Translate

الخميس، 9 مارس 2023

حوادث واقعية ( الجزء الأول )محمد بن عبد العزيز الحميدي

حوادث واقعية ( الجزء الأول )محمد بن عبد العزيز الحميدي
المقدمة

الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل.. نحمده سبحانه أن هدانا لطريق الحق والخير صراط الله المستقيم.. ونحمده سبحانه أن جنبنا ولوج دهاليز الشيطان وسبل الغواية والضلال.. فالحمد له في الأولى والآخرة.. وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه..

والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي جاء بالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. ورضي الله تعالى عن صحابته أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد.

فإن الحياة مدرسة تزخر بالعبر والفوائد لمن نظر بعين الاعتبار، وتفكر بعقل الحكمة، وتوخى البحث عن الحق ومعرفة درب الأبرار.

هناك من القصص والوقائع اليومية ما يطرق أسماع الغافلين، ويكشف الغشاوة عن أبصار العابثين، ويهز أفئدة اللاهين الذين هم في غيهم يعمهون.. فمن متنكب للطريق تزل به القدم فيهوى في ظلمات الضلال ويمضي في طريق الغواية حتى ينتهي في الهاوية.. ومن لاهث وراء سراب في بلاد الكفر لا همَّ له إلا اللذة الحرام ولا يستيقظ إلى بعد فوات الأوان، ويندم حيث لا ينفع الندم.. ومن متعلق بأوهام وأمنيات وآمال دنيوية زائلة يفاجأ بتلاشيها وانهيارها وتحطمها أمام تدابير الله.. ومن تائب يتشبث بأذيال التوبة ويمضي على درب النور ليمسح هوانا علق به زمنا طويلا فينجح ويصل إلى بر الأمان.. وغير ذلك من القصص الواقعية التي أسوقها للقارئ في هذه الوريقات آملًا في أن تجد طريقها إلى القلوب فتحصنها –بإذن الله- من الوقوع في متاهات الغواية ومضلات الفتن..

إنني أنقل للقارئ هذه الحوادث الواقعية التي جمعتها من مصادر موثوقة، وصغتها بأسلوب أدبي بهدف تحقيق الغاية التي من أجلها وضعت كتابي هذا، ألا وهي تنبيه الغافلين، وتذكير المتقين، وإضافة رصيد من التجارب للسالكين طريق الدعوة إلى الله -عز وجل.

كما أنني أبتغي من وراء هذا العمل الترغيب في سلوك سبيل الحق، والترهيب من ولوج سبيل الضلال.. كما أتمنى أن يستخلص معي القارئ العبر من هذه الوقائع والأحداث، وأن يعمل على تذكير أهل الخير بها، وتحذير الناس من مغبة الوقوع في مصائد الشيطان..

وأخيرا أسأل الله -عز وجل- أن ينفع بهذا الجهد المتواضع وهو وليي.. وهو حسبي ونعم الوكيل..


الرسالـة

أصابه الكمد لرؤية أبنائه الأربعة وهم يسلكون درب الشيطان، ولا يتورعون عن ارتكاب الحرام.. ذهبت تربيته لهم ونصائحه الكثيرة أدراج الرياح.. شعر بعظم الابتلاء..

حسبي الله ونعم الوكيل..

دخل عليه ابنه الأصغر.. شعر بانشراح في صدره وهو ينظر إلى وجهه المضيء..

الحمد لله الذي لم يحرمني من الولد الصالح..

كان صالح –الابن الأصغر- صالحا كما سماه أبوه.. وكان بارا بوالديه لا يرفض لهما طلبا.. بل كان يسارع لإرضائهما ويبش لهما ويسهر على راحتهما.. كان ذلك يهون كثيرا من مصائبهما في الأربعة الآخرين..

كانت الأم تجلس بعد الصلاة تدعو لأبنائها بالهداية..

اللهم اهدهم لطريق الحق والنور.. اللهم أرهم الحق حقا وارزقهم اتباعه.. وأرهم الباطل باطلا وارزقهم اجتنابه..

ظل الأبناء الأربعة فترة من الزمن يعيشون حياة التيه والضلال.. لهو وعبث.. شغف بالمباريات التي تلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة.. أكل وشرب ولعب بالورق أعمى أبصارهم عن رؤية النور.. قلوب غافلة عن القرآن الكريم.. عقوق للوالدين..

وقف والدهم برمقهم بنظرات الحسرة والألم..

يلتفت إليه أبناؤه ويتهامسون..

كبر أبونا وخرف..!!

كم كان يتألم لرؤيتهم على هذه الحال.. كان عزاؤه في ذلك ولده الأصغر.. حبيب فؤاده ونور قلبه.. ولطالما أدخل عليه السرور وملأ صدره انشراحا وبهجة..

كانت صدمة له يوم جاءه يطلب منه الإذن في السفر..

إلى أين يا صالح..؟!

إلى مكة يا أبي.. أريد أن أعتمر..

ومع من ستسافر؟!

مع أصحاب لي تعرفت عليهم في المسجد..

.. يطأطئ برأسه إلى الأرض.. إنه لا يستطيع أن يمنع ولده من تحقيق هذا الغرض النبيل.. إنه يزداد إيمانا يوما بعد يوم..

حسنا يا بني.. ولكن انتبه لنفسك..

لا تهتم يا أبي..

لا تنسنا من دعائك يا ولدي..

سأجعل لك ولوالدتي النصيب الأكبر من الدعاء إن شاء الله..

عد إلينا بسرعة يا بني..

لن أتأخر إن شاء الله..

.. ويقبِّل صالح يد ورأس أبيه.. ويمضي مع إخوانه والشوق يغمر قلبه لرؤية بيت الله والطواف فيه..

إنها المرة الأولى التي أسافر فيها لأداء العمرة.. لك الحمد يا الله.. أخيرا سأرى بيتك المحرم..

ويؤدي صالح العمرة.. ويبكي عند الكعبة كثيرا.. ويلهج بالدعاء لوالديه وإخوته.. اللهم اهد إخوتي.. اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. اللهم ارحم والديَّ كما ربياني صغيرا..

وتبلل دموعه أرض الحرم وهو يودع مكة..

ويَعُدُّ العدة للعودة بعدما اكتسى حلة الوقار والخشوع.. ويشعر وهو يتهيأ للسفر بألم حاد في صدره.. يهرع إليه إخوانه..

ماذا بك يا صالح.. ما الذي أصابك..

أريد ورقة وقلما بسرعة..

لنأخذه إلى المستشفى..

لا ضرورة لذلك.. أرجوكم أعطوني ورقة وقلما..

.. ويكتب كلمات لوالديه.. ويسلم الورقة لأحد إخوانه.. سلمها لوالدي أرجوك.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله.. صالح.. صالح..

وينتظر الوالد بفارغ الصبر.. ويأتيه الشاب وهو يخفي دموعا تسللت من عينيه.. من أنت؟

أنا صديق صالح.. أرسل لك هذه الرسالة.

يسلمه الرسالة ويطلب قراءتها أمام جميع العائلة..

يفتح الرسالة ويداه ترتجفان..

(.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. أبي الحبيب.. أمي الغالية.. إخوتي الأعزاء.. أكتب لكم هذه الكلمات وأنا أشعر أن أجلي قد حان.. أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- وطاعته.. وأوصي إخوتي بوالديَّ خيرا.. عليكم بطاعتهما وإجابة رغباتهما.. دعوا اللهو والعبث واتركوا الركض وراء الملذات.. إن الحياة وإن طالت فمصيرها الفناء.. وبعدها يكون الحساب..

والدي الحبيب.. والدتي الغالية.. إخوتي.. سامحوني واسألوا الله لي المغفرة.. واصبروا ولا تبكوا عليَّ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)

جثا الرجل على ركبتيه.. أصابه الوجوم.. بكت الأم وبللت ثيابها بالدموع الحارة.. دمعت عيون إخوته.. تقدموا لوالدهم ووالدتهم واحدا بعد أخر.. انكب الجميع على أيديهما يقبلونها.. سالت دموع الندم.. وكانت بداية الهداية!!

خادم أم خادمة؟

بعد انتظار دام زمانا قدمت الخادمة من الفلبين.. غمرت الفرحة جميع أفراد العائلة الثرية.. رحب بها الجميع وبدأت أعمالها بعدما تعرفت على جميع أفراد الأسرة، وجالت في البيت تتأمل غرفه وأروقته..

تحدثت ربة البيت مع أخواتها وجاراتها وصديقاتها عبر الهاتف لتزف لهن البشرى بقدوم الخادمة الفلبينية الجميلة..

تفانت الخادمة في عملها، وقدمت كل جهدها، ونالت إعجاب الجميع..

شعرت ربة المنزل براحة عندما كانت الخادمة تمسك بيدها، أو تحسس رأسها أثناء المرض. أو تمشط شعرها..

اكتشفت فيها مهارة جديدة.. علمت أنها تجيد التدليك.. طلبت منها أن تدلك لها جسدها.. لم تمانع الخادمة.. بل رحبت بذلك أيما ترحيب..

كانت تشعر ربة المنزل بالسرور أثناء التدليك.. ذكرت ذلك لزوجها ومدحت قدرة الخادمة وأسلوبها العجيب في التدليك.. طلبت من زوجها أن يجرب.. نعم طلبت منه ذلك دون أن تشعر بالحرج لكون الخادمة أنثى.. ووافق الزوج بعد تردد.. وتكرر ذلك مرارا.. وصار يشعر بلذة أثناء التدليك.. وجعل الشيطان يقربه أكثر فأكثر من الخادمة.. أخذ يلاطفها ويلاعبها ويتودد إليها.. ثم بدأت الوساوس تشتد أكثر فأكثر.. شعر بهاجس يدعوه لفعل الفاحشة.. أخذ يتحين الفرصة..

وفي يوم من الأيام، وبعدما أوصل عائلته لبيت أحد أقربائه عاد إلى البيت مسرعا فرحا بما سيفعل من المنكر العظيم.. ودخل المنزل وقد أعمى الشيطان قلبه.. وهرع نحو الخادمة وطلب منها أن تقوم بتدليكه.. لم تمانع الخادمة..

اقترب منها وطلب أن تمكنه من نفسها..

رفضت بشدة.. حاولت الهرب.. أمسك بها.. دفعته وحاولت التفلت من بين يديه.. جعل يجردها من ملابسها.. نظر إليها..

يا للهول.. ماذا أرى؟!

كانت المفاجأة مذهلة.. إنها رجل وليست امرأة..

وامصيبتاه.. ماذا أفعل؟!

شعر بالخجل من نفسه.. تذكر كيف كان هذا الرجل يدلك جسد زوجته..

مجنون أنا.. كيف قبلت بهذا..

تصبب العرق من جبينه.. ضاقت عليه الأرض بما رحبت.. لابد أن أتخلص منه.

وسارع إلى مكتب لتسفير الخادمة التي تبين أنها رجل.. وسلمه الخادمة وطلب منه أن يقوم بتسفيرها بأسرع وقت ممكن..

تمتم بكلمات.. ترى كم رجل في بيوت المسلمين بزي امرأة!!

عاقبة العقوق

ها هو ابنها يكبر يوما بعد يوم.. إنه فلذة كبدها.. وهو وحيدها الذي تعلقت عليه آمالها بعد الله -عز وجل-.. عملت خادمة في مدرسة للبنات من أجل توفير المال لابنها.. ربته تربية دلال.. وفرت له كل ما يريد..

متى أراك رجلا كبيرا أستغني به عن الناس؟!!

تحمله وتضمه إلى صدرها.. أنت حياتي..

كم حرمت نفسها لتطعمه، وكم آثرته على نفسها في الملبس.. وانتظرت طويلا لتسمع أخبار نجاحه في الثانوية العامة..

زفت البشرى لجاراتها.. أخذت تفاخر بنباهته وذكائه.. وقبل في الجامعة.. وعظمت فرحة الأم..

أنت الآن رجل كما كنت أتمنى.. الحمد لله..

لم يبق إلا القليل وأحصل على الشهادة يا أماه..

وبعدها نفرح بزواجك من ابنة خالك التي انتظرت طويلا.. أصابه الذهول.. حدّق بأمه.. ماذا؟!

ألم تخبرني أنك تتمنى الزواج بها من قبل يا بني..!!؟

ولكنها لا تناسبني.. إنها لا تفكر كما أفكر.. إنها غير متعلمة..

ماذا تعني يا بني؟!!

لن أتزوج من ابنة خالي يا أمي..

(.. وكم كانت الصدمة عنيفة.. ليس لأمه فحسب.. بل لابنة خاله التي انتظرت تخرجه بفارغ الصبر.. كم ردت من الخاطبين لأجله!!.. وها هو يقلب لها ظهر المجن.. بكت طويلا عندما علمت بالأمر..

وتحملت الأم تلك الصدمة.. وتخرج ابنها.. وحصل على عمل في المدينة.. وطلب من والدته الانتقال معه إلى هناك.. وبيع البيت.. واشترى بثمنه بيتا سجله باسمه.. وتعلق بفتاة مغرورة كانت تسكن الجوار..

صارح أمه برغبته في خطبتها.. فرحت الأم التي انتظرت كثيرا لترى ولدها وقد أصبح رب أسرة..

وتزوج من الفتاة.. وسكنت معه وأمه في بيته.. ومرت الأيام.. وبدأت الزوجة بالشكوى من الأم.. جعلت تظهر الضجر من تصرفاتها.. صرّحت لزوجها بما يدور في خلدها..

لقد أصبحت حياتي جحيما بسبب أمك..

ماذا تعنين؟ إما أنا وإما هي في البيت..

إنها أمي.. وأنا ألست زوجك.. من ينفعك أكثر..

أنا لا أحب أن تغضبي.. ولكن اصبري حتى أجد حلا..

(.. تتأفف الزوجة وتتضجر..

الأم لا تتوقف عن خدمة ابنها وزوجته.. ويرزق ولدا جميلا.. وتسهر جدته على راحته بينما لا تهتم أمه به كثيرا..

جعلت الزوجة تخطط للتخلص من أم زوجها.. أخبرت زوجها بأنها تشتمها وتضربها وتؤذيها.. بدأ الزوج يغضب من أمه.. فكر كثيرا بطريقة للتخلص منها..

شعرت أمه بذلك.. تسللت ليلا من البيت وغادرته لبيت أحد أقاربها..

مرت الأيام وولدها لا يسأل عنها.. شعرت بشوق له ولولده لزوجته.. دفعها الشوق للعودة لرؤية أحبائها.. ظنت أن هذه المدة كافية لإزالة الشحناء من صدر زوجة ابنها عليها.. طرقت الباب.. انتظرت قليلا.. ظهر وجه زوجة ابنها..

من.. أنت.. ما الذي جاء بك إلى هنا أيتها الحرباء..!! لقد كنا في سعادة وسرور..

مهلا يا ابنتي.. مهلا..

ماذا تريدين منا..؟

أريد رؤيتكم فقد اشتقت لكم..

لا نريد أن نراك..

ويأتي ولدها.. ويشاهد أمه أمام باب منزله.. يشعر بالضيق.. يرحب بها ببرود.. يدخلها بيته.. يواجه غضب زوجته بحرج..

ما الذي جاء بك يا أمي؟

تنظر إليه وتتذكر كيف ربته.. تتذكر تلك الأيام العصيبة التي قضتها بجانبه ترعاه.. ظنت أنه سيكون منقذها مما هي فيه من التعاسة والشقاء.. أنفقت كل ما لديها من أجله.. باعت ذهبها وحليها ليتزوج بمن يريد.. رضيت بأن يسجل البيت باسمه ولم يشارك في شرائه بقرش واحد..

يا للخسارة.. ماذا تقولين يا أماه..

لا شيء يا ولدي.. ولكن.. ولكن ماذا؟

إلى أين أذهب؟

(.. ويفكر ابنها.. ويبحث الأمر مع زوجته..

أمي.. هيا بنا لنذهب..

إلى أين يا ولدي.. سنزور بعض الأصحاب..

إذا كان هذا يرضيك فلا مانع لدي..

ويأخذها إلى دار للعجزة.. وتدخل معه دون أن تدري.. ويتركها هناك ويعود لزوجته التي سرها ذلك كثيرا.. يهرع ابنه إليه..

أبي.. أبي.. أين جدتي.. أريد رؤية جدتي.. تصرخ به أمه.. لا تذكر جدتك بعد اليوم.. أفهمت...

أريد جدتي.. إني أحبها..

.. وتطلب الزوجة من زوجها زيارة صديقة لها ليحتفلا بمناسبة سعيدة لها.. ويستقلا سيارته.. وينطلق بها إلى حيث تريد.. ويلوح أمام ناظريه مشهد أمه البائسة.. يتذكر تلك الأيام التي عانت فيها من أجله.. يتذكر كيف ألقى بها في دار العجزة كخرقة بالية.. تجحظ عيناه.. يشعر بصداع.. تصرخ زوجته..

انتبه.. انتبه.. وتصطدم السيارة بشاحنة كانت تمر بجانبها..

وتهرع سيارة الإسعاف.. ويحمل الجرحى.. وتلفظ الزوجة أنفاسها قبل أن تصل المستشفى.. ويصاب الزوج بالشلل.. وينجو طفلهما..

يصحو الزوج من إغمائه.. يصرخ بأعلى صوته..

أمي.. أين أمي.. اخرجوا أمي من دار العجزة..

.. تتسلل دموع والدته.. تضع كفها على رأسه..

عافاك الله يا بني..!!

في طريق الضلال

وجوه شاحبة تلتف حوله.. ضحكات ساخرة تهزأ به.. تمتع بالحياة يا رجل..

تعال معنا وستعرف معنى السعادة..

سهرة واحدة ستنسيك كل همك..

دع حياة الانعزال هذه.. إنك تضيع عمرك بلا فائدة.. لو تعرف كم نحن سعداء بما نحن فيه..؟!

.. ويغريه الشيطان مع هؤلاء وسمعتهم السيئة في كل مكان.. إذا كنت تريد بعض المال سنعطيك..

خذ هذا المبلغ لتعرف مدى حبنا لك..

.. ويجد نفسه تنساق وراء إغرائهم وتزيينهم.. وتنزلق قدمه في مستنقعات رفاق السوء.. ويمضي قدما في مهاوي الردى.. وتتكرر السهرات الآثمة.. ويتمادى في الظلمات ويشعر بقلبه ينسلخ عنه الإيمان.. وتمر الأيام وهو يمضي إلى الهاوية..

ويرى أصحابه ينزلقون أكثر فأكثر.. وكلما وقعوا في مصيبة جروه إليها.. بدأ يضيق  ذرعا بهذه الحال.. جعل يبتعد عنهم شيئا فشيئا.. ولكن إلى أين؟!!

الناس تعرف أنه منهم.. سمعته غدت في الطين..

شعر بقلبه يتفطر على ما آل إليه من الضياع.. مشى تائها في الطرقات.. تلفت يمينا ويسارا.. لمح مئذنة مسجد تعانق السماء.. سمع جلجلة التكبير.. أحس بدقات قلبه تتسارع.. شعر بشيء يدفعه إلى المسجد دفعا..

لابد أن الحل هناك.. يجب أن أذهب.. ولكن.. ماذا سيقول الناس إذا رأوني هناك؟.. هل يقبل الله توبتي..؟

دخل المسجد ورجلاه ترتجفان.. توجه لمكان الوضوء.. شعر ببرد الرحمة مع المياه على جسده.. صلى مع الناس.. جلس يستمع لحديث الإمام.. أنصت لكلماته وأطرق.. ماذا أسمع.. يا إلهي..

كان موضوع الدرس عن جريمة اللواط ورفاق السوء..

واستمع الشاب لتلك الموعظة.. واهتز قلبه وارتجف.. انزوى جانبا وجعل يبكي.. شعر بألم الذنب والمعصية مرّ به رجل من الصالحين.. رق لحاله..

ماذا أصابك.. ما لك تبكي؟

التفت إليه.. شعر براحة وهو يتأمل قسمات وجهه الوضيء..

حدثني عن شأنك لعلي أستطيع المساعدة..

ويبث له ما في قلبه.. ويتألم الرجل لحاله.. ويعزم على مساعدته وانتشاله من المستنقع الذي وقع فيه.. يرشده الشاب إلى المكان الذي يجتمع فيه أصحابه.. ينطلقا سويا لرؤية أولئك التائهين.. ويجتمع بهم ويخبرهم بأنه لا يريد سوى مصلحتهم ونفعهم.. ويجلس معهم ويبدأ الحديث.. تنساب كلماته لتخترق القلوب الميتة فتبعث فيها الحياة بإذن الله.. وتنشرح الصدور لكلمات الشيخ.. ويشعر كل منهم بأن باب التوبة مفتوح.. وتنهمر الدموع على الوجنات.. وينتحب الأصدقاء لتكون فاتحة الخير للجميع!!

الفاجعـة

غدًا أسافر إلى المدينة..

انتبه لنفسك يا بني..

لا عليك يا أمي.. سأدرس الطب لأقف بجانبك وأعالجك..

الحمد لله.. كنت أنتظر هذا منذ مدة.. وها أنت ستبدأ الدراسة عما قريب.. لا تنسنا من الرسائل يا ولدي..

سأكتب لك دائما يا أمي..

.. ويصبح الصباح.. وتشرق الشمس في سماء القرية التي تجمع أهلها لوداع فلذات الأكباد.. عدد من الشباب سيغادرون القرية للدراسة في الجامعة..

ويسافر خالد ولا يشغل باله إلا الدراسة..

سأبذل كل جهدي.. لن أتراجع إلى الوراء.. سأنال الشهادة وأعود طبيبا عظيما أعالج الناس في قريتي..

ويصل المدينة ويبحث عن سكن.. يجد بيتا متواضعا يسكن فيه.. وتبدأ الدراسة.. ينكب خالد على دروسه وكأنما يلتهم العلم التهاما.. يتفوق في الاختبارات على أقرانه.. ينتبه زملاؤه لتقدمه.. ينال إعجاب الجميع..

عاش في جو الجامعة المتميز بالاختلاط.. كانت المغريات تحف به.. ولتفوقه كانت الفتيات تلاحقنه ويهرب منهن.. لم يفلت من شر الأشرار.. خطط له جماعة منهم ليوقعوه في حبالهم.. حاولوا مرارا وبكل الوسائل دون فائدة.. ثم نصبوا له بعد ذلك شرك المخدرات.. ووقع فيه بعد تناول حبة واحدة في حيلة خبيثة فعلها الأشقياء..

شعر باضطراب غريب.. أصابه الهيجان وتملكته العصبية.. بحث عن حل لما هو فيه.. قاده ذلك إليهم.. وغدا ذليلا بين أيديهم..

بدأ يتخلف عن الدراسة في الجامعة.. هزل جسمه.. بدأ يتقبل فعل المنكرات.. لم يعد يتردد في ارتكاب المعاصي والآثام.. صار علما بارزا لعصابة المخدرات.. وقع في شرك الزنا.. وكان واحدا من أولئك الذين تفرغوا لاصطياد الفتيات وإيقاعهن في شباك الفسق والفجور.. واتفق معهم على اصطياد فتاة كل أسبوع.. وتناوب مع رفاق السوء في ارتكاب الفاحشة.. وظل على هذه الحال حتى غربت شمس ذلك اليوم.. جاء إليه أحد أصدقائه..

خالد.. خالد.. أتينا بفتاة جميلة..

حقا.. وأين هي؟

إنها تنتظرك.. فقد جاء دورك..

هل انتهيت أنت..؟

نعم.. هيا..

وينهض بخفة وقد تملكته البهجة والسرور.. ويتجه لباب الغرفة مقبلا على الفاحشة لا يردعه رادع، ولا يرده وازع..

يدخل ويغلق الباب.. يلتفت لينظر إلى الفتاة الجميلة.. آآه.. من..؟!!

.. ويجثو على ركبتيه..

لا.. لا.. ما الذي جاء بك إلى هنا..؟

.. شعر باختناق لهول الفاجعة.. أحس وكأن صاعقة أصابته وأحرقت قلبه.. إنها أخته.. تلك الفتاة التي جاءت للمدينة للبحث عنه ومعرفة أخباره.. ضلت الطريق ووقعت في شباك الأشقياء الفجرة لتدفع دَيْنًا باهظا على أخيها..!!

نعمة كيف تستخدمها؟

جلس مع جماعة فيهم من يعرف ومن لا يعرف.. تبادلوا أطراف الحديث.. لفت أسماعهم لصوته الرخيم.. طلب أحدهم منه سماع مقطع من أغنية.. تبسم قليلا ثم أبدى موافقته..

سأسمعكم أجمل ما عندي..

وجلس متمكنا بخشوع.. وبعد برهة من التأمل انسابت آيات من القرآن من بين شفتيه.. فاجأ أولئك الذين ظنوا أنه سيغني..

ألا تحسن الغناء..

لم أتدرب على الغناء.. إنما هو القرآن الكريم تعلمت تلاوته..

أمامك سلم يرفعك إلى أعلى.. اصعد الدرجة الأولى وسترى..

ماذا تعني؟

لماذا لا تغني..

وماذا يفيد الغناء..

أشياء كثيرة.. الشهرة.. المال.. محبة الناس.. وغيرها!!

.. ويستمع لإغوائهم ويستسلم.. يذعن لطلبهم ويرافقهم ليصبح مغنيا مشهورا كما قالوا له..

بدأ يتدرب على الغناء.. وجد التشجيع من شياطين الإنس.. تمادى في ولوغ دهاليز الفن الرخيص.. أطلق لصوته العنان يمجد للشيطان.. وبالرغم من أنه ما زال في درجة السلم الأولى إلا أنه أصيب بمرض شديد في حلقه.. عرض نفسه على الطبيب.. تناول أصنافا من الأدوية توقف عن الغناء.. طالت المدة..

زاره رفاق السوء مرارا وهم يرجون شفاءه ليعاود الكرَّة.. ولما يئسوا تركوه يعاني من مرضه وتخلوا عنه إلى الأبد..

زاره صديق قديم.. رأى ما ألمَّ به.. حزن لما أصابه..

ما رأيك أن أصحبك معي غدا لبيت شيخ تقي تستمع لحديثه الطيب..

لا بأس.. فقد اشتقت لحديث أهل التقى والصلاح..

ويجلسان مع الشيخ يستمعان لوعظه وإرشاده.. يطلب منهما تلاوة آيات من كتاب الله -عز وجل-.. يصاب صاحبنا بحرج شديد بسبب المرض في حلقه.. يلح عليه الشيخ.. يبدأ التلاوة.. يستمع إلى صاحباه..

قراءتك جميلة..

لا أصدق.. ما الذي حدث..

ماذا بك؟

قبل قليل كنت أشعر ببحة غريبة..

إنك تقرأ بصورة حسنة..

سبحان الله.. ما هذا؟

ما قصتك؟

ويذكر لهما ما حدث له.. ويتعجبان لهذا الأمر..

إن الله يريد بك الخير.. أصابك بهذا المرض لكي لا تقع في شرك الشيطان فتهلك.. وإنما هي نعمة أنعمها الله عليك.. صوت جميل حسن.. فكيف نستخدمه؟

القرآن خير ما نستخدم أصواتنا فيه..

اللهم اجعلنا من أهل القرآن..!!

رؤيا تتحقق

وعظته كثيرا دون جدوى.. ذكرته بعاقبة الضلال ونهاية الظالمين فلم يرتدع.. لجأت لبارئها وجعلت تبتهل في الليل والنهار أن يهدي ولدها..

تذكرت كم تعبت في تربيته وأخته حتى كبرا.. فمنذ وفاة والدهما وهي تسهل على راحتهما وتعمل من أجلهما، وتبذل لتراهما يافعين تستعين بهما بعد الله -عز وجل..

خاب أملها في ابنها الذي جعل همه ملذات الدنيا وشهواتها.. وقرت عينها بابنتها الطيبة التي غمرتها بحنانها وعطفها وبرها..

اللهم ارض عنها ووفقها لكل خير..

دخلت عليها غرفتها وهي تجلس على مصلاها رافعة أكف الضراعة له ولأخيها..

طعام الغداء جاهز يا أمي..

هل حضر أخوك يا ابنتي..

أخبرني بأنه سيتناول غداه مع أصدقائه يا أمي..

هو دائما هكذا.. يقضي جل وقته مع رفاق السوء..

لابد من الصبر يا أمي.. لعل الله يهديه قريبا..

.. وتمر الأيام ويتمادى ولدها في غيه.. يأتيها أحيانا وقد شرب الخمر..وأحيانا أخرى يضج في وجهها يطلب نقودا .. ولا يمر يوم دون إساءة منه لأمه أو أخته.. وبالرغم من كل هذا كانتا تلجأن في مثل هذا الكرب للرحمن الرحيم..

أقبلت الفتاة ذات يوم فرحة مسرورة..

أمي..أمي..

نعم يا أبنتي.. ماذا بك؟

نجحت يا أم.. تخرجت من الجامعة..

الحمد لله..

.. وتعينت البنت معلمة في مدرسة ثانوية للبنات.. وبدأت عملها بكل جد ونشاط وإخلاص.. وأعانت والدتها في النفقة.. وكانت مثالا طيبا للفتاة المسلمة الملتزمة..

دخل الفتى يوما وطلب نقودا من أمه وأخته..

ولماذا تريد النقود.. اذهب واعمل..

لا أحد يريد أن أعمل عنده.. أريد النقود.. إني لا أملك حتى ثمن علبة الدخان..

لن نعطيك مالا لتعصي به الله -عز وجل..

تتدخل الأخت..

لماذا لا تصلي يا أخي.. لماذا لا تلجأ لربك وترجع عن غيك..

ما شاء الله.. أصبحت واعظة ممتازة..!!

هداك الله يا أخي..

أريد المال وإلا..

ماذا ستفعل..؟!

أعطني مالا وإلا اضطررت للسرقة..

خذ هذا المبلغ..

وتبكي الأم لحال ولدها.. وتلجأ كعادتها لبارئها.. وترفع الأخت يديها وتدعو لأخيها.. وبعد أيام، وفي الليل، وبينما كانت الأخت في سباتها العميق رأت نورا يخرج من غرفتها ويدخل غرفة أخيها..

استيقظت وهي تشعر بنشاط وانشراح.. نهضت من فراشها وتوجهت لغرفة أمها.. سمعت صوتا غريبا في غرفة أخيها..

ماذا أسمع.. أيعقل هذا.. إنه يقرأ القرآن..

وتدخل غرفته.. وإذا به يصلي ويبكي.. تدمع عيناها.. الحمد لله..

وتستيقظ الأم على صوت ابنتها تخبرها بحال أخيها..

حقا يا ابنتي..

ويعانق الشاب أمه.. ويُقبل يدها..

سامحيني يا أمي.. استغفري لي فلن أعود أبدا لما كنت عليه..

سامحك الله يا يني.. هذا أسعد يوم في حياتي..

يلتفت إلى أخته..

لقد ظلمتك كثيرا.. سامحيني..

تتسلل الدموع فرحا بتوبته.. ويغمر النور البيت من جديد..

أحس بدنو الأجل

حزن أهل القرية على وفاة شيخهم الصالح.. شاع خبر وفاته ودخل كل بيت.. تداعى الناس زرافات نحو المسجد للصلاة عليه والمشاركة في دفنه.. سار الجميع في موكب مهيب حاملين نعش الشيخ على أكتافهم..

كان الكل يفكر بالمآل الأخير، ويتأمل بريق الدنيا الخادع الذي لابد أن يفضحه الموت.. جللهم الخشوع وهم يحيطون بالقبر ويتهيؤون لإنزال الميت.. أمسك عدد من الشباب بجثته المتلفعة بالبياض.. قدموه وقلوبهم وجلة تتفكر بمصيرها.. كل منهم تذكر أنه لابد يوما أن يصير إلى مثل هذا يرقد فيه.. وكل منهم استرجع ما يحفظ من القرآن والأحاديث النبوية في القبر، نعيمه وعذابه..

خيم السكون الموحش على المكان.. لم يكن يُسمع سوى صوت التراب ينهال على جثة الشيخ الموسد في قبره.. شارك كثيرون في ردم الحفرة بالتراب.. امتدت الأيدي لتأخذ من تراب قبر مجاور محفور بالقرب من قبر الشيخ.. قطع السكون صراخ رجل كان مع الحاضرين..

لا.. لا تأخذوا من هذا التراب.. دعوه..

وجم الجميع وانتابتهم الحيرة..

ما الذي دهاك..؟

نشدتكم الله.. دعوه لصاحبه.. لا تأخذوا منه شيئا فإنه ليس من حق صاحب هذا القبر..

ولكن الأمر ليس فيه حرمة..

لا يمكن أن أسمح لكم بهذا.. قلت دعوا التراب..

وأصر الرجل على موقفه.. وترك الناس التراب وأكملوا الدفن وانقلبوا راجعين إلى بيوتهم قد تملكتهم الدهشة مما بدر من الرجل..

واستيقظ الناس في اليوم التالي ليفاجؤوا بنبأ وفاة رجل آخر من القرية.. تساءل الناس..

من يكون هذا الميت يا ترى..؟!

وتنتشر أخبار وفاة الرجل الذي استمات في الدفاع عن تراب القبر المحفور بالأمس.. إنه هو الرجل نفسه الميت هذا اليوم.. يا سبحان الله..

ويصلي عليه أهل القرية.. وينطلقون في جنازته نحو المقبرة.. ويدفن بقرب الشيخ الذي دفن بالأمس.. في القبر نفسه الذي حمى ترابه ودافع عنه بحماس.. نعم.. دافع بالأمس عن تراب قبره وها هو اليوم يرقد فيه مطمئنا.. يا سبحان الله.. إنها العبر!!

إنه القدر.. فلنرض به

طاف عبد الرحمن مع صاحبه بين معارض السيارات يبحثون عن سيارة مريحة.. كان عبد الرحمن متوسط الحال يريد سيارة جيدة مستعملة بسعر مناسب.. بحث طويلا دون جدوى..

السيارات كثيرة.. لكنها جميعها غير مناسبة..!!

لننظر هناك يا عبد الرحمن..

لنجرب.. لن نخسر شيئا..

ويدخلون المعرض.. يتنقلون بين السيارات..

هذه سيارة فخمة..

ولكن سعرها عال جدا..

تعال ننظر لتلك.. يبدو أنها جيدة..

نوعها غير مرغوب فيه.. قطع الغيار باهظة الثمن.. لا أريدها..

لنخرج من هنا..

ويتوجهون لمكان اجتمع فيه عدد كبير من الناس..

هناك مزاد يا عبد الرحمن..

أرى سيارة جميلة.. هيا بنا..

ويتأملون السيارة التي بدت رائعة جميلة..

إنها هي.. ما رأيك..

رائعة..

ويعرض عبد الرحمن مبلغا جيدا لشرائها.. يتصدى له شاب آخر ويعرض مبلغا أكبر.. يرفع عبد الرحمن من سعرها.. يعرض الشاب زيادة أكثر.. يعجز عبد الرحمن ويتوقف عن التحدي.. يشعر بالخسارة..

لا حول ولا قوة إلا بالله.. ليس لنا نصيب.. لنعد إلى البيت ونرجع الأسبوع القادم لنواصل البحث إن شاء الله..

وتمر الأيام بسرعة ليعود عبد الرحمن مع صاحبه للبحث من جديد..

انظر هناك يا عبد الرحمن.. هل ترى ما أرى..

إنها السيارة نفسها..

نعم.. إن صاحبها يعرضها للبيع..

تعال ننظر ما الخبر؟

ويقبلان عليه..

ما الذي حدث.. بالأمس اشتريت هذه السيارة..

نعم.. ولكني وقعت في فخ..

لماذا؟

إنها سيارة مليئة بالعيوب.. إنها تبدو في ظاهرها جيدة.. ولكنها في الحقيقة لا تساوي نصف الثمن الذي دفعته..

ينظر عبد الرحمن لصاحبه..

الحمد لله..

انظر يا عبد الرحمن..

من هذا؟

إنه صديقنا وائل..!

ماذا يفعل هنا؟

تعال نسأله..

ويسلم الأصدقاء على بعض.. ويتبادلون الحديث..

ما الذي جاء بك لمعارض السيارات؟

جئت أعرض سيارتي للبيع..

تعرضها للبيع..

نعم.. إنني بحاجة ماسة للنقود..

إنها سيارة جميلة ورائعة.. إنني أبحث عن سيارة منذ مدة يا وائل..

تعني أنك جئت إلى هنا لشراء سيارة..

نعم.. وقد وجدتها أخيرا..

.. ويشتري سيارة صاحبه.. وينطلق بها سعيدا.. ينظر إليه صاحبه.. أرأيت..

نعم.. رأيت.. الخيرة فيما اختاره الله..

الحمد لله.

إذا دعيتم فأجيبوا..!!

جلس ينتظر أصحابه بفارغ الصبر.. سأل أولاده..

ألم يقرع الجرس أحد؟

لا يا أبي.. لم يأت أحد بعد..

وينظر في ساعته ويتأفف..

أيعقل هذا.. العاشرة ليلا ولم يأت أحد..

يصل صديقه محمد.. ينظر حول البيت..

ما هذا.. لا يوجد سيارات.. هل أخطأت الموعد أم ماذا حصل؟

ويتردد في الدخول.. يفكر قليلا..

المسافة بعيدة.. لا يمكن أن أعود هكذا.. لابد من رؤيته..

ويقف أمام الباب.. يشعر بالخجل.. يمد يده للجرس.. بتلكأ قليل.. يتجرأ ويطرق الباب.. يخرج إليه صاحبه.. يفرح لقدومه..

أهلا محمد.. أهلا..

السلام عليكم..

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

أرجو أن لا أكون أخطأت في الموعد..

لا.. لا أبدًا.. تفضل..

ولكن أين الضيوف؟

سيأتون قريبا..

كم واحد دعوت للوليمة؟..

كثيرون.. ربما مائة وخمسين..

عجيب.. وأين هم؟!!

سأتصل بهم..

.. ويبدأ بالاتصال بهم واحدا واحدا.. ويأتي إليه بعضهم متأخرا.. وينظر إلى ساعته..

إنها الحادية عشرة ولم يأت سوى ثلاثين رجلا.. أين أذهب بالطعام؟!!

وتوضع المائدة.. ويتناول الجميع الطعام..

بقيَّ الكثير.. ماذا أفعل به..

أليس لك جيران فقراء..؟ بلى..

إذن هيا بنا لنأخذ الطعام لهم..

نِعمّ الرأي..

ويمضي مع صاحبه محمد لتوزيع الطعام.. ويعودان بعد منتصف الليل..

الآن ارتحت واطمأنت نفسي..

يجب أن تكون قد تعلمت من هذا درسا بليغا..

لن أعود لمثل هذا.. سأدعو فقد من يحترم الدعوة ويوفي بالوعد.. ولن أصنع طعاما كثيرا يضطرني إلى إلقائه في النفايات.. وسأنبه المدعوين إلى ضرورة الحضور وأجزم بذلك..

ليتنا نعرف حق الأخوة.. ليتنا نقتدي برسولنا r عندما قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها» رواه البخاري ومسلم وأبو داود.

تداركته رحمة الله

وضع كفيه على رأسه وانحنى على الطاولة مطأطئا برأسه قد انتابه شعور بالفشل بعد تركه للدراسة التي لم يستطع مواصلتها بسبب الرسوب المتكرر..

بدا لمخيلته وجه والده الغاضب وهو يصرخ عليه ويكيل له الشتائم بسبب إهماله في الدراسة.. تذكر جفاء إخوانه له بسبب تصرفاته الشاذة..

خطرت له فكرة.. قرر السفر لبلدة قريبة يسكن فيها أحد أصدقائه.. أخذ يعد العدة لذلك ويتهيأ للسفر.. أخبر والده ووالدته..

سأسافر غدا لأعمل هناك.. لقد وعدني صاحبي بإيجاد عمل مناسب..

أخشى عليك الضياع يا ولدي..

لا تخافي يا أمي.. سأعمل بجد ونشاط..

كن حذرا يا بني..

.. ينظر إليه والده بسخرية.. يهز رأسه ويتنهد..

أتمنى لو تفلح..

ويسافر لبلدة صاحبه.. يصل مع الغروب.. يسأل عن بيت صديقه.. يصل إليه بصعوبة.. يطرق الباب..

من.. غير معقول..

كيف حالك يا أعز الأصدقاء.. كم اشتقت إليك..

أهلا بك.. تفضل..

.. وتمضي الأيام وصاحبه يبحث له عن عمل دون جدوى.. وينطلق وحده ليجرب حظه دون فائدة.. ويظل على هذه الحال يائسا لا يجد عملا.. وتتراكم عليه الديون.. ويتعرف على جماعة من الشباب..

لا تحزن يا رجل.. دخن هذه السيجارة..

أصبحت الديون هما كبيرا يؤرقني..

لا تهتم.. سنقضيها عنك..

حقا..

ولكن لنا شرط بسيط..

وما هو..

أن تشاركنا أعمالنا..

وما هي أعمالكم..

تعالى معي الليلة واسهر معنا وسنناقش الأمر..

ويقع في شرك الرذيلة والمحرمات.. يوظفه الفسقة لاصطياد النساء.. يعاقر الخمر ويتناول المخدرات.. يشعر بعض الأحيان بالضيق.. يفكر بالهروب من هذا المستنقع.. يجد عقبات أمامه.. يلقى التشجيع على المضي من قبل أصحابه.. أغروه بالسفر مع أحدهم.. وافق بعد تردد.. مضى إلى الهاوية.. غرق في الملذات المحرمة الزائلة.. عاد بنصيب وافر من الآثام والذنوب.. شعر بالندم.. تألم كثيرا على ما فعل.. قرر اعتزال هذه الجماعة الفاسقة.. عاد لأهله وأبويه.. وجد عملا مناسبا.. فكر بالزواج..

بحث عن امرأة تعينه على أمر دنياه.. وجدها بصعوبة.. تزوجها ليغلق باب السفر إلى الأبد.. مرت أيام وشهور.. حنّ لسابق عهده.. قدر الله له أن يلتقي بأحد رفاقه السباقين.. رحب به وأخبره خبره..

مسكين أنت.. أصبحت أسير الزوجة والبيت..

ماذا أفعل.. أردت أن أعيش حياة طبيعية.. أحمق.. ألم تكن سعيدا بما كنا فيه.. إنها الحرية.. تذهب حيث تشاء.. وتفعل ما تريد دون أن يسألك أحد ماذا فعلت ولم فعلت؟.. وماذا أفعل..؟

ما رأيك بالسفر مرة أخرى.. ولكن..

دعك من لكن.. التذاكر جاهزة.. وما عليك إلا أن توافق.. يطرق قليلا.. موافق..

.. ويعود مرة أخرى لممارسة الرذائل.. وتضيق زوجه به ذرعا.. وتطلب منه الطلاق بعد نفاد صبرها.. ويفترق الزوجان.. ويعود هو إلى الجحيم..

عاش بعدها في قريته يشار إليه بالبنان.. الكل يكرهه.. الجميع يتجنب الحديث معه.. والده طرده من بيته مرارا.. أمه غضبت عليه.. إخوته تبرؤوا منه.. ضاقت عليه نفسه.. لم يبق معه مال.. لم يجد من يقرضه.. أين يسكن.. كيف يأكل.. قبع في زاوية وجعل يبكي بمرارة.. سالت دموع الندم.. شعر بالحسرة تخنقه.. تراءى لمخيلته شبح الموت.. رأى الدنيا تظلم في عينيه.. كانت فترة عصيبة..

شعر برجل يقترب منه.. رفع رأسه.. نظر إلى الرجل.. رأى في وجهه الوقار والخشوع.. لحيته كثة.. البسمة لا تغادر شفتيه.. شعر براحة تغمره.. أمسك بثوب الشيخ..

أرجوك.. دلني على الطريق.. إني تائه.. أرجوك..

وينحني الشيخ ويربت على كتفيه..

قم يا بني.. قم معي إلى المسجد..

.. ويصحبه الشيخ إلى المسجد.. يطلب منه أن يغتسل.. ليصلي معه.. يجلس يستمع لدروسه.. يدعوه لبيته.. يشرع في تعليمه وإرشاده.. يشعر بالنور يغمر قلبه.. يتحول رجلا آخر.. يتغير حاله.. يشعر بأنه ولد من جديد!!

جولة في المستشفى

جعل يدون طموحاته، ويسجل خططه، ويبني آمالا على الورق.. يريد أن يصبح عظيما بين العظماء.. غدا يحصل على ترقية.. وبعدها سيسعى ليصبح مدير أعمال ناجح.. ثم يكون من ملاك العقارات والشركات.. ثم.. وهكذا..

ملكت الدنيا قلبه.. واستحوذت بما فيها من مباهج على تفكيره.. كان ينظر إلى الأغنياء والتجار وكبار الملاك نظرة تحسر وأسى.. ليس عليهم وإنما على نفسه التي عجزت حتى الآن أن تكون بين أولئك المتخمين بالأموال..

كان صاحبه أحمد يشعر بغصة عندما يتحدث إليه فيسمع منه ما يدل على الغفلة والتيه..

دعك من هذا يا رجل.. الأرزاق بيد الله..

يجب أن نسعى يا أحمد.. لن تمطر السماء علينا ذهبا ولا فضة..

هذا صحيح، ولكن ليس بهذه الصورة التي أنت عليها.. تكاد تصاب بالجنون.. أراك تحسب وتقدر وتفكر بما كان وما سيكون وتحلم بأشياء من الصعب تحقيقها ولا تتحدث إلا عن المال والمناصب والترقية والمكانة..

وماذا في ذلك؟.. هل نحن أقل من الناس؟.. ماذا ينقصنا؟.. نستطيع أن نكون سادة فلماذا نظل مع العبيد؟

ولكنك نسيت الآخرة.. إنك تتحدث وكأنك ستعيش حياة أبدية خالدة لا نهاية لها.. ألا تجعل لآخرتك نصيبا من همك ووقتك وعملك..

إنني أصلي..

إنك تصلي وقلبك متعلق بالدنيا.. وإني لأخالك تحسب وتجمع وأنت في الصلاة.. قل لي يا صاحبي .. ماذا قرأت في صلاة العصر من القرآن؟!!

قرأت.. آه .. لقد قرأت سورة.. لقد نسيت..

أرأيت .. دعنا من هذا الآن..

هل وصلتك أخبار صاحبنا عمر..؟

ماذا به؟ إنه في المستشفى..

في المستشفى.. ولماذا؟

أصيب في حادث سير.. إنه في حالة يرثى لها..

لا حول ولا قوة إلا بالله..

سنزوره غدا إن شاء الله.. هل ستأتي معنا..؟

أنا .. ولكن..

ولكن ماذا؟

إنك تعرف أنني أكره الذهاب إلى المستشفيات..

ولكنه صديقنا الحميم.. ولابد من زيارته..

حسنا.. سأذهب معك..

.. ويدخل بوابة المستشفى مع صاحبه أحمد.. ويسير ببطء في أروقة المستشفى الممتدة.. يلتفت يمينا ويسارا.. ينقبض قلبه.. ترتجف أركانه..

يا إلهي.. ما أرى..

ينظر إلى إحدى الغرف.. يرى رجلا مسجى قد احترق ظهره.. آه.. يغمض عينيه..

يا للهول.. ما هذا .. يبلع ريقه..

هيا بنا من هنا..

ما هذا الجناح.. إنه يخيفني..

إنها غرف الإنعاش..

إن هؤلاء المرضى كالأموات..

يمر عليه ممرض يدفع كرسيا جلس عليه شاب ينزف من رأسه.. ينظر فينخلع قلبه.. يتجمد مكانه..

ماذا بك؟

الحمد لله.. نحن في نعمة عظيمة..

يرى بعض المرضى الذين أصيبوا بكسور وجروح وأورام .. يصل إلى مكان صاحبه.. ينظر إليه على فراشه وقد تغير لونه.. يرى الأنابيب حوله..

إنه نائم..

بل هو في غيبوبة منذ أمس..

ألا يستطيع التنفس..؟

ألا ترى الأكسجين..

وما هذا الأنبوب في يده..؟

إنه غذاء سائل (جلوكوز)..

الحمد لله.. نحن في نعمة عظيمة..

ويعود مع صاحبه إلى بيته.. ويشعر بحقارة الدنيا وما فيها إلا ما كان لله من الأعمال الصالحة.. يحس برغبة في التزود لآخرته.. يقبل على كتاب الله تعالى.. ينهل منه ويقرأه بلهفة وشغف.. وتمر أيام يشعر صاحبه أحمد بأنه تغير.. لم يعد حديثه مثلما كان من قبل عن أمور الدنيا وملهياتها عن الآخرة.. بدا على وجهه أثر الخشوع والسكينة..

أصابه الوجوم عندما علم أن صاحبهما قد وافته منيته.. أدرك أكثر حاجته لزاد التقوى والصلاح بعدما شهد الجنازة وشارك في الدفن..

تذكر تلك الزيارة في المستشفى.. عرف أن في الدنيا مطارق كثيرة توقظ الغافلين اللاهين العابثين.. وحمد الله كثيرا أنه استيقظ قبل فوات الأوان!!

القاصمة

لم يفرح بأحد من أبنائه مثل فرحه بالحبيب الرابع.. حمله بين يديه وأخذ يلاعبه.. بش في وجهه والفرحة بولادته تغمر قلبه..

ما أجمله.. لم أر مثله من قبل..!!

تنظر إليه زوجته..

هل أحببته لهذه الدرجة من أول وهلة..؟!!

إنه ولدي..

وانتقل به للبيت ليغمره بعطفه وحنانه.. وحظيَّ الطفل بمحبة والدته أيضا.. وملك قلبيّ والديه حتى لم يعودا يستطيعان الابتعاد عنه..

صحبهما في كل زيارة ورحلة.. نال من عطفهما ما لم ينله أبناؤهما الآخرون..

وكبر أولادها.. وكبرت المحبة والدلال في قلبيّ الوالدين للابن الأصغر.. كان ذلك يضايق إخوته.. وكان يثير في قلوبهم الغيرة أحيانا..

صار الوالد يفاخر بابنه هذا ويذكر محاسنه ومناقبه في كل مجلس.. كان عندما يتحدث عنه يبدو كأنه ليس له من الولد أحد سواه..

كان يفرح كثيرا أثناء وجود ابنه في المدرسة وعندما يحصل على نتيجة طيبة ودرجة عالية.. بينما يتعامل مع بقية أبنائه ببرود..

أصيب الابن الأصغر بالغرور.. لم يعد يهمه غيرة إخوته وانزعاجهم.. بل أصبح ينظر إلى نفسه نظرة أخرى.. إنه الولد الموهوب.. إنه يستحق التقدير والاحترام.. إنه الذكي بين إخوته.. من مثله؟!.. ومن يستطيع أن يجاريه في الدراسة منهم..؟!!

طغى الكبر على قلبه.. أخذ الغرور يتعاظم في صدره.. طلب من والده شراء سيارة له مع أنه لم يسبق له أن اشترى لأحد من إخوته الكبار أي سيارة..

حسنا يا ولدي.. سأشتري لك أجمل سيارة.. إنك تستحق ذلك.. وبهت الأولاد لسرعة استجابة والدهم له..

لماذا هذا التمييز يا أبي.. ؟!!

إنه يستحق ذلك.. من منكم حصل على نتيجة مثله؟! أم إنها الغيرة تأكل قلوبكم..

ولكننا لسنا فاشلين في حياتنا كما ترى.. ألا نستحق منكما بعض الاهتمام..؟!!

وماذا تريدون أكثر مما قدمت لكم.. علمتكم.. أنفقت عليكم طوال هذه السنين الماضية..

نريد محبة الأبوة وحنان الأمومة.. نريد اهتمام الوالد الكريم وعطف الأم الرحيمة..

بل يريد كل واحد منكم سيارة.. أليس كذلك؟!!

ويصاب الأبناء باليأس.. ويتركا أباهما وشأنه.. وينصرف كل واحد منهم للبحث عن عمل مناسب يسد من ورائه حاجته..

ويكبر الابن الأصغر.. وتكثر مطالبه.. وتتوالى نجاحاته في الدراسة.. ويتخرج من كلية الطب.. وتغمر البيت الفرحة.. ويشارك جميع الأبناء فرحة والديهم وأخيهم بتخرجه.. وتهيج مشاعر الفخر والمحبة في قلبيّ الأبوين..

أنت الآن أملنا يا بني..

حقق ما كنا نحلم به..

ويكبر الغرور أكثر فأكثر.. ينظر الأب لابنه بعين المحبة..

الآن بقي الزواج..

لتكتمل فرحتنا بك يا ولدي..

هذا ما أنتظره.. أريد أجمل فتاة في البلدة..

.. ويبدأ الإعداد للحفل بهاتين المناسبتين.. وتتوافد الجموع لحضور الحفل الضخم.. ويستقبل الوالدان والإخوة الزائرين.. وتمتلئ قاعة الاحتفالات بالناس.. الكل يلتفت يمينا ويسارا يبحث عن العريس..

أين العريس.. أين الطبيب..

وينتظر الجميع حضوره.. ينظر الوالد في ساعته.. يظهر عليه الضجر..

ما باله تأخر..؟!

ينظر إلى أحد أبنائه..

اذهب يا بني وانظر ما الأمر؟!!

ويسرع ابنه لمعرفة الخبر.. يبحث عنه.. وينتظر الوالد.. يطول الانتظار.. يأتي ابنه أخيرا.. يأتي وحده.. يتغير لون وجه أبيه.. يتصبب عرقه..

ماذا بك؟.. ألم تعثر عليه..؟

يجثو الولد على ركبتيه.. تنهمر الدموع من عينيه..

أبي.. لقد مات أخي..!!

ويصاب الوالد بالوجوم.. يشعر كأن الأرض تميد به.. يصيبه الدوار.. يفاجأ بالقاصمة..

ضاعت كل أحلامه.. تحطمت كل آماله.. هلك ابنه بعد انزلاق سيارته في واد سحيق.. والتف الأبناء حول أبيهم يهونوا من ما أصابه..

لا تحزن يا أبي.. فكلنا أبناؤك..

أفأمنوا مكر الله..!!

تمادى في غيه.. لم يعد له قلب يستجيب لنداء الفطرة.. تراكمت الذنوب عليه وغشيه الران.. تبلد حسه حتى غدا كالأنعام لا هم له إلا إشباع غرائزه البهيمية..

لا هم له إلا النساء.. تزوج مرارا وتكرارا.. رسى على امرأة أنجبت له البنين والبنات.. ظنت أنها بهذا ستردعه عن غيه.. ولكنه سرعان ما كان يعود إلى طريق الشيطان..

نفذ ماله.. لم يبق معه شيء.. ماذا سيفعل.. ضاق ذرعا بحاله.. ضاقت عليه الأرض بما رحبت.. لم يعد يجد ما يحقق به نزواته أو يستجيب به لرغباته..

ساءت أخلاقه مع أهله وأبنائه.. خيمت عليهم ظلمات ضلاله..

إلى متى يا أبي؟ ألا تخاف الله؟..

أغلق فمك أيها الغر..

ألا تبحث عن عمل؟..

سأحصل على النقود.. سأحقق كل ما أتمنى.. لن أقف مكتوف اليدين هكذا..

كيف ستحصل على النقود؟.. سترون..

ويهرع إلى أصحابه.. ويطرق الأبواب..

أعطني بعض المال أرجوك.. عيالي جياع.. أنا محتاج.. إني لا أعمل ولا أجد عملا مناسبا أجني منه نقود لعيالي..

لا حول ولا قوة إلا بالله.. خذ هذا المبلغ واستعن به على حوائجك..

شكرا لك.. شكرا لك..

وينتقل إلى آخر.. وينال بعض المال.. ويجمع من هذا وذلك حتى يصبح لديه مبلغ كبير..

يبتسم وهو يعد النقود.

تدخل عليه زوجته..

من أين كل هذا المال..

يجمعه بسرعة ويدخله في كمه..

وما شأنك أنت بهذا؟!!

إننا بحاجة لبعض المال.. أعطنا شيئا ننفقه على العيال..

ومن أخبرك أن هذا المال مالي..؟!!

مال من إذن؟!

لا شأن لك بذلك.. اغربي عن وجهي..

وتتولى المرأة المسكينة منكسرة لا تجد ما يسد رمق أبنائها..

ويسافر زوجها إلى حيث المتعة الحرام.. ويتجول هنا وهناك يمارس الرذيلة ويعيش حياة الإثم والفجور.. وينفق المال كله ويعود..

ويعود لما كان عليه.. يتسول ويجمع المال مرة أخرى.. وتزداد حالة عياله سوءا.. ويسافر مرة أخرى.. ويقضي أوقاته في أوكار الفحش والخنا.. ويتزود من المعاصي والذنوب.. ويعود مكللا بالعار.. وتتكرر سفراته الآثمة مرات ومرات.. ويركب الطائرة متوجها إلى حيث الملاهي والدنس..

يموت قلبه.. يتحول شيطانا من الشياطين..

يلهث وراء الفاجرات.. يستعذب الخنا والذلة للشياطين.. يقع في غرام امرأة.. ينال منها ويعدها بالمال الوفير.. يكرر فعلته الشنعاء.. ينفد المال.. تطالبه بما وعدها به.. يعتذر لها لعدم وجود المال.. تغضب منه ويتغير لونها.. تهدده وتتوعده.. يضربها.. تتركه وتمضي..

يتهيأ للعودة، يجهز حقائبه للسفر.. يتصل بمكتب ليرسل له سيارة لنقله للمطار..

وبينما يستعد للخروج من الفندق يفاجأ بشخص يدخل عليه شاهرا خنجره.. يتراجع للوراء.. يهج عليه بوحشية.. يصرخ ويركن إلى الجدار.. يوجه الرجل خنجره إلى صدره.. يطعنه بقوة.. يصرخ.. يواصل الطعن.. يخر على الأرض والدماء تسيل من جسده بغزارة.. يهرب القاتل..

وتصل الأخبار لأهله.. لم تدمع عيونهم لهذا المصاب.. شعروا براحة بعد ذهاب هذا الكابوس الذي جثم على صدورهم سنين طويلة.. تنهدت زوجته..

إن الله يمهل ولا يهمل.. سبحانه الله!!

عاقبة مدمن

توفي زوجها تاركا لها أبناءه الخمسة –ولدان وثلاث بنات-..

شعرت بثقل الحمل على عاتقها.. تعبت كثيرا في تربيتهم .. قرت عينها عندما رأتهم كبارا..

كانت تتألم لحال ولدها الأصغر.. فقد انحرف عن الجادة .. وسلك سبل الضلال..

آه.. ماذا أفعل له ..

ينظر إليها ابنها الأكبر..

لماذا لا تزوجيه يا أمي.. عسى أن يصلح حاله بالزواج..

إيه يا بني.. إنه فتى طائش.. لا هم له إلا اللهو والعبث..

وأين التي ستقبل به زوجا لها يا بني..؟!!

لابد أن تجديها يا أماه..

وتوافق الأم على الفكرة .. وتعرض الأمر على ولدها الأصغر.. وتقنعه بصعوبة.. وتشرع في البحث عن المرأة المناسبة .. تدخل البيوت لتطلب زوجة لابنها فترد خائبة حسيرة.. تواصل البحث دون كلل.. تُرد مرات ومرات.. تعاود البحث في مشوار طويل.. تصاب بحالة من اليأس.. تدلها جارة لها على بيت في البلدة.. تنهض وتتوجه إليه.. تقف أمام بوابته مترددة..

آه .. هل سيقبل هؤلاء بابني زوجا لابنتهم.. إن فشلت هذه المرة فلن أبحث له بعدها عن زوجة أبدا..

ويتكلل بحثها بالنجاح.. وتخرج والابتسامة على شفتيها..

الحمد لله.. أخيرا حصلت على البنت الصالحة..

ويعلم ابنها بذلك.. يوافق مع عدم المبالاة.. يتهيأ أهل الفتى وأهل الفتاة لاحتفال بالزواج.. يُكتب عقد النكاح.. تنتقل البنت لبيت زوجها.. تعيش معه أياما في سعادة وسرور..

وتمضي أيام الهناء وكأنها ساعات.. وتتغير معاملة الزوج لزوجته شيئا فشيئا.. يتسلل الجفاء للبيت ليباعد بين الزوجين.. تنفسخ عرى المودة بالتدريج.. ينقشع ضباب المحبة.. يدخل عليها في أحد الأيام..

لا تؤاخذيني يا عزيزتي فإني عازم على السفر غدا..

تسافر وحدك..؟! نعم سأسافر وحدي فلدي عمل..

وما هو هذا العمل..؟!

عمل خاص لا شأن لك به..

كيف تقول هذا؟.. يجب أن أعرف أين تذهب..

ينظر إليها بغضب..

ماذا تقولين.. أتظنين أنك ملكتيني بالزواج..

ألست زوجي..؟!

اغربي عن وجهي.. (يضربها على وجهها..)!

تُفاجأ بهذا التحول العجيب.. تضربني وأنا حامل..

لا يأبه بما تقول.. يتركها ويولي خارج البيت.. يسافر في اليوم التالي مع أصدقائه.. يعود لسابق عهده من اللهو والعبث وارتكاب المحرمات..

تشعر زوجته بالضيق.. تخبر أهلها بما حدث.. يشعر أهلها بالهوان.. ينصحها والدها ويوصيها بالصبر..

أخبرت أمه بحاله..

صبرا يا ابنتي.. لعله إن رأي ولده يتغير حاله..

وتلد زوجته ولدا.. ويعلم بذلك.. ويقبل عليها ويعود إليها أياما.. ثم سرعان ما يحن لعاداته الخبيثة.. يزور بعض رفاق السوء.. يزينون له الباطل.. يسحبه التيار ليعاود ممارسة أعماله الخبيثة..

وتمر الأيام والزوجة صابرة مصابرة.. تحاول ثنيه عن غيه.. توجه له النصائح والمواعظ.. تسعى وتجتهد في إصلاحه دون جدوى..

تلد له طفلا آخر.. تأمل أن يردعه ذلك عما هو فيه من ضلال.. تذكره بولديه دون فائدة..

ويمضي مع شياطين الإنس.. وتنتقل زوجته لبيت أهلها.. يحاول إرجاعها فتشترط عليه الابتعاد عن رفاق السوء والإقلاع عن شرب الخمر.. يوافق على شروطها.. تعود للمنزل.. تمر أيام ثم يعود لسابق عهده من جديد.. تطلب منه الطلاق.. يضجر ويولي مبتعدا عن البيت.. يسافر مع رفاقه مرة أخرى.. تنتظره أمه.. وتنتظره زوجته .. وينتظره جميع أقاربه.. طالت غيبته هذه المرة..

ترى ما الذي حدث له..!

لابد أنه وقع في مأزق..! ربما أصابه مكروه..!

ويرن جرس الهاتف.. ترفع الأم السماعة..

من؟!.. ماذا؟.. نعم إنه ولدي .. ماذا حدث له.. لا .. لا .. تبكي بمرارة وتضع السماعة.. تصرخ زوجته..

ماذا حصل له..؟ إنه في المستشفى.. ماذا أصابه؟!

أصيب بالمرض الخبيث.. إنه يعاني من سكرات الموت..

ويقضي نحبه في المستشفى بعد صراع مع المرض.. وتشهد العائلة خاتمته السيئة.. ويهمس الابن الأكبر في أذن أمه..

لا تحزني يا أمي فقد أزاح الله عنا همه، وأراحنا من شره..


الخاتمـة

وتظل الأيام تحمل لنا مثل هذه الأحداث المليئة بالعبر.. ويتناقل الناس مثل هذه الأخبار وتتردد على ألسنتهم مرارا وتكرارا.. ولكن من منهم الذي يتعظ ويعتبر ويبتعد عن طريق الهوى والضلال..

]وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[ [الذاريات: 55].

هم المؤمنون وحدهم الذين يتعظون ويعتبرون بالوقائع البشرة المتكررة..

من منا من يتردد على المقابر لينظر أحوال أهلها، ويتفكر في مآل أصحابها..؟ ومن منا من ينهض ويمضي إلى المستشفى لينظر حال من نزل فيها وحل ضيفا على أطبائها، وغدا أصبح من ساكنيها..؟

ومن منا من يسأل عن السجون ومن قبع وراء قضبانها وأسباب ذلك..؟

إن الحياة مليئة بالدروس والعبر.. وكل يوم يمر يحمل معه سجلا حافلا وأحداثا جساما أكثر الناس عنها غافلون..

نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من الغافلين.. وأن يعصمنا من الوقوع في شرك الشياطين من الإنس والجن.. وأن يهدينا سبل السلام.. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...