درستويه: زعم أبو العباس بن يحيى ثعلب: أن أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو أبو جعفر الرؤاسي وكان يقول: كان الرؤاسي أستاذ الكسائي والفراء، وقال أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء: لما خرج الكسائي إلى بغداد قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي إلى بغداد وأنت أميز منه، فجئت إلى بغداد فرأيت الكسائي فسألته عن مسائل الرؤاسي فأجابني بخلاف ما عندي، فغمزت قوماً من علماء الكوفيين كانوا معي فقال الكسائي: مالك قد أنكرت؟ لعلك من أهل الكوفة فقلت نعم، فقال: الرؤاسي يقول كذا وكذا وليس صواباً، فقد سمعت العرب تقول كذا وكذا حتى أتى على مسائل الرؤاسي فلزمته.
وحكى عن الرؤاسي أنه قال: أرسل إلي الخليل بن أحمد يطلب كتابي فبعثته إليه فقرأه ووضع كتابه، وكان أبو جعفر الرؤاسي رجلاً صالحاً ورعاً، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب معاني القرآن، كتاب الوقف والإبتداء الكبير، كتاب الوقف والابتداء الصغير، والفيصل في العربية، وكتاب التصغير وغير ذلك.
محمد بن علي بن إسماعيل العسكريأبو بكر المعروف بمبرمان النحوي، أخذ عن المبرد وعن أبي إسحاق إبراهيم الزجاج وأكثر عنه، وأخذ عنه أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي وأبو علي الفارسي، وكان إماماً في النحو قيماً به، وكان مع علمه وفضله سخيفاً إذا أراد أن يمضي لمصلحة طرح نفسه في طبق حمال وشده بحبل، وربما كان معه ما يتنقل به نحو نبق وغيره فيأكل ويرمي الناس بالنوى يتعمد رؤوسهم، وربما بال على رأس الحمال فإذا قيل له في ذلك اعتذر، وقال بعض معاصريه يهجوه:
صداع من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيان
مكابرة ومخرقة وبهت ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
وكان المبرد يقول: تلاميذ أبي رجلان: أحدهما التكلاباذي يقرأ على أبي ثم يقول: قال المازني فيعلو، والآخر مبرمان يقرأ عليه ثم يقول: قال الزجاج فيسفل. وكان أبو بكر مبرمان ضنيناً بالقراءة عليه، لا يقرئ كتاب سيبويه إلا بمائة دينار، فقصده أبو هاشم الجبائي لقراءة الكتاب عليه فقال له مبرمان: قد عرفت الرسم؟ فقال أبو هاشم نعم، ولكن أسألك النظرة وأحمل إليك شيئاً يساوي أضعاف الرسم فأودعه عندك إلى أن يصل إلي مال لي في بغداد فأحمله إليك واسترد الوديعة، فتمنع قليلاً ثم أجابه، فعمد أبو هاشم إلى زنفيلجة حسنة مغشاة بالأدم محلاة فملأها حجارة وقفلها وختمها وحملها إلى مبرمان فوضعها بين يديه، فلما رأى منظرها وثقلها لم يشك في حقيقة ما ذكره، فوضعها عنده وأخذ عنه، فلما ختم الكتاب قال له المبرمان: احمل إلي مالي قبلك. فقال: أنفذ معي غلامك حتى أدفع إليه الرسم. فأنفذه معه إلى منزله، فلما جاء أبو هاشم إلى بيته كتب إلى مبرمان رقعة يقول فيها: قد تأخر حضور المال وأرهقني السفر، وقد أبحت لك التصرف في الزنفيلجة وهذا خطى لك حجة بذلك. وخرج أبو هاشم لوقته إلى البصرة ومنها إلى بغداد، فلما وصلت الرقعة إلى مبرمان استدعى بالزنفيلجة وفتحها فإذا فيها حجارة فقال: سخر منا أبو هاشم - لا حياه الله - واحتال علي بما لم يتم لغيره.
ولمبرمان من الكتب: شرح كتاب سيبويه لم يتم، وشرح شواهد سيبويه، كتاب المجموع على العلل، والتلقين في النحو، والمجاري، كتاب صفة شكر المنعم، وشرح كتاب الأخفش وغير ذلك، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن علي بن الحسين بن عمرأبو الحسن بن أبي الصقر الواسطي، كان فقيهاً أديباً شاعراً تفقه في بغداد على أبي إسحاق الشيرازي، وعلق عنه تعليقات وسمع منه ومن أبي بكر الخطيب وأبي سعد المتولي، وروى عنه أبو غالب الذهلي والحافظ محمد بن ناصر الدين، وأبو منصور موهوب الجواليقي وغيرهم، وكان شديد التعصب لمذهب الإمام الشافعي، وظهر ذلك في قصائد المعروفة بالشافعية، وغلب عليه الأدب والشعر فبرع فيهما، وجود الخط فبلغ فيه الغاية وجمع ديوانه في مجلد، ومن شعره:

من عارض الله في مشيئته ... فما لديه من بطشه خبر
لا يقدر الخلق باجتهادهم ... إلا على ما جرى به القدر
وقال أيضاً:
كل رزق ترجوه من مخلوق ... يعتريه ضرب من التعويق
وأنا قائل واستغفر ال ... له مقال المجاز لا التحقيق
لست أرضى من فعل إبليس شيئاً ... غير ترك السجود للمخلوق
وقال:
من قال لي جاه ولي حشمة ... ولي قبول عند مولانا
ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه لا كان من كانا
وقال وقد طعن في السن وعجز عن المشي:
كل أمر إذا تفكرت فيه ... أو تأملته رأيت ظريفاً
كنت أمشي على اثنتين قوياً ... صرت أمشي على ثلاث ضعيفا
وحضر عزاء طفل وهو يرتعش من الكبر، فتغامز عليه الحاضرون يشيرون إلى موت الطفل وطول حياته مع هذه السن، ففطن لهم وقال:
إذا دخل الشيخ بين الشباب ... عزاء وقد مات طفل صغير
رأيت اعتراضاً على الله إذ ... توفي الصغير وعاش الكبير
فقل لابن شهر وقل لابن دهر ... وما بين ذلك: هذا المصير
وقال أيضاً:
علة سميت ثمانين عاماً ... منعتني للأصدقاء القياما
فإذا عمروا تمهد عذري ... عندهم بالذي ذكرت وقاما
وقال:
ابن أبي الصقر افتكر ... وقال في حال الكبر
والله لولا بولة ... تحرقني وقت السحر
لما ذكرت أن لي ... ما بين فخذي ذكر
وقال:
وحرمة الود مالي عندكم عوض ... لأنني ليس لي في غيركم غرض
أشتاقكم وبودي لو يواصلني ... لكم خيال ولكن لست أغتمض
وقد شرطت على صحب صحبتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا
ومن حديثي بكم قالوا: به مرض ... فقلت: لا زال عني ذلك المرض
وقال:
ولما إلى عشر تسعين صرت ... ومالي إليها أب قبل صارا
تيقنت أني مستبدل ... بداري داراً والجار جارا
فتبت إلى الله مما مضى ... ولن يدخل الله من تاب نارا
وكان مولد ابن أبي الصقر في ذي القعدة سنة تسع وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة.
محمد بن علي بن عمرأبو منصور بن الجبان، أحد حسنات الري وعلمائها الأعيان، جيد المعرفة باللغة، باقعة الوقت وفرد الدهر، وبحر العلم وروضة الأدب، تصانيفه سائرة في الآفاق، كان من ندماء الصاحب بن عباد ثم استوحش منه، وصنف أبنية الأفعال، وشرح الفصيح والشامل في اللغة، قرئ عليه في سنة ست عشرة وأربعمائة.
قال ابن مندة، قدم أصبهان فتكلم فيه من قبل مذهبه، وقرأ عليه مسند الروياني بسماعه من جعفر بن فناكي، وابتلى بحب غلام يقال له البركاني، فاتفق أن الغلام حج فلم يجد بداً من مرافقته، فلما أحرم قال: اللهم لبيك اللهم لبيك، والبركاني ساقني إليك، وأبتلى بفراقه وبرح به فكتب إليه:
يا وحشتي لفراقكم ... أترى يدوم على هذا؟
ألموت والأجل المتا ... ح وكل معضلة ولاذا
ومن كلامه: قياسات النحو تتوقف ولا تطرد كقميص له جربانات، فصاحبه كل ساعة يخرج رأسه من جربانة، ومن تصانيفه أيضاً: كتاب سماه انتهاز الفرص في تفسير المقلوب من كلام العرب، قرأه عليه عبد الواحد بن برهان، ومن شعره يمدح الصاحب بن عباد:
ليهنك الأهنآن الملك والعمر ... ما سير الأسيران الشعر والسمر
وطال عمر سناك المستضاء به ... ما عمر الأبقيان الكتب والسير
يفدي الورى كلهم كافي الكفاة فقد ... صفا به الأفضلان العدل والنظر
له مكارم لا تحصى محاسنها ... أيحسب الأكثران الرمل والشجر؟
لكيده النصر من دون الحسام وإن ... تمرد الأشجعان الترك والخزر
ما سار موكبه إلا ويخدمه ... في سيره الأسنيان الفتح والظفر

وإن أمر على طرس أنامله ... أغضى له الأبهجان الوشي والزهر
دامت تقبلها صيد الملوك كما ... يقبل الأكرمان الركن والحجر
محمد بن عليأبو سهل الهروي النحوي اللغوي، ولد في رمضان سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وأخذ عن صاحب الغريبين أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي، وروي عنه وعن أبي يعقوب النجيرمي وأبي أسامة جنادة بن محمد النحوي رئيس المؤذنين بجامع عمرو، وله من الكتب: شرح الفصيح ومختصره، وكتاب أسماء الأسد، كتاب أسماء السيف. مات بمصر يوم الأحد ثالث المحرم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
محمد بن عليأبو بكر المراغي النحوي، قرأ علي أبي إسحاق إبراهيم الزجاج، وكان عالماً أديباً أقام بالموصل زمناً طويلاً، وله من الكتب: المختصر في النحو، وشرح شواهد الكتاب - كتاب سيبويه - .
محمد بن عليأبو الحسن الدقيقي النحوي، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، أخذ عن أبي الحسن الرماني وغيره. وصنف المرشد في النحو، وكتاب المسموع من كلام العرب وغير ذلك.
محمد بن علي بن أبي مروان الأمويأبن أخي المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الخليفة المرواني بالأندلس، كان أديباً فاضلاً شاعراً ومن شعره:
كم تصاب أردفته بتصاب ... واصطباح وصلته باغتباق
وكئوس أعطيتها بدر تم ... جل أن يعتريه نقص المحاق
وغصون جنيت منا ثماراً ... لم يشنها تساقط الأوراق
زمن لو بكيته حسب وجدي ... كنت أبكيه من دم الأحداق
وقال:
قد رضيت الهوى لنفسي خلا ... ورأيت الممات في الحب سهلا
وتذللت للحبيب وعز الصب ... ب في سنة الهوى أن يذلا
يأبى من أحل قتلي عمداً ... ومباح لسيدي ما استحلا
سوف أجزي الحبيب بالصد ودا ... مستجداً بالقطيعة وصلا
وإذا ما استزاد تيهاً وعجباً ... زدت طوعاً له خضوعاً وذلا
وقال:
تبدت بأكناف الحجاز ديارها ... فأوقد نار الوجد في القلب نارها
كأني بأنفاسي استمدت ضرامها ... وعن كبدي الحري تلظى استعارها
يحن إليها القلب حتى كأنما ... إليه تناهيها ومنه انتشارها
وقال:
لئن وعدتني وصلها وصل عاتب ... يجاحدني وعدي وينكرني حقي
فأفضل صوب الغيث في الأرض دافق ... وأبلغه ما جاء بالرعد والبرق
فإن ما نعتني فضل إنجاز موعد ... فإن الحيا الممنوع أشهى إلى الخلق
فلا كان لي في الأرض رزق أناله ... إذا لم يكن في نيل موعدها رزقي
وقال:
ومختطف للعين بت أشيمه ... مخالسة والليل حيران مطرق
سرى يخبط الظلماء حتى كأنه ... بوجدي يسري أو بقلبي يخفق
وقال:
غير مستنكر همول دموعي ... في التصابي وغير بدع خشوعي
ليس عزي إلا فناء اعتزازي ... وارتقائي إلا بقاء خضوعي
وبحسبي أني ألاقي عذولي ... باصطبار عاص ودمع مطيع
وقال:
ولما حمى الشوق المبرح ناظري ... كراه حذاراً أن يريني مثاله
شربت عقاراً ذكرتني ريقه ... ونشوتها أهدت إلى خياله
فيا نشوة كانت على الصب نعمة ... أنالت يدي ما لم أؤمل نواله
وقال:
راجعه شوقه فحنا ... وشفه شجوه فأنا
وسال من دمعه مصون ... أظهر ما كان مستكنا
فعاد فيه الهوى يقينا ... وكان عند الرقيب ظنا
لو كان يلقى الذي ألاقي ... أوسعني رحمه وحنا
وقال:
بين أجفانها وبين ضلوعي ... نازعتني الحياة أيدي المنون
لست أدري أعن مدى طرفها الفا ... تن موتي أم طرفي المفتون؟
وقال:
يا ربيعي ما كان ضرك لوجد ... ت علينا كما يجود الربيع
ورده ذاهب ووردك باق ... وهو سمح به وأنت منوع

كن شفيعي إليك يا جنة الخلد ... فمالي غير الخضوع شفيع
محمد بن عمران بن موسى بن سعيدابن عبد الله المرزباني. أبو عبد الله الراوية الأخباري الكاتب، كان راوية صادق اللهجة، واسع المعرفة بالروايات كثير السماع، روى عن البغوي وطبقته، وأكثر روايته بالإجاز لكنه يقول فيها أخبرنا، وكان ثقة صدوقاً من خيار المعتزلة.
قال أبو القاسم الأزهري: كان المرزباني يضع المحبرة وقنينة النبيذ فلا يزال يكتب ويشرب. وقال القاضي الحسين بن علي الصيمري: سمعت المرزباني يقول: كان في داري خمسون ما بين لحاف ودواج معدة لأهل العلم الذين يبيتون عندي، وصنف كتباً كثيرة في أخبار الشعراء والأمم والرجال والنوادر، وكان حسن الترتيب لما يصنفه، يقال إنه أحسن تصنيفاً من الجاحظ، ولد في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائتين، وتوفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقال الخطيب: سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وله من التصانيف: أخبار الشعراء المشهورين والمكثرين من المحدثين وأنسابهم وأزمانهم، وأولهم بشار بن برد وآخرهم ابن المعتز عشرة آلاف ورقة، أخبار أبي تمام نحو مائة ورقة، أخبار أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة أكثر من مائة ورقة، أخبار الأولاد والزوجات والأهل وما جاء فيهم من مدح وذم نحو مائتي ورقة، أخبار البرامكة من ابتداء أمرهم إلى انتهائه مشروحاً نحو خمسمائة ورقة، أخبار عبد الصمد بن المعذل الشاعر، أخبار محمد بن حمزة العلاف نحو مائة ورقة، أشعار النساء نحو ستمائة ورقة، أشعار الجن المتمثلين فيمن تمثل منهم بشعر أكثر من مائة ورقة، الأنوار والثمار فيما قيل الورد والنرجس وجميع الأنوار من الأشعار وما جاء فيها من الآثار والأخبار، ثم ذكر الثمار وجميع الفواكه وما جاء فيها، مستحسن النظم والنثر، تلقيح العقول أكثر من مائة باب وهو أكثر من ثلاثة آلاف ورقة، الرياض في أخبار المتيمين من الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين والمحدثين، شعر حاتم الطائي، كتاب الأزمنة ألف ورقة، ذكر فيه أحوال الفصول الأربعة والحر والغيوم والبروق والرياح والأمطار، وأوصاف الربيع والخريف وطرفاً من الفلك وأيام العرب والعجم وسنينهم وما يلحق بذلك من الأخبار والأشعار، كتاب الأوائل في أخبار الفرس القدماء وأهل العدل والتوحيد وشيء من مجالسهم نحو ألف ورقة، كتاب الدعاء نحو مائتي ورقة، كتاب ذم الحجاب نحو مائتي ورقة، كتاب ذم الدنيا نحو خمسمائة ورقة، كتاب الشباب والشيب نحو ثلاثمائة ورقة، كتاب الزهد وأخبار الزهاد، كتاب الشعر وهو جامع لفضائله وذكر محاسنه وأوزانه وعيوبه، وأجناسه وضروبه ومختاره وأدب قائليه ومنشديه، وبيان منحوله ومسروقه وغير ذلك، كتاب الفرج نحو مائة ورقة، كتاب العبادة نحو أربعمائة ورقة، كتاب المحتضرين نحو مائة ورقة، كتاب المراثي نحو خمسمائة ورقة، كتاب المغازي ثلاثمائة ورقة، كتاب نسخ العهود إلى القضاة نحو مائتي ورقة، كتاب الهدايا نحو ثلاثمائة ورقة، كتاب المديح في الولائم والدعوات نحو خمسمائة ورقة، المتوج في العدل وحسن السيرة أكثر من مائة ورقة، المرشد في أخبار المتكلمين نحو مائة ورقة، المستطرف في الحمقى والنوادر نحو ثلاثمائة ورقة، المشرف في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه ومواعظه ووصاياه، المفضل في البيان والفصاحة نحو ثلاثمائة ورقة، المزخرف في الإخوان والأصحاب أكثر من ثلاثمائة ورقة، المعجم ذكر فيه الشعراء على حروف المعجم فيه نحو خسمة آلاف اسم ألف ورقة، المقتبس في أخبار النحويين البصريين وأول من تكلم في النحو وأخبار القراء والرواة من أهل البصرة والكوفة نحو ثمانين ورقة، الموسع فيما أنكره العلماء على بعض الشعراء من كسر ولحن وعيوب الشعر ثلاثمائة ورقة، المنير في التوبة والعمل الصالح نحو أربعمائة ورقة، المفيد في أخبار الشعراء وأحوالهم في الجاهلية والإسلام ودياناتهم ونحلهم نيف وخمسة آلاف ورقة، الموثق في أخبار الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين على طبقاتهم نيف وخمسة آلاف ورقة، الواثق في وصف أحوال الغناء وأخبار المغنين والمغنيات الإملاء والأحرار وله غير ذلك.
أبو جعفر الكوفي النحوي

كان يؤدب عبد الله بن المعتز وكان نحوياً عارفاً بالقراءة والعربية بعيد النظر في البوادر، روى أنه حين كان يؤدب ابن المعتز أقرأه يوماً سورة والنازعات وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين في أي سورة أنت؟ فقل له: أنا السورة التي تلي سورة عبس، فلما سأله أبوه المعتز عن ذلك قال له: أنا في السورة التي تلي عبس. فقال له: من علمك هذا؟ فقال: مؤدبي أبو جعفر فأمر له بعشرة آلاف درهم، وكان أبو جعفر عالماً بالحديث والأثر وثقه الحافظ علي بن عمر وغيره.
محمد بن عمر بن عبد العزيزابن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم المعروف بابن القوطية الإشبيلي الأصل القرطبي أبو بكر اللغوي النحوي الأديب الشاعر، كان أعلم أهل زمانه باللغة والعربية إماماً مقدماً فيهما، وأروى أهل عصره للأشعار والأخبار لا يشق في ذلك غباره، ولا يلحق شأوه، وكان مع ذلك فقيهاً متمكناً حافظاً للحديث والآثار، غير أنه لم يكن له في ذلك أصول يرجع إليها فلم يكن ضابطاً للرواية، وكان ما يسمع منه من ذلك إنما يحمل على المعنى دون اللفظ، وكان كثيراً ما يقرأ عليه ما لا رواية له على سبيل الضبط والتصحيح، وكان مضطلعاً بأخبار الأندلس رواية لسير ملوكها وأمرائها وعلمائها وشعرائها، حافظاً لأخبارهم يملي ذلك عن ظهر قلبه، وكان أكثر ما يؤخذ عنه ويقرأ عليه كتب اللغة.
ولما دخل أبو علي القالي الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تقديمه وتعظيمه حتى قال له الخليفة المستنصر الحكم بن عبد الرحمن: من أنبل من رأيته ببلدنا في اللغة؟ فقال: أبو بكر ابن القوطية، ومما كان يزيد علمه وفضله اتصافه بالزهد والتقوى والنسك، وكان في أول أمره ينظم الشعر بالغاً فيه حد الإجادة مع الإحسان في المطالع والمقاطع وتخير الألفاظ الرشيقة والمعاني الشريفة، ثم ترك ذلك وأقبل على النسك والانفراد.
قال الثعالبي: أخبرني أبو سعيد بن دوست قال: أخبرني الوليد بن بكر الفقيه: أن أبا بكر يحيى بن هذيل الشاعر زار يوماً ابن القوطية في ضيعة له بسفح جبل قرطبة وكان منفرداً فيه عن الناس فألفاه خارجاً منها فلما رآه ابن القوطية استبشر به. فبادره يحيى بن هذيل ببيت حضرة على البديهة فقال:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك
فتبسم وأجابه مسرعاً بقوله:
من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا
قال ابن هذيل: فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي وأستاذي، وكان الشعر أقل صنائعه لكثرة علومه وغرائبه. سمع أبو بكر ابن القوطية من قاسم بن أصبغ وابن الأغبش وأبي الوليد الأعرج ومحمد بن عبد الوهاب ابن مغيث، وسمع بقرطبة من طاهر بن عبد العزيز، وسمع بإشبيلية من محمد بن عبد الله بن الفرق وسعيد بن جابر وحسن ابن عبد الله الزبيدي وغيرهم، ولقي أكثر مشايخ عصره بالأندلس فأخذ عنهم وأكثر النقل من فوائدهم، وروى عنه الشيوخ والكهول وطال عمره، فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، ومن تصانيفه: كتاب تصاريف الأفعال وهو أول مصنف في ذلك، ثم تبعه ابن القطام السعدي فوضع كتابه على منواله، كتاب المقصور والممدود جمع فيه فأوعى فأعجز من بعده عن أن يأتوا بمثله، وفاق به من تقدمه، وله شرح أدب الكتاب، وتاريخ الأندلس وغير ذلك.
مات ابن القوطية يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الأول سنة سبع وستين وثلاثمائة بمدينة قرطبة، ودفن يوم الأربعاء وقت صلاة العصر بمقبرة قريش، والقوطية نسبة إلى القوط، وهم ينسبون إلى قوط بن حام بن نوح، كانوا بالأندلس من أيام إبراهيم عليه السلام، ومن شعر أبي بكر بن القوطية:
ضحى أناخوا بوادي الكلح عيسهم ... فأوردوها عشاء أي إيراد
أكرم به وادياً حل الحبيب به ... ما بين رند وخابور وفرصاد
يا وادياً سار عنه الركب مرتحلاً ... بالله قل أين سار الركب يا وادي؟
أبالغضا نزلوا أم للوى عدلوا ... أم عنك قد رحلوا خلفاً لميعادي؟
بانوا وقد أورثوا جسمي الضنا وكأن ... كان النوى لهم أولى بمرصاد
وقال:
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... واخضر شاربه وطر عذاره

ورنت حدائقه وآزر نبته ... وتبسمت أنواره وثماره
واهتز قد الغصن لما أن كسى ... ورقاً كديباج يروق وإزاره
وتعممت صلع الربى بنيانها ... وترنمت في لحنها أطياره
محمد بن واقدالواقدي المدني مولى الأسلميين، أحد أوعية العلم وصاحب التصانيف الكثيرة، وسمع من مالك بن أنس والثوري ومعمر بن راشد بن أبي ذؤيب وغيرهم، وروي عنه جماعة من الأعيان وكاتبه محمد بن سعد الزهري، وكان عارفاً برأي مالك وسفيان الثوري.
وقال أبو داود الحافظ: بلغني أن ابن المديني قال: كان الواقدي يروي ثلاثين ألف حديث غريب، وكان ذلك إلى حفظه المنتهي في المغازي والسير والأخبار وأيام الناس والوقائع والفقه وغير ذلك، ولقي الواقدي ابن جريج وابن عجيلان ومعمراً وثور بن يزيد.
وقال الإمام إبراهيم الحربي: الواقدي أمين الناس على الإسلام. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال محمد بن إسحاق: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه. وقال مصعب بن الزبير: والله ما رأينا مثل الواقدي، وقال: أيضاً: الواقدي ثقة مأمون.
وقال الإمام إبراهيم الحربي: من قال إن مسائل مالك وابن أبي ذؤيب تؤخذ من أوثق من الواقدي فلا تصدقه. وقال الحافظ الدراوردي: الواقدي أمير المؤمنين في الحديث. وقال محمد بن سلام الجمحي: الواقدي علم دهره. وقال جابر ابن كردي: سمعت يزيد بن هارون يقول: الواقدي ثقة، ووثقه أيضاً أبو عبيد القاسم بن سلام.
وقال الخطيب في تاريخه: قدم الواقدي بغداد وولي قضاء الجانب الشرقي منها، وهو ممن طبق الأرض شرقها وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف الأخبار أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم والأحداث الكائنة في وقته وبعد وفاته، وكتب الفقه واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك، وكان جواداً مشهوراً بالسخاء - انتهى - . وسئل معن القزاز عن الواقدي فقال: أنا أسأل عن الواقدي؟ والواقدي يسأل عني، يعني تحري الواقدي في معرفة الرجال.
قال المؤلف: وهو مع ذلك ضعفه طائفه من المحدثين كابن معين وأبي حاتم والنسائي وابن عدي وابن راهويه والدارقطني، أما في أخبار الناس والسير والفقه وسائر الفنون فهو ثقة بإجماع، وكان الرشيد قد ولاه القضاء بشرقي بغداد، ثم ولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي وكان يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكتب الواقدي إلى المأمون مرة يشكو ضائقة ركبه بسببها دين وعين مقداره، فوقع المأمون على قصته بخطه: فيك خلتان: سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك بضعف ما سألت، وإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك فزد في بسطة يدك، فإن خزائن الله مفتوحة، ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه وتعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عليه. قال الواقدي: نسيت الحديث، وكان تذكيره لي به أعجب من صلته.

وعن ابن أبي الأزهر قال: حدثني أبو سهل الداري عمن حدثه عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا كنفس واحدة فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء نصرفه في كسوتهم قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي بما حضر، فوجه إلى كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري إذ كتب إلى الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلى مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها وأخبرتها بما فعلت استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه. فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته فقال لي: أصدقني عما فعلته فيما وجهت إليك، فعرفته الخبر على وجهه فقال: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي كيسي بخاتمي، قال الواقدي: فتقاسمنا الكيس أثلاثاً ونمى الخبر إلى المأمون، فدعاني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكل واحد ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار.
وروى ابن سعد عن الواقدي أنه قال: ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي وقال يعقوب بن شيبه: لما تحول الواقدي من الجانب الغربي يقال أنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر، وقيل كان له ستمائة قمطر كتب، ولد سنة ثلاثين ومائة، وتوفي عشية يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة سبع ومائتين عن سبعة وسبعين عاماً ودفن في مقابر الخيزران. وله من الكتب: كتاب الاختلاف يحتوي على اختلاف أهل المدينة والكوفة في الشفعة والصدقة والعمرى والرقبى والوديعة وعلى كتب الفقه الباقية، كتاب غلط الحديث، كتاب السنة والجماعة وذم الهوى، كتاب ذكر القرآن، كتاب الآداب، كتاب الترغيب في علم القرآن، التاريخ الكبير، كتاب التاريخ والمغازي والبعث، أخبار مكة، كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب السقيفة وبيعة أبي بكر، كتاب سيرة أبي بكر ووفاته، كتاب الردة والدار، كتاب السيرة، كتاب أمر الحبشة والفيل، كتاب حرب الأوس والخزرج، كتاب المناكح، كتاب يوم الجمل، كتاب صفين، كتاب مولد الحسن والحسين، كتاب مقتل الحسين، كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق، كتاب ضرب الدنانير والدراهم، كتاب مراعي قريش والأنصار في القطائع ووضع عمر الدواوين، كتاب الطبقات، تاريخ الفقهاء.
محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد

أبو عبد الله الأزدي الحميدي الحافظ المؤرخ الأديب أصله من قرطبة، وولد بميورقة جزيرة بالأندلس قبل العشرين وأربعمائة، وكان يحمل على الكتف للسماع سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وأول من سمع منه أبو القاسم أصبغ، وتفقه بابن أبي زيد القيرواني، وروى عنه رسالته ومختصر المدونة، ورحل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة إلى المشرق فج وسمع بمكة، وقدم مصر فسمع بها من الضراب والقراعي وغيرهما. وكان سمع بالأندلس من الحافظ ابن عبد البر، وأبي محمد بن حزم الظاهري ولازمه وقرأ عليه أكثر مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه، وشهر بصحبته وكان على مذهبه إلا أنه لم يتظاهر بذلك، وسمع بإفريقية ودمشق، وأقام بواسط مدة ثم رجع إلى بغداد واستوطنها، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته، وروى عنه الأمير الحافظ الأديب أبو نصر علي بن ماكولا وقال: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم. وقال بعض أكابر عصره ممن لقي الأئمة: لم تر عيناي مثل أبي عبد الله لحميدي في فضله ونبله ونزاهته وغزارة علمه، وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله، وكان ورعاً ثقة إماماً في علم الحديث وعلله، ومعرفة متونه ورواته، محققاً في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحراً في علم الأدب والعربية وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم الاهتمام بها: العلل وأحسن كتاب صنف فيها كتاب الدارقطني، ومعرفة المؤتلف والمختلف، وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر بن ماكولا، ووفيات الشيوخ وليس فيها كتاب. وقد كنت أردت أن أجمع في ذلك كتاباً فقال لي الأمير ابن ماكولا: رتبه على حروف المعجم بعد أن رتبته على السنين.
قال أبو بكر بن طرخان: فشغله عنه الصحيحان إلى أن مات، توفي ببغداد ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان أوصى مظفر بن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي، فخالف وصيته ودفنه في مقبرة باب البزر، فلما مضت مدة رآه مظفر في النوم يعاتبه على مخالفته، فنقل في صفر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى مقبرة باب حرب ودفن عند قبر بشر، ووجد كفنه حين نقل وبدنه طرياً تفوح منه رائحة الطيب.
صرف الحميدي جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس ألفه في بغداد وذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه، وتاريخ الإسلام، والأماني الصادقة، وتسهيل السبيل إلى علم الترسيل، والجمع بين الصحيحين للبخاري ومسلم، وكتاب ذم النميمة، والذهب المسبوك في وعظ الملوك، وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار، ومخاطبات الأصدقاء في المكاتبات واللقاء، وكتاب من ادعى الأمان من أهل الإيمان، ومن شعره:
كلام الله عز وجل قولي ... وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءاً ... وعوداً فهو عن حق مبين
فدع ما صد عن هذا وهذا ... تكن منها على عين اليقين
وقال:
ألفت النوى حتى أنست بوحشتي ... وصرت بها لا بالصبابة مولعا
فلم أحص كم رافقت فيها مرافقاً ... ولم أحص كم يممت في الأرض موضعا
ومن بعد جوب الأرض شرقاً ومغرباً ... فلا بد لي م أن أوافي مصرعا
وقال:
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
محمد بن فرجأبو جعفر الغساني الكوفي النحوي، أخذ عن سلمة بن عاصم صاحب الفراء. وقال الداني: أخذ القراءة عن أبي عمرو الدوري وله عنه نسخة، وروي عنه الحروف أحمد بن جعفر بن عبيد الله ابن المنادي ومحمد بن الحسن النقاش، وأبو مزاحم الخاقاني وغيرهم.
محمد بن القاسم

وقيل ابن خلاد بن ياسر بن سليمان الهاشمي بالولاء أبو عبد الله المعروف بأبي العيناء، الأخباري الأديب الشاعر، روي عن ابن عاصم النبيل، وسمع من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والعتبي غيرهم، وحدث عنه الصولي ابن نجيح وأحمد بن كامل وآخرون، وكان فصيحاً بليغاً من ظرفاء العالم آية في الذكاء واللسن وسرعة الجواب، فمن لطائفه: أنه شكا تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان فقال له: ألم نكن كتبنا لك إلى ابن المدبر فما فعل في أمرك؟ قال جرني على شوك المطل، وحرمني ثمرة الوعد، فقال: أنت اخترته. فقال: وما علي وقد اختار موسى قومه سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد، فأخذتهم الرجفةً، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتباً فلحق بالمشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكماً فحكم عليه. وحجبه بعض الأمراء ثم كتب إليه يعتذر منه فقال: تجبهني مشافهة وتعتذر إلى مكاتبة؟. وقال: أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن خاقان قلت له: وددت أن لي ابناً مثلك قال: هذا بيدك، قلت: كيف ذلك؟ قال: تحمل أبي على امرأتك فتلد لك ابناً مثلي. وبلغه أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنادمناه فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص صلحت للمنادمة. ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين فقال له: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال له: دع هذا عنك ونادمنا فقال: أنا رجل مكفوف وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء. فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال: (نعم العبد أنه أواب)، وقال عز وجل: (هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم). وقال الشاعر:
إذا أنا المعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه؟ ... وشق لي الله المسامع والفما؟
قال: فمن أين أنت؟ قال من البصرة: قال: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قرأت في تاريخ دمشق قال: قرأت على زاهر بن طاهر عن أبي بكر البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت عبد العزيز بن عبد الملك الأموي يقول: سمعت إسماعيل بن محمد النحوي يقول: سمعت أبا العيناء يقول: أنا والحافظ وضعنا حديث فدك وأدخلناه على الشيوخ في بغداد فقبلوه إلا ابن شيبة العلوي قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوله فأبي أن يقبله، وكان أبو العيناء يحدث بهذا بعد ما كان، وكان جد أبي العيناء الأكبر يلقى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى له ولولده من بعده، فكل من عمي من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم.
وقال المبرد: إنما صار أبو العيناء أعمى بعد أن نيف على الأربعين، وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى، والدليل على ذلك قول أبي البصير:
قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك إذ ذهب البصر
ولم ادر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر
وقال أحمد بن أبي دؤاد لأبي العيناء: ما اشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال أبدأ بالسلام، وكنت أحب أن أكون أنا المبتدئ، وأحدث من لا يقبل على حديثي ولو رأيته لم أقبل عليه. فقال له ابن أبي دؤاد: أما من بدأك بالسلام فقد كافأته بجميل بيتك له، ومن أعرض عن حديثك إنما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما نالك من سوء الإعراض. وقال محمد بن خلف المرزبان: قال لي أبو العيناء: أتعرف في شعراء المحدثين رشيداً الرياحي؟ قال: فقلت لا. قال: بل هو القائل في:
نسب لابن قاسم ما تراث ... فهو للخير صاحب وقرين
أحول الهين والخلائق زين ... لا احولال بها ولا تلوين
ليس للمرء شائناً حول العي ... ن إذا كان فعله لا يشين

فقلت له: وكنت قبل العمى أحول؟ أمن السقم إلى البلى؟ فقال: هذا أظرف خبر تعرج به الملائكة إلى السماء اليوم. وقال: أيما أصلح، من السقم إلى البلى؟ أو حال العجوز أصلحها الله من القيادة إلى الزناء؟. وحمله بعض الوزراء على دابة فانتظر علفها فلما أبطأ عليه قال: أيها الوزير، هذه الدابة حملتني عليها أو حملتها علي. وقال له المتوكل: هل رأيت طالبياً الوجه؟ قال نعم: رأيت ببغداد - منذ ثلاثين - واحداً قال: نجده كان مؤاجراً وكنت أنت تقود عليه، فقال يا أمير المؤمنين: أو يبلغ هذا من فراغي أدع موالي مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟ فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشتفي منهم فاشتفي لهم مني. وقال له يوماً: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وقال له ابن ثوابة يوماً: كتمت أنفاس الرجال فقال: حيث كانوا وراء ظهرك. وقال له جناح بن سلمة يوماً: ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فقال له: أستدفع الله عنك وعن أصهارك. ودخل يوماً على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يلعب بالشطرنج فقال: في أي الحيزين أنت؟ فقال في حيز الأمير - أيده الله - وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء، قد غلبنا وقد أصابك خمسون رطل ثلج فقام ومضى إلى ابن ثوابة وقال: إن الأمير يدعوك، فلما دخلا قال: أيد الله الأمير، قد جئتك بجبل همذان وما سبذان ثلجاً فخذ منه ما شئت، وكان بينه وبين محمد بن مكرم مداعبة فسمع ابن مكرم أبا العيناء يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال يا ابن الفاعلة: ومن ليس سائله؟! وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكدين بالبصرة؟ فقال له: مثل عدد البغائين ببغداد، وقال له ابن مكرم ذات يوم: هممت أن آمر غلامي أن يدوس بطنك فقال: الذي تخلفه على عيالك إذا ركبت، أو الذي تحمله على ظهرك إذا نزلت؟. وقال ابن مكرم يوماً: مذهبي الجمع بين الصلاتين فقال له: صدقت تجمع بينهما بالترك. وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما؟ وقال ابن مكرم له يوماً: أحسبك لا تصوم شهر رمضان، فقال له ويلك، وتدعني امرأتك الصوم؟ وبات ليلة عند ابن مكرم فجعل ابن مكرم يفسو عليه فقام أبو العيناء وصعد السرير فارتفع إليه فساؤه، فصعد إلى السطح فبلغته رائحته فقال: يابن الفاعلة، ما فساؤك إلا دعوة مظلوم. وقدم إليه ابن مكرم يوماُ جنب شواء فلما جسه قال: ليس هذا جنباً، هذا شريجة قصب.
ومر يوماً على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا كما تحب. قال: فمالي لا أسمع الرنة والصياح؟. ووعده ابن المدبر بدابة فلما طالبه قال: أخاف أن أحملك عليها فتقطعني ولا أراك فقال: عدني أن تضم إليها حماراً لأواظب مقتضياً، ووعده يوماً أ يعطيه بغلاً فلقيه في الطريق فقال: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ فقال: أصبحت بلا بغل فضحك منه وبعث به إليه. وقالت له قينة: هب لي خاتمك وأذكرك به، فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك.

ولما استوزر صاعد عقب إسلامه صار أبو العيناء إلى بابه فقيل له يصلي، فعاد فقيل يصلي فقال: معذور، ولكل جديد لذة. وحضره يوماً ابن مكرم وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف، فقال أبو العيناء: ما رأيت من يتهدد بالعافية غيرك. وقال له ابن الجماز المغني: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك. ودخل على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير فقال له: ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري، فقال وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال فهلا أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكاري ومنه العواري. وقيل له إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ فقال: ما دام المحسن بحسن والمسيء يسيء، وأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسب النبي والذمي. ودخل على ابن ثوابة عقب كلام جرى بينه وبين الوزير أبي الصقر بن بلبل وكان ابن ثوابة تطاول على الوزير فقال به أبو العيناء: بلغني ما جرى بينك وبين الوزير، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد فيك عزا فيضعه، ولا مجداً فينقصه، وبعد: فإنه عاف لحمك أن يأكله، واستقل دمك أن يسفكه. فقال ابن ثوابة وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدي؟ فقال: لا تنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعول على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع نسلهم ويعظم أوزارهم. فقال ابن ثوابة: ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما. فقال أبو العيناء: وبذا غلبت أبا الصقر بالأمس فأفحمه. وخاصم يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وقد أمرت أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقال: لكني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت. وقال له ابن الجهم يوماً: يا مخنث. فقال: (وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه).
ولما وكل موسى بن عبد الملك الأصبهاني بنجاح بن سلمة ليستأديه ما عليه من الأموال عاقبه موسى فهلك ابن سلمة في المطالبة والعقاب، فلقى بعض الرؤساء أبا العيناء وقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة؟ فقال أبو العيناء: فوكزه موسى فقضى عليه. فبلغت كلمته موسى فلقيه وقال له: أبي تولع؟ والله لأقومنك، فقال له أبو العيناء: أتريد أن تقتلني كما قلت نفساً بالأمس؟.
وقال له العباس بن رستم يوماً: أنا أكفر منك فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دؤاد، وأنا أكفر بلا خفارة.
وقال أبو العيناء: مررت يوماً في درب بسر من رأي، فقال لي غلام: يا مولاي، في الدرب حمل سمين والدرب خال، فأمرته أن يأخذه وغطيته بطيلساني وصرت إلى منزلي، فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الأرب مكتوب فيها: جعلت فداك ضاع لنا بالأمس حمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أنت أخذته فأمر برده متفضلاً، فكتب إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر، مشايخ دربنا يزعمون أنك بغاء وأكذبهم أنا ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟ قال: فسكت ولم يعاودني.
وقال له رجل من بني هاشم: بلغني أنك بغاء فقال: وما أنكرت من ذلك مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم منهم)، فقال الهاشمي: إنك دعي فينا. قال بغائي صحيح نسبي فيكم. ولقيه. بعض الكتاب في السحر فقال متعجباً من بكوره: يا أبا عبد الله، أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال له أبو العيناء: أتشاركني في الفعل وتنفرد بالتعجب؟ ودعا أبو العيناء سائلاً ليعيشه فلم يدع شيئاً إلا أكله فقال له: يا هذا دعوتك رحمه فاتركني رحمة. ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، قال أبو العيناء: مرحباً بك - أطال الله بقاءك - ، كنت أظن أن هذا النسل قد انقطع.
وكنت إلى بعض الرؤساء وقد وعده بشيء فلم ينجزه: ثقتي بك تمنعني من استطبائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى تذكيرك، ولست آمن - مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلو همتك - اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال - فسح الله في أجلك - وبلغك منتهى أملك، والسلام. وغداة ابن مكرم يوماً فقدم إليه عراقاً فلما جسه قال: قدركم هذه طبخت بالشطرنج. وقدم يوماً إليه قدراً فوجدها كثيرة العظام فقال له: هذه أم قبر؟ وأكل عنده يوماً فسقى على المائدة ثلاث شربات باردة ثم استقى فسقى شربة حارة فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع.

ودخل يوماً على المتوكل فقدم إليه طعام فغمس أبو العيناء لقمته في خل كان حاضراً وأكلها فتأذى بالحموضة وفطن المتوكل له فجعل يضحك، فقال لا تلمني يا أمير المؤمنين، فقد محت حلاوة الإيمان من قلبي.
وأكل يوماً عند بعض أصحابه طعاماً وغسل يده عشرات مرات فلم تنق فقال: كادت هذه القدر أن تكون إلا نسباً وصهراً.
وقال له رجل من ولد سعيد بن مسلم: إن أبي يبغضك، فقال: يا بني لي أسوة بآل محمد صلى الله عليه وسلم. واعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟ قال: أنا أحمد بن سعيد. فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إلى من أسفل، فما له ينحدر علي من علو؟ قال: لأني راكب فقال: عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله في رغيف لأعضك بم تكره.
ودق إنسان عليه الباب فقال: من هذا؟ قال أنا، فقال أنا والدق سواء.
وذكر يوماً ولد موسى بن عيسى فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير قبلة. وقيل له: لم اتخذت خادمين أسودين؟ قال: أما أسودان، فلئلا أتهم بهما، وأما خادمان فلئلا يتهما بي.
وقال يوماً لابن ثوابة: إذ شهدت على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، شهد عليك أنتن عضو فيك.
وقال ابن ثوابة يوماً: أما والله أحبك بكل جوارحي، فقال أبو العيناء: إلا بعضو واحد - أيدك الله - فبلغ ذلك ابن أبي دؤاد فقال: قد وفق في التحديد عليه. سئل يوماً عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل حين نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره.
وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة قال لي أبي يا بني: إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي فقال: (اشكر لي ولوالديك)، فقلت له: يا أبت، إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي، فقال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق). وقال له عبيد الله بن سليمان: اعذرني فإني مشغول عنك فقال له: إذا فرغت لم أحتج إليك، يعني إذا عزل. ووضع أبو العيناء كتاباً في ذم أحمد بن الخطيب حكى فيه: أن جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس وكل منهم يكره ابن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل، فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه فقال أحدهم: كان جهله غامراً لعقله، وسفهه قاهراً لحلمه. وقال آخر: لو كان دابة لتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال آخر: كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي.
وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب، ولو نطق بنوك عجب. وقال إبراهيم ابن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه فقلت له: أراك راغباً في الهليون فقال: إنه يزيد الباه. وقال آخر: لو غابت عنه العافية لنسيها. وقال أبو العيناء في آخر هذا التصنيف: كان ابن الخصيب إذا ناظر شغب، وربما رفس من ناظره إذا عجز عن الجواب، وخفى عليه الصواب، واستولت عليه البلادة، وعرى كلامه عن الإفادة، وكان إذا دنوت منه غرك، وإن بعدت عنه ضرك، فحياته لا تنفع، وموته لا يضر.

وقال أبو الخطيب في تاريخه: أخبرنا الأزهري، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، أخبرنا الصولي عن أبي العيناء قال: سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار، فاشتريته وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشترى بعشرة ملبوساً له فقلت ما هذا؟ فقال: لا تجعل فإن أرباب المروءات لا يعتبون على غلمانهم هذا، فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر، ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني فقال: رأيت بقراط يذم الهازبا فقلت: يا ابن الفاعلة، لم أعلم أني اشتريت جالينوس، فضربته عشر مقارع فأخذني وضربني سبعاً وقال: يا مولاي، الأدب ثلاث، وإنما ضربتك سبعاً قصاصاً. قال فرميته فشججته فذهب إلى بنت عمي وقال: الدين النصيحة ومن غشنا فليس منا. إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لا بد من تعريف مولاتي الخبر فضربني وشجني. فمنعتني بنت عمي دخول الدار وحالت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة، وسمته بنت عمي الغلام الناصح، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح، فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي، ثم إنه أراد الحج فزودته فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: قطع الطريق ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع.
ولد أبو العيناء بالأهواز سنة إحدى وتسعين ومائة، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل سنة اثنتين وثماني ومائتين.
وقال ابنه أبو جعفر: مات أبي لعشرة ليال خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
ومن شعره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلب ذكي وعقل غير ذي خطل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقال:
حمدت إلهي إذ بلاني بحبها ... على حول يغني عن النظر الشذر
نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
وقال يهجو أسد بن جوهر:
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب
وافي بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتم إلى الكتاب
جيل من الأنعام إلا أنهم ... من بينها خلقوا بلا أذناب
لا يعرفون إذا الجريدة جردت ... ما بين عياب إلى عتاب
أو ما ترى أسد جوهر قد غدا ... متشبهاً بأجلة الكتاب
فإذا أتاه مسائل في حاجة ... رد الجواب له بغير جواب
وسمعت من غث الكلام ورثه ... وقبيحه باللحن والإعراب
ثكلتك أمك هبك من بقر الفلا ... ما كنت تغلط مرة بصواب!
وقال في الوزير أحمد بن الخصيب:
قل للخليفة يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال
قد أحجم المتظلمون مخافة ... منه وقالوا ما نروم محال
ما دام مطلقة علينا رجله ... أو دام للنزق الجهول مقال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله بين الصدور مجال
إمنعه من ركل الرجال وإن ترد ... مالا فعند وزيرك الأموال
وقال:
ألحمد لله ليس لي فرس ... ولا على باب منزلي حرس
ولا غلام إذا هتفت به ... بادر نحوي كأنه قبس
إبني غلامي وزوجتي أمتي ... ملكنيها الملاك والعرس
غنيت باليأس واعتصمت به ... عن كل فرد بوجهه عبس
فما يراني ببابه أبداً ... طلق المحيا سمح ولا شرس
وقال:
من كان يكلك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ... ورأيته بن الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته شر البرية حالا
إن الغني إذا تكلم كاذباً ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم يصب ... وكذبت يا هذا وقلت ضلالا

إن الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرحال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا
وقال:
تولت بهجة الدنيا ... فكل جديدها خلق
وخان الناس كلهم ... فما أدري بمن أثق
رأيت معالم الخيرا ... ت سدت دونها الطرق
فلا حسب ولا أدب ... ولا دين ولا خلق
وقال:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل
وإني لا أخزي إذ قيل مقتر ... جواد وأخزي أن يقال بخيل
وإلا يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول
إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم ... بطولي لهم حتى يقال طويل
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن طول الجسوم عقول
وكائن رأينا من جسوم طويلة ... تموت إذا تحيهن أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
وقال:
يا ويح هذي الأرض ما تصنع ... أكل حي فوقها تصرع؟
تزرعهم حتى إذا ما أتوا ... أشدهم تحصد ما تزرع
محمد بن القاسمابن محمد بن بشار بن الحسين بن بيان بن سماعة بن فروة ابن قطن بن دعامة أبو بكر بن الأنباري، النحوي اللغوي الأديب، كان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظاً للغة، وكان صدوقاً زاهداً متواضعاً فاضلاً، أديباً ثقة خيراً من أهل السنة حسن الطريقة، أخذ عن أبي العباس ثعلب وخلق.
وروى عنه الدارقطني وجماعة وكتب عنه وأبودحي، وكان يملي في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى، ومرض فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمراً عظيماً فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتباً.
وقال أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: كان أبو بكر ابن الأنباري يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهداً في القرآن، وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً بأسانيدها. وقال له أبو الحسن العروضي: قد أكثر الناس في حفظك فكم تحفظ؟ فقال ثلاثة عشر صندوقاً. قال: وسألته جارية الراضي يوماً عن تعبير رؤيا فقال: أنا حاقن ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني في التعبير وجاء من الغد وقد صار معبراً للرؤيا.
وقال حمزة بن محمد طاهر الدقاق: كان أبو بكر بن الأنباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتعلة على الحديث والتفسير والأخبار والأشعار كل ذلك من حفظه. وقال محمد ابن جعفر التميمي. أما أبو بكر بن الأنباري فما رأينا أحفظ منه ولا أغزر منه علماً، وكان يحفظ ثلاثة عشر صندوقاً وهذا مما لم يحفظه أحد قبله ولا بعده.
وقال أبو العباس يونس النحوي: كان أبو بكر آية من آيات الله تعالى في الحفظ، وكان أحفظ الناس للغة والشعر. وحكى أبو الحسن الدارقطني: أنه حضر مجلس إملائه في يوم جمعة فصحف اسماً أورده في إسناد حديث، إما كان حبان فقال حيان. قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم وهبت أن أوقفه على ذلك، فلما فرغ من إملائه تقدمت إليه فذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر للمستملي: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال.

وقال أحمد بن يوسف الأصبهاني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، عمن آخذ علم القرآن؟ فقال عن أبي بكر الأنباري. وقال أبو الحسن العروضي: اجتمعت أنا وأبو بكر بن الأنباري عند الراضي بالله على الطعام وكان الطباخ قد عرف ما يأكل أبو بكر، وشوى له قلية يابسة قال: فأكلنا نحن ألوان الطعام وأطايبه وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلوى فلم يأكل منها فقمنا وملنا إلى الخيش، فنام بين يدي الخيش ونمنا نحن في خيشين ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان بعد العصر قال: يا غلام، الوظيفة، فجاءه بماء من الجب وترك الماء المزمل بالثلج فغاظني أمره وصحت: يا أمير المؤمنين، فأمر بإحضاري وقال: ما قصتك؟ فأخبرته وقلت: يا أمير المؤمنين، يحتاج هذا إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه لأنه يقتلها، ولا يحسن عشرتها، فضحك وقال له: في هذا لذة وقد جرت له به عادة وصار آلفاً لذلك فلن يضره، ثم قلت له: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ فقال: أبقي علي حفظي ويحكي أنه كان يأخذ الرطب ويشمه ويقول: أما إنك طيب ولكن أطيب منك ما وهب الله لي من العلم وحفظه.
وحكى أنه مر يوماً بالنخاسين فرأى جارية تعرض حسنة الصورة كاملة الوصف قال: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله فقال: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته الأمر وأخبرته بالجارية فأمر بشرائها وحملت إلى منزلي ولم أعلم، فجئت فوجدتها في المنزل فقلت لها: اعتزلي إلى الاستبراء وكنت أطلب مسألة قد خفيت علي فاشتغل قلبي بالجارية فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس فليس يبلغ قدرها أن يشغل قلبي عن علمي فأخذها الغلام فقالت: دعني حتى أكلمه فقالت لي: أنت رجل لك محل وعقل، فإذا أخرجتني ولم تبن ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً فعرفنيه قبل أن تخرجني، فقلت: مالك عندي ذنب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت هذا سهل عندي قال: فبلغ الراضي ما كان من أمري فقال. لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحداً أحلى منه في قلب هذا الرجل. ولابن الأنباري شعر لطيف فمن ذلك قوله:
إذا زيد شرا زاد صبراً كأنما ... هو المسك ما بين الصلاية والفهر
فإن فتيت المسك يزداد طيبه ... على السحق والحر اصطباراً على الضر
ومن أماليه:
فهلا منعتم إذ منعتم كلامها خيالاً يوافيني على النأي هاديا
سقى الله أطلالاً بأكثبه الحمى ... وإن كن قد أبدين للناس ما بيا
منازل لو مرت بهن جنازتي ... لقال الصدى يا صاحبي انزلا بيا
وأملي أيضاً:
وبالهضبة البيضاء إن زرت أهلها ... مهاً مهملات ما عليهن سائس
خرجن لخوف الريب من غير ريبة ... عفائف باغي اللهو منهن آئس
ولأبي بكر بن الأنباري من التصانيف: غريب الحديث قيل إنه خمس وأربعون ورقة أملاه من حفظه.
ومما أملاه أيضاً من مصنفاته: كتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وشرح الكافي نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد وما ألف في الأضداد أكبر منه، وكتاب المذكر والمؤنث ما صنف أحد أتم منه، ورسالة المشكل رد فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني، وكتاب المشكل في معاني القرآن بلغ فيه إلى طه وأملاه سنين كثيرة ولم يتمه، وشرح الجاهليات سبعمائة ورقة، وكتاب الوقف والابتداء، والكافي في النحو، والزاهر، وكتاب اللامات، وشرح المفضليات، والأمالي، وأدب الكاتب، والواضح في النحو، والموضع في النحو أيضاً، وشرح شعر النابغة، وشرح شعر الأعشى، وشرح شعر زهير، وشعر الراعي، والمقصور والممدود، وكتاب الألفات، وكتاب الهجاء والمجالسات، وكتاب مسائل ابن شنبوذ، وكتاب الرد على من خالف مصحف عثمان وغير ذلك، وكانت ولادة أبي بكر بن الأنباري يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، وتوفي ليلة عيد النحر سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
الجزء التاسع عشر
محمد بن أبي القاسم بايجوك

أبو الفضل البقاليّ الخوارزميّ الآدميّ الملقب زين المشايخ، النحويّ الأديب، كان إماماً في الأدب وحجّة في لسان العرب، أخذ اللّغة وعلم الإعراب عن أبي القاسم الزمخشريّ وجلس بعده مكانه، وسمع الحديث منه ومن غيره. وكان جمّ الفوائد حسن الاعتقاد، كريم النّفس نزيه العرض غير خائض فيما لا يعنيه. له يد في الترسل ونقد الشعر. وله من التصانيف: مفتاح التنزيل، وتقويم اللسان في النحو، والإعجاب في الإعراب، والبداية في المعاني والبيان، وكتاب منازل العرب، وشرح أسماء الله الحسنى وغير ذلك. مات في سلخ جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين وخمسمائة عن نيف وسبعين سنة.
محمد بن محمد بن جعفر بن مختارأبو الفتح الواسطي النحوي، كان نحوياً فاضلاً جالس ابن كردان وسمع منه. وجالس أبا الحسين بن دينار وغيره. وكان حسن الإيراد جيد المحفوظ متيقظاً ولم يتصدر لإقراء النحو، بلغ تسعين سنة ومات سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
محمد بن محمد بن جعفرٍ
أبو الحسن المعروف بابن لنكك البصري الشاعر الأديب، كان فرد البصرة وصدر أدبائها في زمانه، أدركته حرفة الأدب فقصر به جهده عن بلوغ الغاية التي كانت تسمو إليها نفسه، إذ كان التقدم في زمنه لأبي الطيب المتنبي وأبي رياش اليمامي، فكسدت بضاعته بنفاق سو قهما، وانحط نجحه عن مطلع سعادتهما، فولع بثلبهما والتشفي بهجوهما وذمهما، فكان أكثر شعره في شكوى الزمان وأهله وهجاء شعراء عصره، وكان أبلغ شعره ما لم يتجاوز البيتين والثلاثة. وكان يروي قصيدة دعبل آلتي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوةً
يرويها عن أبي الحسين العبداني عن أخيه عن دعبل، ورواها عنه ابن جخجخٍ النحوي ومن شعره:
نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
يصبح الناس فيه من سوء حال ... حق من مات منهم أن يهنا
وقال:
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأي دهر على الأحرار لم يجر؟
عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يلقي على الفلك الدوار لم يدر
وقال:
نحن من الدهر في أعاجيبا ... فنسأل الله صبر أيوبا
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوبا
وقال:
زمان قد تفرع للفضول ... وسود كل ذي حمق جهول
فإن أحببتم فيه ارتفاعاً ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال:
يعيب الناس كلهم الزمانا ... وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا ... ولو نطق الزمان إذا هجانا
ذئاب كلنا في زي ناس ... فسبحان الذي فيه برانا
يعاف الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وقال أيضاً:
أقول لعصبة بالفقه صالت ... وقالت ما خلا ذا العلم باطل
أجل لا علم يوصلكم سواه ... إلى مال اليتامى والأرامل
أراكم تقبلون الحكم قلباً ... إذا ما صب زيت في القنادل
القنادل والقناديل بمعنىً، وصب الزيت فيها كناية عن الرشوة، وقال:
مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا ... وخلفني الزمان على علوج
وقالوا قد لزمت البيت جداً ... فقلت لفقد فائدة الخروج
فمن ألقى؟ إذا أبصرت فيهم ... قروداً راكبين على السروج
زمان عز فيه الجود حتى ... كأن الجود في أعلى البروج
وقال:
يازماناً أليس الأح ... رار ذلاً ومهانة
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيراً ... والعلى فيك مهانة؟
أجنون ما نراه ... منك يبدو أم مجانه؟
وقال يهجو أبا رياش اليمامي الشاعر المشهور:
نبئت أن أبا رياش قد حوى ... علم اللغات وفاق فيما يدعي
من مخبري عنه؟ فإني سائل ... من كان حنكة بأير الأصمعي
وقال يهجو أبا الطيب المتنبي وكان يزعم أن أباه كان سقاء بالكوفة:
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم ... ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا

أعطيتم المتنبي فوق منيته ... فزوجوه برغمٍ أمهاتكم
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في قفا السقاء تزدحم
وقال فيه أيضاً:
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيماً ... أباح قفاه
يا سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبياً ... فالجاثليق إلاه
وقال فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفا ... ن ويوحي من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
وقال في الرملي الشاعر:
حلف الرملي فيما ... قص عني وحكاه
يدعي يوم اصطلحنا ... أنني قبلت فاه
لم أقبل فاه لكن ... قبلت نعلي قفاه
وقال في مبرمان النحوي:
صداع من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيان
مكابرة ومخرقة وبهت ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
وقال:
تولى شباب كنت فيه منعماً ... تروح وتغدو دائم الفرحات
فلست تلاقيه ولو سرت خلفه ... كما سار ذو القرنين في الظلمات
وقال:
قد شربنا على شقائق روض ... شربت عبرة السحاب السكوب
صبغت من دم القلوب فما تب ... صر إلا تعلقت بالقلوب
وقال أيضاً وفيه الإيمان إلى حديث: - امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار - :
إذا خفق اللواء علي يوماً ... وقد حمل امرؤ القيس اللواء
رجوت الله لا أرجو سواه ... لعل الله يرحم من أساء
محمد بن حامد بن عبد الله بن عليأبو عبد الله المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني. ولد بأصبهان يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة ونشأ بها، وقدم بغداد شاباً وانتظم في سلك صلبة المدرسة النظامية فتفقه بها بأبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، وسمع منه ومن أبي بكر الأشقر وأبي الحسن علي بن عبد السلام وأبي القاسم علي بن الصباغ وأبي منصور بن خيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وجماعة. وأجاز له أبو عبد الله الفراوي وأبو القاسم بن الحصين، ثم عاد إلى أصبهان فتفقه بها أيضاً على محمد بن عبد اللطيف الخجندي، وأبي المعالي الوركاني، ثم رجع إلى بغداد واشتغل بصناعة الكتابة فبرع فيها ونبغ، فاتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط. ولما توفي الوزير ابن هبيرة وتشتت شمل المنتسبين إليه، أقام العماد مدة ببغداد منكد العيش فانتقل إلى دمشق ووصل إليها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية المنسوبة إلى العماد الآن المعروفة بالعمادية، وإنما نسبت إليه لأن الملك نور الدين ولاه إياها سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان العماد له معرفة بنجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، عرفه بتكريت حين كان نجم الدين والياً عليها، فلما سمع نجم الدين بوصوله بادر لتبجيله والسلام عليه في منزله. ومدحه العماد إذ ذاك بقصيدة أولها:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ولا الفراق إلى عيشي بمنسوب
ما اخترت بعدك لكن الزمان أتىكرها بما ليس يا محبوب محبوبي
أرجو إيابي إليكم غانماً عجلاً ... فقد ظفرت بنجم الدين أيوب
موفق الرأي ماضي العزم مرتفع ... على الأعاجم والأعاريب
أحبك الله إذ لازمت نصرته ... على جبين بتاج الملك معصوب

وهي طويلة فشكره نجم الدين وأحسن إليه وأكرمه، وقدمه على الأعيان وميزه وعرف به ابنه صلاح الدين، وكان القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يحضر مجالس العماد ويذاكره بمسائل الخلاف في الفروع، فنوه القاضي بذكر العماد عند السلطان نور الدين، وذكر له تقدمه في العلم والكتابة وأهله لكتابة الإنشاء، فتردد العماد في الدخول فيما لم يتقدم له اشتغال طويل به، مع توفر مواد هذه الصناعة عنده خوفاً من التقصير فيما لم يمارسه، ثم أقدم بعد الإحجام فباشرها وأجاد فيها حتى زاحم القاضي الفاضل بمنكب ضخم، وكان ينشئ الرسائل بالفارسية أيضاً فيجيد فيها إجادته بالعربية، وعلت منزلته عند نور الدين وصار صاحب سره، وفوض إليه تدريس المدرسة العمادية كما تقدم، وولاه الإشراف على ديوان الإنشاء، ولما توفي نور الدين وولى ابنه الملك الصالح إسماعيل أغراه بالعماد جماعة كانوا يحسدونه ويكرهونه، فخاف على نفسه وخرج من دمشق قاصداً بغداد، فوصل إلى الموصل ومرض بها ولما أبل من مرضه، بلغه خروج السلطان صلاح الدين من مصر قاصداً دمشق ليستولي عليها، فعزم على الرجوع إلى الشام وخرج من الموصل سنة سبعين وخمسمائة فوصل إلى دمشق وسار منها إلى حلب، وصلاح الدين يومئذ نازل عليها فلاقاه في حمص وقد استولى على قلعتها، فلزم بابه ومدحه بقصيدة طويلة كان نظمها قبلاً في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها فجعل مدح صلاح الدين مخلصها أولها:
أجيران جيرون مالي مجير ... سوى عدلكم فاعدلوا أو فجوروا
ومالي سوى طيفكم زائر ... فلا تمنعوه إذا لم تزوروا
يعز علي بأن الفؤاد ... لديكم أسير وعنكم أسير
وماكنت أعلم أني أعي ... ش بعد الأحبة إني صبور
وفت أدمعي غير أن الكرى ... وقلبي وصبري كل غدور
إلى ناس باناس لي صبوة ... لها الوجد داع وذكرى تثير
يزيد اشتياقي وينمو كما ... يزيد يزيد وثور يثور
ومن بردى برد قلبي المشوق ... فها أنا من حره أستجير
وبالمرج مرجو عيشي الذي ... على ذكره العذب عيشي مرير
فقدتكم ففقدت الحياة ... ويوم اللقاء يكون النشور
تطاول سؤلي عند القصير ... فعن نيله اليوم باعي قصير
وكن لي بريداً بباب البريد ... فأنت بأخبار شوقي خبير
ومنها:
ترى بالسلامة يوماً يكون ... بباب السلامة مني عبور؟
وإن جوازي بباب الصغير ... لعمري من العمر حظ كبير
وماجنة الخلد إلا دمشق ... وفي القلب شوقاً إليها سعير
وجامعها الرحب والقبة ال ... منيفة والفلك المستدير
وفي قبة النسر لي سادة ... بهم للمكارم أفق منير
وباب الفراديس فردوسها ... وسكانها أحسن الناس حور
وبرزة فالسهم فالنيربا ... ن فجنات رقتها فالكفور
كان الجواسق مأهولة ... بروج تطلع منها البدور
بنيربها يستنير الفؤاد ... ويربو بربوتها لي السرور
ومنها:
وأين تأملت فلك يدور ... وعين تفور ونهر يمور
وأين نظرت نسيم يرق ... وزهر يروق وروض نضير
ومنذ ثوى نور دين الإ ل ... ه لم يبق للدين والشام نور
وللناس بالملك الناصر الص ... لاح ونصر وخير
هو الشمس أنوارها بالبلاد ... ومطلعها سرجه والسرير
إذ ما سطا أو حبا واحتبي ... فما الليث أو حاتم أو ثبير
بيوسف مصر وأيامه ... تقر العيون وتشفي الصدور

وقد أطال نفسه في هذه القصيدة وكلها غرر وقد اكتفينا بما أوردناه منها، ثم لزم العماد من ذلك اليوم باب السلطان صلاح الدين ينزل لنزوله، ويرحل لرحيله، ولم يغش مجالسه ملازماً لخدمته حتى قربه واستكتبه واعتمد عليه، فتصدر وزاحم الوزراء وأعيان الدولة، وعلا قدره وطار صيته، وكان إذا انقطع القاضي الفاضل عن الديوان ناب عنه في النظر عليه وألقى إليه السلطان مقاليده، وركن إليه بأسراره فتقدم الأعيان، وأشير إليه بالبنان، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، فمن ذلك أنه لقي القاضي يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وكلا القولين يقرأ عكساً وطرداً واجتمعا يوماً في موكب السلطان وقد ثار الغبار لكثرة الفرسان وتعجب القاضي من ذلك، فأنشد العماد:
أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك
والجو منه مظلم ... لكن أنارته السنابك
يا دهر لي عبد الرح ... يم فلست أخشى مس نابك
ولما توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله اختلت أحوال العماد ولزم بيته، وأقبل على التصنيف والإفادة حتى توفي يوم الاثنين مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وله من المصنفات: خريدة القصر وجريدة العصر، ذيل به زينة الدهر لأبي المعالي سعد بن علي الحظيري الوراق، جمع العماد في هذا الكتاب تراجم شعراء الشام والعراق ومصر والجزيرة والمغرب وفارس ممن كان بعد المائة الخامسة إلى ما بعد سنة سبعين وخمسمائة، وهو يدخل في عشر مجلدات لطيفة، وله البرق الشامي وهو تاريخ بدأ فيه بذكر نفسه ونشأته ورحلته من العراق إلى الشام، وأخباره مع الملك العادل نور الدين والسلطان صلاح الدين وما جرى له في خدمتهما، وذكر فيه بعض الفتوحات بالشام وأطرافها وهو بضعة مجلدات، وله الفيح القسي في الفتح القدسي في مجلد كبير، وكتاب السيل على الذيل جعله ذيلاً على كتابه خريدة القصر، وله نصرة الفطرة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية، وله رسأل ة سماها عتبى الزمان وتسمى أيضاً العتبى والعقبى، وكتاب سماه نحلة الرحلة، ذكر فيه اختلال الأحوال وتغير الأمور بعد موت السلطان صلاح الدين، واختلاف أولاده وما وقع من الخلاف بين الأمراء والعمال، وله ديوان رسائل في مجلدات، وديوان شعر في مجلدين، وديوان دويبت صغير وغير ذلك.

ومن إنشاء العماد الكاتب الكتاب الذي كتبه عن السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد مبشراً بفتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة افتتحه بقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)، ثم قال: الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيدأهل الشرك والخلاف، وخص سلطان الديوان العزيز بهذه الخلافة، ومكن دينه المرتضى وبدل الأمان بالمخافة، وذخر هذا الفتح الأسني والنصر الأهني للعصر الإمامي النبوي الناصري على يد الخادم أخلص أوليائه، والمختص من الاعتزاز باعتزائه إليه وانتمائه، وهذا الفتح العظيم، والنجح الكريم، قد انقرضت الملوك الماضية والقرون الخالية على مسرة تمنيه، وحبرة ترجيه، ووحشة اليأس من تسنيه، وتقاصرت عنه طوال الهمم، وتخاذلت عن الانتصار له أملاك الأمم، فالحمد لله الذي أعاد القدس إلى القدس، وطهره من الرجس، وحقق من فتحه ما كان في النفس، وبدل بوحشة الكفر فيه من الإسلام الأنس، وجعل عز يومه ماحياً ذل أمس، وأسكنه الفقهاء والعلماء بعد الجهال والضلال من بطرك وقسٍ، وعبدة الصليب ومستقبلي الشمس، وقد أظهر الله على المشركين الضالين جنوده المؤمنين العالمين، وقطع دابر القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين. فكأن الله شرف هذه الأمة فقال لهم: اعزموا على اقتناء هذه الفضيلة التي بها فضلكم، وحقق في حقكم امتثال أمره الذي خالفه اليهود في قوله: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم). هذا الفتح قد أقدر الله على افتضاضه بالحرب العوان، وجعل ملائكته المسومة له من أعز الأنصار وأظهر الأعوان، وأخرج من بيته المقدس يوم الجمعة أهل يوم الأحد، ومع من كان يقول: (إن الله ثالث ثلاثةً) بمن يقول: (هو الله أحد)، وأعان الله بإنزال الملائكة والروح، وأتى بهذا النصر الممنوح الذي هو فتح الفتوح، وقد تعالى أن يحيط به وصف البليغ نظماً ونثراً، وعبد الله في البيت المقدس سراً وجهراً، وملكت بلاد الأردن وفلسطين غوراً ونجداً، وبراً وبحراً، وملئت إسلاماً وقد كانت ملئت كفراً، وتقاضى الخادم دين الدين الذي غلق رهنه دهراً، والحمد لله وشكراً، حمداً يجد للإسلام كل يوم نصراً، ويزيد وجوه أهله بشرى فتتوجه بشراً، والكتاب طويل ذكر فيه فصولاً عن الوقائع التي تقدمت فتح المقدس فاكتفينا منه بما أوردناه، وللعماد قصيدة من قصائده الطوال ضمنها فتح القدس وفلسطين، ومدح السلطان صلاح الدين، اقتصرنا على ايراد طرف منها قال:
أطيب بأنفاس تطيب لكم نفساً ... وتعتاض من ذكراكم وحشي أنسا
وأسأل عنكم عافيات دوارس ... غدت بلسان الحال ناطقة خرسا
معاهدكم ما بالها كعهودكم ... وقد كررت من درس آثارها درسا؟
وقد كان في حدسي لكم كل طارف ... وما جئتم من هجركم خالف الحدسا
أرى حدثان الدهر ينسى حديثه ... وأما حديث الغدر منكم فلا ينسى
تزول الجبال الراسيات وثابت ... رسيس غرام في فؤادي لكم أرسى
حسبت حبيبي قاس القلب وحده ... وقلب الذي يهوى بحمل الهوى أقسى
ومنها:
وإن نهاري صار ليلاً لبعدكم ... فما أبصرت عيني صباحاً ولا شمسا
بكيت على مستودعات خدوركم ... كما قد بكت قدماً على صخرها الخنسا
فلا تحبسوا عني الجميل فإنني ... جعلت على حبي لكم مهجتي حبسا
ومنها:
رأيت صلاح الدين أفضل من غدا ... وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى
وقيل لنا في الأرض سبعة أبحر ... ولسنا نرى إلا أنامله الخمسا
سجيته الحسنى وشيمته الرضا ... وبطشته الكبرى وعزته القعسا
فلا عدمت أيامنا منه مشرفاً ... ينير بما يولي ليالينا الدمسا
جنودك أملاك السماء وظنهم ... أعاديك جناً في المعارك أو إنسا
سحبت على الأردن ردنا من القنا ... ردينية ملداً وخطية ملسا
ونعم مجال الخيل حطين لم تكن ... معاركها للجرد ضرساً ولا دهسا

غداة أسود الحرب معتقلو القنا ... أساود تبغي من نحور العدا نهسا
أتوا شكس الأخلاق خشناً فلينت ... حدود الرفاق الخشن أخلاقها الشكسا
طردتهم في الملتقى وعكستهم ... مجيداً بحكم العزم طردك والعكسا
فكيف مكست المشركين رؤوسهم ... ورأيك في الإحسان أن تطلق المكسا
كسرتهم إذ صح عزمك فيهم ... ونكستهم من بعد أعلامهم نكسا
بواقعة رجت بها أرض جيشهم ... ومارت كما بست جبالهم بسا
بطون ذئاب البر صارت قبورهم ... ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا
وحامت على نار المواضي فراشهم ... لتطفا فزادت من خمودهم قبسا
وقد خشعت أصوات أبطالها فما ... يعي السمع إلا من صليل الظبي همسا
تقاد بدأماء الدماء ملوكهم ... أساري كسفن اليم نيطت بها القلسا
سبايا بلاد الله مملوءة بها ... وقد عرضت نخساً وقد شريت بخسا
يطاف بها الأسواق لا راغب لها ... لكثرتها كم كثرة توجب الوكسا
شكا يبساً رأس البرنس الذي به ... فندى حسام حاسم ذلك اليبسا
حسا دمه ماضي الغرار لغدره ... وماكان لولا غدره دمه يحسى
ومنها:
ومن قبل فتح القدس كنت مقدساً ... فلا عدمت أخلافك الطهر والقدسا
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها ... وألبستها الدين الذي كشف اللبسا
ومنها:
جرى بالذي تهوى القضاء وظاهرت ... ملائكة الرحمن أجنادك الحمسا
وكم لبني أيوب عبد كعنترٍ ... إن ذكروا بالبأس لم يذكروا عبسا
ومن غزلياته قوله:
أفدي الذي خلبت قلبي لواحظه ... وخلفت لذعات الوجد في كبدي
صفات ناظره سقم بلا ألم ... سكر بلا قدح جرح بلا قود
على محياه من نار الصبا شعل ... وورد خديه من ماء الجمال ندى
ومن حكمياته:
إقنع ولا تطمع فإن الغنى ... كماله في عزة النفس
فإنما ينقص بدر الدجا ... لأخذه الضوء من الشمس
وقال:
وما هذه الأيام إلا صحائف ... يؤرخ فيها ثم يمحى ويمحق
ولم أر في دهري كدائرة المنى ... توسعها الآمال والعمر ضيق
محمد بن محمد بن عبادأبو عبد الله البغدادي المقري النحوي، كان مقدماً في علم القراءات بارعاً في النحو وعلوم العربية، قرأ النحو على أبي سعيد السيرافي النحوي، وأخذ عنه القراءة أبو العباس أحمد بن الفرج بن منصور بن محمد بن الحجاج بن هارون. وصنف كتاب الوقف والابتداء وأجاد فيه، وسمعه منه أبو العباس بن هارون المذكور، توفي أبو عبد الله بن عباد البغدادي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
محمد بن محمد بن عبد الجليلابن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن مردويه بن سأل م بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رشيد الدين المعروف بالوطواط، الأديب الكاتب الشاعر، كان من نوادر الزمان وعجائبه، وأفراد الدهر وغرائبه، أفضل زمانه في النظم والنثر، وأعلم الناس بدقائق كلام العرب، وأسرار النحو والأدب، طار في الآفاق صيته، وسار في الأقاليم ذكره، وكان ينشئ في حالةٍ واحدةٍ بيتاً بالعربية من بحر وبيتاً بالفارسية من بحر آخر ويمليهما معاً، وله من التصانيف: حدائق السحر في دقائق الشعر باللغة الفارسية ألفه لأبي المظفر خوارزم شاه، وعارض به كتاب ترجمان البلاغة لفرحي الشاعر الفارسي، وللوطواط أيضاً ديوان رسائل عربي، وديوان رسائل فارسي، وتحفة الصديق من كلام أبي بكر الصديق، وفصل الخطاب من كلام عمر بن الخطاب، وأنس اللهفان من كلام عثمان بن عفان، ومطلوب كل طالب من كلام على بن أبي طالب وغير ذلك. مولده ببلخ، ومات بخوارزم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، ومن رسائله ما كتبه لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري وهي:
لقد حاز جار الله دام جماله ... فضائل فيها لا يشق غباره

تجدد رسم الفضل بعد اندراسه ... بآثار جار الله فالله جاره
أنا منذ لفظتني الأقدار من أوطاني، ومعاهد أهلي وجيراني إلى هذه الخطة التي هي اليوم بمكان جار الله أدام الله دولته جنة للكرام، وجنة من نكبات الأيام كانت قصوى منيتي وقصارى بغيني أن أكون أحد الملازمين لسدته الشريفة التي هي مخيم السيادة ومقبل أفواه السادة من ألقى فيها عصاه حاز في الدارين مناه، ونال في المحلين مبتغاه، ولكن سوء التقصير أو مانع التقدير حرمني تلك الخدمة، وحرم على هذه النعمة، والآن أظن وظن المؤمن لا يخطئ، أن آفل جدي هم بالإشراق، وذابل إقبالي أقبل على الإبراق، وذابل إقبالي أقبل على الإبراق، فقد أجد في نفسي نوراً مجدداً يهديني إلى جنته، ومن شوقي داعياً موفقاً يدعوني إلى حضرته، ويقرع لسان الهيبة كل ساعة سمعي بنداء: اخلع نعلك، واطرح بالواد المقدس رحلك، ولا تحفل بحقد حاقد وحسد حاسد، فإن حضرة جار الله أوسع من أن تضيق على راغب في فوائده، وأكرم من أن تستثقل وطأة طالب لعوائده، ومع هذا أرجو إشارة تصدر من مجلسه المحروس إما بخطه الشريف، فإن في ذلك شرفاً لي يدوم مدى الدهر والأيام، وفخراً يبقى على مر الشهور والأعوام، وإما على لسان من يوثق بصدق مقالته، ويعتمد على تبليغ رسأل ته من المنخرطين في سلك خدمته، والراتعين في رياض نعمته، ورأيه في ذلك أعلى وأصوب.
ومن إنشائه أيضاً تقليد حسبة صدر عن ديوان خوارزم وهو: إن أولى الأمور بأن تصرف أعنة العناية إلى ترتيب نظامه، وتقصر الهمم على مهمة إتمامه، أمر يتعلق به ثبات الدين، ويتوقف عليه صلاح المسلمين، وهو أمر الاحتساب، فإن فيه تثبيت الزائغين عن الحق، وتأديب المنهمكين في الفسق، وتقوية أعضاد أرباب الشرع وسواعدها، وإجراء معاملات الدين على قوانينها وقواعدها، وينبغي أن يكون متقلد هذا الأمر موصوفاً بالديانة، معروفاً بالصيانة، معرضاً عن مراصد الريب، بعيداً عن مواقف التهم والعيب، لابساً مدارع السداد، سأل كاً مناهج الرشاد، والشيخ الإمام فلان أدام الله فضله متحلٍ بهذه الخصائص المذكورة، والفضائل المشهورة، ومستظهر في دولتنا للحقوق الفرضية، ومستشعر للصفات المرضية، فقلدناه هذا الأمر الذي هو من مهمات الأعمال ومعظمات الأشغال، واعتمدنا في التقليد والتقلد على دينه المتين وفضله المبين، وعقيدته الطاهرة وأمانته الظاهرة، وأمرناه أولاً: أن يجعل التقوى شعاره والزهد دثاره، والعلم معلمه والدين مناره، ثم يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويقيم حدود الشرع على وفق النصوص والأخبار ومقتضى السنن والآثار، من غير أن يتسور الحيطان، ويتسلق الجدران، ويرفع الحجب المسدولة، ويكسر الأبواب المسدودة ويسلط الأوباش على دور المسلمين وحرم المؤمنين، فيغيروا على أموالهم، ويمدوا الأيدي إلى نسائهم وأطفالهم، ويظهروا ما أمر الله تعالى بستره وإخفائه، ونهى عن إشاعته وإفشائه، فإن عبادة الأوثان خير من ذلك الاحتساب والعقوبة أجدر بمباشر ذلك من الأجر والثواب، وأمرناه أن يبالغ في تعديل المكاييل والموازين على وفق أحكام الشرع والدين، فإن وجد تفاوتاً في شيء منها سواه وعدله، وغيره وبدله، وأدب صاحبه على رؤوس الأشهاد، لينزجر عن مثلهأهل الخيانة والفساد، وليعلم أنه في عهده ما يطوي وينشر، وينهي ويأمر، يوم ينشر الديوان، وينصب الميزان (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم).
وسبيل الأئمة والعلماء، وكافة الرعايا حاطهم الله أن يتوفروا على تعظيم قدره وتفخيم أمره، ويبالغوا فيما يرجع إلى تمهيد قواعد حرمته، وتشييد أركان حشمته، ولا يعترضوا عليه في شغل الاحتساب، فإن ذلك أمانة هو حاملها، ووديعة هو ضامنها والسلام.
ولرشيد الدين شعر دون نثره جودة، فمن ذلك قصيدة أوردها ضمن كتاب إلى صدر الدين بن نظام الدين رئيس جرجان:
جنابك صدر دين الله حصن ... لأهل الفضل من نوب الزمان
وصدرك في الخطوب إذا ألمت ... محط رحال حفاظ القران
وجودك دونه فيض الغوادي ... وعزمك دونه حد السنان
وبابك فيه مسكن كل عاف ... وعفوك فيه مأمن كل جاني
غدوت قريع فرسان القوافي ... وحائز سبقها يوم الرهان

لقد بلغت قاصية المعالي ... كما ملكت ناصية المعاني
وأعجزت الأفاضل في التحدي ... بمعجزة الفصاحة والبيان
يشق سناك جلباب الليالي ... وجنح ظلامها ملقي الجران
بك الآداب آهلة المغاني ... ودار المجد شاهقة المباني
فما لك في فحول الفضل ند ... ولا لك في رجال العلم ثاني
مغانيك الرحاب رياض عزٍ ... سقى صوب الحيا تلك المغاني
نمتك عصابة بيض هجان ... وهل تلد الهجان سوى الهجان؟
لقد أخرجت من أزكى نصاب ... وقد أرضعت من أصفى لبان
فأنت الغيث في وقت العطايا ... وأنت الليث في يوم الطعان
أتتني منك آيات تحاكي ... بدائع نظمها عقد الجمان
بلفظٍ مثل أفراد اللآلي ... وخط مثل أصداغ الغواني
فألبسني كتابك بعد خوف ... من الحدثان أردية الأمان
وقد شاهدت في الدنيا عياناً ... بما أهديت روضات الجنان
بقيت مدى الزمان حليف أمن ... ويمن تجتني ثمر الأماني
وطاوعك الأسافل والأعالي ... وتابعك الأباعد والأداني
صديقك ساحب ذيل المعالي ... وخصمك لابس ثوب الهوان
وقال:
ست بليت بها والمستعاذ به ... من شرها من إليه الخلق يبتهل
نفسي وإبليس والدنيا التي فتنت ... من قبلنا والهوى والحرص والأمل
إن لم تكن منك يا مولاي واقية ... من شرها الجم أعيت عبدك الحيل
وقال:
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقةٍ ... وتطلع فيها أنجم وتغور
فمن ظن أن الدهر باقٍ سروره ... فقد ظن عجزاً لايدوم سرور
وقال:
اذا ما شئت أن تحيا سعيداً ... وتنجو في الحساب من الخصوم
فلا تصحب سوى الأخيار واصرف ... حياتك في مدارسة العلوم
محمد بن أبي سعيد محمدالمعروف بابن شرف، الجذامي القيرواني الأديب الكاتب الشاعر أبو عبد الله. روى عن أبي الحسن القابسي، وأبي عمران الفاسي، وقرأ النحو على أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز، وأخذ العلوم الأدبية عن أبي إسحاق إبراهيم الحصري وغيرهم فبرع في الكتابة والشعر، وتقدم عند الأميرالمعز بن باديس أميرإفريقية، وكانت القيروان في عهده وجهة العلماء والأدباء، تشد إليها الرحال من كل فج لما يرونه من إقبال المعز على أهل العلم والأدب وعنايته بهم.
وكان ابن شرف وابن رشيق صاحب العمدة متقدمين عنده على سائر من في حضرته من الأفاضل والأدباء، فكان يقرب هذا تارة ويدني ذاك تارة، فتنافسا وتنافرا ثم تهاجيا، ولكن لم يتغير أحدهما على الآخر بما جرى بينهما من المناقصات، ولم يزل ابن شرف ملازماً لخدمة المعز إلى أن هاجم عرب الصعيد القيروان، واضطر المعز إلى الخروج منها إلى المهدية سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فخرج ابن شرف وسائر الشعراء معه إليها واستقروا بها، فأقام ابن شرف مدة بالمهدية ملازماً خدمة المعز وابنه تمم، ثم خرج منها قاصداً صقلية ولحق به رفيقه ابن رشيق فاجتمعا بها ومكثا بها مدة، ثم استنهضه ابن شرف على دخول الأندلس، فتردد ابن رشيق وأنشد:
مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فأجابه ابن شرف على الفور:
إن ترمك الغربة في معشر ... قد جبل الطبع على بعضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
ثم شخص ابن شرف منفرداً إلى الأندلس، وتنقل في بلادها وسكن المرية بعد مقارعة أهوالٍ ومقاومة خطوب، وتردد على ملوك الطوائف كآل عباد وغيرهم، وتوفي بإشبيلية سنة ستين وأربعمائة، ومن شعره:
لك مجلس كملت دواعي لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث
غنى الذباب فظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث

وقال في وصف وادي عذراء بمدينة برجة من أعمال المرية:
رياض غلائلها سندس ... توشت معاطفها بالزهر
مدامعها فوق خط الريا ... لها نظرة فتنت من نظر
وكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سفر
وقال في ليلة أنس باردة ممطرة:
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... في الأرض فيها والسماء تذوب
جمع العشاءين المصلي وانزوى ... فبها الرقيب كأنه مرقوب
والكأس كاسية القميص يديرها ... ساقٍ كخود كفه مخضوب
هي وردة في خده وبكأسها الد ... دري منها عسجد مصبوب
مني إليه ومن يديه إلى يدي ... الشمس تطلع تارة وتغيب
وقال:
قالوا تسابقت الحمي ... رفقلت من عدم السوابق
خلت الدسوت من الرخا ... خ ففرزنت فيها البيادق
وقال:
إذا صحبت الفتى جد وسعد ... نحامته المكاره والخطوب
ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وقاد له الرقيب
وعد الناس ضرطته غناء ... وقالوا إن فسا قد فاح طيب
وقال:
ولقد يهون أن يخونك كاشح ... كون الخيانة من أخ وخدين
لقى أخو يعقوب يعقوب الأذى ... وهما جميعاً في ثياب جنين
ومضى عقيل عن عليٍ خاذلاً ... ورأى الأمين جناية المأمون
فعلى الوفاء سلام غير معاين ... شخصاً له إلا عيان ظنون
وقال في الحر يخدم أصحابه:
خادمنا خيرنا وأفضلنا ... نطرح أعباءنا ويحملها
فنحن يسرى اليدين تخدمها ... يمناهما الدهر وهي أفضلها
وقال في مليح اسمه عمر:
يا أعدل الناس اسماً كم تجور علي ... فؤاد مضناك بالهجران والبين
أظنهم سلبوك القاف من قمر ... فأبدلوها بعين خيفة العين
وقال يمدح شيخه أبا الحسن علي بن أبي الرجال:
جاور علياً ولا تحفل بحادثة ... إذا أدرعت فلا تسأل عن الأمل
اسم حكاه المسمى في الفعال وقد ... حاز العليين من قول ومن عمل
فالماجد السيد الحر الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شانها وكذا ... تميز الشمس في الميران والحمل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
وقال:
كسيت قناع الشيب قبل أوانه ... وجسمي عليه للشباب وشاح
ويارب وجهٍ فيه للعين نزهة ... أمانع عيني منه وهو مباح
وقال من قصيدة فيما حل بالقيروان:
ترى سيئات القيروان تعاظمت ... فجلت عن الغفران والله غافر
تراها أصيبت بالكبائر وحدها ... ألم تك قدماً في البلاد الكبائر؟
تكشفت الأستار عن أهلها وكم ... أقيمت ستور دونهم وستائر
وقال:
إحذر محاسن أوجه فقدت محا ... سن نفسها ولو أنها أقمار
سرج تلوح إذا نظرت وأنها ... نور يضئ وإن مست فنار
وقال:
وما بلوغ الأماني من مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب
وقد تخلف مكتوب القضاء بها ... فكيف لي بقضاء غير مكتوب؟
ولابن شرفٍ القيرواني من التصانيف: أبكار الأفكار جمع فيه ما اختاره من شعره، وأعلام الكلام مجموع فيه فوائد ولطائف وملح منتخبة، ورسأل ة الانتقاد وهي على طراز مقامةٍ نقد فيها شعر طائفة من شعراء الجاهلية والإسلام، وديوان شعر وغير ذلك.
محمد بن محمد بن القاسم بن أحمدابن خديو الأخسيكاني أبو الوفاء المعروف بابن أبي المناقب، كان إماماً في اللغة أديباً فاضلاً صالحاً عارفاً بالأدب والتاريخ حسن الشعر، مات في آخر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ومن شعره:
اذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال:

ارحم أخي عباد الله كلهم ... وانظر إليهم بعين اللطف والشفقة
وقر كبيرهم وارحم صغيرهم ... وراع في كل خلق وجه من خلقه
محمد بن محمد بن أحمد الرامشبن همماه الرامش أبو نصر النحوي النيسابوري، كان مبرزاً في القراءات وعلوم الحديث، ذا حظ وافر من العربية واللغة، وله شعر صالح، سمع الحديث من أصحاب الأضم وغيرهم. ورحل وتخرج به جماعة وأملي بنيسابور، وأخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره. ولد سنة أربع وأربعمائة، ومات في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
ومن شعره:
ولما برزنا للرحيل وقربت ... كرام المطايا والركاب تسير
وضعت على صدري يدي مبادراً ... فقالوا محب للعناق يشير
فقلت ومن لي بالعناق وإنما ... تداركت قلبي حين كاد يطير
وقال:
وإذا لقيت صعوبة في حاجة ... فاحمل صعوبها على الدينار
وابعثه فيما تشتهيه فإنه ... حجر يلين سائر الأحجار
محمد بن محمد بن موهببن محمد أبو العز المعروف بابن الخرساني، النحوي العروض الشاعر الكاتب، كان عارفاً بالأدب شديد العناية بالعروض، وله شعر كثير سمع ابن نبهان وغيره. وقرأ على أبي منصور الجواليقي. وله مصنف في العروض وتصانيف أدبية وديوان شعر وتغير ذهنه بآخره، ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة، ومات يوم الأحد مستهل رمضان سنة ست وسبعين وخمسمائة. ومن شعره قوله:
أنا راض منكم بأيسر شيء ... يرتضيه لعاشقٍ معشوق
بسلامٍ من الطريق إذا ما ... جمعتنا بالاتفاق طريق
ومدح شخصاً بقصيدة منها:
إذا عجفت آمالنا عند معشرٍ ... غدا نجمها عند الزعيم خطائطا
فبلغت الحيص بيص الشاعر فقال: كل كلام في الدنيا يزاد لحناً، تكلمت بصادين فانقلبت الدنيا، وهذا ما يقوله أحد شيئاً وديوان ابن الخراساني هذا كبير يدخل في عشر مجلدات لطيفة، ومن شعره أيضاً:
إن شئت ألا تعد غمراً ... فخل زيداً وخل عمرا
واستعن الله في أمور ... ما زلن طول الزمان أمرا
ولا تخالف مدى الليالي ... لله حتى الممات أمرا
واقنع بما راج من طعامٍ ... والبس إذا ما عريت طمرا
وقال:
قد فلت إذ لحظته عيني مرة ... فاحمر من خجلٍ وفرط تصلف
عيني التي غرست نجدك وردة ... من ذا يقول لغارسٍ لاتقطف؟
يا سافكا دمي الحرام بطرفه ... أو ما تخاف الله يوم الموقف؟
أرويته عن عالمٍ أوجدته ... في مسند أقرأته في مصحف؟؟
محمد بن محمد بن يحيىبن بحر الشيخ تاج الدين أبو العلاء العلوي السند بيسي الواسطي الفقيه الشافعي النحوي،أخذالنحو عن أبي الفضل بن جهورٍ وغيره، وصحب الشيوخ وبرع في النحو وشرح الكلام، وكان فاضلاً تصدر في هذا الشأن وأقرأ مدة، توفي بعد سنة أربعين وخمسمائة.
محمد بن أبي محمد

بن محمد حجة الدين أبو حعفر المعروف بابن ظفر الصقلي الأصل، المكي النحوي اللغوي الأديب، مولده بصقلية ونشأ بمكة ورحل إلى مصر وإفريقية وأقام بالمهدية مدة، وشهد الحروب بها وأخذت من المسلمين وهو هناك، ثم انتقل إلى صقلية ثم عاد إلى مصر ورحل منها إلى حلب وأقام فيها بمدرسة ابن أبي عصرون، ولما وقعت فيها الفتنة بين الشيعة وأهل السنة نهبت كتبه فيما نهب، وخرج منها إلى حماة فصادف فيها قبولاً فسكن بها وأجري له راتب من ديوانها وكان دون الكفاف، فلم يزل يكابد الفقر إلى أن مات بها سنة خمس وستين وخمسمائة، وله من التصانيف: التفسير الكبير، وينبوع الحياة تفسير أيضاً، وكتاب الاشتراك اللغوي، وكتاب الاستنباط المعنوي، وأنباء نجباء الأبناء، وسلوان المطاع في عدوان الأتباع، والقواعد والبيان في النحو، وحاشية على درة الغواص للحريري رد فيها عليه، والمطول شرح مقامات الحريري، والمختصر شرحها أيضاً، والتنقيب على ما في المقامات من الغريب، وأسأل يب الغاية في أحكام آية، وخير البشر بخير البشر ذكر فيه الإرهاصات التي كانت بين ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وإكسير كيمياء التفسير، وأرجوزة في الفرائض، وملح اللغة وهو فيما اتفق لفظه واختلف معناه، ومعاتبة الجريء على معاقبة البريء وغير ذلك.
محمد بن محمود بن الحسنابن هبة الله بن محاسن صاحبنا الإمام محب الدين بن النجار، البغدادي الحافظ المؤرخ الأديب العلامة أحد أفراد العصر الأعلام، ولد ببغداد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع من ابن كليب والحافظ أبي الفرج بن الجوزي الواعظ وأصحاب ابن الحصين، ورحل إلى الشام ومصر والحجاز وخراسان وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور، وسمع الكثير وحصل الأصول والمسانيد، واستمرت رحلته سبعاً وعشرين سنة. واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، وكان إماماً حجة ثقة حافظاً مقرئاً أديباً عارفاً بالتاريخ وعلوم الأدب، حسن الإلقاء والمحاضرات، وكان له شعر حسن، وله التصانيف الممتعة، منها تاريخ بغداد ذيل به علة تاريخ مدينة السلام للحافظ أبي بكر أحمد بن عليٍ الخطيب البغدادي واستدرك فيه عله، وهو تاريخ حافل دل على تبحره في التاريخ وسعة حفظه للتراجم والأخبار، وله المختلف والمؤتلف ذيل به كتاب الأميرابن ماكولا، والمتفق والمفترق في نسبة رجال الحديث إلى الآباء والبلدان، وجنة الناظرين في معرفة التابعين، والعقد الفائق في عيون أخبار الدنيا ومحاسن تواريخ الخلائق، وكتاب القمر المنير في المسند الكبير ذكر فيه الصحابة الرواة وما لكل واحد من الحديث، والكمال في معرفة الرجال، ومعجم الشيوخ، ونزهة الورى في أخبار القرى، والدرة الثمينة في أخبار المدينة، ومناقب الإمام الشافعي، وروضة الأوليا في مسجد إيليا، والزهر في محاسن شعراء العصر، والأزهار في أنواع الأشعار، ونزهة الطرف في أخبارأهل الظرف، وغرر الفؤاد حافل في ست مجلدات، وسلوة الوحيد، وإخبار المشتاق، وجموع نحافيه نحو نشوار المحاضرة للتنوخي التقطه من أفواه الرجال، والشافي في الطب وغير ذلك. وأنشدني لنفسه قال:
وقائلٍ قال يوم العيد لي ورأى ... تململي ودموع العين تنهمر
مالي أراك حزيناً باكياً أسفاً ... كأن قلبك فيه النار تستعر؟
فقلت: إني بعيد الدار عن وطن ... ومملق الكف والأحباب قد هجروا
ونظر إلى غلام تركي حسن الصورة فرمد من يومه فقال:
وقائل قال قد نظرت إلى ... وجهٍ مليحٍ فاعتادك الرمد
فقلت: إن الشمس المنيرة قد ... يعشى بها الناظر الذي يقد
وقال أيضاً:
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للكتب لا ينفع
أتنطق بالجهل في مجلس ... وعلمك في البيت مستودع؟
محمد بن المرزبانأبو العباس الدميري، كان فاضلاً بليغاً مؤرخاً عالماً بمجاري اللغة، تصدر عنه الكتاب الكبار، وكان أحد التراجمة ينقل الكتب الفارسية إلى العربية، له أكثر من خمسين منقولاً من كتب الفرس، وله بضعة عشر كتاباً في الأوصاف منها: وصف الفارس والفرس، ووصف السيف، ووصف القلم، وله الحاوي في علوم القرآن سبعة وعشرون جزءاً، وكتاب الحماسة، وأخبار عبد الله بن جعفر بن أبيطالب وغير ذلك.

أخذ ابن المرزبان عن الزبير بن بكار والرمادي، وروي عنه أبو عمر بن حيوة وجماعة، وتوفى سنة تسع وثلاثمائة.
محمد بن المستنبر بن أحمدأبو على المعروف بقطرب، البصري النحوي اللغوي، سمي قطرباً لأنه كان يبكر إلى سيبويه للأخذ عنه، فإذا خرج سيبويه سحراً رآه على بابه فقال له يوماً: ما أنت إلا قطرب ليل، والقطرب دويبة تدب ولا تفتر فلقب بذلك، وهو أحد أئمة النحو واللغة،أخذالنحو عن سيبويه وأخذ عن عيسى بن عمر وجماعة من علماء البصرة، وأخذ عن النظام المتكلم إمام المعتزلة وكان على مذهبه، ولما صنف كتابه في التفسير أراد أن يقرأ في الجامع فخاف من العامة وإنكارهم عليه، لأنه ذكر فيه مذهبأهل الاعتزال، فاستعان بجماعة من أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته في الجامع، واتصل قطرب بأبي دلف العجلي وأدب ولده، وأخذ عنه ابن السكيت وقال: كتبت عنه قمطراً ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئاً.
توفي أبو علي ببغداد سنة ست ومائتين. وله من التصانيف: كتاب معاني القرآن، وغريب الحديث، وإعراب القرآن، والمثلث في اللغة، وكتاب الرد على الملحدين في متشابه القرآن، وكتاب الفرق، وكتاب الاشتقاق، وكتاب الأضداد، وكتاب فعل وأفعل، وكتاب النوادر، وكتاب الأصوات، وكتاب الأزمنة، وكتاب القوافي، وكتاب خلق الإنسان وكتاب خلق الفرس، وكتاب الهمزة، وكتاب العلل في النحو، ومجاز القران، والمصنف الغريب في اللغة وغير ذلك.
ومن شعره:
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي إذا ما غبت عن بصري
والعين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر
وقال:
لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحول
فساخط عيش ما يبدل غيره ... وراض بعيش غيره سيبدل
وبالغ أمر كان يأمل غيره ... ومصطلم من دون ما كان يأمل
محمد بن مسعودأبو بكر الخشني الأندلسي الجياني المعروف بابن أبي الركب، نحوي عظيم من مفاخر الأندلس، لغوي أديب شاعر،أخذالنحو عن ابن أبي العافية، وروي عن أبي الحسين ابن سراج وأبي علي الصدفي وجماعة وتصدر للإقرار. كان متقناً لمسائل سيبويه، فرحل الناس إليه لقراءة الكتاب عليه وانتقل بآخره إلى غرناطة فأقرأ بها، وولى الصلاة والخطبة بجامعها، وله شرح كتاب سيبويه، توفي في منتصف ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
بساط ذي الأرض سندس ... وماؤها العذب لؤلؤي
كأنها البكر حين تجلى ... والزهر من فوقها الحلي
محمد بن مسعود العشاميالأصبهاني المعروف بالفخر، النحوي، له تصانيف في الأدب مرغوب فيها، وشعر متداول ورسائل مدونة فائقة في الفقه والفرائض والحساب والمساحة، توفي بعد سنة ست وخمسمائة.
محمد بن المعلى بن عبد اللهأبو عبد الله الأسدي الأزدي النحوي اللغوي، روي عن الفضل بن سهل وأبي كثير الأعرابي وابن لنكك الشاعر والصولي أبي إسحاق إبراهيم وابن دريد اللغوي إجازة وغيرهم. وله شرح ديوان تميم بن مقبل وغير ذلك.
محمد بن مناذرمولى بنى صبير بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم أبو جعفر، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو ذريحٍ، وذريح ابن له مات صغيراً، وهو شاعر فصيح متقدم في العلم باللغة إمام فيها،أخذعنه كثير من اللغويين. وكان في أول أمره ناسكاً يتأله ثم ترك ذلك وهجا الناس، وتهتك فوعظته المعتزلة فلم يتعظ، فزجروه فهجاهم وقذفهم حتى نفى عن البصرة إلى الحجاز فمات هناك سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان قارئاً تروى عنه حروف يقرأ بها. وصحب الخليل بن أحمد وأبا عبيدة وأخذ عنهما الأدب واللغة، وله معرفة بالحديث، روى عن سفيان بن عيينة وسفيان النوري وشعبة وجماعة، وذكر ليحيى بن معين فقال: لا يروي عنه من فيه خير، وذكر له مرة فقال: أعرفه كان يرسل العقارب في المسجد بالبصرة حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد بالليل في أماكن الوضوء حتى يسود وجوههم.
وقال أبو العتاهية يوماً لابن مناذر: كيف أنت في الشعر فقال: أقول في الليلة عشرة أبيات إلى خمسة عشر. فقال أبو العتاهية: لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت.
فقال أجل والله لأنك تقول:

ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
وتقول:
ياعتب مالي ولك ... يا ليتى لم أرك
وأنا أقول:
ستظلم بغداد ويجلو لنا الدجى ... بمكة ما عشنا ثلاثة أبحر
إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وأرجلهم إلا لأعواد منبر
ولو أردت مثله لتعذر عليك الدهر، وإني لا أعود نفسي مثل كلامك الساقط فخجل أبو العتاهية. وقال يوماً ليونس النحوي يعرض به: أينصرف جبل أم لا؟ فقل له: لقد عرفت ما أردت يابن الزانية، فانصرف وأعد شهوداً ثم جاءه وأعاد السؤال، وعرف يونس ما أراد فقال الجواب ما سمعته أمس.
قال الجاحظ: كان ابن مناذر مولى سليمان القهرماني، وسليمان مولى عبيد الله ابن أبيبكرة، وعبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مولى مولى مولى، ثم ادعى أبو بكرة أنه ثقفي وادعى سليمان أنه تميمي، وادعى ابن مناذر أنه من بني صبير بن يربوع، فهو دعي مولى دعيٍ مولى دعيٍ، وهذا مما لم يجتمع في غيره، وعن محمد بن يزيد النحوي: أن ابن مناذرٍ كان إذا قيل له ابن مناذرٍ بفتح الميم يغضب ثم يقول: أمناذر الصغرى أم مناذر الكبرى؟ وهما كورتان من كور الأهواز، إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر، ومما هدد به المعتزلة حين توعدوه ومنعوه من دخول المسجد قوله:
أبلغ لديك بنى تميم مألكاً ... عني وعرج في بني يربوع
إني أخ لكم بدار مضيعة ... بومٍ وغربانٍ عليه وقوع
يا للقبائل من تميمٍ ما لكم ... روبى ولحم أخيكم بمضيع
وإذا تخربت القبائل صلتم ... بفتى لكل ملمةٍ وفظيع
هبوا له فلقد أراه بنصركم ... يأوي إلى جبل أشم منيع
إن أنتم لم توتروا لأخيكم ... حتى يباء بوتره المتبوع
فخذوا المغازل بالأكف وأيقنوا ... ماعشتم بمذلةٍ وخضوع
إن كنتم حرباً على أحسابكم ... سمعاً فقد أسمعت كل سميع
أين الرياحيون لم أر مثلهم ... في النائبات وأين رهط وكيع؟
وروى المبرد عن أبي واثلة قال: كان أبان اللاحقي يولع بابن مناذر ويقول له: إنما أنت شاعر في المراثي فإذا مت فلا ترثني، وكثر ذلك من أبان عليه حتى أغضبه فقال يهجوه:
غنج أبانٍ ولبن منطقه ... يخبر الناس أنه حلقي
داء به تعرفون كلكم ... يا آل عبد الحميد في الأفق
حتى إذا ما المساء جلله ... كان أطباؤه على الطرق
ففرجوا عنه بعض كربته ... بمستطير مطوق العنق
وقال يرثى سفيان بن عيينة
يجني من الحكمة سفياننا ... ماتشتهى الأنفس ألوانا
يا واحد الأمة في عمله ... لقيت من ذي العرش غفرانا
راحوا بسفيان على عرشه ... والعلم مكسوين أكفانا
محمد بن منصور بن جميلأبو عبد الله الغر الكاتب، نحوي لغوي أديب من أفاضل العصر، قدم بغداد في صباه وقرأ الأدب، ولازم مصدق بن شبيب النحوي حتى برع في النحو واللغة، وقرأ الفقه والفرائض والحساب وقال الشعر ومدح الناصر فعرف واشتهر، ورتب كتاباً في ديوان التركات مدة، ثم ولي نظره ثم ولي الصدرية بالمخزن، ثم عزل واعتقل وأفرج عنه بعد مدة، ورتب وكيلاً للأميرعدة الدين بن الناصر، وكان كاتباً بليغاً مليح الخط غزير الفضل متواضعاً، مليح الورة طيب الأخلاق، مات في شعبان سنة ست عشرة وستمائة.
محمد بن موسى بن عبد العزيز

أبو بكر الكندي المصري، وقيل أبو عمران بن الصيرفي ويعرف بابن الجبي ويلقب بسيبويه، كان عارفاً بالنحو والمعاني والقراءة والغريب والإعراب والأحكام وعلوم الحديث والرواية، واعتبني بالنحو والغريب حتى لقب بسيبويه لذلك، وله معرفة بأخبار الناس والنوادر والأشعار والفقه على مذهب الشافعي، جالس ابن الحداد الفقيه الشافعي وتتلمذ له، وسمع من أبي عبد الرحمن النسائي وأبي جعفر الطحاوي، وكان يتكلم في الزهد وأحوال الصالحين، عفيفاً متنسكاً ويظهر الاعتزال، اجتمعت فيه أدوات الأدباء والفقهاء والصلحاء والعباد والمتأدبين، وبلغ بذلك مبلغاً جالس به الملوك، وكان يظهر الكلام في الاعتزال في الأسواق فيتحمل لما هو عليه من العلم، ولحقته السوداء فاختلط ثم زادت عليه الوسوسة، وواصلته السوداء إلى أن مات في صفر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بمصر، وولد سنة أربع وثمانين ومائتين. ومن شعره:
من لم يكن يومه الذي هو فيه ... أفضل من أمسه ودون غده
فالموت خير له وأروح من ... حياة سوء تفت في عضده
محمد بن موسى الحدادي البلخيالنحوي الشاعر، يقال أخرجت بلخ أربعة من الأفراد، أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسهل بن الحسن في الشعر الفارس، ومحمد بن موسى الحدادي في العربية والشعر العرب، وكان الحدادي يكتب للحسين بن علي، وشعره سائر مدون أكثره أمثال وحكم منه:
يسرنى من حسد الناس لي ... أني فيهم غير محروم
وأنني من كرم لابس ... وأنني عارٍ من اللوم
وقال:
إن كنت أشكو ما يدق ... ق عن الشكاية في القريض
فالفيل يضجر وهو أع ... ظم ما رأيت من البعوض
وقال:
ما بال فرقة شملنا لاتجمع ... وإلى متى يصل الزمان ويقطع؟
كم خلفت تلك الركاب وراءها ... من منزل فيه لنا مستمتع
فالورد يلطم خده لمصابنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
محمد بن موسى بن أبيمحمدبن مؤمن الكندي أبو بكر النحوي، كتب الحديث والنحو وأكثر، وكان رجلاً فاضلاً صالحاً، توفي في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وقد قارب الثمانين.
محمد بن ميمون الأندلسيالقطربي أبو بكر النحوي يعرف بمركوش، كان بارعا في النحو مشهوراً بالأدب. ومن شعره في غلام قص من شعره:
تبسم عن مثل نور الأفاحي ... وأقصدنا بمراضٍ صحاح
ومر يميس كما ماس غصن ... يلاعب عطفيه موج الرياح
وقصر من ليله ساعة ... فأعقب ذلك ضوء الصباح
وإني وإن رغم العاذلو ... ن من خمر أجفانه غير صاح
ولأبي بكر بن ميمون من التصانيف: شرح الجمل في النحو، شرح مقامات الحريري وغير ذلك.
محمد بن نصر بن صغير بن داغرابن محمد بن خالد، من ولد خالد بن الوليد الصحابي الجليل شرف الدين المخزومي المعروف بابن القيسراني الحلبي الأديب الشاعر، كان شاعراً مجيداً وأديباً متفنناً، كان وابن منير الطرابلسي شاعري الشام في عهد الملك العادل نور الدين بن زنكي، ولهما القصائد الطنانة في مدحه، قرأ الأدب على توفيق بن محمد الدمشقي وابن الخياط الشاعر، وسمع بحلب من هاشم بن أحمد الحلبي وأبي طاهر الخطيب، وسمع منه أبو سعيد السمعاني والحافظ بن عساكر وأبو المعالي الحظيري الأديب الشاعر وغيرهم. وكان هو وابن منير يشبهان بجرير والفرزدق للمناقصات والوقائع التي جرت بينهما، واتفق موتهما في سنة واحدة، فقد مات ابن منير في حلب في جمادى الآخرة، وفي ثاني عشر شعبان وصل إلى دمشق ابن القيسراني باستدعاء الأميرمجير الدين فمات بعد وصوله بعشرة أيام، وذلك ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وله شعر كثير مدون أجاد في أكثره، فمن ذلك قصيدة مدح بها الملك العادل نور الدين حين أسر جوسلين واستولى على بلاده بشمالي حلب سنة خمس وأربعين وخمسمائة قال:
دعا ما ادعى من غره النهي والأمر ... فما الملك إلا ما حباك به الأمر

ومن ثنت الدنيا إليه عنانها ... تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم جيوش من طلائعها النصر
ليهن دمشقاً أن كرسي ملكها ... حبا منك صدراً ضاق عن همه الصدر
وأنك نور الدين مذ زرت أرضها ... سمت بك حتى انحط عن نسرها النسر
خطبت فلم يحبك عنها وليها ... وخطب العلا بالسيف ما دونه ستر
جلاها لك الإقبال حورية السنا ... عليها من الفردوس أردية خضر
خلوب أكنت من هواك محبة ... نمت فانتمت جهراً وسر الهوى جهر
فإن صافحت يمناك من بعد هجرها ... فأحلى التلاقي ما تقدمه هجر
وهل هي إلا كالحصان تمنعت ... دلالاً وإن عز الحيا وغلا المهر؟
ولكن إذا ما قسها بصداقها ... فليس له قدر وليس لها قدر
هي الثغر أمسى بالكراديس عابساً ... وأصبح عن باب الفراديس يفتر
على أنها لو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الخوف والذعر
فلما وقفت الخيل ناقعة الصدى ... على بردى من فوقها الورق النضر
فمن بعد ما أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها والبيض من علق حمر
وجللتها نقعاً أضاع شياتها ... فلا شهبها شهب ولا شقرها شقر
علا النهر لما كاثر الغصب القنا ... مكاثرة في كل نحر لها نحر
وقد شرقت أجرافه بدم العدى ... إلى أن جري العاصي وضحضاحه غمر
صدعتهم صدع الزجاجة لايد ... لجابرها ما كل كسر له جبر
فلا ينتحل من بعدها الفخر دائل ... فمن بارز الإبرنز كان له الفخر
ومن بز أنطاكية من مليكها ... أطاعته ألحاظ المؤللة الخزر
ومنها:
طغى وبغى عدوا على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وألقت بأيديها إليك حصونه ... ولو لم تجيء طوعاً لجاء بها القسر
فسر واملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذا السناهر
كأني بهذا الحزم لا فل حده ... قصاه بالأقصى وقد قضى الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طهر
وقد أدت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عنق سيف ولا نذر
وصلت بمعراج النبي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر
وإن تتيمم ساحل البحر مالكاً ... فلا عجب أن يملك الساحل البحر
سللت سيوفاً أثكلت كل بلدة ... بصاحبها حتى تخوفك البدر
إذا سار نور الدين في عزماته ... فقولا لليل الفجر قد طلع الفجر
ولو لم يسر في عسكر من جنوده ... لكان له من نفسه عسكر مجر
مليك سمت شم المنابر باسمه ... كما قد زهت تيهاً به الأنجم الزهر
فيا كعبة مازال في عرصانها ... مواسم حج لا يروعها النفر
خلعت على الأيام من حلل العلا ... ملابس من أعلامها الحمد والشكر
وتوجت ثغر الشام منك جلالة ... تمنت لها بغداد لو أنها ثغر
فلا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فيمناك نيل كل مر بها مصر
رددت الجهاد الصعب سهلاً سبيله ... ويا طالما أمسى ومسلكه وعر
وقال يمدح أبا غانم سعد بن طارق:
خاطر بقلبك إما صبوة الغالي ... فيما أحب وإما سلوة السأل ي
من كل ذي هيف ترنو لواحظه ... إليك من لهذم في صدر عسأل
كم ليلة بت من كأس وريقته ... نشوان أمزج سلسأل اً بسلسأل
وبات لا يحتمي عني مراشفه ... كأنما ثغره ثغر بلا والي

يا مطلقي ما بقي للسقم من جسدى؟ ... وفي يديهم فؤادي رهن أغلال
إن شئتم علم حالي بعد فرقتكم ... فأنصتوا للحمام العاطل الحالي
خذوا حديث غرامي عن مطوقة ... تتلو ضلالي في فرع من الضال
لم تتركوا لي سوى نفس أجود بها ... والجود بالنفس غير الجود بالمال
إذا غضبم وبات الوجد يشفع لي ... إلى رضاكم رأيت السقم أشفى لي
كأن عيني في فضل انسكابهما ... يدا أبي غانم جادت بأفضال
غمر يصدك عن تكذيب مادحه ... ماعند كفيه من تصديق آمال
يثرى فلا يستقر المال في يده ... كأنه عذل في سمع مختال
ميتم ببنات الفكر وهي به ... مفتونة فهو لا شاك ولا سأل ي
يا من يزار فيلقى عنده كرم ... بلا حجاب ومجد بالعلا حالي
من كان من عرب أو كان من عجم ... فأنت يا سعد من يمن وإقبال
وقال يمدح القاضي كمال الدين الشهرزوري:
أيا عاذلي في الحب مالي وللعذل؟ ... ويا هاجري هل من سبيل إلى الوصل؟
أحين استجارتك الملاحة في الهوى؟ ... بخلت كأن الحسن في ذمة البخل
لي الله من صب تملكه الجوى ... فأمسى أسيراً رهن حبلٍ من الخبل
منيت بمثل البدر في مستقره ... يريك المنال الصعب في المنظر السهل
إذا ما التقينا جال طرفي وطرفه ... فانظر من دمع وينظر من نصل
فيا ويح قلبي من بلاه بحبه ... ومن دل ألحاظي على ذلك الدل؟
ويا لي من ليل طويل كهجره ... وصبرٍ ضعيفٍ ضعف أجفانه النجل
ألفت قلاه واستطبت مطاله ... وأطيب ما جاء الوصال على مطل
وقالوا حباك الشيب بالحلم والنهى ... ومن لي بأيام الشيبة والجهل
ليالي أجتاب الليالي صبوة ... ورامي غرامي لا يرى موقع النبل
متى ماخلا قلب المحب من الهوى ... فيالك من ربعٍ أقام بلا أهل
ألم تر أن الشيب بين جوانحي ... أقام مقام الفضل عند أبيالفضل؟
عقيد المعالي بين كفيه والندى ... مواثيق عقد لا تروع بالحل
ويبسم عن ثغرٍ يبشر بالجدا ... كما بشر البرق اليماني بالوبل
مناقبه بين الورى مستفيضة ... إذا رويت لم تعتبر صحة النقل
وما العلم إلا سيرة شهدت بها ... أسانيدها أورد فرع إلى أصل
متى ارتجل الإيجاز في صدر دسته ... رأيت الخطاب الفصل في ذلك الفصل
غريب العلى يفتن في مكرماته ... إذا ما انقضى شكل بدا بك في شكل
وجدنا ابن عبد الله أندى من الحيا ... وأغلى محلاً منه في زمن المحل
فطوراً يباريه الرجاء على النوى ... وطوراً تناجيه المطالب في الرحل
إليك انتضى شوقي إليك عزيمة ... هي النصل تحت الليل أو سمة النصل
على سابح يطوى المدى بسنابك ... لمستها فوق الصفا طاعة الرمل
إلى ماجد أمواله بيد الندى ... فليس عليها من وكيل سوى البذل
أبا الفضل كم لي في مساعيك مدحة ... ألذ على الأفواه من ضرب النحل
فريدة لفظ في فريد محاسنٍ ... فتلك بلا مثل وأنت بلا مثل
وقال:
خذوا حيث غرامي عن ضني بدني ... أغنى لسان الهوى عن دمعي اللسن
وخبروني عن قلبي ومالكه ... فربما أشكل المعنى على الفطن
من ذا الذي ترهب الأبطال صولته ... زيد الفوارس أم سيف بن ذي يزن؟
وما جفون إذا سلت صوارمها ... تجاذبت مهج الأفران في قرن
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملآى من الوسن؟

تفرق الحسن إلا في محاسنه ... ويلاه من فتنٍ جمعن في فنن
أمسى غرامي بذاك القد يوهمنى ... أن اعتلاك الصبا شوقاً إلي الغصن
إذا الصبابة عاطتنى مدامتها ... فما فؤادي على سرٍ بمؤتن
أعيا اللوائم سمعي غير لائمة ... للشيب ما لت إلى عيني عن أذني
حتى إذا ما تناهى العذل في كلفي ... قامت إلي بنات الدهر تعذلني
فما ثنت ناظري عن منظر حسن ... حتى أرتني مكاني من أبي الحسن
وقال:
مررنا في ديار بني عدي ... يجاذب لوعتي شرق وغرب
يتيمنى بأرض الشام حب ... ويعطفنى على بغداد حب
غرام طارف وهوى تليد ... لكل صبابة في القلب شعب
فلا وأبيك ما هومت إلا ... سرى لهما خيال لا يغب
فكل هوىً يطالبنى بقلبٍ ... وهل لي غير هذا القلب قلب؟
وقال:
لا يغرنك من السيف المضا ... فالظبى ما نظرت منها الظباء
مرهفات الحد أمضاها المها ... وقضاها للمحبين القضاء
حدق علتها صحتها ... ربما كان من الداء الدواء
وقال:
تظلمت من أجفانهن إلى النوى ... سفاهاً وهل يعدى البعاد على القرب؟
ولما دنا التوديع قلت لصاحبي ... حنانيك سربي عن ملاحظة السرب
إذا كانت الأحداق نوعاً من الظبى ... فلا شك أنا للحظ ضرب من الضرب
وقال:
رنا بطرفٍ مريض الجفن منكسر ... فمن رأى جؤذراً يلهو بآساد؟
جفن روى عنه ما يرويه من سقمٍ ... جسمى فصح به نقلي وإسنادي
وقال:
إذا ما تأملت القوام مهفهفاً ... تأملت سيفاً بيز جفنيه مرهفاً
وطرفاً تخلى عن سقامي سقامه ... فهلا شفى من بات منه على شفا
وقال:
بالسفح من لبنان لي ... قمر منازله القلوب
حملت تحيته الشما ... ل فردها عني الجنوب
فرد الصفات غريبها ... والحسن في الدنيا غريب
لم أنس ليلة قال لي ... لما رأى جسدي يذوب
بالله قل لي يافتى ... ماتشتكي؟ قلت الطبيب
وقال:
بين فتور المقلتين والكحل ... هوى له من كل قلب ما انتحل
توق من فتكاتها لواحظاً ... أما ترى تلك الظبي كيف تسل؟
ويلاه من نواظر سواحر ... ما عقل العقل بها إلا اختبل
لو لم تكن أجفانها نوابلاً ... لما برت أسهمها من المقل
يا رامياً مسمومة نصاله ... عيناك للقارة قل لي أم ثعل؟
كم عاذلٍ خوفني من لحظه ... إليك عني سبق السيف العذل
وله من قصيدة في الملك العادل نور الدين وأجاد:
حصن بلادك هيبة لا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم
هيهات يطمع في محلك طامع ... طال البناء على يمين الهادم
كلفت همتك السمو فحلقت ... فكأنما هي دعوة في ظالم
وأظن أن الناس لما لم يروا ... عدلاً كذلك أرجفوا بالقائم
وقال أيضاً في قصيدة يهنئه بها باستيلائه على سنجار وأعمال الفرات:
في عسكرٍ يخفي كواكب ليله ... نقع فيطلعها القنا الخطار
جرار أذيال العجاج وراءه ... وأمامه بل جحفل جرار
تدني لك الغايات همتك التي ... كبرت كذا همم الملوك كبار
وملكت سنجاراً وما من بلدة ... إلا تمنت أنها سنجار
وبسطت بالأموال كفا طالما ... طالت به الآمال وهي قصار
وثنى الفرات إلى يديك عنانه ... والبحر ما اتصلت به الأنهار
ومنها:
تدعو البلاد إليك ألسنة الظبى ... فتجيبك الأنجاد والأغوار
حتى عمدت الدين يا ابن عماده ... بقناً أسنتها عليه منار
ومنها:
أمضى السلاح على عدوك بغية ... بالغدر يطعن في الوغى الغدار

فاحسم عناد ذوي العناد بجحفل ... كالليل فيه من الصفاح نهار
جند على جرد أمام صدورها ... صدر عليه من اليقين صدار
قد بايع الإخلاص بيعة نصرة ... ولكل هادي أمة أنصار
وإذا الملوك تثاقلت عن غاية ... فأرادها خفت به الأقدار
محمد بن نصر الله بن الحسينبن عنين الدمشقي الأنصاري، أصله من الكوفة من الخطة المعروفة بمسجد بني النجار، وولد بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وهو من أفاضل العصر لغوي أديب شاعر مجيد، نشأ بدمشق وأخذ عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر وغيره وهو يستحضر كتاب الجمهرة لابن دريد، وبرع في الشعر وحل الألغاز، ورحل إلى العراق والجزيرة وخراسان وأذربيجان وخوارزم، ودخل الهند ورحل إلى اليمن ومنها إلى الحجاز ثم إلى مصر ثم رجع إلى دمشق وهو مولع بالهجو، وله في ذلك قصيدة طويلة سماها مقراض الأعراض، ويقال: إنه يخل بالصلاة ويصل ابنة العنقود، ورماه أبو الفتح بن الحاجب بالزندقة والله أعلم بصحة ذلك.
ولما كان بخوارزم حضر يوماً درس الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المعروف بابن خطيب الري وكان يوماً باردا سقط فيه الثلج، فبينما الشيخ يلقي الدرس إذا سقطت حمامة بالقرب منه ووراءها طير من الجوارح يطاردها، فلما صارت بين الناس خاف الجارح وطار، ولم تقدر الحمامة على النهوض مما لحقها من الخوف والبرد، فرق لها الإمام فخر الدين وأخذها بيده وحنى عليها، فأنشده ابن عنين مرتجلاً:
يا ابن الكرام المطعمين إذا اشتووا ... في يوم مسغبةٍ وثلجٍ خاشف
العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف
من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف؟
وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف
لو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف
قرم يطاردها فلما استأمنت ... بجنابه ولى بقلب واجف
وله من قصيدة كتب بها إلى العادل يشكو الغربة والشوق إلى الشام:
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعلهم لو سامحوني بالكرى
جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أن ذلك مفترى
يا معرضاً عني بغير جناية ... إلا لما نقل العذول وزورا
هبني أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبيك شيئا منكرا
ما بعد بعدك والصدود عقوبة ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا؟
لا تجمعن على عتبك والنوى ... حسب المحب عقوبة أن يهجرا
عبء الصدود أخف من عبء النوى ... لو كان لي في الحب أن أتخيرا
فسقى دمشق ووادييها والحمى ... متواصل الإرهام منفصم العرى
حتى ترى وجه الرياض بعارض ... أحوى وفود الدوح أبيض أزهرا
تلك المنازل لا ملاعب عالج ... ورمال كاظمة ولاوادي القرى
أرض إذا مرت بها ريح الصبا ... حملت على الأغصان مسكا أذفرا
فارقتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلىً ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزقٍ في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقترا
وأصون وجه مدائحي متقنعاً ... وأكف ذيل مطامعي متسترا
ومنها في الشكوى والدخول إلى المديح:
أشكو إليك نوىً تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو ولا جفني يصافحه الكرى
أضحى عن الربع المريع محولاً ... وأبيت عن ورد النمير منفرا
ومن العجائب أن يقيل بظلكم ... كل الورى ونبذت وحدي بالعرا
وأول قصيدته المسماة مقراض الأعراض قوله:
أضالع تنطوى على كرب ... ومقلة مستهلة الغرب

شوقاً إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السحب
ومن ثم أخذفي الهجو بنفس طويل، وتفنن بأساليب السب والثلب فأورد ما لا يحسن إيراده، وقال أيضاً في هجو أبيه:
وجنبي أن أفعل الخير والد ... ضئيل إذا ما عد أهل التناسب
يعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جم المعايب
إذا رمت أن أسمو صعوداً إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي
وقال يهجو كحالاً:
لو أن طلاب المطالب عندهم ... علم بأنك للعيون تعور
لأتوا إليك بكل ما أملته ... منهم وكان الجزاء الأوفر
ودعوك بالصباغ لما أن رأوا ... يعشي العيون لديك ماء أصفر
وبكفك الميل الذي يحكي عصا ... موسى وكم عين به تتفجر
وقال في العادل سيف الدين بن أيوب:
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق
وقال في المحدث الفاضل ابن دحية الكلبي وهو معاصر:
دحية لم يعقب فلم تعتزى؟ ... إليه بالبهتان والإفك
ما صح عند الناس شيء سوى ... أنك من كلب بلا شك
وقال يمدح فخر الدين الرازي وسيرها إليه من نيسابور إلى هراة:
ريح الشمال عساك أن تتحملي ... شوقي إلى الصدر الإمام الأفضل
وقفي بواديه المقدس وانظري ... نور الهدى متألقا لا يأتلي
من دوحة فخرية عمرية ... طابت مغارس مجدها المتأثل
مكية الأنساب زاك أصلها ... وفروعها فوق السماك الأعزل
واستمطري جدوى يديه فطالما ... خلف الحيا في كل عام ممحل
نعم سحائبها تعود كما بدت ... لايعرف الوسمي منها والولي
بحر تصدر للعلوم ومن رأى ... بحراً تصدر قبله في محفل؟
ومشمر في الله يسحب للتقى ... والدين سر بال العفاف المسبل
ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهراً وكاد ظلامها لا ينجلي
فعلا به الإسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل
غلط امرؤ بأبي علي قاسه ... هيهات قصر عن مداه أبو علي
لو أن رسطاً ليس يسمع لفظةً ... من لفظة لعرته هزة أفكل
ويحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل
فلو أنهم جمعوا لديه تيقنوا ... أن الفضيلة لم تكن للأول
وبه يبيت الحلم معتصماً إذا ... هزت رياح الطيش ركني يذبل
يعفو عن الذنب العظيم تكرماً ... ويجود مسؤولاً وإن لم يسأل
أرض الإله بفضله ودفاعه ... عن دينه وأقر عين المرسل
يأيها المولى الذي درجاته ... ترنو إلى فلك الثوابت من عل
مامنصب الا وقدرك فوقه ... فبمجدك السامى يهنى ماتلى
فمتى أراد الله رفعة منصب ... أفضى إليك فنال أشرف منزل
لازال ربعك للوفود؟ثابة ... أبداً وجودك كف كل مؤمل؟
ولما كان بمصر أهدى اليه الشريف أبو الفضل سليمان الكحال خروفاً هزيلاً فكتب إليه يشكره ويداعبه فقال:
أبو الفضل وابن الفضل أنت وأهله ... فغير بديع أن يكون لك الفضل
أتتني أياديك التي لاأعدها ... لكثرتها لاكفر نعمى ولاجهل
ولكنني أنبيك عنها بطرفة ... تروقك ماوافى لها قبلها مثل
أتاني خروف ماشككت بأنه ... حليف هوىً قد شفه الهجر والعذل
إذا قام في شمس الظهيرة خلته ... خيالاً سرى في ظلمة ماله ظل
فناشدته مايشتهي؟ قال حلبة ... وقاسمته ماشاقه قال لي الأكل؟
فاحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... مسلمةً ماحصى أوراقها الفتل
فظل يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدمع في العين منهل

أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لاينفع الوصل
وقال:
ألين لصعب الخلق قاس فؤاده ... وأعتبه لو يرعوى من أعاتبه
من الترك مياس القوام منعم ... له الدر ثغر والزمرد شارب
أسأل عذاراً في أسيل كأنه ... عبير على كافور خديه ذائب
وقال:
ومهفهف رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجداً عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق
وشعره غرر كله وهو الآن حي مقيم في دمشق.
محمد بن هانئأبو القاسم الأزدي الأندلسي، من ولد روح بن حاتم ابن قبيصة بن المهلب، أديب شاعر مفلق، أشعر المتقدمين والمتأخرين من المغاربة، وهو عندهم كالمتنبي عندأهل المشرق، ولد بإشبيلية ونشأ بها، ونال حظاً واسعاً من علوم الأدب وفنونه، وبرز في الشعر فلم يباره في حلبته مبار، ولم يشق غباره لاحق، وكان متهماً بالفلسفة يسلك في أقواله وأشعاره مسلك المعري، وما زال يغلو في ذلك حتى تعدى الحق وخرج في غلوه إلى ما لا وجه له في التأويل، فأزعجه أهل الأندلس واضطروه إلى الخروج من وطنه، وأشار عليه صاحب إشبيلية بذلك درءا للفتنة، فخرج متنقلاً في البلاد ووصل إلى عدوة المغرب، فلقي بها جوهر القائد مولى المنصور فمدحه، ثم رحل إلى الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية وأخيه يحيى فانتجع بابهما ولزم رحابهما، فاكرما وفادته واحسنا إليه، ثم بلغ خبره للمعز أبا تميم فاستقدمه واحسن نزله وبالغ في إكرامه، ولما رحل المعز إلى الديار المصرية استأذنه في الرجوع إلى عياله ليأتي بهم ويلحق به، فأذن له فخرج قاصداً بلده، فلما بلغ برقة نزل على أحد أعيانها للراحة فأضافه أيام فخرج ليلة سكران من بيته، فلما أصبح الناس وجدوه ملقي في سانية من سواني البلد مخنوقا بتكة سراويله ولم يعرف سبب ذلك ولا فاعله، وكانت وفاته كذلك يوم الأربعاء سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وقد جاوز الأربعين، ولما بلغ المعز خبر موته آسف عليه آسفا عظيما وقال: هذا الذي كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك، ومن غرر شعره قصيدته الرائية المشهورة التي مدح بها المعز المذكور وهي:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر
وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدور بكل ليث مخدر
أبني العوالي السمهرية والسيو ... ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير
القائد الخيل العتاق شوازباً ... خزراً إلى لحظ السنان الأخزر
شعث النواصي حشرةً آذانها ... قب الأياطل داميات الأنسر
تنبو سنابكهن عن عفر الثرى ... فيطأن في خد العزيز الأصعر
جيش تقدمه الليوث وفوقه ... كالغيل من قصب الوشيج الأسمر
وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مما يشق من العجاج الأكدر
وكأنما شملت قناة ببارق ... متألق أو عارض مثعنجر
تمتد ألسنة الصواعق فوقه ... عن ظلتي مزن عليه كنهور
ويقوده الليث الغضنفر معلماً ... في كل شنن اللبدتين غضنفر
نحر القبول من الدبور وسار في ... جيش الهرقل وعزمه الإسكندر
في فتية صدأ الدروع عبيرهم ... وخلوقهم علق النجيع الأحمر
لايأكل السرحان شلو طعينهم ... مما عليه من القنا المتكسر
اأنسوا بهجران الأنيس كأنهم ... في عبقري البيد جنة عبقر
ومنها:
قوم يبيت على الحشايا غيرهم ... ومبيتهم فوق الجياد الضمر
وتظل تسبح في الدماء قبابهم ... فكأنهن سفائن في أبحر
من كل أهرت كالح ذي لبدة ... أوكل أبيض واضح ذي مغفر
ومنها في ذكر الممدوح:
لي منهم سيف إذا جردته ... يوما ضربت به رقاب الأعصر
وفتكت بالزمن المدجج فتكة ال ... براض يوم هجائه ابن المنذر

صعب إذا نوب الزمان استصعبت ... متنمر للحادث المتنمر
فإذا عفا لم تلق غير مملك ... وإذا سطا لم تلق غير مظفر
وكفاك من حب السماحة أنها ... منه بموضع مقلة من محجر
فغمامه من رحمة وعراصه ... من جبنة ويمينه من كوثر
وقال أيضاً يمدحه من قصيدة:
ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط
بين السحاب وبين الريح ملحمة ... معامع وظبي في الجو تخترط
كأنه ساخط يرضى على عجل ... فما يدوم رضا منه ولا سخط
أهدى الربيع إلينا روضة آنفاً ... كما تنفس عن كافوره السفط
ومنها:
والريح تبعث أنفاساً معطرة ... مثل العبير بماء الورد يختلط
كأنما هي أنفاس المعز سرت ... لاشبهة للندى فيها ولاغلط
تالله لو كانت الأنواء تشبهه ... مامر بؤس على الدنيا ولاقنط
أبدى الزمان لنا من نور طلعته ... عن دولة ما بها وهن ولا سقط
حتى تسلط منه في الورى ملك ... رنت بدولته الأملاك والسلط
إمام عدل وفي في كل ناحية ... كما قضوا في الإمام العدل واشترطوا
قد بان بالفضل عن ماض ومؤتنف ... كالعقد عن طرفيه يفضل الوسط
وقال يمدح جعفر بن الأندلسية:
أليتنا إذ أرسلت وارداً وحفاً ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
ولم يبق إرعاش المدام له يداً ... ولم يبق أعنات التثني له عطفا
تريف ثناه السكر إلا ارتجاجةً ... إذا كل عنها الخصر حملها الردفا
يقولون: حقف فوقه خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانه والحقفا؟
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الظلماء من جلدها لحفا
فمن كبد تدنى إلى كبد هوىً ... ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
بعيشك نبه كأسه وجفونه ... فقد نبه الإبريق من بعدما أغفى
وقد فكت الظلماء بعض قيودها ... وقد قام جيش الليل للفجر واصطفا
ومنها في المديح:
كان لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
وقد جاشت الدأماء بيضاً صوارماً ... ومارنةً سمراً وفضفاضةً زغفا
وجاءت عتاق الخيل تجري كأنما ... تخط له أقلام آذانها صحفا
هنالك تلقى جعفراً غير جعفر ... وقد بدلت يمناه من رفقها عنفا
وكائن تراه في الكريهة جاعلاً ... عزيمته برقاً وصولته خطفا
وكائن تراه في المقامة جاعلاً ... مشاهده فصلاً وخطبته حرفا
وقد بلغ في هذه القصيدة غايات الإجادة ولولا طولها لاوردتها بتمامها، وقال يصف سيفا ليحي آخي جعفر المذكور:
لله أي شهاب حرب واقد ... صحب ابن ذي يزن وأدرك تبعا
في كف يحيى منه أبيض مرهف ... عرف المعز بآله فتشيعا
وجرى الفرند بصفحتيه كأنما ... ذكر القتيل بكر بلاء فدمعا
يكفيك مما شئت في الهيجاء أن ... تلقى العدا فتسل منه أصبعا
وقال أيضاً يمدح المعز وهي أول قصيدة مدحه بها حين قدم عليه بالقيروان:
هل من أعقه عالج يبرين ... أم منهما بقر الحدوج العين؟
ولمن ليال ماذممنا عهدها ... مذ كن إلا أنهن شجون
المشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون
بيض وما ضحك الصباح وإنها ... بالمسك من طرر الحسان لجون
أدمى لها المرجان صفحة خده ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون
ومنها:
لأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمع عليه هتون
أ أعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم؟ إني إذاً لخئون
لا الجو جو مشرق ولو اكتسى ... زهراً ولا الماء المعين معين
ومنها:

عهدي بذاك الجو وهو أسنة ... وكناس ذاك الخشف وهو عرين
هل يدنيني منه أجرد سابح ... مرح وجائلة النسوع أمون
ومنها في المديح:
ألروض ما قد قيل في أيامه ... لاأنه ورد ولانسرين
والمسك ماكتم الثرى من ذكره ... لاأن كل قراره دارين
ملك كما حدثت عنه رأفة ... فالخمر ماء والشراسة لين
شيم لوان اليم أعطى رفقها ... لم يلتقم ذا النون فيه النون
تالله لاظلل الغمام معاقل ... تأتي عليه ولا النجوم حصون
ووراء حق ابن الرسول ضراغم ... أسد وشهباء السلاح متون
ألطالبان المشرفية والقنا ... والمدركان النصر والتمكين
وصواهل لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا البيد الحزون حزون
جنب الحمام ومالهن قوادم ... وعلا الربود وما لهن وكون
فكأنما تحت الغبار كواكب ... وكأنما تحت الحديد دجون
عرفت بساعة سبقها لاأنها ... علقت بها يوم الرهان عيون
أجل علم البرق فيها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون
ومنها:
انظرإلى الدنيا بإشفاق فقد ... أرخصت هذا العلق وهو ثمين
لو يستطيع البحر لاستعدى علي ... جدوى يديك وإنه لقمين
امدده أو فاصفح له عن نيله ... فلقد تخوف أن يقال ضنين
واعذر أمية أن تغص بريقها ... فالمهل ما سقيته والغسلين
ألقت بأيدي الذل ملقى عمرها ... بالثوب إذ فغرت له صفين
وهذه القصيدة أطول قصائده وهي نيف وثمانون بيتاً اقتصرنا منها على ما أوردناه. وقال أيضاً في مجلس أنس حضره عند الأميرجعفر:
وثلاثة لم تجتمع في مجلس ... إلا لمثلك والأريب أريب
الورد في رامشنة من نرجس ... والياسمين وكلهن عجيب
فاصفر ذا واحمر ذا وابيض ذا ... فاتت بدائع أمرهن عجيب
فكأن هذا عاشق وكأن ذا ... ك معشق وكأن ذاك رقيب
وقال أيضاً في شمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي هول ماألقى وما أتوقع
نحول وحزن في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
وقال أيضاً:
وليل بت أسقاها سلافاً ... معتقةً كلون الجلنار
كأن حبابها خرزات در ... علت ذهباً بأقداح النضار
بكف مقرطق يزهى بردف ... يضيق بحمله وسع الإزار
أقمت لشربها عبثاً وعندي ... بنات اللهو تعبث بالعقار
ونجم الليل يركض في الدياجي ... كأن الصبح يطلبه بثار
محمد بن هبيرةأبو سعيد الأسدي النحوي المعروف بصعورا، من أعيان أهل الكوفة وعلمائها، عارف بالنحو واللغة وفنون الأدب، قدم بغداد واختص بعبد الله بن المعتز وعمل له رسالة فيما أنكرته العرب على أبي عبيد القاسم بن سلام ووافقته فيه، و أدب أولاد محمد بن يزداد وزير المأمون، وله كتاب فيما يستعمله الكاتب وغير ذلك.
محمد بن ولادهكذا اشتهر، وقيل: هو ابن الوليد أبو الحسين التميمي النحوي،أخذبمصر عن أبي علي الدينوري ختن ثعلب، ثم رحل إلى العراق وأخذ عن المبرد وثعلب، وكان جيد الخط والضبط وفيه عرج، وغلب عليه الشيب وتزوج الدينوري آمة، وله كتاب في النحو سماه المنمق لم يصنع فيه شيئا، وكتاب المقصور والممدود وغير ذلك.
وكان المبرد لا يمكن أحداً من نسخ كتاب سيبويه من عنده، فكلم ابن الولاد المبرد في نسخه على شيء سماه له فأجابه، فأكمل نسخه وأبي أن يعطيه شيئا حتى يقرأه عليه، فغضب المبرد وسعى به إلى بعض خدم السلطان ليعاقبه على ذلك، فالتجأ ابن ولاد إلى صاحب الخراج ببغداد وكان يؤدب ولده فأجابه، ثم ألح على المبرد حتى أقرأه الكتاب. مات ابن ولاد سنة ثمان وتسعين ومائتين وقد بلغ الخمسين. ومن شعره:
إذا ما طلبت أخاً مخلصاً ... فهيهات منك الذي تطلب

فكن بانفرادك ذا غبطة ... فما في زمانك من يصحب
محمد بن يحيى بن عليبن مسلم ابن موسى بن عمران الحنفي الزبيدي أبو عبد الله النحوي، كانت له معرفة بالنحو واللغة والأدب، صحب الوزير ابن هبيرة مدة وقرأ عليه، وكان صبوراً على الفقر لايشكو حاله. قال ابن لجوزي: حدثني الوزير ابن هبيرة قال: جلست مع الزبيدي من بكرة إلى قريب الظهر وهو يلوك شيئا في فمه فسأل ته فقال: لم يكن عند ي شيء فأخذت نواة وجعلتها في فمي أتعلل بها، وكان يحكي عنه انه على مذهب السليمانية ويقول: إن الأموات يأكلون ويشربون في القبر، وإن العاصي لايلام لأنه بقدر الله تبارك وتعالى، وكان يقول: قل الحق وإن كان مراً. ودخل على الوزير الزينبي وعليه خلعة الوزارة والناس يهنونه فقال: هذا يوم عزاء لاهناء، فقيل لم؟ فقال: أيهنأ على لبس الحرير؟. وحكى عنه قال: خرجت إلى المدينة على الوحدة فآواني الليل إلى جبل فصعدت عليه وناديت: اللهم إني الليل ضيفك، ثم نزلت فتواريت عند صخرة فسمعت مناديا يناد ي: مرحبا يا ضيف الله، إنك مع طلوع الشمس تمر على قوم على بئر يأكلون خبزا وتمرا، فإذا دعوك فاجب فهذه ضيافتك، فلما كان من الغد سرت فلما كان وقت طلوع الشمس لاحت لي أهداف بئر فوجدت عندها قوما يأكلون خبزا وتمرا فدعوني إلى الأكل فأجبت. وله من التصانيف: منار الاقتضاء، ومنهاج الاقتفاء، وكتاب الرد على ابن الخشاب، وكتاب العروض، والمقدمة في النحو، وكتاب الحساب وكتاب القوافي، وكتاب تعليل قراءة: ونحن عصبة بالنصب. مات في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
محمد بن يحيى بن محمدأبو عبد الله بن الحذاء، التميمي الأندلسي، كان محدثاً فقيهاً وخطيباً بليغاً، عارفاً بفنون الأدب بارعاً بها، له معرفة تامة بعلم التعبير،أخذعن ابن عون الله وابن بطال وابن زرب وغيرهم، وتفقه علي ابن أبي زيد القيرواني وقرأ عليه تأليفه، ورحل إلى مصر فأخذ بها عن الحافظ عبد الغني والجوهري وغيرهما، ثم رجع إلى الأندلس فولى القضاء ببلنسية وغيرها، ثم رحل في فتنة البربر فاستوطن سر قسطة إلى أن مات بها سنة عشرة وأربعمائة.
ومن تصانيفه: كتاب الخطب والخطباء في مجلدين، والبشر ي في تعبير الرؤيا كبير يدخل في عشر مجلدات، والأنبياء بمعاني الأسماء - أسماء الله تعالى - ، والاستنباط لمعاني السنن والأحكام في عدة أسفار، والتعريف برجال الموطإ وغير ذلك.
محمد بن يحيى بن سعادةأبو عبد الله المرسي، كان عالماً بالتفسير والحديث والكلام، خطيباً مصقعاً عارفاً بفنون الأدب، أخذعن أبي على الصدفي وأبي بكر بن العربي وأبي الوليد بن رشدواي الأسدي وغيرهم.
وولى القضاء والشورى بمرسية ثم بشاطبة فاستوطنها، ومولده بمرسية في رمضان سنة ست وتسعين وأربعمائة، وتوفي بشاطبة في العشر الأخير من ذي الحجة سنة أربع وستين وخمسمائة، ومن تصانيفه: شجرة الوهم المرقية إلى ذروة الفهم، وفهرست أسماء الشيوخ.
محمد بن يحيىبن عبد الله بن العباس ابن محمد بن صول. الكاتب المعروف بالأصولي، كان جده ابن صول التركي أحد دعاة بني العباس، ولدابو بكر ببغداد ونشا بها، واخذ عن ثعلب والمبرد وأبي داود السجستاني، واخذ عنه أبو عبد الله المرزباني الكاتب الأخباري وغيره، وكان إخبارياً أديباً كاتباً، وكان نديماً للخلفاء متمكناً عندهم، نادم المكتفي ثم الراضي ثم المقتدر، وكان واحد عصره في لعب الشطرنج حتى قيل انه هو الذيوضعه وليس كذلك، وإنما وضع الشطرنج صصة الهندي لبهرام ملك الفرس.
حكى أن الراض بالله خرج إلى النزهة فأتى بستاناً مونقاً مزهراً فقال لمن حضر: هل رايتم منظر أحسن من هذا؟ فكل أثنى بما حضره ووصف محاسنه، فقال الراض: لعب الصولي بالشطرنج احسن من هذا ومما وصفتم.
وكان لأبي بكر الصولي خزانة أفردها لما جمع من الكتب المختلفة ورتبها فيها أجمل ترتيب، وكان يقول لآصحابه: كل مافي هذه الخزانة سماعي، وإذا أراد مراجعة كتاب منها قال: ياغلام هات الكتاب الفلاني، فسمعه يوما أبو سعيد العقيلي يقول ذلك فانشد:
إنما الصولي شيخ ... أعلم الناس خزانه
إن سألناه بعلم ... نبتغي عنه الإبانه
قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانه

وللصولي من التصانيف: أخبار ابن هرمة الشاعر، وأخبار أبي تمام، وأخبار أبي عمر بن العلاء وأخبار إسحاق الموصلي، وأخبار الحميري الشاعر، وأخبار القرامطة، وأدب الكاتب، وكتاب الأنواع، وكتاب العبادلة وكتاب الغرور، وكتاب الورقة، وكتاب الوزراء وغير ذلك. وكان خرج من بغداد لضيق لحقه فنزل البصرة وبها توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
محمدبن يزيد بن الكبر بن عميرابن حسان بن سليمان بن سعد بن عبدالله بن يزيد بن مالك ابن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن أسلم وهو ثمالة، ثم ينتهي إلى السد بن الغوث وهو الأزد، فهو الثمالي الأزدي البصري أبو العباس النحوي اللغوي الأديب، ولد بالبصرة يوم الاثنين غداة عيد الأضحى سنة عشرة ومائتين، وأخذ عن أبي عمر الجرمي وأبي عثمان المازني وقرأ عليهما كتاب سيبويه، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني وأخذ عنه أبو بكر محمد بن يحيى الصولي ونفطوية وأبو علي الطوماري وغيرهم. وكان إمام العربية ببغداد وإليه انتهى علمها بعد طبقة الجرمي والمازني، وكان حسن المحاضرة فصيحاً بليغاً، مليح الأخبار ثقة فيما يرويه كثير النوادر فيه ظرافة ولباقة، وكان الإمام اسماعيل القاضي يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه، وإنما لقب بالمبرد لأنه لما صنف المازني كتاب الالف واللام سأل ه عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرد بكسر الراء، أي المثبت للحق، فحرفه الكوفيون وفتحوا الراء. وقال السيرافي: سمعت أبا بكر بن مجاهد يقول: مارأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمنقدم، ولقد فاتني منه علم كثير لقضاء ذمام ثعلب. وقال السيرافي أيضاً: سمعت نفطويه يقول: مارأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد من المبرد وأبي العباس بن الفرات. وقال المفجع البصري: كان المبرد لكثرة حفظه للغة وغريبها يتهم بالوضع فيها، فتواضعنا على مالة نساه عنها لاأصل لها لننظر ماذا يجيب؟ وكنا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
فقال البعض: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، وتردد على أفواهنا من تقطيعه: القبعضنا، ثم ذهبنا إلى المبرد فقلت له: أيدك الله تعالى ما القبعض عند العرب؟ فقال هو القطن، وفي ذلك يقول الشاعر:
كان سنامها حشى القبعضا
قال: فقلت لأصحابي ترون الجواب والشاهد، فان كان صحيحاً فهو عجب، وإن كان مختلقاً على البديهة فهو أعجب وحكى ابن السراج قال: كان بين المبرد وثعلب ما يكون بين المعاصرين من المنافرة واشتهر ذلك حتى قال بعضهم:
كفى حزناً أنا جميعاً ببلدة ... ويجمعنا في أرضها شر مشهد
وكل لكل مخلص الود وامق ... ولكنه في جانب عنه مفرد
نروح ونغدو لاتزاور بيننا ... وليس بمضروب لنا يوم موعد
فابداننا في بلدة والتقاؤنا ... عسير كلقيا ثعلب والمبرد
وكان أهل التجميل يفضلون المبرد على ثعلب. وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام:
رأيت محمد بن يزيد يسمو ... إلى الخيرات في جاه وقدر
جليس خلائف وغذى ملك ... وأعلم من رأيت بكل أمر
وفتيانية الظرفاء فيه ... وأبهة الكبير بغير كبر
فينثر إن أجال الفكر درا ... وينثر لؤلؤاً من غير فكر
وكان الشعر قد أودى فأحيا ... أبو العباس داثر كل شعر
وقالوا: ثعلب رجل عليم ... وأين النجم من شمس وبدر
وقالوا: ثعلب يفتي ويملي ... وأين الثعلبان من الهزبر
وهذا في مقالك مستحيل ... تشبه جدولاً وشلاً ببحر؟
وقال بعضهم في المبرد وثعلب:
أيا طالب العلم لاتجهلن ... وعذ بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب

وقال أبو بكر بن الأزهر: حدثني أبو العباس المبرد قال: قال لي المازني: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين فما معنى ذلك؟ فقلت: أعزك الله تعالى، إن لهم طرائف من الكلام قال: فأخبرني بأعجب مارأيت من المجانين، قال فقلت: صرت يوما إليهم فمررت على شيخ منهم وهو جالس على حصير قصب فجاوزته إلى غيره فقال: سبحان الله تعالى أين السلام؟ من المجنون أنا أو أنت؟ فاستحيت منه وقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد، علي أنا نصرفسوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشة، أجلس - أعزك الله تعالى عندنا وأومأ إلى موضع من الحصير، فجلست إلى ناحية منه استرعى مخاطبته فقال لي وقد رأى معي محبرتي: أرى معك آلة رجلين أرجو ألا تكون أحدهما: أصحاب الحديث الأغثاث، أو الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت نعم، قال أتعرف الذي يقول فيه؟:
وفتىً من مازن ... أستاذ أهل البصرة
أمه معرفة ... وأبوه نكره
فقلت لا أعرفه فقال: أتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر معه له ذهن وحفظ، وقد برز في النحو يعرف بالمبرد؟ فقلت: أنا والله الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئا من شعره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، فقال: ياسبحان الله، أليس هو القائل:
حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات
بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات
أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات
كل بماء المزن تفا ... ح خدود الفتيات
قلت: سمعته ينشد هذا في مجلس أنس فقال: ياسبحان الله، ألايستحي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! ثم قال: ألم تسمع ما يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون هو من الأزد ازدشنوءة، ثم من ثمالة، قال: أتعرف القائل في ذلك؟:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهالة
فقال لي المبرد خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذالة
فقلت أعرفه، هذا عبد الصمد بن المعذل يقولها فيه فقال: كذب فيما أدعاه، هذا كلام رجل لانسب له، يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً، فقلت له أنت أعلم، فقال ياهذا: قد غلبت خفة روحك على قلبي، وقد أخرت ماكان يجب تقديمه، ما الكنية أصلحك الله؟ فقلت: أبو العباس. قال: فما الاسم؟ قلت محمد: قال فالأب؟ قلت يزيد، قال: قبحك الله، أحوجتني إلى الاعتذار مما قدمت ذكره، ثم وثب وبسط يده فصافحني فرأيت القيد في رجله فأمنت غائلته، فقال: يا أبا العباس، صن نفسك من الدخول في هذه المواضع، فليس يتهيأ في كل وقت أن تصادف مثلي على مثل حالتي ثم قال: أنت المبرد، أنت المبرد، وجعل يصفق وانقلبت عيناه واحمرت وتغيرت حالته، فبادرت مسرعاً خوف أن تبدر إلي منه بادرة، وقبلت منه الله نصحه ولم أعاود بعدها إلى تلك المواضع أبداً.
وقال الزجاج: لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب فعزمت على أعناته فلما باحثته الجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فاستيقنت فصله، واسترجحت عقله، وأخذت في ملازمته، وكان المبرد يحب الاجتماع بأبي العباس ثعلب للمناظرة، وثعلب يكره ذلك.
حكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي وكان صديقهما قال: قلت لأبي عبد الله الدينسوري ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد؟ فقال: لأن المبرد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف بالباطن.

وحكى أن بعض الأكابر من بني طاهر سأل أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصحفاً على مذهب أهل التحقيق، فكتب: والضحى بالياء، ومذهب الكوفيين أنه إذا كان كلمة من هذا النحو أو الهاضمة أو كسرة كتبت بالياء وإن كانت من ذوات الواو، والبصريون يكتبون بالألف، فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب والضحا بالألف لأنه من ذوات الواو، فجمع ابن طاهر بينهما فقال المبرد لعلي: لم كتبت والضحى بالياء؟ فقال: لضمه أوله. فقال له: ولم إذا ضم أوله وهو من ذوات الواو تكتبه بالياء؟ فقال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء فتوهموا أن أوله واو. فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟. ولبعضهم في مدح المبرد:
وإذا يقال من الفتى كل الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر
والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله قلت: ابن عبد الاكبر
ولآخر في مدحه أيضاً:
وأنت الذي لايبلغ المدح وصفه ... وإن أطنب المداح مع كل مطنب
رأيتك والفتح بن خاقان راكباً ... فأنت عديل الفتح في كل موكب
وكان أميرالمؤمنين إذا رنا ... إليك يطيل الفكر بعد التعجب
وأوتيت علماً لايحيط بكنهه ... علوم بني الدنيا ولاعلم ثعلب
يروح إليك الناس حتى كأنهم ... ببابك في أعلى منىً والمحصب
مات أبو العباس المبرد في شوال، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد، وصلى عليه أبو محمد يوسف بن يعقوب القاضي ودفن في دار في مقابر باب الكوفة، ولما مات قال فيه ثعلب هذه الأبيات، وقيل هي لأبي بكر بن العلاف:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب
بيت من الآداب أضحى نصفه ... خراباً وباقي النصف منه سيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... للدهر أنفسكم على ما سلب
وتزودوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب
أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
ومن شعر المبرد وقد بلغه أن ثعلباً نال منه:
رب من يعنيه حالي ... وهو لايجري ببالي
قلبه ملآن مني ... وفؤادي منه خالي
ولأبي العباس المبرد من التصانيف الكامل في الأدب وهو أشهر كتبه، والمقتضب في النحو وهو أكبر مصنفاته وأنفسها إلا أنه لم ينتفع به أحد.
قال أبو علي الفارس: نظرت في المقتضب فما انتفعت منه بشيء إلا بمسأل ة واحدة، وهي وقوع إذا جواباً للشرط في قوله تعالى: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون)، ويزعمون أن سبب عدم الانتفاع به، أن هذا الكتاب أخذه ابن الرواندي الزنديق عن المبرد، وتناوله الناس من يد ابن الرواندي فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد ينتفع به.
ومن تصانيفه أيضاً: الروضة، والمدخل في كتاب سيبويه، وكتاب الاشتقاق، وكتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، ومعاني القرآن ويعرف بالكتاب التام، وكتاب الخط والهجاء، وكتاب الأنواء والأزمنة، وكتاب احتجاج القراء وإعراب القران، وكتاب الحروف في معاني القرآن إلى سورة طه، وكتاب صفات الله جل وعلا، وكتاب العبارة عن أسماء الله تعالى، وشرح شواهد كتاب سيبويه، وكتاب الرد على سيبويه ومعنى كتاب الأوسط للأخفش، وكتاب الزيادة المنتزعة من كتاب سيبويه، ومعنى كتاب سيبويه، وكتاب الحروف، والمدخل في النحو، وكتاب الإعراب، وكتاب التصريف، وكتاب العروض، وكتاب القوافي، وكتاب البلاغة، والرسأل ة الكاملة، والجامع لم يتم، وقواعد الشعر، وكتاب ضرورة الشعر، وكتاب الفاضل والمفضول، والرياض المونقة، وكتاب الوشي، وكتاب شرح كلام العرب وتخليص ألفاظها ومزاوجة كلامها وتقريب مبانيها، وكتاب الحث على الأدب والصدق، وأدب الجليس، وكتاب الناطق، وكتاب الممادح والمقابح، وكتاب أسماء الواهي عند العرب، وكتاب ما اتفقت ألفاظه واختلفت معانيه في القرآن، وكتاب التعازي، وكتاب قحطان وعدنان، وطبقات التحو يين البصريين وأخبارهم وغير ذلك.
محمد بن يوسف بن عمر بن علي

ابن منيرة الكفرطابي، ابوعبد الله النحوي نزيل شيراز، سمع الحديث على أبي السمح الحنبلي، وصنف بحر النحو نقض فيه مسائل كثيرة من أصول النحوبين، ونقد الشعر، وغريب القرآن، مات في رمضان سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
أبو محمد الترسابادي النحويعرف كتاب سيبويه وأحكم مسائل الاخفش، ثم خرج إلى العراق فهابه علماء النحو وانقبضوا عن مناظرته، منهم الزجاج وابن كيسان. وحضر يوماً مجلس النحويين ببغداد فسئل عن مسأل ة وابن كيسان حاضر، فانقبض عن الإجابة إجلالاً لابن كيسان فقال له: يا أبا محمد، أجب فو الله أنت أحقنا بالانتصاب.
محمود بن جرير الضبيالاصبهاني أبو مضر النحوي، كان يلقب فريد العصر، وكان وحيد دهره وأوانه في علم اللغة والنحو والطب، يضرب به المثل في أنواع الفضائل، أقام بخوارزم مدة وانتفع الناس بعلومه ومكارم أخلاقه وأخذوا عنه علماً كثيراً، وتخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو، منهم الزمخشري وهو الذي ادخل على خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها، فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتمذهبوا بمذهبه، منهم أبو الاسم الزمخشري ولست أعرف له مع نباهة قدره وشيوع فكره مصنفاً مذكوراً، ولا تأليفاً مأثوراً، إلا كتاباً يشتمل على نتف وأشعار وحكايات وأخبار سماه زاد الراكب. مات بمرو سنة سبع وخمسمائة. ورثاه الزمخشري بقوله:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت: هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر عيني تساقط من عيني
محمود بن أبي الحسن بن الحسينالنيسابوري الغزنوي يلقب ببيان الحق، كان عالماً بارعاً مفسراً لغوياً فقهاً متفنناً فصيحاً، له تصانيف أدعى فيها الإعجاز، منها كتاب خلق الإنسان، وجمل الغرائب في تفسير الحديث، وإيجاز البيان في معاني القرآن وغير ذلك.
ومن شعره:
فلا تحقرن خلقاً من الناس عله ... ولي إله العالمين ولا تدري
فذو القدر عند الله يخفى على الورى ... كما خفيت عن علمهم ليلة القدر
محمود بن حمزة بن نصر الكرمانيالنحوي، هو تاج القراء وأحد العلماء الفقهاء النبلاء، صاحب التصانيف والفضل، كان عجباً في دقة الفهم وحسن الاستنباط، لم يفارق وطنه ولا رحل، وكان في حدود الخمسمائة وتوفي بعدها. صنف لباب التفسير، والإنجاز في النحو اختصره من الإيضاح للفارسي، النظامي في النحو اختصره من اللمع لابن جني. الإفادة في النحو، العنوان فيه أيضاً. وله في موانه الصرف:
فمعرفة وتأنيث ونعت ... ونون قبلها ألف وجمع
وعجمة ثم تركيب وعدل ... ووزن الفعل والأسباب تسع
محمود بن عزيز العارضأبو القاسم الخوارزمي الملقب شمس المشرق، كان من أفضل الناس في عصره في علم اللغة والأدب، لكنه تخطى إلى علم الفلسفة فصار مفتوناً بها ممقوتاً بين المسلمين، وكان سكوناً سكوتاً وقوراً، يطالع الفقه ويناظر في مسائل الخلاف أحياناً، سمع الحديث من أبي نصر القشيري وغيره، وأملى طرفاً من الحديث وشرحه بلفظ حسن ومعان لابأس بها. وكان الزمخشري يدعوه الجاحظ الثاني لكثرة حفظه وفصاحة لفظه. أقام مدة بخوارزم في خدمة خوارزم شاه مكرماً، ثم ارتحل إلى مرو فذبح بها نفسه بيده في أوائل سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ووجد بخطه رقعة فيها: هذا ما عملته أيدينا فلا يؤاخذ به غيرنا.
محمود عمر بن احمد

أبو القاسم الزمخشري جار الله، كان إماماً في التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم كبير الفضل متفنناً في علوم شتىً، معتزل المذهب متجاهراً بذلك. قال ابن اخته أبو عمر وعامر بن الحسن المسار: ولد خالي بزمخشر من أعمال خوارزم يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. واخذ الأدب عن أبي مضر محمود بن جريرالضبي الأصبهاني، وأبي الحسن علي ابن المظفر النيسابوري، وسمع من شيخ الاسلام أبي منصور نصر الحارثي، ومن أبي سعد الشقاني، وأصابه خراج في رجله فقطعها واتخذ رجلاً من خشب، وقيل أصابه برد الثلج في بعض أسفاره بنواحي خوارزم فسقطت رجله وحكى أن الدامغاني المتكلم الفقيه، سأله عن سبب قطع رجله فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني أمسكت عصفوراً وأنا صبي صغير وربطت برجله خيطاً فأفلت من يدي ودخل خرقاً فجذبته فانقطعت رجله، فتألمت له والدتي وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت، فلما رحلت إلى بخارى في طلب العلم سقطت عن الدابة في أثناء الطريق فانكسرت رجلي وأصابني من الألم ما أوجب قطعها، ولما قدم الزمخشري إلى بغداد قاصداً الحج زاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن الشجري مهنئاً له بقدومه، فلما جلس إليه أنشده متمثلاً:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن دواد طيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وأنشد أيضاً:
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
ثم أخذ يثني عليه فلم ينطق الزمخشري حتى فرغ ابن الشجري من كلامه، فلما أتم كلامه شكر الشريف وعظمه، وتصاغر له ثم قال إن زيد الخيل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بصر بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يازيد الخيل: كل رجل وصف لي وجدته دون الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت، وكذلك سيدنا الشريف، ثم دعا له وأثنى عليه. توفي أبو القاسم الزمخشري بقصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
ومن شعره:
ألعلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ماللتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لايعلم
وقال أيضاً:
كثر الشك والخلاف وكل ... يدعى الفوز بالصراط السوي
فاعتصامي بلا إله سواه ... ثم حبي لأحمد وعلي
فاز كلب بحب أصحاب كهف ... كيف أشقى بحب آل نبي؟
وقال في مدح تفسير الكشاف:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
ومن كلامه ما استخرجته من كتابة الأطواف قال: استمسك بحبل مواخيك ماستمسك باواخيك واصحبه ما صحب الحق وأذعن، وحل مع أهله وظعن، فان تنكرت أنحاؤه، ورشح بالباطل إناؤه، فتعوض عن صحبته وإن عوضت الشع، وتصرف بحبله ولو أعطيت النسع، فصاحب الصدق أنفع من الترياق النافع، وقرين السوء أضر من السم الناقع. وقال: الدعة من الضعة مرة لاتشره إليها نفس حرة. وقال: الكريم إذا ريم على الضيم نبا، والسرى متى سيم الخسف أبي، وقلما عرفت الأنفة والإباء في غير من شرفت منه الإباء. وقال: عزة النفس وبعد الهمة، الموت الأحمر والخطوب المدلهمة، ولكن من عرف منهل الذل فعافه، استعذب نقيع العز وذعافه. وقال: أحمق من النعامة من افتخر بالزعامة، لم أر أشقى من الزعيم، ولا أبعد منه من الفوز بالنعيم، هالك في الهوالك، خابط في الظلم الحوالك، على آثاره العفاء، أدركته بمجانيقها الضعفاء. وقال: الدنيا أدوار، والناس أطوار، فالبس لكل يوم بحسب مافيه من الطوارق، وجانس كل قوم بقدر مالهم من الطرائق، فلن تجري الأيام على أمنيتك، ولن تنزل الأقوام على قضيتك. وقال: ألا أحدثك عن بلد الشوم؟ ذلك بلد الوالي الغشوم، فإياك وبلد الجور، وإن كنت أعز من بيضة البلد، وأحظى أهله بالمال المثمر والولد، وتوقع أن تسقط فيه الطيور النواعق، وتأخذ أهله الرجفة والصواعق.

وقال: لا تقنع بالشرف التالد، فذلك الشرف للوالد، واضمم إلى التالد طريفاً حتى تكون بهما شريفاً، ولا تدل بشرف أبيك مالم تدل عليه بشرف فيك. وقال: كب الله على مناخره من زكى نفسه بمفاخره، على أن رب مساخر يعدها الناس مفاخر. وقال: ما لعلماء الشيء جمعوا عزائم الشرع ودونوها، ثم رخصوا فيها لأمراء السوء وهونوها، إنما حفظوا وعلقوا، وصفقوا وحلقوا، ليقمروا المال وييسروا، ويفقروا، الأيتام ويوسروا، أكمام واسعة، فيها أطلال لاسعة، وأقلام كأنها أزلام، وفتوى يعمل بها الجاهل فيستوي ومن إنشائه ما كتب به إلى حافظ الاسكندرية أبي الطاهر السلفي جواب عن كتاب كتبه إليه يستجير هبة وهو: ما مثلي مع أعلام العلماء، إلا كمثل السهام مع مصابيح السماء، والجهام الصفر والرهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسكيت المخلف عن خيل السباق، والبغاث مع الطير العناق، وما التلقيب بالعلامة، إلا شبه الرقم والعلامة، والعلم مدينة أحد بابها الدراية، والثاني الرواية، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلي فيها أقلص من ظل حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد قريبة الأسناد لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام مشاهير. وأما الدراية فتمد لا يبلغ أفواها، وبرض ما يبل شفاها، إلى أن قال: ولا يغرنكم قول فلان وفلان، في وذكر جماعة من العلماء والشعراء أثنوا عليه ومدحوه، ثم قال: فان ذلك اغترار بالظاهر المموه، وجهل بالباطن المشوه، ولعل الذي غرهم مني مارأوا من حسن النصح للمسلمين، وبلوغ الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع، وإفادة المبار والصنائع، وعزة النفس والربء بها عن السفاسف والإقبال على خويصتي والإعراض عما لا يعنيني فجللت في عيونهم، وغلطوا في ونسبوني إلى مالست منه في قبل ولادبير الخ، والكتاب طويل اقتصرت منه على ما أوردت. ولأبي القاسم من التصانيف: الكشاف في تفسير القرآن، الفائق في غريب الحديث، نكت الأعراب في غريب الإعراب في غريب إعراب القرآن، كتاب متشابه أسماء الرواة، مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة، الأصل لأبي سعيد الرازي إسماعيل، الكلم النوابغ في المواعظ، أطواق الذهب في المواعظ، نصائح الكبار، نصائح الصغار، مقامات في المواعظ، نزهة المستأنس، الرسالة الناصحة، رسالة المسامة، الرائض في الفرائض، معجم الحدود، المنهاج في الأصول، ضالة الناشد، كتاب عقل الكل، النموذج في النحو، المفصل في النحو أيضاً، المفرد والمؤلف فيه أيضاً، صميم العربية، الأملي في النحو، أساس البلاغة في اللغة، جواهر اللغة، كتاب الأجناس، مقدمة الأدب في اللغة، كتاب الأسماء في اللغة، القسطاس في العروض، حاشية على المفصل، شرح مقاماته، روح المسائل، سوائر الأمثال، المستقصي في الأمثال، ربيع الأبرار في الأدب والمحاضرات، تسلية الضرير، رسالة الاسارا، أعجب العجب في شرح لامية العرب، شرح المفصل، ديوان التمثيل، ديوان خطب، ديوان شعر، شرح كتاب سيبويه، كتاب الجبال والأمكنة، شافي العي من كلام الشافعي، شقائق النعمان في حقائق النعمان في مناقب الإمام أبي حنيفة، المحاجاة ومنهم مهام أرباب الحاجات في الأحاجي والألغاز المفرد والمركب في العربية وغير ذلك.
محمود بن أبي المعاليتاج الدين الحواري اللغوي الأديب الشاعر، أخذ الأدب عن سعيد بن أبي الفاضل الميداني وبرع في اللغة، وله النثر الفائق والشعر اللائق، وكان واحد نيسابور علماً وفضلاً وأدباً، وصنف كتاب ضالة الأديب في الجمع بين الصحاح والتهذيب، أخذ فيه على الجوهري في عدة مواضع، كان حياً سنة ثمانين وخمسمائة.
مدرك بن علي الشيبانيأعبر أبي من بادية البصرة، دخل بغداد صغيراً أو نشأ بها فتفقه وحصل العربية والأدب، وكان شاعراً أديباً فاضلاً، وكان كثيراً مايلم بدير الروم في الجانب الشرقي ببغداد وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو ابن يوحنا، وكان من أحسن الناس صورة وأكملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث، فإن حضر شيخ أو صاحب حرمة قال له مدرك: فبيح بك أن تختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله فيقوم وكان عمرو يحضر مجلسه فعشقه مدرك وهام به، فجاء عمرو يوماً إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره فإذا فيها:

بمجالس العلم التي ... بك تم حسن جموعها
إلا رثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دير الروم، وجعل يتبع عمراً حيث سار وقال فيه شعراً كثيراً.
قال الحريري: - وقد رأيت عمراً أبيض الرأس واللحية - ومن شعر مدرك فيه المزدوجه المشهورة وهي:
من عاشق ناء هواه داني ... ناطق دمع صامت اللسان
معذب بالصد والهجران ... موثق قلب مطلق الجسمان
من غير ذنب كسبت يداه ... غير هوى نمت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه
يا ويحه من عاشق مايلقى ... من أدمع منهلة ما ترقا
ناطقة وما أجادت نطقا ... تخبر عن حب له استرقا
لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك
تطفئ نيران الهوى وتذكي ... كأنها قطر السماء تحكي
إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبى العذارى
وغادر الأسد به حيارى ... في ربقة الحب له أسارى
رئم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لامن كحل
وطرة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل
رئم به أي هزبر لم يصد؟ ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود
متى يقل ها قالت الألحاظ قد ... كأنها ناسوته حين اتحد
ما أبصر الناس جميعا بدرا ... ولارأوا شمساً وغصناً نضرا
أحسن من عمرو فديت عمرا ... ظبي بعينه سقاني خمرا
هأنذا بقده مقدود ... والدمع في خدي له أخدود
ما ضر من فقري به موجود ... لولم يقبح فعله الصدود
إن كان ذنبي عنده الإسلام ... فقد سعت في نقصه الآثام
واختلت الصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام
يا ليتني كنت له صليبا ... أكون منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيباً ... لاواشياً أخشى ولا رقيبا
يا ليتني كنت له قرباناً ... ألثم منه الثغر والبنانا
أوجا ثليقا كنت أو مطراناً ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً ... يقرأ مني كل يوم أحرفا
أو قلماً يكتب بي ماألفا ... من أدب مستحسن قد صنفا
يا ليتني كنت لعمرو عوذه ... أوحلة يلبسها مقدوده
أو تركةً باسمه معدوده ... أوبيعةً بداره مشهوده
يا ليتني كنت له زناراً ... يديرني في الخصر كيف دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له حينئذ إزارا
قد والذي يبقيه لي أفناني ... وابتز عقلي والضنا كساني
ظبي على البعاد والتداني ... حل محل الروح من جثماني
وا كبدي من خده المضرج ... وا كبدي من ثغره المفلج
لاشيء مثل الطرف منه الأدعج ... اذهب للنسك وللتحرج
إليك أشكو ياغزال الأنس ... مابي من الوحشة بعد الأنس
يامن هلالي وجهه وشمسي ... لاتقتل النفس بغير النفس
جدلي كما جدت بحسن الود ... وارع كما أرعى قديم العهد
واصدد كصدى عن طويل الصد ... فليس وجد بك مثل وجدي
هأنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبك لا أفيق
محترق ما مسني حريق ... يرثي لي العدو والصديق
فليت شعري فيك هل ترثى لي ... من سقم ومن ضناً طويل؟

أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل؟
في كل عضو منه سقم وألم ... ومقلة تبكي بدمع وبدم
شوقاً إلى شمس وبدر وصنم ... منه إليه المشتكي إذا ظلم
أقول إذا قام بقلبي أو قعد ... ياعمر ويا عامر قلبي بالكمد
أقسم بالله يمين المجتهد ... أن امرأ واصلته لقد سعد
يا عمرو ناشدتك بالمسيح ... إلاسمعت القول من فصيح
يخبر عن قلب له جريح ... باح بما يلقى من التبريح
يا عمرو بالحق من اللاهوت ... والروح روح القدس والناسوت
ذاك الذي في مهده المنحوت ... عوض بالنطق عن السكوت
بحق ناسوت ببطن مريم ... حل محل الريق منها في الفم
ثم استحال في قنوم الأقدم ... فكلم الناس ولما يفطم
بحق من بعد الممات قميصاً ... ثوباً على مقداره ما قصصا
وكان لله تقياً مخلصاً ... يشفي ويبري أكمهاً وأبرصا
بحق محبي صورة الطيور ... وباعث الموتى من القبور
ومن إليه مرجع الأمور ... يعلم مافي البر والبحور
بحق من في شامخ الصوامع ... من ساجد لربه وراكع
يبكي إذا ما نام كل هاجع ... خوفاً من الله بدمع هامع
بحق قوم حلقوا الرءوسا ... وعالجوا طول الحياة بوسا
وقرعوا في البيعة الناقوسا ... مشمعلين يعبدون عيسى
بحق ماري مريم وبولس ... بحق شمعون الصفا وبطرس
بحق دانيل بحق يونس ... بحق حزقيل وبيت المقدس
ونينوى إذ قام يدعو ربه ... مطهراً من كل سوء قلبه
ومستقيلاً فأقيل ذنبه ... ونال عند الله ما أحبه
بحق مافي قلة الميرون ... من نافع للداء والجنون
بحق ما يؤثر عن شمعون ... من بركات الخوص والزيتون
بحق أعياد الصليب الزهر ... وعيد شمعون وعيد الفطر
وبالشعانين العظيم القدر ... وعيد ما ماري الرفيع الذكر
وعيد شعياء وبالهياكل ... والدخن اللاتي بكف الحامل
يشفي بها من خبل كل خابل ... ومن دخيل السقم في المفاصل
بحق سبعين من العباد ... قاموا بدين الله في البلاد
وأرشدوا الناس إلى الرشاد ... حتى اهتدى من لم يكن بهاد
بحق ثنتي عشرة من الأمم ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم
حتى إذا صبح الدجى جلا الظلم ... ساروا إلى الله ففازوا بالنعم
بحق مافي محكم الإنجيل ... من محكم التحريم والتحليل
مع خبر ذي نبأ جليل ... يرويه جيل قد مضى عن جيل
بحق مارعيد الشفيق الناصح ... بحق لوقا ذي الفعال الصالح
بحق تمليخا الحكيم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح
بحق معمودية الأرواح ... والمذبح المشهور في النواحي
ومن به من لابس الأمساح ... وعابد باك ومن نواح
بحق تقريبك في الأعياد ... وشربك القهوة كالفرصاد
وطول تفتيتك للأكباد ... بما يعنيك من السواد
بحق ما قدس شعيا فيه ... بالحمد لله وبالتنزيه
بحق نسطور ومايرويه ... عن كل ناموس له فقيه
شيخان كانا من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم
لم ينطقا قط بغير فهم ... موتهما كان حياة الخصم
بحرمة الأسقف والمطران ... والجاثليق العالم الرباني

والقس والشماس والديراني ... والبطرك الأكبر والرهبان
بحرمة المحبوس في أعلى الجبل ... ومار قولا حين صلى وابتهل
وبالكنيسات القديمات الأول ... وبالمسيح المرتضى وما فعل
بحرمة الأسقوفيا والبيرم ... وماحوى مفرق رأس مريم
بحرمة الصوم الكبير الأعظم ... وحق كل كاهن مقدم
بحق يوم الذبح ذي الإشراق ... وليلة الميلاد والتلاقي
والذهب المذهب للنفاق ... والفصح يا مهذب الأخلاق
بكل قداس على قداس ... قدسه القس مع الشماس
وقربوا يوم الخميس الناسي ... وقدموا الكأس لكل حاسى
الا رغبت في رضا أديب ... باعده الحب عن الحبيب
فذاب من شوق إلى المذيب ... أعلى مناه أيسر التقريب
فانظر أميري في صلاح أمري ... محتسباً في عظيم الأجر
مكتسباً في جميل الشكر ... في نثر ألفاظ ونظم شعر
ثم إن مدركاً وسوس وسل جسمه وذهب عقله وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش.
حكى حسان بن محمد بن عيسى قال: حضرته عائدا مع جماعة من أصحابه فقال: الست صاحبكم القديم العشرة لكم؟ أما منكم أحد يسعدني بنظرة إلى وجه عمرو؟ قال فمضينا بأجمعنا إلى عمرو وقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل ديناً فإن إحياءه مروءة، قال وما فعل؟ قلنا قد صار إلى حال مانحسبك تلحقه، قال فلبس ثيابه ثم نهض معنا، فلما دخلنا عليه سلم عليه عمرو وأخذ بيده فقال: كيف تجدك ياسيدي؟ فنظر إليه ثم أغمي عليه، ثم أفاق وهو يقول:
أنا في عافية إل ... لا من الشوق اليكا
أيها العائد مابي ... منك لايخفى عليكا
لاتعد جسماً وعد قل ... باً رهيناً في يديكا
كيف لايهلك مرشو ... ق بسهمي مقلتيكا
ثم إنه شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفناه.
مرجي بن كوثرأبو القاسم المقري النحوي المؤدب، أديب نحوي كان مقيماً بحلب، وله المفيد في النحو، وكتاب الضاد والظاء، وكانت بينه وبين أبي العلاء المعري مكاتبة.
مروان بن سعيد بن عباد بن حبيبابن المهلب بن أبي صفرة المهلي، أحد أصحاب الخليل ابن المتقدمين في النحو المبرزين فيه، سمعت بعض النحويين ينسب إليه هذا البيت:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
ولاأعلم من أمره غير هذا
مسعود بن علي بن أحمدبن العباس الصواني البهيقي أبو المحاسن، قال البهيقي في الوشاح الزمان وأوحد الأقران، ومن لاينظر الأدب إلا بعينه، ولا يسمع الشعر إلا بإذنه، صنف تفسير القرآن، وشرح الحماسة، وصيقل الألباب في الأصول، والتوابع واللوامع في الأصول، والتذكرة أربع مجلدات، وأعلاق الملوين وأخلاق الأخوين مجلدان، والتنقيح في أصول الفقه، ونفثة المصدور، وديوان أشعاره مجلد.
مات في الثالث والعشرين من محرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وله:
تكلف المجد أقوام وقد سئموا ... منه وإنك مشغوف به كلف
كأنك الدرة الزهراء في صدف ... والناس حولك طرا ذلك الصدف
مصدق بن شبيب بن الحسينأبو الخير الصلحي النحوي، صحب الشيخ صدقة الواعظ وهو صبي وقرأ عليه القرآن وشيئاً من النحو، وقدم بغداد فقرأ على ابن الخشاب وحبشي وأبي الحسن بن العطار والكمال الأنباري، وطلب الأدب حتى برز فيه، وسمع الحديث وتخرج به جماعة مناهل الأدب، ولم يكن في العبارة بذلك وإنما كان رجلاً صالحاً، فكان تستفاد بركته، ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ومات في ليلة الإثنين الثالث والعشرين من ربيع الاول سنة خمس وستمائة.
مظفر بن إبراهيم

بن جماعة بن علي بن سامي ابن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق موفق الدين، أبو العز الأعمى العيلاني بالعين المهملة المصري، كان نحوياً عروضياً أديباً شاعراً مجيداً، صنف في العروض مختصراً دل على حذقه فيه. وله ديوان شعر، ولد لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وهو اليوم بها في قيد الحياة، ومن شعره الذي وصل إلينا قوله:
قبلته فتلظى ورد وجنته ... وفاح من عارضيه العنبر العبق
وجال بينهما ماء ومن عجب ... لاينطفي ذا و لاذا منه يحترق
وله:
يا نائماً أسهرني حبه ... وعائداً أمرضني طبه
وخادعاً رق لحبي له ... كلامه وقسا قلبه
قلنا على حسنك عيني جنت ... جثماني الناحل ماذنبه؟
وله أيضاً:
وشادن كان زمان الصبا ... بدولة المرد له صوله
قد كتب الشعر على خده ... خفض فهذا آخر الدولة
وله أيضاً:
قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى
والله ما عاينتها ... فكأنها شغفتك وهما
وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما
من أين أرسل للفؤا ... د وأنت لم تبصره سهما
ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقما
وبأي جارحة وصل ... ت لوصفه نثراً ونظما
والعين راعية الهوى ... وبها يتم إذا استتما
فأجبت إني موسي ... ى العشق إنصاتاً وفهما
أهوى بجارحة السما ... ع ولا أرى ذات المسمى
وقال في شمعة:
جادت بجسم لسانه ذرب ... تبكي وتشكو الهوى وتلتهب
كأنها في يمين حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب
وله:
وروضات بنفسجها ... بصبغة صنعة الباري
كخرم لازوردي ... على ألفات زنجار
وله:
هويت هلالاً سرى في الدجى ... وهاروت من جند أجفانه
فلا تعجبوا إن بدا وجهه ... نهاراً وعظمت من شانه
فإن الهلال يرى طالعاً ... مع الشمس في بعض أحيانه
وله أيضاً:
وزهرة لونها من العجب ... بيضاء فيها اصفرار مكتئب
كأنها درهم وقد جعلت ... في وسطه نقطة من الذهب
المعافي بن زكريابن يحيى بن حماد بن داود النهرواني الجريري بفتح الجيم نسبة إلى ابن جرير الطبري، المعروف بابن طرارة، كان من أعلم الناس بفقه مذهب ابن جرير والنحو واللغة وفنون الأدب والأخبار والأشعار، وكان ثقة ثبتا،أخذ الأدب عن أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه وغيره. وروى عن أبي القاسم البغو وأبي حامد محمد بن هارون الحضرمي وأبي بكر بن داود وأبي سعيد العدوي ويحيى بن صاعد وغيرهم، وروى عنه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري وأبوالقاسم الأزهري وأحمد بن علي الثوري وأحمد بن عمر أبن روح، وولى القضاء بباب الطاق نيابة عن القاضي ابن صير، كتاب الجليس والأنيس في الأدب، والتفسير الكبير، ونصر مذهب ابن جرير الطبري ونوه به وحامى عنه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيته في جامع الرصافة وقد نام مستدبر الشمس في يوم شات وبه من أثر الفقر والبؤس والضر أمر عظيم مع غزارة علمه واتساع أدبه وفضله المشهور، ومعرفته بصنوف العلوم ولاسيما علم الأثر والأخبار وسير العرب وأيامها فقلت له: مهلاً أيها الشيخ وصبراً فإنك بعين الله ومرأى منه ومسمع، وما جمع الله لأحد شرف العلم وعز المال فقال: ما لابد منه من الدنيا فليس منه بد ثم قال:
يا محنة الدهر كفى ... إن لم تكفي فخفي
قد آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
طلبت جداً لنفسي ... فقيل لي قد توفي
فلا علومي تجدي ... ولا صناعة كفي
ثور ينال الثري ... يا وعالم متخفي

وقال أحمد بن عمر بن روح: إن المعافي بن زكريا حضر في دار بعض الرؤساء وكان هناك جماعة مناهل العلم فقالوا له: في أي نوع من العلم نتذاكر؟ فقال المعافي للرئيس صاحب الدار: إن خزانتك جمعت أنواع العلوم وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها يضرب بيده إلى أي كتاب منها فيحمله إليك ثم نفتحه فنظر في أي علم هو؟ فنتذاكر ونتجارى فيه، فقال ابن روح: وهذا يدل على أن المعافي كان له أنسة بسائر العلوم، وكان أبو محمد الباقر يقول: إذا حضر المعافي فقد حضرت العلوم كلها، وكان يقول أيضاً: لو أن رجلاً أوصى بثلث ماله لاعلم الناس لوجب أن يدفع إلى المعافي. وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من رجب سنة خمس وثلاثمائة، وقيل سنة ثلاث، وتوفي يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة. ومن شعره:
خالق العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي؟
قد قضي لي بما علي ومالي ... خالقي جل ذكره قبل خلقي
أصحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفقي
فكما لا يرد عجزي رزقي ... فكذا لايجر رزقي حذقي
وذكر أنه عمل هذه الأبيات في معنى قول علي بن الجهم:
لعمرك ما كل التعطل ضابر ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعة
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم راحة الدعه
وقال أيضاً:
ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ماوهب
- معاوبة بن عمر بن أبي عقربأبو نوفل الدولي، كان فقيهاً نحوياً، ذكر عن أبي عمرو ابن العلاء قال: كنت آتي أبا نوفل أنا وشعبة بن الحجاج، فكان شعبة يسأله عن الاثار وأسأله أنا عن النحو والشعر فلم يعلم شعبة شيئاً مما أسأل ه عنه، ولا أعلم أننا شيئاً مما يسأل عنه شعبة.
معمر بن المثنىأبو عبيدة البصري مولى بني تيم، تيم قريش لا يتم الرباب، كان من أعلم الناس باللغة وأنساب العرب وأخبارها، وهو أول من صنف غريب الحديث، أخذعن يونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء، وأسند الحديث إلى هشام بن عروة الإمام الحجة. قال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني يصحح رواية أبي عبيدة. وقال الدار قطي لابأس به، إلا أنه يتهم بشيء من رأي الخوارج ويتهم بالأحداث، واخذ عن أبي عبيدة أبو عبيد القاسم بن سلام، والأثرم علي بن المغيرة، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وعمر بن شبة النميري وغيرهم. وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالماً بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو، وكان العم من الأصمعي وأبي زيد بالأنساب، وكان أبو نواس يتعلم منه ويمدحه ويذم الأصمعي، سئل عن الأصمعي يوماً فقال: بلبل في قفص، وسئل عن أبي عبيدة فقال: أديم طوى على علم. وقال بعضهم: كان الطلبة إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الإنشاء والزخرفة قليل الفائدة، وأبو عبيدة بضد ذلك. وقال يزيد بن مرة: كان أبو عبيدة ما يفتش عن العلوم إلا كان من يفتشه عنه يظن أنه لايحسن غيره، ولايقوم بشيء أجود من قيامه به. قال أبو حاتم: وكان مع علمه إذا قرأ البيت لم يقم إعرابه وينشده مختلف العروض. وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأيام العروض. وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأيام العرب أخبرها. وقال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.
ويحكى أنه كان يرى رأى الخوارج الإباضية. وقيل: كان شعوبياً يطعن في الأنساب. قال: قال أبو العيناء: قال رجل لأبي عبيدة ياأبا عبيدة: قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم، فبالله إلا ماعرفتني من أبوك وماأصله؟

فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهودياً. وحدث الصولي عن محمد بن سعيد عن عيسى بن اسماعيل قال: جلس إبان ابن عبد الحميد اللاحقي ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كل شيء حين أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، وهو وأهله يهود وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف، وأوضح دلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعى حفظ التوراة ولايحفظ من القرآن مايصلى به، فبلغ ذلك أبان فقال:
لاتنمن عن صديق حديثاً ... واستعذ من تسرر النمام
واخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام
وحكى أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه قال: أنشدت الفضل بن الربيع أبياتاً كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس له وهي:
كأنه في الحل وهو سام ... مشتمل جاء من الحمام
يسور بين السرج واللجام ... سور القطا خف إلى اليمام
قال: ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها فقال: هات بقيتها فقلت: ألم تقل إنه لم يبق منها شيء؟ فقال: مابقي منها إلا عيونها، ثم أنشد بعدها ثلاثين بيتاً فغاظى فعله، فلما خرج عرفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفةٍ وبخله بما عنده، ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر بن المثنى وعلمه ونزاهته، وبذله ماعنده واشتماله على جميع علوم العرب، ورغبته فيه حتى أنفذ إليه مالاً جليللاً واستقدمه فكنت سبب مجيئه من البصرة.
قال أبو عبيدة: أرسل إلى الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة، فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملاه، وفي صدره فرش عالية لا يرتقي إليها على كرسي وهو جالس عليها فسلمت عليه بالوزارة فرد وضحك إلي واستدناني حتى جلست إليه على فرشه ثم سألني وألطفني وباسطني وقال: أنشدني، فأنشدته فطرب وضحك وزار نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه إلى جانبي وقال له: أتعرف هذا؟ قال لا: قال: هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا وقال لي: إني كنت إليك مشتاقا، وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها، فقلت هات، قال الله عز وجل: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين)، وإنما يقع الوعد والأبعاد بما عرف مثله وهذا لم يعرف. فقلت: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز، وسألت عن الرجل السائل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه، وهو إبراهيم بن إسماعيل الكاتب.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...