Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج1وج2.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

ج1وج2.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي 
الجزء الأول
خطبة الكتاب
الفصل الأول
في فضل الأدب وأهله، وذم الجهل وحملهقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفاً أنه يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه من ليس من أهله، وكفى بالجهل خمولاً، أنه يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه.
فنظم بعض المحدثين ذلك، فقال:
كفَى شَرَفاً لِلْعِلْمِ دَعْوَاهُ جَاهِلٌ ... وَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى إِلْيهِ وَيُنْسَبُ
وَيَكْفِي خُمُولاً بِالْجَهالَةِ أَنَّنِي ... أُرَاعُ مَتَى أُنْسَبْ إلَيْهَا وَأَغْضَبُ
وقال رضي الله عنه: قيمة كل إنسان ما يحسن، فنظمه شاعر وقال:
لاَ يَكُونُ الْفَصِيحُ مِثْلَ الْعَيَيِّ ... لاَ وَلاَ ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ
قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ الْمَرْ ... ءُ قَضَاءٌ مِنَ الإمَامِ عَليِّ
وقال كرم الله وجهه: كل شيء يعز إذا نزر، ما خلا العلم، فإنه يعز إذا غزر.
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم، فقالوا: إنا قوم " متعلمين " ، فأعرض مغضباً، وقال: والله لخطؤكم في لسانكم، أشد علي من خطئكم في رميكم.
سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " رحم الله امرأ أصلح من لسانه " .
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ: " ونادوا يا مال ليقض علينا ربك أنكر عليه ابن عباس. فقال علي: هذا من الترخيم في النداء فقال. ابن عباس: ما أشغل أهل النار في النار عن الترخيم في النداء؟ فقال علي: صدقت.
فهذا يدل على تحقق الصحابة من النحو، وعلمهم به.
استأذن رجل على إبراهيم النخعي فقال: " أبا " عمران في الدار، فلم يجبه. فقال: أبي عمران في الدار، فناداه: قل الثالثة وادخل.
وكان الحسن بن أبي الحسن يعثر لسانه بشيء من اللحن فيقول: استغفر الله. فقيل له فيه: فقال: من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءاً، وقال الله تعالى: " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً " .
وذكر أبو حيان في كتاب محاضرات العلماء: حدثنا القاضي أبو حامد أحمد بن بشر قال: كان الفراء يوماً عند محمد ابن الحسن، فتذاكرا في الفقه والنحو، ففضل الفراء النحو على الفقه، وفضل محمد بن الحسن الفقه على النحو، حتى قال الفراء: قل رجل أنعم النظر في العربية، وأراد علماً غيره، إلا سهل عليه، فقال محمد بن الحسن: يا أبا زكريا، قد أنعمت النظر في العربية، وأسألك عن باب من الفقه. فقال: هات على بركة الله تعالى، فقال له: ما تقول في رجل صلى فسها في صلاته، وسجد سجدتي السهو، فسها فيهما، فتفكر الفراء ساعة، ثم قال: لا شيء عليه. فقال له محمد: لِمَ؟ قال: لأن التصغير عندنا ليس له تصغير، وإنما سجدتا السهو تمام الصلاة، وليس للتمام تمام. فقال محمد بن الحسن: ما ظننت أن آدمياً يلد مثلك.
وحكي عن بعض الفقهاء أنه كان يقول: حب من الناس حب من الله، وما صلح دين إلا بحياء، ولا حياء إلا بعقل، وما صلح حياء، ولا دين، ولا عقل، إلا بأدب.
وأنشد أبو الفضل الرياشي:
طَلَبْتُ يَوْماً مَثَلاً سَائِراً ... فَكُنْتُ فِي الشِّعْرِ لَهُ نَاظِمَا
لاَ خَيْرَ فِي الْمَرْءِ إذَا مَا غَدَا ... لا طالب العلم ولا عالما
وفي الخبر: " ارحموا ثلاثة، عزيز قوم ذل. وغني قوم افتقر، وعالماً يلعب الجهال بعلمه " .
فنظمه شاعر فقال:
إنِّي مِنَ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ حَقْهُمْ ... أَنْ يُرْحَمُوا لِحَوَادِثِ الأَزْمَانِ
مثرٍ أقل وعالم مستجهل، وعزيز قوم ذل للحدثان.
ويقال: فقدان الأديب الطبع، كفقدان ذي النجدة السلاح، ولا محصول لأحدهما دون الآخر. وقال:
نِعْمَ عَوْنُ الْفَتَى إِذَا طَلَبَ الْعِلْ ... مَ وَرَامَ الآدَابَ صِحَّةُ طَبْعِ
فَإذا الطَّبْعُ فَاتَهُ بَطَلَ السَّعْ ... يُ وَصَارَ الْعَنَاءُ فِي غَيْرِ نَفْعٍ
ومما يقارب ذلك قول بعضهم:
مَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ وَلَمْ يَكُ ذَا غِنىً ... يَكُونُ كَذِي رِجْلٍ وَلَيْسَ لَهُ نَعْلُ

وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَلَمْ يَكُ ذَا حِجىًيَكُونُ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ
وقال آخر:
أَرَى الْعِلْمَ نُوراً وَالتَّأَدُّبَ حِلْيَةًفَخُذْ مِنْهُمَا فِي رَغْبَةٍ بِنَصِيبِ
وَلَيْسَ يَتِمُّ الْعِلْمُ فِي النَّاسِ لِلْفَتَىإذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِهِ بِأَدِيبِ
وأنشد أبو حاتم سهل بن يحيى السجستاني:
إِنَّ الْجَوَاهِرَ دُرَّهَا وَنُضَارَهَا ... هُنَّ الْفِدَاءُ لِجَوْهَرِ الآدَابِ
فَإِذَا اكْتَنَزْتَ أَوِ ادَّخَرْتَ ذَخِيرَةً ... تَسْمُو بِزِينَتِهَا عَلَى الأَصْحَابِ
فَعَلَيْكَ بِالأَدَبِ الْمُزَيِّنِ أَهْلَهُ ... كَيْمَا تَفُوزَ بِبَهْجَةٍ وَثَوَابِ
فَلَرُبَّ ذِي مَالٍ تَرَاهُ مُبَعَّداً ... كَالْكَلْبِ يَنْبَحُ مِن وَرَاءِ حِجَابِ
وَتَرَى الأَدِيبَ وَإِنْ دَهَتْهُ خَصَاصَةٌ ... لاَ يُسْتَخَفُّ بِهِ لَدَى الأَتْرَابِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَا وَهَبَ اللهُ لامْرِئ هِبَةً ... أَحْسَنَ مِنْ عَقْلِهِ وَمِنْ أَدَبِهْ
هُمَا جَمَالُ الْفَتَى فَإنْ فُقِدَا ... فَفَقْدُهُ لِلْحَيَاةِ أَجْمَلُ بِهْ
وحدث أبو صالح الهروي قال: كان عبد الله بن المبارك يقول: أنفقت في الحديث أربعين ألفاً، وفي الأدب ستين ألفاً، وليت ما أنفقته في الحديث أنفقته في الأدب، قيل له: كيف؟ قال: لأن النصارى كفروا بتشديدة واحدة خففوها، قال تعالى: يا عيسى إني ولَّدتك من عذراء بتول. فقالت النصارى: ولدتك.
شاعر:
ولَمْ أَرَ عَقْلاً صَحَّ إلاَّ بِشيمَةٍ ... وَلَمْ أَرَ عِلْماً صَحَّ إلاَّ عَلَى أَدَبْ
وقال آخر:
لِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ زِينَةٌ ... وَزِينَةُ الْعَالِمِ حُسْنُ الأَدَبْ
قَدْ يَشْرُفُ الْمَرءُ بِآدَابِهِ ... فِينَا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ
وقال آخر:
مَنْ كَانَ مُفْتَخِراً بِالْمَالِ وَالنَّسَبِفَإِنَّمَا فَخْرُنَا بِالْعِلْمِ وَالأَدَبِ
لاَ خَيْرَ فِي رَجُلٍ حُرٍّ بِلاَ أدَبٍلاَ، لاَ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوباً إلَى العَرَبِ
قالوا: والفرق بين الأديب والعالم، أن الأديب من يأخذ من كل شيء أحسنه فيألفه. والعالم من يقصد بفن من العلم فيعتمله. ولذلك قال علي كرم الله وجهه: العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه. شاعر:
ذَخَائِرُ الْمَالِ لاَ تَبْقَى عَلَى أَحَدٍوَالْعِلْمُ تَذْخَرُهُ يَبْقَى عَلَى الأَبَدِ
وَالْمَرْءُ يَبْلُغُ بِالآدَابِ مَنْزِلَةًيَذِلُّ فِيهَا لَهُ ذُو الْمَالِ وَالْعُقَدِ
وحدث سفيان قال: سمعت الخليل بن أحمد يقول: إذا أردت أن تعلم العلم لنفسك، فاجمع من كل شيء شيئاً، وإذا أردت أن تكون رأساً في العلم، فعليك بطريق واحد، ولذلك قال الشعبي: ما غلبني إلا ذو فن.
شاعر:
لاَ فَقْرَ أَكْبَرُ مِنْ فَقْرٍ بِلاَ أَدَبٍلَيْسَ الْيَسَارُ بِجَمْعِ الْمَالِ وَالنَّشَبِ
مَا الْمَالُ إلاَّ جُزَازَاتٌ مُلَفَّقَةٌ ... فِيهَا عُيُونٌ مِنَ الأَشْعَارِ وَالْخُطَبِ
ويقال: من أراد السيادة، فعليه بأربع: العلم، والأدب، والعفة، والأمانة.
شاعر:
كمْ مِنْ خَسِيسٍ وَضِيعِ الْقَدْرِ لَيْسَ لَهُفِي الْعِزِّ أَصْلٌ وَلاَ يُنْمَى إلى حَسَبِ
قد صار بالأدب المحمود ذا شرف ... عال وذا حسب محض وذا نسب
وقال بزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعاً، وبعد صوته وإن كان خاملاً، وساد وإن كان غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيراً.
ويقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الحضر، وجليس في الوحدة، وجمال في المحافل، وسبب إلى طلب الحاجة.
ويقال: مروءتان ظاهرتان: الفصاحة والرياش.
وكلم شبيب بن شيبة رجلاً من قريش، فلم يحمد أدبه، فقال له يا ابن أخي: الأدب الصالح خير لك من الشرف المضاعف، وقال:
وكم من ماجد أضحى عديماً ... له حسن، وليس له بيان
وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن اللسان

وقال أبو نواس: ما استكثر أحد من شيء إلا مله وثقل عليه، إلا الأدب، فإنه كلما استكثر منه، كان أشهى له، وأخف عليه.
وقال: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة.
ويقال: الأديب نسيب الأديب: قال أبو تمام:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نسري ونغدو في إخاء تالد
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد
وقال ابن السكيت: خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب، وتشتهيه الآذان وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من أخبار الناس، وأقاويلهم وأحاديثهم، ولا تولعن بالغث منها.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قيل لمنذر بن واصل: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم مثل ما تنعمت الأذان، قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها، وليس لها غيره، قيل: وكيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على بلوغ لذته في المال.
قال الأصمعي: قال لي أعرابي: ما حرفتك؟ قلت: الأدب، قال: نعم الشيء، فعليك به، فإنه ينزل المملوك في حد الملوك.
وقال أرسطاطاليس: ليت شعري: أي شيء فات من أدرك الأدب، وأي شيء أدرك من فاته الأدب؟؟.
وقال البحتري:
رأيت القعود على الاقتصاد ... قنوعاً به ذلة في العباد
وعز بذي أدب أن يضيق ... بعيشته وسع هذي البلاد
إذا ما الأديب ارتضى بالخمول ... فما الحظ في الأدب المستفاد
وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العربية، فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة.
وقال عبد الملك: ما الناس إلى شيء من العلوم أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم، التي بها يتحاورون الكلام، ويتهادون الحكم، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرق منها، إن الكلام قاض يجمع بين الخصوم، وضياء يجلو الظلام، وحاجة الناس إلى مواده، كحاجتهم إلى مواد الأغذية.
وقال الزهري: ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من تعلم النحو.
وقال شاعر يصف النحو:
اقتبس النحو فنعم المقتبس ... والنحو زين وجمال ملتمس
صاحبه مكرم حيث جلس ... من فاته فقد تعمى وانتكس
كأن ما فيه من العي خرس ... شتان ما بين الحمار والفرس
وقال آخر:
لولا كم كان يلفى كل ذي خطل ... للنحو مدعياً بين النحارير
لم لا أشد على من لا يقوم بها ... من وقعة السمر والبيض المآثير
قرع رجل على الحسن البصري الباب وقال: يا أبو سعيد، فلم يجبه، فقال: أبي سعيد، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل. (وقد مر مثل هذا) وحدث النضر بن شميل، قال: أخبرنا الخليل ابن أحمد، قال: سمعت أيوب السجستاني يحدث بحديث فلحن فيه، فقال: أستغفر الله: يعني أنه عد اللحن ذنباً.
وكا ابن سيرين يسمع الحديث ملحوناً، فيحدث به على لحنه، وبلغ ذلك الأعمش، فقال: إن كان ابن سيرين يلحن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فقومه. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أولاده على اللحن، ولا يضربهم على الخطأ. ووجد في كتاب عامل له لحناً، فأحضره وضربه درة واحدة. ودخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون فقال: العجب، يلحنون ويربحون؟؟ وكان معاوية بن بجير عامل البصرة لا يلحن، فمات بجير بالبصرة، ومعاوية بفارس خليفة أبيه، فقال الفيج الذي جاء بنعيه: مات بجيراً، فقال له: لحنت لا أم لك. فقال أخوه عبد الله بن بجير:
ألم تر أن خير بني بجير ... معاوية المحقق ما ظننتنا
أتاه مخبر ينعى بجيراً ... علانية فقال له لحنتا
وقال الجاحظ: عيوب المنطق التصحيف، وسوء التأويل، والخطأ في الترجمة، فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف، والتثقيل، ومن قبل الإعراب، ومن تشابه صور الحروف. وسوء التأويل: من الأسماء المتواطئة أي أنك تجد اسماً لمعان، فتتأول على غير المراد. وكذلك سوء الترجمة.

واعلم أن مذاكرة العلم عون على أدائه، وزيادة في الفهم، ولابد للعالم من جهل، أي أن يجهل كثيراً مما يسأل عنه، إما لأنه ما سمعه أو نسيه. وقد قال بعض الفرس: ليس يحسن الأشياء كلها إنسان، ولكن يحسن كل إنسان شيئاً. ومن الأدب قول القائل:
إذا ما روى الراوي حديثاً فلا تقل ... سمعنا بهذا قبل أن يتمما
ولكن تسمع للحديث موهماً ... بأنك لم تسمعه فيما تقدما
وقال الأصمعي: من حق من يقبسك علماً أن ترويه عنه.
قال أبو عمرو بن العلاء: إنما سمي النحوي نحوياً، لأنه يحرف الكلام إلى وجوه الإعراب.
واللحن مخالفة الإعراب، واللحن على جهة أخرى أن يكلم الرجل صاحبه بالكلام يعرفانه بينهما، ولا يعرفه سواهما، وأنشد ابن الكلبي لمالك ابن أسماء:
منطق صائب، وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحاً
أمغط مني على بصرى بالسح ... ب أم أنت أكمل الناس حسنا
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان لحناً أي فطناً، وفي حديث أبي الزناد أن رجلاً قرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرشدوا صاحبكم. وحدث أبو العيناء عن وهب ابن جرير أنه قال لفتى من باهلة يا بني: اطلب النحو فإنك لن تعلم منه باباً إلا تدرعت من الجمال سربالاً، وفي حديث سعيد بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن " . وعن ابن شهاب أنه قال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من تعلم الفصاحة. وحدث يحيى بن عتيق قال سألت الحسن: فقلت يا أبا سعيد الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته، قال حسن: يا بني فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها. وعن سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فبهرني هيبة وجمالاً فلما لحن خف في عيني، وعن الشعبي، قال حلي الرجال العربية، وحلي النساء الشحم.
وحدث التاريخي بإسناد رفعه إلى سلمة بن قتيبة قال: كنت عند ابن هبيرة الأكبر، قال: فجرى الحديث حتى ذكر العربية فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد، وحسبهما واحد، ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن إن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن. قال: فقلت أصلح الله الأمير، هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته، أرأيت الآخرة ما باله فضل فيها، قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، والذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه، ويخرج منه ما هو فيه، قال: قلت صدق الأمير وبر.
وحدّث عن أبي ثوابة عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه، قال: تكلم أبو جعفر المنصور في مجلس فيه أعرابي فلحن فصر الأعرابي أذنيه، فلحن مرة أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابي: أف لهذا، ما هذا؟. ثم تكلم فلحن الثالثة، فقال الأعرابي: أشهد لقد وليت هذا الأمر بقضاء وقدر، وحدث بإسناد رفعه إلى الواقدي قال: صلى رجل من آل الزبير، خلف أبي جعفر المنصور وقرأ، " ألهاكم التكاثر " . فلحن في موضعين قال: فلما سلم التفت الزبيري إلى رجل كان إلى جانبه فقال: ما كان أهون هذا القرشي على أهله. وقال بعض الشعراء:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء نعظمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عندي مقيم الألسن
وقال آخر:
إما تريني وأثوابي مقاربة ... نيست بخز ولا من حر كتان
فإن في المجد هماتي وفي لغتي ... علوية ولساني غير لحان
وحدث قال: قدم طاهر بن الحسين، والعباس بن محمد ابن موسى على الكوفة، فزاره طساسيج من سوادها. فوجه العباس كاتبه إليه، فلما دخل على طاهر. قال له: أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام، قال. وما أنت منه؟ قال كاتبه الذي يطعمه الخبز قال نعم، علي بعيسى بن عبد الرحمن، قال. فجاء، وكان عيسى كاتب طاهر، فقال. اكتب وأنت قائم بصرف العباس بن محمد بن موسى عن الكوفة، إذ لم يتخذ كاتباً يحسن الأداء عنه.

وحدث فيما أسنده إلى الضحاك بن زمل السكسكي، وكان من أصحاب المنصور قال: كنا مع سليمان بن عبد الملك بدابق، إذ قام إليه السحاح الأزدي الموصلي، فقال يا أمير المؤمنين: إن أبينا هلك وترك مال كثير، فوثب أخانا على مال أبانا فأخذه، فقال سليمان: فلا رحم الله أباك ولا نيح عظام أخيك، ولا بارك الله لك فيما ورثت، أخرجوا هذا اللحان عني. فأخذ بيده بعض الشاكرية وقال: قم فقد آذيت أمير المؤمنين، فقال: وهذا العاض بظر أمه اسحبوا برجله. وحدث قال: قال رجل للحسن يا أبا سعيد: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن ترك أباه وأخاه!! فقال له فما لأباه وأخاه.؟ فقال له الحسن إنما هو فما لأبيه وأخيه قال: يقول الرجل للحسن يا أبا سعيد. ما أشد خلافك علي، قال: أنت أشد خلافاً علي، أدعوك إلى الصواب، وتدعوني إلى الخطأ؟ وحدث فيما رفعه إلى عبد الله بن المبارك قال: بعث الحجاج إلى والي البصرة أن اختر لي عشرة ممن عندك، فاختار رجالاً منهم كثير بن أبي كثير، قال: وكان رجلاً عربياً، قال كثير: فقلت في نفسي لا أفلت من الحجاج إلا باللحن، قال: فلما أدخلنا عليه، دعاني فقال: ما اسمك؟ قلت كثير، قال ابن من؟ فقلت إن قلتها بالواو، لم آمن أن يتجاوزها، قال: أنا ابن أبا كثير فقال: عليك لعنة الله، وعلى من بعث بك، جيئوا في قفاه، قال فأخرجت. وحدث فيما أسنده إلى الأصمعي، قال: سمعت مولى لعمر بن الخطاب يقول: أخذ عبد الملك ابن مروان رجلاً كان يرى رأى الخوارج رأي شبيب، فقال له: ألست القائل؟:
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
قال: إنما قلت أمير المؤمنين، أي يا أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيله. قال التاريخي: حدثنا أبو بكر الدولابي، حدثنا أبو مسهر قال: سألت سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن الحديث إذا سمعته ملحوناً، فقال: اللحن يفسد الحديث، وذلك أنه يغير معناه، ولم يلق أحد من العلماء إلا مقوم اللسان، قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز أشد الناس في اللحن على ولده وخاصته ورعيته، وربما أدب عليه. قال: وقال نافع مولى ابن عمر: كان ابن عمر يضرب ولده على اللحن، كما يضربهم على تعليم القرآن. وحدث فيما أسنده إلى شريك عن جابر قال: قلت للشعبي. أسمع الحديث بغير إعراب فأعربه؟ قال نعم، لا بأس به، قال: قال حماد ابن سلمة: مثل الذي يكتب الحديث ولا يعرف النحو، مثل الحمار عليه مخلاته ولا شعير فيها. وروى عن الشعبي أنه قال: لأن أقرأ وأسقط أحب إلي من أقرأ وألحن، وقال محمد بن الليث: النحو في الأدب، كالملح في الطعام، فكما لا يطيب الطعام إلا بالملح، لا يصلح الأدب إلا بالنحو، وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: تعلموا العلم شهراً، والأدب شهرين. وقال رجل لبنيه: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة، يحتاج أن يتجمل فيها، فيستعير من أخيه دابة ومن صديقه ثوباً، ولا يجد من يعيره لساناً: لما قال الفرزدق.
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
قال بعض الحاضرين: أعز وأطول من ماذا؟ فتفكر الفرزدق، فوافق ذلك قول المؤذن في الآذان، الله أكبر، فرفع الفرزدق رأسه فقال: يا فلان أكبر من ماذا؟ وقال الخطفي جد جرير:
عجبت لإزراء العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
وحدث عن الأصمعي أنه قال: أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " لأنه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه، ولحنت فقد كذبت عليه.
فصل ثان
في فضيلة علم الأخبار

قال أبو الحسن علي بن الحسين قالوا: لولا تقييد العلماء خواطرهم بالأخبار، وكتبهم للآثار، لبطل أول العلم، وضاع آخره، إذ كان كل علم من الأخبار يستخرج، وكل حكمة منها تستنبط، والفقر منها تشتار، والفصاحة منها تستفاد، وأصحاب القياس عليها يبنون، وأهل المقالات بها يحتجون، ومعرفة الناس منها تؤخذ، وأمثال الحكماء فيها توجد، ومكارم الأخلاق ومعاليها منها تقتبس، وآداب سياسة الملك والحزم منها تلتمس، فكل غريبة بها تعرف، وكل عجيبة منها تستطرف، وهو علم يستمتع بسماعه العالم، ويستعذب موقعه الأحمق، والعاقل يأنس مكانه، وينزع إليه الخاصي والعامي، ويميل إلى روايته العربي والعجمي، " وبعد " فإنه يوصل به إلى كلام، ويتزين به في كل مقام، ويتجمل به في كل مشهد ويحتاج إليه في كل محفل، ففضيلة علم الأخبار تتيه على كل علم، وشرف منزلته صحيحة في كل فهم، فلا يصبر على علمه، ويتقن ما فيه من إيراده وإصداره، إلا إنسان قد تجرد للعلم وفهم معناه، وذاق ثمرته، واستشعر من عزه، ونال من سروره. وقديماً قيل: إن علم النسب والأخبار من علوم الملوك، وذوي الأخطار، ولا تسمو إليه إلا النفوس الشريفة، ولا يأباه إلا العقول السخيفة، وقد قالت الحكماء: الكتاب نعم الجليس والذخر، إن شئت ألهتك بوادره، وأضحكتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، وإن شئت تعجبت من غرائب فوائده، وهو يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والغائب والحاضر، والشكل وخلافه، والجنس وضده، وهو ميت ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء، وهو مؤنس ينشط بنشاطك، وينام بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، ولا يعلم جار ولا خليط أنصف، ولا رفيق أطوع، ولا معلم أخضع، ولا صاحب أظهر كفاية، ولا أقل جناية، ولا أبدأ نفعاً، ولا أحمد أخلاقاً، ولا أدوم سروراً، ولا أسلم غيبة، ولا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أخف مؤة منه، إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأكثر علمك، وتعرف منه في شهر، ما لا تعرف من أفواه الرجال في دهر، يغنيك عن كد الطالب، وعن الخضوع إلى من أنت أثبت منه أصلاً، وأرسخ منه فرعاً، وهو المعلم الذي لا يجفوك، وإن قطعت عنه المادة، لم يقطع عنك الفائدة، وكان عبيد الله ابن محمد ابن عائشة القرشي يقول: الأخبار تصلح للدين والدنيا. قلنا: الدنيا قد عرفنا فما للآخرة؟ قال: فيها العبر، يعتبرها الرجل. وقال الله تعالى مخبراً عن قصة يوسف وإخوته. " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " . وقال تعالى: " ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " . وقال عز وجل: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق " . ولذلك قال بعضهم لولده: عليك بالأخبار، فإنها لا تعدم كلمة على هدى، وأخرى تنهى عن ردى، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان. وكان أبو زيد الأنصاري لا يعدو النحو، فقال له خلف الأحمر. قد ألححت على النحو لم تعده، ولقلما ينبل متفرد به، فعليك بالأخبار والأشعار. وقال ابن المقفع في كتابه في الأدب، " ثم انظر الأخبار الرائعة فتحفظ منها، فإن من شأن الإنسان الحرص على الأخبار، ولاسيما ما يرتاح له الناس، وأكثر الناس من يحدث بما يسمع، ولا يبالي ممن سمع، وذلك مفسدة للصدق، ومزراة بالرأي، فإن استطعت ألا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق، وألا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل " .
قال الأخفش علي بن سليمان: أنشدني أبو سعيد السكري:
وذكرني حلو الزمان وطيبه ... مجالس قوم يملئون المجالسا
حديثاً وأشعاراً وفقهاً وحكمة ... وبراً ومعروفاً وإلفاً مؤانسا

وقال ابن عتاب: يكون الرجل نحوياً عروضياً حسن الكتاب، جيد الحساب، حافظاً للقرآن راوية للشعر، وهو راض بأن يعلم أولادنا بستين درهماً. ولو أن رجلاً كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم. لأن النحوي ليس عنده إمتاع كالنجار الذي يدعى ليغلق باباً، فلو كان أحذق الناس، ثم فرغ من تغليق ذلك الباب، قيل له انصرف، وصاحب الإمتاع يراد في الحالات كلها. وقال معاوية: ليس ينبغي (للقرشي وللرجل) أن يستغرق شيئاً من العلم إلا علم الأخبار، فأما غير ذلك فالنتف والشذر. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، انظر لي رجلاً عالماً بالحلال والحرام، عارفاً بأشعار العرب وأخبارها، أستأنس به وأصيب عنده معرفة، فوجهه إلى من قبلك. فوجه إليه الشعبي، وكان أجمع أهل زمانه، قال الشعبي: فلم ألق والياً ولا سوقة إلا وهو يحتاج إلي، ولا أحتاج إليه ما خلا عبد الملك، ما أنشدته شعراً، ولا حدثته حديثاً، إلا وهو يزيدني فيه، وكنت ربما حدثته وفي يده اللقمة فأمسكها، فأقول: يا أمير المؤمنين أسغ طعامك، فإن الحديث من ورائه، فيقول: ما تحدثني به أوقع بقلبي من كل لذة، وأحلى من كل فائدة. وكتب عبد الملك إلى الحجاج: أت عندي كقدح ابن مقبل، فلم يدر الحجاج ما عنى، فسأل قتيبة بن مسلم، وكان راوية عالماً عن ذلك، فقال: قد مدحك، فإن ابن مقبل نعت قدحه فقال:
مفدى مؤدى باليدين ملعن ... خليع قداح فائز متمنح
خروج من الغمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكفة تلمح
قال: فكانت في نفس الحجاج حتى ولاه خراسان، وقال محمد بن عبد الملك الزيات في رجل خلو من الأدب:
يا أيها العائبي ولم تر بي ... عيباً ألا تتهي وتزدجر؟
هل لك وتر لدي تطلبه ... أم لست مما أتيت تعتذر؟
إن كان قسم الإله فضلني ... وأنت صلد ما فيك معتصر
فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التراب والحجر
اقرأ لنا سورة تخوفنا ... فإن خير المواعظ السور
أو ارو فقهاً تحيي القلوب به ... جاء به عن نبينا أثر
أو هات ما الحكم في فرائضنا؟ ... ما يستحق الإناث والذكر؟
أو ارو عن فارس لنا مثلاً ... فإن أمثال فارس عبر
أو من أحاديث جاهليتنا ... فإنها عبرة ومعتبر
أو هات كيف الإعراب في الرفع والخف ... ض وكيف التصريف والصدر؟
أو ارو شعراً أو صف لا عرضاً ... يتلى صحيح منه ومنكسر
إذا جهلت الآداب مرتقياً ... عنها وخلت العمى هو البصر
ولم تعوض من ذاك ميسرة ... عليك منها لبهجة أثر
فغن صوتاً تلهي الفؤاد به ... وكل ما قد جهلت مغتفر
تعيش فينا ولا تلائمنا ... فاذهب ودعنا حتام تنتظر؟
تغلي علينا الأشعار أنى؟ وما ... عندك نفع يرجى ولا ضرر
همك في مرتع ومغتبق ... كما يعيش الحمير والبقر
باب الألف
آدم بن أحمد بن أسد الهرويأبو سعد النحوي اللغوي، حاذق مناظر، ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني، فقال: هو من أهل هراة سكن بلخ، كان أديباً فاضلاً عالماً بأصول اللغة صائباً، حسن السيرة، قدم بغداد حاجاً سنة عشرين وخمسمائة، ومات في الخامس والعشرين من شوال من سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ولما ورد بغداد اجتمع إليه أهل العلم، وقرءوا عليه الحديث والأدب، وجرى بينه وبين الشيخ أبي منصور موهوب ابن أحمد بن الخضر الجواليقي ببغداد مناظرة في شيء اختلفا فيه، فقال له الهروي: أنت لا تحسن أن تنسب نفسك فإن الجواليقي نسبة إلى الجمع، والنسبة إلى الجمع بلفظه لا تصح قال: وهذا الذي ذكره الهروي نوع مغالطة، فإن لفظ الجمع إذا سمي به جاز أن ينسب إليه بلفظه، كمدائني ومعافري وأنماري وما أشبه ذلك.

قال مؤلف هذا الكتاب: وهذا الاعتذار ليس بالقوي، لأن الجواليق ليس باسم رجل فيصح ما ذكره، وإنما هو نسبة إلى بائع ذلك والله أعلم. فإن كان اسم رجل أو قبيلة أو موضع نسب إليه صح ما ذكره. وقال الحافظ الإمام السمعاني: سمعت أبا القاسم الطريفي يقول: سمعت أبا سعد الهروي المؤدب يقول: سئل سفيان الثوري عن التقوى فأنشد:
إني وجدت فلا تظنوا غيره ... هذا التورع عند ذاك الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته ... فاعلم بأن هناك تقوى المسلم
وكان الرشيد محمد بن عبد الجليل الملقب بالوطواط كاتب الإنشاء لخوارزم شاه من تلاميذ الشيخ أبي سعد آدم بن أحمد الهروي، وانتقل الرشيد من بلخ إلى خوارزم، وأقام بها في خدمة خوارزم شاه أشهراً، وكان يكاتب الشيخ أبا سعد ويخضع له، ويقر بفضله..فمما كتب إليه، رسالة نسختها.
كتابي وفي الأحشاء وجد على وجد ... إلى الصدر مولانا الأجل أبي سعد
أشم طويل الباع أصبح رافعاً ... إلى قمة الأفلاك ألوية المجد
سراة بني الإسلام عقد جواهر ... وفيهم أبو سعد كواسطة العقد
سقى الله أيامنا بالعقيق ودهورنا باللوى، وأعوامنا بالخليصاء، وشهورنا بالحمى، فإن هذه المغاني لألفاظ المسرات كالمعاني، فيها أثمار أطايب الأماني، من أشجار وصال الغواني لا بل سقى مواقفنا ببلخ في المدرسة النظامية واجتماعنا في المجالس الأجلية الإمامية
مجالس مولانا أبي سعد الذي ... به سعد الأيام والدين والدنيا
همام حوى يوم الفخار بنانه ... على رغم آناف العدا قصب العليا
الإمام أبو سعد، وما أدراك ما الإمام أبو سعد، سعد كله، خير قوله وفعله، صاحب جيوش الفصاحة، ومالك رقاب البلاغة، وناظم عقد المحامد، وجامع شمل المكارم، وناشر أردية الفضل والكرم، وعامر أبنية الأدب والحكم:
لله در إمام كله أدب ... بفضله يتحلى العجم والعرب
الله يعلم أني وإن شط المزار، وشحطت الديار، لا أقطع أكثر أوقاتي، ولا أزجي أغلب ساعاتي، إلا في مدح معاليه، وشرح أياديه لو أنفقت جميع عمري في ذلك وسلكت طول دهري تلك المسالك:
لما كنت أقضي بعض واجب حقه ... ولا كنت أحصي من صنائعه عشراً
وكيف لا أبالغ في ثنائه، ولا أواظب على دعائه، وهو الذي رفع قدري، وشرح للآداب صدري، وسقاني كؤوس العلم وأحشائي صادية، وكساني حلل الفضل وعوراتي بادية، اغترفت من بحاره واقتطفت ما اقتطفت من ثماره:
وأنت الذي عرفتني طرق العلا ... وأنت الذي هديتني كل مقصد
وأنت الذي بلغتني كل رتبة ... مشيت إليها فوق أعناق حسدي
عبد مجلسه الشريف أخي عمر أيده الله ورد من خراسان ذاكراً لما يجري على لسانه الكريم في المجالس والمحافل، بين أيدي الأكابر والأماثل، من مدحي وثنائي، وتقريظي وإطرائي، فما استبدعت ذلك من خصائص كرمه، ولا استغربته من لطائف شيمه، وكانت كلماته حاملة إياي على هذا التصديع، لمجلسه الرفيع، ورأيه في سحب ذيل العفو على هذا التجاسر وتبليغ تحيتي إلى القارئين عليه، والمختلفين إليه من أبناء جنسي، وشركاء درسي يقتضي الشرف والسلام.
أبان بن تغلب بن رياح الجريريأبو سعيد البكري، مولى بني جرير بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. في مصنفي الإمامية، ومات أبان في سنة إحدى وأربعين ومائة.
قال أبو جعفر: هو ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي أبا محمد علي بن الحسين، وأبا جعفر، وأبا عبد الله عليهم السلام، وروى عنهم، وكانت له عندهم حظوة وقدم، قال له أبو جعفر: اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك. وقال أبو عبد الله لما أتاه نعيه: أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان.

قال: وكان قارئاً فقيهاً لغوياً نبيهاً ثبتاً وسمع من العرب وحكى عنهم، وصنف كتاب الغريب في القرآن، وذكر شواهده من الشعر، فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي، فجمع من كتاب أبان ومحمد بن السائب الكلبي وابن روق عطية بن الحارث فجعله كتاباً، فيما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه، فتارةً يجيء كتاب أبان مفرداً، وتارة يجيء مشتركاً، على ما عمله عبد الرحمن، ولأبان أيضاً كتاب الفضائل.
.
أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريااللؤلؤي يعرف بالأحمر البجلي، أبو عبد الله مولاهم ذكره أبو جعفر الطوسي في كتاب أخبار مصنفي الإمامية، وقال أصله الكوفة، وكان يسكنها تارة، والبصرة أخرى، وقد أخذ عنه من أهل البصرة أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام: روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن موسى بن جعفر، وما عرف من مصنفاته إلا كتاب جمع فيه المبدأ والمبعث، والمغازي، والوفاة، والسقيفة والردة.
إبراهيم بن أحمد بن محمد توزونالطبري النحوي، أحد أهل الفضل والأدب، سكن بغداد، وصحب أبا عمرو الزاهد، وكتب عنه كتاب الياقوتة، وعلى النسخة التي بخطه الاعتماد من كتاب أبي عمرو كما ذكرناه في ترجمة أبي عمرو، ولقي أكابر العلماء من هذه الطبقة، وكان صحيح النقل، جيد الخط والضبط.
ذكر أبو القاسم بن الثلاج: أنه حدثه عن إبراهيم بن عبد الوهاب الأبزاري الطبري صاحب أبي حاتم السجستاني: لا أعرف له تصنيفاً غير جمعه لشعر أبي نواس، فإنها رواية مشهورة بأيدي الناس.
وقال أبو القاسم التنوخي: حدثني أبو الحسن الطبري، غلام الزاهد غلام ثعلب، وكان منقطعاً إلى بني حمدان، وقرأت بخطه قصيدة شبل بن عروة الضبعي، وقد قرأها على أبي عمر الزاهد، وتناولها من أبي محمد عبد الله بن جعفر ابن درستويه. وقد قرأ عليه إلى: " سيباً من حر سئل " ، ثم قال: بلغت بقراءتي إلى ههنا، وقال لي ابن درستويه: قد دفعت إليك كتابي بخطي، من يدي إلى يدك، وقد أجزت لك القصيدة فاروها عني، فإن هذا ينوب عن السماع والقراءة، فقبلت ذلك منه.
وكتب إبراهيم بن محمد الطبري الروياني بخطه: والاعتماد عليه أولى، ولكن الخطيب قال: إبراهيم بن أحمد ابن محمد المعروف ببيروز، فإن كان نسب نفسه إلى جده فذاك، والله أعلم.
إبراهيم بن أحمد بن الليثالأزدي اللغوي الكاتب، لا أعرف من حاله إلا ما قاله السلفي. أنشدني أبو القاسم الحسن بن الفتح الهمذاني قال: أبو المظفر إبراهيم بن أحمد ابن الليث الأزدي اللغوي الكاتب قدم علينا همذان، وقد حضر مجلسه الأدباء والنحاة لمحله من الأدب:
وقد أغدو وصاحبتي محوص ... على عذراء ناء بها الرهيص
كأن ثني النحوص على ذراها ... حوائم ما لها عنه محيص
إبراهيم بن إسحاق الحربينقلت من كتاب أبي بكر الخطيب قال: إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله بن ديسم، أبو إسحاق الحربي، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وثمانين ومائتين في ذي الحجة، ودفن في بيته في شارع باب الأنبار، وكان الجمع كثيراً جداً.
وكان قد سمع أبا نعيم الفضل بن دكين، وعفان ابن مسلم، وعبيد الله بن محمد بن عائشة، وأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة، وعبيد الله القواريري، وخلقاً من أمثالهم، روى عنه موسى بن هرون الحافظ، ويحيى بن صاعد، وأبو بكر بن أبي داود والحسين المحاملي، ومحمد بن مخلد، وأبو بكر الأنباري النحوي، وأبو عمر الزاهد صاحبه، وخلق كثير غيرهم. وكان إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام حافظاً للحديث، مميزاً لعلله، قيماً بالأدب، جماعاً للغة، وصنف كتباً كثيرة، منها: كتاب غريب الحديث.

وأصله من مرو، وكان يقول: أمي تغلبية، وأخوالي نصارى أكثرهم. وقيل: لم سميت إبراهيم الحربي؟ فقال: صحبت قوماً من الحربية فسموني الحربي بذلك. وحدث أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان المعروف بابن أسد، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: أجمع عقلاء الأمة أنه من لم يجر مع القدر، لم يهنأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظف قميص، وإزاري أوسخ إزار، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط، وفرد عقبى مقطوع، وفرد عقبي الآخر صحيح، أمشي بهما، وأدور بغداد كلها، هذا الجانب، وذاك الجانب، لا أحدث نفسي أني أصلحهما، وما شكوت إلى أمي، ولا إلى أختي، ولا إلى امرأتي، ولا إلى بناتي قط حمى وجدتها. الرجل هو الذي يدخل غمه على نفسه، ولا يغم عياله.
كان بي شقيقة خمساً وأربعين سنة، ما أخبرت بها أحداً قط، ولي عشر سنين أبصر بفرد عين، ما أخبرت به أحداً، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي أكلته، وإلا بقيت جائعاً عطشان إلى الليلة الأخرى، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كان برنياً، أو نيفاً وعشرين إن كان دقلاً، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف، ودخلت الحمام واشتريت لهم صابوناً بدانقين، فقام بقية شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانيق ونصف، ولا تزوجت ولا زوجت قط، ولا أكلت من شيء واحد في يوم مرتين.
وحدث أحمد بن سليمان القطيعي قال: أضقت إضاقة شديدة، فمضيت إلى إبراهيم الحربي لأبثه ما أنا فيه، فقال لي: لا يضق صدرك، فإن الله من وراء المعونة، وإني أضقت مرة حتى انتهى أمري في الإضاقة إلى عدم عيالي القوت، فقالت لي الزوجة: هب أني وإياك نصبر، فكيف تصنع بهاتين الصبيتين؟ فهات شيئاً من كتبك نبيعه أو نرهنه، فضنت بذلك وقلت: اقترضي لهما شيئاً، وأنظريني بقية اليوم والليلة، وكان لي بيت في دهليز داري فيه كتبي فكنت أجلس فيه للنسخ والنظر، فلما كان في تلك الليلة، إذا داق يدق الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: رجل من الجيران، فقلت ادخل فقال أطف السراج حتى أدخل، فكببت على السراج شيئاً وقلت ادخل فدخل وترك إلى جابي شيئاً وانصرف فكشفت عن السراج، فنظرت فإذا منديل له قيمة، وفيه أنواع من الطعام، وكاغد فيه خمسمائة درهم، فدعوت الزوجة وقلت: نبهي الصبيا حتى يأكلوا، ولما كان من الغد قضينا ديناً كان عليا من تلك الدراهم.
وكان مجيء الحاج من خراسان، فجلست على بابي من غد تلك الليلة، وإذا جمال يقود جملين عليهما حملان ورقاً، وهو يسأل عن منزل إبراهيم الحربي، فانتهى إلي فقلت: أنا إبراهيم الحربي، فحط الحملين وقال: هذان الحملان أنفدهما لك رجل من أهل خراسان، فقلت من هو؟ فقال قد استحلفني ألا أقول لك من هو؟.
وحدث أبو عثمان الرازي قال: جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة آلاف درهم من عند المعتضد يسأله عن أمير المؤمنين أن يفرق ذلك، فرده وانصرف الرسول، ثم عاد فقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في جيرانك، فقال له: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها بتفرقته، قل لأمير المؤمنين: إن تركتنا، وإلا تحولنا من جوارك.
وحدث أبو القاسم الجيلي قال: اعتل إبراهيم بن إسحاق الحربي علة حتى أشرف على الموت، فدخلت عليه يوماً فقال: يا أبا القاسم، أنا في أمر عظيم مع ابنتي، ثم قال لها قومي واخرجي إلى عمك، فخرجت وألقت على وجهها خمارها، فقال إبراهيم: هذا عمك كلميه، فقالت لي يا عم: نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، الشهر والدهر ما لنا طعام إلا كسر يابسة وملح، وربما عدمنا الملح، وبالأمس قد وجه إلينا المعتضد مع بدر بألف دينار فلم يأخذها، ووجه إليه فلان وفلان، فلم يأخذ منها شيئاً وهو عليل، فالتفت الحربي إليها وتبسم وقال: يا بنية، خفت الفقر؟ فقالت نعم، فقال لها: انظري إلى تلك الراوية، فنظرت فإذا كتب، فقال لها: هناك اثنا عشر ألف جزء، لغة وغريب، كتبته بخطي، إذا مت فوجهي في كل يوم بجزء تبيعينه بدرهم، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم فليس هو فقيراً.
وحدث أبو عمر الزاهد وابن المنادى: سمعت ثعلباً يقول: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة أو نحو خمسين سنة.

وحدث أبو بكر الشافعي قال: قال إبراهيم الحربي: ما أخذت على علم قط أجراً إلا مرة واحدة، فإني وقفت على بقال فوزنت له قيراطاً إلا فلساً، فسألني عن مسألة فأجبته، فقال للغلام: أعط بقيراط ولا تنقصه شيئاً فزادني فلساً. وحدث إبراهيم الحربي، وقد سألوه عن حديث عباس البقال فقال: خرجت إلى الكبش ووزنت لعباس البقال دانقاً إلا فلساً فقال لي يا أبا إسحاق: حدثني حديثاً في السخاء، فلعل الله يشرح صدري فأعمل شيئاً، قال قلت له نعم: روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه كان ماراً في بعض حيطان المدينة، فرأى أسود بيده رغيف يأكل لقمة، ويطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن: ما حملك على أن شاطرته؟ فلم تغابنه فيه بشيء، فقال: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه، فقال له الحسن: أقسمت عليك لا برحت حتى أعود إليك، فمر فاشترى الغلام والحائط، وجاء إلى الغلام فقال: يا غلام، قد اشتريتك، فقام قائماً، فقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي، قال: وقد اشتريت الحائط، وأنت حر لوجه الله تعالى، والحائط هبة مني إليك، فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني له: قال إبراهيم: فقال عباس البقال: حسن والله يا أبا إسحاق. يا غلام: لأبي إسحاق دانق إلا فلساً، أعطه بدانق ما يريد ولا تقصه شيئاً فقلت: والله لا أخذت إلا بدانق إلا فلساً.
وحدث عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كان أبي يقول لي: امض إلى إبراهيم الحربي يلق عليك الفرائض، قال: ولما مات سعد بن أحمد بن حنبل، جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله، فقام إليه عبد الله، فقال: تقوم إلي؟ فقال: لم لا أقوم إليك؟ والله لو رآك أبي لقام إليك، قال والله لو رأى ابن عيينة أباك لقام إليه، وقال إبراهيم الحربي: إن في كتاب غريب الحديث الذي صنفه أبو عبيد ثلاثة وخمسين حديثاً ليس لها أصل، وقد أعلمت علتها في كتاب الشروي، منها: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها مناجذ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس السراويلات المخرفجة، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم أهل قاهة، وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أمرت بهذا البيت فسفروا، عن النبي أنه قال للنساء: إذا جعتن خجلتن، وإذا شبعتن دقعتن. وحدث أبو العباس بن مسروق قال: قال لي إبراهيم الحربي: لا تحدث فتسخن عينك، كما سخنت عيني، قلت له فما أعمل؟ قال تطأطيء رأسك وتسكت، قلت له فأنت لم تحدث؟ قال: ليس وجهي من خشب. وحدث محمد بن عبد الله الكاتب قال: كنت يوماً عند المبرد فأنشدنا:
جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فليعجب الناس مني أن لي بدناً ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن
ثم قال: ما أظن أن الشعراء قالوا أحسن من هذا. قلت: ولا قول الأخرق؟ قال هيه قلت الذي يقول:
فارقتكم وحييت بعدكم ... ما هكذا كان الذي يجب
فالآن ألقى الناس معتذراً ... من أن أعيش وأنتم غيب
قال ولا هذا: قلت ولا قول خالد الكاتب؟
روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
قال ولا هذا. قلت: أنت إذا هويت شيئاً ملت إليه ولم تعدل إلى غيره، قال: لا ولكنه الحق، فأنيت ثعلباً فأخبرته فقال ثعلب: ألا أنشدته:
غابوا فصار الجسم من بعدهم ... ما تنظر العين له فيا
بأي وجه أتلقاهم ... إذا رأوني بعدهم حياً؟
يا خجلتي منهم ومن قولهم ... ما ضرك الفقد لنا شيا
قال: وأتيت إبراهيم الحربي فأخبرته فقال: ألا أنشدته:
يا حيائي ممن أحب إذا ما ... قلت بعد الفراق إني حييت
لو صدقت الهوى حبيباً على الصح ... ة لما نأى لكنت أموت
قال: فرجعت إلى المبرد فقال: أستغفر الله إلا هذي البيتين، يعني بيتي إبراهيم.
قال: وأنشد رجل إبراهيم قول الشاعر:
أنكرت ذلي فأي شيء ... أحسن من ذلة المحب
أليس شوقي وفيض دمعي ... وضعف جسمي شهود حبي؟
فقال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات. قال: وأنشد بعضهم لإبراهيم الحربي:
إثنان إذا عدا ... فخير لهما الموت

فقير ما له زهد ... وأعمى ما له صوت
وروى عن إبراهيم الحربي أنه قال: ما أنشدت شيئاً من الشعر قط إلا قرأت بعده " قل هو الله أحد، ثلاث مرات " .
وحدث الطوماري قال: دخلت على إبراهيم الحربي وهو مريض، وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب، وكان يجيء إليه ويعالجه، وردت الجارية الماء وقالت: مات الطبيب، فقال:
إذا مات المعالج من سقام ... فيوشك للمعالج أن يموتا
ودخل عليه قوم يعودونه فقالوا: كيف نجدك يا أبا إسحاق؟ قال أجدني كما قال:
دب في السقام سفلاً وعلواً ... وأراني أذوب عضواً فعضوا
بليت جدتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
قال أبو الحسن الدار قطني: إبراهيم الحربي ثقة، وكان إماماً يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، وهو إمام مصنف عالم بكل شيء، بارع في كل علم صدوق، وذكر وفاته كما تقدم، هذا آخر ما نقلته من تاريخ الخطيب. نقلت من خط الإمام الحافظ أبي نصر عبد الرحيم بن وهبان صديقنا ومفيدنا، قال: نقلت من خط أبي بكر محمد بن منصور السمعاني، سمعت أبا المعالي ثابت بن بندار البقال يقول: حكى لنا البرقاني " رحمه الله " قال: كان إسماعيل بن إسحاق القاضي يشتهي رؤية إبراهيم الحربي، وكان إبراهيم لا يدخل عليه، يقول: لا أدخل داراً عليها بواب، فأخبر إسماعيل بذلك، فقال: أنا أدع بابي كباب الجامع فجاء إبراهيم إليه، فلما دخل عليه خلع نعليه، فأخذ أبو عمر محمد بن يوسف القاضي نعليه ولفهما في منديل دبيقي وجعله في كمه وجرى بينهما علم كثير، فلما قام إبراهيم التمس نعليه فأخرج أبو عمر النعل من كمه، فقال له إبراهيم: غفر الله لك كما أكرمت العلم، فلما مات أبو عمر القاضي رئي في المنام، فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال أجيبت في دعوة إبراهيم الحربي، رحمه الله.
وحدثني صديقا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمود بن النجار حرسه الله قال: حدثني أبو بكر أحمد ابن سعيد بن أحمد الصباغ الأصبهاني بها قال:

حدثنا أحمد بن عمر بن الفضل الحافظ الأصبهاني، ويعرف بجنك إملاء، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد المقري، يعني أبا علي الحداد قال: أظنه عن أبي نعيم، أنه كان يحضر في مجلس إبراهيم الحربي جماعة من الشبان للقراءة عليه، ففقد أحدهم أياماً، فسأل عنه من حضر، فقالوا: هو مشغول، فسكت، ثم سألهم مرة أخرى في يوم آخر، فأجابوه بمثل ذلك، وكان الشاب قد ابتلي بمحبة شخص شغله عن حضور مجلسه، وعظموا إبراهيم الحربي أن يخبروه بجلية الحال، فلما تكرر السؤال عنه، وهم لا يزيدونه على أنه مشغول، قال لهم: يا قوم، إن كان مريضاً فقوموا بنا لعيادته، أو مديوناً اجتهدنا في مساعدته، أو محبوساً سعينا في خلاصه، فخبروني عن جلية حاله، فقالوا: نجلك عن ذلك، فقال لابد أن تخبروني، فقالوا إنه قد ابتلي بعشق صبي، فوجم إبراهيم ساعة ثم قال: هذا الصبي الذي ابتلي بعشقه مليح أو قبيح؟ فعجب القوم من سؤاله عن مثل ذلك مع جلالته في أنفسهم، وقالوا: أيها الشيخ، مثلك يسأل عن مثل هذا؟ فقال: إنه بلغني أن الإنسان إذا ابتلي بمحبة صورة قبيحة كان بلاء يجب الاستعاذة من مثله، وإن كان مليحاً كان ابتلاء يجب الصبر عليه، واحتمال المشقة فيه، قال فعجبنا مما أتى به، قلت: هذه الحكاية مع الإسناد، حدثنيه مفاوضة بحلب، ولم يكن أصله معه فكتبته بالمعنى، واللفظ يزيد وينقص. ومن مصنفات إبراهيم الحربي. كتاب سجود القرآن، كتاب مناسك الحج، كتاب الهدايا والسنة فيها، كتاب الحمام وآدابه. والذي خرج من تفسيره لغريب الحديث، مسند أبي بكر رضي الله عنه، مسند عمر رضي الله عنه، مسند عثمان رضي الله عنه، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مسند الزبير رضي الله عنه مسند طلحة رضي الله عنه مسند سعد ابن أبي وقاص، مسند عبد الرحمن بن عوف، مسند العباس رضي الله عنه مسند شيبة بن عثمان رضي الله عنه مسند عبد الله بن جعفر مسند المسور بن مخرمة رضي الله عنه، مسند المطلب ابن ربيعة، مسند السائب، مسند خالد ابن الوليد، مسند أبي عبيدة بن الجراح، مسند ما روى عن معاوية، مسند ما روي عن عاصم بن عمر، مسند صفوان بن أمية، مسند جبلة بن هبيرة، مسند عمرو ابن العاص، مسند عمران بن الحصين، مسند حكيم بن حزام، مسند عبد الله بن زمعة، مسند عبد الرحمن بن سمرة، مسند عبد الله بن عمرو، مسند عبد الله بن عمر.
إبراهيم بن إسحاق الأديباللغوي أبو إسحاق الضرير البارع، سمع الحديث بالبصرة والأهواز وببغداد، بعد الأربعين والثلاثمائة، وكان من الشعراء المجودين، طاف بعض الدنيا، ثم استوطن نيسابور، إلى أن مات بها في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، (وكان من الشعراء المجودين)، وممن تعلم الفقه والكلام قال ذلك كله الحاكم. ولقيه وروى عنه شيئاً.
إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد اللهالطرابلسي، يعرف بابن الأجدابي، وأجدابية من نواحي أفريقية. له أدب، وحفظ، ولغة، وتصانيف، ومن مشاهيرها: كتاب كفاية المتحفظ، صغير الحجم، كثير النفع، وكتاب الأنواء.
إبراهيم بن السري بن سهلأبو إسحاق النحوي قال الخطيب: كان من أهل الدين والفضل، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، وله مصنفات حسان في الأدب، مات في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
وحكى ابن مهذب في تاريخه. حدثني الشيخ أبو العلاء المعري أنه سمع عنه ببغداد، أنه لما حضرته الوفاة سئل عن سنه، فعقد لهم سبعين، وآخر ما سمع منه: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل: وأبو إسحاق هو أستاذ أبي علي الفارسي.

قال الخطيب بإسناده، قال أبو محمد عبد الله بن درستويه النحوي: حدثني الزجاج قال: كنت أخرط الزجاج فاشتهيت النحو، فلزمت المبردلتعلمه، وكان لا يعلم مجاناً ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها، فقال لي: أي شيء صناعتك؟ قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك كل يوم درهماً، وأشرط لك أن أعطيك إياه أبداً، إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه، قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره مع ذلك وأعطيه الدرهم، فينصحني في العلم، حتى استقللت، فجاء كتاب بعض بني مارقة من الصراة يلتمسون معلماً نحوياً لأولادهم، فقلت له أسمني لهم، فأسماني، فخرجت فكنت أعلمهم وأنفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهماً، وأزيده بعد ذلك بما أقدر عليه، ومضت مدة على ذلك، فطلب منه عبيد الله بن سليمان مؤدباً لابنه القاسم، فقال له: لا أعرف لك إلا رجلاً بالصراة مع بني مارقة، قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنزلهم عني، فنزلوا له، فأحضرني وأسلم القاسم إلي، فكان ذلك سبب غنائي، وكنت أعطي المبرد ذلك الدرهم في كل يوم إلى أن مات، ولا أخليه من التفقد بحسب طاقتي، قال فكنت أقول للقاسم بن عبيد الله: إن بلغك الله مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي؟ فيقول: ماذا أحببت؟ فأقول له: تعطينني عشرين ألف دينار، وكانت غاية أمنيتي، فما مضت سنون حتى ولي القاسم الوزارة، وأنا على ملازمتي له، وصرت نديمه، فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد، ثم هبته، فلما كان في اليوم الثالث من وزارته قال لي: يا أبا إسحاق، لم أرك أذكرتني بالنذر، فقلت: عولت على رعاية الوزير أيده الله، وأنه لا يحتاج إلى إذكار بنذر عليه في أمر خادم واجب الحق، فقال لي: إنه المعتضد، ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد، ولكني أخاف أن يصير لي معه حديث، فاسمح بأخذه متفرقاً، فقلت يا سيدي أفعل، فقال: اجلس للناس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار واستجعل عليها، ولا تمتنع عن مسألتي شيئاً تخاطب فيه، صحيحاً كان أو محالاً، إلى أن يحصل لك مال النذر، قال: ففعلت ذلك، وكنت أعرض عليه كل يوم رقاعاً، فيوقع لي فيها، وربما قال لي: كم ضمن لك على هذا؟ فأقول كذا وكذا، فيقول لي غبنت، هذا يساوي كذا وكذا إرجع فاستزد، فأراجع القوم، فلا أزال أماكسهم ويزيدوني، حتى أبلغ الحد الذي رسمه، قال وعرضت عليه شيئاً عظيماً، فحصلت عندي عشرون ألف دينار، وأكثر منها في مديدة، فقال لي بعد شهور يا أبا إسحاق، حصل مال النذر؟ فقلت لا، فسكت، وكنت أعرض عليه فيسألني في كل شهر ونحوه حصل المال؟ فأقول لا، خوفاً من انقطاع الكسب إلى أن حصل لي ضعف ذلك المال.
وسألني يوماً فاستحييت من الكذب المتصل، فقلت قد حصل ذلك ببركة الوزير، فقال فرجت والله عني، فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل لك، قال ثم أخذ الدواة فوقع إلى خزانه بثلاثة آلاف دينار صلة فأخذتها، وامتنعت أن أعرض عليه شيئاً، ولم أدر كيف أقع منه؟ فلما كان من الغد جئته وجلست على رسمي فأومأ إلى أن هات ما معك، يستدعي مني الرقاع على الرسم، فقلت ما أخذت من أحد رقعة، لأن النذر وقع الوفاء به، ولم أدر كيف أقع من الوزير؟ فقال يا سبحان الله! أتراني أقطع عنك شيئاً قد صار لك عادة؟ وعلم به الناس، وصارت لك به منزلة عندهم وجاه، وغدو ورواح إلى بابك، ولا يعلم سبب انقطاعه، فيظن ذلك لضعف جاهك عندي، أو تغير رتبتك عندي، اعرض علي رسمك، وخذ بلا حساب، فقبلت يده، وباكرته من غد بالرقاع، فكنت أعرض عليه كل يوم شيئاً إلى أن مات وقد تأثلت حالي هذه.
وحدث أبو علي الفارسي النحوي قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجاج على القاسم بن عبيد الله الوزير، فورد عليه خادم وساره بشيء استبشر له، ثم تقدم إلى شيخنا أبي إسحاق بالمكوث إلى أن يعود، ثم نهض فلم يكن بأسرع من أن عاد وفي وجهه أثر الوجوم، فسأله شيخنا عن ذلك، لأنس كان بينه وبينه، فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لإحدى المغنيات، فسمتها أن تبيعني إياها فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها أن تهديها إلي، رجاء أن أضاعف لها ثمنها، فلما وردت أعلمني الخادم بذلك، فنهضت مستبشراً لأفتضها، فوجدتها قد حاضت، فكان مني ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه وكتب:

فارس ماض بحربته ... حاذق بالطعن في الظلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بدم
قال: وجرى بين الزجاج وبين المعروف بمسيند، وكان من أهل العلم تنمر، فاتصل ونسجه إبليس وألحمه، حتى خرج إبراهيم بن السري إلى حد الشتم، فكتب إليه مسيند:
أبي الزجاج إلا شتم عرضي ... لينفعه فأثمه وضره
وأقسم صادقاً ما كان حر ... ليطلق لفظة في شتم حره
ولو أني كررت لفر مني ... ولكن للمنون علي كره
فأصبح قد وقاه الله شري ... ليوم لا وقاه الله شره
فلما اتصل هذا الشعر بالزجاج قصده راجلاً حتى اعتذر إليه وسأله الصفح. كل هذا من تاريخ الخطيب إبراهيم.
أنبأنا يزيد بن الحسن الكندي عن أبي منصور الجواليقي عن المبارك الصيرفي، عن علي بن أحمد بن الدهان، عن عبد السلام بن حسن البصري، قال: كتب إلينا أبو الحسن علي بن محمد الشمشاطي من الموصل قال: قال أبو إسحاق بن السري الزجاج رحمه الله، دخلت على أبي العباس ثعلب رحمه الله، في أيام أبي العباس محمد بن يزيد المبرد وقد أملى شيئاً من المقتضب، فسلمت عليه وعنده أبو موسى الحامض، وكان يحسدني شديداً، ويجاهرني بالعداوة، وكنت ألين له وأحتمله لموضع الشيخوخة، فقال لي أبو العباس: قد حمل إلي بعض ما أملاه هذا الخلدي، فرأيته لا يطوع لسانه بعبارة، فقلت له إنه لا يشك في حسن عبارته اثنان، ولكن سوء رأيك فيه يعيبه عندك، فقال: ما رأيته إلا ألكن متغلقاً، فقال أبو موسى: والله إن صاحبكم ألكن يعني سيبويه، فأحفظني ذلك، ثم قال: بلغني عن الفراء أنه قال: دخلت البصرة فلقيت يونس وأصحابه، فسمعتهم يذكرونه بالحفظ والدراية وحسن الفطنة، فأتيته فإذا هو أعجم لا يفصح، سمعته يقول لجارية له: هات ذيك الماء من ذاك الجرة، فخرجت من عنده ولم أعد إليه، فقلت له: هذا لا يصح عن الفراء، وأنت غير مأمون في هذه الحكاية، ولا يعرف أصحاب سيبويه من هذا شيئاً، وكيف تقول هذا لمن يقول في أول كتابه: هذا باب علم ما الكلم من العربية؟ وهذا يعجز عن إدراك فهمه كثير من الفصحاء، فضلاً عن النطق به: فقال ثعلب: قد وجدت في كتابه نحواً من هذا، قلت: ما هو؟ قال يقول في كتابه في غير نسخة: حاشا حرف يخفض ما بعده كما تخفض حتى، وفيها معنى الاستثناء، فقلت له: هذا كذا في كتابه، وهو صحيح، ذهب في التذكير إلى الحرف، وفي التأنيث إلى الكلمة، قال: والأجود أن يحمل الكلام على وجه واحد، قلت: كل جيد، قال الله تعالى: " ومن يقنت منكن لله ورسوله ويعمل صالحاً " . وقرئ وتعمل صالحاً. وقال عز وجل: " ومنهم من يستمعون إليك " ذهب إلى المعنى، ثم قال: " ومنهم من ينظر إليك " ذهب إلى اللفظ، وليس لقائل أن يقول: لو حمل الكلام على وجه واحد في الاثنين كان أجود، لأن كلا جيد، فأما نحن فلا نذكر حدود الفراء، لأن صوابه فيه أكثر من أن يعد، ولكن هذا أنت: عملت كتاب الفصيح للمبتدئ المتعلم، وهو عشرون ورقة، أخطأت في عشرة مواضع منه قال لي اذكرها، قلت له نعم، قلت وهو عرق النسا، ولا يقال عرق النسا، كما لا يقال عرق الأبهر، ولا عرق الأكحل.
قال امرؤ القيس:
فأنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألا تنتصر
وقلت: حلمت في النوم أحلم حلماً، ليس بمصدر، وإنما هو اسم، قال الله تعالى: " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " وإذا كان للشيء مصدر واسم، لم يوضع الاسم موضع المصدر، ألا ترى أنك تقول: حسبت الشيء أحسبه حسباً وحساباً، والحسب المصدر، والحساب الاسم، ولو قلت ما بلغ الحسب إليك ورفعت الحسب إليك لم يجز، وأنت تريد ورفعت الحساب إليك، وقلت: رجل عزب، وامرأة عزبة، وهذا خطأ، إنما يقال رجل عزب، وامرأة عزب، لأنه مصدر وصف به فلا يجمع ولا يثنى، ولا يؤنث، كما يقال رجل خصم وامرأة خصم، وقد أتيت بباب من هذا النوع في الكتاب، وأفردت هذا منه، قال الشاعر:
يا من يدل عزباً على عزب

وقالت كسرى بكسر الكاف وهذا خطأ، إنما هو كسرى، والدليل على ذلك أنا وإياكم لا نختلف في النسب إلى كسرى، يقال كسروي بفتح الكاف، وليس هذا مما يغير بالنسب لبعده منها، ألاترى أنك لو نسبت إلى معزى لقلت معزوي، وإلى درهم قلت درهمي ولا يقال معزوي ولا درهمي، وقلت: وعدت الرجل خيراً وشراً، فإذا لم تذكر الشر قلت أوعدته بكذا، نقضاً لما أصلت، لأنك قلت بكذا، وقولك بكذا كناية عن الشر، والصواب أن تقول إذا لم تذكر الشر قلت أوعدته، وقلت: وهم المطوعة، وإنما هم المطوعة، بتشديد الطاء كما قال الله تعالى: " يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات " فقال ما قلت إلا المطوعة، فقلت: هكذا قرأته عليك، وقرأه غيري وأنا حاضر أسمع مراراً. وقلت هو لرشدة وزنية، كما هو لغية، والباب فيها واحد، لأنه إنما يريد المرة الواحدة، ومصادر الثلاثي إذا أردت المرة الواحدة لم تختلف، تقول ضربته ضربة، وجلست جلسة وركبت ركبة، لا اختلاف في ذلك بين أحد من النحويين، وإنما تكسر من ذلك ما كان هيئة حال، فتصفها بالحسن والقبح وغيرهما، فتقول: هو حسن الجلسة والسيرة والركبة، وليس هذا من ذلك. وقلت: أسنمة للبلدة، ورواه الأصمعي بضم الهمزة أسنمة، فقال: ما روى ابن الأعرابي وأصحابنا إلا أسنمة، فقلت قد علمت أنت أن الأصمعي أضبط لما يحكى، وأوثق فيما يروى، وقلت: إذا عز أخوك فهن، والكلام فهن، وهو من هان يهين إذا لان، ومنه قيل هين لين، لأن هن من هان يهون من الهوان، والعرب لا تأمر بذلك، ولا معنى لهذا الكلام يصح لو قالته العرب، ومعنى عز ليس من العزة التي هي المنعة والقدرة، وإنما هو من قولك عز الشيء إذا اشتد، ومعنى الكلام: إذا صعب أخوك واشتد فذل من الذل له، ولا معنى للذل ههنا، كما تقول إذا صعب أخوك فلن له، قال فما قرئ عليه كتاب الفصيح بعد ذلك علمي، ثم بلغني أنه سئم ذلك، فأنكر كتاب الفصيح أن يكون له.
قال المؤلف: وهذه المآخذ التي أخذها الزجاج على ثعلب لم يسلم إليه العلماء باللغة فيها، وقد ألفوا تآليف في الانتصار لثعلب يضيق هذا المختصر عن ذكرها.
وحدث الزجاج قال: أنشدنا أبو العباس المبرد:
في انقباض وحشمة فإذا ... رأيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وجئت ما جئت غير محتشم
قال عبيد الله الفقير: وهذان البيتان يرويان لمحمد بن كناسة، وقد رواهما آخرون لأبي نواس، قال الزجاج: فقلت له: أليس يقول الأصمعي الحشمة الغضب؟ والحشمة الاستحياء، لأن الغضب والاستحياء جميعاً نقصان في النفس، وانحطاط عن الكمال، فلذلك كان مخرجهما واحداً، قال: فقلت له: أليس الحياء محموداً، والغضب مذموماً؟؟ وقد روي أن الحياء شعبة من الإيمان، وقد قيل: إذا لم تستح فافعل ما تشاء، فقال: الحياء محمود في الدين، وفي اجتناب المحارم، وفي الإفضال، وأما في ترك الحقوق، والنكوص عن الخصوم عند الحجاج، فهو نقصان في النفس.
قال أبو العباس: وسمعت المازني يقول: معنى قولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت أي إذا صنعت ما لا تستحي من مثله فاصنع ما شئت، وليس على ما يذهب إليه العوام، وهذا تأويل حسن.

قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب الموازنة: كان الزجاج يزعم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف وإن نقص حروف إحداهما عن حروف الأخرى فإن إحداهما مشتقة من الأخرى، فيقول الرجل مشتق من الرجل، والثور إنما يسمى ثوراً لأنه يثير الأرض، والثوب إنما سمي ثوباً لأنه ثاب لباساً بعد أن كان غزلاً، حسيبه الله، كذا قال، قال: وزعم أن القرنان إنما سمى قرناناً لأنه مطيق لفجور امرأته، كالثور القرنان أي المطيق لحمل قرنه، وفي القرآن " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين قال: وحكى يحيى بن علي بن يحيى المنجم، أنه سأله بحضرة عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم، من أي شيء اشتق الجرجير؟ قال لأن الريح تجرجره، قال وما معنى تجرجره؟ قال تجرره، قال ومن هذا قيل للحبل الجرير، لأنه يجر على الأرض، قال: والجرة لم سميت جرة؟ قال: لأنها تجر على الأرض، فقال لو جرت على الأرض لانكسرت، قال: فالمجرة لم سميت مجرة؟ قال لأن الله جرها في السماء جراً، قال: فالجرجور الذي هو اسم المائة من الإبل لم سميت به؟ قال: لأنها تجر بالأزمة وتقاد، قال: فالفصيل المجر، الذي يشق طرف لسانه، لئلا يرتضع أمه، ما قولك فيه؟ قال لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه، قال فإن جروا أذنيه فقطعوه تسميه مجراً؟ قال لا يجوز ذلك، فقال يحيى بن علي: قد نقضت العلة التي أتيت بها على نفسك، ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حس له، قال حمزة: وشهدت ابن العلاف الشاعر وعنده من يحكي عن كتاب الزجاج أشياء من شنيع الاشتقاق الذي فيه، ثم قال إني حضرته وقد سئل عن اشتقاق القصة، قال لأنها تقصع الجوع أي تكسره، قال ابن العلاف يلزمه أن يقول: الخضض مشتق من الخضيض. والعصفر مشتق من العصفور، والدب مشتق من الدب، والعذب من الشراب مشتق من العذاب، والخريف من الخروف، والعقل مشتق من العاقول، والحلم مشتق من الحلمة، والإقليم مشتق من القلم، والخنفساء من الفساء، والخنثى من الأنثى، والمخنث من المؤنث، ضرط إبليس على ذا من أدب.
وقال ابن بشران: كان أبو إسحاق الزجاج ينزل بالجانب الغربي من بغداد، في الموضع المعروف بالدويرة، وأنشدت له:
قعودي لا يرد الرزق عني ... ولا يدنيه إن لم يقض شي
قعدت فقد أتاني في قعودي ... وسرت فعافني والسير لي
فلما أن رأيت القصد أدنى ... إلى رشدي وأن الحرص غي
تركت لمدلج دلج الليالي ... ولي ظل أعيش به وفي

حدث أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي البصري قال: لما مات أبو العباس أحمد بن يحيى بكى أبو إسحاق الزجاج، فقلت ما بكاؤك؟ فقال لي: أين يذهب بك؟ أليس كان يقال: أحمد بن يحيى جالس وإبراهيم الزجاج اليوم؟ فقال الزجاج ونفطويه وابن الأنباري: مات الناقد، ونفقت البهارج. وحدث المرزباني في كتاب المقتبس، ولم يذكر من خبره غير هذه القصة، وذكرها ابن النديم في فهرسته، قالا جميعاً: كان السبب في اتصال أبي إسحاق الزجاج بالمعتضد، أن بعض الندماء وصف للمعتضد كتاب جامع النطق الذي عمله محبرة النديم، قال محمد بن إسحاق خاصة، واسم محبرة محمد بن يحيى بن أبي عباد، ويكنى أبا جعفر، واسم أبي عباد جابر بن زيد بن الصباح العسكري، وكان حسن الأدب، ونادم المعتضد، وجعل كتابه جداول، رجع الكلام إلى اتفاقهما، فأمر المعتضد القاسم بن عبيد الله أن يطلب من يفسر تلك الجداول، فبعث إلى ثعلب وعرضه عليه فلم يتوجه إلى حساب الجداول، وقال لست أعرف هذا، وإن أردتم كتاب العين فموجود، ولا رواية له فكتب ابن عبيد الله إلى المبرد أن يفسرها، فأجابهم: إنه كتاب طويل، يحتاج إلى تعب وشغل، وإنه قد كبر وضعف عن ذلك، وإن دفعتموه إلى صاحبي إبراهيم بن السري رجوت أن يفي بذلك، فتغافل القاسم عن مذاكرة المعتضد بالزجاج حتى ألح عليه المعتضد، فأخبره بقول ثعلب والمبرد وأنه أحال على الزجاج، فتقدم إليه بالتقدم إلى الزجاج بذلك، ففعل القاسم، فقال الزجاج: أنا أعمل ذلك على غير نسخة، ولا نظر في جدول، فأمره بعمل الثنائي، فاستعار الزجاج كتب اللغة من ثعلب والسكري وغيرهما، لأنه كان ضعيف العلم باللغة، ففسر الثنائي كله، وكتبه بخط الترمذي الصغير أبي الحسن، وجلده، وحمله إلى الوزير، وحمله الوزير إلى المعتضد، واستحسنه وأمر له بثلاثمائة دينار، وتقدم إليه بتفسيره كله، ولم يخرج مما عمله الزجاج نسخة إلى أحد، إلا إلى خزانة المعتضد ووزيره.
وقال ابن النديم: ثم ظهر في كتاب السلطان هذا التفسير منقطعاً، ورأيناه في طلحي لطيف، وصار للزجاج بهذا السبب منزلة عظيمة، وجعل له رزق في الندماء، ورزق في الفقهاء، ورزق في العلماء، نحو ثلاثمائة دينار، قال ابن النديم: وللزجاج من الكتب: كتاب ما فسره من جامع النطق، كتاب معاني القرآن، " قرأت على ظهر كتاب المعاني: ابتدأ أبو إسحاق بإملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة خمس وثمانين ومائتين وأتمه في شهر ربيع الأول، سنة إحدى وثلثمائة " ، كتاب الاشتقاق، كتاب القوافي، كتاب العروض، كتاب الفرق، كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، كتاب مختصر النحو، كتاب فعلت وأفعلت، كتاب ما ينصرف وما لا ينصرف، كتاب شرح أبيات سيبويه، كتاب النوادر.
إبراهيم بن سعدان بن حمزةالشيباني المؤدب، ذكره المرزباني في كتابه وقال: كان أبو الحسن العنزي كثير الرواية عنه، يروى عنه الأخبار، ومستحسن الأشعار. وكان لسعدان بن المبارك النحوي ابن يسمى إبراهيم، روى عن أبيه النقائض، ورواها عنه أبو سعيد السكري، ولست أعلم أهو الذي نسبه العنزي إليه أم غيره؟ لأن العنزي نسبه إلى سعدان بن حمزة الشيباني، والله أعلم. كل هذا كلام المرزباني.
وكان إبراهيم بن سعدان النحوي فيما رواه أحمد بن أبي طاهر، يؤدب المؤيد، وكان ذا منزلة عنده. وحدث المرزباني فيما رفعه إلى أبي إسحاق الطلي أحمد بن محمد بن حسان في جمال إبراهيم بن سعدان:
ألا أيها العير المصرف لونه ... بلونين في قر الشتاء وفي الصيف
هلم وقاك الله من كل آفة ... إلى مجد مولاك الشفيق على الضيف
وحدث المرزباني عن عبد الله بن يحيى العسكري، عن أبي إسحاق الطلي قال: أخبرنا إبراهيم بن سعدان، قال: حرفان فيهما أربع وعشرون نقطة لا يعرف مثلهما حكاهما أبو الحسن الجبائي، تتقتقت أي صعدت في الجبل، وتبشبشت من البشاشة، وحرف في القرآن هجاؤه عشرة أحرف متصلة، ليس في القرآن مثله في سورة النور: " ليستخلفنهم في الأرض " .

وحدث المرزباني عن الصولي عن أبي العيناء قال: قال لي المتوكل: بلغني أنك رافضي، فقلت يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة؟ وليس يخلو الناس من طلب دين أو دنيا، فإن أرادوا ديناً فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا، وتأخير من قدموا، وإن أرادوا دنيا فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك، أبوك مستنزل الغيث، وفي يديك خزائن الأرض، وأنا مولاك، فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك فيك، فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرق ذلك بي الإمام والمأموم، والتابع والمتبوع، إنما ذاك حامل درة، ومعلم صبية، وآخذ على كتاب الله أجرة، فقال: لا تفعل، لأنه مؤدب المؤيد، فقلت يا أمير المؤمنين: إنه لم يؤدبه حسبة، وإنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه فقد قضيت ذمامه، فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء، لا والله ما صدق أمير المؤمنين في شيء مما حكاه عني، ثم أقبل على المتوكل فقال: أي شيء أسهل عليك يا أمير المؤمنين من أن ينقضي مجلسك على ما تحب، ثم يخرج هذا فتقطعني؟ قال: فضحك المتوكل:
إبراهيم بن سعيد بن الطيبأبو إسحاق الرفاعي، قال أبو طاهر السلفي: وسألته يعني أبا الكرم الجوزي عن الرفاعي فقال: هو من عبيد السبي، وكان ضريراً، قدم صبياً ذا فاقة إلى واسط، فدخل الجامع إلى حلقة عبد الغفار الحصيني، فتلقن القرآن فكان معاشه من أهل الحلقة، ثم أصعد إلى بغداد، فصحب أبا سعيد السيرافي، وقرأ عليه كتاب شرح سيبويه، وسمع منه كتب اللغة والدواوين، وعاد إلى واسط وقد مات عبد الغفار، فجلس صدراً يقرئ الناس في الجامع، ونزل الزيدية من واسط، وهناك تكون الرافضة والعلويون، فنسب إلى مذهبهم، ومقت على ذلك، وجفاه الناس، وكان شاعراً حسن الشعر جيده، وحدث في كتاب أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي، أنشدني أبو إسحاق الرفاعي لنفسه.
وأحبة ما كنت أحسب أنني ... أبلي ببينتهم فبنت وبانوا
نأت المسافة فالتذكر حظهم ... مني وحظي منهم النسيان
ومات سنة إحدى عشرة وأربعمائة سمعت أبا نعيم أحمد بن علي بن أخي سدة المقرئ الإمام يقول: رأيت جنازة أبي إسحاق الرفاعي مع غروب الشمس تخرج إلى الجبانة وخلفها رجلان، فحدثت بها شيخنا أبا الفتح بن المختار النحوي فقال: سمى لك الرجلين؟ فقلت لا، فقال كنت أنا أحدهما، وأبو غالب ابن بشران الآخر، وما صدقنا أنا نسلم خوفاً أن نقتل.
ومن عجائب ما اتفق أن هذا الرجل توفي وكان على هذا الوصف من الفضل فكانت هذه حاله، وتوفي في غد يوم وفاته رجل من حشو العامة، يعرف بدناءة كان سوادياً، فأغلق البلد لأجله، وصلى عليه الناس كافة، ولم يوصل إلى جنازته من كثرة الزحام: آخر كلام الجوزي. وذكر لي أبو عبد الله محمد بن سعيد الذهبي، وذكره في أخبار النحوين الواسطيين أنه توفي في سنة اثنتي وعشرين وأربعمائة، فذاكرته بما قاله الجوزي فقال: الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل، الذي ذكره الجوزي هو الحق، أنا وهم.
وحدث أبو غالب بن بشران قال: أنشدنا أبو إسحاق الرفاعي وما رأيت قط أعلم منه قال أنشدنا عبد الغفار ابن عبد الله، قال أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد نفطويه:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
إبراهيم بن سفيان الزياديهو إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه، كان نحوياً لغوياً راوية، قرأ كتاب سيبويه على سيبويه ولم يتمه، وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة ونظرائهما، وكان شاعراً، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، ومن شعره الذي رواه المرزباني في حجر النار الهاشمي،
دفع الرحمن عنكا ... م إن ذاك الدفع عني
وأتى فيك بمن يع ... ذلني قارع سن
إن تكن برزت في الحس ... ن فقد برز حزني
حدث المرزباني عن المبرد عن الزيادي قال: كان في جواري حق قد دعيت إليه فحضرت، وجيء بنبيذ وطنبور، فغنى مغنيهم:
قولا لمن يتعرى ... ومن يبدد شرا
تركت فتيان صدق ... يجبلون في الحسن درا

وصرت إلف خسيس ... يعيد خيرك شرا
هيهات فاتك والله ... من يغرك غرا
فقلت لمن هذا الشعر، أصلحك الله؟ قال: لي يا سيدي، وأنا جوان بن دست الباهلي سيدي، قلت ليس جوان ودست عافاك الله من أسماء العرب، قال: أي شيء عليك من ذا سيدي؟، قلت فردد الصوت، قال تريد تقمشه؟ كنك عقاب، أو كنى ما أعرفك، ما تركت على كبد ابن عمي الأصمعي الماء، وقد جئت إلي طارت فراخ برجك طارت. قال: فوثبت مما حل بي فلم أعد إليهم. وحدث قال: كان الزيادي يشبه بالأصمعي في معرفته للشعر ومعايبه، وكان فيه دعابة ومزاح، فمن شعره في ذلك:
قد خرج الهجر على الوصل ... وانقطع الحبل من الحبل
ودبق الهجر جناح الهوى ... وانفلت الوصل من البخل
فليت ذا الهجر قبيل الهوى ... فيسلم الوصل من القتل
وقال الجماز يهجو الريادي:
ليس بكذاب ولا آثم ... من قال إبراهيم ملعون
حكم رسول الله في جده ما ناله إلا الملاعين وبعد هذا كله إنه يعجبه القثاء والتين وللزيادي من التصانيف: كتاب النقط والشكل، كتاب الأمثال، كتاب تنميق الأخبار، كتاب أسماء السحاب والرياح والأمطار، كتاب شرح نكت كتاب سيبويه. وقال إبراهيم الزيادي في جارية سوداء كان يحبها:
ألا حبذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت فيه الأذى
ويا حبذا برد أنيابه ... إذا الليل أظلم واجلوذا
إبراهيم بن سليمان بن عبد اللهابن حبان النهمي بظن من همدان، الخزار الكوفي أبو إسحاق، أخباري، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب مصنفي الإمامية، وقال: هو ثقة في الحديث، سكن الكوفة في بني تميم، فربما قيل التميمي، قال: ثم سكن في بني هلال، فربما قيل الهلالي ونسبه في نهم.
له من الكتب: كتاب النوادر، كتاب الخطب، كتاب الدعاء، كتاب المناسك، كتاب أخبار ذي القرنين، كتاب إرم ذات العماد، كتاب قبض روح المؤمن والكافر، كتاب الدفائن، كتاب خلق السموات، كتاب أخبار جرهم.
إبراهيم بن صالح الوراقأبو إسحاق، تلميذ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، ذكره الباخرزي في كتاب دمية القصر فقال أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد، وهو أحسن ما قيل في معنى دود القز:
وبنات جيب ما انتفعت بعيشها ... ووأدتها فنفعني بقبور
ثم انبعثن عواطلاً فإذا لها ... قرن الكباش إلى جناح طيور
قال: ومن المعاني المثارة من دود القز قول أبي الفتح البستي:
ألم تر أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزال يعالجه؟
تراه كدود القز ينسج دائباً ... ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه
ولأبي إسحاق يهجو ابن زكريا المتكلم الأصبهاني:
أبا أحمد يا أشبه الناس كلهم ... خلافاً وخلقاً بالرخال النواسح
لعمرك ما طالت بتلك اللحى لكم ... حياة ولكن بالعقول الكواسج
إبراهيم بن أبي عباد اليمنيوهو ابن أخي الحسن بن إسحاق، بن أبي عباد النحوي، ذكر في موضعه، وإبراهيم هذا من أعيان النحويين باليمن، وله تصنيفان في النحو مختصران، سمي أحدهما التلقين، والآخر يعرف بمختصر إبراهيم، وكان متأخراً بعد الخمسمائة.
إبراهيم بن العباس الصوليأبو إسحاق الكاتب، هو إبراهيم بن العباس بن محمد ابن صول، مولى يزيد ابن المهلب، كنيته أبو إسحاق مات في شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائتين بسامراً، وهو يتولى ديوان النفقات والضياع، مولده سنة ست وسبعين ومائة، وقيل سنة سبع وستين، وكان صول رجلاً تركياً، وكان هو وأخوه فيروز ملكي جرجان، وتمجسا بعد التركية، وتشبها بالفرس، فلما حضر يزيد بن المهلب بن أبي صفرة جرجان أمنهما، فأسلم صول على يده، ولم يزل معه حتى قتل يزيد يوم العقر.

وكان يزيد بن المهلب لما دعا إلى نفسه لحق به صول وغيره، فصادفه قد قتل. وذكر الصولي أن صولاً جده شهد الحرب مع يزيد بن المهلب، وأن يزيد وجد مقتولاً بلا طعنة ولا ضربة، انسدت أذناه ومنخراه، وامتلأ فمه بغبار العسكر فمات، فلا يعرف مثله قتيل غبار، قال: ومعه قتل صول وجماعة من أصحابه وغلمانه، وقيل بل انحاز إلى العباس بن الوليد في جماعة من غلمانه، فأعطاه العباس أماناً وبعض أولاد المهلب معه، فلما حصلا في يده غدر بهم، وقتلهم جميعاً، وكان يقاتل كل من بينه وبين يزيد من جيوش بني أمية، ويكتب على سهامه: صول يدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فاغتاظ، وجعل يقول: ويلي على ابن الغلفاء، ماله وللدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه؟ ولعله لا يفقه صلاته.
وكان محمد بن صول من رجال الدولة العباسية ودعاتها، وكان يكنى أبا عمارة، وقتله عبد الله بن علي، لما خالف مع مقاتل بن حكيم العكي، وكان بعض أهليهم ادعوا أنهم عرب، وأن العباس بن الأحنف الشاعر خالهم.
وكان إبراهيم بن العباس وأخوه عبد الله من وجوه الكتاب، وكان عبد الله أسنهما، وأشدهما تقدماً، وكان إبراهيم آدبهما، وأحسنهما، شعراً، وكان إذا قال شعراً اختاره، وأسقط رذله، وأثبت نخبته، فمن ذلك قوله:
ولكن الجواد أبا هشام ... وفي العهد مأمون المغيب
بطئ عندما استغنيت عنه ... وطلاع عليك مع الخطوب
وهذا من نادر الشعر وجيده، ومن ذلك قوله لأخيه عبد الله:
ولكن عبد الله لما حوى الغنى ... وصار له من بين إخوانه مال
رأى خلة منهم تسد بماله ... فساهمهم حتى استوت بهم الحال
وهذا الشعر يدل على أن قبله غيره، ولولا أن يكون قبله غيره لقال ألا إن الجواد أبا هشام، وألا إن عبد الله أو يكون قصد الإيهام بمدح قد تقدم، هذه الأبيات من جملته، والله أعلم، وكان إبراهيم كاتباً، حاذقاً، بليغاً، فصيحاً، منشئاً، وإبراهيم وأخوه عبد الله من صنائع ذي الرياستين الفضل ابن سهل، اتصلا به فرفع منهما، وتنقل إبراهيم في الأعمال الجليلة، والدواوين، إلى أن مات وهو متول ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى، سنة ثلاث وأربعين ومائتين للنصف من شعبان، وكان دعبل يقول: لو تكسب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء، وتعجب من قوله:
إن امرأ ضن بمعروفه ... عني لمبذول له عذري
ما أنا بالراغب في خيره ... إن كان لا يرغب في شكري
وكان إبراهيم صديقاً لمحمد بن عبد الملك الزيات، فولى محمد الوزارة وإبراهيم على الأهواز، فقصده ووجه إليه بأبي الجهم أحمد بن سيف وأمره بكشفه، فتحامل عليه تحاملاً شديداً، فكتب إبراهيم إلى محمد ابن عبد الملك:
وإني لأرجو بعد هذا محمداً ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير
فأقام محمد على أمره، ولج أبو الجهم في التحامل عليه، فكتب إبراهيم إلى ابن الزيات، يشكو إليه أبا الجهم ويقول: هو كافر لا يبالي ما عمل، وهو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
تركت عبيد بني طاهر ... وقد ملأوا الأرض عرضاً وطولا
وأقبلت تسعى إلى واحدي ... ضراراً كأن قد قتلت الرسولا
فسوف أدين بترك الصلا ... ة وأصطبح الخمر صرفاً شمولاً
فكان محمد لعصبيته على إبراهيم وقصده له يقول: ليس هذا الشعر لأبي الجهم، وإنما إبراهيم قاله ونسبه إلى أبي الجهم.
وكتب إبراهيم إلى ابن الزيات يستعطفه: كتبت وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام علي بعد عدواي بك عليها، وكان أسوأ الظن وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عند أذاتها، فصرت أضر علي منها، فكف الصديق عن نصرتي خوفاً منك، وبادر إلى العدو تقرباً إليك، وكتب تحت ذلك:
أخ بيني وبين الده ... ر صاحب أينا غلبا
صديقي ما استقام وإن ... نبا دهر علي نبا
وثبت على الزمان به ... فعاد به وقد وثبا
ولو عاد الزمان لنا ... لعاد به أخاً حدبا

وكتب إليه: أما والله لو آمنت ودك لقلت، ولكني أخاف منك عتباً لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لا تحتملها لي، وما قدر فهو كائن، عن كل حادثة أحدوثة، وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطاً حالاً أنا في مكروهها، ولكنها أشد علي من أني فزعت إلى ناصري عند ظلم لحقني، فوجدت من ظلمني أخف نية في ظلمي منه، وأحمد الله كثيراً، وكتب تحتها:
وكنت أخيب إخاء الزما ... ن فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت أذم إليك الزما ... ن فأصبحت فيك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبا ... ت فها أنا أطلب منك الأمانا
قال: ثم وقف الواثق على تحامله عليه، فرفع يده عنه، وأمره أن يقبل منه ما رفعه، ويرد إلى الحضرة مصوناً، فلما أحس إبراهيم بذلك، بسط لسانه في ابن الزيات، وهجاه هجاء كثيراً منه:
قدرت فلم تضرر عدواً بقدرة ... وسمت بها إخوانك الذل والرغما
وكنت ملياً بالتي قد يعافها ... من الناس من يأبى الدنية والذما
وقال أيضاً فيه:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة ... وقصر قليلاً عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت عزاً ورفعة ... فإن رجائي في غد كرجائكا
وقال أيضاً فيه:
دعوتك في بلوى ألمت صروفها ... فأوقدت من ضغن علي سعيرها
وإني إذا أدعوك عند ملمة ... كداعية بين القبور نصيرها
ولما مات ابن الزيات قال إبراهيم: لما أتاني خبر الزيات
وأنه قد عد في الأموات ... أيقنت أن موته حياتي
ولما انحرف محمد بن عبد الملك عن إبراهيم تحاماه الناس إن تلقوه، وكان الحارث بن بشتخير الزريم المغني صديقاً له مصافياً، وهجره فيمن هجره من الإخوان، فكتب إليه:
تغير لي فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... غنينا وما بيني وبينك ثالث
ومن مستحسن شعر إبراهيم بن العباس قوله:
خل النفاق لأهله ... وعليك فالتمس الطريقا
وارغب بنفسك أن ترى ... إلا عدواً أو صديقاً
ومنه:
أميل مع الصديق على ابن أمي ... وأقضي للصديق على الشقيق
وأفرق بين معروفي ومني ... وأجمع بين مالي والحقوق
فإن ألفيتني حراً مطاعاً ... فإنك واجدي عبد الصديق
وكان إبراهيم يهوى جارية لبعض المغنين بسر من رأى، يقال لها ساهر، شهر بها، وكان منزله لا يخلو منها، ثم دعيت في وليمة لبعض أهلها، فغابت عنه ثلاثة أيامن ثم جاءته ومعها جاريتان لمولاها، وقالت له: قد أهديت صاحبتي إليك، عوضاً عن مغيبي عنك، فقال:
أقبلن يحففن مثل الشمس طالعة ... قد حسن الله أولاها وأخراها
ما كنت فيهن إلا كنت واسطة ... وكن دونك يمناها ويسراها
وجلس يوماً مع إخوانه للشرب، وبعث خلفها فأبطأت عليه، وتنغص عليه وعلى جلسائه يومه، وكان عندهم عدة من القيان، ثم وافت فسرى عنه، وطلبت نفسه، وشرب وطرب، وقال:
ألم ترنا يومنا إذ نأت ... ولم تأت من بين أترابها
وقد غمرتنا دواعي السرو ... ر بإشغالها وبإلهابها
ونحن فتور إلى أن بدت ... وبدر الدجى تحت أثوابها
ولما نأت كيف كنا بها ... ولما دنت كيف صرنا بها
فتغضبت فقالت: ما القصة كما ذكرت، وقد كنتم في قصفكم مع من حضر، وإنما تجملتم لي لما حضرت، فقال:
يا من حنيني إليه ... ومن فؤادي لديه
ومن إذا غاب من بي ... نهم أسفت عليه
إذا حضرت فمن بين ... هم أصب إليه
من غاب غيرك منهم ... فإذنه في يديه
فرضيت، فأقاموا يومهم على أحسن حال، ثم طال العهد بينهما فملها، وكانت شاعرة، وكانت تهواه أيضاً، فكتبت إليه تعاتبه:
بالله يا ناقض العهود بمن ... بعدك من أهل ودنا نثق؟
واسوأتا ما استحيت لي أبدا ... إن ذكر العاشقون من عشقوا
لا غرني كاتب له أدب ... ولا ظريف مهذب لبق

كنت بذاك اللسان نختلني ... دهراً ولم أدر أنه ملق
فاعتذر إليها وراجعها، فلم تر منه ما تكره حتى فرق الموت بينهما.
وحدث علي بن الحسين الإسكافي قال: كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع، وكان به معجباً، فاعتل علة لم تطل حتى مات، فرثاه مراثي كثيرة، وجزع عليه جزعاً شديداً، فمن مراثيه فيه:
كنت السواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وقال أيضاً فيه:
ومازلت مذ لد أعطيته ... أدافع عنه حمام الأجل
أعوذه دائباً بالقرآ ... ن وأرمي بطرفي إلى حيث حل
فأضحت يدي قصدها واحد ... إلى حيث حل فلم يرتحل
ومر إبراهيم برجل يستثقله فسلم عليه فقال لبعض من معه: إنه جرمي، فقال له: ما كان عندي إلا أنه من أهل السواد، فضحك إبراهيم وقال: إنما أردت قول الشاعر:
يسائل عن أخي جرم ... ثقيل والذي خلقه
وكتب إبراهيم شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه: فلان ممن يزكو شكره، ويعنيني أمره، والصنيعة عنده واجدة موضعها، وسالكة طريقها،
وأفضل ما يأتيه ذو الدين والحجى ... إصابة شكر لم يضع معه أجر
ونظر إبراهيم إلى الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له:
عيناك قد حكتا مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرت ... ك مبيت صاحبها عيانا
وقال: ورفع أحمد بن المدبر على بعض عمال إبراهيم، فحضر إبراهيم دار المتوكل فرأى هلال الشهر على وجهه، ودعا له وضحك، وقال له: إن أحمد بن المدبر رفع على عاملك كذا وكذا فاصدقني عنه، قال إبراهيم: فضاقت علي الحجة، وخفت أن أحقق قوله إن اعترفت، ثم لا أرجع منه إلى شيء فيعود على الغرم، فعدلت عن الحجة إلى الحيلة، فقلت: أنا في هذا يا أمير المؤمنين كما قلت فيك:
رد قولي وصدق الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا
أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا؟
فقال لا يكون ذلك، واللهلا يكون ذلك أبداً، والتفت إلى الوزير وقال له: كيف تقبل في المال قول صاحبه. وكان أحمد بن يحيى ثعلب يقول: إبراهيم ابن العباس أشعر المحدثين، وما روي شعر كاتب غيره، وكان يستجيد قوله:
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويفتر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن ننستذم دماؤها
حمىً وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها
ويقول: والله لو أن هذا لبعض الأوائل لاستجيد له: وقال إبراهيم في قينة كان يهواها:
وعلمتني كيف الهوى وجهلته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم مالي عندكم فيردني ... هواي إلى جهلي فأرجع عن علمي
ومن أحسن ما قيل في قصر الليل، قول إبراهيم بن العباس:
وليلة من الليالي الزهر ... قابلت فيها بدرها ببدر
لم تك غير شفق وفجر ... حتى تولت وهي بكر الدهر
وقال أبو الغيث: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتاباً، فنقطت القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه، فعجبت فقال: لا تعجب، المال فرع، والقلم أصل، ومن هذا السواد جاءت هذه الثياب، والأصل أحوج إلى المراعاة من الفرع، ثم فكر قليلاً وقال:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظ ... وأسلمه الوجود إلى العيان
ووشاه فنمنمه بيان ... فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منشرات ... تجلى بينها حلل المعاني
وقال إبراهيم في الفضل بن سهل:
يقضي الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها
فيظل يصدرها ويوردها ... فيعم حاضرها وغائبها
وإذا ألمت صعبة عظمت ... فيها الرزيئة كان صاحبها
المستقل بها وقد رسبت ... ولوت على الأيام جانبها
وعدلتها بالعدل فاعتدلت ... ووسعت راغبها وراهبها
وإذا الحروب علت بعثت لها ... رأيا تفل به كتائبها
رأياً إذا نبت السيوف مضى ... عزم به فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها ... وأقام في أخرى نوادبها
وإذا الخطوب تأثلت ورست ... هدت فواضله نوائبها
وإذا جرت بضميره يده ... أبدت له الدنيا مناقبها
قال: واجتمع هارون بن محمد بن عبد الملك بن الزيات وابن برد الخباز، في مجلس عبيد الله بن سليمان، فجعل هارون ينشد من شعر أبيه ومحاسنه، ويفضله ويقدمه، فقال له ابن برد الخباز: إن كان لأبيك مثل قول إبراهيم ابن العباس الصولي:
أسد ضار إذا هيجته ... وأب بر إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
أو مثل قوله:
تلج السنون بيوتهم وترى لهم ... عن جار بيتهم ازورار مناكب
وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونزهة للراغب
فاذكره وفاخر به، وإلا فأقلل، فخجل هارون.
قال: ودخل عليه أحمد بن المدبر بعد خلاصه من النكبة مهنئاً، وكان استعان به في أمر النكبة فقعد عنه، وبلغه أنه كان يسعى ويحرض عليه ابن الزيات، فقال:
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا ... نبوت، فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبالي عددتك طائلاً ... ولا يوم إدباري عددتك من وتر
وما كنت إلا مثل أحلام نائم ... كلا حالتيك من وفاء ومن غدر
وله أيضاً فيه:
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الخلان
فأنا أستحسن قوله:
حتى متى أنا في حزن وفي غصص ... إذا تجدد حزن هون الماضي؟
وقد غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راض
ومما كتب إبراهيم بن العباس إلى ابن الزيات:
من رأى في المنام مثل أخ لي ... كان عوني على الزمان وخلي؟
رفعت حاله فحاول حطي ... وأبى أن يعز إلا بذلي
وكتب إليه يستعطفه:
فهبني مسيئاً مثل ما قلت ظالماً ... فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن بالعفو منك لسوء ما ... جنيت به أهلاً فأنت له أهل
ومن منثور كلامه: أتاني فلان في وقت أستثقل فيه لحظة الفرح وحدث الصولي عن العباس بن محمد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس، في مجلسه في ديوان الضياع:
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
ونكت بقلمه ثم قال:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
قال: فعجبنا من سرعة طبعه، وجودة قريحته.
وحدث الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثي أبي قال: لما قرأ إبراهيم بن العباس على المتوكل رسالته إلى أهل حمص.
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه بما قوم به من أود، وعدل به من زيغ، ولم به من منتشر، استعمال ثلاث يقدم بعضهن أمام بعض، أولاهن ما يتقدم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا يقع حسم الداء بغيرها:
أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه
عجب المتوكل من حسن ذلك، وأومأ إلى عبيد الله أما تسمع؟ فقال يا أمير المؤمنين: إن إبراهيم فضيلة خبأها الله لك، واحتبسها على أيامك، وهذا أول شعر نفذ في كتاب عن خلفاء بني العباس.
وحدث عن ميمون بن هارون عن أبيه قال: قلت لإبراهيم بن العباس: إن فلاناً يحب أن يكون لك ولياً فقال لي: أنا والله أحب أن تكون الناس جميعاً إخواني، ولكني لا آخذ منهم إلا من أطيق قضاء حقه، وإلا استحالوا أعداء، وما مثلهم إلا كمثل النار، قليلها مقنع، وكثيرها محرق.
وقال الحسين بن علي الباقطائي: شاورت أبا الصقر قبل وزارته في أمر لي فعرفني الصواب فيه، فقلت له: أنت أيدك الله كما قال إبراهيم بن العباس في هذا المعنى:
أتيتك شتى الرأي لابس حيرة ... فسددتني حتى رأيت العواقبا
على حين ألقى الرأي دوني حجابه ... فجبت الخطوب واعتسفت المذاهبا

فقال: لا تبرح والله حتى أكتب البيتين، فكتبتهما له بين يديه بخطي.
وحدث أبو ذكوان قال: لما توفي المعتصم بالله، وقام ابنه الواثق خليفة بعده، كتب إليه إبراهيم بن العباس يعزيه بأبيه ويهنئه بالخلافة: إن أحق الناس بالشكر من جاء به عن الله، وأولاهم بالصبر من كان سلفه رسول الله، وأمير المؤمنين أعزه الله وآباؤه نصرهم الله أولو الكتاب الناطق عن الله بالشكر، وعترة رسوله المخصوصون بالصبر، وفي كتاب الله أعظم الشفاء وفي رسوله أحسن العزاء، وقد كان من وفاة أمير المؤمنين المعتصم بالله، ومن مشيئة الله في ولاية أمير المؤمنين الواثق بالله، ما عفا على أوله آخره، وتلافت بدأته عاقبته، فحق الله في الأولى الصبر، وفرضه في الأخرى الشكر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يستنجز ثواب الله بصبره، ويستدعي زيادته بشكره، فعل إن شاء الله تعالى وحده: ومن كلامه: ووجد أعداء الله زخرف باطلهم، وتمويه كذبهم سراباً " بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " وكوميض برق عرض فأسرع، ولمع فأطمع، حتى انحسرت مغاربه، وتشعبت مولية مذاهبه، وأيقن راجيه وطالبه، ألا ملاذ ولا وزر، ولا مورد ولا صدر، ولا من الحرب مفر، هنالك ظهرت عواقب الحق منجية، وخواتم الباطل مردية، سنة الله فيما أزاله وأداله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولا عن قضائه تحويلاً، وحدثني الصولي قال: حدثني يحيى ابن البحتري قال: رأيت أبي يذاكر جماعة من شعراء الشام بمعان من الشعر، فمر فيها قلة نوم العاشق وما قيل في ذلك، فأنشدوا إنشادات فيها، فقال لهم أبي: فرغ من هذا كاتب العراق، إبراهيم بن العباس، فقال:
أحسب النوم حكاكا ... إذ رأى منك جفاكا
مني الصبر ومنك ال ... هجر فابلغ بي مداكا
كذبت همة عين ... طمعت في أن تراكا
أي ما حظ لعينٍ ... أن ترى من قد رآكا؟
ليت حظي منك أن تع ... لم ما بي من هواكا
ثم قال البحتري: تصرفت هذه الأبيات في معان من الشعر أحسن في جميعها، قال فكتبتها عنه أجمعها ومما روي له الصولي.
أولى البرية طرا أن تواسيه ... عند السرور، الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وروي له، وهو في الحماسة:
لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أرضاً بأرض وجيراناً بجيران
قال الصولي: حدثني جرير بن أحمد بن أبي دؤاد، قال: كان إبراهيم أصدق الناس لأبي، فعتب على ابنه أبي الوليد في شيء، فقال فيه أحسن قول ذمه فمدح أباه، وما أحسن هذا من جهة جرير:
عفت مساو تبدت منك واضحة ... على محاسن نقاها أبوك لكا
لئن تقدمت أبناء الكرام به ... فقد تقدم آباء الكرام بكا
وروي لإبراهيم في محمد بن عبد الملك:
إن كان رزقي عليك فارم به ... في ما صفا حبه على رصد
لو كنت حراً كما زعمت وقد ... كررتني بالمطال لم أعد
لكنني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثلها إذاً فعد
أعتقني سوء ما أتيت من ال ... رق فيا بردها على كبدي
فصرت عبداً للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد
وله فيه:
وقائل لا أبداً ... إن جد أو إن هزلا
فهو إذا اضطر إلى ... قول نعم قال بلى
تعودوا منه لما ض ... من بالاً قول لا
ومما يستحسن من شعر إبراهيم ابن العباس:
إبتداء بالتجني ... وقضاء بالتظني
واشتفاء بتجني ... ك لأعدائك مني
بأبي قل لي كي أع ... لم لم أعرضت عني؟
قد تمنى ذاك أعدا ... ئي فقد نالوا التمني
وقال أبو زيد البلخي وذكر إبراهيم بن العباس فقال: كان من أبلغ الناس في الكتابة، حتى صار كلامه مثلاً. كتب كتاب فتح عجيباً أثنى على الله وحمده ثم قال في خلال ذلك: وقسم الله الفاسق أقساماً ثلاثة، روحاً معجلة إلى نار الله، وجثة منصوبة بفناء معقله وهامة منقولة إلى دار خلافته.

وحدث الجهشياري عن وهب بن سليمان بن وهب قال: كنت أكتب لإبراهيم بن العباس على ديوان الضياع، وكان رجلاً بليغاً، ولم يكن له في الخراج تقدم، وكان بينه وبين أحمد بن المدبر تباعد، وكان أحمد مقدماً في الكتابة، فقال أحمد بن المدبر للمتوكل: قلدت إبراهيم بن العباس ديوان الضياع وهو متخلف، آية من الآيات لا يحسن قليلاً ولا كثيراً، وطعن عليه طعناً قبيحاً، فقال المتوكل: في غد أجمع بينكما، واتصل الخبر بإبراهيم فأيقن بحاول المكروه، وعلم أنه لا يفي بأحمد بن المدبر في صناعته، وغدا إلى دار السلطان آيساً من نفسه ونعمته، وحضر أحمد فقال له المتوكل: قد حضر إبراهيم وحضرت، ومن أجلكم قعدت، فهات: اذكر ما كنت فيه أمس، فقال أحمد: أي شيء أذكر عنه؟ فإنه لا يعرف أسماء عماله في النواحي، ولا يعلم ما في دساترهم، من تقديراتهم، وكيولهم، وحمل من حمل منهم، ومن لم يحمل، ولا يعرف أسماء النواحي التي تقلدها، وقد اقتطع صاحبه بناحية كذا كذا ألفاً، واختلت ناحية كذا في العمارة، وأطال في ذكر هذه الأمور، فالتفت المتوكل إلى إبراهيم فقال: ما سكوتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، جوابي في بيتي شعر قلتهما! فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتهما، فقال هات: فأنشده البيتين المذكورين، رد قولي وصدق الأقوالا، فقال المتوكل زه زه أحسنت، إيتوني بمن يعمل في هذا لحناً، وهاتوا ما نأكل، وجيئوا بالنساء، ودعونا من فضول ابن المدبر، واخلعوا على إبراهيم بن العباس، فخلع عليه، وانصرف إلى منزله.
قال الحسن فمكث يومه مغموماً، فقلت له: هذا يوم سرور وجذل بما جدد الله لك من الانتصار على خصمك، فقال يا بني: الحق أولى بمثل وأشبه، إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب في شيء مما ذكر، ولا أنا ممن يعشره في الخراج، كما أنه لا يعشرني في البلاغة وإنما فلجت برطازةٍ ومخرقةٍ، أفلا أبكي، فضلاً عن أن أغتم من زمان يدفع ذلك كله.
وقال الجهشياري: رأيت دفتراً بخط إبراهيم بن العباس الصولي فيه شعره، قال في حبس موسى بن عبد الملك، إياه يصف غليظ ما هو فيه من الحبس وثقل الحديد والقيد، ويذكر موسى في شعره، وكان يكنى بأبي الحسن، فكناه بأبي عمران، فقال في قصيدة طويلة:
كم ترى يبقى على ذابدني؟ ... قد بلي من طول همي وفني
أنا في أسر وأسباب ردي ... وحديد فادح يكلمني
وأبو عمران موسى حنق ... حاقد يطلبني بالإحن
ليس يشفيه سوى سفك دمي ... أو يراني مدرجاً في كفني
وقد كتب أحمد بن مدبر بخطه في ظهر هذا الدفتر:
أبا إسحاق إن تكن الليالي ... عطفن عليك بالخطب الجسيم
فلم أر صرف هذا الدهر يجري ... بمكروه على غير الكريم
ولإبراهيم بن العباس من التصانيف فيما ذكره محمد ابن إسحاق النديم، كتاب ديوان رسائله، كتاب ديوان شعره، كتاب الدولة كبير، كتاب الطبيخ كتاب العطر، ومات إبراهيم بن العباس الصولي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في شعبان وهو يتولى ديوان الضياع والنفقات بسامراً.
إبراهيم بن عبد الله النجيرميأبو إسحاق النحوي اللغوي أخذ عنه أبو الحسين المهلبي، وجنادة اللغوي الهروي، وكثير من أهل العلم، وكان مقامه بمصر.
قال أبو سعد السمعاني: النجيرمي نسبة إلى نجيرم، ويقال نجارم، وهي محلة بالبصرة، قال المؤلف: لم يصب السمعاني في قوله، إلا أن يكون طائفة من أهل هذا الموضع أقاموا بموضع من محال البصرة فنسب إليهم، ونجيرم قرية كبيرة على ساحل بحر فارس، بينها وبين سيراف نحو خمسة عشر فرسخاً، رأيتها يسمونها أهلها والتجار نيرم، فيسقطون الجيم تخفيفاً، أو تخلفاً، وليس مثلها يحتمل أن يكون لأهلها محلة بالبصرة، وهم فرس من فرس الحال، أكثر أكلهم النبق والسمك حدثني بعض أهل مصر عند كوني بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة قال: حدثت أن الفضل بن عباس دخل على كافور الأخشيدي فقال له: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ، فخفض الأيام، فتبسم كافور إلى أبي إسحاق النجيرمي، فقال أبو إسحاق:
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... وغص من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر

فإن يكن خفض الأيام عن دهش ... من شدة الخوف لا من قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل نأثره عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صو بلا كدر
قال: فأمر له بثلاثمائة دينار، ولابن عباس بمثلها، هكذا أخبرني المصري في خبر هذا الشعر، وأنه لأبي إسحاق النجيرمي، ووجدت في أخبار رواها أبو الجوائز الواسطي قال: حدثني أبو الحسين بن أدين النحوي، وكان شيخاً قد نيف على الثمانين، في سنة أربعمائة قال: حضرت مع والدي وأنا طفل مجلس كافور الإخشيدي، وهو غاص بأهله، فدخل رجل غريب، فسلم ودعا له، وذكر القصة، ولم يذكر الفضل بن عباس، قال: فقام رجل فأنشد ولم يذكر النجيرمي، وأنشد الشعر بعينه، وجهل الرجلين.
قرأت في كتاب من إملاء النجيرمي قال كاتبها: أنشدني أبو إسحاق وهي له:
بدلني الدهر أميراً معوزاً ... بسيد كان خضماً كوثرا
إذا شممت كفة مؤملاً ... شممت منها غمراً مقترا
بما أشم مسكها والعنبرا ... يا بدلاً كان لقاءً أعورا
وأنشدهم أيضاً لنفسه:
وإني فتى ضبر على الأين والوجى ... إذا اعتصروا للوح ماء فظاظها
إذا ضربوها ساعة بدمائها ... وحل عن الكوماء عقد شظاظها
فإنك ضحاك إلى كل صاحب ... وأنطق من قس غداة عكاظها
إذا اشتغب المولى مشاغب مغشمٍ ... فعذره فيها آخذاً بكظاظها
إبراهيم بن عبد الله الغزال اللغويلا أعرف من حاله شيئاً، إلا أن السلفي قال: أنشدني أبو القاسم الحسن بن الفتح بن حمزة بن الفتح الهمذاني قال: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الغزال اللغوي لنفسه، وكان يتبخبخ بهما:
والبرق في الديجور أهطل مزنة ... أبدت نباتاً أرضها كالزرنب
فوجدت بحراً فيه نار فوقه ... غيم يرى فيه بليلٍ غيهب
إبراهيم بن عبد الرحيم العروضيحكى عنه أبو العباس أحمد بن محمد النامي في كتاب القوافي فهو من طبقة ابن درستويه وعلي بن سليمان الأخفش.
إبراهيم بن عثمان أبو القاسم بن الوزانالقيرواني النحوي كان فقيهاً على مذهب العراقي وإماماً في النحو واللغة والعربية والعروض غير مدافع مع قلة ادعاء وخفض جناح، وكان عبد الله بن محمد المكفوف يقر له بالفضل، وانتهى من العلم إلى ما لعله لم يبلغه أحد قبله وأما في زمانه فلا يشك فيه، مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة وكان يحفظ كتاب العين للخليل ابن أحمد، وغريب المصنف لأبي عبيد، وإصلاح المنطق لابن السكيت، وغيرها من كتب اللغة وحفظ قبل ذلك كتاب سيبويه، ثم كتب الفراء، وكان يميل إلى مذهب البصريين مع إتقانه معرفة مذاهب الكوفيين، وقال: ولو قال قائل إنه كان أعلم من المبرد وثعلب لصدقه من وقف على علمه ونفاذه، وكان مع ذلك مقصراً في صناعة الشعر وله تصانيف كثيرة في النحو واللغة
إبراهيم بن علي أبو إسحاق الفارسيالنحوي، من تلاميذ أبي علي الفارسي، وله كتاب شرح الجرمي معروف متداول بأيدي الناس، ذكره الثعالبي في البخاريين، وقال هو من الأعيان في علم اللغة والنحو، ورد بخارى في أيام السامانية، فأجل وبجل، ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتاب بها، وأخذوا عنه، وولي التصفح في ديوان الرسائل، ولم يزل يليه إلى أن استأثر الله به، وله شعر لم يقع إلي منه إلا قوله في بعض الرؤساء بالحضرة يستهدي منه جبة خز بيضاء غير لبيس من قصيدة:
وأعن على برد الشتاء بجبة ... تذر الشتاء مقيداً مسجوناً
سوسية بيضاء يترك لونها ... ألوان حسادي شواحب جونا
عذراء لم تلبس فكفك في العلا ... تأنى عذاراها وتأبى العونا
تسبي ببهجتها عيوناً لم تزل ... تسبي قلوباً في الهوى وعيونا
مثل القلوب من العداة حرارة ... مثل الخدود من الكواعب لينا

قال أبو حيان في كتاب الوزيرين وقد ذكر ابن العميد فقال: وقد اجتاز به أبو إسحاق الفارسي، وكان من غلمان أبي سعيد السيرافي، وكان قيماً بالكتاب وفريض الشعر، وصنف وأملى، وشرح وتكلم في العروض والقوافي، والمعاني، وناقض المتنبي، وحفظ العلم والرم فما زوده درهماً، ولا تفقده برغيف بعد أن أذن له، حتى حضره وسمع كلامه، وعرف فضله، واستبان سعيه.
إبراهيم بن عقيل بن جيش بن محمدإبن سعيد أبو إسحاق القرشي، المعروف بابن المكبري النحوي الدمشقي، مات فيما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، ودفن بالباب الصغير.
وذكر أنه حدث عن أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الشرابي النحوي، وروى عنه أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب وأبو محمد بن الأكفاني.
قال الخطيب وكان صدوقاً قال ابن عساكر وفي قوله نظر: قال وذكره الخطيب في كتابه الذي سماه تلخيص المتشابه، قيده كما كتبناه في أول الترجمة، قال ابن عساكر: وكان أبو إسحاق يذكر أن عنده تعليقة أبي الأسود الدؤلي، التي ألقاها إليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان كثيراً ما يعد بها أصحابه، ولاسيما أصحاب الحديث، ولا يفي، إلى أن كتبها عنه بعض تلاميذه الذين يقرءون عليه، وإذا به قد ركب عليها إسناداً لا حقيقة له، اعتبر فوجد موضوعاً، مركباً بعض رجاله أقدم ممن روى عنه، ولم يكن الخطيب علم بذلك ولا وقف عليه، فلذلك وثقه، قال: وهذه التعليقة فهي في أمالي أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي، نحواً من عشرة أسطر، فجعلها هذا الشيخ إبراهيم قريباً من عشرة أوراق، وله كتاب في النحو، رأيته قدر اللمع، وقد أجاز فيه.
إبراهيم بن الفضل الهاشمي اللغويقال الحاكم في تاريخ نيسابور: أبو إسحاق الأديب اللغوي، أقام بنيسابور سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وسمعته يذكر جماعة من أبي محمد بن صاعد وأقرانه، وسمعته يقول: سمعت أبا بكر بن دريد ينشد لنفسه:
ودعته حين لا تودعه ... نفسي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب له ... ضيق مكان وفي الدموع سعه
إبراهيم بن قطن المهري القيروانيأخو أبي الوليد عبد الملك المذكور في بابه، ذكره الزبيدي في كتابه وقال: قرأ إبراهيم النحو قبل أخيه أبي الوليد، وكان سبب طلب أبي الوليد النحو أن أخاه إبراهيم رآه يوماً وقد مد يده إلى بعض كتبه يقلبها، فأخذ أبو الوليد كتاباً منها ينظر فيه فجذبه من يده وقال له: مالك ولهذا؟ وأسمعه كلاماً، فغضب أبو الوليد لما قابله به أخوه، وأخذ في طلب العلم حتى علا عليه، وعلى أهل زمانه كلهم، واشتهر ذكره، وسما قدره، فليس أحد يجهل أمره، ولا يعرف إبراهيم إلا القليل من الناس، وكان إبراهيم يرى رأي الخوارج الإباضية:
إبراهيم بن ماهويه الفارسيرجل أديب، لا أعرف من حاله إلا ما ذكره المسعودي، فقال: له كتاب عارض فيه المبرد في كتابه الملقب بالكامل.
إبراهيم بن محمد بن أبي حصن

الحارث بن أسماء، بن خارجة، بن حصن، بن حذيفة، بن بدر، الفزاري أبو إسحاق، كوفي الأصل نزل ثغر المصيصة حتى مات به، في عدة روايات ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق، أصحها أنه مات سنة ثمان وثمانين، وقد روي أنه مات سنة ست، وقيل سنة خمس وثمانين، وكان خيِّراً، فاضلاً، ورعاً، صاحب سنة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وله فضائل جمة، يذكر منها في هذا الكتاب ما انتخبناه من كتاب دمشسسق، وكان أبو إسحاق مع ما اشتهر من فضله كثير الغلط، وله كتاب السيرة في الأخبار والأحداث، رواه عنه أبو عمرو معوية بن عمرو الرومي، وتوفي أبو عمرو هذا ببغداد، سنة خمس عشرة وثلاثمائة. قال ابن عساكر: أبو إسحاق أحد أئمة المسلمين، وأعلام الدين، روى عن الأعمش، وسليمان البتي، وأبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني، وعبد الملك بن عمير وعطاء بن السائب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى ابن عقبة، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وسفيان الثوري، وذكر خلقاً كثيراً، وروى عنه سفيان الثوري وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهما أكبر منه، وذكر خلقاً رووا عنه، وحدث فيما رفعه إلى رباح ابن الفرج الدمشقي قال: سمعت أبا مسهر يقول: قدم علينا إبراهيم بن الفزاري، فاجتمع الناس يسمعون منه، فقال لي: اخرج إلى الناس فقل لهم: من يرى رأي القدرية فلا يحضر مجلسنا، ومن كان يأتي السلطان فلا يحضر مجلسنا، قال: فخرجت فأخبرت الناس، قال.
وقال عبد الرحمن النسائي: أبو إسحاق الفزاري ثقة مأمون، أحد الأئمة، وكان يكون بالشام، روى عنه ابن المبارك، وحدث الأوزاعي بحديث، فقال رجل، من حدثك يا أبا عمرو؟ فقال: حدثني الصادق المصدق أبو إسحاق إبراهيم الفزاري، وحدث فيما رفعه إلى أبي صالح محبوب بن موسى الفراء، قال: سألت ابن عيينة قلت: حديث سمعت أبا إسحاق رواه عنك، أحببت أن أسمعه منك، فغضب علي فاتهرين، وقال: لا يقنعك أن تسمعه من أبي إسحاق، والله ما رأيت أحداً أقدمه على أبي إسحاق، وقال أبو صالح أيضاً: ولقيت الفضل بن عياض فعزاني بأبي إسحاق، وقال لي: والله لربما اشتقت إلى المصيصة مالي فضل الرباط إلا لأرى أبا إسحاق.
حدث فيما رفعه إلى أبي مسلم صالح بن أحمد العجلي عن أبيه قال: أبو إسحاق الفزاري كوفي، إسمه إبراهيم بن محمد، نزل الثغر بالمصيصة، وكان ثقة، رجلاً صالحاً، صاحب سنة، وهو الذي أدب أهل الثغر، وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه، أمر سلطاناً يوماً ونهاه فضربه مائتي سوط، وتكلم فيه، وسئل عنه يحيى بن معين فقال: ثقة ثقة. قال أبو صالح الحسين بن محمد بن موسى الفراء: سمعت علي بن بكار يقول: لقيت الرجال الذين لقيهم أبو إسحاق بن عون وغيرهم، والله ما رأيت فيهم أفقه منه. قال أبو صالح: قال عطاء الخفاف: كنت عند الأوزاعي فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق، فقال للكاتب: اكتب إليه: وابدأ به، فإنه والله خير مني.
قال: وكنت عند الثوري، فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق، فقال للكاتب: اكتب إليه فابدأ به، فإنه والله خير مني.
وحدث فيما رفعه إلى إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخذ الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين؟ قال: أريح الناس منك، قال: فأين أنت عن ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك؟ ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً؟

وحدث فيما رفعه إلى عبد الرحمن بن مهدي قال، كان الأوزاعي والفزاري إمامين في السنة، إذا رأيت الشامي يذكر الأوزاعي والفزاري فاطمئن إليه، كان هؤلاء الأئمة في السنة، وحدث أبو علي الروزباري: كان أربعة زمانهم واحد، كان أحدهم لا يقبل من السلطان ولا من الإخوان، يوسف بن أسباط، ورث سبعين ألف درهم لم يأخذ منها شيئاً، وكان يعمل الخوص بيده، وآخر كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعاً، أبو إسحاق الفزاري، فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستورين الذين لا يتحركون والذي يأخذه من السلطان ينفقه في أهل طرسوس، والثالث كان يأخذ من الإخوان ولا يأخذ من السلطان، وهو عبد الله بن المبارك، يأخذ من الإخوان ويكافيء عليه، والرابع كان يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان، وهو مخلد بن الحسين، كان يقول: السلطان لا يمن والإخوان يمنون.
وحدث ابن عساكر فيما رفعه إلى الأصمعي قال: كنت جالساً بين يدي هارون الرشيد، أنشده شعراً وأبو يوسف القاضي جالس على يساره، فدخل الفضل بن الربيع فقال: بالباب أبو إسحاق الفزاري، فقال: أدخله، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الرشيد: لا سلم الله عليك، ولا قرب دارك، ولا حيا مزارك، قال لم يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت الذي تحرم السواد فقال يا أمير المؤمنين من أخبرك بهذا؟ لعل هذا أخبرك، وأشار إلى أبي يوسف، وذكر كلمة: والله يا أمير المؤمنين، لقد خرج إبراهيم على جدك المنصور، فخرج أخي معه وعزمت على الغزو فأتيت أبا حنيفة فذكرت له ذلك، فقال لي: مخرج أخيك أحب إلي مما عزمت عليه من الغزو، ووالله ما حرمت السواد. فقال الرشيد: فسلم الله عليك وقرب دارك، وحيا مزارك، اجلس أبا إسحاق، يا مسرور ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق، فأتى بها، فوضعت في يده وانصرف بها، فلقيه ابن المبارك فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من عند أمير المؤمنين، وقد أعطاني هذه الدنانير، وأنا عنها غني، قال فإن كان في نفسك منها شيء فتصدق بها، فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها كلها.
وفضائل أبي إسحاق كثيرة، اختصرت منها حسب ما شرطت من الإيجاز من تاريخ دمشق لابن عساكر.
إبراهيم بن محمد سعدان بن المباركالنحوي، أحد من كتب وصحح ونظر وحقق، وروى وصدق، وقد صنف كتباً حسنة، منها كتاب الخيل لطيف، كتاب حروف القرآن، وأبوه محمد بن سعدان المكفوف أحد أعيان أهل العلم من القراء، وله باب يذكر فيه.
إبراهيم بن القاسم الكاتبيعرف بالرقيق القيرواني، والرقيق لقب له، رجل فاضل، له تصانيف كثيرة في علم الأخبار، ومنها كتاب تاريخ إفريقية والمغرب، عدة مجلدات، وكتاب النساء كبير، وكتاب الراح والارتياح كتاب نظم السلوك في مسامرة الملوك أربع مجلدات، وذكره ابن رشيق فقال: هو شاعر سهل الكلام محكمه لطيف الطبع قويه، تلوح الكتابة على ألفاظه، قليل صنعة الشعر، غلب عليه اسم الكتابة وعلم التاريخ وتأليف الأخبار، وهو بذلك أحذق الناس، وكاتب الحضرة منذ نيف وعشرين سنة إلى الآن، ومن شعره جواباً عن أبيات كتبها إليه عمار بن جميل، وقد انقطع عن مجالس الشراب:
قريض كابتسام الرو ... ض جمشه نسيم صبا
كعقد من جمان الط ... ل منظوم وما ثقبا
ومنثور كنثر الد ... رِّ من أسلاكه انسربا
فأهدى نشر زهرته ... فتيت المسك منتهبا
إذا أثماره جنيت ... جنيت العلم والأدبا
بهزل حين ينشده ... كأنك منتش طربا
حباك به أخ يرعى ... من العهد الذي وجبا
صديق مثل صفو الما ... ء بالصهباء قد قطبا
كنزت مودة منه ... كفت أن أكنز الذهبا
إذا عد امرؤ حسباً ... فحسبي ذكره نسباً
ألذ من الحياة لد ... يَّ لكن قلبه قلبا
فهان عليه ما ألقى ... وظن تجلدي لعبا
جفوت الراح عن سبب ... وكان لجفوتي سببا
فصرت لوحدتي كلاً ... على الإخوان مجتنبا
وذاك لتوبة أمل ... ت أن أقضي بها أربا
فها أنا نائب منها ... فزرني تبصر العجبا

وكان قدم مصر في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بهدية من نصير الدولة باديس بن زيري إلى الحاكم، فقال قصيدة يذكر فيها المناهل، ثم قال:
إذا ما ابن شهر قد لبسنا شبابه ... بدا آخر من جانب الأفق يطلع
إلى أن أقرت جيزة النيل أعيناً ... كما قر عيناً ظاعن حين يرجع
يقول فيها بعد مدح كثير ووصف جميل:
هدية مأمون السريرة ناصح ... أمين إذا خان الأمين المضيع
وما مثل باديس ظهير خلافة ... إذا اختير يوماً للظهيرة موضع
نصير لها من دولة حاتمية ... إذا ناب خطب أو تفاقم مطمع
حسام أمير المؤمنين وسهمه ... وسم زعاف في أعاديه منقع
قال: ومن مليح كلامه قوله من قصيدةٍ:
إذا ارجحنت بما تحوي مآزرها ... وخف من فوقها خصر ومنتطق
ثنى الصبا غصناً قد غازلته صباً ... على كثيب له من ديمة لثق
للشمس ما سترت عنا معاجرها ... وللغزال احورار العين والعنق
مظلومة أن يقال البدر يشبهها ... البدر يكسف أحياناً وينمحق
يجلل المتن وحف من ذوائبها ... جبينها تحت داجي ليلة فلق
كأنها روضة زهراء حالية ... بنورها يرتعي في حسنها الحدق
قال ومن أعجب ما سمعت له قوله من قصيدة يمدح محمد بن أبي العرب:
أظالمة العينين يخلطها سحر ... وإ ظلم الخدان واهتضم الخصر
أعوذ ببرد من ثناياك قد ثنى ... إليك قلوباً حشو اثنائها جمر
لقد ضمنت أن ضمانتي ... ستبري عظامي بالنحول ولا تبرو
وما أم ساجي الطرف خفاقة الحشا ... أطاع لها الحوذان والسلم النضر
إذا ما رعاها نصت الجيد نحوه ... أغن قصير الخطو في لحظه فتر
بأملح منها ناظراً ومقلداً ... ولكن عداني عن تقنصها الهجر
يقول في مديحها:
تصباه أبكار العلا ليس أنها ... منعمة هيفاء أو غادة بكر
يخال بأن العرض غير موفر ... عن الذم إلا أن يدال له الوفر
يقول فيها يصف بلاغته وكتابته:
يوشح ديباج البلاغة أحرفا ... يكاد يرى روضاً يوشحه الزهر
ويفصح لفظاً خطها من فصاحة ... ويشرق من تحبير ألفاظها الحبر
يصيب عيون المشكلات بديهة ... وتبدى له أعقاب ما غيب الفكر
ثم ذكر الممدوح فقال:
وملمومة شهباء يسعى أمامها ... شهاب عزيم من طلائعه الذعر
يزجى بنات الأعوجية شزباً ... عليها بنو الهيجا دروعهم الصبر
أسود وغىً تحت العجاجة غابها ... سريجية بيض وخطية سمر
صبحت بها دهماء قوم أرتهم ... وجوه الردى حمراً خوافقها الصفر
قال: ومثل هذه القصيدة في الجودة قصيدة طويلة يتشوق فيها إخوانه بمصر وهي:
هل الريح إن سارت مشرقة تسري ... تؤدي تحياتي إلى ساكني مصر؟
فما خرطت إلا بكيت صبابة ... وحملتها ما ضاق عن حمله صدري
تراني إذا هبت قبولاً بنشرهم ... شممت نسيم المسك في ذلك النشر
وما أنس من شيء خلا العهد دونه ... فليس بخال من ضميري ولا فكري
ليال أنسناها على غرة الصبا ... فطابت لنا إذ وافقت غرة الدهر
لعمري لئن كانت قصاراً أعدها ... فلست بمعتد سواها من العمر
أخادع دهري أن يعود بفرصة ... فيفقذ روح الوصل من راحة الهجر
وترجع أيام خلت بمعاهد ... من اللهو لا تنفك مني على ذكر
فكم لي بالأهرام أو دير نهية ... مصايد غزلان المكابد والقفر؟
إلى الجيزة الدنيا وما قد تضمنت ... جزيرتها ذات المواخير والجسر
وبالمقس فالبستان للعين منظر ... أنيق إلى شاطئ الخليج إلى القصر
وفي سردوس مستراد وملعب ... إلى دير مرحنا إلى ساحل البحر

وكم بين بستان الأمير وقصره ... إلى البركة الزهراء من زهر نضر؟
تراها كمرآة بدت في رفارف ... من السندس الموشى ينشر للتجر
وكم بت في دير القصير مواصلاً ... نهاري بليلي لا أفيق من السكر
تبادرني بالراح بكر غريرة ... إذا هتف الناقوس في غرة الفجر
مسيحية خوطية كلما انثنت ... تشكت أذى الزنار من دقة الخصر
وكم ليلة لي بالقرافة خلتها ... لما نلت من لذاتها ليلة القدر
سقى الله صوب القصر تلك مغانياً ... وإن غنيت بالنيل من سبل القطر
وله أيضاً في الغزل:
رئم إذا ما معاريض المنى خطرت ... أجله المتمنى عن أمانيه
يا إخوتي أأقاحي فيه أقبل لي؟ ... أم خط راءين من مسك على فيه؟
أم حس ذاك التراخي في تكلمه ... أم حسن ذاك التهادي في تثنيه؟؟
أم سخطه أم رضاه أم تجنبه؟؟؟ ... أم عطفه أم نواه أم تدانيه؟؟
نفسي فداؤك مالي عنك مصطبر ... يا قاتلي كل معنى من معانيه
وقال يرثي:
أهون ما ألقى وليس بهين ... بأن المنايا للفوس بمرصد
وإني وإن لم ألقك اليوم رائحاً ... لصرف رزاياها لقيتك في غد
فلا يبعدنك الله ميتاً بقفرة ... معفر خد في الثرى لم يوسد
تردى نجيعاً حين بزت ثيابه ... كأن على أعطافه فضل مجسد
مضاء سنان في سنان مذلق ... وفتك حسام في حسام مهند
إبراهيم بن محمد بن عبيد الله بن المدبرأبو إسحاق الكاتب الأديب الفاضل، الشاعر الجواد المترسل، صاحب النظم الرائق، والنثر الفائق، تولى الولايات الجليلة، ثم وزر للمعتمد على الله، لما خرج من سر من رأى بريد مصر، ومات في سنة تسع وسبعين ومائتين وهو يتقلد للمعتضد ديوان الضياع ببغداد.
وأصلهم من ستمسيان، وكان يدعي أنه من ضبة، وأخوه أحمد من جلة الكتاب وأفاضلهم وكرامهم، وحسدته الكتاب على منزلته من السلطان، فأغروه به، حتى أخرجه إلى دمشق متولياً عليها، وناظراً في تحصيل أموالها، وقبله ابن طولون في أمرٍ قد ذكرته في كتابي التاريخ.
وإبراهيم بن المدبر هو القائل في إبراهيم بن العباس الصولي يهجوه:
عز الطويل عن الأزمة ... لا رده ربي بذمه
إن كان طال فإنه ... من أقصر الثقلين همه
هب كنت صولاً نفسه ... من كان صول ناك أمه
ومن شعره أيضاً:
يا كاشف الكرب بعد شدته ... ومنزل الغيث بعد ما قنطوا
لا تبل قلبي بشحط بينهم ... فالموت دان إذا هم شحطوا
من كتاب نظم الجمان للمنذري، قال العطوي الشاعر: أتيت إبراهيم بن المدبر، فاستأذنت عليه، فلم يأذن لي حاجبه، فأخذت ورقة وكتبت فيها:
أتيتك مشتاقاً فلم أرَ جالساً ... ولا ناظراً إلا بوجه قطوب
كأني غريم مقتض أو كأنني ... نهوض حبيب أو حضور رقيب
فسألت الحاجب حتى أوصلها إليه، فلما قرأها قال: ويحك، أدخل علي هذا الرجل، فدخلت فأكرمني، وقضى حوائجي.

قال أبو علي: سمعت أبا محمد المهلبي يتحدث وهو وزير في مجلس أنس، أن رجلاً كان ينادم بعض الكتاب الظراف، وأحسبه قال: ابن المدبر قال: كنت عنده ذات يوم، فرجع غلام له أنفذه في شيء لا أدري ما هو، فقال له رب الدار ما صنعت؟ فقال ذهبت ولم يكن، فقام يجيء، فجاء، فلم يجيء، فجئت، قال فتبينت في رب الدار تغيراً وهماً، ولم يقل للغلام شيئاً، فعجبت من ذلك، ثم أخذ بيدي وقال: قد ضيق صدري ما جاء به هذا الغلام، فقم حتى تدور في البستان الذي في دارنا ونتفرج، فلعله يخف ما بي، فقلت: والله لقد توهمت أن صدرك قد ضاق بانقلاب كلام الغلام عليك، وقد فهمته وهو ظريف، فقال: إن هذا الغلام من أحصف وأظرف غلام يكون، وذاك أنني ممتحن بعشق غلام أمرد وهو ابن نجاد في جيراننا، والغلام يساعدني عليه، وأبوه يغار عليه، ويمنعه مني، فوجهت هذا الغلام، وقلت: إن لم يك أبوه هناك، فقل له يصير إلينا، فرجع، فلما رآك عندي، قدر أني لم أطلعك على الأمر فرد هذا الجواب الظريف الذي سمعته، فقلت: أعده علي أنت لأفهمه، فقال: إنه يقول: ذهبت إلى الغلام، ولم يكن أبوه هناك، فقام الغلام يجيء، فجاء أبوه، فلم يجيء الغلام فجئت أنا، فقلت له: هذا الغلام يجب أن يكون أخاً وصديقاً لا غلاماً، وقال مخلد بن علي الشامي الحوراني يهجو ابن المدبر:
على أبوابه من كل وجه ... قصدت له أخو مر بن أد
يعني ضبة بن أد، يعني أبوابه مضببة باللؤم أو محكمة عن الخير وكان ابن المدبر ينسب إلى ضبة:
أخو لخم أعارك منه ثوباً ... هنيئاً بالقميص لك الأجد
وأخو لخم يريد جذاماً.
أبوك أراد أمك حين زفت ... فلم توجد لأمك بنت سعد
بنت سعد يريد عذرة بن سعد بن هذيم القبيلة المعروفة.
وزبد في الهجاء بغير ذال ... أحب إليك من عسل بزبد
رأيتك لا تحب الود إلا ... إذا ما كان من عصب وجلد
أراني الله عرك في الجعبي ... وعينك عين بشار بن برد
العر: الجرب. والجعبي: الأست. وعين بشار: يعني أعمى لأن بشار بن برد كان أعمى.
إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلالابن عاصم، بن سعد، بن مسعود، بعمرو، بن عمير، ابن عوف، بن عقدة، بن غبرة، بن عوف، بن ثقيف، الثقفي، أصله كوفي، وسعد بن مسعود، هو أخو عبيد بن مسعود، صاحب يوم الجسر، في أيام عمر بن الخطاب مع الفرس، وسعد هو عم المختار بن أبي عبيد الثقفي، ولاه علي كرم الله وجهه المدائن، وهو الذي لجأ إليه الحسن يوم ساباط، وكنية إبراهيم أبو إسحاق، وكان جباراً من مشهوري الإمامية، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسين الطوسي في مصنفي الإمامية، وذكر أنه مات في سنة ثلاث وثمانين ومائتين قال وانتقل من الكوفة إلى أصفهان، وأقام بها، وكان زيدياً أولاً، وانتقل إلى القول بالإمامية.
وله مصنفات كثيرة، منها: كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردة، كتاب مقتل عثمان، كتاب الشورى، كتاب بيعة أمير المؤمنين، كتاب الجمل، كتاب صفين، كتاب الحكمين، كتاب النهر، كتاب الغارات، كتاب مقتل أمير المؤمنين، كتاب رسائل أمير المؤمنين وأخباره وحروبه، غير ما تقدم، كتاب قيام الحسن بن علي رضي الله عنهما، كتاب مقتل الحسين، كتاب التوابين وعين الوردة، كتاب أخبار المختار، كتاب فدك: كتاب الحجة في فعل المكرمين، كتاب السرائر، كتاب المودة في ذوي القربى، كتاب المعرفة، كتاب الحوض والشفاعة، كتاب الجامع الكبير في الفقه، كتاب الجامع الصغير، كتاب ما نزل منن القرآن في أمير المؤمنين، كتاب فضل الكوفة، ومن نزلها من الصحابة، كتاب الإمامة كبير، كتاب الإمامة صغير، كتاب المتعتين، كتاب الجنائز، كتاب الوصية، كتاب المبتدإ كتاب أخبار عمر، كتاب أخبار عثمان، كتاب الدار، كتاب الأحداث، كتاب الحرورية، كتاب الاستيفاء والغارات، كتاب السير، كتاب يزيد، كتاب ابن الزبير، كتاب التعبير، كتاب التاريخ، كتاب الرؤيا، كتاب الأشربة الكبير والصغير، كتاب محمد وإبراهيم، كتاب من قتل من آل محمد، كتاب الخطب.
إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي عون

ابن هلال أبي النجم الكاتب أبو إسحاق، صاحب كتاب التشبهات لابن أبي عون، وكان من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني، المعروف بابن أبي العزاقر، وأحد ثقاته، وممن كان يغلو في أمره، ويدعي أنه إلهه، تعالى الله عن ذلك، وكان ابن أبي العزاقر من أهل قرية من قرى واسط، تعرف بشلغمان، وكان كاتباً ببغداد.
ذكر ثابت أن المحسن بن الفرات، كان له عناية به، فاستخلفه ببغداد لجماعة من العمال بنواحي السلطان، وكانت صورته صورة الحلاج، وكان له قوم يدعون أنه إلههم، وأن روح الله عز وجل حل في آدم، ثم في شيث، ثم في واحد واحد من الأنبياء والأوصياء، والأئمة، حتى حل في الحسن بن علي العسكري، وأنه حل فيه، ووضع كتاباً سماه الحاسة السادسة، وأباح الزنا والفجور، فظفر به الراضي بالله، فقتله في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان قد استغوى جماعة، منهم: ابن أبي عون صاحب كتاب التشبيهات، وكانوا يبيحونه حرمهم، وأموالهم يتحكم فيها، وكان يتعاطى الكمياء وله كتب معروفة ولما أخذ ابن أبي العزاقر، أخذ معه، فلما قتل ابن أبي العزاقر، عرض على إبراهيم بن أبي عون أن يشتمه، أو يبصق عليه، فأبى وأرعد وأظهر خوفاً من ذلك للحين، والشقاء، فقتل، وألحق بصاحبه، وكان من أهل الأدب، وتأليف الكتب، وكان ناقص العقل متهوراً.
قال ثابت: قيل إن أبا جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر ادعى الربوبية فقتل هو وإبراهيم ابن محمد بن أحمد بن أبي النجم، المعروف بابن أبي عون صاحبه، ضربا بالسوط، ثم ضربت أعناقهما وصلبا، ثم أحرقت جثتهما، وذلك يوم الثلاثاء، لليلة خلت من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، نقلته من خطه، وله من التصانيف كتاب النواحي والبلدان، كتاب الجوابات المسكتة، وكتاب التشبيهات، كتاب بيت مال السرور، كتاب الدواوين. كتاب الرسائل.
قال المرزباني: أبو عون أحمد بن أبي النجم الكاتب الأنباري، مولى لبني سليم، وأبو عون وعماه صالح وماجد ابنا أبي النجم شعراء كلهم، وماجد يكنى أبا الدميل، وأبو عون هو القائل في حاتم بن الفرج وكان أبو شبل البرجمي الشاعر في قدمته سر من رأى نزل عليه، وكان أبو شبل أهتم، فقال فيه أبو عون:
لحاتم في بخله فطنة ... أدق حساً من خطى النمل
قد جعل الهتمان ضيفانه ... فصار في أمنٍ من الأكل
ليس على خبز امرئ ضيعة ... آكله عصم أبو شبل
كم قدر ما كله كفه ... إلى فم من سنه عطل؟
فحاتم الجود أخو طيء ... كان وهذا حاتم البخل
وذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني، وكان ابن أبي عون أحد القواد، ممن قربه إليه أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة، وأكسبه مالاً، فلما قبض على أبي الهيثم صار ابن أبي عون عوناً عليه مع أعدائه، وكان فيمن وكله بدار أبي الهيثم، ولم يحسن إليه أبو الهيثم إلا على بصيرة فيه بظلمه وفسقه، فسلطه الله عليه، كما كان هو يسلطه على الناس، قال ابن أبي عون: أظن أن أبا الهيثم كان يهودياً، قيل: وكيف ذلك؟ قال لأني أخذت غلاماً له ففسقت به في دبره وسكرت، وطلبت أم ولده لأفجر بها، ولم أقدر عليها، ولو كان أبو الهيثم مسلماً لغضب الله له، وهذا قول متمرد على الله، مستغر بإمهال الله تعالى له، ولم يهمله الله عز وجل، ثم أخذه بسوء عمله، وكان ممن آمن بالحلاج وآمن بربوبيته، وأخذ مع من أخذ من أصحاب الحلاج، وقتل شر قتلة، كذا قال الحلاج، إنما هو ابن أبي العزاقر، وإن كانت علتهما واحدة.
وقرأت بمرو رسالة كتبت من بغداد عن أمير المؤمنين الراضي رضي الله عنه إلى أبي الحسين نصر بن أحمد الساماني والي خرسان بقتل العزاقري، لخصت ما يتعلق بابن أبي عون، قال فيها بعد أن ذكر أول من أبدع مذهباً في الإسلام من الرافضة وأهل الأهواء، وآخر من اضطر المقتدر بالله رحمه الله فانتقم منهم من المعروف بالحلاج، وخبره أرفع وأشهر من أن يوصف ويذكر، وأراق دمه وأزال تمويهه وحسمه.

ولما ورث أمير المؤمنين ميراث أوليائه، وأحله الله محل خلفائه، اقتدى بسنتهم، وجرى على شاكلتهم، في كل أمر قاد إلى مصلحة، ودفع ضرر، وعاد إلى الإسلام وأهله بمنفعة، وجعل الغرض الذي يرجو الإصابة بتيممه، والمثوبة بتعمده، أن يتتبع هذه الطبقة من الكفار، ويطهر الأرض من بقيتهم، الفجار، فبحث عن أخبارهم، وأمر بتقصص آثارهم، وأن ينهي إليه ما يصح من أمورهم، ويحصل له ما يظهر عليه من جمهورهم، فلم يعد أن أحضر أبو علي محمد وزير أمير المؤمنين رجلاً، يقال له محمد بن علي الشلغماني، ويعرف بابن أبي العزاقر، فأعلم أمير المؤمنين أنه من غمار الناس وصغارهم، ووجوه الكفار وكبارهم، وأنه قد استزل خلقاً من المسلمين، وأشرك طوائف من العمهين، وأن الطلب قد كان لحقه في الأيام الخالية فلم يدرك، وأودعت المحابس قوماً ممن ضل وأشرك، فلما رفع حكمه عنه، وأذن في استنقاذ العباد منه، واطلع من أبي عليّ على صفاء نية، ونقاء طوية، في ابتغاء الأجر، وطلابه رضا الله عز وجل واكتسابه، والامتعاض من أن ينازع في الإلهية، أو يضاهي في الربوبية، آنسه بناحيته فاسترسل، وحثه بالمصير إلى حضرته، فتعجل، ففحص أمير المؤمنين عنه، ووكل إليه همه ففتش أمره تفتيش الحائط للمملكة، المحامي عن الحوزة، القائم بما فوضه الله إليه من رعاية الأمة، ووقف أمير المؤمنين على أنه لم يزل يدخل على العقول من كل مدخل، ويتوصل إلى ما فيها من كل متوصل، ويعتزى إلى الملة وهو لا يعتقدها، وينتمي إلى الخلة وهو عار منها، ويدعي العلوم الإلهية وهو عمٍ عنها، ويحقق استخراج الحكم الغامضة وهو جاهل بها، ويتسم بالقدرة على المعجزات، وهو عاجز عن ممكن الأشياء ومتهيئها، وينتحل الثقة في دين آل محمد، وهو يضمر التبرؤ منها، ويشنؤه ويسبه صلى الله عليه وسلم ويعظمه، يرمق ظاهره العيون، فيصرف عنه الظنون، إلى أن دلته الحيلة والمكر والغيلة، على قوم من ذوي الجدة واليسار والثروة والاحتكار، قد أترفهم النعيم فبطروا، وألهاهم فأشروا، ولججهم في بحار اللذة وتولجوها على كل علة، والتمسوا في ذلك رخصة يجعلونها لأنفسهم عمدة وعصمة، وآخرين لا جدة عندهم ولا سعة، قد قويت شهواتهم، وضعفت حالاتهم، فهم يطلبون أقواتهم بالحق والباطل، ويخوضون في مثلها مع الجاد والهازل، فأباحهم المحظورات، وأحل لهم المحرمات، وامتطى لهم مركب الغرور، وتهور بهم غايات الأمور، ولم يدع فناً من الفنون، ولا نوعاً من الأنواع المخزية إلا فسح لهم فيه، وشحذ عزائمهم عليه، حتى دان له واتبعه وأطاعه وشايعه خلق رين على قلوبهم، فهم لا يفقهون، وضرب على آذانهم، فهم لا يسمعون، وغطيَ على أعينهم، فهم لا يبصرون، وحيل بينهم وبي الرشد، فهم لا يرعوون وأنسوا التدبر والتفكر في خلق أنفسهم، والسماء التي تظللهم، والأرض التي تقلهم فأصفقوا بأجمعهم على أنه خالقهم، وربهم ورازقهم، ومحييهم، يحل فيما شاء من الصور، ويحدث ما شاء من الغير، ويفعل ما يريد، ولا يعجزه قريب ولا بعيد، وادعوا له الدعاوى الباطلة، وزعموا أنهم عاينوا منه الآيات المعضلة، واستظهر أمير المؤمنين، بأن تقدم إلى أبي عليٍّ بمواقفة هذا اللعين على تمويهاته، وقبائح تلبيساته، ليكون إقامة أمير المؤمنين حد الله عليه، بعد الإنعام في الاستبصار، وانكشاف الشبهة فيه عن القلوب والأبصار، فتجرد أبو علي في ذلك وتشمر، وبلغ منه وما قصر وانثال عليه كل من اطلع على الحقيقة، وتعرف جلية الصورة فوقف أبو علي على أن العزاقري يدعي أنه لحق الحق، وأنه إله الآلهة، الأول القديم، الظاهر، الباطن، الخالق، الرازق، التام، الموصى إليه بكل معنى، ويدعى بالمسيح، كما كانت بنو إسرائيل تسمي الله عز وجل المسيح، ويقول: إن الله جل وعلا، يحل في كل شيء، على قدر ما يحتمل، وأنه خلق الضد ليدل به على مضدوده، فمن ذلك أنه جلى في آدم لعيه السلام لما خلقه، وفي إبليس، وكلاهما لصاحبه يدل عليه لمضادته إياه في معناه، وأن الدليل على الحق أفضل من الحق، وأ الضد أقرب إلى الشيء من شبهه، وأن الله عز وجل إذا حل في هيكل جسد ناسوتي، أظهر من القدرة المعجزة ما يدل على أنه هو، وأنه لما غاب آدم عليه السلام، ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتية، كلما غاب منهم واحد، ظهر مكانه غيره، وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتية في إدريس عليه السلام

وإبليسه، وتفرقت بعدهما، كما تفرقت بعد آدم عليه السلام واجتمعت في نوح عليه السلام وإبليسه، وتفرقت عند غيبتهما، حسب ما تقدم ذكره، واجتمعت في صالح وإبليسه عاقر الناقة، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم وإبليسه نمرود، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرقت على الرسم بعدهما، واجتمعت في داود عليه السلام وإبليسه جالوت، وتفرقت لما غاب، واجتمعت في سليمان عليه السلام وإبليسه، وتفرقت كعادتها بعدهما، واجتمعت في عيسى عليه السلام وإبليسه، ولما غاب تفرقت في تلامذة عيسى كلهم عليهم السلام، والأبالسة معهم، واجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه، وتفرقت بعدهما، إلى أن اجتمعت في ابن أبي العزاقر وإبليسه، ويصف أن الله عز وجل يظهر في كل شيء بكل معنى، وأنه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصور له ما يغيب عنه كأنه يشاهده، وأن الله اسم لمعنى، ومن احتاج إليه الناس فهو إلههم، ولهذا يستوجب كل كفيٍّ أن يسمى الله، وأن كل واحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه رب لمن هو دون درجته، وأن الرجل منهم يقول: إني رب فلان، وفلان رب فلان، حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر، لعنه الله، فيقول أنا رب الأرباب، وإله الآلهة، لا ربوبية لرب بعدي، وأنهم لا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لأن من اجتمعت له اللاهوتية لم يكن له والد ولا ولد، وأنهم يسمون موسى ومحمداً صلى الله عليهما الحائنين، لأنهم يدعو أن هارون أرسل موسى عليهما السلام، وأن علياً رضي الله عنه، أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم فخاناهما، ويزعمون أن علياً أمهل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة، ويصفون أن الملائكة كل من ملك نفسه، وعرف الحق ورآه، وأن الحق حقهم، وأن الجنة معرفتهم، وانتحال نحلتهم، والنار الجهل بهم، والصدود عن مذهبهم، ويغتفرون ترك الصلاة والصيام والاغتسال، ويذكرون أن من نعم الله على العبد، أن يجمع له اللذتين، وأنهم لا يتناكحون بتزويج على السنة، ولا بحال تأول أو رخصة، ويبيحون الفروج ويقولون: إن محمداً عليه السلام بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، وقلوبهم قاسية، ونفوسهم آبية، فكان من الحكمة ما طالبهم به من السجود، وأن من الحكمة الآن أن يمتحن الناس في إباحة فروج حرمهم، وأن لا شيء عندهم في ملامسة الرجل نساء ذوي رحمه، وحرم صديقه وأبيه بعد أن يكون على مذهبه، ولا ينكرون أن يطلب أحدهم من صاحبه حرمته ويردها إليه، فيبعث بها طيبة نفسه، وأنه لابد للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه. وابن أبي العزاقر له في هذه الخصلة كتاب، سماه كتاب الحاسة السادسة، وقال: إنه متى أبى ذلك آب قلب في الكون الذي يجيء بعد هذا امرأة، إذ كان يحقق التناسخ وأنه ومن معه يرون البراءة من الطالبيين، كما يرونها من العباسيين، ويدعون إلى أنفسهم دون غيرهم، إذ كان الحق عندهم، ويظهر فيهم، ووجد كتاب من الحسين ابن القاسم، بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، قيل إنه إلى إبراهيم بن محمد، بن أحمد بن أبي النجم، المعروف بابن أبي عون، أحد وجوه العزاقرية، ترجمته:إبليسه، وتفرقت بعدهما، كما تفرقت بعد آدم عليه السلام واجتمعت في نوح عليه السلام وإبليسه، وتفرقت عند غيبتهما، حسب ما تقدم ذكره، واجتمعت في صالح وإبليسه عاقر الناقة، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم وإبليسه نمرود، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرقت على الرسم بعدهما، واجتمعت في داود عليه السلام وإبليسه جالوت، وتفرقت لما غاب، واجتمعت في سليمان عليه السلام وإبليسه، وتفرقت كعادتها بعدهما، واجتمعت في عيسى عليه السلام وإبليسه، ولما غاب تفرقت في تلامذة عيسى كلهم عليهم السلام، والأبالسة معهم، واجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه، وتفرقت بعدهما، إلى أن اجتمعت في ابن أبي العزاقر وإبليسه، ويصف أن الله عز وجل يظهر في كل شيء بكل معنى، وأنه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصور له ما يغيب عنه كأنه يشاهده، وأن الله اسم لمعنى، ومن احتاج إليه الناس فهو إلههم، ولهذا يستوجب كل كفيٍّ أن يسمى الله، وأن كل واحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه رب لمن هو دون درجته، وأن الرجل منهم يقول: إني رب فلان، وفلان رب فلان، حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر، لعنه الله، فيقول أنا رب الأرباب، وإله الآلهة، لا ربوبية لرب بعدي، وأنهم لا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لأن من اجتمعت له اللاهوتية لم يكن له والد ولا ولد، وأنهم يسمون موسى ومحمداً صلى الله عليهما الحائنين، لأنهم يدعو أن هارون أرسل موسى عليهما السلام، وأن علياً رضي الله عنه، أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم فخاناهما، ويزعمون أن علياً أمهل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة، ويصفون أن الملائكة كل من ملك نفسه، وعرف الحق ورآه، وأن الحق حقهم، وأن الجنة معرفتهم، وانتحال نحلتهم، والنار الجهل بهم، والصدود عن مذهبهم، ويغتفرون ترك الصلاة والصيام والاغتسال، ويذكرون أن من نعم الله على العبد، أن يجمع له اللذتين، وأنهم لا يتناكحون بتزويج على السنة، ولا بحال تأول أو رخصة، ويبيحون الفروج ويقولون: إن محمداً عليه السلام بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، وقلوبهم قاسية، ونفوسهم آبية، فكان من الحكمة ما طالبهم به من السجود، وأن من الحكمة الآن أن يمتحن الناس في إباحة فروج حرمهم، وأن لا شيء عندهم في ملامسة الرجل نساء ذوي رحمه، وحرم صديقه وأبيه بعد أن يكون على مذهبه، ولا ينكرون أن يطلب أحدهم من صاحبه حرمته ويردها إليه، فيبعث بها طيبة نفسه، وأنه لابد للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه. وابن أبي العزاقر له في هذه الخصلة كتاب، سماه كتاب الحاسة السادسة، وقال: إنه متى أبى ذلك آب قلب في الكون الذي يجيء بعد هذا امرأة، إذ كان يحقق التناسخ وأنه ومن معه يرون البراءة من الطالبيين، كما يرونها من العباسيين، ويدعون إلى أنفسهم دون غيرهم، إذ كان الحق عندهم، ويظهر فيهم، ووجد كتاب من الحسين ابن القاسم، بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، قيل إنه إلى إبراهيم بن محمد، بن أحمد بن أبي النجم، المعروف بابن أبي عون، أحد وجوه العزاقرية، ترجمته:

إلى مولاي بشرى، من غلامه مرزوق الثلاج، المسكين الفقير، الذي بفضل الله يجمع الله بينه وبينه، في خير وعافية برحمته، يقول في فصل منه: على مولاي أعتمد، وهو حسبي، وفي فصل آخر: ومولاي أهل للتفضل علي، ورحمة ضعفي، وأرجو ألا يتأخر بفضله عني، وينجزني وعده، وعيني ممدودة إلى تفضل مولاي، وأسأله به إعانتي، فسئل ابن أبي العزاقر عن ذلك الكتاب، فكتب بيده؟ إنه بخط الحسين بن علي بن القاسم، إلى ابن أبي عون، ووافق ابن أبي عون على ذلك لأن الله أظفر به ومكن منه، ورداه رداء ما عمل، ووفاه غاية ما كتب له من المهل، واعترف بأنه كتاب الحسين ابن علي بن القاسم إليه، وأن ما على عنوانه صحيح، وأنه هو بشرى، وأن مرزوقاً الثلاج هو الحسين بن القاسم، وكتب ذلك بخطه، وأشهد جماعة من العدول على ما اعترف به: ووجدت رقعة لابن أبي عون هذا بخطه، إلى بعض نظرائه، يخاطبه فيها كما يخاطب الإنسان ربه، تبارك وتعالى، ويقول في بعض فصولها: لك الحمد، وكل شيء، وما شئت كان، ربي، وفي فصل آخر منها: ولك الحمد على تشريفك وتقريبك، فوقف عليها، واعترف بها، وأشهد على نفسه عدة من العدول بصحتها.
ووجدت رقعة من المعروف بابن شيث الزيات، إلى ابن أبي عون هذا، يقول فيها: يا مولاي، عوائد مولاي عندي لطيفة، ورحمته وتفضله، وجميل إحسانه بامتنانه علي على كل حال، وائتناسي تفضل منه ورحمة، فأسأله بجوده، أن يتمم ما تفضل به، ولا يسلبني إياه، فإن نعمه عليّ ظاهرة وباطنة، قد ألبسني عافيته، وأصلح شأني، واصلح ولدي، ورزقني القناعة، وفي ذلك الغناء الأكبر، وأكبر منه تفضله عليّ بأمر عظيم، لا يجازى بشكر، ولا يسعه إلا تفضله، فإن مولاي الكبير، دعاني ابتداء فصرت إليه، فقربني وأدناني، ومنّ علي بحديثه، وسقاني بعد جهد بيده، وقربني غاية القرب، ومع هذه الحالة العظيمة، وإعطائه لي الملك الخفي، فقد صحا قلبي عن كل كسر كان فيه، وكل شدة جرت، وفعل بي ما لم يفعله بالثلاج، وأرجو أن يمن مولاي بإتمام صلاحي ديناً ودنيا، والمنة لمولاي، وأسأل مولاي الإحسان والتفضل، فإني فقير على كل حال، وأرجو منه توسعة في كل ضيق، وأمناً من كل خوف وأماناً من الشدائد، وما هو أولى به مما لا أعلمه وهو القادر عليه، والرحيم فيه، بمنه وجميل إحسانه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
واعترف ابن أبي عون أنها إليه، وأن المخاطبة فيها له، وأن ابن شيث أراد بقوله " مولاي الكبير " ، ابن أبي العزاقر، وبقوله " الثلاج " الحسين بن القاسم، وأعطى بذلك خطه، وأشهد به، ووجد هذا الرجل مستبصراً في كفره، مستظهراً في أمره، مستقصياً في طريق غيه، ماضياً في عنان شركه وإفكه، حتى إنه كلف التبرؤ من ابن أبي العزاقر لعنه الله ونيله بإهانة يصغر بها قدره، فامتنع من ذلك وأبى، وحاد عنه واستعصى، إلى أن لم يجد محيصاً، فمد يده إلى لحيته، على سبيل توقير وتكريم، وإجلال وتعظيم، وصرف تعد، وإماطة الأذى، وقال معلناً غير مخافت، " مولاي مولاي " هذا إلى ما وجد بخطه، وخطوط نظرائه، من الكبائر التي لا تسوغ في الدين، ولا يحتملها ذو يقين، وإلى ما رسمته هذه الفرقة من الأدعية، التي موهت بها على أهل الوكالة، والغباوة، وإذا تأملها أولو الروية والرواية، وجدت مباينة لما ألف في الشريعة، مشوبة بالمكر والتدليس، مشحونة بالختل والتلبيس، محلة دم مبتدعها، والمتمسك بها، واستفتى أبو علي القضاة والفقهاء، في أمر ابن أبي العزاقر وصاحبه هذا الكافر، وسائر من على مذهبه، ممن وجدت له كتب ومخاطبة، ومن لم يوجد له ذلك، فأفتى من استفتى منهم بقتلهم، وأباحوا دماءهم، وكتبوا بذلك خطوطهم، فأمر أمير المؤمنين بإحضار ابن أبي العزاقر اللعين، وابن أبي عون صاحبه، وضريبه وتابعه، وأن يجلدا، ليراهما من سمع بهما، ويتعظ بما نزل من العذاب بساحتهما، ويتبين من دان بربوبية ابن أبي العزاقر عجزه عن حراسة نفسه، وأنه لو كان قادراً، لدفع عن مهجته، ولو كان خالقاً دفع وكشف الضر عن جسده، ولو كان رباً لقبض الأيدي عن نكايته.

وجدد أمير المؤمنين الاستظهار، والحزم والروية فيما يمضيه عن العزم، وأحضر عمر بن محمد القاضي بمدينة السلام، والعدول بها، والفقهاء من أهل مجلسه، وسألهم عما عندهم، مما انكشف من أمر ابن أبي العزاقر، وأمور أهل دعوته، وغيه وضلالته، فأقامت الكافة على رأيها في قتله، وتطهير الأرض من رجسه، ورجس مثله، وزال الشك في ذلك عن أمير المؤمنين بالفتيا، وإجماع القاضي والفقهاء، وبما وضح من إزلال هذا الضلال المسلمين، وإفساد الدين، وذلك أعظم وأثقل وزراً من الإفساد في الأرض، والسعي فيها بغير الحق، وقد استحق من جرى هذا المجرى القتل، فأوعز أمير المؤمنين بصلبه وصلب ابن أبي عون، بحيث يراهما المنكر والعارف، ويلحظهما المجتاز والواقف، فصلبا في أحد جانبي مدينة السلام، ونودي عليهما بما حاولاه من إبطال الشريعة. ورأياه من إفساد الديانة. ثم تقدم أمير المؤمنين بقتلهما، ونصب رؤوسهما، وإحراق أجسامهما، ففعل ذلك بمشهد من الخاصة والعامة، والنظارة والمارة.
إبراهيم بن محمد نفطويههو إبراهيم بن محمد، بن عرفة بن سليمان، بن المغيرة ابن حبيب بن المهلب، بن أبي صفرة، العتكي الأزدي من أهل واسط وكنيته أبو عبد الله.
قال الثعالبي: لقب نفطويه تشبيهاً إياه بالنفط، لدمامته وأدمته، وقدر اللقب على مثال سيبويه لأنه كان ينسب في النحو إليه، ويجري في طريقته، ويدرس شرح كتابه، وأنشدوا: لو أنزل النحو على نفطويه: قال وقد صيره ابن بسام نفطوية بضم الطاء وتسكين الواو وفتح الياء فقال:
رأيت في النوم أبي آدماً ... صلى عليه الله ذو الفضل
فقال أبلغ ولدي كلهم ... من كان في حزن وفي سهل
بأن حوا أمهم طالق ... إن كان نفطوية من نسلي
كان عالماً بالعربية، واللغة، والحديث، أخذ عن ثعلب، والمبرد، وغيرهما، روى عنه أبو عبيد الله المرزباني، وأبو الفرج الأصبهاني، وابن حيوية، وغيرهم، ذكره المرزباني في المقتبس، فقال: ولد في سنة أربع وأربعين ومائتين قال: ومات رحمه الله يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وحضرت جنازته عشاء، ودفن في مقابر باب الكوفة، وصلى عليه البربهاري، وكان يخضب بالوسمة، قال: وكان من طهارة الأخلاق، وحسن المجالسة، والصدق فيما يرويه، على حلا ما شاهدت عليها أحداً ممن لقيناه.
وكان يقول: جلست إلى هذه الأسطوانة مذ خمسون، يعني محلته بجامع المدينة، وكان حسن الحفظ للقرآن، أول ما يبتدئ به في مجلسه بمسجد الأنباريين بالغدوات، إلى أن يقرئ القرآن، على قراءة عاصم، ثم الكتب بعده، وكان فقيهاً، عالماً بمذهب داود الإصبهاني، رأساً فيه، يسلم له ذلك جميع أصحابه، وكان مسنداً في الحديث من أهل طبقته، ثقة، صدوقاً، لا يتعلق عليه شيء من سائر ما رووه، وكان حسن المجالسة للخلفاء والوزراء، متقن الحفظ للسيرة، وأيام الناس، وتواريخ الزمان، ووفاة العلماء وكانت له مروءة، وفتوة وظرف.
ولقد هجم علينا يوماً ونحن في بستان كان له بالزبيدية في سنة عشرين، أو إحدى وعشرين وثلاثمائة، فرآنا على حال تبذل، فانقبضت: وذهبت أعتذر إليه: فقال: في التعاقل على التبذل سخف، ثم أنشدنا لنفسه:
لنا صديق غير عالي الهمم ... يحصي على القوم سقاط الكلم
ما استمتع الناس بشيء كما ... يستمتع الناس بحسم الحشم
قال المرزباني: وكان يقول من الشعر المقطعات، في الغزل، وما جرى مجراها: كما يقول المتأدبون، وسنورد من ذلك فيما بعد إن شاء الله حسب الكفاية.

وكان بين أبي عبد الله فطويه، وبين محمد بن الأصبهاني مودة أكيدة، وتصاف تام، وكان ابن داود يهوى أبا الحسين محمد بن جامع الصيدلاني، هوىً أفضى به إلى التلف. وقال ابن عرفة نفطويه، فدخلت عليه في مرضه الذي مات فيه، فقلت يا سيدي ما بك؟ فقال: حب من تعلم، أورثني ما ترى، فقلت: ما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع نوعان: محظور، ومباح، أما المحظور، فمعاذ الله منه، وأما المباح فهو الذي صيرني إلى ما ترى، ثم قال: حدثني سويد بن سعيد الحدثاني، عن أبي يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حب فعف وكتم، ثم مات، مات شهيداً " ثم غشي عليه ساعة، وأفاق، ففتح عينيه، فقلت له أرى قلبك قد سكن، وعرق جبينك قد انقطع، وهذا أمارة العافية، فأنشأ يقول:
أقول لصاحبي وسلياني ... وغرهما سكون حمى جبيني
تسلوا بالتعزي عن أخيكم ... وخوضوا في الدعاء وودعوني
فلم ادع الأنين لضعف سقم ... ولكني ضعفت عن الأنين
ثم مات من ليلته، وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين فيقال إن نفطويه تفجع عليه، وجزع جزعاً عظيماً، ولم يجلس للناس سنة كاملة، ثم ظهر بعد السنة فجلس، فقيل له في ذلك فقال: إن أبا بكر بن داود قال لي يوماً، وقد تجارينا حفظ عهود الأصدقاء، فقال: أقل ما يجب للصديق أن يتسلب على صديقه سنة كاملة، عملاً بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
فحزنا عليه سنة كما شرط.
قال المؤلف لهذا الكتاب: وأخبار أبي بكر بن داود كثيرة، مليحة رائقة، وقد أفردنا له باباً في هذا الكتاب، فقف عليه تطرب وتعجب، قال المرزباني: ومما أنشدنا لنفسه في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة:
غنج الفتور يجول في لحظاته ... والورد غض النبت في وجناته
وتكل ألسنة الورى عن وصفه ... أو أن تروم بلوغ بعض صفاته
لا يعرف الإسعاف إلا خطرة ... لك طول الصد من عزماته
لا يستطيع نعم ولا يعتادها ... بل لا يسوغ لعل في لهواته
قال وأنشدنا لنفسه:
تشكو الفراق وأنت تزمع رحلة ... هلا أقمت ولو على جمر الغضا
فالآن عذ بالصبر أو مت حسرة ... فعسى يرد لك النوى ما قد مضى
قال وأنشدنا لنفسه:
أتخالني من زلة أتعتب ... قلبي عليك أرق مما تحسب
قلبي وروحي في يديك وإنما ... أنت الحياة فأين منك المهرب
قال مؤلف الكتاب: ولم يورد أبو عبيد الله إلا هذين البيتين، وأنشدني بعض الأصدقاء، البيت الأول منها، وأتبعه بما لا أعلم، أهو من قول نفطويه أو غيره، وهو:
لا يوحشنك ما صنعت فتنثني ... متجنباً فهواك لا يتجنب
أنت البريء من الإساءة كلها ... ولك الرضى وأنا المسيء المذنب
وحياة وجهك وهو بدر طالع ... وسواد شعرك وهو ليل غيهب
ما أنت إلا مهجتي وهي التي ... أحيا بها أترى على من أغضب؟
قال المرزباني وأنشدني لنفسه:
كفى بالهوى بلوى وبالحب محنة ... وبالهم تعذيباً وبالعذل مغرما
أما والذي يقضي الأمور بأمره ... فما شاء أمضاه وما شاء أحكما
لقد حملتني صبوتي وصبابتي ... من الشوق ما أضنى الفؤاد وتيما
قال وأنشدنا لنفسه:
تجل بلواي عن البلوى ... ويذهل القلب عن الشكوى
يظلمني من لا أرى ظلمه ... وما عليه لي من عدوى
عذبي الحب ولكني ... لا أطلب الراحة بالبلوى
سلط من أهوى علي الضنى ... لا آخذ الله الذي أهوى
قال: وله:
لك خد تذيبه الأبصار ... يخجل الورد منه والجلنار
لا تغيبي ع ناظري فإني ... أنا من لحظتي عليك أغار
وكان بين نفطويه وابن دريد مماظة فقال فيه لما صنف كتاب الجمهرة:
إبن دريد بقره ... وفيه لؤم وشره
قد ادعى بجهله ... جمع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين إلا ... أنه قد غيره

فبلغ ذلك ابن دريد فقال يجيبه:
لو أنزل الوحي على نفطويه ... لكان ذاك الوحي سخطاً عليه
وشاعر يدعى بنصف اسمه ... مستأهل للصفع في أخدعيه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخاً عليه
وحدث ابن شاذان قال: بكر نفطويه إلى درب الرواسين، فلم يعرف الموضع، فتقدم إلى رجل يبيع البقل، فقال له: أيها الشيخ، كيف الطريق إلى درب الرواسين؟ قال فالتفت البقلي إلى جار له، فقال: يا فلان ألا ترى إلى الغلام فعل الله به وصنع، قد احتبس علي، فقال وما الذي تريد منه؟ فقال عوق السلق علي، فما عندي ما أصفع به هذا العاض بظر أمه، فانسل ابن عرفة ولم يجبه، وأنشد الخطيب لنفطويه:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر
كم قد خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في سواه منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
ومنه:
أستغفر الله مما يعلم الله ... إن الشقي لمن لم يرحم الله
هبه تجاوز لي عن كل مظلمة ... واسوءتا من حياء يوم ألقاه
وذكره الزبيدي في كتابه، فقال: كان بخيلاً، ضيقاً في النحو، واسع العلم بالشعر.
قال أبو هلال في كتاب الأوائل: حدثني أبو أحمد، قال: كنا في مجلس نفطويه وهو يملي، فدخل غلام وضيء الوجه، وقال: قال رجل من أهل عصرنا:
كم خاس ميعادك يا مخلف ... كم تخلف الوعد وكم تحلف؟؟
قد صرت لا أدعو على كاذب ... ولا ظلوم الفعل لا ينصف
فما شك أحد ممن حضر، أن الغلام كان وعده وأخلفه، وأن الشعر له، وكان نفطويه مع كونه من أعيان العلماء، وعلماء الأعيان، غير مكترث بإصلاح نفسه، فكان يفرط به الصنان، فلا يغيره، فحضر يوماً مجلس حامد بن العباس، وزير المقتدر، فتأذى هو وجلساؤه بكثرة صنانه، فقال حامد: يا غلام، أحضرنا مرتكاً، فجاء به، فبدأ الوزير بنفسه فتمرتك، وأداره على الجلساء فتمرتكوا، وفطوا ما أراد بنفطويه، وأنه أراد من نفطويه أن يتمرتك، فيزول صنانه، من غير أن يجبهه بما يكره، فقال نفطويه لا حاجة بي إليه، فراجعه فأبى، فاحتد حامد واغتاظ، وقال له يا عاض كذا من أمه، إنما تمرتكنا جميعاً لتأذينا بصنانك، قم لا أقام الله لك وزناً، ثم قال: أخرجوه عني، أو أبعدوه إلى حيث لا أتأذى به، وقال ابن بشران أبو محمد عبيد الله في تاريخه.
ومن شعر نفطويه:
الجد أنفع من عقل وتأديب ... إن الزمان ليأتي بالأعاجيب
كم من أديب يزال الدهر يقصده ... بالنائبات ذوات الكره والحوب
وامرئ غير ذي دين ولا أدب ... معمر بين تأهيل وترحيب
ما الرزق من حيلة يحتالها فطن ... لكنه من عطاء غير محسوب
قال: وكان كثير النوادر، ومن نوادره، قيل لبهلول في كم يوسوس الإنسان، فقال: ذاك إلى صبيان المحلة، قال: وقيل لبعض الشيعة، معاوية خالك، فقال لا أدري، أمي نصرانية، والأمر إليه بخط الوزير المغربي قال نفطويه أما سائر العلوم فهاهنا من يشركنا فيها. وأما الشر: فإذا مت مات على الحقيقة، وقال: من أغرب عليّ ببيت لجرير لا أعرفه فأنا عبده، وقال ابن خالويه، وقال لي يوماً وقد حضرته الوفاة: قد جالستني فما رأيت منك إلا خيراً، فادع لي، ثم قال وضئوني، وقد كنت آخذ بيده، فمر بمسجد هشام بن خلف البزار فقال، هذا مسجد هشام مقرئ أهل بغداد، والله ما كان بأعلم مني، ولكنه أطاع الله فرفع، وعصيت الله فوضع مني.
قال الحسين بن أبي قيراط، انصرفت من عند أبي عبد الله نفطويه، وقد كتبت عنه شيئاً، فجئت إلى أبي إسحاق إبراهيم السري الزجاج، فقال لي: ما هذا الكتاب؟ فأريته إياه، وكان على ظهره مقطوعتان، أنشدنيهما نفطويه لنفسه.
فلما قرأهما الزجاج استحسنهما وكتبهما بخطه على ظهر كتاب غريب الحديث، وكان بحضرته:
تواصلنا على الأيام باق ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوته لكن تراه ... على روعاته داني النزوع

كذا العشاق هجرهم دلال ... ومرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذ الله أن نلقى غضاباً ... سوى ذاك المطاع على المطيع
والأخرى:
وقالوا شانه الجدري فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم
فقلت ملاحة نثرت عليه ... وما حسن السماء بلا نجوم؟
وذكر الفرغاني أن نفطويه كان يقول بقول الحنابلة، إن الاسم هو المسمى، وجرت بينه وبين الزجاج مناظرة، أكر الزجاج عليه موافقته الحنابلة على ذلك.
قرأت في تاريخ خوارزم قال أبو سعد الحمدلجي: سمعت نفطويه يقول: إذا سلمت على اليهودي والنصراني، فقلت له أطال الله بقاءك، وأدام سلامتك، وأتم نعمته عليك، فإنما أريد به الحكاية أي أن الله قد فعل بك إلى هذا الوقت، وأعتقد به الدعاء للمسلم، قال الحمدلجي: وأنشدنا نفطويه لنفسه:
إذا ما الأرض جانبها الأعادي ... وطاب الماء فيها والهواء
وساعد من تحب بها وتهوى ... فتلك الأرض طاب بها النواء
يرى الأحباب ضنك العيش وسعاً ... ولا يسع البغيضين الفضاء
وعقل المرء أحسن حليتيه ... وزين المرء في الدنيا الحياء
قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب. كتاب التاريخ، كتاب الاقتصارات، كتاب البارع، كتاب غريب القرآن، كتاب المقنع في النحو، كتاب الإستثناء والشرط في القراءة، كتاب الوزراء، كتاب الملح، كتاب الأمثال، كتاب الشهادات، كتاب المصادر كتاب القوافي كتاب أمثال القرآن، كتاب الرد على من يزعم أن العرب يشتق كلامها بعضه من بعض كتاب الرد على من قال بخلق القرآن، كتاب الرد على المفضل بن سلمة في نقضه على الخليل كتاب في أن العرب تتكلم طبعاً لا تعلماً، والله أعلم.
الجزء الثاني
إبراهيم بن محمد الكلابزيأدرك المازني وأخذ عن المبرد ومات في سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال الزبيدي: وإبراهيم بن محمد بن العلاء الكلابزي اللغوي، من أهل العراق، بصري المذهب. حكي عن ابن المبرد أنه قال: في تلاميذ أبي رجلا: أحدهما يسفل، والآخر يعلو، فقيل ومن هما؟ قال المبرمان يقرأ على أبي، ويأخذ عنه كتاب سيبويه، ثم يقول قال الزجاج، فهذا يسفل، والكلابزي يقرأ عليه، ثم يقول قال المازني، فهذا يعلو، وكان الكلابزي قد أدرك المازني، فقال ابن إبراهيم بن حميد الكلابزي مات بالبصرة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وكان متقدماً في النحو واللغة، وقد ولي القضاء بالشام.
إبراهيم بن محمد بن زكرياالزهري، الأندلسي، أبو القاسم، يعرف بابن الإفليلي، حدث عن أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي، بكتاب النوادر عن القالي، وكان متصدراً في العلم ببلده، يقرأ عليه الأدب، ويختلف إليه، وله كتاب شرح معاني شعر المتنبي، حسن جيد، قال الحميدي: وكان مع علمه بالنحو واللغة، يتكلم في معاني الشعر، وأقسام البلاغة، والنقد لها، روى عنه جماعة، وحكى عنه بإسناد له أنه قال: كان شيوخنا من أهل الأدب يتعالمون، أن الحرف إذا كتب عليه صح - بصاد وحاء - كان ذلك علامة لصحة الحرف، لئلا يتوهم متوهم عليه خللاً أو نقصاً، فوضع حرف كامل على حرف صحيح، وإذا كان عليه صاد ممدودة دون حاء، كان علامة أن الحرف سقيم، إذ وضع عليه حرف غير تام، ليدل نقص الحرف على اختلال الحرف، ويسمى ذلك الحرف أيضاً ضبة أي أن الحرف مقفل بها، لم يتجه لقراءة، كما أن الضبة مقفل بها.
قال المؤلف: وهذا كلام على طلاوة من غير فائدة تامة، وإنما قصدوا بكتبهم على الحرف صح، أنه كان شاكاً في صحة اللفظة، فلما صحت له بالبحث، خشي أن يعاوده الشك، فكتب عليها صح، ليزول شكه فيما بعد، ويعلم هو أنه لم يكتب عليها صح إلا وقد انقضى اجتهاده في تصحيحها، وأما الضبة التي صورتها (ص) فإنما هو نصف صح، كتبه على شيء فيه شك، ليبحث عنه فيما يستأنفه، فإذا صحت له أتمها بحاء، فيصير صح، ولو علم عليها بغير هذه العلامة، لتكلف الكشط، وإعادة كتبه صح مكانها.

قال أبو سروان بن حيان: كان أبو القاسم، المعروف بابن الإفليلي، فريد أهل زمانه بقرطبة، في علم اللسان العربي، والضبط لغريب اللغة، في ألفاظ الأشعار الجاهلية والإسلامية، والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيوراً على ما يحمل من ذلك الفن، كثير الحسد فيه، راكباً رأسه في الخطأ البين إذا تقلده، أو نشب فيه، يجادل عنه، ولا يصرفه صارف عنه، وعدم علم العروض ومعرفته، مع احتياجه إليه، لإكمال صناعته به ولم يكن له شروع فيه، وكان لحق الفتنة اليزيدية بقرطبة، ومضى الناس بين حائر وطاعن، فازدلف إلى الأمراء المتداولين بقرطبة من آل حمود، ومن تلاهم، إلى أن نال الجاه. واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي، بعد ابن برد، فوقع كلامه جانباً من البلاغة، لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلمين، فلم يجر في أساليب الكتاب المطبوعين، فزهد فيه، وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة، إلا كتابه في شعر المتنبي لا غير، ولحقته تهمة في دينه، في أيام هشام المرواني، في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم، والسنابسي، والخمار، وغيرهم، وطلب ابن الإفليلي، وسجن بالمطبق، ثم انطلق.
وفيه يقول موسى بن الطائف، من قصيدة:
يا مبصراً عميت فواطن فهمه ... عن كنه عرضي في البديع وطولي
ولو كنت تعقل ما جهلت مقاومي ... من ضاق فرسخه بخطوة قيلي
ولئن ثلبت الشعر وهو أباطل ... فلقد ثلبت حقائق التنزيل
وخلعت ربق الدين عنك منابذاً ... ولبست ثوب الزيغ والتعطيل
فأقمت للجهال مثلك في العنا ... علماً مشيت أمامه برعيل
ومن المغالط أن تكون مقلداً ... علماً ولو مقدار وزن فتيل
تعتل في الأمر الصحيح معانداً ... أبداً وفهمك علة المعلول
وتظن أنك من فنوني موسر ... وكثير شأنك لا يفي بقليلي
سيسيل روحك من خبيث قذارة ... تأثير هذا الصارم المصقول
وأحض سيف الدولة الملك الرضي ... ليعيد عقد رباطك المحلول
وأريك رأي العين أنك ذرة ... عبثت بها مني قوائم فيل
إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمدابن علي، بن الحسين، بن علي، بن حمزة، بن يحيى ابن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب، أبو علي، والد أبي البركات عمر النحوي، صاحب كتاب شرح اللمع، من أهل الكوفة، له معرفة حسنة بالنحو واللغة والأدب، وحظ من الشعر جيد، نذر مثله، مات - فيما ذكره السمعاني عن ابنه أبي البركات - في شوال سنة ست وستين وأربعمائة، ودفن بمسجد السهلة عن ست وستين سنة، وكان قد سافر إلى الشام ومصر، وأقام بها مدة، ونفق على الخلفاء بمصر، ثم رجع إلى وطنه الكوفة، إلى أن مات بها.
وجدت بخط أبي سعد السمعاني: سمعت أبا البركات عمر ابن إبراهيم: سمعت والدي يقول: كنت بمصر، وضاق صدري بها فقلت:
فإن تسأليني كيف أنت فإنني ... تنكرت دهري والمعاهد والصبرا
وأصبحت في مصر كما لا يسرني ... بعيداً من الأوطان منتزحاً عزبا
وإني فيها كامرئ القيس مرة ... وصاحبه لما بكى ورأى الدربا
فإن أنج من بابي زويلا فتوبة ... إلى الله أن لا مس خفي لها تربا
قال السمعاني: قال لي الشريف، قال أبي، قلت هذه الأبيات بمصر، وما كنت ضيق اليد، وكان قد حصل لي من المستنصر خمسة آلاف دينار مصرية.
قال: وقال الشريف: مرض أبي إما بدمشق أو بحلب، فرأيته يبكي ويجزع، فقلت له يا سيدي ما هذا الجزع؟ فإن الموت لابد منه، قال أعرف، ولكني أشتهي أن أموت بالكوفة، وأدفن بها، حتى إذا أنشرت يوم القيامة أخرج رأسي من التراب، فأرى بني عمي، ووجوهاً أعرفها، قال الشريف: وبلغ ما أراد.
قال: وأنشدني أبو البركات لوالده:
أرخ لها زمامها والأنسعا ... ورم بها من العلا ما شسعا
واجل بها مغترباً عن العدا ... توطئك من أرض العدا متسعا
يا رائد الظعن بأكناف العدا ... بلغ سلامي إن وصلت لعلعا
وحي خدراً بأثيلات الغضا ... عهدت فيه قمراً مبرقعا

كان وقوعي في يديه ولعا ... وأول العشق يكون ولعا
ماذا عليها لو رثت لساهر ... لولا انتظار طيفها ما هجعا؟
تمنعت من وصله فكلما ... زاد غراماً زادها تمنعا
أنا ابن سادات قريش وابن من ... لم يبق في قوس الفخار منزعا
وابن علي والحسين وهما ... أبر من حج ولبى وسعى
نحن بنو زيد وما زاحمنا ... في المجد إلا من غدا مدفعا
الأكثرين في المساعي عددا ... والأطولين في الضراب أذرعا
من كل بسام المحيا لم يكن ... عند المعالي والعوالي ورعا
طابت أصول مجدنا في هاشم ... فطال فيها عودنا وفرعا
قال: وأنشدني لأبيه:
لما أرقت بجلق ... وأقض فيها مضجعي
نادمت بدر سمائها ... بنواظر لم تهجع
وسألته بتوجع ... وتخضع وتفجع
صف للأحبة ما ترى ... من فعل بينهم معي
واقرأ السلام على الحبي ... ب ومن بتلك الأربع
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم النسويأبو إسحاق، الشيخ العميد، مات فجاءة في شهور سنة تسع عشرة وخمسمائة بنيسابور، رجل فاضل، شاعر كاتب، حسن المحاورة، كريم الصحبة، سمع الحديث الكثير في أسفاره، وصنف في غريب الحديث لأبي عبيد تصنيفاً مفيداً.
إبراهيم بن مسعود بن حسانالمعروف بالوجيه الصغير، ويعرف جده بالشاعر، وإنما سمى بالوجيه الصغير لأنه كان ببغداد حينئذ نحوي آخر يعرف بالوجيه الكبير، وهو شيخي رحمه الله، وقد ذكرته في باب المبارك بن المبارك، وكانا ضريرين معاً، وكان هذا من أهل الرصافة ببغداد، وكان عجباً في الذكاء وسرعة الحفظ، وكان قد حفظ كتاب سيويه، وقيل: بل حفظ أكثره، وكان يحفظ غير ذلك من كتب الأدب، وأخذ النحو عن مصدق بن شبيب، وكان أعلم منه، وأصفى ذهناً، واعتبط شاباً في جمادى الأولى سنة تسعين وخمسمائة، ولو قدر الله أن يعيش لكان آية من الآيات.
إبراهيم بن محمد بن حيدر بن علي أبو إسحاقنظام الدين المؤذى، الخوارزمي، سألته عن مولده، فقال: كانت ولادتي في ذي الحجة، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وله من التصانيف: كتاب ديوان الأنبياء، كتاب شرح كليلة بالفارسية، كتاب الوسائل إلى الرسائل، من نثره، كتاب ديوان شعره بالفارسية، كتاب الخطب في دعوات ختم القرآن، سماها يتيمة اليتيمة، كتاب الطرفة في التحفة بالفارسية، رسائل، وكتاب أساس نامه، في المواعظ بالفارسية. كتاب تعريف شواهد التصريف، كتاب أنموذار نامه، يشتمل على أبيات غريبة من كليلة ودمنة، شرحها بالفارسية. كتاب كفتار نامه منطق، كتاب مرتع الوسائل ومربع الرسائل.
إبراهيم بن ممشاذ أبو إسحاق المتوكلي الأصبهانيقال حمزة: ومن بلغاء إصبهان: أبو غسحاق المتوكلي، وكان من رستاق جي من قرية أسيجان، فخرج إلى العراق، وكتب للمتوكل، ثم صار من ندمائه، فسمي المتوكلي، ولم يكن بالعراق في أيامه أبلغ منه، وله رسالة طويلة في تقريظ المتوكل، والفتح بن خاقان، يتداولها كتاب العراق إلى الآن، وتسخط صحبة أولاد المتوكل، فتركهم ولحق بيعقوب ابن الليث. وقال حمزة أيضاً، فيما رواه عن عمارة بن حمزة: حضر المتوكلي مجلس المتوكل، وقد نثر على المحضر مال جليل، تناهبه الأمراء والقواد بين يديه، وإبراهيم لا يتحرك، فقال له المتوكل، ولم لا تنبسط فيه؟ فال: جلالة أمير المؤمنين تمنعني منه، ونعمته على أغنتني عنه، فأقطعه إقطاعات.
وكان أحد البلغاء في زمانه، حتى لم يتقدمه أحد، وأنفذ في أيام المعتمد رسولاً عنه، وعن الموفق إلى يعقوب بن الليث، فاحتبسه عنده، وقدمه على كل من ببابه، حتى حسده قواد يعقوب وحاشيته، فأخبروا يعقوب أنه يكاتب الموفق في السر، فقتله.
قلت: والأولى من هاتين الروايتين أوضح في أنه هو الذي لحق بيعقوب، يدل على ذلك أنه كتب من عند يعقوب إلى المعتمد:
أنا ابن الأكارم من نسل جم ... وحائز إرث ملوك العجم
ومحيي الذي باد من عزهم ... وعفى عليه طوال القدم

وطالب أوتارهم جهرة ... فمن نام عن حقهم لم أنم
يهم الأنام بلذاتهم ... ونفسي تهم بسوق الهمم
إلى كل أمر رفيع العماد ... طويل النجاد منيف العلم
وإني لآمل من ذي العلا ... بلوغ مرادي بخير النسم
معي علم الكائنات الذي به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين ... هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنة بالرما ... ح طعناً وضرباً بسيف خذم
وأولاكم الملك آباؤنا ... فما إن وفيتم بشكر النعم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... لأكل الضباب ورعي الغنم
فإني سألعو سرير الملوك ... بحد الحسام وحرف القلم
وقال يرثي الفضل بن العباس بن مافروخ:
أخ لم تلدني أمه كان واحدي ... وأنسي وهمي في الفراغ وفي الشغل
مضى فرطاً لما استتم شبابه ... ومن قبل أن يحتل منزلة الكهل
فعلمني كيف البكاء من الجوى ... وكيف حزازات الفؤاد من الثكل
إذا ندب الأقوام إخوان دهرهم ... بكيت أخي، فضلاً أخا الجود والفضل
وقال يهجو إسحاق بن سعد القطربلي عامل إصبهان، وقد كان أساء معاملة إخوته بإصبهان:
أين الذين تقولوا ألا يروا ... ضدين مختلفين في ذا العالم
هذا ابن سعد قد أزال قياسكم ... وأباد حجتكم بغير تخاصم
أبدى لنا متحركاً في ساكن ... منه وأظهر قائماً في نائم
وإذا تذكر أصلعاً هشم استه ... يبكي يقول: فديت أصلع هاشم
بالله ما اتخذ الإمامة مذهباً ... إلا لكي يبكي لذكر القائم
قال حمزة: ومن هذا أخذ ابن الناصر قوله:
قل لمن كان إمام ... يا إلى كم تتردد؟
أله التمس ما في سراوي ... ل فتى الناصر أحمد
فهو القائم يا مغرو ... ر من آل محمد
إبراهيم بن موسى الواسطي الكاتبله كتاب في أخبارالوزراء، عارض فيه كتاب محمد ابن داود الجراح في الوزراء، قاله المسعودي.
إبراهيم بن هلال بن زهرونأبو إسحاق الحراني، أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل، والاشتمال على جهات الفضائل، مات يوم الخميس، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، عن إحدى وسبعين سنة، ومولده في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، كذا ذكره حفيده أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم في تاريخه.
وكان قد خدم الخلفاء والأمراء من بني بويه والوزراء، وتقلد أعمالاً جليلة، ومدحه الشعراء، وعرض عليه عز الدولة يختيار بن معز الدولة بن بويه الوزارة إن أسلم، فامتنع.
وكان حسن العشرة للمسلمين، عفيفاً في مذهبه.
وكان ينوب أولاً عن الوزير أبي محمد المهلبي، في ديوان الإنشاء، وأمور الوزارة.
ولما ورد عضد الدولة إلى بغداد في سنة سبع وستين وثلاثمائة، نقم عليه أشياء من مكتوباته عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار، فحبسه، فسئل فيه وعرف بفضله، وقيل له: مثل مولانا لا ينقم على مثله ما كان منه، فإنه كان في خدمة قوم لا يمكنه إلا المبالغة في نصحهم، ولو أمره مولانا بمثل ذلك إذا استخدمه في أبيه، ما أمكنه المخالفة، فقال عضد الدولة: قد سوغته نفسه، فإن عمل كتاباً في مآثرنا وتاريخنا أطلقته، فشرع في محبسه في كتاب التاجي في أخبار بني بويه، وقيل إن بعض أصدقائه دخل عليه الحبس، وهو في تبييض وتسويد في هذا الكتاب، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فخرج الرجل، وأنهى ذلك إلى عضد الدولة، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، فأكب أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، ونصر بن هارون على الأرض يقبلانها، ويشفعون إليه في أمره، حتى أمر باستحيائه، وأخذ أمواله واستصفائه، وتخليد السجن بدمائه، فبقي في السجن بضع سنين، إلى أن تخلص في أيام صمصام الدولة ابن عضد الدولة.

وكان بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد مراسلات ومواصلات ومتاحفات، وكذلك بينه وبين الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي: مودة ومكاتبات أذكر منها ما يليق باختصارنا هذا، مع اختلاف الملل، وتباين النحل، وإنما كان ينظمهم سلك الأدب، مع تبدد الدين والنسب.
وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه: أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تاريخ حفيده، وهو أعلم به.
فأما بلاغته، وحسن ألفاظه، فقد أغنتنا شهرتها عن صفتها، وذكرتها الشعراء فقال بعضهم:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاق
صوب البلاغة والحلاوة والحجى ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسم وتارة ... يحكي لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ... كتبت بدائعه على الأحداق
ولآخر فيه:
يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ... يهمى على حجب الفؤاد لا واجم
لولا تعلله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعر كشاجم
قال أبو منصور: وكان يصوم شهر رمضان، مساعدة وموافقة للمسلمين، وحسن عشرة منه لهم، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وبرهان ذلك في رسائله.
قال: وكان أبو إسحاق في عنفوان شبابه، أحسن حالاً منه في أيام اكتهاله، وفي ذلك يقول:
عجباً لحظي إذ أراه مصالحي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي؟
أمن الغواني كان حتى خانني ... شيخاً، وكان على صباي مصاحبي؟
أمع التضعضع ملني متجنباً ... ومع الترعرع كان غير مجانبي؟
يا ليت صبوته إلي تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
من قصيدة، في فنها فريدة، كتبها إلى الصاحب يشكو فيها بثه وحزنه، ويستمطر سحبه ودرره، بعد أن كان يخاطبه بالكلف، ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء.
وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه، وتوفي المهلبي، وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل، والخلافة على ديوان الوزارة، لأن المهلبي مات بعمان، وكان قد مضى لافتتاحها، واستخلف أبا إسحاق على ديوان الوزارة، فاعتقل في جملة عمال المهلبي وأصحابه، فقال، وهو معتقل:
يا أيها الرؤساء دعوة خادم ... أربت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم: ... حبسي وطول تهددي ووعيدي
قلدت ديوان الرسائل، فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد؟
أعلي رفع حساب ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي؟
أنسيتم كتباً شحنت فصولها ... بفصول در عندكم منضورد
ورسائلاً نفذت إلى أطرافكم ... عبد الحميد بهن غير حميد
قال: وكانت الرسالة التي ينقمها عليه عضد الدولة، كتاباً أنشأه عن الخليفة، في شأن عز الدولة بختيار، وهو: " وقد جدد له أمير المؤمنين، مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها " فإن عضد الدولة أنكر هذه اللفظة أشد الإنكار، وأسرها في نفسه، إلى أن ملك لاعراق، فحبسه، كما تقدم ذكره.
وقال حفيده هلال بن المحسن في أخبار الوزراء: حدثني أبو إسحاق جدي، قال: لما توفي أبو الحسين هلال أبي، جاءني أبو محمد المهلبي معزياً به، فحين عرفت خبره في تقديمه مشرعة داري الشاطية بالزاهر، بادرت لتلقيه، واستعفيته من الصعود، فامتنع من الإجابة إلى ذلك، وصعد، وجلس ساعة يخاطبني فيها بكل ما يقوي النفس، ويشرح الصدر، ويصف والدي، ويقرظه لي بقوله: ما مات من كنت له خلفاً، ولا فقد من كنت منه عوضاً، ولقد قررت عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته، فقبلت يده ورجله، وأكثرت من الثناء عليه، والدعاء له، وحضرتني في الحال ثلاثة أبيات، أنشدته إياها، وهي:
لو وثقنا بأن عمرك يمت ... د بأعمارنا قتلنا النفوسا
قد تركت الموت الزؤام مغيظاً ... يتلظى لجرحه، كيف يوسا
فغدت عندنا المصيبة نعمى ... بأياديك وهي من قبل بوسا

ثم نهض، وأقسم علينا ألا يتبعه أحد منا، وأنفذ إلي في بقية ذلك اليوم خمسة آلاف درهم، فقال: استعن بهبذا على أمرك، ولم يبق أحد من أهل الدولة إلا جاءني بعده معزياً، ثم اجتاز بي من الغد في طيارة ووقف واستدعاني، وأمرني بالنزول معه، فبعد جهد ما تركني بقية اليوم.
وحدث أبو منصور، قال: حكى أبو إسحاق الصابيء، قال: طلب مني رسول سيف الدولة بن حمدان عند قدومه الحضرة شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافتعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات:
إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لواني حالف بغمومها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة، مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلثمائة دينار.
ووجدت بخط أبي علي بن أبي إسحاق قال: لما غني ابن حمدان بهذا الشعر، سأله عن قائله، فعرفه، قال والدي رحمه الله: فأنفذ إلي في الوقت عشرة دنانير من دنانير الصلة، وزنها خمسمائة مثقال، وأضاف إلى ذلك رسماً كان ينفذه إلي في كل سنة، إلى أن مات رحمه الله.
قال: وأهدى أبو إسحاق الصابيء إلى عضد الدولة، في يوم مهرجان، إصطرلاباً بقدر الدرهم، محكم الصنعة، وكتب إليه " وفي كتاب الوزراء لحفيده: أنه أهدى الإصطرلاب إلى المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة وكتب إليه " بهذه الأبيات:
أهدي إليك بنو الحاجات واختلفوا ... في مهرجان عظيم أنت مبليه
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك لا شيء يساميه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
ولقابوس أبيات تشبه هذه مذكورة في بابه: " ذكر القبض على أبي إسحاق الصابئ، والسبب فيه، وما جرى عليه من أمره إلى أن أطلق " .
قال هلال بن المحسن: قبض عليه في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة سنة سبع وستين وثلاثمائة، وأفرج عنه يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، فكان مدة حبسه ثلاث سنين وسبعة أشهر وأربعة عشر يوماً.
قال: وكان السبب في القبض عليه، أنه كان قد خدم عضد الدولة عند كونه بفارس بالشعر والمكاتبة، والقيام بما يعرض من أموره بالحضرة، فقبله وأنفق عليه، وأرفده في أكثر نكباته بمال حمله إليه، وورد عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة، فزاد قربه منه، وخصوصه به، وتأكد حاله عنده، فلما أراد العود إلى فارس، عمل على الخروج معه، إشفاقاً من المقام بعده، ثم عليم أنه متى فعل ذلك أسلم أهله وولده، وتعجل منهم ما عسى الله أن يدفعه عنه، فاستظهر له عضد الدولة، بأن ذكره في الاتفاق الذي كتب بينه وبين عز الدولة، وعهد به إليه، واليمين التي حلفا بها، وشرط عليهما حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من أحواله، وانحدر عضد الدولة، فلم يأمن على نفسه من عز الدولة، وأبي طاهر بن بقية وزيره، واستتر، وأقام على الاستتار مدة، ثم توسط أبو محمد بن معروف أمره معهما، وأخذ له العهد عليهما، والأمان منهما، واستوثق بغاية ما يستوثق به من مثلهما، وظهر، فتركاه مديدة، ثم قبضا عليه، وذلك بإغراء ابن السراج لهما به، وتجدد منه في العداوة له أمور تجنى فيها عليه، وجرت له في هذه التكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله، وعاد إلى خدمة عز الدولة، وكتب عنه في أيام المباينة بينه وبين عضد الدولة الكتب التي تضمنت الوقيعة والاستهتار عليه، ومنها الكتاب عن الطائع لله بتقديم عز الدولة وإنزاله منزلة ركن الدولة، وهو أعظم ما نقمه عليه.

فلما ورد عضد الدولة إلى بغداد في الدفعة الثانية، وحصل بواسط، استظهر بأن خرج إلى أبي سعد بهرام بن أردشير، وهو يتردد في الرسائل بما يتخوفه من تشعب رأي عضد الدولة، وسأله إجراء ذكره، وإقامة عذره، والاحتياط له بأمان تسكن إليه نفسه، وكتب على يده كتاباً، عاد جوابه بما نسخته: " كتابنا - أيدك الله - من المعسكر بجيل يوم الجمعة لست ليال بقين من شهر ربيع الأول عن سلامة ونعمة، والحمد لله رب العالمين، ووصل كتابك - أيدك الله - وفهمنا وعرفنا ما يحمل، واستمعنا من أبي سعد بهرام بن أزدشير، - أعزه الله، - ما أورده عنك، ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك، بسابقتك في الخدمة، ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة.
وذكر أبو سعد، - أعزه الله، - إلتماسك أماناً، فقد بذلناه لك على غناك عنه، وأنت آمن على نفسك، ودمك، وشعرك، وبشرك، وأهلك، وولدك، وسائر ما تحويه يدك، حال في كل حال بكنف الأثرة والخصوص والإحسان والقبول عندنا محروس في جاهك، وموقفك، وحالك، فاسكن إلى ذلك، واعتمده، ولك علينا الوفاء به عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد، - أعزه الله، - في هذا الباب ما يذكره لك، والله نستعين على النية فيك، وهو حسبنا.
والتوقيع بخط عضد الدولة: اعتمد ذلك واسكن إليه، وثق به، إن شاء الله تعالى.
ودخل عضد الدولة إلى بغداد، فأجراه على رسمه، ووقع بإقرار إقطاعه، وإمضاء تقريراته، فلما حصل بالموصل، كتب إلى أبي القاسم المطهر بالقبض عليه فحدثني أبو الحسن فقد بن عبد الله، وكان يكتب لأبي عمرو بن... عند نظره في الموصل، قال: أخرج في الموصل إلى الديوان، ما وجد في قلاع أبي تغلب من الحسابات، ليتأمل ويميز، وكان فيها الشيء الكثير من كتب عز الدولة إلى أبي تغلب بخط أبي إسحاق جدك، فكان أبو عمرو إذا رأى ما فيه ذكر عضد الدولة، لعداوة كانت بينه وبينه، فأظن ما وقف عليه، حرك ما كان في نفسه، حتى كتب من هناك بالقبض عليه.
قال: وحدثني جدي قال: كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة، في يوم القبض علي، إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه، وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه، وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره، ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه، فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتحليصك إلا بذلته، وقد جعلت اعتقالك في داري، ومقامك في ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي. وقبض على ولديه أبي علي المحسن، والدي، وأبي سعيد سنان، عمي، فلما تقدم عضد الدولة إلى أبي القاسم المطهر بالانحدار لقتال صاحب البطيحة، سأل عضد الدولة إطلاقه والإذن له في استخلافه، بحضرته، فقال له: أما العفو، فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك، وتقول له، إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا، - يعني: عز الدولة والديلم - ولأولاد بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي - ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك، وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا، فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة، ولنا في أمره تدبير. وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة، وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا يعمل كتاب في مفاخرنا، فحمل إليه المطهر ثياباً ونفقة وأطلق ولديه، والدي وعمي، ورسم له تأليف الكتاب في الدولة الديلمية، وانحدر المطهر، وبقي أبة إسحاق في محبسه وعمل الكتاب، فكان إذا ارتفع جزء منه، حمل إلى الحضرة العضدية، حتى يقرأه ويتصفحه، ويزيد فيه، وينقص منه، فلما تكامل على ما أراده، حرر وحمل كلاماً محرراً، فيقال: إنه قرئ عليه في أسبوع، وتركه في الحبس بعد ذلك سنة، واتفق أن خرج إلى الزيارة وعاد، فعمل فيه قصيدة يهنئه فيها بمقدمه، ويذكره بأمره، منها:

أهلاً بأشرف أوبة وأجلها ... لأجل ذي قام يلاذ بنعلها
شاهانشاه تاج ملته التي ... ريدت به في قدرها ومحلها
يا خير من زهت المنابر باسمه ... في دولة علقت يداه بحبلها
وأقمت فينا سيرة عضدية ... هيهات لا تأتي الملوك بمثلها
يردى غوي فاجر في بأسها ... ويعيش بر صالح في فضلها
مولاي عبدك حالف لك حلفة ... تعيا مناكب يذبل عن حملها
لقد انتهى شوقي إليك إلى التي ... لا أستطيع أقلها من ثقلها
طوبى لعين أبصرتك ومن لها ... بغبار دارك جازياً عن كحلها؟
لو بعتني بجميع عمري لفظة ... أو لحظة بالطرف لم أستغلها
أترى أمر بخطرة من بالها؟ ... أترى أعود إلى كثافة ظلها؟
لي ذمة محفوظة في ضمنها ... ووثائق محروسة في كفلها
وإذا رأيت سحائباً لك ثرة ... تروى النفوس الحائمات بهطلها
لا في الرجال الناقعين بوبلها ... كلا ولا في القانعين بطلها
قابلت بالزفرات هبة ريحها ... وحكيت بالعبرات درة سجلها
فلو أن عيني راهنت بدموعها ... يمناك في السقيا لفزت بخصلها
قال: قد كان أبو إسحاق يكاتب عضد الدولة في الحبس بالأشعار، ويرققه، فما رققه شيء كقصيدته القافية، ومنها:
أجل في البنين الزهر طرفك إنهم ... حووا كل مرأى للأحبة مؤنق
وتمت لك النعمى بقرب كبيرهم ... فأهلاً به من طارق خير مطرق
موال لنا مثل النجوم مطيفة ... بمولى موال منك كالبدر مشرق
وقد ضمهم شمل لديك مؤلف ... فأرث لذي الشمل الشتيت المفرق
وإن كنت يوماً عنهم متصدقاً ... فمن مثل ما خولت فيهم تصدق
فلي مقلة تقذى إذا ما مددتها ... غلى حلة ممن أعول ودورق
إناث وذكران أبيت من أجلهم ... على كمد بين الحجابين مقلق
رسائلهم تأتى بما يلدغ الحشا ... ويصدع قلب النازع المتشوق
فباكية ترثي أباها ولم يمت ... وبائنة من بعلها لم تطلق
زغب من الأطفال أبناء منزل ... شوارد عنه كالقطا المتمزق
إذا حرقوا قلبي بنجواهم انثنت ... عداك تناجيني فتطفي تحرقي
شهدت لئن أنكرت أنك صنتني ... ولم أرع ما أوليتني من ترفق
لقد ضيع المعروف عندي وأصبحت ... ودائعه مودوعة عند أحمق
وحبسك لي جاه عريض ورفعة ... وقيدك في ساقي تاج لمفرقي
وما موثق لم تطرحه بموثق ... ولا مطلق لم تصطنعه بمطلق
خلا أن أعواماً كملن ثلاثة ... تعرقت البقيا أشد تعرق
وقد ظمئت عيني التي أنت نورها ... إلى نظرة من وجهك المتألق
فيا فرحتي إن ألقه قبل ميتتي ... ويا حسرتي إن مت من قبل نلتقي
خدمتك مذ عشرون عاماً موفقاً ... فهب لي يوماً واحداً لم أوفق
فإن يك ذنب ضاق عندي عذره ... فعندك عفو واسع غير ضيق
قال: وسمعت أبا الريان، حامد بن محمد، الوزير، يقول لجدي، وهما في مجلس أنس، وأنا حاضر معهما: لما أنفذت القصيدة اللامية بالتهنئة، عن قدوم عضد الدولة من الزيارة، عرضتها عليه في وقت كان عبد العزيز بن يوسف غير حاضر فيه، فقرأها، ثم رفع رأسه إلي وإلى عبد الله بن سعدان، وكنت آمنه عليك، وأعلم أن اعتقاده يوافق اعتقادي فيك، فقال: قد طال حبس هذا المسكين ومحنته، فقبلت أنا وهو الأرض عند ذلك، فقال لنا: كأنكما تؤثران إطلاقه، قلنا: إن من أعظم حقوقه علينا، وذرائعه عندنا، أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك، قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه عنا بملازمة منزله، إلى أن يرسم له ما يليق بمثله:

قال أبو الريا، فخرجت مبادراً، وأنفذت لشكرستان صاحبي، وأنفذ بن سعدان محمدا لأواتيه، وانتظرت عودهما بما فعلاه، من صرفك إلى دارك، فأبطأا عليّ، وكنت أعرف من عادة عضد الدولة، أنه يتقدم بالأمر، ثم يسأل عنه، فإن كان قد فعل أمضاه، ولم يرجع، وإن تأخر، فربما بدا له رأي مستأنف في التوقف عنه، فدخلت إلى عضد الدولة في غرض ما، أطالعه به، فقلت له: سمع الله في مولانا ما دعي له، فقال: ما تجدد؟ قلت: شاهد الناس أبا إسحاق الصابئ، وقد أخرج من محبسه، ومضى إلى داره، فأكثروا من الدعاء والشكر، فسكت، وشغلت عضد الدولة علته، وما أفضى إليه من منيته عن النظر في أمره، إلا أنه وصل إلى حضرته، فيما بين الإطلاق واشتداد العلة، في ايام متفرقة، فتفقده بثياب ونفقات، عدة دفعات.
وكان الصاحب ابن عباد يحبه أشد الحب، ويتعصب له، ويتعاهده على بعد الدار بالمنح، وكان الصابئ، منذ حبسه عضد الدولة، متعطلاً، إلى أن مات فكان يواصل حضرة الصاحب بالمدح.
قال أبو منصور: فقرأت له فصلاً من كتاب في ذكر صلة، وصلت منه إليه، استطرفته جداً، وهو: ورد، أطال الله بقاء سيدنا، أبو العباس أحمد بن الحسن، وأبو محمد جعفر بن شعيب، حاجين، فعرجا إلى ملمين، وعاجا إلى مسلمين، فحين عرفتهما، فقبل أن أرد السلام عليهما، مددت اليد إلى ما معهما، كما مدها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم، ثقة مني بصلته، وتشوقاً إلى تكرمته، واعتياداً لإحسانه، وإلفاً لموارد إنعامه، وتيقناً أن الخطرة مني على باله، مقرونة بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي، مشفوعة بجدواه علي، وقمت عند ذلك قائماً، وقبلت الأرض ساجداً، وكررت الدعاء والثناء مجتهداً، وسألت الله أن يطيل له البقاء، كطول يده بالعطاء، ويمد له في العمر، كامتداد ظله على الحر، وأن يحرس هذا البدد، القليل العدد، من مشيخة الكتاب، ومنتحلي الآداب، ما كنفهم به من ذراه، وأفاءه عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه وأعذبه لهم من شرائعه، التي هم محلئون إلا منها، ومحرومون إلا عنها " .
وكان الصاحب يتمنى انحياز أبي إسحاق إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك، إما تشوقاً، وإما تشرفاً.
وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلة، وسوء أثر العطلة، ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب، بعدكونه من نظرائه، وتحليه بالرياسة في أيامه.
قال: وأخبرني ثقات، منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب، أنه كثيراً ما كان يقول: كتاب الدنيا، وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه.
فأما الترجيح بين هذين الصدرين، أعني: الصاحب والصابئ، في الكتابة، فقد خاض فيه الخائضون، وأطنب المحصلون، ومن أشفى ما سمعته في ذلك: أن الصاحب كان يكتب كما يريد، وأبو إسحاق يكتب كما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد، وكيف جرى الأمر، فهما هما، ولقد وقف فلك البلاغة بعدهما؟ ومما يدل على إناخة كلكل الزمان عليه، وصرف صروفه، بعد النباهة إليه، فصل كتبه إلى صديق له يستميحه، وهو: ولما صارت صروف الدهر تتوغل بعد التطريف وتجحف بعد التحيف، وصادف ما تجدد علي في هذا الوقت منها أشلاء، مني منهوكة، وأعظماً مبرية، وحشاشة مشفية، وبقية مودية، جعلت أختار الجهات، وأعتام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل، وكان سيدي أولها إذا عددت، وأولاها إذا اعتمدت، وكتبت كتابي هذا، بيد يكاد وجهي يتظلم منها إذ تخطه، إشفاقاً على مائه مما يريقه، لولا الثقة بأنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمها، ولا يقذيها.
فصل من كتاب إلى عضد الدولة في تهنئة بتحويل سنته:

أسأل الله مبتهلاً لديه، ماداً يدي إليه، أن يحيل على مولانا هذه السنة، وما يتلوها من أخواتها، بالصالحات الباقيات، والزيادات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله، وأمد يستأنفه، موفراً على المتقدم له، قاصراً عن المتأخر عنه، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزاً منصوراً، محمياً موفوراً، باسطاً يده، فلا يقبضها إلا على نواصي أعداء وحساد، سامياً طرفه، فلا يغضه إلا على لذة غمض ورقاد، مستريحة ركايه، فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك، فائزة قداحه، فلا يجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما يتوجه إليه أمنيته جامحة، وتسمو له همته طامحة.
وحدث هلال بن المحسن: حدثني جدي أبو إسحاق: ثم وجدت هذا الخبر بخط المحسن بن إبراهيم قال: حدثني والدي أبو إسحاق، قال: كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبي قراءة كتب الطب، والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في البيمارستان عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء، خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر، والنحو والرسائل والأدب، وكان إذا أحس بهذا مني، يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني، لا تعدل عن صناعة أسلافك، فلما كان في بعض الأيام، ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة، كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره، سأله عنها، وكان الكتاب طويلاً بليغاً، قد تأنق منشئه، وتغارب، فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملاً لما يريده، وأنفذها على يدي إلى كاتب، لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه، قال: فمضيت، وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه، قال: يا بني سبحان الله، ما أفضل هذا الرجل وأبلغه، فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبل بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض، فكن كاتباً.
كان أبو إسحاق الصابئ واقفاً بين يدي عضد الدولة، وبين يديه كتب قد وردت عليه من ابن سمجور، صاحب خراسان، وعلى رأسه غلام تركي، حسن الوجه، جميل، الخليقة، وكان مائلاً إليه، ورأيت الشمس إذا وجبت عليه حجبه عنها، إلى أن استتم قراءة ما كان في يده، ثم التفت إليه، فقال له: هل قلت شيئاً يا إبراهيم؟ فقال:
وقفت لتحجبني عن الشمس ... نفس أعز علي من نفسي
ظلت تظللني ومن عجب ... شمس تقنعني عن الشمس
فسر بذلك، وطوى الكتب، وجعله مجلساً للقرب، وألقي على الجواري الستائر، فغنوا به في ذلك اليوم، وهو في الخامس من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
وكتب إلى بعض أصدقائه: ولو حملت نفسي على الاستشفاع والسؤال، لضاق علي فيه المرتكض والمجال، لأن الناس عندنا - ما خلا الأعيان الشواذ الذين أنت بحمد الله أولهم - طائفتان: مجاملة، ترى أنها قد وفتك خيرها، إذا كفتك شرها، وأجزلت لك رفدها، إذا أجنبتك كيدها. ومكاشفة، تنزو إلى القبيح، نزو الجنادب، أو تدب، دبيب العقارب، فإن عوتبوا، حسروا قناع الشقاق، وإن غولظوا، تلثموا بلثام النفاق. والفريقان في ذاك كما قلت منذ أيام:
أيارب، كل الناس أبناء علة ... أما تعثر الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغل شاهد ... ذوات أديم في النفاق صفيق
إذا اعترضوا عند اللقاء فإنهم ... قذى لعيون أو شجاً لحلوق
وإن أظهروا برد الودود وظله ... أسروا من الشحناء حر حريق
أخو وحدة قد آنستني كأنني ... بها نازل في معشر ورفيق
فذلك خير للفتى من ثوائه ... بمسبعة من صاحب وصديق

ومن خط أبي علي المحسن، بن إبراهيم بن هلال: حدثني والدي رحمه الله، قال: وصفتع وأنا حدث، للوزير أبي محمد المهلبي، وهو يومئذ يخاطب بالأستاذ، فاستدعى عمي أبا الحسن، ثابت بن إبراهيم، وسأله عني والتمسني منه، ووعده في بكل جميل، فخاطبني عمي في ذلك، وأشار علي به، فامتنعت، لانقطاعي إلى النظر في العلوم، وكنت مع هذه الحال شديد الحاجة إلى التصرف، لقرب العهد بالنكبة من توزون، التي أتت على أموالنا، فلم يزل بي أبي، حتى حملني إليه، فلما رآني تقبلني، وأقبل علي، ورسم لي الملازمة، وبحضرته في ذلك الوقت جماعة من شيوخ الكتاب، فلما كان في بعض الأيام، وردت عليه عدة كتب من جهات مختلفة، فاستدعاني، وسلمها إلي، وذكر لي المعاني التي تتضمنها الأجوبة، وأطال القول، فمضيت، وأجبت عن جميعها، من غير أن أخل بشيء من المعاني التي ذكرها، فقرأها حتى أتى على آخرها، وتقدم إلي في الحال بإحضار دواتي، والجلوس بين يديه متقدماً على الجماعة، فلزم بعضهم منزله وجداً وغضباً، وأظهر بعضهم التعالل، فلم أزل أتلطف وأداري، وأغضي على قوارص تبلغني، حتى صارت الجماعة إخواني وأصدقائي.
وقرأت بخطه أيضاً: وفي كتاب الوزراء لابنه، قال المحسن: حدثني والدي: وقال هلال: حدثني جدي: واللفظ والمعنى يزيد وينقص، والاعتماد على ما في كتاب هلال، لأنه أتم، قال أبو إسحاق: كنت في مجلس الوزير أبي محمد المهلبي، في بعض أيام الحداثة، جالساً في مجلس أنسه، وبين يديه أبو الفضل العباس بن الحسين، وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن، وأبو علي الحسين بن محمد الأنباري، وأبو الفرج بن أبي هشام، وغيرهم من خلفائه وكتابه، وقد أخذ الشراب من الجماعة، وزاد بهم على حد التشوه وكانت لي في ذلك مزية، لأنني شربت معه أرطالاً عدة، إذ حضر رسول الأمير معز الدولة، يذكر أن معه مهما، فقال أبو محمد: يدخل، فدخل، وقال: الأمير يقول: تكتب عني الساعة كتاباً إلى محمد بن إلياس، صاحب كرمان، تخطب فيه ابنته لبختيار، فقال الوزير: هذا كتاب يحتاج إلى تأمل وتثبت، وما في الكتاب من فيه، مع السكر، فضل له، ثم التفت إلى أبي علي الأنباري، فقال له: تتمكن يا أبا علي من كتبه؟ فقال: أما الليلة وعلى مثل هذه الحالة والصورة فلا، ورآني الوزير مصغياً إلى القول، متشوفاً لما يرسمه لي في ذلك، فقال: تكتبه يا أبا إسحاق؟ قلت: نعم: قال: افعل، فقمت إلى صفة يشاهدني فيها، واستدعيت دواتي، ودرجاً منصورياً، وكتبت كتاباً اقتضبته بغير روية، ولا نسخة، والوزير والحاضرون يلاحظوني، ويعجبون من إقدامي، ثم اقتضابي وإطالتي، فلما فرغت منه، أصلحته، وعنونته، وحملته إليه، فوقف عليه ووجهه متهلل، في أثناء القراءة والتأمل، ورمى به إلى أبي علي بن الأنباري، ثم قال للجماعة: هذا كتاب حسن، دال على الكفاية المبرزة، ولو كتبه صاحياً مروياً، لكان عجباً، فكيف إذ يكتبه منتشياً مقتضباً، ولكنه كاتبي وصنيعتي، قم يا أبا إسحاق من موضعك، واجلس ههنا، حيث أجلستك الكفاية، وأومأ إلى جانب أبي الغنائم ابنه، فقبلت يده ورجله، وشكرته، ودعوت له، وجلست بحيث أجلسني، وشرب لي ساراً، ثم استدعى حاجبه، وقال: تقدم دابته إلى حيث تقدم دواب خلفائي، ويوفى من الإكبار الإكرام ما يوفونه، فحسدني على ذلك كل من كان حاضراً، ووفوني من الغد حكم المساواة، في المخاطبة والمعاملة، واستشعروا عندها أسباب العداوة والمنافسة، ثم قلدني دواوين الرسائل، والمظالم، والمعاون تقليداً سلطانياً، كتب به: عن المطيع لله إلى أصحاب الأطراف.
وحدث هلال بن المحسن، قال: حدثني جدي أبو إسحاق، قال: كان أبو طاهر بن بقية واقفاً بين يدي عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة التي ورد فيها للمعاونة على الأتراك، فقال لي عضد الدولة: لو عرضت علينا أبياتك إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف، التي هي، وأنشدها، وكانت:
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد ... تدمى مناسمها في الحزن والجدد
أبلغ أبا قاسم نفسي الفداء له ... مقالة من أخ للحق معتمد
أنصفت فيها ولم أظلم، وما حسن ... بالمرء إلا مقال الحق والسدد
في كل يوم لكم فتح له خطر ... يشاد فيه بذكر السيد العضد

وما لنا مثله لكننا أبداً ... نجيبكم بجواب الحاسد الكمد
فأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيباً إلى شأوى ولا أمدي
إذ لست تعرفها تأتيك من أحد ... ولست أعرفها تمضي إلى أحد
وما ذممت ابتدائي إذ بدأتكم ... ولا جوابكم في القرب والبعد
وإنما رمت أن أثني على ملك ... مستطرد بدليل فيه مطرد
قال: فلما استتمها، قال لأبي طاهر: ما قصد أبو إسحاق في هذه الأبيات؟ وسمعها أبو طاهر صفحاً، وقد كان شرب أقداحاً، ولم يعلق بذكره من الأمر إلا ذكر المجلس، واشتهر خبرها عند كل أحد، مما عاد عضد الدولة إلى شيراز سألني أبو طاهر بن بقية عنها، وطالبني بإنشادها غياه، فلم يمكنني إنكارها، فغيرتها في الحال على هذا الوجه:
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد ... تدمى مناسمها في الحزن والجدد
أبلغ أبا قاسم، نفسي الفداء له ... مقالة من أخ للود معتقد
أنصفت فيها ولم أظلم، ولا حسن ... بالمرء إلا مقال الحق والسدد
قد أعجبتك فتوح أنت كاتبها ... تردد السجع فيها غير متئد
خلا لك الجو إذ أصبحت منتشياً ... تشدو بها طرباً كالطائر الغرد
تروعني كل يوم منك رائعة ... تبغي الجواب لها من موجع كمد
فأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيباً إلى شأوي ولا أمدي
أعطيتني شر قسميها وفزت بما ... فيه الفوائد من قرب ومن بعد
فاشكر إلهك واعذرني فقد صديت ... قريحتي من زمان مقرف تلد
ثم سعي بأبي إسحاق إلى عز الدولة، حتى قبض عليه، بعد أن أعطانا أماناً، كتبه ابن بقية بيده، ولم يستقص ابن بقية عليه، لحق كان قد أوجبه عليه، أيام كون عضد الدولة ببع فكتب أبو إسحاق إلى ابن بقية من الحبس:
ألا يا نصير الدين والدولة الذي ... رددت إليها العز، إذ فات رده
أيعجزك استخلاص عبدك بعد ما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده؟
وكتب أبو إسحاق إلى المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة، وقد عرضت له شكاة:
لو استطعت أخذت علة جسمه ... فقرنتها مني بعلة حالي
وجعلت صحتي التي لم تصف لي ... بدلاً له من صحة الإقبال
فتكون عندي العلتان كلاهما ... والصحتان له بغير زوال
قرأت بخط أبي علي بن إبراهيم الصابئ، كتب والدي إلى بعض إخوانه: كانت رقعتك يا سيدي، وصلت إلي، مشتملة من لطيف تفضلك وبرك، وأنيق نظمك ونثرك، على ما شغلني الاستحسان له، والاسترواح إليه، وتكرير الطرف في مبانيه، والفكرة في معانيه، عن الشروع في الإجابة عنه، ثم تعاطيتها، فوجدتني بين حالتين، إما أوجزت إيجازاً، يظن معه التقصير، أو أطلت إطالة، يظهر منها القصور، فرأيت أولى الأمرين، بذل الممكن، واستنفاد المجهود، بعد تقديم الإقرار لك، والاعتراف بفضلك.
فسبحان رب كريم حبا ... ك بطول اللسان وطول البنان
ووفاك من فضل إنعامه ... كمالاً تقصر عنه الأماني
فما كنت أحسب أن الزما ... ن يزان بمثلك لولا عياني
ومن خطه: حدثني والدي أبو إسحاق قال: راسلت أبا الطيب المتنبي - رحمه الله - في أن يمدحني بقصيدتين، وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال له: قل له: والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب علي في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك، تنكر لك الوزير، يعني - أبا محمد المهلبي، - وتغير عليك، لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك منالاً، ولا عن شعري عوضاً، قال والدي: فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه قد نصح، فلم أعاوده.
ومن شعر أبي إسحاق، قوله:
جرت الجفون دماً، وكأسي في يدي ... شوقاً إلى من لج في هجراني
فتخالف الفعلان، شارب قهوة ... يبكي دماً، وتشاكل اللونان

فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
وله أيضاً:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وله أيضاً في غاية الجودة:
حذرت قلبي أن يعود إلى الهوى ... لما تبدل بالنزاع نزوعاً
فأجابني لا تخش مني بعد ما ... أفلت من شرك الغرام وقوعاً
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعاً ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضرام تعلقته سريعا
وله أيضاً:
مرضت من الهوى حتى إذا ما ... بدا ما بي لإخواني الحضور
تكنفني ذوو الإشفاق منهم ... ولاذوا بالدعاء وبالنذور
وقالوا للطبيب: أشر فإنا ... نعدك للعظيم من الأمور
فقال شفاؤه الرمان مما ... تضمنه حشاه من السعير
فقلت لهم: أصاب بغير قصد ... ولكن ذاك رمان الصدور
وله أيضاً:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى ... بجارية أمسى بها القلب يلهج
إذا امتزجت أنفاسنا بالتزامنا ... توهمت أن الروح بالروح يمزج
كأني وقد قبلتها بعد هجعة ... ووجدي ما بين الجوانح يلعج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي ... بأنفاسها نفساً إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيما شئت منهما ... فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وله أيضاً:
أقول، وقد جردتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التم
وقد آلمت صدري لشدة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي
وله أيضاً:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... حفنا عليك به ظلماً وعدوانا
لأن أحسن ما نلقاه مكتسياً ... وأنت أحسن ما نلقاك عرياناً
وله أيضاً:
فديت من لاحظ طرفها ... من جيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجى تائهاً ... وغاظها ذلك من شيمته
سرت له البرقع من وجهها ... فردت البدر إلى قيمته
وكتب أبو إسحاق إلى الوزير، أبي نصر سابور أبن أردشير جواباً عن كتاب إليه:
أتتني على بعد المدى منك نعمة ... تشاكل ما قدمت من نعم عندي
كتابك مطوياً على كل منه ... يمن بها المولى الكريم على العبد
فقبلت إجلالاً له الأرض ساجداً ... وعفرت، قدام الرسول به خدي
وقابلت ما فيه من الطول والندى ... بما في من شكر عليه ومن حمد
وعاليت نحو العرش طرفي باسطاً ... يدي بدعاء قد بذلت به جهدي
وكم لك عندي من يد قد حفظتها ... ولم ينسنيها ما تطاول من عهد
وقال في غلام له، اسمه رشد أسود:
قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه يعلو علو الحائن
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن؟؟
ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شانني
وله فيه أيضاً:
لك وجه كأن يمناي خط ... ته بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليها الليالي
لم يشنك السواد بل زاد حسناً ... إنما يلبس السواد الموالي
وله في البق:
وليلة لم أذق من حرها وسناً ... كأن في جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
من كل شائكة الخرطوم طاعنة ... لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل
طافوا علينا، وحر الشمس يطبخنا ... حتى إذا أنضجت أجسادنا أكلوا
وقال يذم البصرة، وكان قد خرج إليها لاستيفاء مال السلطان:
ليس يغنيك في التطهر بالبص ... رة إن حانت الصلاة اجتهاد
إن تطهرت فالمياه سلاح ... أو تيممت فالصعيد سماد
وقال عند رحيله عنها:

توليت عن أرض البصيرة راحلاً ... وأفئدة الفتيان حشو حقائبي
منازل تقري ضيفها كل ليلة ... بأمثال غزلان الصريم الربائب
أقمت بها سوق الصبا والندى معاً ... لعاشقة حيرى وحيران لاعب
فما تظهر الأشواق إلا صنائعي ... ولا تستر الجدران إلا حبائبي
وقال، وقد عتب على بعض ولده:
أرضى عن ابني إذا ما عقني حذراً ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري لم استحققت من ولدي ... إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي؟
وكتب إلى بعض الرؤساء، يلتمس منه إشغال بعض ولده وإجراء رزق عليه:
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وسقيتها حتى تراخى بها المدى
فلما اقشعر العود منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وكتب إليه أبو علي المحسن ابنه، تسلية في إحدى نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللهى عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارف أو تالد عرض
وأجابه أبو إسحاق:
يا درة أنا من دون الورى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر، قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض:
دع المحسن يحيا، فهو جوهرة ... جواهير الأرض طرا عندها عرض
والنفس لي عوض عما أصبت به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي ... ومهجتي، فهما مغزاي والغرض
وقال يمدح المهلبي:
وكم من يد بيضاء حازت جمالها ... يد لك لا تسود إلا من النقس
إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرز بالظلماء أردية تشمس
وله فيه، وقد فصد من غير علة:
لهجت يمينك بالندى، فبنانها ... أبداً يفيض حتى العفاة عطاء
حتى فصدت، وما بجسمك علة ... كيما تسبب للطبيب حباء
ولقد أرقت دماً زكياً من يد ... حقنت، بيدي الأمور، دماء
يجري العلا في عرقه جري الندى ... في عوده، فهو اللباب صفاء
لو يقدر الأحرار حين أرقته ... جعلوا له حب القلوب وعاء
فانعم وعش في صحة وسلامة ... تحيي الولى وتكبت الأعداء
وله أيضاً فيه:
لا تحسب الملك الذي أوتيته ... يفضي، وإن طال الزمان، إلى مدى
كالدوح في أفق السماء فروعه ... وعروقه متولجات في الندى
في كل عام يستجد شبيبة ... فيعود ماء العود فيه كما بدا
حتى كأنك دائر في حلقة ... فلكية في منتهاها المبتدا
وله في ابن سعدان:
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي، إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور، إذ كنت شافعاً ... فبلغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري، لقد نلت المنى بك كلها ... وطرفي إلى نيل المنى بك ناظر
عكس قول المهلبي:
بلغت الذي قد كنت آمله بكم ... وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤمل
وله إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كف رسولها
قبلتها لتمسها ... يمناك عند وصولها
وتود عيني أنها اق ... ترنت ببعض فصولها
حتى ترى في وجهك ال ... ميمون غاية سؤلها
وقال لأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:
أبو قاسم عبد العزيز بن يوسف ... عليه من العلياء عين تراقبه
روى ورعى لما روى قول قائل ... " وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه "
وله تهنئة بالعيد:
يا سيداً أضحى الزما ... ن بأسره منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل للناس أعياداً جميعا
حتى لأوشك بينها ... عيد الحقيقة أن يضيعا
فاسلم لنا. ما أشرقت ... شمس على أفق طلوعا
واسعد بعيد ما يزا ... ل إليك معتقداً رجوعا
وله أيضاً، يهنئ عضد الدولة بالأضحى:

صل يا ذا العلا لربك وانحر ... كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون أضاح ... يك قروماً من الجمالة تعقر
بل قروماً من الملوك ذوي السو ... دد تيجانها أمامك تنثر
كلما خر ساجداً لك رأس ... منهم، قال سيفك: الله أكبر
وله أيضاً:
ولما رأيت الله يهدي وخلقه ... تجاسرت واستفرغت جهد جهيد
فكان احتفالي في الهدية درهماً ... يطير على الأنفاس يوم ركود
وجزءاً لطيفاً ذرعه ذرع محبسي ... وتقييده بالشكل مثل قيودي
ألاطف مولانا، وكالماء طبعه ... تسلسل من عذب النطاف برود
وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، وقد أعيد إلى الوزارة:
قد كنت طلقت الوزارة بعد ما ... زلت بها قدم وساء صنيعها
فغدت بغيرك تستحل ضرورة ... كيما يحل إلى ذراك رجوعها
والآن آلت ثم آلت حلفة ... ألا يبيت سواك وهو ضجيعها
وله يهجو:
أيها النابح الذي يتصدى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل أني أقول لك: اخسأ ... لست أسخو بها لكل الكلاب
وله يهجو:
وراكب فوق طرف ... كأنه فوق طرفي
له قذال متين ... يجل عن كل وصف
يذوب شوقاً إليه ... نعلي وخفي وكفي
وله يهجو:
يبدي اللواط مغالطاً، وعجانه ... أبداً لأعراد الورى مستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذ غدا ... لحبالهم وعصيهم يتلقف
وله يصف الشعر:
لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم ... إذا نظموا شعراً من الثلج أبرد
فيا رب إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجودوا
وله أيضاً:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرق
فحيث يكون النقص، فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل، فالرزق ضيق
وله أيضاً:
كل الورى من مسلم ومعاهد ... للدين منه فيك أعدل شاهد
فإذا رآك المسلمون تيقنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالد
وإذا رأى منك النصارى ظبية ... تعطو ببدر فوق غصن مائد
أثنوا على تثليثهم واستشهدوا ... بك إذ جمعت ثلاثة في واحد
وإذا اليهود رأوا جبينك لامعاً ... قالوا لدافع دينهم والجاحد
هذا سنا الرحمن حين أبانه ... لكليمه موسى النبي العابد
ويرى المجوس ضياء وجهك فوقه ... مسود فرع كالظلام الراكد
فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا ... حجج أعدوها لكل معاند
أصبت شمسهم، فكم لك فيهم ... من راكع عند الظلام وساجد
والصابئون يرون أنك فردة ... في الحسن إقراراً لفرد ماجد
كالزهرة الزهراء أنت لديهم ... مسعودة بالمشتري وعطارد
فعلى يديك جميعهم مستبصر ... في الدين من غاوي السبيل وراشد
أصلحتهم وقتلتني فتركتني ... من بينهم أسعى بدين فاسد
قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ، حدثني أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي الشاعر، قال: أعانني والدك أبو إسحاق إبراهيم ابن هلال في هجائي، خمرة المجنونة بالشيء الكثير، فمن ذلك:
لخمرة عندي حديث يطول ... رأتني أبول، فكادت تبول
وقالت: تقول بنا يا فتى ... فقلت، وأدليت: لم لا أقول؟
فلما نهضت أتتني رقاع ... وجاءت هدايا ووافي رسول
ومن ذلك أيضاً:
نام إيرى، وقد تولج فيها ... قائلاً فيه من هجير وحر
بيت خيش في برده ونداه ... سجفت دونه شريحة بظر
نعم مستبرد الغراميل لولا ... أنه منتن خبيث المقر
ومن ذلك أيضاً:

ألا هل قائل مني لخمره: ... فقدتك، كل شيء منك عبره
ألا كل النوى في البسر يخفى ... وقد أخفت نواتك كل بسره
إذا وردتك فيشة ذي جمام ... ترف نضارة وتروق حمره
تولت عنك صفراء النواحي ... عليها من ثياب حشاك صدره
فتدخل وهي فيشة جيسوان ... وتخرج وهي كالبرني صفره
ومن خط أبي علي المحسن حدثني السري ابن أحمد الشاعر الرفاء قال أنشدني والدك لنفسه:
مازلت في سكري ألمع كفها ... وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج منه في الجمار
وأخذت هذا المعنى فقلت:
أحبب إلي بفتية نادمتهم ... بين المحلة والقباب البيض
من كل محض الجاهلية معرق ... في الخرمية بالعدي عريض
وسموا الأكف بخضرة فكأنما ... غرسوا بها الريحان في الإغريض
ومن خطه لأبي الحسن بن سكرة الهاشمي، من قصيدة إلى والدي وعمي أبي العلاء - رحمهما الله - :
آمنوا يا بني هلال جميعاً ... نوب الدهر والزمان المعاند
وارتقوا كيف شئتم في المعالي ... وأذلوا وأهبطوا كل حاسد
لكم في أبي العلاء علو ... وصعود ببدره التم صاعد
زاد في عزكم ومازال منكم ... كل يوم يزيد في الصيد واحد
وكتب من الحبس إلى ابنه المحسن، وقد أكثر من هذا في ترجمة أبيه:
كتبت أقيك السوء من مجلس صنك ... وعين عدوي، رحمةً منه لي، تبكي
وقد ملكتني كف فظ مسلط ... قليل التقى ضار على الفتك والإفك
صليت بنار الهم فازددت صفوة ... كذا الذهب الإبريز يصفو على السبك
وكتب إلى صديق له من الحبس:
نفسي فداؤك غير معتد بها ... إذ قد مللت حياتها وبقاءها
ولو أن لي مالاً سواها لم أكن ... أرضى لنفسك أن تكون إزاءها
لكن صفرت فلم أجد إلا التي ... قد آن لي أن أستطيل ذماءها
وإذا شكرت لمن فداك فإنني ... لك شاكر أن قد قبلت فداءها
وكأنني المفدى حين أرحتني ... من نائبات ما أطيق لقاءها
وقال في الحبس:
إذا لم يكن للمرء بد من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصعبه ما جاءه وهو راتع ... تطيف به اللذات، والحظ مسعد
فإن أكُ شر العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غباً واحداً لهما الغد
وقال في الشيب:
يقول الناس لي: في الشيب عز ... يزيد به جلال المرء ضعفا
ولولا أنه ذلك وهون ... لما احتكم المزين فيه نتفا
أخذه من ابن الرومي:
كفاك من ذلتي للشيب حين أتى ... أني توليت نتفاً لحيتي بيدي
وله أيضاً:
وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... والناس من حظي كذا
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخرها القذى
حدث الرئيس أبو الحسن هلال، قال: قلت لجدي أبي إسحاق، تجاوز الله عنه وهو يشكو زمانه: يا سيدي، ما نحن بحمد الله تعالى إلا في خير وعافية، ونعمة كافية، فما معنى هذه الشكوى التي تواصلها، ويضيق صدرك بها، وينتغص عيشك معها؟ فضحك وقال: يا بني نحن كدود العسل، قد نقلنا منه إلى الخل، فهو ذا نحس بحموضته، ونأسى ونحزن على ما كنا فيه من العسل ولذته، وأنتم كدود الخل، ما ذقتم حلاوة غيره، ولا رأيتم طلاوة ضده.
ولأبي إسحاق من التصانيف: كتاب رسائله، وهو مشهور، نحو ألف ورقة، كتاب التاجي في أخبار أهله، كتاب اختيار شعر المهلبي، كتاب ديوان شعره.
إبراهيم بن علي الحصري القيرواني الأنصاريقال ابن صهيب: مات بالمنصورة، من أرض القيروان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وقد جاوز الأشد.

قال: وكان شاعراً، نقاداً، عالماً بتنزيل الكلام، وتفصيل النظام، يحب المجانسة والمطابقة، ويرغب في الاستعارة، تشبهاً بأبي تمام في أشعاره، وتتبعاً لآثاره، وعنده من الطبع ما لو أرسله على سجيته، لجرى جري الماء، ورق رقة الهواء، كقوله في بعض مقطعاته:
يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون
هتفت سحيراً والربى للقطر رافعة الجفون
فكأنها صاغت على ... شجوى شجي تلك اللحون
ذكرتني عهداً مضى ... للأنس منقطع القرين
فتصرمت أيمها ... وكأنها رجع الجفون
وله في الغزل:
كتمت هواك حتى عيل صبري ... وأدنتني مكاتمتي لرمسي
ولم أقدر على إخفاء حال ... يحول بها الأسى دون التأسي
وحبك مالك لحظي ولفظي ... وإظهاري وإضماري وحسي
فإن أنطق، ففيك جميع نطقي ... وإن أسكت ففيك حديث نفسي
وقوله أيضاً:
إني أحبك حباً ليس يبلغه ... همي ولا ينتهي فهمي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ... بالعجز مني عن إدراك معرفته
وله تآليف جيدة في ملح الشعر والخبر.
قال ابن رشيق: وقد كان أخذ في عمل طبقات الشعراء على رتب الأسنان، وكنت أصغر القوم سنا، فصنعت:
رفقاً أبا إسحاق بالعالم ... حصلت في أضيق من خاتم
لو كان فضل السبق مندوحة ... فضل إبليس على آدم
فبلغه البيتان، فأمسك عنه، واعتذر منه، ومات، وقد سد عليه باب الفكرة فيه، ولم يصنع شيئاً.
والذي أعرف أنا من تصانيفه: كتاب زهرة الآداب، وكتاب النورين، اختصره منها، وهما يتضمنان أخباراً وأشعاراً حساناً، وكتاب المصون والدر المكنون، وله عندي: كتاب الجواهر، في الملح والنوادر، كتبه عبد القادر البغدادي.
إبراهيم بن يحيى بن المبارك بن المغيرةاليزيدي، أبو إسحاق بن أبي محمد العدوي، قد ذكر السبب الذي من أجله سمي باليزيدي في خبر أبيه، وكان إبراهيم عالماً بالأدب شاعراً مجيداً، نادم الخلفاء، وقدم دمشق صحبة المأمون، كذا ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق، مات فيما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب المنتظم، سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال ابن عساكر: وكان قد سمع أباه أبا محمد اليزيدي وأبا زيد سعد بن أوس الأنصاري، والأصمعي. روى عنه أخوه أبو علي إسماعيل بن يحيى ابن المبارك، وابنا أخيه أحمد وعبيد الله ابنا محمد بن أبي محمد.
قال الخطيب: وهو بصري، سكن بغداد، وكان ذا قدر وفضل، وحظ وافر من الأدب، وله كتاب مصنف، يفتخر به اليزيديون، وهو ما اتفق لفظه، واختلف معناه، نحو من سبعمائة ورقة، رواه عنه ابن أخيه عبيد الله ابن محمد بن أبي محمد، وذكر إبراهيم: أنه بدأ بعمله، وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يزل يعمله إلى أن أتت عليه ستونه سنة، وله كتاب مصادر القرآن، قال ابن النديم: يبلغ فيه إلى سورة الحديد، ومات، وكتاب في بناء الكعبة وأخبارها، وكتاب النقط والشكل، وله كتاب المقصور والممدود. حدث ابن عساكر في تاريخه، بإسناد رفعه إلى إبراهيم بن أبي أحمد عن أبيه، قال: كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فسأل عن رجل من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فاسأل عنه، فرجع فقال: تركته يريد أن يموت، فقال: فضحك منه بعض القوم، قوال: في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟ فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية، إذ يريد هاهنا بمعنى يكاد، قال الله تعالى: " يريد أن ينقض " ، قال: فقال أبو عمرو بن العلاء لا نزال بخير مادام فينا مثلك.
وحدث أيضاً قال: قال إبراهيم اليزيدي: كنت يوماً عند المأمون، وليس معنا إلا المعتصم، قال: فذكر كلاماً فلم أحتمله منه، يعني: من المعتصم، وأجبته قال: فأخفى ذلك المأمون ولم يظهر ذلك الإظهار، فلما صرت من غد إلى المأمون، كما كنت أصبر، قال لي الحاجب: أمرت ألا آذن لك، فدعوت بدواة وقرطاس، فكتبت:
أنا المذنب الخطاء، والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت، وما إن يستوي السكر والصحو

ولا سيما إذ كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما إن يليق به اللغو
ولولا حميا الكأس كان احتمال ما ... بدهت به لا شك فيه هو السرو
تنصلت من ذنبي تنصل ضارع ... إلى من لديه يغفر العمد والسهو
فإن تعف عني تلف خطوي واسعاً ... وإلا يكن عفو، فقد قصر الخطو
قال: فأدخلها الحاجب، ثم خرج إليّ، فأدخلني، فم المأمون باعيه، فأكببت على يديه فقبلتهما، فضمني إليه وأجلسني.
قال المرزباني: إن المأمون وقع على ظهر هذه الأبيات:
إنما مجلس الندامى بساط ... للمودات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من حديث ولذة رفعوه
وحدث أبو الفرج الإصبهاني في كتابه، ورفعه إلى إبراهيم بن اليزيدي، قال: كنت مع المأمون في بلد الروم، فبينا أنا أسير في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح، وإلى جانبي قبة إذ برقت بارقة، فإذا في القبة عريب المغنية جارية المأمون، فقالت: إبراهيم بن اليزيدي؟ فقلت: لبيك، فقالت: قل في هذا البرق أبياتاً أغني فيها، فقلت:
ماذا بقلبي من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
فارقته وهو أعز الخلق ... عليّ، والزور خلاف الحق
ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي
فتنفست نفساً ظننت أنه قد قطع حيازيمها، فقلت: ويحك، على من هذا؟ فضحكت، وقالت: على الوطن فقلت: هيهات، ليس هذا كله للوطن، فقالت: ويحك، أفتراك ظننت أنك تستفزني، والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادعاها أكثر من ثلاثين رئيساً، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا الوقت.
ووجدت في بعض الكتب: أن إبراهيم اليزيدي، دخل يوماً على المأمون، وعنده يحيى بن أكثم القاضي، فأقبل يحيى على إبراهيم يمازحه، وهم على الشراب، فقال له فيما قال: ما بال المعلمين ينيكون الصبيان، فرفع إبراهيم رأسه، فإذا المأمون يحرض يحيى على العبث به، فغاظ ذلك إبراهيم، فقال: أمير المؤمنين أعلم خلق الله بهذا، فإن أبي أدبه، فقام المأمون من مجلسه مغضباً، ورفعت الملاهي، وكل ما كان بحضرته، فأقبل يحيى بن أكثم على إبراهيم، فقال له: أتدري ما خرج من رأسك؟ إني لأرى هذه الكلمة سبباً في انقراضكم يا آل اليزيدي، قال إبراهيم: فزال عني السكر، وسألت من أحضر لي دواة ورقعة، فأحضرهما، وكتبت معتذراً بقولي:
أنا المذنب الخطاء، والعفو واسع
الأبيات المتقدمة، فرضي وعفا عنه.
قال إبراهيم: وكنت يوماً بحضرة المأمون، فقالت لي عريب، على سبيل الولع: يا سلعوس، قال: وكان من يريد العبث بإبراهيم، لقبه سلعوس، قال إبراهيم: فقلت لها:
قل لعريب: لا تكوني سلعسه ... وكوني كنزيف، وكوني كمونسه
هذه أسماء جواري المأمون، قال: فقال المأمون على الفور:
فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن ... هنالك شك، أن ذلك وسوسه
فقال إبراهيم: كذا والله يا أمير المؤمنين قدرت، وإياه أردت، وعبت من فظنة المأمون وذهنه.
الأثرم الفابجاني الإصبهانيذكره في كتاب أصبهان، فقال: كان أحد علماء اللغة، وممن جاب بلدان العراق، يجمع اللغة والشعر، وتصحيحهما عن علمائهما.
أحمد بن إبراهيم الضبيأبو العباس الملقب بالكافي الأوحد، الوزير بعد الصاحب أبي القاسم بن عباد، لفخر الدولة أبي الحسن علي ابن ركن الدولة بن بويه، مات في صفر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ببروجرد، من أعمال بدر بن حسنويه، على ما نذكره، ذكره الثعالبي فقال: هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع فيه الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج منه صدراً يملأ الصدور كمالاً، ويجري في طريقه ترسماً وترسلاً، وفي ذرا المعالي توقلاً، ويحقق قول أبي محمد فيه من قصيدة:
تزهى بأترابها كما زهيت ... ضبة بالماجد ابن ماجدها

سمائها شمسها غمامتها ... هلالها بدرها عطاردها
يروى كتاب الفخار أجمع عن ... كافي كفاة الورى وواحدها
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب والصابئ بقيت متماسكة بأبي العباس، فأشرفت على التهافت بموته، وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام، لولا أن الله سد ببقاء الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد ثلم الآداب والكتابة، ثم وصفه بكلام كثير.
ومن شعر أبي العباس الضبي:
لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مر المذاق
والشمس عند غروبها ... تصفر من ألم الفراق
وكتب إلى الصاحب كافي الكفاة:
أكافي كفاة الأرض ملكك خالد ... وعزك موصول فأعظم بها نعمى
نثرت على القرطاس دراً مبدداً ... وآخر نظماً قد فرعت به النجما
جواهر لو كانت جواهر نظمت ... ولكنها الأعراض لا تقبل النظما
وهذه رسالة من نثره كتبها إلى أبي سعيد الشيبي: وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين، فكان في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب، ومنها: - وبعد - فإن المنازعين للأمير حسام الدولة نسور قد اقتنصتها القصور، ودولته - حرسها الله - في إبان شبابها واعتدالها، وريعان إقبالها واقتبالها، قد أسست على صلاح وسداد، وعمارة دنيا ومعاد، وهي مؤذنه بالدوام، في ظل السلامة والسلام.
وأما سبب هربه إلى بروجرد، فإن أم مجد الدولة اتهمته أن سم ابن أخيها، وطلبت منه مائتي ألف دينار، نفقة في مأتمه فلم يفعل، والتجأ إلى بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه الكردي، ثم بدا له في الرجوع إلى الوزارة، فبذل مائتي ألف دينار ليعاد إلى وزارته لمجد الدولة، فلم يجب إلى ذلك، فلما مات احتوى ابنه أبو القاسم سعد على تركته، وكانت عظيمة، ومات بعده بشهور، فاحتوى أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن رافع على المال، وورد تابوت أبي العباس إلى بغداد مع أحد حجابه.
وكتب ابنه إلى أبي بكر الخوارزمي، شيخ أصحاب أبي حنيفة، يعرفه أنه وصى بدفنه في مشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما، ويسأله القيام بأمره، وابتياع تربة له، فخاطب الشريف الطاهر أبا أحمد في ذلك، وسأله أن يبيعهم تربة بخمسمائة دينار، فقال: هذا رجل التجأ إلى جوار جدي، ولا آخذ لتربته ثمناً، وكتب نفسه الموضع الذي طلب منه، وأخرج التابوت إلى برانا، وخرج الطاهر أبو أحمد ومعه الأشراف والفقهاء وصلى عليه، وأصحب خمسين رجلاً من رجاله حتى أوصلوه ودفنوه هنالك.
وقد مدحه مهيار بقصائد منها:
أجيراننا بالغور والركب منهم ... أيعلم خال كيف بات المتيم؟؟
رحلتم وعمر الليل فينا وفيكم ... سواء ولكن ساهرون ونوم
فيا أنتم من ظاعنين وخلفوا ... قلوباً أبت أن تعرف الصبر عنهم
يقون الوجوه الشمس والشمس فيهم ... ويسترشدون النجم والنجم منهم
أناشد نعمان الأخابير عنهم ... كفى خبرة مستفصح وهو أعجم
ولما جلا التوديع عمن أحبه ... ولم يبق إلا نظرة تتغنم
بكيت على الوادي وحرمت ماءه ... وكيف يحل الماء أكثره دم؟
ونفرت بالأنفاس عني حدوجهم ... كأن مطاياهم بهن توسم
وإن ملوكاً في " بروجرد " كرمت ... هم بذلوا الإنصاف فيما تكرموا
فميز من أعدائهم أولياؤهم ... إذا انتقموا يوم الجزاء وأنعموا
أسادتنا والجود صيرنا لكم ... عبيداً وعن قوم نعز ونكرم
إلام وكان البر منكم سجية ... تواصلنا يجفى وكم نتظلم؟
من اعتضتم عنا خطيباً لفضلكم ... وهل مثل شعري عن علاكم يترجم؟؟
وهل غير مدحي طبق الأرض فيكم ... وإن كان ملء الأرض ما قد مدحتم؟
ولما مات رثاه مهيار أيضاً بقصيدة منها:
أبكيك لي ولمن بلين بفرقه ال ... أيتام بعدك والنساء أرامل
ولمستجير والخطوب تنوشه ... متسطعم والدهر فيه آكل

ولمعشر طرق العلوم ذنوبهم ... في الناس وهي لهم إليك وسائل
قد كنت ملتحفاً بمدحك حلة ... فخراً تجر لها علي ذلاذل
فاليوم أشكرك الصنيع مراثياً ... خرس المشبب عندها والغازل
قال هلال: في عصر الجمعة لست بقين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، توفي الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن عباد بالري، ودفن من غد في داره، ونظر في الأمور بعده أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، المتلقب بالكافي الأوحد، ومنزلة الصاحب، وعلو قدره، وما شاع من ذكره، يغني عن الإطالة، في وصف أمره.
فحدثني القاضي أبو العباس أحمد بن محمد البارودي قال: اعتل الصاحب أبو القاسم، فكان أمراء الديلم، ووجوه الحواشي، وأكابر الناس يغادون بابه ويراوحون، ويخدمونه بالدعاء، وتقبيل الأرض وينصرفون، وجاءه فخر الدولة عدة دفعات، فيقال إن الصاحب قال له وهو على يأس من نفسه: قد خدمتك أيها الأمير الخدمة التي استفرغت فيها الوسع، وسرت في دولتك وأيامك السيرة التي حصلت لك حسن الذكر بها، فإن أديت الأمور بعدي على رسومها علم أن ذلك منك، ونسب الجميل فيه إليك، واستمرت الأحدوثة الطيبة لك، ونسيت أنا في أثناء ما يثنى به عليك، وإن غيرت ذلك وعدلت عنه وسمعت أقوال من يحملك على خلافه، وتسلك به في طريقه، كنت المذكور بما تقدم والمشكور عليه، وقدح في دولتك ما يشيع أنفاً عنك، فقال له في جواب ذلك ما أراه به قبول رأيه. فلما كان وقد غروب الشمس من ليلة الجمعة المذكورة قضى نحبه.
وكان أبو محمد خازن الكتب ملازماً داره على سبيل الخدمة له، وهو عين لفخر الدولة في مراعاة الدار وما فيها، فأنفذ في الحال وعرفه الخبر، فأنفذ فخر الدولة خواصه وثقاته حتى أحاطوا على الدار والخزائن، ووجد له كيس فيه رقاع أقوام بمائة ألف وخمسين ألف دينار مودعة عندهم، فاستدعاهم وطالبهم بذلك، فأحضروه، وكان فيه ما هو بختم مؤيد الدولة، ورجمت الظنون فيه، فقيل: إنه أخذه من خيانة، وقيل إنه أودعه مؤيد الدولة عن وصية منه إليه، ونقل ما كان في الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة، وجهز الصاحب وأخرج تابوته وسط الناس، وقد جلس أبو العباس الضبي لعزائه، فلما بدا على أيدي الحاملين له قامت الجماعة إعظاماً له وقبلوا الأرض، ثم وقفت الصلاة عليه، وعلق بالسلاسل في بيت كبير إلى أن نقل إلى تربته بإصبهان.
وكان القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، قد قال: لا أرى الرحمة عليه، لأنه مات عن غير توبة هرت منه، فطعن عليه بذلك، ونسب إلى قلة الرعاية فيه، وقبض فخر الدولة على القاضي عبد الجبار وأصحابه، وقرر أمرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، فأدوا ذلك ورقاً وعيناً وقيمة عقار سلموه، وباع في جملة ما باع ألف طيلسان محشي، وألف ثوب مصري، وقلد القضاء بعده علي بن عبد العزيز، وطالب أبا العباس الضبي أن يحصل من الأعمال والمتصرفين فيها ثلاثين ألف ألف درهم، وقال له: إن الصاحب أضاع الأموال، وأهمل الحقوق، وينبغي أن يستدرك ما فات، ويتبع ما مضى، فامتنع من ذاك مع تردد القول فيه.
وكتب أبو علي الحسن بن أحمد بن حمولة وكان من أعلام الكتاب المتقدمين، الذين استخصهم الصاحب وأقر لهم بالفضل، وقد قاد الجيوش الكثيرة فهزمهم، فقامت له الهيبة التامة في قلوب العساكر، والملوك المجاورين، وكان عند موت الصاحب بجرجان، مقيماً مع الجيوش لمدافعة قابوس بن وشمكير، وجيوش خراسان، فكتب يخطب الوزارة ويضمن ثمانية آلاف ألف درهم عنها، فأجيب بالحضور، فلما قرب، قال فخر الدولة لأبي العباس الضبي: قد ورد أبو علي وعزمت على الخروج من غد لتلقيه، وأمرت الجماعة من قوادي وأصحابي بالنزول له، ولا بد من خروجك وفعلك مثل ذلك، فثقل هذا القول على أبي العباس، وقال له خواصه وأصحابه: هذا ثمرة امتناعتك عليه، وتقاعدك عما دعاك له، وسيكون لهذه الحال ما بعدها، فراسل فخر الدولة وبذل له ستة آلاف ألف درهم على إقراره على الوزارة، وإعفائه من تلقي أبي علي، وخرج فخر الدولة وتلقاه، ولم يخرج أبو العباس.

ورأى فخر الدولة أن من الصلاح لأمره الإشراك بينهما في وزارته، فسامح أبا علي بألفي ألف درهم من جملة الثمانية التي بذلها، وسامح أبا العباس بألفي ألف درهم من جملة الستة التي ذكرناها، وقرر عليهما عشرة آلاف ألف درهم، وجمع بينهما في النظر، وخلع عليهما خلعتين متساويتين، ورتب أمرهما على أن يجلسا في دست واحد، ويكون التوقيع لهذا في يوم، والعلامة للآخر، ويجعل الكتب باسمهما، فقدم هذا على عنواناتهما يوماً، ووقع التراضي بذلك، وجرت الحال عليه، ونظرا في الأعمال، وتحصيل الأموال، وقبضا على أصحاب الصاحب أبي القاسم ومن لحقته المسامحة في أيامه، وقررا عليهم المصادرات.
وذكر القاضي أبو العباس عن أبي العلاء بن المقرن أنه حدثه أنهما استخرجا من إصبهان وحدها جملة وافرة، وجرت حال غيرها من النواحي إلى مصادرة أهلها على مثل هذه الصورة، وأنفذا أبا بكر بن رافع إلى إستراباذ ونواحيها لاستيفاء ما يستوفيه من المعاملين والتناء فيها، فقيل: إنه جمع الوجوه، وأرباب الأحوال، وأخر الإذن لهم حتى تعالى النهار، واشتد الحر، ثم أطعمهم طعاماً أكثر ملحه، ومنعهم الماء عليه وبعده، وقدم إليهم الدواة والكاغد وطالبهم بكتب خطوطهم بما يصححونه، ولم يزل يستام عليهم فيه وهم يتلهفون عطشاً، إلى أن ألزموا له عشرة آلاف ألف درهم، وتوقف العمال والمتصرفون عن الخروج إلى قزوين، لأن أهلها أهل امتناع وقوة، فبذل القارضي بن شيرمردي الخروج إليها، وذكر أنه يعرف وجوه أموال فيها، وخرج وحاول مطالبة أهلها، ومعاملتهم بمثل ما عومل به غيرهم، فاجتمعوا وهجموا عليه في داره وقتلوه.
واجتمع لفخر الدولة من الأموال في الخزائن والقلاع ما كثره المقللون ثم تمزق بعد وفاته، فلم تبق منه بقية في أسرع وقت، ثم مات فخر الدولة، وولي الأمر بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم، واستولت السيدة والدته على الأمر، وأجري أمر الوزيرين على حاله في أيام فخر الدولة من التشارك في تدبير المملكة، ومزقا أموال فخر الدولة، وبذراها غاية التبذير، ثم نجم قابوس، واستولى على رججان، وضام جيوش خراسان، فدعت الضرورة إلى تجهيز جيش إليه، وأن يخرج معه أحد الوزيرين، فتقارعا على من يخرج منهما، فوقعت القرعة على الجليل أبي علي الحسن بن أحمد بن حمولة، فخرج ومعه العساكر الجمة، ووقعت بينه وبين قابوس وقائع استنفدت الأموال التي صحبته، واحتاج إلى الإمداد من الري، فتقاعد به أبو العباس الضبي، فرجع إلى الري مفلولاً، وأقاما على أمرهما من الاشتراك مدة، ثم سعت بينهما السعاة وقالوا: فساد الأمر إنما هو من اشتراكهما، واختلاف آرائهما، والرأي أن يعزل أحدهما ويبقى الآخر، وكان ابن حمولة شديد الثقة بنفسه، معتقداً أن العساكر لا تختار غيره، ولا تريد سواه، فكان متغافلاً حتى دبر أبو العباس الضبي عليه، وقبض عليه بأمر السيدة، وحمله إلى قلعة استوناوند، ثم أنفذ إليه من قتله.
واستبد أبو العباس بالأمر، وجرت له خطوب، وعجز في آخرها ومات، فرأته السيدة، فاتهم أنه سقاه السم، فهرب حتى لحق بروجرد في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ملتجئاً إلى بدر بن حسنويه، فلم يزل عنده إلى أن مات في بروجرد في سنة سبع وتسعين أو ثمان وتسعين، وتبعه ابنه أبو القاسم سعد لاحقاً به، وكانت المدة قريبة بينهما.
وقيل: إن أبا بكر بن رافع، واطأ أحد غلمانه فسقاه سماً كان فيه حتفه، ونهض أبو بكر من همذان إلى بروجرد لاحتمال تركته، فذكر أنه حصل له ما زاد على ستمائة ألف دينار.
أحمد بن إبراهيم أبو رياشوجدت بخط الحميدي، فيما رواه عن التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة قال: هو أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، ووجدت بخط بعض أدباء مصر قال: أبو رياش، أحمد بن إبراهيم الشيباني، ولعل أبا هاشم كنية إبراهيم، مات فيما ذكره أبو غالب همام بن الفضل بن مهذب المغربي في تارلايخه في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.

قال أبو علي المحسن بن علي التنوخي: ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، وكان يقال: إنه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر، إلا أن أبا محمد المافروخي أبر عليه، لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد لا، إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه ويتناشدا إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد بعده بقصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة. حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.
وحكى أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، في كتابه المعروف بالرياش المصطنعي: أن أبا رياش كان طويل الشخص، جهير الصوت، يتكلم بكلام البادية، ويظهر أنه على مذهب الزيدية، ويتزوج كثيراً ويطلق، وكان يقول: ولدت بالبادية، ولعبت بالحضرمة، وتأدبت بالبصرة، والحضرمة بستان في ناحية اليمامة، له خاصية في عظم البصل، والريش والرياش حسن الهيئة والشارة.
وقال أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في اليتيمة: كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب وإتقان، ولكنه كان عديم المروءة، وسخ اللبسة، كثير التقشف، قليل التنظف، وفيه يقول أبو عثمان الخالدي:
كأنما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لج في انتعاش ... شهدانج بدد في خشخاشِ
وكان مع ذلك شرهاً على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتي الالتقام، ثعباني الالتهام، سيء الأدب في المؤاكلة، دعاه أبو يوسف الزيدي والي البصرة إلى مائدته، فلما أخذ في الأكل، مد يده إلى بضعة لحم فانتهشها ثم ردها إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر بأن يهيأ له طبق ليأكل عليه وحده.
ودعاه يوماً المهلي الوزير إلى طعامه، فبينما هو يأكل، إذ امتخط في منديل الغمر وبصق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت وجه الوزير، فتعجب من سوء أدبه، فاحتمله لفرط علمه، ففي شره أبي رياشٍ يقول ابن لنكك:
يطير إلى الطعام أبو رياشٍ ... مبادرة ولو واره قبر
أصابعه من الحلواء صفر ... ولكن الأخادع منه حمر
وله فيه:
أبو رياش بغي والبغي مصرعه ... فشدد الغين ترميه بآبدته
عبد ذليل هجا للحين سيده ... تصحيف كنيته في صدغ والدته
وله فيه وقد ولاه المافروخي عملاً بالبصرة:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
ولابن لنكك فيه أشعار كثيرة: بعضها في أخبار ابن لنكك، من كتاب الشعراء. وجدت في موضع آخر من كتاب نشوار المحاضرة للقاضي التنوخي، كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليمامي رجلاً من حفاظ اللغة، وكان جندياً في أول أمره مع المسمعي برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر وروايته لنا بالبصرة، وأنا حديث مع عمي حتى صرت رجلاً، وكتبت عنه وأخذت منه علماً صالحاً، وكان يتعصب على أبي تمام الطائي. وقال بعض الحاضرين لأبي: إن من عيون شعر أبي رياش قوله في أبيات عند ذكر امرأة شبب بها:
لها فخذ بختية تعلف النوى ... على شفة لمياء أحلى من التمر
فغضب أبو رياش ونهض، فأمر أبي بإجلاسه وقال للحاضر القائل: ولا كل ذا: وترضاه، ووهب له دراهم صالحة القدر.
قال: وأخبرني من حضر مجلس أبي محمد المافروخي عامل البصرة، وقد تنارا في شيء من اللغة اختلفا فيه، فقال أبو رياش: كذا أخبرتني عمتي أو جدتي في البادية عن العرب، ووجدتها تتكلم به. فقال له أبو الحسين محمد ابن محمد بن جعفر بن لنكك الشاعر وكان حاضراً: اللغة لا تؤخذ عن البغيات، فأمسك خجلاً، وكان أبو محمد المافروخي قد ولاه الرسم على المراكب بعبادان بحار سابع وأحسن إليه واختاره، عصبية منه للعلم والأدب، فقال ابن لنكك:
أبو رياش ولي الرسما ... وكيف لا يصفع أو يعمى
يا رب جدي دق في خصره ... ثم أتانا بقفا يذمى

قال وحدثني أبو رياش قال: مدحت الوزير المهلبي فتأخرت صلته، وطال ترددي إليه، فقلت:
وقائلة قد مدحت الوزي ... ر وهو المؤمل والمستماح
فماذا أفادك ذاك المدي ... ح وهذا الغدو وذاك الرواح؟
فقلت لها ليس يدري امرؤ ... بأي الأمور يكون الصلاح؟
علي التقلب والإضطرا ... ب جهدي وليس علي النجاح
قال المؤلف: وأما أبو محمد المافروخي الذي تقدم ذكره مكرراً، فهو أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الفروخي فإنه كان يتقلد عمالة البصرة، وكان من العلم والجلالة على ما تقدم ذكره، وكان مع ذلك تمتاماً، يكرر الحرف في كلامه، وهو الذي تسميه العامة فأفاء، وكان مستغلقاً جداً، فحدث التنوخي أنه اعترض جملاً يسير في صحن الدار بحضرته، ووقف ليخاطب عليه فلم يرضه فقال أخرجوه عني، وكرر أخ أخ لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل، لأنه ظن أنه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك، قال: وكان إذا أنشد الشعر أون قرأ القرآن، قرأه وأورده على أحسن ما يكون من حسن الأداء، وطيب الحنجرة، فقيل له: لو كان كلامك كله شعراً أو كقراءة القرآن، تخلصت من هذه الشدة، فقال يكون ذلك طنزاً، قال: وكان أحد خلفائه قد خرج إلى بعض الأعمال، واستخلف بحضرته ابناً له، كان مثل المافروخي في التمتمة، فخاطبه المافروخي أول ما دخل إليه في أمر شيء قال فيه و. و. و. مراراً، فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه، فقال يا غلمان قفاه، كأنه يحكيني، فصفع صفعاً محكماً، حتى حضره أقوام وحلفوا له أن ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، قال الذنب لأبيه، لما نزل في حضرتي مثله فهذا خبر المافروخي لتعرفه،
أحمد بن إبراهيم الأديبيالخوارزمي أبو سعيد، من مشاهير فضلاء خوارم وأدبائها وشعرائها.
قال أبو محمد في تاريخ خوارزم: ذكره أبو الفضل الصفاري في كتابه، قرأت بخطه أنه كان كاتباً بارعاً، حسن التصرف في الترسل، وافر الحظ من حسن الكتابة، وفصاحة البلاغة، وكان خطه في الدرجة العليا من أقسام الحسن والجودة، فمن كلامه: الزيادة فوق الحد نقصان، والإساءة بلسان الحق إحسان.
قال: وكان إذا رأى كتابة متعقدة متكلفة قال: الكتابة تسكن سكن أخرى: وكتب إلى بعض الرؤساء في شكاية رجل ثقيل: قد منيت من هذا الكهل الرازي، صاحب الجبة الكهباء، واللحية الشهباء بالداهية الدهياء، والصيلم الصماء، جعل لسانه سنانه، وأشفار عينيه الصلبة شفاره، فإذا تكلم كلم بلسانه، أكثر مما يكلم بسنانه، وإذا لمح ببصره، جرح القلوب بلحظه، أشد مما جرح الآذان بلفظه، يظهر للناس في زي مظلوم، وإنه لظالم، ويشكو إليهم وجع السليم، وهو سالم.
وكتب إلى بعض الرؤساء وقد حجب عنه:
ومحجب بحجاب عز شامخ ... وشعاع نور جبينه لا يحجب
حاولته فرأيت بدراً طالعاً ... والبدر يبعد بالشعاع ويقرب
قبلت نور جبينه متعززاً ... باللحظ منه وقد زهاه الموكب
كالشمس في كبد السماء ونورها ... من جانبيه مشرق ومغرب
إن بان شخصي عن مجالس غيره ... فالنفس في ألطافه تتقلب
وإذا تقاربت النفوس وما انتأت ... أشخاصها فهو الجواد الأقرب

وكتب إلى واحد، وقد بعث إليه شاة: وصلت الشاة فكانت شاة الشياة، حسنة الحلي والشيات، ففرح الفراريج بمكانها، وملأوا منها حواصلهم، وثنوا بالدباء والدعاء أناملهم: وله: ساعدت الأيام بالمراد، ووفت بالميعاد، وجمعت لي بين طرفي الإصعاد والإسعاد، وله: حضرت موالياً الحضرة التي تضرب غليها أكباد الإبل، من كل فج عميق، وتمتد نحوها أعناق الأمل، من كل فوج وفريق، وله: أيام مولانا مشرقة، كأخلاقه، وأخباره عبقة، كأعراقه تزهى بجلال مكانه الرتب والمعارج، وتزين بكرم وجهه الأعياد والمهارج، وله: لا يليق خاتم العز والجلال إلا بخناصره، ولا يرجع الباطل إلى الحق إلا عند ناصره، وله: من لحظته عين إقباله، وسقته عين إفضاله، أقبلت سعوده بإشراق، وأذن عوده بإيراق، وله: إن كانت الوزارة دثرت رسومها وآثارها، ودرست أعلامها ومنارها، فلقد قيض الله لها مولانا فمد باعها، وعمر رباعها، فأنست بتدابيره الثاقبة من وحشة نفارها، واستروحت من آرائه الصائبة إلى كنفها وقرارها، وله: كتابي وأنا في سلامة إلا من الشوق إلى طلعته المسعودة، والنزاع إلى أخلاقه المشهودة، وملاحظة تلك الهمم العلية، ومطالعة تلك الحركات الشهية، ومجاري تلك الأنامل بالأقلام، فإنها إذا جرت نثرت الدرر، وأسالت على جباه الأنام الغرر، وسنت للبلغاء والكتاب، سنن الفقر والآداب.
أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزيأبو نصر، أحد الأدباء الفضلاء، قرأ على أبي بكر عبد القاهر، ثم قرأت بخط سلامة بن عياض الكفرطابي النحوي ما صورته: وجدت في آخر نسخة المعتضد، لعبد القاهر الجرجاني بالري مكتوباً، ما حكايته: قرأ علي الأخ الفقيه أبو نصر، أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزي أيده الله، هذا الكتاب من أوله إلى آخره، قراءة ضبط وتحصيل، وكتبه عبد القاهر بن عبد الرحمن بخطه في شهر الله المبارك من شهور سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
أحمد بن إبراهيم بن أبي خالدالطبيب يعرف بابن الجزار القيرواني، كان طبيباً حاذقاً دارساً، كتبه جامعة لمؤلفات الأوائل، فيه حسن الفهم لها، وله مصنفات فيه وفي غيره.
فمن أشهر كتبه في الطب، كتابه في علاج الأمراض، سماه زاد المسافر، وكتابه في الأدوية المفردة، المعروف بالاعتماد، وكتابه في الأدوية المركبة، المعروف بالبغية، ورسائله في النفس، وذكر اختلاف الأوائل فيها، وكان أيضاً له عناية بالتاريخ، ألف فيه كتاباً، رأيته في مجلدات تزيد على العشر، سماه التعريف بصحيح التاريخ، وذاك الذي أوجب ذكره في هذا الكتاب، وكان مع ذلك حسن المذهب بأصل السيرة، صائناً لنفسه، منقبضاً عن الملوك، ذا ثروة، ولم يكن يقصد أحداً إلى بيته، وكان له معروف، وأدوية يفرقها، وكان في أيام المعز لدين الله، في حدود سنة خمسين وثلاثمائة أو ما قاربها.
أحمد بن أحمد بن أخيٍ الشافعي
هو رجل من أهل الأدب، رأيت جماعة من أعيان العلماء يفتخرون بالنقل من خطه، ورأيت خطه وليس بجيد المنظر، لكنه متقن الضبط، ولم أر أحداً ذكر شيئاً من خبره، لكني وجدت خطه في آخر كتاب، وقد قال فيه: كتبه أحمد بن أحمد المعروف بابن أخيٍ الشافعي وراق ابن عبدوس الجهشياري، والجهشباري هذا قد ذكر في بابه، وقد جمع ديوان البحتري وغيره.
أحمد بن إسحاق بن البهلولابن حسان بن سنان، أبو جعفر التنوخي أنباري الأصل، ولي القضاء بمدينة المنصور عشرين سنة، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر، سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ومولده بالأنبار سنة إحدى وثلاثين ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة.
قال أبو بكر الخطيب: وحدث حديثاً كثيراً، وكان عنده عن أبي لهب محمد بن العلاء حديث واحد، وروى عنه الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، والمخلص، وجماعة، وكان ثقة، قال: وذكر طلحة بن محمد بن جعفر في تسمية قضاة بغداد.
أحمد بن إسحاق بن البهلول، عظيم القدر، واسع الأدب، تام المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق، ولكن غلب عليه الأدب، وكان لأبيه إسحاق مسند كبير حسن، وكان ثقة، وحمل الناس عن جماعة من أهل هذا البيت، منهم البهلول بن حسان، ثم ابنه إسحاق، ثم أولاد إسحاق.

ولم يزل أحمد بن إسحاق على عضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين، إلى شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم صرف، وكان بيناً في الحديث، ثقة مأموناً، جيد الضبط لما حدث به، وكان مفتياً في علوم شتى، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما خالفهم في مسألات يسيرة، وكان تام العلم باللغة، حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله فيه كتاب ألفه، وكان تام الحفظ للشعر القديم والمحدث والأخبار الطوال والسير والتفسير، وكان شاعراً كثير الشعر جداً، خطيباً، حسن الخطابة والتفوه بالكلام، لسناً صالح الخط في الترسل والمكاتبة والبلاغة في المخاطبة، وكان ورعاً متخشناً في الحكم تقلد القضاء بالأنبار، وهيت، وطريق الفرات، من قبل الموفق بالله الناصر لدين الله، في سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلد للناصر دفعة أخرى، ثم تقلد للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي، في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يخرج إليها، ثم قلده المقتدر بالله في سنة ست وتسعين ومائتين بعد فتنة ابن المعتز القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام، وطسوج قطربل ومسكن، والأنبار، وهيت، وطريق الفرات، ثم أضاف له إلى ذلك بعد سنين القضاء بكور الأهواز مجموعة، لما مات قاضيها إذ ذاك محمد بن خلف، المعروف بوكيع، فمازال على هذه الأعمال إلى أن صرف عنها في سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
وحدث أبو نصر يوسف بن عمر ابن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف قال: كنت أحضر دار المقتدر بالله وأنا غلام حدث بالسواد مع أبي الحسين، وهو يومئذ قاضي القضاة، فكنت أرى في بعض المواكب القاضي أبا جعفر يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي عدل إلى موضعه فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير، كما يجتمع على القصاص استحساناً لما يجري بينهما، فسمعته يوماً وقد أنشد بيتاً لا أذكره الآن، فقال له أبي أيها القاضي: إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية، فصاح عليه صيحة عظيمة وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك وأضعافه وأضعافه، يكررها مراراً.
وفي رواية ابن عبد الرحيم عن التنوخي قال: قال له هات: ألي تقول هذا؟ وأنا أحفظ من شعري نيفاً وعشرين ألف بيت، سوى ما أحفظه للناس، قال: فاستحيى أبي منه لسنه ومحله وسكت. قال: وحدثني القاضي أبو طالب محمد ابن القاضي أبي جعفر ابن البهلول قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحق جالس أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه، وينشده أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، وذئب معه، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار وافترقنا، فلما جعلت أسير خلفه قال يا بني: هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة من هو؟ أترعفه؟ فقلت يا سيدي كأنك لم تعرفه؟ فقال لا: فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فقال: إنا لله، ما أحسنت عشرتي يا بني، فقلت: كيف يا سيدي؟ فقال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة، هذا رجل مشهور بالحفظ، والاتساع في صنوف من العلم، وما ذاكرته بحسبها، قال: ومضت على هذا مدة، فحضرنا في حق لآخر وجلسنا، وإذ بالطبري يدخل إلى الحق، فقلت له: قليلاً قليلاً أيها القاضي، هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلاً، قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي هاتها يا أبا جعفر، فربما تلعثم، فيمر أبي في جميعه، حتى سبقه، قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا، فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.

ولأبي جعفر هذا كتاب في النحو على مذهب الكوفيين، حدث أبو علي التنوخي، حدثني أبو الحسين علي بن هشام ابن عبد الله، المعروف بابن أبي قيراط، كاتب ابن الفرات، وأبو محمد عبد الله بن علي ذكويه، كاتب نصر القشوري، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب ابن الفرات، قالوا: كنا مع أبي الحسن بن الفرات، في دار المقتدر، في وزارته الثانية، في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد استحضر ابن قليجة رسول علي بن عيسى إلى القرامطة في وزارته الأولى، فواجه علي بن عيسى في المجلس بحضرتنا بأنه وجه إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم، وأحضر ابن الفرات معه خطه، " أي ابن عيسى " في نسخة أنشأها ابن ثوابة إلى القرامطة، جواباً عن كتابهم إليه، وقد أصلح علي بن عيسى فيها بخطه، ولم يقل إنكم خارجون عن ملة الإسلام بعصيانكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقكم العصا، ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد، فهجن ابن الفرات علياً بذلك، وقال: ويحك تقول القرامطة مسلمون؟ والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردة، لا يصلون ولا يصومون، وتوجه إليهم بالطلق وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، قال: أردت بهذا المصلحة، واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق وبغير حرب، فقال ابن الفرات لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ اكتب به، فأفحم، وجعل مكان ذلك أن أقبل على علي بن عيسى فقال: يا هذا، لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته، قال: فرأيت علي بن عيسى وقد حدق إليه تحديقاً شديداً، لعلمه بأن المقتدر في موضع يقرب منه، بحيث يسمع الكلام ولا يراه الحاضرون، فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر أن يكتب بخطه شيئاً فلم يفعل، وقال: قد غلط غلطاً وما عندي غير ذلك، فأخذ خطه بالشهادة عليه بأن هذا كتابه، ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟ فقال: إن أذن الوزير أن أقول ما عندي فيه على شرح قلته، قال افعل: قال: صح عندي أن هذا الرجل وأومأ إلى علي بن عيسى، افتدى بكتابين كتبهما إلى القرامطة في وزارته الأولى ابتداء وجواباً ثلاثة آلاف رجل من المسلمين، كانوا مستعبدين، وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم ونعمهم، فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب على جهة طلب الصلح، والمغالطة للعدو لم يجب عليه شيء، قال: فما عندك فيما أقر به أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يصح عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى أنهم مسلمون، وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر، قال فما عندك في الطلق ينفذ إلى أعداء الإمام؟ فإذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر، فأخبرني، فأقبل ابن البهلول على علي بن عيسى فقال له: أنفذت الطلق الذي هذه صفته إلى القرامطة؟ فقال علي بن عيسى لا، فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة، قد أقر عليك بذلك، فلحق علي بن عيسى دهشة فلم يتكلم، فقال ابن الفرات لأبي جعفر بن البهلول، احفظ إقراره بابن قليجة ثقته ورسوله، وقد أقر عليه بذلك، فقال: أيها الوزير: لا يسمى هذا مقراً، هذا مدع، وعليه البينة، فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إياه، قال: إنما وثقه في حمل كتاب، فلا يقبل قوله عليه في غيره، فقال ابن أبي جعفر: أنت وكيله، ومحتج عنه؟، لست إلا حاكماً، فقال: لا، ولكني أقول الحق في هذا الرجل، كما قلته في حق الوزير - أيده الله، - لما أراد حامد بن العباس في وزارته ومن ضامه الحيلة على الوزير - أعزه الله - بما هو أعظم من هذا الباب، فإن كنت لم أصب حينئذ فلست مصيباً في هذا الوقت، فسكت ابن الفرات، والتفت إلى علي بن عيسى وقال: أقرمطي؟ فقال له علي بن عيسى: أيها الوزير، أنا قرمطي؟ أنا قرمطي؟ يعرض به، وذكر قصة طويلة، ليست من خبر ابن البهلول في شيء.
وحدث أبو الحسن علي بن هشام بن أبي قيراط قال: دخلت مع أبي إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول عقيب عيد لنهنئه به، وتطاول الحديث، فقال له أبي:

قد كنت أكاتب الوزير - أيده الله - إلى محبسه، يعني ابن الفرات، لأنه هو كان الوزير إذ ذاك الوزارة الثالثة، وأعرفه ما عليه القاضي من موالاته من كذا وكذا، والآن: وهو على شكر القاضي والاعتداد به، قال: فلما سمع ذلك فرق الغلمان، ومن كان في مجلسه من أصحابه حتى خلا، وقال: ليس يخفى علي التغير في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف، لقد لقيت حامد بن العباس بالمدائن لما جيء به للوزارة، فقام لي في حراقته قائماً، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله في زيادتك، من الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه بعد لبسه إياها فتطاول، فلما فعلت به في أمر الوزير - أيده الله - ما فعلته بحضرة أمير المؤمنين عاداني، وصار لا يعيرني طرفه، وتعرضت منه لكل بلية، فكنت خائفاً له حتى أراح الله منه بتفرد علي بن عيسى بالأمور، واشتغاله هو بالضمان، وسقوط حاجتنا إلى لقائه، ومالي إلى هذا الوزير - أيده الله - ذنب يوجب انقباضه، إلا أني أديت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله لقد وريت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي، ممن لا يمكنه الكذب. فلما جاء ابن حماد كاتب موسى بن خلف وأقر بها، وأحضر الدليل بإحضار المرأة التي حملتها، لم أجد بداً عن أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أن أبا عمر فعل ما قد علمته من حيلة، بشراء فص بنصف درهم، نقش عليه علي بن محمد، ووضع مالاً من عنده في أكياس ختمها به، وقال للوزير: وديعتك عندي بحالها، وإنما غرمت ما أديت عنك من مالي، وأراد التقرب إليه ففعل هذا، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر في كثرة المال، فأريد أن تحل سخيمته، وتستصلح لي نيته، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة، ذلك، وإن مثل ذلك لا ينسى بتجن لا يلزم. فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصر، وقد اختلفت الأخبار علينا فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي - أعزه الله - أن يشرحه لي، فعل. فقال أبو جعفر: كنت أنا، وأبو عمرو علي بن عيسى، وحامد بن العباس، بحضرة الخليفة مع جماعة من خواصه، وكلهم منحرف عن الوزير - أيده الله، - ومحب لمكروهه، إذ حضر حامد الرجل الجندي الذي ادعى أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى قزوين، ثم إلى إصبهان ثم إلى البصرة، فإنه أقر له عفواً أنه رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج، في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، ليقويه ابن أبي الساج، ويسيره إلى بغداد، ويعاونه ابن الفرات بها، وأنه مخبر أنه تردد في ذلك دفعات، وخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عما عنده في ذلك، فذكر الرجل مثل ما أخبر به عنه حامد، ووصف أن موسى بن خلف كان يتحير لابن الفرات، لأنه من الدعاة الذين يدعونه إلى الطالبيين، وأنه كان يمضي في وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من هذا، فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام، اغتاظ غيظاً شديداً، وأقبل على ابن عمر وقال: ما عندك فيمن فعله هذا؟ فقال: لئن كان فعل ذلك، لقد أتى أمراً فظيعاً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق لذا كلمة عظيمة لا أحفظها، قال أبو جعفر: وتبينت في علي ابن عيسى كراهية لما جرى، والإنكار للدعوى، والطنر بما قيل فيها، فقويت بذلك نفسي، وأقبل الخليفة علي فقال: ما عندك يا أحمد فيمن فعل هذا؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني. فقال ولم؟ فقلت: لأن الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه، أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه، ويضر بي، فقال: لابد أن تجيب، فقلت: الجواب ما قال الله تعالى، " يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد، والتمييز يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظن به أنه رضي أن يكون تابعاً لابن أبي الساج؟، ولعله ما كان يرضى وهو وزير أن يستحجبه، ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟ فإنك على ما تدعيه من دخولها، لابد أن تكون عارفاً بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمارة، هل هو حديد، أم خشب؟ فتلجلج، فقلت له: كاتب ابن أبي الساج بن محمود ما اسمه؟ وما كنيته؟ فلم يعرف ذلك، فقلت له فأين الكتب التي معك؟ فقال: لما أحسست بأني قد وقعت في أيديهم رميت بها

=============

ج2. كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


خوفاً من أن توجد معي فأعاقب، قال: فأقبلت على الخليفة وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل، فقال علي بن عيسى مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا أقر بالصورة، فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات. بحقنا عليك لما ضربته مائة مقرعة أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة، فعديَ بالرجل عن حضرة الخليفة ليبعد ويضرب، فقال: لا: إلا ههنا، فضرب بالقرب منه دون العشرة، فصاح: غدرت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله ما دخلت أردبيل قط، فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة وقد انصرف، فقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضرب هذا مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق، فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخذالاً وانكساراً ووجداً وإشفاقاً، وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي ابن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل، فقال له حاجبه ابن عبدوس: قد وجه نذير بالمضروب المتكذب فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه أو بعضه أجرت، فقال: ما في هذا - لعنه الله - أجر، ولكن أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط، ثم وقع بذلك إلى نزار وانصرفنا، فصار حامد من أعدى الناس لي.وفاً من أن توجد معي فأعاقب، قال: فأقبلت على الخليفة وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل، فقال علي بن عيسى مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا أقر بالصورة، فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات. بحقنا عليك لما ضربته مائة مقرعة أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة، فعديَ بالرجل عن حضرة الخليفة ليبعد ويضرب، فقال: لا: إلا ههنا، فضرب بالقرب منه دون العشرة، فصاح: غدرت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله ما دخلت أردبيل قط، فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة وقد انصرف، فقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضرب هذا مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق، فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخذالاً وانكساراً ووجداً وإشفاقاً، وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي ابن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل، فقال له حاجبه ابن عبدوس: قد وجه نذير بالمضروب المتكذب فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه أو بعضه أجرت، فقال: ما في هذا - لعنه الله - أجر، ولكن أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط، ثم وقع بذلك إلى نزار وانصرفنا، فصار حامد من أعدى الناس لي.
وقال ابن عبد الرحيم: حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، وله بأمره الخبرة التامة، لما يجمعهما من النسب في الصناعة، قال: كان أبو عفر من جلة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلد قضاء الأنبار، وهيت، والرحبة، وطريق الفرات، في أيام المعتمد بعد كتبة الموفق أبي أحمد، سنة سبعين ومائتين، وأقام يليها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأضيف له غليها الأهواز وكورها السبع، وخلفه عليها جدي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي، في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقلده ماه الكوفة، وماه البصرة، مضافات إلى ما تقدم ذكره، ثم رد عليه مدينة المنصور وطسوج مسكن، وقطربل بعد فتنة ابن المعتز في سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأسن وضعف، فتوصل أبو الحسين الأشناني إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة. وقيل إن الناس سلموا عليه بالقباء إيماء إلى البغاه، وكان إليه الحسبة ببغداد، فصرف في اليوم الثالث، وأعيد العمل إلى أبي جعفر، فامتنع من قبوله، فرفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه، وقال: أحب أن يكون بين الصرف والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة إلى الحفرة، وقال في ذلك.
تركت القضاء لأهل القضا ... ء وأقبلت أسمو إلى الآخرة
فإن يك فخراً جليل الثنا ... ء فقد نلت منه يداً فاخرة

وإن كان وزراً فأبعد به ... فلا خير في إمرة وازرة
فقيل له: فابذل شيئاً حتى يرد العمل إلى ابنك أبي طالب، فقال: ما كنت لأتحملها حياً وميتاً، وقد خدم ابني السلطان، وولاه الأعمال، فإن استوثق خدمته قلده، وإن لم يرتض مذاهبه صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:
يقولون همت بنت لقمان مرة ... بسوء وقالت يا أبي ما الذي يخفى؟
فقال لها ما لا يكون، فأمسكت ... عليه ولم تمدد لمنكرة كفا
وما كل مستور يغلق دونه ... مصاريع أبواب، ولو بلغت ألفا
بمستتر، والصائن العرض سالم ... وربتما لم يعدم الذم والقذفا
على أن أثواب البرئ نقية ... ولا يلبث الزور المفكك أن يطفا
قال: ولست أعلم، هذا الشعر له أم تمثل به؟ قال التنوخي: وكان أبو جعفر يقول الشعر تأدباً وتطرباً، وما علمت أنه مدح أحداً بشيء منه، وله قصيدة طردية مزدوجة طويلة، وحمل الناس عنه علماً كثيراً، ومن شعره.
رأيت العيب يلصق بالمعالي ... لصوق الحبر في لفق الثياب
ويخفى في الدنئ فلا تراه ... كما يخفى السواد على الإهاب
وله في الوزير ابن الفرات:
قل لهذا الوزير قول محق ... بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها ثلاثاً ثلاثاً ... وطلاق البتات عند الثلاث
وكان الأمر على ما قاله، فإن ابن الفرات قتل بعد الوزارة الثالثة في محبسه: وله أيضاً:
أقبلت الدنيا وقد ولى العمر ... فما أذوق العيش إلا كالصبر
لله أيام الصبا إذ تعتكر ... لاقت لدينا لو تئوب ما يسر
وله أيضاً:
ويجزع من تسليمنا فيردنا ... مخافة أن تبغى يداه فيبخلا
وما ضره لو أن أجاب ببشره ... فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا
وله أيضاً:
وحرقة أورثتها فرقة دنفاً ... حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن
في جسمه شغل عن قلبه وله ... في قلبه شغل عن سائر البدن
وله أيضاً:
أبعد الثمانين أفنيتها ... وخمساً وسادسها قد نما
ترجى الحياة وتسعى لها؟ ... لقد كاد دينك أن يكلما
وله أيضاً:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا؟
لئن لم تك مجنوناً ... فقد فقت المجانينا
وقد ذكر أبو عبيد الله ابن بشران في تاريخه قال: دخل على القاضي أحمد بن إسحاق بن البهلول أبو القاسم عمر بن شاذان الجوهري فقال له: ارتفع يا أبا حفص، فقال له بعض من حضر هو أبو القاسم، فأنشأ ابن البهلول يقول:
فإن ننسي الأيام كنية صاحب ... كريم فلم أنس الإخاء ولا الودا
ولكن رأيت الدهر ينسيك ما مضى ... إذا أنت لم تحدث إخاء ولا عهدا
أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد

بديع الزمان الهمذاني، أبو الفضل، قال أبو شجاع شيرويه بن شهردار في تاريخ همذان: إن أحمد بن الحسين ابن يحيى بن سعيد بن بشر أبا الفضل، الملقب ببديع الزمان، سكن هراة، روى عن أبي الحسين أحمد بن قارس بن زكريا، وعيسى بن هشام الأخباري، وكان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصباً لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعد بن الصفار، والقاضي أبو محمد عبد الله بن الحسين النيسابوري، قال: وتوفي في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة: قال شيرويه ومحمد بن الحسين ابن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار الفقيه أبو سعد أخو بديع الزمان أبي الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى لأبيه وأمه مفتي البلد، روى عن ابن لال، وابن تركان، وعبد الرحمن الإمام، وأبي بكر محمد بن الحسين الفراء، وابن جائحان، وذكر جماعة وافرة، قال: وأدركته، ولم يقض لي عنه السماع، وكان في الحديث ثقة، ويتهم بمذهب الأشعرية، ويقال: جن في آخر عمره إلى أن مات، وسمعت بعض أصحابنا يقول: كان يعرف الرجال، والمتون، ولد في ثالث عشر جمادى الآخرة، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ومات ولم يذكره وذكره الثعالبي في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكذا قال أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في تاريخ هراة، قال المؤلف: وقد رأيت ذكر البديع في عدة تصانيف من كتب العلماء، فلم يستقص أحد خبره أحسن مما اقتصه الثعالبي، وكان قد لقيه وكتب عنه، فنقلت خبره من كتابه، ولخصته من بعض سجعه، قال:

بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ولم نرَ نظيره في الذكاء، وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم ندرك نظيره في طرف النثر وملحه وغرر النظم ونكته، وكان صاحب عجائب وبدائع، فمنها. أنه كان ينشد الشعر لم يسمعه قط، وهو أكثر من خمسين بيتاً إلا مرة واحدة، فيحفظها كلها، ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفاً، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق، من كتاب لم يعرفه ولم يره، نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سرداً، وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها، وكان يقترح عليه عمل قصيدة، وإنشاء رسالة، في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة، وكان ربما كتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخره، ثم هلم جرا إلى أوله، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح لقصيدة الفريدة من قوله، بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر، ويروي من النثر النظم، ويعطى القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر، فيرجله أسرع من الطرف، على ريق لم يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة، وفيض اليد، ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وكان يترحم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية، المشتملة على المعاني الغريبة، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف تطول أن تستقصى، وكان مع ذلك مقبول الصورة، حسن العشرة، وفارق همذان سنة ثمانين وثلاثمائة وهو في مقتبل الشبيبة، غض الحداثة، وقد درس على أبي الحسن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده، واستنفد علمه، وورد حضرة الصاحب ابن عباد، فتزود من ثمارها، وحسن آثارها، ثم قدم جرجان، واقام بها مدة، على مداخلة الإسماعيلية، والتعيش في أكنافهم، واختص بالدهخداه أبي سعيد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة، في إسداء الإفضال على الأفاضل، ولما أراد ورود نيسابور أعانه بما سيره إليها، فوردها في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامة، نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، ثم شجر بينه وبين الأستاذ أبي بكر الخوارزمي ما كان سبباً لهبوب ريح الهمذاني، وعلو أمره، إذ لم يكن في الحساب أن أحداً من العلماء ينبري لمساجلذته، فلما تصدى الهمذاني لمباراته، وجرت بينهما مقامات، ومبادهات ومناظرات، وغلب قوم هذا، وغلب آخرون ذاك، طار ذكر الهمذاني في الآفاق، وشاع ذكره في الأفاق، ودرت له أخلاف الرزق، فلما مات الخوارزمي خلاله الجو، وتصرفت به أحوال جميلة، وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها، وجنى ثمرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير إلا واستمطر بنوئه، وسرى في ضوئه، فحصلت له نعمة حسنة، وثروة جميلة، وألقى عصاه بهراة، فاتخذها دار قراره، وصاهر بها أبا علي الحسين بن محمد الخشنامي، وهو الفاضل الكريم الأصيل، وانتظمت أحواله بمصارهرته، واقتنى بمعونته ضياعاً فاخرة، وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة، ناداه الله فلباه، وفارق دنياه، في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وهذا أنموذج من رسائله فصل: من رقعة كتبها إلى الخوارزمي: وهذا أول ما كاتبه به: أنا لقرب الأستاذ، كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره، كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، " ومن رقعة إلى غيره " : يعز عليّ أن ينوب - أيد الله الشيخ - في خدمته قلمي عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي، دون وصولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي، قبل ركابي. ولكن ما الحيلة؟ والعوائق جمة،
وعليّ أن أسعى ولي ... س عليّ إدراك النجاح
وقد حضرت داره، وقبلت جداره، وما بي حب الحيطان، ولكن شغف بالقطان، ولا عشق الجدران، ولكن شوق إلى السكان.
وقال البديع، وأراد التحميض كما يقول أهل بغداد، ومعناه عندهم غير ذلك كقوله:
ولقد دخلت ديار فارس مرة ... أبتاع ما فيها من الأعراض
فإذا فسا فيها رجال سادة ... لهفي على ذاك الزمان الماضي

فالسامع يرى أنه أراد فسا مدينة بفارس، التي منها أبو علي الفسوي النحوي، وإنما أراد فسا من الفسو، والضمير في فيها يريد به اللحية.
وذكره أبو إسحاق الحصري في كتاب زهر الآداب، وقد ذكر أبا الفضل الهمذاني بديع الزمان فقال: وهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفاً، والهوى يعشقه ظرفاً.
ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، في معارض حوشية، وألفاظ عنجهية فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجب الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفاً، وتقطر حسناً، لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها بين رجلين، سمى أحدهما عيسى بن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعلهما يتهاديان الدر، ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين، وتحرك الرصين، وتطالع منها كل طريفة، وتوقف منها على كل لطيفة، وربما أفرد بعضهما بالحكاية، وخص أحدهما بالرواية، وقد ذكره أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في تاريخ هراة من تأليفه.
وأنشد للبديع:
خرج الأمير ومن وراء ركابه ... غيري وعز علي " أن " لم أخرج
أصبحت لا أدري أأدعو طغمشي ... أم يكتليني أم أصيح بنذغجي؟؟؟
وبقيت لا أدري أأركب أبرشي ... أم أدهمي أم أشهبي أم ديزجي؟؟؟
يا سيد الأمراء مالي خيمة ... إلا السماء إلى ذراها ألتجي
كنفي بعيري إن ظعنت ومفرشي ... كمى وجنح الليل مطرح هودجي
وكتب بديع الزمان إلى مستميح عاوده مراراً، وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب، كما تديمه بالأدب؟ فكتب البديع: عافاك الله: مثل الإنسان في الإحسان، مثل الأشجار في الإثمار، وسبيل من ابتدأ بالحسنة، أن يرفه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما اليد فتولع بالجود، وأما الفراد فيتعلق بالوفود، ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده إلا الكيس، وهذا الخلق الكريم، لا يحتمله إلا الكريم، ولا قرابة بين الأدب والذهب، فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، قد جهدت جهدي بالطباخ، أن يطبخ لي من جيمية الشماخ لوناً فلم يفعل، وبالقصاب، أن يذبح أدب الكتاب فلم يقبل، وأنشدت في الحمام، ديوان أبي تمام، فلم ينجع، ودفعت إلى الحجام، مقطعات اللجام، فلم يأخذ، واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت ألفاً ومائتي بيت، من شعر الكميت، فلم يغن، ودفعت أرجوزة العجاج، في توابل السكباج، فلم ينفع، وأنت لم نقنع، فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك غلي، إفضالاً منك علي، فراحتي، ألا تطرق ساحتي، وفرجي، ألا تجي، وللسلام: وحدث أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي صاحب كتاب وشاح الدمية، وقد ذكر أبا بكر الخوارزمي وقد رمي بحجر البديع الهمذاني، في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وأعان البديع الهمذاني قوم من وجوه نيسابور، كانوا مستوحشين من أبي بكر، فجمع السيد نقيب السيادة بنيسابور أبو علي بينهما، وأراده على الزيارة، وداره بأعلى ملقاباذ فترفع، فبعث غليه السيد مركوبه، فحضر أبو بكر مع جماعة من تلامذته، فقال له البديع: إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونناجيك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسر بما عندنا، ونبدأ بالفن الذي ملكت زمامه، وطار به صيتك، وهو الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت، فهذه دعواك، التي تملأ منها فاك، فأحجم الخوارزمي عن الحفظ لكبر سنه، ولم يجل في النثر قداحاً، وقال أبادهك، فقال البديع: الأمر أمرك يا أستاذ، فقال له الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسحرة: " قال بل ألقوا " .
فقال البديع:
الشعر أصعب مذهباً ومصاعدا ... من أن يكون مطيعه في فكه
والنظم بحر والخواطر معبر ... فانظر إلى بحر القريض وفلكه

فمتى تراني في القريض مقصراً ... عرضت أذن الإمتحان لعركه
قال: وهذه أبيات كثيرة، فيها مدح الشريف أبي علي والمفاخرة، وتهجين الخوارزمي، فقال الخوارزمي أيضاً أبياتاً: ولكن ما أبرزها من الغلاف.
فقال له البديع: أما تستحي أن يكون السنور أعقل منك، لأنه يجعر فيغطيه بالتراب. فقال لهما الشريف، انسجا على منوال المتنبي: أرق على أرق ومثلي يأرق فابتدأ أبو بكر وكان إلى الغايات سباقاً، وقال:
فإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلق
مالي أراك ولست مثلي في الورى ... متموهاً بالترهات تمخرق
ونظم أبياتاً ثم اعتذر، فقال: هذا كما يجيء، لا كما يجب، فقال البديع: قبل الله عذرك، لكن رفقت بين قافات خشنة، كل قاف كجبل قاف، فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك:
مهلاً أبا بكر فزندك أضيق ... واخرس فإن أخاك حي يرزق
يا أحمقا وكفاك تلك فضيحة ... جربت نار معرتي هل تحرق؟
فقال له أبو بكر: يا أحمقا: لا يجوز فإنه لا ينصرف فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه، وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف، وإن شئت قلت يا كودنا ثم قولك في البيت يا سيدي، ثم قلت تتقلق مدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حلبة فقال لهما الشريف قولاً على منوال المتنبي: أهلاً بدار سباك أغيدها قال البديع:
يا نعمة لا تزال تجحدها ... ومنة لا تزال تكندها
فقال أبو بكر: الكنود قلة الخير لا الكفران.
فكذبه الجمع وقالوا: ما قرأت قوله تعالى: " إن الإنسان لربه لكنود " ؟ أي لكفور. فقال له أبو بكر: أنا اكتسبت بفضلي دية أهل همذان، فما الذي اكتسبت أنت بفضلك؟ فقال له البديع أنت في حرفة الكدية أحذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق. فقطعه الكلام، ثم أنشد:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللطم في الخد الرقيق
فال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، فقال البديع أخطأت: فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصفيق
فقال له أبو بكر: والله لأصفعنك ولو بعد حين، فقال البديع: أنا أصفعك اليوم، وتضربني غداً، اليوم خمر، وغداً أمر. وأنشد قول ابن الرومي:
رأيت شيخاً سفيهاً ... يفوق كل سفيه
وقد أصاب شبيهاً ... له وفوق الشبيه
ثم أنشد البديع:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت أمرأً لا أشاكله
أخامقة حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
فأمال النعاس الرؤوس، وسكنت الألحان والنفوس، وسلب الرقاد الجلوس، فنام القوم كعادتهم في ضيافات نيسابور، وأصبحوا فتفرقوا، وبعض القوم يحكم بلغبة البديع، وبعضهم يحكم بغلبة الخوارزمي، وسعى الفضلاء بينهما بالصلح ودخل عليه البديع واعتذر، وتاب واستغفر مما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال له البديع: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو، فعرض عليه الخوارزمي الإقامة عنده سحابة يومه، فأجابه البديع وأضافه الخوارزمي، وكان بعض الرؤساء مستوحشاً من الخوارزمي، وهيأ مجمعاً في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير، وكان أبو القاسم فاضلاً ملء إهابه، وحضر أبو الطيب سهل الصعلوكي، والسيد أبو الحسين العالم، فاستمال البديع قلب السيد أبي الحسين بقصيدة قالها في مدائح أهل البيت أولها:
يا معشراً ضرب الزما ... ن على معرسهم خيامه
ثم حضر المجلس القاضي أبو عمر البسطامي، وأبو القاسم ابن حبيب، والقاضي أبو الهيثم، والشيخ أبو نصر بن المرزبان، ومع الإمام أبي الطيب الفقهاء والمتصوفة، وحضر أبو نصر الماسرجسي مع أصحابه، والشيخ أبو سعد الهمذاني، ودخل مع الخوارزمي جم غفير من أصحابه، فقيل لهما: أنشدا على منوال قول أبي الشيص:
أبقى الزمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فابتدر الخوارزمي فقال:
يا قاضياً ما مثله من قاض ... أنا بالذي تقضي علينا راض
منها:
ولقد بليت بشاعر متهتك ... لا بل بليت بناب ذئب غاض

فقال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاض. فقال أبو بكر: ما قلته. فشهد عليه الحاضرون أنه قاله، فقال أبو بكر: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا، فقال البديع: استنوق الذئب صار الذئب جملاً يأكل الغضا، ثم دخل الرئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر الحيري والشيخ أبو زكريا والشيخ أبو الرشيد المتكلم، فقال الرئيس: قولاً على هذا النمط:
برز الربيع لنا برونق مائه ... وانظر لمنظر أرضه وسمائه
والترب بين ممسك ومعنبر ... من نوره بل مائه وروائه
ثم أنشد الخوارزمي على هذا النمط، فلما فرغ من إنشاده قال البديع للوزير والرئيس: لو أن رجلاً حلف بالطلاق أني لا أقول شعراً، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، لا يقال نظرت لكذا، ويقال نظرت إلى كذا، وأنت قلت فانظر لمنظر، وشبهت الطير بالمحصنات، وهذا تشبيه فاسد، ثم شبهتها بالمغنيات حين قلت:
والطير مثل المحصنات صوادح ... مثل المغني شادياً بغنائه
المحصنات كيف توصف بالغناء ثم قلت كالبحر في تزخاره، والغيث في إمطاره، والغيث هو المطر، فقال البديع: الغيث المطر والسحاب، وصدقه الحاضرون، وأنكروا على الخوارزمي، فقال الإمام أبو الطيب: علمنا أي الرجلين أفضل وأشعر؟ فقام البديع وقبل رأس الخوارزمي ويده وقال: اشهدوا أن الغلبة له، قال ذلك على سبيل الاستهزاء، وتفرق الناس واشتغلوا بتناول الطعام، وأبو بكر ينطق عن كبد حرى والوزير يقول للبديع: ملكت فأسجح، فلما قام أبو بكر أشار إلى البديع وقال: لأتركنك بين الميمات، فقال: ما معنى الميمات؟ فقال: بين مهدوم، مهزوم، مغموم، محموم، مرجوم، محروم، فقال البديع: لأتركنك بين الهيام والسقام والسام والبرسام والجذام والسرسام، وبين السينات، بين منحوس، ومنخوس، ومنكوس، ومعكوس، وبين الخاءات، من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ وممسوخ، وبين الباءات، بين مغلوب، ومسلوب، ومصلوب، ومنكوب، فخرج البديع وأصحاب الشافعي يعظمونه بالتقبيل والاستقبال، والإكرام والإجلال، وما خرج الخوارزمي حتى غابت الشمس، وعاد إلى بيته وانخذل انخذالاً شديداً، وانكسف باله وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره، وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. قال أبو الحسن البيهقي: وبديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الحافظ، كان يحفظ خمسين بيتاً بسماع واحد، ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في كتاب نظراً خفيفاً، ويحفظ أوراقاً ويؤديها من أولها إلى آخرها، فارق همذان في سنة ثمانين وثلاثمائة، وكان قد اختلف إلى أحمد بن فارس صاحب المجمل، وورد حضرة الصاحب، وتزود من ثمارهما، واختص بالدهخداه أبي سعد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، ووافى نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وبعد موت الخوارزمي خلاله الجو، وجرت بينه وبين أبي علي الحسين ابن محمد الخشنامي مصاهرة، وألقى عصا المقام بهراة، ثم فارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وحدث الثعالبي في أخبار أبي فراس قال: حكى أبو الفضل الهمذاني قال: قال الصاحب أبو القاسم يوماً لجلسائه وأنا فيهم - وقد جرى ذكر أبي فراس الحرث بن سعيد بن حمدان - لا يقدر أحد أن يزور على أبي فراس شعراً فقلت: من يقدر على ذلك؟ وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تعز السباع إلى رباعك
ولا تغر العدو على إني ... يمين إن قطعت فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت: فقلت: - أيد الله مولانا - فقد فعلت. ويقال: إن السبب في مفارقة البديع الهمذاني حضرة الصاحب، أنه كان في مجلسه فخرجت منه ريح " فقال الصاحب " فقال البديع هذا صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير النحت، فأورثه ذلك جلاً كان سبب مفارقته إياه ووروده إلى خراسان، وكانت أول رقعة كتبها البديع إلى الخوارزمي عند وروده نيسابور: أنا لقرب الأستاذ أطال الله بقاءه، كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتراج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، فكيف ارتياح الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل عتبتي الجبل ونيسابور؟ وكيف اهتزازه لضيف في بردة حمال وجلدة جمال.

رق الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب
كمهلهل وربيعة بن مكدم ... وعبينة بن الحارث بن شهاب
وهو ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه، إلى مستقري لأفضي إليه بما عندي إن شاء الله تعالى وحده. ثم اجتمع إليه فلم يحمد لقيه،فانصرف عنه، وكتب إليه: الأستاذ - والله يطيل بقاءه. ويديم تأييده ونعماءه - أزرى بضيفه أن وجده يضرب آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلفه لرد السلام، وقد قبلت هذا الترتيب صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإن المرء بالمال وثياب الجمال، وأنا مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقزز صف النعال، ولو حاملته العتاب، وناقشته الحساب، وصدقته السماع، لقلت إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وقوماً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف.
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ولو طوحت بالأستاذ أيدي الغربة إليهم، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً، ورأيه - أيده الله - في أن يملأ من هذا الضيف أجفان عينه، ويوسع أعطاف ظنه ويجيبه بموقع هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد موفق إن شاء الله تعالى.
" الجواب من الخوارزمي "
إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق
فهمت ما تناوله سيدي من حسن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجر الذي لا يخلو منه من نبا به دهر، ومسه من الأيام ضر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه، أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه رغم في القيام، وتكلفي لرد السلام، فقد وفيته حقه، كلاماً، وسلاماً، وقياماً على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه غير السيد أبي القاسم، وما كنت لأرفع أحداً على من أبوه الرسول، وأمه البتول، وشاهداه التوراة والإنجيل، وناصراه التأويل والتنزيل، والبشير به جبرائيل وميكائيل، وأما عدم الجمال، ورثاثة الحال، فما يضعان عندي قدراً ولا يضران نجراً، وإنما اللباس جلدة، والزي حلية بل قشرة، وإنما يشتغل بالجل من لا يعرف قيمة الخيل، ونحن بحمد الله نعرف الخيل عارية من لالها، ونعرف الرجال بأقوالها وأفعالها، لا بآلاتها وأحوالها، وأما القوم الذين صدر سيدي عنهم، وانتمى إليهم، ففيهم لعمري فوق ما وصف حسن عشرة، وسداد طريقة، وجمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فنلت المراد، وأحمدت المراد.
فإن أكُ قد فارقت نجداً وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
والله يعلم نيتي للأحرار عامة، ولسيدي من بينهم خاصة، فإن أعانني على مرادى له، ونيتي فيه بحسن العشرة، بلغت له بعض ما في المنية، وجاوزت مسافة القدرة، وإن قطع على طريق عزمي بالمعارضة وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار.
فما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذ لم تكدر كان صفواً غديرها
وعلى هذا، فحبذا عتاب سيدي إذا صادف ذنباً، واستوجب عتباً، فأما أن يسلفنا العربدة، ويستكثر المعتبة والموجدة، فتلك حالة نصونه عنها، ونصون أنفسنا عن احتمال مثلها، فليرجع بنا إلى ما هو أشبه به وأجمل له، ولست أسومه أن يقول " استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين " ولكن أسأله أن يقول: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " .
" رقعة البديع الثالثة إلى الخوارزمي " .

أنا أرد من الأستاذ سيدي شرعة وده، وإن لم تصف، وألبس خلعة بره، وإن لم تضف وقصاراي أن أكيله صاعاً بصاع، ومداً عن مد، وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب، أمت إلى أهله بعشرة رشيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الإخاء، عادلاً في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد. والأستاذ سيدي - أيده الله - ضايقني في القبول أولاً، ونافشني في الإقبال ثانياً، فأما حديث الاستقبال وأمر الإنزال والأنزال فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه. وبعد، فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وطرق المكارم بينة، وأرض العشرة لينة، فلم اختار قعود التعالي مركباً، وصعود التغالي مذهباً؟ وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، إذا كان ذاق الحلو من ثمرها، وقد علم الله أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحاً على برح، ونكأه قرحاً على قرح، فهو شوق داعيته محاسن الفضل، وجاذبته بواعث العلم ولكنها مرة مرة ونفس حرة، ولم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإكرام، وإذا استعفاني سيدي الأستاذ من معاتبته، واستعادته ومؤاخذته إذا جفا واستزادته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، فلم أعره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما رنقت إلا إليه ولا حلقت إلا عليه.
أحبك يا شمس النهار وبدره ... وإن لامني فيك السها والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
" جواب الخوارزمي عنها " شريعة ودي لسيدي - أدام الله عزه - إذا وردها صافية وثياب بري إذا قبلها ضافية، هذا ما لم يكدر الشريعة بتعنته وتعصبه، ولم تحترق الثياب بتجنبه وتسحبه، فأما الإنصاف في الإخاء فهو ضالتي عند الأصدقاء، ولا أقول:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والإخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني أقول: وإني لمشتاق إلى ظل:
رجل يوازنك المودة جاهداً ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبة خردل ... مالت مودته مع الرجحان
وقد كان الناس يقترحون الفضل فأصبحنا نقترح العدل، وإلى الله المشتكى لا منه. ذكر الشيخ سيدي - أيده الله، - حديث الاستقبال، وكيف يستقبل من انقض علينا انقضاض العقاب الكاسر، ووقع بيننا وقوع السهم العائر، وتكليف المرء ما لا يطيق يجوز على مذهب الأشعري، وقد زاد سيدي على أستاذه الأشعري، فإن أستاذه كلف العاجز ما لا يطيق مع عجزه عنه، وسيدي كلف الجاهل علم الغيب مع الاستحالة منه، والمنزل بما فيه قد عرضته عليه، ولو أطقت حمله لحملته إليه، والشوق الذي ذكره سيدي، فعندي منه الكثير الكبير، وعنده منه الصغير اليسير، وأكثرنا شوقاً أقلنا عتاباً، وأليننا خطاباً، ولو أراد سيدي أن أصدق دعواه في شوقه إلي، ليغض من حجم عتبه علي، فإنما اللفظ زائد، واللحظ وارد، فإذا رق اللفظ، دق اللحظ، وإذا صدق الحب ضاق العتاب والعتب.
فبالخير لا بالشر فارج مودتي ... وأي امرئ يعتاد منه الترهب
عتاب سيدي قبيح، ولكنه حسن، وكلامه لين، ولكنه خشن، أما قبحه فلأنه عاتب بريئاً، ونسب إلى الإساءة ما لم يكن مسيئاً، وأما حسنه فلألفاظه الغرر ومعانيه التي هي كالدرر، فهي كالدنيا ظاهرها يغر، وباطنها يضر، وكالمرعلى على دمن الثرى، منظره بهي، ومخبره وبي، ولو شاء سيدي نظم الحسن والإحسان، وجمع بين صواب الفعل واللسان.
يا بديع القول حاشا ... لك من هجو بديع
وبحسن القول عوذ ... تك من سوء الصنيع
لا يعب بعضك بعضاً ... كن مليحاً في الجميع
" رقعة أخرى للبديع إلى الخوارزمي "

أنا وإن كنت مقصراً في موجبات الفضل، من حضور مجلس الأستاذ سيد، فما أفري إلا جلدي. ولا أبري إلا قدحي ولا أبخس إلا حظي، وإن يكن ذاك جرماً فلقي هذا عقاباً، ومع ذاك فما أعمر أوقاتي إلا بمدحه، ولا أطرز ساعاتي إلا بذكره، ولا أركض إلا في حلبة وصفه، حرس الله فضله، نعم، وقد رددت كتاب الأوراق لللصولي، وتطاولت لكتاب البيان والتبيين. للجاحظ، وللأستاذ سيدي في الفضل والتفضل به رأيه وقال البديع يمدح الصحابة ويهجو الخوارزمي ويجيبه عن قصيدة رويت له في الطعن عليهم:
وكلني بالهم والكآبة ... طعانة لعانة سبابه
للسلف الصالح والصحابة ... أساء سمعاً فأساء جابه
تأملوا يا كبراء الشيعة ... لعشرة الإسلام والشريعة
أتستحل هذه الوقيعة ... في تبع الكفر وأهل البيعة
فكيف من صدق بالرسالة ... وقام للدين بكل آله
وأحرز الله يد العقبى له ... ذلكم الصديق لا محالة
إمام من أجمع في السقيفة ... قطعاً عليه أنه الخليفة
ناهيك من أثاره الشريفة ... في رده كيد بني حنيفة
سل الجبال الشم والبحارا ... وسائل المنبر والمنارا
واستعلم الآفاق والأقطارا ... من أظهر الدين بها شعارا
ثم سل الفرس وبيت النار ... من الذي فل شبا الكفار
هل هذه البيض من الآثار ... إلا لثاني المصطفى في الغار
وسائل الإسلام من قواه ... وقال إذ لم تقل الأفواه
واستنجز الوعد فأومى الله ... من قام لما قعدوا إلا هو
ثاني النبي في سني الولادة ... ثانيه في الغارة بعد العادة
ثانيه في الدعوة والشهادة ... ثانيه في القبر بلا وساده
ثانيه في منزلة الزعامة ... نبوة أفضت إلى إمامه
أتأمل الجنة يا شتامه ... ليست بمأواك ولا كرامة
إن امرأً أثنى عليه المصطفى ... ثمت والاه الوصى المرتضى
واجتمعت على معاليه الورى ... واختاره خليفة رب العلا
واتبعته أمة الأمى ... وبايعته راحة الوصي
وباسمه استسقى حيا الوسمي ... ما ضره هجو الخوارزمي
سبحان من لم يلقم الصخر فمه ... ولم يعده حجراً ما أحلمه
يا نذل يا مأبون أفطرت فمه ... لشد ما اشتقات إليك الحطمه
إن أمير المؤمنين المرتضى ... وجعفر الصادق أو موسى الرضى
لو سمعوك بالخنا معرضا ... ما ادخروا عنك الحسام المنتضى
ويلك لم تنبح يا كلب القمر؟ ... مالك يا مأبون تغتاب عمر
سيد من صام وحج واعتمر ... صرح بإلحادك لا تمش الخمر
يا من هجا الصديق والفاروقا ... كيما يقيم عند قوم سوقا
نفخت يا طبل علينا بوقاً ... فما لك اليوم كذا موهوقا؟
إنك في الطعن على الشيخين ... والقدح في السيد ذي النورين
لواهن الظهر سخين العين ... معترض للحين بعد الحين
هلا شغلت باستك المغلومة ... وهامة تحملها ميشومه
هلا نهتك الوجنة الموشومه ... عن مستري الخلد ببئر رومه
كفى من الغيبة أدنى شمه ... من استجاز القدح في الأئمه
ولم يعظم أمناء الأمه ... فلا تلوموه ولوموا أمه
مالك يا نذل وللزكيه ... عائشة الراضيه المرضيه؟
يا ساقد الغيرة والحميه ... ألم تكن للمصطفى حظيه؟
من مبلغ عني الخوارزميا ... يخبره أن ابنه عليا
قد اشترينا منه لحماً نيا ... بشرط أن يفهمنا المعنيا

يا أسد الخلوة خنزير الملا ... مالك في الجري تقود اعلجملا
يا ذا الذي يثلبني إذا خلا ... وفي الخلا أطعمه ما في الخلا
وقلت لما احتفل المضمار واحتفت الأسماع والأبصار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار؟
وكتب البديع إلى معلمه جواباً: الشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول متى كان صالحاً؟ أفي دولة العباسية، وقد رأينا آخرها، وسمعنا بأولها، أم في المدة المروانية، وفي أخبارها ما لا تكسع الشول بأغبارها، إنك لا تدري من الناتج، أم السنين الحربية:
والسيف يغمد في الطلى ... والرمح يركز في الكلى
ومبيت حجر بالفلا ... والحدثان بكربلا
أم الأيام العدوية، فنقول، هل بعد البزول إلا النزول، أم الأيام التيمية، وتقول طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام، أم على عهد الرسالة، وقيل اسكتي يا رحالة فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلية، ولبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك، وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذا الأهل أهل والبلاد بلاد
أم قبل ذلك وقد قال آدم عليه السلام: تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح أم قبل ذلك، والملائكة تقول، " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، ما نسبته ولا أنساه، وإن له بكل كلمة علمنا مناراً، ولكل حرف أخذته منه نارا، ولو عرفت لكلامي موقعاً من قلبه لاغتنمت خدمته به، ولكني خشيت أن تقول: " هذه بضاعتنا ردت إلينا " واثنان قلما يجتمعان، الخراسانية والإنسانية، وإني وإن لم أكن خراساني الطينة، فإني خراساني المدينة، والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت، لا من حيث ينبت، فإذا انضاف إلى تربة خراسان ولادة همذان، ارتفع القلم، وسقط التكليف، والجرح جبار، والجاني حمار، فليحملني على هناتي، أليس صاحبنا يقول؟
لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تصورت أنني همذاني
أحمد بن الحسين بن عبيد اللهابن إبراهيم بن عبد الله الأسدي الغضاري، كان من الأدباء، والفضلاء الأذكياء، وله خط يزري بخط ابن مقلة على طريقته،
أحمد بن أبان بن السيد اللغوي الأندلسيأخذ عن أبي علي القالي وغيره من علماء بلاده: وكان عالماً حاذقاً أديباً، مات - فيما ذكره أبو القاسم خلف ابن عبد الملك بن بشكوال القرطبي في تاريخه - في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وكان يعرف بصاحب الشرطة.
قال أبو نصر الحميدي: في آخر كتابه، في باب من يعرف بأحد آبائه: ابن سيد إمام في اللغة والعربية، وكان في أيام الحكم المستنصر، وهو مصنف كتاب العالم في اللغة في نحو مائة مجلد، مرتب على الأجناس، بدأ بالفلك، وختم بالذرة، وله في العربية: كتاب العالم والمعلم على المسألة والجواب، وكتاب شرح كتاب الأخفش، وله غير ذلك، ذكره أبو محمد علي بن أحمد وأثنى عليه، ولم يسمه لنا، ولعله أحمد بن أبان بن سيد المذكور في بابه.
أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل

ابن داود بن حمدون النديم أبو عبد الله، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية، وقال: هو شيخ أهل اللغة ووجههم، وأستاذ أبي العباس ثعلب، قرأ عليه قبل ابن الأعرابي، وتخرج من يده، وكان خصيصاً بأبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام، وأبي الحسن قبله، وله معه مسائل وأخبار، وله كتب، منها: كتاب أسماء الجبال والمياه والأودية، كتاب بني مرة بن عوف، كتاب بني نمر بن قاسط، كتاب بني عقيل، كتاب بني عبد الله بن غطفان، كتاب طيء، كتاب شعغر العجير السلولي وصنعته، كتاب شعر ثابت ابن قطنة، الشابشتي: وكان خصيصاً بالمتوكل، ونديماً له، وأنكر منه المتوكل ما أوجب نفيه من بغداد، ثم قطع أذنه، وكان السبب في ذلك أن الفتح بن خاقان كان يعشق شلهيك خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه، حتى بلغه، وله فيه أشعار، ذكرت بعضها في ترجمة الفتح، وكان أبو عبد الله يسعى فيما يحبه الفتح، ونمى الخبر إلى المتوكل فاستدعى أبا عبد الله، وقال له: إنما أردتك لتنادمني، ليس لتقود على غلماني، فأنكر ذلك، وحلف يميناً حنث فيها، فطلق من كانت حرة من نسائه، وأعتق من كان مملوكاً، ولزمه حج ثلاثين سنة، فكان يحج في كل عام.
قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت فأقام فيها أياماً، ثم جاءه زرافة في الليل على البريد، فبلغه ذلك، فظن أن المتوكل لما شرب بالليل وسكر أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله، فلما دخل إليه، قال له: قد جئتك في شيء، ما كنت أحب أن أخرج في مثله، قال: وما هو؟ قال: أمير المؤمنين أمر بقطع أذنك، وقال: قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان، فرأى ذلك هيناً في جنب ما كان توهمه من إذهاب مهجته، فقطع غضروف أذنه من خارج، ولم يستقصه، وجدعله في كافور كان معه، وانصرف به.
وبقي منفياً مدة، ثم حدر إلى بغداد، فأقام بمنزله مدة.
قال أبو عبد الله: فلقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ثم لما كف بصره، فسألني عن أخبار الناس والسلطان، فأخبرته، ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني، فجعل يسليني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين، الخاص من ندمائه؟ قلت: محمد بن عمر البازيار، قال: من هذا الرجل؟ وما مقدار علمه وأدبه؟ فقلت: أما أدبه فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب، حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب ابن أبي حفصة، فأنشده قصيدته، التي يقول فيها:
بيضاء في وجناتها ... ورد، فكيف لنا بشمه؟
فسر المتوكل بذلك سروراً كثيراً شديداً، وأمر، فنثر عليه بدرة دنانير، وأن تلقط وتطرح في حجره، وأمره بالجلوس، وعقد له على اليمامة والبحرين، فقال: يا أمير المؤمنين: ما رأيت كاليوم، ولا أرى، - أبقاك الله - ما دامت السموات والأرض، فقال محمد بن عمر: هذا بعد طول إن شاء الله وقبل، قال له: فما تقول في أدبه؟ فقال: أأكثر من أن يقول للخليفة: - أبقاك الله - أيا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير؟ فقال إسحاق: ويلك، جزعت على أذنك، وغمك قطعها، حتى لا تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال: لو أن لك مكوك آذان، إيش كان ينفعك مع هؤلاء؟ قال: ثم أعاده المتوكل إلى خدمته، وكان إذا دعاه قال له، يا عبيد، على جهة المزاح، وقال له يوماً هل لك في جارية أهبها لك؟ فأكبر ذلك وأنكره، فوهب له جارية، يقال لها، صاحب، من جواريه، حسنة كاملة، إلا أن بعض الخدم رد بيده على فمها، وقد أرادت أن تدميه، فصدع ثنيتها، فاسودت، فشانها ذلك عنده، وحمل كل ما كان لها، وكان شيئاً كثيراً عظيماً.
فلما مات أبو عبد الله، تزوجت " صاحب " بعض العلويين، قال علي بن يحيى بن المنجم: فرأيته في النوم وهو يقول:
أبا علي ما ترى العجائبا؟ ... أصبح جسمي في التراب غائباً
واستبدلت " صاحب " بعدي صاحبا ومن شعر أبي عبيد الله، يكاتب فيه علي بن يحيى:
من عذيري من أبي حسن ... حين يجفوني ويصرمني
كان لي خلاً وكنت له ... كامتزاج الروح بالبدن
فوشى واش، فغيره ... وعليه كان يحسدني
إنما يزداد معرفة ... بودادي حين يفقدني

قال: واتصل بنجاح بن سلمة، أن أبا عبد الله بن حمدون يذكره بحضرة المتوكل، يتنادر به، فلقيه نجاح يوماً فقال له: يا أبا عبد الله، قد بلغني ذكرك لي بغير الجميل في حضرة أمير المؤمنين، أتحب أن أنهي إليه قولك إذا خلوت؟.
" أتراني أحبه وقد فعل بي ما فعل؟ " " والله ما وضعت يدي على أذني، إلا تجددت " " له عندي بغضة " فقال ابن حمدون: الطلاق لي لازم إن كنت قلت هذا قط، وامرأته طالق إن ذكره بغير ما يحبه أبداً.
وكان أبوه إبراهيم، وأظن أنه الملقب بحمدون، خادم المعتصم، ثم الواثق بعده، وكان يعاتب المتوكل في أيام أحبه الواثق، وجاءه مرة بحية وأخرج رأسها من كمه، تعريضاً بأنمه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق.
ولما مات الواثق نادم حمدون المتوكل، فلما كان في بعض الأيام أمر المتوكل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق، فأحضرت مكرهة، ودفع إليها عود، فغنت غناء كالندبة، فغضب المتوكل وأمرها أن تغني غناء، فغنت بتحزن وشجى، فزاد ذلك في طيب غنائها فوجم حمدون للرقة التي تداخلته، فغضب المتوكل، ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزناً عليه، وكان يبغض كل من مال إليه، فأمر بنفيه إلى السند، وضربه ثلثمائة سوط، فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك، وأقام منفياً ثلاث سنين.
وتزوج المتوكل فريدة، بعد ذلك، فولدت له ابنه أبا الحسن.
وحدث حمدون بن إسماعيل، قال: دعاني المعتصم يوماً فدخلت إليه، وهو في بعض مجالسه، وإلى جنبه باب صغير، فحادثته ملياً إلى أن رأيت الباب قد حرك، وخرجت منه جارية بيضاء، مقدودة، حسنة الوجه، وبيدها رطل، وعلى عنقها منديل، فأخذ الرطل من يدها فشربه، ثم قال: أخرج يا حمدون، فخرجت، فكنت في دهليز الحجرة، فلم ألبث أن دعاني، فدخلت، وهو على حاله، فحادثته ملياً، ثم حرك ذلك الباب، فخرجت جارية، كأحسن ما يكون من النساء، سمراء رقيقة اللون، بيدها رطل، فأخذه وشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت، فلبثت ساعة هناك، ثم دعاني، فأتيته وحادثته ساعة، وحرك الباب، فخرجت أحسن الثلاث، بيدها رطل، ومعها منديل، فأخذ الرطل فشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت، فلبثت ساعة، ثم دعاني، فدخلت: فقال لي: أتعرف هؤلاء؟ قلت: معاذ الله أن أعرف أحداً ممن هو داخل دار أمير المؤمنين، فقال: إحداهن ابنة بابك الخرمي، والأخرى ابنة المازيار أو " المازيان " ، والثالثة ابنة بطريق عمورية، افترعتهن الساعة، وهذا نهاية الملك يا حمدون.
وأما أبو محمد بن حمدون، فذكر جحظة أن مولده في سنة سبع وثلاثين ومائتين، وتوفي ببغداد في رمضان سنة تسع وثلاثمائة، ونادم المعتمد، وخص به، وكان من ثقاته المتقدمين عنده، وله معه أخبار.
وأما أبو العبيس بن أبي عبد الله بن حمدون، أحد المشهورين بجودة الغناء والصنعة فيه، وابنه إبراهيم بن أبي العبيس أيضاً من المجيدين في الغناء، وشجاء الصوت، فهؤلاء المعروفون بمنادمة الخلفاء من بني حمدون.
وحدث أحمد بن أبي طاهر: أن ابن حمدون النديم حدثه: أن الواثق بالله بسط جلاسه، وأمرهم ألا ينقبضوا في مجلسه، وأن يجروا النادرة على ما اتفقت عليه غير محتشمين، وإن اتفق وقوعها عليه احتمل، قال: فعبرنا على ذلك مدة، وكان على إحدى عيني الواثق نكتة بياض، فلما كان في بعض الأيام، أنشد الواثق أبيات أبي حية النميري:
نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من ماء الصبابة أنظر

فقلت: وإلى غير الدار يا أمير المؤمنين؟ فتبسم، ثم قال لوزيره: قد قابلني هذا الرجل بما لا أطيق أن أنظرإليه بعدها. فانظر كم مبلغ جاريه وجرايته، وأرزاقه وصلاته، فاجمعها، وأقطعه بها إقطاعاً بالأهواز، وأخرجه إليها ليبعد عن ناظري، ففعل، قال: وأخرجت إليها، وتبيغ بي الدم، فالتمست حجاماً كان في خدمتي، فقيل: لم يخرج في الصحبة لعلة لحقته، فقلت: التمسوا حجاماً نظيفاً حاذقاً، وتقدموا إليه بقلة الكلام، وترك الانبساط، فأتوني بشيخ حسن على غاية النظافة وطيب الريح، فجلس بين يدي، وأخذ الغلام المرآة، فلما أخذ في إصلاح وجهي، قلت له: اترك في هذا الموضع، واحذف في هذا الموضع، وعدل هذه الشعرات، وسرح هذا المكان، وأطلت الكلام وهو ساكت، فلما قعد للحجامة، قلت له: اشرط في الجانب الأيمن اثنتي عشرة شرطة، وفي الجانب الأيسر أربع عشرة شرطة، فإن الدم في الجانب الأيسر أقل منه في الأيمن، لأن الكبد في الأيمن، والحرارة هناك أوفر، والدم أغزر، فإذا زدت في شرط الأيمن، اعتدل خروج الدم من الجانبين، ففعل، وهو مع ذلك ساكت، فعجبت من صمته، وقلت للغلام: ادفع إليه ديناراً، فدفعه إليه، فرده، فقلت: استقله، ولعمري إن العيون إلى مثلي ممتدة، والظمع مستحكم في نديم الخليفة، وصاحب إقطاعه، أعطه ديناراً آخر، ففعل، فردهما وأبى أن يأخذهما، فاغتظت وقلت: - قبحك الله، - أنت حجام سواد، وأكثر من يجلس بين يديك يدفع لك نصف درهم، وأنت تستقل ما دفعت إليك؟ فقال: وحقك ما رددتها استقلالاً، ولكن نحن أهل صناعة واحدة، وأنت أحذق مني، وما كان الله ليراني وأنا آخذ من أهل صناعتي أجرة أبداً، فأخجلني وانصرف ولم يأخذ شيئاً.
فلما كان في العام القابل، خرجت لمثل ما خرجت إليه في العام الماضي، واحتجت إلى نقص الدم، فقلت لغلامي: اذهب فجئنا بذلك الحجام، فقد عرف الخدمة، وقد انصرف تلك الدفعة ولم يأخذ شيئاً، ولعله قد نسيها، فيقع برنا منه على حاجة منه إليه، قال: فلما جلس بين يدي، وأصلح وجهي الإصلاح الذي كنت أوقفته عليه، وحجمني أحسن حجامة، فلما فرغ، قلت: سبحان الله، أنت صانع سواد، فمن أين لك هذا الحذق بهذه الصنعة؟ فقال: وحقك ما كنت أحسن من هذا شيئاً، ولكن حجام الخليفة اجتاز بنا بهذا الموضع في العام الماضي، فتعلمت منه هذا، فضحكت منه، وأمرت له بثلاثين ديناراً، مع ما تم له من معاريض كلامه في الدفعتين جميعاً.
وأنشد جحظة في أماليه لنفسه، يرثي حمدون النديم، كذا قال، ولم يعينه:
أيعذب من بعد ابن حمدون مشرب ... لقد كدرت بعد الصفاء المشارب؟
أصبنا به فاستأسد الضبع بعده ... ودب إلينا من أناس عقارب
وقطب وجه الدهر بعد وفاته ... فمن أي وجه جئته فهو قاطب
بمن ألج الباب الشديد حجابه ... إذا ازدحمت يوماً عليه المواكب؟
بمن أبلغ الغايات، أم من بجاهه ... أنال وأحوي كل ما أنا طالب؟؟
فأصبحت حلف البيت، خلف جداره ... وبالأمر مني يستعيذ النجائب
وقال جحظة في أبي جعفر بن حمدون، ولا أعرفه إلا أنه كذا، أورده في أماليه:
أبا جعفر لا تنال العلا ... بتيهك في المجلس الحاشد
ولا بغلام كبدر التما ... م ركب في غصن مائد
ولا بازيار إذا ما أت ... اك يخطر بالذر والصائد
فكيف ومالك من شاكر ... وكيف ومالك من حامد؟؟
أتذكر إذ أنت تحت الزما ... ن وحيد بلا درهم واحد؟
وتحدث جحظة في أماليه قال: قال لي أبو عبد الله ابن حمدون: حسبت ما وصلني به المتوكل في مدة خلافته، وهي أربع عشرة سنة وشهور، فوجدته ستين ألفاً وثلاثمائة ألف دينار، ونظرت فيما وصلني به المستعين في مدة خلافته، وهي ثلاث سنين ونيف، وكان أكثر مما وصلني به المتوكل، ثم خلع المستعين، وحدر إلى واسط، ومنع من كل شيء إلا القوت، فاشتهى نبيذاً، فخرجت دايته إلى أهل واسط، فتشكت ذلك إليهم، فقال لها رجل من التجار: له عندي كل يوم خمسة أرطال نبيذ دوشاب، فكانت تمضي إليه في كل يوم فتجيئه به سراً، إلى أن حمل من واسط، فقتل بالقاطول:
أحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم

اللؤلؤي، أبو بكر، قال الزبيدي: ومن نحاة القيروان ابن أبي عاصم، وكان من العلماء النقاد في العربية والغريب والنحو والحفظ والقيام بشرح أكثر دواوين العرب.
مات فيما ذكره الزبيدي، سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وله ست وأربعون سنة، وكان كثير الملازمة لأبي محمد المكفوف النحوي، وعنه أخذ، وكان صادقاً في علمه وبيانه لما يسأل عنه، وله تأليف في الضاد والظاء حسن بين، وكان شاعراً مجيداً، وكان أبوه موسراً، فلم يكن يمدح أحداً بمجازاة، وترك الشعر في آخر عمره، وأقبل على طلب الحديث والفقه، وهو القائل:
أيا طلل الحي الذين تحملوا ... بوادي الغضا، كيف الأحبة والحال
وكيف قضيب البان والقمر الذي ... بوجنته ماء الملاحة سيال
كأن لم تدر ما بيننا ذهبية ... عبيرية الأنفاس عذراء سلسال
ولم أتوسد ناعماً بطن كفه ... ولم يحو جسمينا مع الليل سربال
فبانت به عني ولم أدر بغتة ... طوارق صرف البين، والبين مغيال
فلما استقلت ظعهم وحدوجهم ... دعوت، ودمع العين في الخد هطال
حرمت منايا منك، إن كان ذا الذي ... تقوله الواشون عني كما قالوا
وهذا البيت الأخير تضمين من أبيات لها قصة أنا ذاكرها.
ذكر أبو الفرج علي بن الحسين، في كتابه، قال: كان عبد الله بن محمد القاضي، المعروف بالخليجي، ابن أخت علوية المغني، وكان تياهاً صلفاً، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية، وكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين الجامع، فيستند إليها بجميع بدنه ولا يتحرك، فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده، وترك الاستناد، حتى يفصل بينهما، ثم يعود لحاله، وعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوي، فألصقها في موضع دنيته بالدبق فلما جلس الخليجي إلى السارية، وتمكن منها، وتقدم إليه الخصوم، وأقبل إليهم بجميع جسده، كما كان يفعل، انكشف رأسه، وبقيت الدنية موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخليجي مغضباً، وعلم أنها حيلة عليه وقعت، فغطى رأسه بطيلسانه وتركها مكانها، حتى جاء بعض أصحابه فأخذها، فقال بعض شعراء عصره:
إن الخليجي من تتايهه ... أثقل باد لنا بطلعته
ماتيه ذي نخوة مناسبة ... بين أخاوينه وقصعته
يصالح الخصم من يخاصمه ... خوفاً من الجور في قضيته
لو لم تديقه كف قانصه ... لطار فيها على رعيته
واشتهرت الأبيات والقصة ببغداد، وعمل لها علوية حكاية أعطاها الزفانين والمخنثين، فأخرجوه منها، وكان علوية يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه، واستعفى الخليجي من القضاء ببغداد، وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة، فولي جند دمشق أو حمص، فلما ولي المأمون الخلافة، غناه علوية بشعر الخليجي، وهو:
برئت من الإسلام، إن كان ذا الذي ... تقوله الواشون عني كما قالوا
ولكنهم، لما رأوك غرية ... بهجري، تساعوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذناً للوشاة سميعة ... ينالون من عرضي، ولو شئت ما نالوا
فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر؟ قال: قاضي دمشق، فأمر المأمون بإحضاره، فكتب إلى والي دمشق بإحضاره، فكتب فأشخص، وجلس المأمون للشرب، وأحضر علوية، ودعا بالقاضي؛ فقال له: أنشدني قولك:
برئت من الإسلام، إن كان ذا الذي ... تقوله الواشون عني، كما قالوا
فقال: يا أمير المؤمنين، هذا شيء قلته منذ سنة، وأنا صبي، والذي أكرمك بالخلافة، وورثك ميراث النبوة، ما قلت شعراً منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق، فقال له: إجلس، فجلس، فناوله قدحاً من نبيذ كان في يده، فقال: يا أمير المؤمنين ما غيرت الماء بشيء قط مما يختلف في تحليله، فقال: لعلك تريد نبيذ التمر أو الزبيب؟ فقال: لا، والله يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئاً منها، فأخذ القدح من يده، وقال: أما والله لو شربت هذا لضربت عنقك، ولقد ظننت أنك صادق في قولك كله، ولكن لا يتولى لي أبداً رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك، وأمر علوية أن يغير ذلك ويقول: حرمت منايا منك إن كان ذا الذي


أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد اللهابن الحسن الفارسي، أبو حامد المقرئ الأديب، نزيل نيسابور، جمع في القراءات مصنفات كثيرة.
قال الحاكم: وكان من العباد، أقام في منزل أبي إسحاق المزكي سنين، لتأديب أولاده، وحفظ سماعاتهم عليهم، سمع في بلده من أصحاب أبي الأشعث وعمر بن شبة وأقرانهم، مات بنيسابور سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
قال الحاكم: حدثني أبو حامد الفارسي قال: حدثنا أبو الحسين زكريا قال: كنت عند أبي بكر محمد داود ابن علي الإصبهاني الفقيه، وهو يكتب إلى بعض إخوانه بهذه الأبيات:
جعلت فداك، قد طال اشتياقي ... وليس تزيدني إلا مطالا
كتبت إليك أستدعي نوالاً ... فلم تكتب إلي نعم ولا لا
نصحت لكم حذاراً أن تعابوا ... فعاد علي نصحكم وبالا
أحمد بن إبراهيم بن معلى بن أسد العميأبو بشر، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية، قال: والعم هو مرة بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة، وهو ممن دخل في تنوخ بالحلف وسكنوا الأهواز وكان مستملي أبي أحمد الجلودي، وسمع كتبه كلها ورواها، وكان ثقة في حديثه، حسن التصنيف، وأكثر الرواية عن العامة والأخباريين، وكان جده المعلى ابن أسد من أصحاب صاحب الزنج، المختصين به، وروى عنه، وعن عمه أسد بن المعلى أخبار صاحب الزنج، وله تصانيف، منها: كتاب التاريخ الكبير، كتاب التاريخ الصغير، كتاب مناقب علي، كتاب أخبار صاحب الزنج، كتاب الفرق وهو كتاب حسن غريب كتاب أخبار السيد الحميري، كتاب عجائب العالم.
أحمد بن إسحاق، يعرف بالجفرحميري النسب، مصري الدار، لم أجد له ذكراً إلا في كتاب أبي بكر الزبيدي، فإنه ذكره في نحاة مصر قال: ومات سنة ثلاثمائة وواحد.
أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخصيبنطاحة من أهل الأنبار، كان كاتب عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان بليغاً مترسلاً، شاعراً أديباً، متقدماً في صناعة البلاغة، وكان في الأكثر يكتب عن نفسه إلى إخوانه، وبينه وبين ابن المعتز مراسلات وجوابات عجيبة.
ذكره محمد بن إسحاق النديم، وقال: له من التصانيف: كتاب ديوان رسائله، نحو ألف ورقة، يحتوي على كل حسن من الرسائل. كتاب الطبيخ، كتاب طبقات الكتاب، كتاب أسماء المجموع المنقول من الرقاع، يشتمل على سماعاته من العلماء وما شاهد من أخبار الجلة كتاب صفة النفس، كتاب رسائله إلى إخوانه.
قال المرزباني في المعجم: وجده الخصيب بن عبد الحميد صاحب مصر، وأصلهم منالمزار، وهو القائل:
خير الكلام قليل ... على كثير دليل
والعي معنى قصير ... يحويه لفظ طويل
وفي الكلام عيون ... وفيه قال وقيل
وللبليغ فصول ... وللعيي فضول
وله أيضاً:
لا تجعلن بعد داري ... مخسساً لنصيبي
فرب شخص بعيد ... إلى الفؤاد قريب
ورب شخص قريب إليه غير حبيب
ما القرب والبعد إلا ... ما كان بين القلوب
وله يمدح كاتباً:
وإذا نمنمت بنانك خطاً ... معرباً عن إصابة وسداد
عجب الناس من بياض معان ... يجتنى من سواد ذاك المداد
وله أيضاً:
ماذا أقول لمن إن زرته حجبا ... وإن تخلفت عنه مكرها عتبا
وإن أردت خلاصاً من تعتبه ... ظلماً، فعاتبته في فعله غضباً
قال أحمد بن يحيى: كان أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الكاتب، علامة شاعراً، أحسن المعرفة بالشعر، وكان من الظرفاء الخلعاء، قال لي مرة: يا أبا العباس، ما بنات مخر؟ فقلت: بنات " مخر " سحائب بيض يأتين قبل الصيف، تشبه النساء في بياضهن وحسنهن بها، لأن سحاب الصيف لا ماء فيه فيسود ويتغير، فقال لي: قلبك عربي.
وساتهدى من أحمد بن إسماعيل كتاب حدود الفراء، فأهداه وكتب على ظهره:
خذه فقد سوغت منه مشبهاً ... بالروض أو بالبرد في تفويفه
نظمت كما نظم السحاب سطوره ... وتأنق الفراء في تأليفه
وشكلته ونقطته فأمنت من ... تصحيفه ونجوت من تحريفه
بستان خط غير أن ثماره ... لا تجتنى إلا بشكل حروفه
أحمد بن أبي الأسود القيرواني

ذكر الزبيدي فقال: كان غاية في النحو واللغة، وهو من أصحاب عبد الملك المهدي، وله تصانيف في النحو والغريب، ومؤلفات حسان وكان شاعراً مجيداً:
أحمد بن أعثم الكوفي أبو محمد الأخباريالمؤرخ، كان شيعياً، وهو عند أصحاب الحديث ضعيف وله كتاب التاريخ إلى آخر أيام المقتدر، ابتدأه بأيام المأمون، ويوشك أن يكون ذيلاً على الأول، رأيت الكتابين.
وقال أبو الحسين بن أحمد السلامي البيهقي: أنشدني ابن أعثم الكوفي:
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن جفائك وارض عنه ... فإن الصفح شيمة كل حر
أحمد بن بختيار بن علي بن محمد الماندائيأبو العباس الواسطي، وكان له معرفة جيدة بالأدب والنحو واللغة، مات ببغداد في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ومولده في ذي الحجة سنة ست وسبعين وأربعمائة بأعمال واسط، وقد ولي القضاء بواسط، وكان فقيهاً فاضلاً، له معرفة تامة بالأدب واللغة، ويد باسطة في كتب السجلات والكتب الحكمية، سمع أبا القاسم ابن بيان، وأبا علي بن نبهان، وغيرهما.
قال أبو الفرج بن الجوزي: وكان يسمع معنا علي بن الفضل بن ناصر.
صنف كتباً، منها: كتاب القضاة. كتاب تاريخ البطائح.
قرأت بخط حجة الإسلام، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب: أنشدني صديقنا الشيخ أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي بن محمد الماندائي لنفسه في ابن المرخم:
قد نلت بالجهل أسباباً لها خطر ... يضيق فيها على العقل المعاذير
مصيبة عمت الإسلام قاطبة ... لا يقتضي مثلها حزم وتدبير
إذا تجاري ذوو الألباب جملتها ... قالوا: جهول أعانته المقادير
أحمد بن أمية بن أبي أمية، أبو العباس الكاتبذكره المرزباني فقال: أهل بيت الكتابة، والغزل، والظرف، والأدب.
حدثنا أحمد بن القاسم النيسابوري: أنه لقيه بعد الخمسين والمائتين، أو حواليها، وأخذ عنمه علماً كثيراً وأدباً.
قلت: وأمية، مولى لهشام بن عبد الملك، واتصل في دولة بني العباس بالربيع، حاجب المنصور، وكتب بين يديه، وله شعر حسن، وولده أهل بيت علم، منهم: أحمد هذا، وأخوه محمد، وقد ذكرته في أخبار الشعراء.
قال المرزباني: وأحمد هو القائل:
خبرت عن تغير الأترابا ... ومشيبي، فقلن: بالله شابا
نظرت نظرة إلي، فصدت ... كصدود المخمور شم الشرابا
إن أدهى مصيبة نزلت بي ... أن تصدى، وقد عدمت الشبابا
وكان أبو هفان يقول: ليس في الدنيا هجاء أشرف ولا أظرف من قول أحمد بن أمية:
إذا ابن شاهك قد وليته عملاً ... أضحى وحقك عنه وهو مشغول
بسكة أحدثت، ليست بشارعة ... في وسطها عرصة في وسطها ميل
يرى فرانقها في الركض مندفعاً ... تهوى خريطته والبغل مشكول
أحمد بن بشر بن علي التجيبييعرف بابن الأغبس، ذكره الحميدي وقال: مات سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، مائلاً إلى الحديث، عالماً بكتب القرآن، قد أتقن كل ما قيل فيها، من جهة العربية والتفسير واللغة والقراءة، وكان حافظاً للغة العربية، كثير الرواية، جيد الخط والضبط للكتب، وأخذ عن العجلي والخشني وابن الغازي.
أحمد بن بكران بن الحسين الزجاجكتب عنه علي بن محمد الأزدي في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
أحمد بن بكر العبدي أبو طالب

صاحب كتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي، كان نحوياً لغوياً قيماً بالقياس والإفتنان في العلوم العربية، أخذ عن القاضي أبي سعيد السيرافي، وأبي الحسن الرماني، وأبي علي الفارسي، ومات في سنة ست وأربعمائة في خلافة القادر بالله، لم أجد له خبراً فأحكيه، إلا ما حكى هو عن نفسه في كتاب شرح الإيضاح: أنه تكلم مع أبي محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن السيرافي قال العبدي: ما كان ابن السيرافي مكيناً في هذا الشأن على شهرته عند الناس في اللغة في ياء تفعلين، فقال: هي علامة التأنيث، والفاعل مضمر، فقلت له: ولو كانت بمنزلة التاء في ضربت، علامة للتأنيث فقط، لثبتت مع ضمير الاثنين، وعلم أن فيها مع دلالتها على التأنيث، معنى الفاعل، فلما صار للاثنين، بطل ضمير الواحد الذي هو الياء، وجاءت الألف وحدها، فقال: هذا زنبيل الحوائج كذا وكذا، وانقطع الوقت بالضحك من ابن شيخنا، ومن قلة تصرفه.
وقرأت في فوائد، نقلت عن أبي القاسم المغربي الوزير: أن العبدي أصيب بعقله، واختل في آخر عمره، وله من التصانيف كتاب شرح الإيضاح، كتاب شرح الجرمي.
أحمد بن أبي بكر بن أبي محمد الخاورانيالنحوي، الأديب، أبو الفضل، يلقب بالمحدويه، لقيته بعرف سرين، وهو شاب فاضل بارع متفنن قيم بعلم النحو، محترق بالذكاء، حافظ للقرآن، كتب بخطه العلوم، وقرأها على مشايخه، ورأيته قد صنف كتابين صغيرين في النحو، وشرع في أشياء لم تمهله المنية ليتمها، منها - فيما ذكر لي - شرح المفصل للزمخشري، وكتب عني الكثير، وفارقته في سنة سبع عشرة وستمائة، ثم بلغني أنه اعتب، فمات في سنة عشرين وستمائة، وعمره نحو ثلاثين سنة، وله رسالة صالحة.
أحمد بن عفر الدينوريختن ثعلب على ابنته، يكنى: أبا علي، أحد النحاة المبرزين المصنفين في نحاة مصر، وقال: إنه مات بمصر سنة تسع وثمانين ومائتين، قال: وكان أبو علي الدينوري يخرج من منزل ثعلب، وهو جالس على باب داره، فيتخطى أصحابه، ومعه محبرته، فيقرأ كتاب سيبويه على أبي العباس المبرد، فيعاتبه ثعلب ويقول: إذا رآك الناس تمضي إلى هذا الرجل، وتقرأ عليه، وتتركني، يقولون ماذا؟ فلم يكن يلتفت إلى قوله، قال: وكان أبو علي هذا حسن المعرفة، قال: قال المصعبي: فسألت أبا علي: كيف صار المبرد أعلم بكتاب سيبويه من ثعلب؟ فقال: المبرد قرأه على العلماء وثعلب قرأه على نفسه.
قال الزبيدي: وأصله من الدينور، وقدم البصرة، وأخذ عن المازني، وحمل عنه كتاب سيبويه، ثم دخل بغداد، فقرأ على المبرد، ثم قدم مصر، وألف كتاب المهذب في النحو، وكتب في صدره اختلاف البصريين والكوفيين، وعزا كل مسألة إلى صاحبها، ولم يعتل لكل واحد منهم، ولا احتج لمقالته، فلما أمعن في الكتاب ترك الاختلاف، ونقل مذهب البصريين، وعول في ذلك على كتاب الأخفش سعيد بن مسعدة، وله كتاب مختصر في ضمائر القرآن، استخرجه من كتاب المعاني للفراء، ولما قدم علي بن سليمان الأخفش إلى مصر، خرج أبو علي منها، فلما رجع الأخفش إلى بغداد، عاد أبو علي إلى مصر، فأقام بها حتى مات في السنة المقدم ذكرها، وله كتاب إصلاح المنطق.
أحمد بن جعفر جحظةهو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي النديم، قال أبو عبد الله الحسن ابن علي بن مقلة: سألت جحظة عمن لقبه بهذا اللقب، فقال: ابن المعتز لقيني يوماً فقال لي: ما حيوان إذا قلب صار آلة للبحرية؟؟ فقلت: علق، إذا عكس صار قلعاً فقال: أحسنت يا جحظة، فلزمني هذا اللقب، وهو من في عينيه نتو جداً، وكان قبيح المنظر، وكان له لقب آخر، يلقبه به المعتمد، وهو خنياكر، وما أدري أي شيء معناه؟ كان حسن الأدب، كثير الرواية للأخبار، متصرفاً في فنون من العلم، كالنحو واللغة والنجوم، مليح الشعر، مقبول الألفاظ، حاضر النادرة وكان طنبورياً حاذقاً فيه فائقاً، مات في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بجيل، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ذكره محمد بن إسحاق النديم، فقال: ولجحظة من التصانيف: كتاب الطبيخ - لطيف، - كتاب الطنبوريين، كتاب فضائل السكباج، كتاب الترنم، كتاب المشاهدات، كتاب ما شاهده من أمر المعتمد على الله، كتاب ما جمعه مما جربه المنجمون فصح من الأحكام، كتاب ديوان شعره.

قال: كان جحظة وسخاً قذراً دني النفس، في دينه قلة، وهو القائل:
إذا ما ظمئت إلى ريقه ... جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ريقه؟ ... ولكن أعلل قلباً غليلا
ومن سائر شعره قوله:
لي صديق مغري بقربي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق
قوله إن شدوت أحسنت، زدنيوبأحسنت لا يباع الدقيق
حدث الخطيب قال: قال جحظة: أنشدت عبيد الله ابن طاهر قولي:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واثقته ... وجامع بددت ما يجمع
فقال لي: ذنبك إلى الزمان الكمال.
ومن شعر جحظة:
أقول لها والصبح قد لاح ضوءه ... كما لاح ضوء البارق المتألق
شبيهك قد وافى ولاح افتراقنا ... فهل لك في صوت وكأس مروق؟
فقالت شفائي في الذي قد ذكرته ... وإن كنت قد نغصته بالتفرق
قال جحظة: صك لي بعض الملوك بصك فدافعني الجهبذ به، حتى ضجرت، فكتبت إليه:
إذا كانت صلاتكم رقاعاً ... تخطط بالأنامل والأكف
فها خطي، خذوه بألف ألف ... ولم تكن الرقاع تجر نفعاً
وأنشد جحظة في أماليه:
طرقنا بزوغي حين أينع زهرها ... وفيها، لعمر الله، للعين منظر
وكم من بهار يبهر العين حسنه ... ومن جدول بالبارد العذب يزخر
ومن مستحث بالمدام كأنه، ... وإن كان ذمياً، أمير مؤمر
وفي كفه اليمنى شراب، مورد ... وفي كفه اليسرى بنان معصفر
شقائق تندى بالندى فكأنها ... خدود عليهن المدامع تقطر
وكم ساقط سكراً يلوك لسانه ... وكم قائل هجراً وما كان يهجر
وكم منشد بيتاً وفيه بقية ... من العقل إلا أنه متحير
" فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر "
وكم من حسان جس أوتار عوده فألهب ناراً في الحشا تتسعر
يغني وأسباب الصواب تمده ... بصوت جليل ذكره حين يذكر
أحن حنين الواله الطرب الذي ... ثنى شجوه بعد الغداء التذكر
أجحظة إن تجزع على فقد معشر ... فقدت بهم من كان للكسر يجبر
وأصبحت في قوم كأن عظامهم ... إذا جئتهم في حاجة تتكسر
فصبراً جميلاً، إن في الصبر مقنعاً ... على ما جناه الدهر، والله أكبر
وأنشد أيضاً لنفسه:
يا من بعدت عن الكرى ببعادهالصبر مذ غيبت عني غائب
أصبحت أجحد أنني لك عاشق ... والعين مخبرة بأني كاذب
وأنشد أيضاً لنفسه:
قد قلل الإدمان أكلي فما ... أطعم زاداً قيس إبهام
فالحمد لله وشكراً له ... قد صرت من بائد أقوام
قوم ترى أولادهم بينهم ... للجوع في حلية أيتام
وأنشد لنفسه:
أرى الأيام تضمن لي بخير ... ولكن بعد أيام طوال
فمن ذا ضامن لدوام عمري ... إلى دهر يغير سوء حالي
هي التسعون قد عطفت قناتي ... ونفرت الغواني عن وصالي
وفيها لو عرفت الحق شغلعن الأمر الذي اضحى اشتغالي
كأني بالنوادب قائلات، ... وجسمي فوق أعناق الرجال
ألا سقيا لجسمك كيف يبلى وذكرك في المجالس غير بالي وأنشد أيضاً لنفسه:
أنفق ولا تخش إقلالاً، فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
وأنشد أيضاً لنفسه:
تعجبت إذ رأتني فوق مكسور ... من الحمير عقير الظهر مضرور
من بعد كل أمين الرسغ معترض ... في السير تحسبه إحدى التصاوير
فقلت لا تعجبي مني ومن زمن ... أنحنى علي بتضييق وتقتير
بل فاعجبي من كلاب قد خدمتهم ... تسعين عاماً بأشعاري وطنبوري؟
ولم يكن في تناهي حالهم بهم ... حر يعود لعى حالي بتغيير

وقيل لجحظة: كيف حالك؟ فقال: كما قال الشاعر:
أي شيء رأيت أعجب من ذا ... إن تفكرت ساعة في الزمان؟
كل شيء من السرور بوزن ... والبلايا تكال بالقفزان
وأنشد جحظة لنفسه:
الحمد لله ليس لي كاتب ... ولا على باب منزلي حاجب
ولا حمار إذا عزمت على ... ركوبه، قيل: جحظة راكب
ولا قميص يكون لي بدلاً ... مخافة من قميصي الذاهب
وأجرة البيت فهي مقرحة ... أجفان عيني بالوابل الساكب
إن زارني صاحب عزمت على ... بيع كتاب لشبعة الصاحب
أصبحت في معشر تشمتهم ... فرض من الله لازب واجب
فيهم صديق في عرسه عجب ... إذا تأملت، أمرها عاجب
تحسبها حرة وحافرها ... أرق من شعر خالد الكاتب
وأنشد لنفسه:
ألحمد لله لم أقل قط: يا بد ... ر ويا منصفاً ويا كافور
لا، ولا قلت: أين أين الشوا ... هين ووزاننا وأين البذور
لا ولا قيل: قد أتاك من الضي ... عة بر موفر وشعير
وأتاك العطاء بالند لما ... قيل لي إن في الخزين بخور
أنا خلو من المماليك والأم ... لاك جلد على البلا وصبور
ليس إلا كيسرة وقديح ... وخليق أتت عليه الدهور
قال جحظة: ومررت بوقاد يوقد في التنور ويغني:
أنا أهواك نور الل ... ه فافعل ما بدا لك
إن تكن تمنعني شخ ... صك فابذل لي خيالك
قد أخذت الدن والطن ... بور والكلب فمالك؟
قل لمن جنبك القم ... موث من دسك والك
وله أيضاً:
ولي صاحب زرته للسلا ... م فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائباً ... لأدخلني أهله للنكاح
وقال يستزير بعض إخوانه:
لنا يا أخي زلة وافره ... وقدر معجلة حاضره
وراح تزيل إذا صفقت ... سنا البرق في الليلة الماطره
ومسمعة لم يخنها الصوا ... ب وزامرة أيما زامره
وما شئت من خبر نادر ... ونادرة بعدها نادره
فآت ولو كنت يا ابن الكرام وحاشاك من ذاك في الآخره
وأنشد لنفسه أيضاً:
ما زارني في الحبس من نادمته ... كأسين: كأس مودة ومدام
بخلوا علي وقد طلبت سلامهم ... فكأنني طالبتهم بطعام
وأنشد أيضاً لنفسه:
وذي جدة طلبت إليه براً ... من الجلساء مذموم الخلائق
فأقسم أنه رجل فقير ... أرانيه المهيمن وهو صادق
كأني بالمنازل عن قليل ... خلون من المطرزة النمارق
وقد ظفر النساء بما تركتم ... فصار لماهر بالنيك حاذق
وأنشد أيضاً لنفسه في أماليه:
وقائل قال لي: من أنت؟ قلت له، ... مقال ذي حكمة واتت له الحكم
لست الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
أنا الذي دينه إسعاف سائله ... والضر يعرفه والبؤس والعدم
أنا الذي حب أهل البيت أفقره ... فالعدل مستعبر والجور مبتسم
وله أيضاً:
ولي كبد لا يصلح الطب سقمها ... من الوجد لا تنفك دامية حرى
فيا ليت شعري والظنون كثيرة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى
وله أيضاً:
شكري لإحسانك شكر امرئ ... يستوهب الإحسان من واهبه
وكيف لا أشكر من لا أرى ... في منزلي إلا الذي جاد به
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه.
حسبي ضجرت من الأدب ... ورأيته سبب العطب
وهجرت إعراب الكلام ... وما حفظت من الخطب
ورهنت ديوان النقا ... ئض واسترحت من التعب
وله أيضاً:
لا تعجبي يا هند من ... حالي فما فيها عجب

إن الزمان بمن تقد ... م في النباهة منقلب
فالجهل يضطهد الحجى ... والرأس يعلوه الذنب
حدث غرس النعمة في كتاب الهفوات قال: كان جحظة لما أسن يفسو في مجالسه، فيلقى من يعاشره منه جهداً. قال الحسين بن العباس: وكنت أحب غناءه، والكتابة عنه، لما عنده من الآداب، وكان يستطيب عشرتي، وكنت إذا جلست عنده أخذته غلبة الريح، فجئته يوماً في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفوا، قال لي ولآخر كان معي: اجلسا عندي حتى أقعدكما على أسود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما من معتقة اليهود، وأبحركما بعنبر وعود، أطيب من الندود، وأغنيكما غناء المشدود، فقلت: هذا موضع السجود، وجلسنا، وصديقي لا يعرف خلقه في الفساء، وأنا قد أخذت الريح فوقي، فوفى لنا بجميع ما ذكره، وقال لنا، وقد غنى وشربنا: نحن بالغداة علماء وبالعشي في صورة المخنكرين، فلما أخذ النبيذ منه، أخذ يفسو، وصديقي يغمزني ويتعجب، فأقول له: إن ذلك عادته وخلقه، وإن سبيله أن يحتمل، إلى أن غي صوتاً من الشعر، والصنعة له فيه، وكان يجيده:
إن بالحيرة قسا قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن
ترك الإنجيل حيناً للصبا ... ورأى الدنيا مجوناً فركن
قال: فطرب عليه صديقي طرباً شديداً، واستحسنه كثيراً، وأراد أن يقول له: أحسنت والله يا أبا الحسن. فقال له ما في نفسه يتردد من أمر الفساء: أفس علي يا أبا الحسن كيف شئت، فخجل جحظة، وخجل الفتى، وانصرفنا.
وحدث الخطيب، عن أبي الفرج الإصبهاني، قال: حدثني جحظة قال: اتصلت علي إضاقة، أنفقت فيها كل ما أملكه، حتى بقيت ليس في داري سوى البواري، فأصبحت يوماً، وأنا أفلس من طنبور بلا وتر، كما في المثل، ففكرت كيف أعمل، فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد الكاتب، وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرف قبل ذلك بسنتين، وحالفه النقرس، فأزمنه حتى صار لا يتمكن من التصرف إلا محمولاً على الأيدي أو في محفة، وكان مع ذلك على غاية الظرف، وكبر النفس، وعظم الهمة، ومواصلة الشرب والقصف، فأردت أن أتطايب عليه ليدعوني، فآخذ منه ما أنفقه مدة، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جدي ... وفي عقار بوارد
وقهوة ذات لون ... يحكى خدود الخزائد
ومسمع يتغنى ... من آل يحيى بن خالد
إن المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
فما شعرت إلا بمحفة محبرة يحملها غلمانه إلى داري، وأنا جالس على بابي، فقلت له: لم جئت؟ ومن دعاك؟ فقال: أنت، فقلت: إنما قلت لك: ماذا ترى في هذا؟ وعنيت في بيتك، وما قلت لك: إنه في بيتي، وبيتي والله أفرغ من فؤاد أم موسى، فقال: الآن قد جئت ولا أرجع، ولكن أدخل إليك، وأستدعي من داري ما أريد، قلت: ذاك إليك، فدخل، فلم ير في بيتي إلا بارية، فقال: يا أبا الحسن، هذا والله فقر مطيح، هذا ضر مدقع، ما هذا؟ قلت: هو والله ما ترى، فأنفذ إلى داره، فاستدعى فرشاً وآلة وقماشاً وغلماناً، وجاء فراشوه ففرشوا ذلك، وجاء وافر الصفر والشمع وغير ذلك مما يحتاج إليه، وجاء طباخه بما كان في مطبخه، وهو شيء كثير، بآلات ذلك، وجاء شرابيه بالأواني والمخروط والفاكهة وآلة التبخير والبخور وألوان الأنبذة، وجلس يومه ذلك وليلته عندي، يشرب على غنائي وغناء مغنية أحضرها، كنت ألقنها، فلما كان من الغد سلم إلى غلامه كيساً فيه ألف درهم، ورزمة ثياب صحاح، ومقطوعة من فاخر الثياب، واستدعى محفة فجلس فيها، وشيعته، فلما بلغ آخر الصحن،قال: مكانك يا أبا الحسن، احفظ بابك، فكل ما في دارك لك، فلا تدع أحداً يحمل منه شيئاً، وقال للغلمان: اخرجوا، فخرجوا بين يديه، وأغلقت الباب على قماش بألفو كثيرة.
وأنشد السلامي لجحظة في سعد الحاجب:
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كل عليه منك وسم لائح
وأراك تخدم رابعاً لتميته ... رفقاً به فالشيخ شيخ صالح
يا خادم الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح

وحدث جحظة قال: دخلت، وأنا في بقايا علة، على كاتب، قال ابن بشران، على هارون ابن عريب الخالي، فقدم إلينا مضيرة عصبان، فأمعنت منها، فقال: - جعلت فداك - أنت عليل، وبدنك نحيل، والعصب ثقيل، واللبن يستحيل، فثقلت له: والعظيم اعلجليل، المفضل المنيل، لا تركت منها كثيراً ولا قليلاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، فغضب علي فضربني عشرين مقرعة، فقلت:
ولي صاحب لا قدس الله روحه ... وكان من الخيرات غير قريب
أكلت عصيداً عنده في مضيرة ... فيالك من يوم علي عصيب
قال: ودخلت إليه يوماً آخر، فقدم إلي لوزينجاً لها أيام وقد حمضت، فأخذت أمعن في أكلها، فقال لي: إن اللوزينج إذا كان بالجوز أبشم وإذا كان باللوز أتخم، فقلت: نعم يا سيدي إذا كانت لوزينجاً، وأما إذا كانت مصوصاً فلا! وحدث عبد الله بن المعتز، قال: عربد ابن أبي العلاء على جحظة بحضرتي، فأمرت بتنحية جحظة إلى أن رضي أحمد، فكتب إلي جحة:
أليس من العجائب أن مثلي ... يقام لأحمد بن أبي العلاء
ولي نفس أبت إلا ارتفاعاً ... فأضحت كالسماء على السماء
لقد غضب الزمان على أناس ... فأبلاهم بأولاد الزناء
في تاريخ دمشق قال جحظة: سلمت على بعض الرساء وكان مبخلاً، فلما أردت الانصراف قال لي. يا أبا الحسن، إيش يقول في قطائف تأتيه؟ ولم يكن له بذلك عادة؟ فقلت: ما آبى ذلك، فأحضر لي جاماً فيه قطائف، قد خمت فأرجفت فيها، وصادفت مني سغبة، وهو ينظر إلي شزراً، فقال لي: يا أبا الحسن، إن القطائف إذا كانت بجوز أتخمتك، وإذا كانت بلوز أبشمتك، قال: فقلت: هذا إذا كانت قطائف، أما إذا كانت مصوصاً فلا. وعملت لوقتي هذه الأبيات:
دعاني صديق لي لأكل القطائف ... فأمعنت فيها آمناً غير خائف
فقال، وقد أوجعت بالأكل قلبه ... رويك، مهلاً، فهي إحدى المتالف
فقلت له: ما إن سمعنا بهالك ... ينادى عليه: يا قتيل القطائف
قال عبد الله بن المعتز: كتب إلي جحظة في يوم مطير: انصرفت من عندك - جعلني الله فداك - وقد كنا عقدنا موعداً للقاء، ومنعني من المصير إليك ما نحن فيه من انقطاع شريان الغمام، فتفضل ببسط العذر لعبدك، إن شاء الله.
ومن شعر جحظة:
وليل في جوانبه حران ... فليس لطول مدته انقضاء
عدمت مطالع الإصباح فيه ... كأن الصبح جود أو وفاء
وله أيضاً:
رحلتم فكم من أنة بعد زفرة ... مبينة للناس شوقي إليكم
وقد كنت أعتقت الجفون من البكا ... فقد ردها في الرق حزني عليكم
وحدث أبو الفرج الإصبهاني قال: دعاني محمد بن الشار يوماً، ودعا جحظة، وأطال حبس الطعام جداً، وجاع جحظة، فأخذ دواة وبياضاً وكتب:
مالي وللشار وأولاده ... لا قدس الوالد والوالده
قد حفظا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلا سورة المائده
ورمى بها إلي، فقرأتها، ودفعتها إلى ابن الشار، فقرأها، ووثب مسرعاً، فقدم المائدة، فقاطعه جحظة، فكان يجهد جهده أن يجيئه فلا يفعل، فإذا عاتبناه قال: والله حتى يحفظ تلك السورة.
وله أيضاً:
يطول علي الليل حتى أمله ... فأجلس والنوام في غفلة عني
فلا أنا بالراضي من الدهر فعله ... ولا الدهر يرضى بالذي ناله مني
قال أبو علي: حدثني أبو القاسم الحسين بن علي البغدادي، وكان أبوه ينادم ابن الحواري، ثم نادم اليزيديين بالبصرة، وأقام بها سنين، قال: كان جحظة خسيف الدين، وكان لا يصوم شهر رمضان، وكان يأكل سراً، فكان عند أبي يوماً في شهر رمضان مسلماً، فأجلسته، فلما كان نصف النهار سرق من الدار رغيفاً، ودخل المستراح، وجلس على المقعدة، واتفق أن دخل أبي فرآه فاستعظم ذلك وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: أفت لبنات وردان ما يأكلون، فقد رحمتهم من الجوع: ومن شعر جحظة:
إن كنت ترغب في الزيا ... رة عند أوقات لزياره
فدع الشتيمة للغلا ... م إذا دنت من الغضاره
ومن مطبوع شعر جحظة:
وإذا جفاني صاحب ... لم أستجز ما عشت قطعه

وتركته مثل القبو ... ر أزورها في كل جمعه
وحدث جحظة في أماليه: دخلت إلى عريب المأمونية مع شروين المغنى، وأبي العبيس المغنى، وأنا يومئذ غلام على قباء ومنطقة، وأنكرتني، وسألت عني، فأخبرها شروين، وقال لها: هذا فتى من أهلك، هذا ابن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي، وهو يغني بالطنبور، فأدنتني، وقربت مجلسي، ودعت بطنبور، وأمرتني أن أغني، فغنيت أصواتاً، فقالت: أحسنت يا بني، ولتكونن مغنياً، ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك، تعني بين عوديهما، وأمرت لي بمائة دينار.
وأنشد لنفسه في أماليه:
دعيني من العذل أين الكبير؟ ... بحرمة معبودك الأكبر
فلست بباك على ظاعن ... ولا طلل محول مقفر
ولكن بكائي على ماجد ... أراد نوالاً فلم يقدر
وأنشد فيه لنفسه:
مرضت فلم يعدني في شكاتي ... من الإخوان ذو كرم وخير
فإن مرضوا، وللأيام حكم ... سينفذ في الكبير وفي الصغير
غدوت على المدامة والملاهي ... وإن ماتوا حزنت على القبور
وأنشد فيه لنفسه:
يا راقداً، ونسيم الورد منتبه ... في ربقة القفص والأطيار تنتحب
الورد ضيف، فلا تجهل كرامته ... وهاتها قهوة في الكاس تلتهب
سقياً له زائراً تحيا النفوس به ... يجود بالوصل حيناً ثم يجتنب
تباً لحر رآه وهو ذو جدة ... لم يقض من حقه بالشرب ما يجب
وقد قال جحظة:
ناديت عمراً، وقد مالت بجانبه ... مدامة، أخذت بالراس والقدم
قد لاح في الدير نار الراهبين وقد ... ناداك بالصبح ناقوساهما، فقم
فقام يعثر في أثواب نعسته ... لبزل صافية كالنجم في الظلم
فاستلها، وشدا، والكأس في يده: ... سلم على الربع من سلمى بذي سلم
لو دام لي في الورى خل وعاتقة ... لما حفلت بذي قربى ولا رحم
ولا بكرت إلى حلو لنائله ... ولا التفت إلى شيء من النعم
حدث أبو علي المحسن بن محمد بن علي قال: كان الحسن بن مخلد أكرم الناس في بذل المال، وأبخلهم بطعامه، فكان يحضر ندماؤه على مائدته، فلا يستجرئ أحد منهم أن يشعب شيئاً البتة، وينزهون أنفسهم عند رفع المائدة بمسح أيديهم بلحاهم، وله في ذلك قصص عجيبة.

قال جحظة: ربحت بأكلة افتديتها مع الحسن ابن مخلد خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وخمسة أثواب فاخرة، وعتيدة طيبة سرية، فقيل له: كيف كان ذلك؟ فقال: كان الحسن بن مخلد بخيلاً على الطعام، سمحاً بالمال، وكان يأخذ ندماءه بغتة، فيسقيهم النبيذ، ويؤاكلهم فمن أكل قتله قتلا، ومن شرب معه على الخسف حظي عنده، قال: فكنت عنده يوماً، فقال لي: يا أبا الحسن، قد عملت غداً على الصبوح الجاشري فبت عندي، فقلت: لا يمكنني، ولكني أباكرك قبل الوقت، فعلى أي شيء عملت أن تصطبح؟ فقال: قد أعد لنا كذا وكذا، ووصف ما تقدم به إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي أن أباكره، وقمت وجئت إلى منزلي، ودعوت طباخي فتقدمت غليه بأن يصلح لي مثل ذلك بعينه، ويفرغ منه وقت العتمة، ففعل، ونمت، وقمت وقد مضى نصف الليل، فأكلت ما أصلح، وغسلت يدي وأسرج لي وأنا عامل على المضي إليه، إذ طرقتني رسله، فجئته، فقال. بحياتي أكلت؟ قلت. أعيذك بالله، انصرفت من عندك قبل الغروب، وهذا نصف الليل، فأي وقت أصلح لي شيء؟ أو أي وقت أكلت شيئاً؟ سل غلمانك على أي حال وجدوني، فقالوا. وجدناه يا سيدنا وقد لبس ثيابه، وهو ينتظر أن يفرغ له من إسراج بغلته ليركبها، فسر بذلك سروراً شديداً، وقدم الطعام، فما كان في فضل أشمه، فأمسكت عن تشعيبه ضرورة، وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحل دمي، قال: وكذا كانت عادته، فأقول: هو ذا آكل يا سيدي أفي الدنيا أحد يأكل أكثر من هذا؟ وانقضى الأكل، وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بأرطال، وهو يفرح، وعنده أنى أشرب على الريق، أو على ذلك الأكل الذي جلست معه، ثم أمرني بالغناء، فغنيت، فاستطاب ذلك، وطرب، وشرب أرطالاً، فلما رأيت النبيذ قد عمل فيه، قلت: يا سيدي تطرب أنت على غنائي، فأنا على أي شيء أطرب؟ فقال: يا غلام هات دواة، فأحضرها، فكتب لي رقعة ورمى بها غلي، وإذا هي على صيرفي يعامله بخمسمائة دينار، فأخذتها وشكرته، ثم غنيته، وطرب وزاد سكره، فطلبت منه ثياباً، فخلع علي خمسة أثواب، ثم أمر أن يبخر كل ما بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سرية فيها طيب كثير، فأخذ الغلمان يبخرون منها للناس، فلما انتهوا إلي، قلت: يا سيدي: وأنا أرضى أن أتبخر فحسب؟ فقال لي: ما تريد؟ قلت: أريد نصيبي من العتيدة، قال: قد وهبتها لك، فأخذتها، وشرب بعد ذلك رطلاً، واتكأ على مسورته، وكذا كانت عادته، إذا سكر، فقام الناس من مجلسه، وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت يبكر الناس في حوائجهم، فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم على قفا غلامي الثياب والعتيدة كلها، فصرت إلى منزيلي ونمت نومة، ثم ركبت إلى رب عون أريد الصيرفي، فأوصلت إليه الرقعة، فقال: يا سيدي أنت لارجل المسمى في التوقيع؟ قلت: نعم، قال: أنت تعلم أن مثلنا يعاملون للفائدة، قلت: أجل، قال: ورسمنا أن نعطى في مثل هذا ما يكسر في كل دينار درهماً، فقلت له: ليس أضايقك في هذا القدر، فقال: ما قلت هذا إلا لأربح عليك الكبير أيما أحب إليك: أن تأخذ كما يأخذ الناس، وهو ما قد عرفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر، حتى أفرغ من شغلي، ثم تركب معي إلى داري، فتقيم عندي اليوم والليلة تشرب، فقد والله سمعت بك، وكنت أتمنى أن أسمعك، ووقعتن الآن لي رخيصاً، فإذا فعلت هذا، دفعت إليك الدنانير من غير خسران، فقلت: أقيم عندك، فجعل الرقعة في كمه، وأقبل على شغله، فلما دنا الظهر، جاء غلامه ببغلة فارهة، فركب وركبت معه، وصرنا إلى دار سرية حسنة، بفاخر الفرش والآلات، ليس فيها إلا جوار روم للخدمة من غير فحل، فتركني في مجلسه، ودخل، ثم خرج بثياب أولاد الخلفاء من حمام داره، وتبخر وبخرني بيده بند عتيق جيد، وأكلنا أسرى الطعام وأنظفه، وقمنا إلى مجلس سري للشرب، فيه فواكه وآلات بمال، وشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده أطيب من أختها عند الحسن بن مخلد، فلما أصبحنا، أخرج كيسين، في أحدهما دنانير، وفي الأخرى دراهم، فوزن خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وقال: يا سيدي تلك ما أمرت به، وهذه الدراهم هدية مني إليك، فأخذتها وصار الصيرفي صديقي، وداره لي.

قال: وحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي قال: حدثني أبو لعي بن الأعرابي الشاعر قال: كنت في دعوة جحظة، فأكلت، وجلسنا نشرب، وهو يغني، إذ دخل رجل فقدم إليه جحظة زلة كان زلها من طعامه ونحن نأكل، وكان بخيلاً على الطعام، قال: وكأن الرجل كان طاوياً، طاوى تسع، فأتى على الزلة، ورفع الطيفورية فارغة، وجحظة يرمقه ونحن نلمح جحظة، ونضحك، فلما فرغ، قال له جحظة: تلعب معي بالنرد قال: نعم، فوضعاه بينهما، ولعبا، فتوالى اللعب على جحظة من الرجل بأن تجيء الفصوص على ما يريد من الأعداد ويكره جحظة، فأخرج جحظة رأسه من قبة الخيش رافعاً له إلى السماء، وقال كأنه يخاطب الله جل وعز: لعمري إني أستحق هذا، لأني أشبع من أجعته.
قلت: ما أشد تباعد ما بين هببذين الخبرين، وخبر رواه التنوخي أيضاً عن أبي العباس بن المنم، قال. سمعت أبا عبد الله الموسوي العلوي يقول: قصدني أبو جعفر محمد بن يحيى شيرزاد، في أيام تدبيره الأمر، قصداً قبيحاً، وعمل لي كتابة مؤامرة في خراجاتي بمائة ألف درهم، أكثرها واجب وباقيها كالواجب، وأحضرني للمناظرة. عليها، واعتقلني في داره، فضقت ذرعاً بما نزل بي وعلمت أن المال سيلزمني إذا نوظرت، وأنه يؤثر في حالي، ويهتك جاهي، فلم أدر ما أصنع، فشاورت بعض من يختص به، فقال: طمعه فيك والله قوي، وما يفعل معه بشيء غير المال، فقلت له: ففكر في حيلة أو مخادعة، ففكر ثم قال: لا أعرف لك دواء إلا شيئاً واحداً إن سمحت به نفسك وتركت العلوية عنك وفعلت نجوت، قلت. ما هو، قال: هو رجل سمح على الطعام، محب لأكلة مائدته، موجب لحرمته، وأرى لك، إذا وضع طعامه، أن تخرج إليه، فإنك معه في الدار، ولا يمنعك الموكلون من ذلك، فتجيء بغير إذن، فتجلس على المائدة، وتأكل وتنبسط وتخاطبه في أمرك عقيب الأكل، وتسأله، وترفق به، وتخضع له، فإنه يسامحك بأكثرها، ويقرب ما بينك وبينه، فشق ذلك علي، ثم نظرت، فإذا وزن المال أشق منه، وكان أبو جعفر لا يأكل إلا بعد المغرب في كل يوم أكلة، فلم آكل ذلك اليوم شيئاً، وراعيت مائدته، فلما وضعت، قمت، فقال الموكلون: إلى أين؟ قلت. إلى مائدة الوزير، فما قدروا أن يمنعوني، فلما رأى أبو جعفر، أكبر ذلك وتهلل وجهه وقال. ألا عندي يا سيدي، وأجلسني إلى جنبه، فأقبلت آكل وأنبسط في الأكل والحديث، إلى أن رفعت المائدة واستدعاني إلى موضعه، فغسلت يدي بحضرته، فلما فرغت، أردت أن أبتدئه بالخطاب، فقال لي: قد آذيتك يا سيدي، يا أبا عبد الله، بتأخرك عن منزلك، فامض إلى بيتك، وما أخاطبك بشيء مما في نفسي، ولا مما أردت مخاطبتك به، ولا مطالبة عليك من جهتي، بعد ما تفضلت به، فشكرته، وقلت: إن رأى سيدنا، أيده الله، أن يتمم معروفه بتسليم المؤامرة إلي، فقال: هاتموها، فما برحت إلا وهي في خفي، وانصرفت إلى منزلي وقد سقط المال ني، ولزمته للسلم، وصرت أتعمد مؤاكلته، والتخصص به، فسلمت طول أيامه، وسلم جاهي ومالي علي، إلى أن مضى لسبيله.
قلت: هذا حسن من فعله، مع عسف كان فيه بالرعية في جباية المال، لم يسبق إليها، ولا تبعه بعده أحد في مثلها، فكانت له أفعال منكرة منها: أنه استدعى العيارين وضمنهم ما يسرقونه من أموال الناس وكتب جحظة إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله المشمعي، وكان قائداً جليلاً، تقلد البصرة وفارس:
إليك أبا إسحاق مني رسالة ... تزين الفتى، إن كان يعشق زينه
لقد كنت غضباناً على الدهر زاريا ... عليه، فقد أصلحت بيني وبينه
وكان أبو إسحاق هذا أديباً شاعراً، ومن شعره:
ألا طف من أجله أهله ... وكل إلي حبيب قريب
وأسأل عن غيره قبله ... لأبطل ظن الذي يستريب
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
قد نلتم صحة، ما نالها بشر ... وحزتم نعمة ما نالها ملك
فليت شعري أمقدار تعمدكم ... بما أتاكم به، أم وسوس الفلك
وأنشد جحظة في أماليه:
يا من دعاني وفر مني ... أخلفت والله حسن ظني
قد كنت أرضى بخبز رز ... ومالح أو قليل بن
وسكرة من نبيذ دبس ... أقام يوماً بعقر دن
فكيف يغلو بما ذكرنا ... مساعد شاعر مغني

وحدث جحظة في أماليه قال: كنت أشرب عند بعض إخواني بباب حرب في ناعورة ثابت في يوم مطر، ومعنا شيخ خضيب حسن البرة متصدر، فتجارينا ذكر المطر، وما جاء فيه من الخبر، فقال الشيخ: حدثوا يا سيدي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، أبا بكر وأبا حفص وعلى النبيين السريين منكر ونكير وعلى عمرو بن العاضي قاتل الكفار يوم غدير خم وصاحب راية النبي يوم القطائف - يريد يوم الطائف - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومحا ملك يتبحا حتى يضحا في موضحا ثم يصعد ويدحا فقلت: يا شيخ فالقطر يقع في الكنيف، والملك ينزل معه قال: نعم يا سيدي فيهم ما في الناس من الدناءة والخسة.
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
قالت أعاليه الصلب ... لما تثنى واضطرب
أترى جنيت جناية؟ حتى صلبت على الخشب قال جحظة في أماليه: استهديت من بعض إخواني دواة فأخرها عني، ثم اجتمعنا في مجلس أبي العباس ثعلب، فقلت لأبي العباس: ما أراد الشاعر بقوله:
أحاجيك: ما قبر عديم ترابه ... به معشر موتى وإن لم يكفنوا
سلوت عن التبيان مدة قبرهم ... فإن نبشوا يوماً من الدهر بينوا
فسكت ساعة، ثم قال: الدواة، فلما انصرفت إلى منزلي إذا الدواة قد سبقتني إليه.
قال جحظة: دعوت فضيلاً الأعرج، وكان عندنا جماعة فكتب إلينا:
أنا في منزلي، وقد رزق الل ... ه نديماً ومسمعاً وعقارا
فاعذروني بأن تخلفت عنكم ... شغل الحلي أهله أن يعارا
ومثله لغيره:
حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعد أن نوم الكرى السمارا
داعياً في الوصال تحت دجى اللي ... ل عيوناً عن الوصال سهارى
قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال: إنا كما عهدت، ولكن ... شغل الحلي أهله أن يعارا
قال جحظة: وسألت الحسن بن مخلد حاجة، فقال: إذا كان بعد ثلاث عرفتك، فقلت: يا سيدي تعدني أن تعدني.
قال جحظة في أماليه: كنت جالساً عند صديق لي، فجاءه رقعة من منزله، فلما نظر فيها ضرط، فحادثته ساعة واعتقلته وأخذتها، وإذا فيها: قد فني الدقيق وغدا الخبزة.
وأنشد لنفسه في أماليه يقول:
يقول لي مالكي، والدمع منحدر ... لا خفف الله رب العرش بلواكا
وإن دعوت إليه عند معتبة، ... يقول قلبي له في السر: حاشاكا
وأنشد أيضاً لنفسه في أماليه:
ما أنصفتني يد الزمان ولا ... أدركني غير حرفة الأدب
لا حفظ الله، حيثما سلكت ... أمي، وأير الحمار في أست أبي
ما تركا درهماً أصون به ... وجهي يوماً عن ذلة الطلب
أحمد بن جميل بن الحسن بن جميل أبو منصورأديب أريب، فاضل كامل، له يد باسطة في النظم والنثر، وهو من أهل بغداد، وكان يسكن باب الأزج.
ذكره أبو الفرج بن الجوزي، في مذيله على صدقة ابن الحسن، فقال: كانت له معرفة بالأدب جيدة، وله كتاب مقامات حذو الحريري، وله فضل.
ومات في شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
أحمد بن حاتم أبو نصر الباهليصاحب الأصمعي، روى عن الأصمعي كتبه، وقال أبو العباس محمد بن أحمد القمري الإسكافي النحوي. كان أبو نصر ابن أخت الأصمعي، وقال أبو الطيب في كتاب مراتب النحويين: زعموا أن أحمد بن حاتم كان ابن أخت الأصمعي، وليس هذا بثبت، رأيت أبا جعفر بن باسوه ينكره، وكان أثبت من عبد الرحمن، يعني ابن أخت الأصمعي، واسن، وكان يضيق على ابن الأعرابي وقد أخذ عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد، وأقام ببغداد، وربما حكى الشيء بعد الشيء عن أبي عمرو الشيباني، ومات، فيما ذكره هو وأبو عبد الله ابن الأعرابي وعمرو بن عمرو الشيباني في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقد نيف على السبعين.

وحدث المرزباني عن أبي عمر الزاهد قال: قال ثعلب دخلت على يعقوب بن السكيت، وهو يعمل إصلاح المنطق فقال، يا أبا العباس، رغبت عن كتابي، فقلت له كتابك كبير وأنا عملت الفصيح للصبيان، ثم قال سر معي إلى أبي نصر صاحب الأصمعي، فمضيت معه فلما كنا في الطريق قال: قد سألت أبا نصر عن بيت شعر فأجابني جواباً لم أرضه، أفأعيده عليه؟ فقلت: لا تفعل فإن عنده أجوبة، وقد أجابك ببعضها، فلما دخلت عليه سأله عن البيت، فقال له: يا مؤاجر أنت وهذا وأنا قريبك حتى رموني بك، عندي عشرون جواباً في هذا، وخجل من ذلك، وخرجنا، فقلت له: لا مقام لك هاهنا، اخرج من سر من رأى، واكتب إلي بما تحتاج إليه لأسأل عنه وأعرفك إياه.
وحكي عن الأصمعي أنه كان يقول: ما يصدق علي إلا أبو نصر، وكان ثقة مأموناً.
ولأبي نصر من التصانيف: كتاب الشجر والنبات، كتاب اللبإ واللبن، كتاب الإبل، كتاب أبيات المعاني كتاب اشتقاق الأسماء، كتاب الزرع والنحل، كتاب الخيل كتاب الطير. كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الجراء.
وذكره حمزة في كتاب إصبهان، قال: ولما أقدم الخصيب بن أسلم أبا محمد الباهلي صاحب الأصمعي إلى إصبهان، نقل معه مصنفات الأصمعي، وأشعار شعراء الجاهلية والإسلام مقروءة على الأصمعي، وكان قدومه إصبهان بعد سنة عشرين ومائتين فأقام أشهراً، ثم تأهب منها للحج، فدخل إلى عبد الله بن الحسن، وسأله أن يدله على رجل يسلم إليه دفاتره إلى أن يرجع، فقال له عليك بمحمد بن العباس، وكان مؤدب أولاد عبد الله بن الحسن، مقبول القول، فسلم الباهلي إليه دفاتره، وخرج، فأنسخها محمد بن عبد الله الناس، فقدم الباهلي وقامت قيامته، ودخل إلى عبد الله بن الحسن، وذكر له ما كان يأمل في دفاتره من التكسب بها، فجمع له عبد الله بن الحسن من أهل البلد عشرة آلاف درهم، ووصله الخصيب بعشرين ألفاً، فتناولها ورجع إلى البصرة.
الجزء الثالث
أحمد بن الحارث بن المبارك الخزازأبو جعفر، راوية أبي الحسن المدائني، والعتابي، كان راوية مكثراً، موصوفاً بالثقة، وكان شاعراً، وهو من موالي المنصور، ومات الخزاز، فيما ذكره قانع، ورواه المرزباني عنه، في ذي الحجة سنة سبع وخمسين ومائتين، وكان ينزل في باب الكوفة، فدفن في مقابرها، وقيل: مات في سنة تسع وخمسين.
وذكره المرزباني في المقتبس: فقال: حدثني علي بن هارون، قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد، بن طاهر، عن أبيه، عن محمد بن صالح، بن النطاح، مولى هاشم عن أبيه، قال: طلب المنصور رجالاً يجعلهم بوابين له، فقيل له: لا يضبطهم إلا قوم لئام الأصول، أنذال النفوس، صلاب الوجوه، ولا تجدهم إلا في رقيق اليمامة، فاشترى له مائتي غلام من اليمامة، فصير بعضهم بوابين، وبقي الباقون، فكان ممن بقي خلاد، جد أبي العيناء محمد بن القاسم بن خلاد، وحسان جد إبراهيم بن عطار، جد أحمد بن الحارث الخزاز.
وقال المرزباني: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني الحسين بن إسحاق، قال: أنشدت أحمد بن الحارث شعراً للبحتري، فعاب منه شيئاً، فبلغ البحتري، فقال:
الحمد لله على ما أرى ... من قدر الله الذي يجري
ما كان ذا العالم من عالمي ... يوماً ولا ذا الدهر من دهري
يعترض الحرمان في مطلبي ... ويحكم الخزاز في شعري
وروى محمد بن داود، لأحمد بن الحارث، في إبراهيم ابن المدبر، وحاجبه بشر:
وجه جميل وصاحب صلف ... كذاك أمر الملوك يختلف
فأنت تلقى بالبشر واللطف ... وبشر يلقاهم به جنف
يا حسن الوجه والفعال ويا ... أكرم وجه سما به شرف
ويا قبيح الفعال بالحاجب ال ... غث الذي كل أمره نطف
فأنت تبني وبشر يهدمه ... والمدح والذم ليس يأتلف
وذكر أبو بكر الخطيب، فقال: كان الخزاز ذا فهم ومعرفة، صدوقاً، أسمع المدائني كتبه كلها، وهو بغدادي، روى عنه السكري، وابن أبي الدنيا، وغيرهما. وكان كبير الرأس، طويل اللحية كبيرها، حسن الوجه، كبير الفم ألثغ، خضب قبل موته لسنة خضاباً قانئاً، فسئل عن ذلك، فقال: بلغني أن منكراً ونكيراً، إذا حضرا ميتاً فرأياه خضيباً، قال منكر لنكير: تجاف عنه.
ومن سائر شعره قوله:

إني امرؤ لا أرى بالباب أقرعه ... إذا تنمر دوني حاجب الباب
ولا ألوم امرأ في رد ذي شرف ... ولا أطالب ود الكاره الآبي
ولما قتل بغا التركي باغر التركي، وهاجت الأتراك على المستعين بالله، وخافهم، وانحدر من سر من رأى إلى بغداد، في سنة إحدى وخمسين إلى مائتين في المحرم، قال أحمد بن الحارث:
لعمري لئن قتلوا باغراً ... لقد هاج باغر حرباً طحوناً
وفر الخليفة والقائدا ... ن بالليل يلتمسون السفينا
وحل ببغداد قبل الشروق ... فحل بهم منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ... وغرقها الله والراكبينا
هي قصيدة يذكر فيها الحرب وصفتها.
وقال أحمد بن الحارث، في بشر حاجب إبراهيم ابن المدبر:
قد تركناك لبشر ... وتركنا لك بشرا
وذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه، وقال: له من الكتب: كتاب المسالك والممالك. كتاب أسماء الخلفاء، وكتابهم، والصحابة. كتاب مغازي البحر في دولة بني هاشم، وذكر أبي حفص صاحب أقريطش. كتاب القبائل. كتاب الأشراف. كتاب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كتاب أبناء السراري. كتاب نوادر الشعراء. كتاب مختصر كتاب البطون. كتاب مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وأزواجه. كتاب أخبار أبي العباس. كتاب الأخبار والنوادر. كتاب شحنة البريد. كتاب النسب. كتاب الحلائب والرهان. كتاب جمهرة نسب الحارث بن كعب، وأخبارهم في الجاهلية.
أحمد بن الحسنالسكوتيبن إسماعيل أبو عبد الله السكوتي الكندي النسابة، كان له اختصاص بالمكتفي، ثم بالمقتدر.
ذكره أبو الحسن، محمد بن جعفر بن النجار، الكوفي، في تاريخ الكوفة، وقال: إنه كان ممن أخذ عن ثعلب الأدب، وكان مليح المجلس، حسن الترسل، ممكناً من نفسه، هذا لفظ ابن النجار بعينه.
وحكى ابن النجار، عن أبي عبد الله قال: قال ابن عبدة النساب: ما عرف النساب أنساب العرب على حقيقة، حتى قال الكميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره، فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها.
قال أبو عبد الله: فلما سمعت هذا، جمعت شعره، فكان عوني على التصنيف لأيام العرب.
ورأيت أنا لأبي عبد الله كتاباً في أسماء مياه العرب، ونقلته غير تام:
أحمد بن الحسن، بن القاسم،
بن الحسن، أبو علي أبو بكر، يلقب الفلكي، جد أبي الفضل الفلكي الحافظ الهمذاني.
قال شيرويه: روى عن الحسن بن الحسين التميمي، وأبي الحسن، علي بن الحسن، بن سعد البزاز، وأبي بكر، عمر بن سهل الحافظ، روى عنه ابناه أبو عبد الله الحسين، وأبو الصقر الحسن.
قال: وكان إماماً جامعاً في كل فن، عالماً بالأدب، والنحو، والعروض، وسائر العلوم، وخصوصاً في علم الحساب، فإنه كان يقال له: الحاسب، ولذلك لقب بالفلكي، وكان هيوباً، ذا حشمة ومنزلة عند الناس. مات في ذي القعدة، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
أحمد بن الحسن، بن محمد، بن اليمانابن الفتح، الديناري، أبو عبد الله، رجل أديب، إلا أن الغالب عليه الحط، وذكرنا له، إنما هو لحسن خطه، الذي بلغ فيه الغاية.
وقال أبو الوزير عميد الدولة، أبو سعد بن عبد الرحيم، في أخبار ابنه عبد الجبار، بن أحمد: وكان والده أبو عبد الله الديناري مقدماً مكرماً، يزور بحسن خطه على أبي عبد الله بن مقلة، تزويراً لا يكاد يفطن له، وله ولد أديب، يقال له: أبو يعلى عبد الجبار، ذكر في بابه.
أحمد بن الحسين، يعرف بابن شقيرأبو بكر، هو أحمد بن الحسين، بن العباس، بن الفرج، النحوي، أخذ عن أحمد بن عبيد بن ناصح، وكان مشهوراً برواية كتب الواقدي، عن أحمد بن عبيد عنه. ومات في صفر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، في خلافة المقتدر، وهو في طبقة أبي بكر بن السراج، وله تصانيف، منها: كتاب مختصر في النحو. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث.
قرأت في كتاب ابن مسعدة: أن الكتاب الذي ينسب إلى الخليل، ويسمى الجمل، من تصانيف ابن شقير هذا. قال: يقول فيه: النصب على أربعين وجهاً.
أحمد بن الحسين بن مهران المقرئأبو بكر النيسابوري، قال الحافظ أبو القاسم: أصله من أصبهان، سكن نيسابور.

قال الحاكم: هو إمام عصره في القراءات، وأعبد من رأينا من القراء، وكان مجاب الدعوة. مات في السابع والعشرين من شوال، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وهو يوم مات ابن ست وثمانين سنة، وصلينا عليه في ميدان الطاهرية، وتوفي في ذلك اليوم، أبو الحسن العامري، صاحب الفلسفة.
قال الحاكم: فحدثني عمر بن أحمد الزاهد، قال: سمعت الثقة من أصحابنا، يذكر أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن مهران - رحمه الله - في المنام، في الليلة التي دفن فيها، قال: فقلت. أيها الأستاذ ما فعل الله بك؟ فقال: إن الله عز وجل، أقام أبا الحسن العامري بحذائي، وقال: هذا فداؤك من النار.
ثم ذكر الحاكم بإسناد رفعه إلى أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة، أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار، فيقول: هذا فداؤك من النار " . وهذا الخبر إذا قرن بالرؤيا، صار من براهين الشرع.
قال الحاكم: سمع ابن مهران بنيسابور، أبا بكر بن محمد، بن إسحاق، بن خزيمة، وأبا العباس السراج الثقفي، وأبا العباس الماسرجسي. وله من التصانيف: كتاب الشامل، كتاب الغاية، كتاب قراءة أبي عمرو، كتاب غرائب القرآن، كتاب وقوف القرآن، كتاب الانفراد، كتاب شرح المعجم، كتاب شرح التحقيق، كتاب اختلاف عدد السور، كتاب رؤوس الآيات، كتاب الوقف والابتداء، كتاب قراءة عبد الله بن عمرو، كتاب علل كتاب المبسوط، كتاب آيات القرآن، كتاب الاتفاق والانفراد، كتاب المقطع والمبادئ.
قال الحاكم: سمعت أبا بكر بن مهران يقول: قرأت على أبي علي، محمد بن أحمد، بن حامد، الصفار المقرئ، القرآن من أوله إلى آخره، وقال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، على أبي بكر، محمد بن سليمان، بن موسى الهاشمي ببغداد، قال: قرأت على قنبل بن عبد الرحمن، بن محمد ابن خالد، بن سعيد، بن خرجة المكي. وقال: قرأت على أبي الحسن النبال، وأخبرني أنه قرأ على ابن الإخريط وهب بن واضح، وقرأ ابن الإخريط، على إسماعيل بن عبد الله، بن قسطنطين، وقرأ ابن قسطنطين، على شبل بن عباد، ومعروف بن مسكان، فأخبراه أنهما قرأا على عبد الله بن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحاكم: ومحمد بن الحسين، بن مهران الأديب، الفقيه الكاتب، أخو أبي بكر، سمع عبد الله بن شيرويه وأقرانه، وسمع الكتب من أبي بكر، محمد بن إسحاق، ابن خزيمة وأقرانه. ومات في شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن نيف وثمانين سنة.
أحمد بن أبي خالد، أبو سعيد الضريرالبغدادي، رأيت في فوائد أبي الحسين، أحمد بن فارس، بن زكريا اللغوي، صاحب كتاب المجمل ما صورته: وجدت في تفسير أبي موسى، محمد بن المثنى العنزي، ولم أسمعه، حدثني أبو معاوية الضرير، محمد بن حازم، حدثنا إسماعيل، روى عن أبي صالح، هكذا أسماه، وقد سماه السلامي، كما ذكرناه في الترجمة، والذي ترجمناه أصح، لأني رأيته في مواضع أخر موافقاً له، والله أعلم.
قال الأزهري: كان طاهر بن عبد الله، بن طاهر، استقدمه من بغداد إلى خراسان، وقام بنيسابور وأملى بها المعاني، والنوادر، ولقي أبا عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، وكان يلقي الأعراب الفصحاء، الذين استوردهم ابن طاهر نيسابور، فيأخذ عنهم، وكان شمر، وأبو الهيثم يوثقانه.
ونقلت من كتاب نتف الطرف، تأليف أبي علي الحسين، بن أحمد السلامي، صاحب كتاب ولاة خراسان، وقد ذكرناه في بابه، قال: خرج أبو سعيد الضرير، عن أبي عبيد، من غريب الحديث جملة مما غلط فيه، وأورد في تفسيره فوائد كثيرة، ثم عرض ذلك على عبد الله بن عبد الغفار، وكان أحد الأدباء، فكأنه لم يرضه، فقال لأبي سعيد: ناوني يدك، فناوله يده، فوضع الشيخ في كفه متاعه، وقال: اكتحل بهذا يا أبا سعيد، حتى تبصر، فكأنك لا تبصر، ثم قال: سمعت أبا جعفر، محمد بن سليمان الشرمقاني قال: سمعت أبا سعيد الضرير يقول، كان يقال: إذا أردت أن تعرف خطأ أستاذك فجالس غيره، وله تصانيف: منها كتاب الرد على أبي عبيد في غريب الحديث، وكتاب الأبيات.

قال السلامي: حدثني أبو العباس، محمد بن أحمد الغضاري، قال: حدثني عمي محمد بن الفضل، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة، قال: لما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور، وأقدم معه جماعة من فرسان طرسوس وملطية، وجماعة من أدباء الأعراب، منهم عرام، وأبو العميثل، وأبو الميسجور، وأبو العجنس، وعوسجة، وأبو الغدافر وغيرهم، فتفرس أولاد قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرج أبو سعيد الضرير، واسمه أحمد بن خالد، وكان وافى نيسابور مع عبد الله ابن طاهر، فصار بهم إماماً في الأدب، وقد كان صحب بالعراق أبا عبد الله، محمد بن زياد الأعرابي، وأخذ عنه، فبلغ ابن الأعرابي، أن أبا سعيد يروى عنه أشياء كثيرة مما يفتي فيه، فقال لبعض من لقيه من الخراسانية: بلغني أن أبا سعيد يروي عني أشياء كثيرة، فلا تقبلوا منه ذلك، غير ما يرويه من أشعار العجاج ورؤبة، فإنه عرض ديوانهما علي وصححه.
وحدث عن الغضاري، عن عمه قال: اختصم بعض الأعراب اللذين كانوا مع عبد الله بن طاهر، في علاقة بينهم إلى صاحب الشرطة بنيسابور، فسألهم بينة وشهوداً يعرفون، فأعجزهم ذلك: فقال أبو العيسجور:
إن يبغ منا شهوداً يشهدون لنا ... فلا شهود لنا غير الأعاريب
وكيف يبغي بنيسابور معرفة ... من داره بين أرض الحزن واللوب
قرأت بخط عبد السلام الصري، في كتاب محمد بن أبي الأزهر. قال: حدثني وهب بن إبراهيم، خال عبيد الله، بن سليمان ابن وهب، قال: كنا يوماً بنيسابور في مجلس أبي سعيد العفوف، وكان أبو سعيد عالماً باللغة جداً، إذ هجم علينا مجنون من أهل قم، فسقط على جماعة من أهل المجلس، فاضطرب الناس لسقطته، ووثب أبو سعيد، لا يشك أن آفة لحقتنا من سقوط جدار، أو شرود بهيمة، فلما رآه المجنون على تلك الحال، قال: الحمد لله رب العالمين، على رسلك، يا شيخ لا ترع، آذاني هؤلاء الصبيان، وأخرجوني عن طبعي، إلى ما لا أستحسنه من غيري، فقال أبو سعيد: امتنعوا عنه عافاكم الله، فوثبنا وشردنا من كان ورجعنا، فسكت ساعة لا يتكلم، إلى أن عدنا إلى ما كنا فيه من المذاكرة، وابتدأ بغضنا بقراءة قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي، حتى بلغ قوله:
غلامان خاضا الموت من كل جانب ... فآبا ولم يعقد وراءهما يد
متى يلقيا قرناً فلا بد أنه ... سيلقاه مكروه من الموت أسود
فما استتم هذا البيت حتى قال: قف يا أيها القارئ، تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه، ما معنى قوله: ولم وراءهما يد؟ فأمسك من حضر عن القول، فقال: قل يا شيخ، فإنك المنظور إليه، والمقتدى به، فقال أبو سعيد: يقول: إنهما رميا بأنفسهما في الحرب أقصى مراميها، ورجعا موفورين لم يؤسرا، فتعقد أيديهما كتفاً، فقال: يا شيخ، أترضى لنفسك بهذا الجوب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال أبو سعيد: هذا الذي عندنا، فما عندك؟ فقال: المعنى يا شيخ، آبا، ولم تعقد يد بمثل فعلهما بعدهما، لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد، كما قال الشاعر:
قرم إذا عدت تميم معاً ... ساداتها عدوه بالخنصر
ألبسه الله ثياب الندى ... فلم تطل عنه ولم تقصر
أي خلقت له، وقريب من الأول قوله:
قومي بنو مذحج من خير الأمم ... لا يصعدون قدماً على قدم
يعني أنهم يتقدمون الناس، ولا يطئون على عقب أحد، وهذان فعلا ما لم يعطه أحد، فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمر وجهه، واستحيا من أصحابه، ثم غطى المجنون رأسه، وخرج وهو يقول: يتصدرون ويغرون الناس من أنفسهم، فقال أبو سعيد بعد خروجه: اطلبوه، فإني أظنه إبليس، فطلبناه فلم نظفر به.
قال الشافعي: حدثني أبو جعفر الشرمقاني قال: كان أبو سعيد الضرير مثرياً ممسكاً، لا يكسر رأس رغيف له، إنما يأكل عند من يختلف إليهم، لكنه كان أديب النفس، عاقلاً.

حضر يوماً مجلس عبد الله بن طاهر، فقدم إليه طبق عليه قصب السكر، وقد قشر وقطع كاللقم، فأمره عبد الله ابن طاهر أن يتناول منه، فقال أبو سعيد: إن لهذا لفاظة ترتجع من الأفواه، وأنا أكره ذلك في مجلس الأمير، - أيده الله - فقال عبد الله: تناول، فليس بصاحبك من احتشمك واحتشمته، أما إنه لو قسم عقلك على مائة رجل، لصار كل رجل منهم عاقلاً، وقيل: إن هذا الكلام جرى بين الضرير، وبين أبي دلف في مجلسه. وحدث قال: حدثني الغضاري قال: كان أبو سعيد الضرير، يختار المؤدبين لأولاد قواد عبد الله بن طاهر، ويبين مقدار أرزاقهم، ويطوف عليهم، ويتعهد من بين أيديهم من أولئك الصبيان، فاستقبله يوماً في ميدان الحسين بعض أولئك المؤدبين، فقال له: يا فلان، من أين وجهك؟ قال: من شاذياخ. قال زد فيه ألفاً ولاماً، فقال من شاذيا خال، فقال أبو سعيد: اللهم غفراً، زدهما في أول الحرب، ويلك، فقال: ألف لام شاذياخ، فقال صم صداك، كم رزقك؟ قال سبعين درهماً، فقال: يصرف ويبدل به غيره، وهو صاغر صد.
وحدث الحاكم في كتاب نيسابور: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبي يقول: لما قلد المأمون عبد الله بن طاهر ولاية خراسان، سنة سبع عشرة ومائتين، وناوله العهد بيده قال: حاجة يا أمير المؤمنين، قال: مقضية، قال: يسعفني أمير المؤمنين في استصحاب ثلاثة من العلماء، قال: من هم؟ قال: الحسين ابن الفضل البجلي، وأبو سعيد الضرير، وأبو إسحاق القرشي. فأجابه إلى ذلك، فقال عبد الله: وطبيب يا أمير المؤمنين، فليس في خراسان طبيب حاذق. قال: من؟ قال: أيوب الرهاوي. فقال يا أبا العباس: لقد أسعفناك بما التمسته. قود أخليت العراق من الأفراد، قال: فقدم الحسن بن الفضل بنيسابور، وابتاع بها داراً مشهورة بباب غزرة، فبقي يعلم الناس العلم، ويفتي، إلى أن مات في شعبان، سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وهو ابن مائة سنة وأربع سنين، ودفن في مقبرة الحسين ابن معاذ، قال: ولو كان في بني إسرائيل لكان من عجائبهم، يعني الحسين بن الفضل. ذكر ذلك كله في ترجمة الحسين بن الفضل.
قرأت بخط الأزهري من كتاب نظم الجمان للمنذري، سمعت أبا عبد الله المعقلي المزني يقول: سمعت أبا سعيد الضرير يقول: كنت أعرض على ابن الأعرابي أصول الشعر، أصلاً أصلاً، وعرض عليه - وأنا أحضر - شعر الكميت في المجالس التي كان يحضرها، قال: فحفظته بعضره، وحفظت النكت التي أفاد فيها، فقال لي ابن الأعرابي يوماً: لم تعرض عليّ فيما عرضت شعر الكميت، فقلت له: عرضه عليك فلان فحفظته بعرضه، وحفظت ما أفدت فيه من الفوائد والنكت والمعاني، وجعلت أنشده، وأعرفه من تلك النكت، فعجب.
وقال أبو سعيد الضرير: سألني أبو دلف عن بيت امرئ القيس:
كبكر المقاناة البياض بصفرة
قال: أخبرني عن البكر، هي المقاناة أم غيرها؟ قال: قلت هي هي: قال: أفيضاف الشيء إلى صفته؟ قلت: نعم، قال: وأين؟ قلت: قد قال الله تعالى: " ولدار الآخرة " فأضاف الدار إلى الآخرة، وهي هي بعينها، والدليل على ذلك، أنه قال في سورة أخرى: " وللدار الآخرة " قال: أريد أشفى من هذا؟ فأنشدته لجرير:
يا ضب إن هوى القيون أضلكم ... كضلال شيعة أعور الدجال
أحمد بن داود بن وتندأبو حنيفة الدينوري، أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر أخذه عن ابن السكيت. وكان نحوياً لغوياً، مهندساً منجماً حاسباً، راوية ثقة فيما يرويه ويحكيه. مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وجدت ذلك على ظهر كتاب النبات من تصنيفه، ووجدت في كتاب عتيق: مات أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوري. قبل سنة تسعين ومائتين، ثم وجدت على ظهر النسخة التي بخط ابن المسبح، بكتاب النبات، من تصنيف أبي حنيفة، توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، ليلة الاثنين، لأربع بقين من جمادى الأولى، سنة ثمانين ومائتين، ووجدت في كتاب الوفيات، لأبي عبد الله محمد بن سفيان بن هارون، بن بنت جعفر، بن محمد الفريابي البغدادي، مات أبو حنيفة أحمد بن داود، بن وتند، صاحب كتاب النبات، في سنة إحدى وثمانين ومائتين.

قال أبو حيان في كتاب تقريظ الجاحظ: ومن خطه الذي لا أرتاب فيه نقلت، قال: قلت لأبي محمد الأندلسي، يعني عبد الله بن حمود الزبيدي، وكان من عدد أصحاب السيرافي، وله في هذا الكتاب ذكر، قد اختلفت أصحابنا في مجلس أبي سعيد السيرافي، في بلاغة الجاحظ، وأبي حنيفة صاحب النبات، ووقع الرضا بحكمك، فما قولك؟ فقال أنا أحقر نفسي عن الحكم لهما وعليهما، فقال: لابد من قول. قال: أبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأغرب، وأدخل في أساليب العرب، قال أبو حيان: والذي أقول وأعتقد وآخذ به، وأسنهم عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر ثلاثة: لو اجتمع الثقلان على تقريظهم، ومدحهم، ونشر فضائلهم، في أخلاقهم وعلمهم، ومصنفاتهم ورسائلهم، مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها، لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم: هذا الشيخ، الذي أنشأنا له هذه الرسالة، وبسببه جشمنا هذه الكلفة، أعني أبا عثمان، عمرو بن بحر. والثاني: أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة، وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم، وهذا كلامه في الأنواء، يدل على حظ وافر من علم النجوم، وأسرار الفلك، فأما كتابه في النبات فكلامه فيه، في عروض كلام آبدي بدوي، وعلى طباع أفصح عربي، ولقد قيل لي: إن له في القرآن كتاباً، يبلغ ثلاثة عشر مجلداً، ما رأيته، وإنه ما سبق إلى ذلك النمط، هذا مع ورعه وزهده، وجلالة قدره، وقد وقف الموفق عليه، وسأله وتحفى به. والثالث: أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، فإنه لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يظن أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر، ومن تصفح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وفي كتاب اختيار السير، وفي رسائله إلى إخوانه، وجوابه عما يسأل عنه، ويبده به، علم أنه بحر البحور، وأنه عالم العلماء، وما رئي في الناس، من جمع بين الحكمة والشريعة سواه، وإن القول فيه لكثير، ولو تناصرت إلينا أخبارهما، لكنا نحب أن نفرد لكل واحد منهما تقريظاً مقصوراً عليه، وكتاباً منسوباً إليه، كما فعلت بأبي عثمان.
قرأت في كتاب ابن فرجة: المسمى بالفتح، على أبي الفتح، في تفسير قول المتنبي:
فدع عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحد فوقي وما أحد مثلي
وقال فيه: ما لم يرضه ابن فرجة، ونسبه إلى أنه سأل عنه أبا الطيب، فأجاب بهذا الجواب، فأورد ابن فرجة هذه الحكاية: زعموا أن أبا العباس المبرد ورد الدينور زائراً لعيسى ابن ماهان، فأول ما دخل عليه وقضى سلامه، قال له عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المثمة، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحمها؟ فقال هي الشاة القليلة اللبن، مثل اللجبة. فقال: هل من شاهد؟ قال: نعم قول الراجز:
لم يبق من آل الحميد نسمه ... إلا عنيز لجبة مجثمهْ

فإذا بالحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فلما دخل، قال له: أيها الشيخ، ما الشاة المجثمة، التي نهينا عن أكل لحمها؟ فقال: هي التي جثمت على ركبها وذبحت من خلف قفاها، فقال: كيف تقول؟ وهذا شيخ العراق، يعني أبا العباس المبرد يقول: هي مثل اللجبة، وهي القليلة اللبن، وأنشده البيتين، فقال أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة، إن كان هذا التفسير، سمعه هذا الشيخ أو قرأه، وإن كان البيتان إلا لساعتهما هذه، فقال: صدق الشيخ أبو حنيفة، فإنني أنفت أن أرد عليك من العراق، وذكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه، فاستحسن منه هذا الإقرار، وترك البهت قال ابن فرجة: وأنا أحلف بالله العلي، إن كان أبو الطيب قط سئل عن هذا البيت، فأجاب هذا الجواب، الذي حكاه ابن جني، وإن كان إلا متزيداً مبطلاً فيما يدعيه، - عفا الله عنه، وغفر له - فالجهل والإقرار به أحسن من هذا، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: وله من الكتب المصنفة: كتاب الباه، كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الفصاحة، كتاب البحث في حساب الهند، كتاب الجبر والمقابلة، كتاب البلدان كبير، كتاب النبات، لم يصنف في معناه مثله، كتاب الرد على لغزة الأصفهاني، كتاب الجمع والتفريق، كتاب الأخبار الطوال، كتاب الوصايا، كتاب نوادر الجبر، كتاب إصلاح المنطق، كتاب القبلة والزوال، كتاب الكسوف، قال أبو حيان: وله كتاب في تفسير القرآن.
أحمد بن رشيق الأندلسيالكاتب أبو العباس، ذكره الحميدي وقال: كان أبوه من موالي بني شهيد، ونشأ هو بمرسية، وانتقل إلى قرطبة، وطلب الأدب وبرز فيه، وبسق في صناعة الرسائل، مع حسن الخط المتفق على نهايته، وتقدم فيهما وشارك في سائر العلوم، ومال إلى الفقه والحديث، وبلغ من رياسة الدنيا أبلغ منزلة، وقدمه الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري على كل من في دولته، لأسباب أكدت له ذلك عنده، من المودة والثقة، والنصيحة والصحبة في النشأة، وكان ينظر في أمور الجهة التي كان فيها نظر العدل والسياسة، ويشتغل بالفقه والحديث، ويجمع العلماء والصالحين ويؤثرهم، ويصلح الأمور جهده، وما رأينا من أهل الرياسة من يجري مجراه، من هيبة مفرطة، وتواضع وحلم عرف به، مع القدرة، مات بعد الأربعين وأربعمائة، عن سن عالية، وله كتاب رسائل مجموعة متداولة، منها رسالة إلى أبي عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج نجح الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن فقيهي القيروان في الإصلاح بينهما، وكتاب على تراجم كتاب الصحيح للبخاري، ومعاني ما أشكل منه، وقد رأيته غير مرة إذا غضب في مجلس الحكم أطرق ثم قام، ولم يتكلم بين اثنين، فظننته كان يذهب إلى حديث أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحكم حاكم بين اثنين وهو غضبان " وظننت أن قيامه عند الغضب شيء ما سبق إليه، حتى رأيت بعض المصنفين القدماء قد حكى عن يزيد بن أبي حبيب أنه قال: إنما غضبي في نعلي، إذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت.
أ؛مد بن رضوان أبو الحسنالنحوي، أظنه ممن أخذ النحو عن أصحاب أبي علي الفارسي.
أحمد بن زهير أبو خيثمةهو أبو بكر، أحمد بن أبي خيثمة، زهير بن حرب، ابن شداد، النسائي الأصل، سمع أبا نعيم الفضل ابن دكين، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأخذ علم النسب عن مصعب بن عبد الله الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن المدائني، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي، ومات في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين، في خلافة المعتمد على الله، عن أربع وتسعين سنة، ذكر ذلك كله الخطيب، قال: وله كتاب التاريخ الذي أحسن تصنيفه، وكثر فائدته، قال: ولا أعرف أغزر فوائد من كتاب التاريخ الذي ألفه أحمد بن خيثمة، وكان لا يرويه إلا على الوجه، فسمعه منه الشيوخ الأكابر، كأبي القاسم البغوي ونحوه، قال: واستعار أبو العباس ابن محمد بن إسحاق السراج من أبي بكر بن أبي خيثمة شيئاَ من التاريخ، فقال: يا أبا العباس علي يمين أن لا أخذت بهذا الكتاب إلا على الوجه، فقال أبو العباس وعلي عزيمة أن لا أكتب إلا ما اشتهيه فرده عليه، ولم يحدث في تاريخه عنه بحرف، وأنشد الخطيب لابن أبي خيثمة:
قالوا اهتجارك من تهواه تسلاه ... فقد هجرت فما لي لست أسلاه

من كان لم ير في هذا الهوى أثراً ... فليلقني ليرى آثار بلواه
من يلقني يلق مرهوناً بصبوته ... متيماً لا يفك الدهر قيداه
متيم شفه بالحب مالكه ... ولو يشاء الذي أدواه داواه
قال الخطيب: وكان ابن أبي خيثمة كبير الكتاب، أكثر الناس عنه السماع.
في كتاب الفرغاني: أنه مات سنة سبع وتسعين، قال: وفي آخر شوال مات ابن أبي خيثمة صاحب التاريخ من سكتة، وكانت له معرفة بأخبار الناس وأيامهم، وله مذهب، كان الناس ينسبونه إلى القول بالقدر، وكان مختصاً بعلي بن عيسى.
أحمد بن سعد أبو الحسين الكاتبذكره حمزة في أهل أصبهان، فقال ندب في أيام القاهر بالله إلى عمل الخراج أبو الحسين أحمد بن سعد، فورد أصبهان غرة جمادى الأولى، سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وعزل عنها أبو علي بن رستم في جمادى الآخرة من هذه السنة، ثم قدم أبو الحسين بن سعد من فارس متقلداً لتدبير البلد، وعمل الخراج، من قبل الأمير علي ابن بويه، يعني عماد الدولة، في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ثم صرف في سنة أربع وعشرين. قال: ثم رد جباية الخراج في أربع وعشرين إلى أبي القاسم سعد بن أحمد بن سعد، قال ثم إن أبا الحسين عزل في شوال من هذه السنة، لم يذكره بعد ذلك، وعد فضلاء أصبهان من أصحاب الرسائل، ثم قال: وأما أبو مسلم محمد، وأبو الحسين أحمد بن سعد، فقد استغنينا بشهرة هذين وبعد صوتهما في كور المشرق والمغرب، وعند كتاب الحضرة، وإجماع أهل الزمان على فضلهما عن وصفهما، وعامة الرسائل لهما، ثم ذكره في المصنفين فقال: له من الكتب، كتاب الاختيار من الرسائل، لم يسبق إلى مثله، وكتاب آخر في الرسائل، سماه فقر البلغاء، وكتاب الحلي والثياب، وكتاب المنطق، وكتاب الهجاء، قرأت في كتاب عتيق.
حدثني شيخ كبير قال: تنبأ في مدينة أصبهان رجل في زمن أبي الحسين بن سعد، فأتي به، وأحضر العلماء والعظماء والكبراء كلهم فقيل له من أنت؟ فقال: أنا نبي مرسل، فقيل له: ويلك: إن لكل نبي آية، فما آيتك وحجتك؟ فقال: ما معي من الحجج لم يكن لأحد قبلي من الأنبياء والرسل، فقيل له: أظهرها: فقال: من كان منكم له زوجة حسناء، أو بنت جميلة، أو أخت صبيحة، فليحضرها إلي أحبلها بابن في ساعة واحدة، فقال أبو الحسين بن سعد: أما أنا فأشهد أنك رسول، وأعفني من ذلك، فقال له رجل: نساء ما عندنا: ولكن عندي عنز حسناء، فأحبلها لي: فقام يمضي، فقيل له إلى أين؟ قال أمضي إلى جبرائيل وأعرفه أن هؤلاء يريدون تيساً، ولا حاجة بهم إلى نبي، فضحكوا منه وأطلقوه وأنشد للإصبهاني أبي الحسين هذا أشعاراً منها في جواب معمى:
رماني أخ أصفي له الود جاهداً ... ومن يتطوع بالمودة يحمد
بداهبة تعيي على كل عالم ... بوجه المعمى بالصواب مؤيد
وحمل سرب الوحش والطير سره ... وأرسلها تكرا ببيداء قردد
فانهضت قلبي وهو في نفس جارح ... ومن يغد يوماً بالجوارح يصطد
فحاش لي الصنفين من بين أرنب ... يقود الوحوش طائعات وهدهد
يسوق لنا أسراب طير تتابعت ... على نسق مثل الجمان المنضد
ومزقتها بالزجر حتى تحولت ... وعادت عباديداً بشمل مبدد
وراوضتها بالفكر حتى تذللت ... فمن مسمح طوعاً ومن متجلد
فأخرجت السر الخفي وأنشدت ... قريض رهين بالصبابة ذي دد
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
وله في الفضل محمد بن الحسين بن العميد:
البين أفردني بالهم والكمد ... والبين جدد حر الثكل في كبدي
فارقت من صار لي من واحدي عوضاً ... يا رب لا تجعلنها فرقة الأبد
أمسك حشاشة نفسي أن يطيف بها ... كيد من الدهر بعد الفقد للولد
لا في الحياة فإني غير مغتبط ... بالعيش بعد انقصاف الظهر والعضد
بل ابق لي الخلف المأمول حيطته ... على عيال وأطفال ذوي عدد
من أن يروا ضيعة في عرصة البلد ... وأن يروا نهزة في كف مضطهد

ربي رجائي وحسب المرء معتمداً ... نجل العميد وصنع الواحد الصمد
وله إلى أبي الحسين بن لرة، في مملوك له أسود كان تبناه:
حذر فديتك بشرى من تبرزه ... إني أخاف عليه لفعة العين
إذا بدت لك منه طرة سبلت ... على الجبين وتحريف كنونين
حسبت بدراً بدا تما فأكلفه ... غمامة نشرت في الأرض ثوبين
كأنما خط في أصداغه قلم ... بالحبر خطين جاءا نحو قوسين
لكن ذلك منه غير دافعه ... عن القبول وعن بعد من الشين
وهذه قطعة شعر لأبي الحسين بن سعد على أربع قواف كلما أفردت قافية كان شعراً برأسه إلى آخر الأبيات.
وبلدة قطعتها بضامر ... خفيدد عيرانة ركوب
وليلة سهرتها لزائر ... ومسعد مواصل حبيب
وقينة وصلتها بطاهر ... مسود ترب العلا نجيب
إذا غوت أرشدتها بخاطر ... مسدد وهاجس مصيب
وقهوة باكرتها لفاجر ... ذي عتد، في دينه وروب
سورتها كسرتها بماطر ... مبرد من جمة القليب
وحرب خصم بختها بكائر ... ذي عدد في قومه مهيب
معوداً بل سفتها بباتر ... مهند يفري الطلى رسوب
وكم حظوظ نلتها من قادر ... ممجد بصنعة القريب
كافية إذ شكرتها في سامر ... ومشهد للملك الرقيب
أحمد بن سعيد بن عبد الله الدمشقيأبو الحسن، نزل ببغداد، وحدث عن الزبير بن بكار بالموفقيات وغيرها من مصنفاته، وكان مؤدب ولد المعتز، واختص بعبد الله بن المعتز، روى عنه إسماعيل الصفار وغيره، وكان صدوقاً، مات سنة ست وثلاثمائة، ذكره المرزباني في كتابه، فقال: أبو بكر محمد ابن القاسم الأنباري: حدثني أحمد بن سعيد، قال: كنت أؤدب أولاد المعتز، فتحمل أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري على قبيحة أم المعتز بقوم سألوها أن تأذن له في أن يدخل إلى ابن المعتز وقتاً من النهار، فأجابت أو كادت تجيب، فلما اتصل الخبر بي جلست في منزلي غضبان مفكراً لما بلغني عنها، فكتب إلي أبو العباس عبد الله بن المعتز، وله ثلاث عشرة سنة.
أصبحت يا ابن سعيد حزت مكرمة ... عنها يقصر من يحفى وينتعل
سربلتني حكمة قد هذبت شيمي ... وأججت غرب ذهني فهو مشتعل
أكون إن شئت قسا في خطابته ... أو حارثاً وهو يوم الفخر مرتجل
وإن أشأ فكزيد في فرائضه ... أو مثل نعمان ما ضاقت بي الحيل
أو الخليل عروضياً أخا فطن ... أو الكسائي نحوياً له علل
تغلي بداهة ذهني في مركبها ... كمثل ما عرفت آبائي الأول
وفي فمي صارم ما سله أحد ... من غمده فدرى ما العيش والجذل
عقباك شكر طويل لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطت الإبل
قس: هو ابن ساعدة الإيادي، والحارث بن حلزة، كان ارتجل قصيدة آذنتنا ببينها، وزيد بن ثابت الأنصاري، والنعمان: أبو حنيفة، صاحب الرأي والفقه، وحدث أيضاً قال: كتب ابن المعتز إلى أحمد بن سعيد الدمشقي واباً عن كتاب استزاده فيه: قيد نعمتي عندك بمثل ما كنت استدعيتها به، وذب عنها أسباب الظن، واستدم ما تحب مني، بما أحب منك.
وكتب ابن المعتز إلى الدمشقي، جواباً عن اعتذار كان من الدمشقي، في شيء بلغ ابن المعتز عنه: والله لا قابل إحسانك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك من فلك مني يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، ما يسخطني فإني أصون وجهك عن ذل الاعتذار.
أحمد بن سعيد بن شاهينالبصري، أبو العباس، هو أحمد بن سعيد بن شاهين ابن علي بن ربيعة: ذكره محمد بن إسحاق النديم، فقال هو من أهل الأدب، وله من الكتب: كتاب ما قالته العرب، وكثر في أفواه العامة.
أحمد بن سعيد بن حزم

الصدفي الأندلسي المنتجيلي، أبو عمر، ذكره الحميدي فقال: سمع بالأندلس جماعة منهم محمد بن أحمد الزراد، وذكره غيره، ورحل فسمع إسحاق بن إبراهيم بن النعمان، وأحمد بن عيسى المصري، المعروف بابن أبي عجينة، وغيرهما وألف كتاب تاريخ الرجال، كبيراً، جمع فيه جميع ما أمكنه من أقوال الناس في أهل العدالة والتجريح سمعه منه خلف بن أحمد، المعروف بابن أبي جعفر، وأحمد بن محمد الأشبيلي، المعروف بابن الحزاز، قال ابن عبد البر: ويقال إنه لم يكمل سماعه إلا لهما، ومات أبو عمر الصدفي سنة خمسين وثلاثمائة، كل هذا من كتاب الحميدي، وذكر بعض الناس أنه من ولد جعفر بن الحارث، من أهل قرطبة، ويكنى أبا عمرو، عني بالآثار والسنن، وجمع الحديث والتاريخ، وروى عنه جماعة بالأندلس، منهم أحمد بن ثوابة، وأسلم بن عبد العزيز، وطبقتهم، ورحل إلى المشرق، سنة إحدى عشرة وثلاثمائة مع أحمد ابن عبادة ارعيني، فسمع بمكة من أبي جعفر العقبلي، وأبي بكر بن المنذر صاحب الإشراق، والديبلي أبي جعفر، محمد بن إبراهيم، وأبي سعيد بن الأعرابي وغيرهم، وسمع بمصر على جماعة، منهم أبو عبد الله محمد بن الربيع بن سليمان، وبالقيروان من أحمد بن نصر، ومحمد بن محمد ابن اللباد، ثم انصرف إلى الأندلس، فصنف تاريخاً في المحدثين، بلغ فيه الغاية قرئ عليه، ولم يزل يحدث إلى أن مات، ليلة الخميس لتسع بقين من جمادى الآخرة سنة خمسين وثلاثمائة، ومولده يوم الجمعة لخمس خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وثمانين ومائتين.
أحمد بن سليمان الطوسي أبو عبد اللههو أبو عبد الله، أحمد بن سليمان بن داود بن محمد ابن العباس الطوسي، واسم أبي العباس الفضل بن سليمان بن المهاجر، بن سنان بن حكيم، وكان فاضلاً مات فيما ذكره الخطيب في صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة عن ثلاث وثمانين سنة. قال ابن شاذان: قال الطوسي ولدت سنة أربعين ومائتين، روى عنه أبو حفص ابن شاهين، وأبو الفرج الإصبهاني صاحب كتاب الأغاني وأبو عبيد الله المرزباني وكان صدوقاً.
حدث ابن طاهر المباشر أبو عبد الله المعروف بقنينة سمعت الخضر بن داود بمكة يقول: قدم علينا سليمان ابن داود الطوسي وهو على البريد، وكان الزبير قد فرغ من كتاب النسب، فأهدى إليه الطوسي هدايا كثيرة، فأهدى إليه الزبير كتاب النسب، فقال له سليمان: أحب أن تقرأه علي، فقرأه عليه، وسمع ابنه أحمد ابن سليمان مع أبيه جميع الكتاب، فروى عنه أبو بكر ابن شاذان، وأبو حفص بن شاهين، وأبو عبد الله المرزباني والمخلص.
أحمد بن سليمان بن وهبابن سعيد الكاتب، أبو الفضل، وأبوه أبو أيوب سليمان بن وهب الوزير، وعمه الحسن بن وهب معروفان مشهوران، مذكوران في هذا الكتاب، ونسب هذا البيت مستقصى في ترجمة الحسن بن وهب، مات فيما ذكره أبو عبد الله في كتاب معجم الشعراء في سنة خمس وثمانين ومائتين، وكان أبو الفضل هذا بارعاً فاضلاً ناظماً ناثراً، قد تقلد الأعمال، ونظر للسلطان في جباية الأموال، وأخوه عبيد الله بن سليمان، والقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد والمكتفي، ولأحمد من التصنيفات: كتاب ديوان شعره، وكتاب ديوان رسائله.
حدث لاصولي قال: وجدت بخط بعض الكتاب أن أحمد ابن سليمان سأل صديقاً له حاجة فلم يقضها له فقال:
قل لي نعم مرة إني أسر بها ... وإن عداني ما أرجوه من نعم
فقد تعودت لا حتى كأنك لا ... تعد قولك لا إلا من الكرم
قال: وحدثني الطالقاني: كنا عند أحمد بن سليمان على شرب، ومعنا رجل من الهاشميين ورجل من الدهاقين، فعربد الهاشمي علي الدهقان، فأنشد أحمد بن سليمان:
إذا بدأ الصديق بيوم سوء ... شفكن منه لآخر ذا ارتقاب

وأمر بإخراج الهاشمي، فقال له: أتخرجني وتدع نبطياً؟ فقال، نعم: رأس كلب أحب إلي من ذنب أسد، وحدث عن الحسين بن إسحاق قال: كنت عند أحمد بن سليمان بن وهب. ونحن على شراب، فوافته رقعة فيها أبيات مدح، فكتب الجواب فنسخته، ولم أنسخ الرقعة الواردة عليه، وكان جوابه: وصلت رقعتك - أعزك الله - فكانت كوصل بعد هجر، وغنىً بعد فقر، وظفر بعد صبر، ألفاظها در مشوف ومعانيها جوهر مرصوف، وقد اصطحبا أحسن صحبة، وتألفا أقرب ألفة، لا تمجها الآذان، ولا تتعب بها الأذهان، وقرأت في آخرها من الشعر ما لم أملك نفسي أن كتبت لجلالته عندي، وحسن موقعه من نفسي، بما لا أقوم به مع تحيف الصهباء لبي، وشربها من عقلي، مقدار شربي، ولكني واثق منك بطي سيئتي ونشر حسنتي:
نفسي فداؤك يا أبا العباس ... وافى كتابك بعد طول اليا
وافى وكنت بوحشتي متفرداً ... فأصارني للجمع والإيناس
وقرأت شعرك فاستطلت لحسنه ... فخراً على الخلصاء والجلاس
عاينت منه عيون وشي سديت ... ببدائع في جانب القرطاس
فاقت دقائقه وجل لحسنه ... عن أن يحد بفطنة وقياس
شعر كجري الماء يخرج لفظه ... من حسن طبعك مخرج الأنفاس
لو كان شعر الناس جسماً لم يكن ... لكماله إلا مكان الراس
وكان لأحمد خادم يقال له عرام، ويكنى أبا الحسام، وكان يهواه جداً، فخرج مرة إلى الكوفة بسبب رزقه مع إسحق بن عمران، فكتب إلى إسحق:
دموع العين مذروفهْ ... ونفس الصب مشغوفهْ
من الشوق إلى البدر ال ... ذي يطلع بالكوفهْ
فلما قرأ كتابه وفاه رزقه، وأنفذه إليه سريعاً، ومن كلامه: النعم أيدك الله ثلاث، مقيمة، ومتوقعة، ويغر محتسبة، فحرس الله لك مقيمها، وبلغك متوقعها، وآتاك ما لم تحتسب منها.
قال: ودخل أحمد بن سليمان إلى صديق له، ولم يره كما ظن من السرور، فدعا بدواة وكتب:
قد أتيناك زائرين خفافاً ... وعلمنا بأن عندك فضله
من شراب كأنه دمع مرها ... ء أضأت لها من الهجر شعلهْ
ولدينا من الحديث هنات ... معجبات نعدها لك جمله
إن يكن مثل ما تريد وإلا ... فاحتملنا فإنما هي أكله
ومن مشهور شعره، الذي لا تخلو مجاميع أهل الفضل منه قوله يصف السرو من أبيات، وربما نسبوه إلى غيره،
حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح حين تميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
وكتب في صدر كتاب إلى ابن أخيه، الحسن بن عبيد الله بن سليمان:
يا ابني ويا ابن أخي الأدنى ويا ابن أبي ... والمرتدي برداء العقل والأدب
ومن يزيد جناحي من قواك به ... ومن إذا عد مني زان لي حسبي
ومن منثوره كتب إلى ابن أبي الإصبع: لو أطعت الشوق إليك، والنزاع نحوك، لكثر قصدي لك، وغشياني إياك، مع العلة القاطعة عن الحركة، الحائلة بيني وبين الركوب، فالعلة إن تخلفت مخلفتي، وإيثار التخفيف يؤخر مكاتبتي، فأما مودة القلب، وخلوص النية، ونقاء الضمير، والاعتداد بما يجدده الله لك من نعمة، ويرفعك إليه من درجة، ويبلغك إياه من رتبة، فعلى ما يكون عليه الأخ الشقيق، وذو المودة الشفيق، وأرجو أن يكون شاهدي على ذلك من قلبك أعدل الشهود، ووافدي بإعلامك إياه أصدق الوفود، وبحسب ذلك انبساطي إليك في الحاجة، تعرض قبلك، ويعنى بالنجاح منها عند، وعرضت حاجة ليس تمنعني قلتها من كثير الشكر عليها، والاعتداد بما يكون من قضائك إياها، وقد حملتها يحيى لتسممها منه، وتتقدم بما أحب فيها، جارياً على كرم سجيتك، وعادة تفضلك، إن شاء الله.

وكتب إلى أخيه الوزير، عبيد الله، وقد سافر ولم يودعه، - أطال الله بقاء الوزير - مصحباً له السلامة الشاملة والغبطة المتكاملة، والنعم المتظاهرة، والمواهب المتواترة، في ظعنه ومقامه، وحله وترحاله، وحركته وسكونه، وليله ونهاره، وعجل إلينا أوبته، وأقر عيوننا برجعته، ومتعنا بالنظر إليه: كان شخوص الوزير - أعزه الله - في هذه المدة يغتة، أعجل عن توديعه فزاد ذلك في ولهي، وإضرام لوعتي، واشتدت له وحشتي، وذكرت قول كثير:
وكنتم تزينون البلاد ففارقت ... عشية بنتم زينها وجمالها
فقد جعل الراضون إذ أنتم لها ... بخصب البلاد يشتكون وبالها
والوزير - أعزه الله - يعلم ما قيل في يحيى بن خالد:
ينسى صنائعه ويذكر وعده ... ويبيت في أمثاله يتفكر
وكتب إلى صديق له: ليس عن الصديق المخلص، والأخ المشارك، في الأحوال كلها مذهب ولا وراءه، للواثق به مطلب، والشاعر يقول:
وإذا يصيبك واحوادث جمة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق
وأنت الأخ الأوثق، والولي المشفق، والصديق الوصول، والمشارك في المكروه والمحبوب، قد عرفني الله من صدق صفائك، وكرم وفائك، على الأحوال المتصرفة، والأزمنة المتقلبة، ما يستغرق الشكر، ويستعبد الحر، وما من يوم يأتي علي إلا وثقتي بك تزداد استحكاماً، واعتمادي عليك يزداد توكداً والتياماً، أنبسط في حوائجي، وأثق بنجح مسألتي، والله أسأل لك طول البقاء، في أدوم النعمة وأسبغها وأكمل العوافي وأتمها، وألا يسلب الدنيا نضرتها بك، وبهجتها ببقائك، فما أعرف بهذا الدهر المتنكر في حالاته، حسنة سواك، ولا حيلة غيرك، فأعيذك بالله من العيون الطامحة، والألسنة القادحة وأسأله أن يجعلك في حرزه الذي لا يرام، وكنفه الذي لا يضام، وأن يحرسك بعينه التي لا تنام، إنه ذو المن والإنعام.
أحمد بن سليمان المعيديأبو الحسين، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: روى عن علي بن ثابت، عن أبي عبيد، وعن ابن أخيه أبي الوزير، عن الأعرابي، روى عنه أبو بكر محمد بن الحسين، بن مقسم، وخطه يرغب فيه: وهو أحد العلماء المشاهير الثقات، قرأت بخط ابن أبي نواس. قال: أبو عمر ابن حيويه قال لي أبو عمران: مات المعيدي ليلة الأربعاء ودفن يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
أحمد بن سهل البلخي أبو زيدكان فاضلاً، قائماً بجميع العلوم القديمة والحديثة، يسلك في مصنفاته طريقة الفلاسفة، إلا أنه بأهل الأدب أشبه، وكان معلماً للصبيان، ثم رفعه العلم إلى مرتبة علية، كما اقتصصنا في أخباره، وقد وصفه أبو حيان في كتابه، في تقريظ الجاحظ، بوصف ذكرته في أخبار أبي حنيفة أحمد بن داود، فاحتسبت به كعادتي في الإيجاز، وترك التكرير، مات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة على ما أذكره فيما بعد، عن سبع أو ثمان وثمانين سنة.

حكي عنه أنه قال: كان الحسين بن علي المروروزي، وأخوه وأنا صعلوك يجريان علي صلات معلومة دائمة، فلماصنفت كتابي في البحث عن التأويلات قطعاها عني، وكان لأبي علي محمد بن أحمد بن جيهان من خرخان الجيهاني، وزير نصر بن أحمد الساماني جوار يدرها علي، فلما أمليت كتاب القرابين والذبائح حرمنيها، قال: وكان الحسين قرمطياً، وكان الجيهاني ثنوياً، وكان أبو زيد يرمى بالإلحاد، ذكر ذلك كله محمد بن إسحاق النديم، قال: ولأبي زيد من الكتب: كتاب أقسام العلوم، كتاب شرائع الأديان، كتاب اختيارات السير، كتاب السياسة الكبير، كتاب السياسة الصغير، كتاب كمال الدين، كتاب فضل صناعة الكتابة، كتاب مصالح الأبدان والأنفس، يعرف بالمقالتين، كتاب أسماء الله وصفاته، كتاب صناعة الشعر، كتاب فضيلة علم الأخبار، كتاب الأسماء والكنى والألقاب، كتاب أسماء الأشياء، كتاب النحو والتصريف، كتاب الصورة والمصدر، كتاب رسالة حدود الفلسفة، كتاب ما يصح من أحكام النجوم، كتاب الرد على عبدة الأوثان، كتاب فضيلة علوم الرياضات، كتاب في أقسام علوم الفلسفة، كتاب القرابين والذبائح، كتاب عصمة الأنبياء، كتاب نظم القرآن، كتاب قوارع القرآن، كتاب الفتاك والنساك، كتاب ما أغلق من غريب القرآن، كتاب في أن سورة الحمد تنوب عن جميع القرآن، كتاب أجوبة أبي القاسم الكعبي، كتاب النوادر في فنون شتى، كتاب أجوبة أهل فارس، كتاب تفسير " صورٍ " كتاب السماء والعالم لأبي جعفر الخازن، كتاب أجوبة أبي علي بن محتاج، كتاب أجوبة أبي إسحاق المؤدب، كتاب المصادر، كتاب أجوبة أبي الفضل السكري كتاب الشطرنج، كتاب فضائل مكة على سائر البقاع، كتاب جواب رسالة أبي علي بن المنير الزيادي، كتاب منية الكتاب، كتاب البحث عن التأويلات كبير، كتاب الرسالة السالفة إلى العاتب، كتاب رسالته في مدح الوراقة، كتاب الوصية، كتاب صفات الأمم، كتاب القرود، كتاب فضل الملك، كتاب المختصر في اللغة، كتاب صولجان الكتبة، كتاب نثاراتٍ على كلامه، كتاب أدب السلطان والرعية، كتاب فضائل بلخ، كتاب تفسير الفاتحة والحروف المقطعة في أوائل السور، كتاب رسول الكتب، كتاب كتبه إلى أبي بكر بن المستنير، عاتباً ومنتصفاً، في ذمه المعلمين والوراقين، كتاب كتبه إلى أبي بكر بن المظفر، في شرح ما قيل في حدود الفلسفة، كتاب أخلاق الأمم، وقرأت بخط أبي سهل أحمد بن عبيد الله بن أحمد، مولى أمير المؤمنين، وتصنيفه كتاباً في أخبار أبي زيد البلخي، وأبي الحسن شهيد البلخي، فلخصت منه ما ذكرته في تراجم الثلاثة.
قال في أخبار أبي زيد، ولد أبو زيد أحمد بن سهل ببلخ، بقرية تدعى شامستيان، من رستاق نهر غربنكي، من جملة اثني عشر نهراً من أنهار بلخ، وكان أبوه سجزياً يعلم الصبيان، هذا ما ذكره أبو محمد الحسن بن محمد الوزيري، وله كتاب في أخبار أبي زيد البلخي.
وسمعت أنه كان يعلم بهذه القرية المدعوة شامستيان أعني أباه، وكان أبو زيد يميل إليها ويحبها، لأجل مولده بها، ونزعه إليها حب المولد، ومسقط الرأس والحنين إلى الوطن الأول، ولذلك لما حسنت حاله، ودعته نفسه إلى اعتقاد الضياع والأسباب، والنظر للأولاد والأعقاب، اختارها من قرى بلخ، فاعتقد بها ضيعته، ووكل بها همته، وصرف إلى اتخاذ العقد بها عنايته، وقد كانت تلك الضياع بعد باقية، إلى قريب من هذا الزمان، في أيدي أحفاده وأقاربه، بها وبالقصبة ثم إنهم كما أقدر قد فنوا وانقرضوا، في اختلاف هذه الحوادث ببلخ وغيرها، من سائر البلدان، فلا أحسب أنه بقي منهم نافخ ضرم، ولا عين تطرف، لا تحس منهم من أحد ولا تسمع منهم ركزاً.

سمعت أن الأمير أحمد بن سهل بن هاشم كان ببلخ، وعنده أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي، وأبو زيد ليلة من الليالي وفي يد الأمير عقد لآلائي نفيسة، ثمينة، تتلألأ كاسمها، ويتوهج نورها، وكان حمل إليه من بعض بلاد الهند، حين افتتحت، فأفرد الأمير منها عشرة أعداد، وناولها أبا القاسم، وعشرة أعداد أخر، وناولها أبا زيد، وقال: هذه اللآلئ في غاية النفاسة، فأحببت أن أشرككما فيها، ولا أستبد بها دونكما. فشكرا له ذلك، ثم إن أبا القاسم وضع لآلئه بين يدي أبي زيد، وقال: إن أبا زيد وهو من هو مهتم بشأنهن، فأردت أن أصرف ما برني به الأمير إليه، لينتظم في عقده فقال الأمير: نعماً فعلت، ورمى بالعشرة الباقية إلى أبي زيد وقال خذها فلست في الفتوة بأقل حظاً، ولا أوكس سهماً، من أبي القاسم، ولا تغبنن عنها، فإنها ابتيعت من الفئ، بثلاثين ألف درهم، فاجتمعت الثلاثون عند أبي زيد برمتها، وباعها بمال جليل، وصرف ثمنها إلى الضيعة التي اشتراها بشامستيان.
قال وكان أبو زيد كما ذكر أبو محمد الحسن الوزيري - وكان رآه واختلف إليه - ربعة نحيفاً مصفاراً، أسمر اللون جاحظ العينين، فيهما تأخر ومثل بوجهه آثار جدري، صموتاً سكيتاً، ذا وقار وهيبة، وقد وصفه أبو علي أحمد المنيري الزيادي، في رسالته التي كتبها إليه، وأراد أن يهدم بنيانه، ويضع شانه، ويوهي أركانه، فرند عليه أبو زيد في جوابها، ما ألبسه الشنار والصغار، ونبه العالم أن حظه من العلوم حظ منكود، وأنه فيما أجرى له من كلامه غير سديد، قرأت على أبي محمد الوزيري كلتا الرسالتين، فزعم أنه قرأهما عليهما، أعني أبا زيد والمنيري كليهما، فذكر المنيري في رسالته في جملة ما هجنه به، وأنك لا تصلح إلا أن تكون زامراً، أو مغيراً، أو محتكراً فدل هذا الكلام على أنه كان جاحظ العين، أشدق، مع قصر قامته، ودنو هامته، قال: ثم حدثت أنه كان في عنفوان شبابه، وطراءة زمانه، وأول حداثته، ومائه، دعته نفسه إلى أن يسافر ويدخل إلى أرض العراق، ويجثو بين يدي العلماء، ويقتبس منهم العلو، فتوجه إليها راجلاً مع الحاج، وأقام بها ثماني سنين، وجازها فطوف البلدان المتاخمة لها، ولقي الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وحصل من عنده علوماً جمة، وتعمق في علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم، والهيئة وبرز في علم الطب والطبائع وبحث عن أصول الدين أتم بحث، وأبعد استقصاء، حتى قاده ذلك إلى الحيرة، وزل به عن النهج الأوضح، فتارة كان يطلب الإمام ومرة كان يسند الأمر إلى النجوم والأحكام، ثم إنه لما كتبه الله في الأول من السعداء، وحكم بأنه لا يتركه يتسكع في ظلمات الأشقياء، بصره أرشد الطرق، وهداه لأقوم السبل، فاستمسك بعروة من الدين وثيقة، وثبت من الاستقامة على بصيرة وحقيقة، فذكر أبو الحسن الحديثي قال: كان أبو بكر البكري فاضلاً خليعاً لا يبالي ما قال، وكان يحتمل عنه لسنه، قال: أذكر إذ كنا عنده وقد قدمت المائدة وأبو زيد يصلي، وكان حسن الصلاة، فضجر البكري من طول صلاته، فالتفت إلى رجل من أهل العلم، يقال له أبو محمد الجحندي فقال: يا أبا محمد، ريح الإمامة يعد في رأس أبي زيد، فخفف أبو زيد الصلاة وهما يضحكان، قال أبو الحسن: فلم أدر ما ذلك! حتى سألت لا أدري الجحندي أو أبا بكر الدمشقي فقال: أحدهما: العم أن أبا زيد في أول أمره كان خرج في طلب الإمام إلى العراق، إذ كان قد تقلد مذهب الإمامية، فعيره البكري بذلك

قال: وكان حسن الاعتقاد، ومن حسن اعتقاده أنه كان لا يثتب من علم النجوم الأحكام، بل كان يثبت ما يدل عليه الحسبان، ولقد جرى ذكره رحمه الله في مجلس الإمام أبي بكر، أحمد بن محمد بن العباس البزار، وهو الإمام ببلخ، والمفتي بها، فأثنى عليه خيراً، وقال: إنه كان قويم المذهب، حسن الاعتقاد، لم يعرف بشيء في ديانته، كما ينسب إليه من نسب إلى علم الفلسفة، وكل من حضر من الفضلاء والأماثل، أثنى عليه ونسبه إلى الاستقامة والاستواء، وأنه لم يعثر له مع ما له من المصنفات الجمة، على كلمة تدل على قدح في عقيدته، ثم لما قضى وطره من العراق، وصار في كل فن من فنون العلم قدوة، وفي كل نوع من أنواعه إماماً، قصد العود إلى بلده، فتوجه إليها مقبلاً على طريق هراة، حتى وصل إلى بلخ، وانتشر بها علمه، فلما ورد أحمد بن سهل بن هاشم المروزي بلخ، واستولى على تخومها، راوده على أن يستوزره فأبى عليه، واختار سلامة الأولى، والعقبى، فاتخذ أبا القاسم الكعبي وزيراً، وأبا زيد كاتباً، وكان أبو القاسم الوزير وأبو زيد من الكتاب، وعظم محلهما عنده، وأصبحا بأرفع طرف عنده مرموقين وبأروى كأس من جنابه مصبوحين ومغبوقين، وكان رزق أبي القاسم في الشهر ألف درهم ورقاً، ولأبي زيد خمسمائة درهم ورقاً، وكان أبو القاسم يأمر الخازن بزيادة مائة درهم لأبي زيد من رزقه ونقصان مائة درهم من رزق نفسه، فكان يصل إلى أبي زيد ستمائة درهم وإلى أبي القاسم تسعمائة درهم، وكان يأخذ لنفسه مكسرة، ويأمر لأبي زيد بالوضح الصحاح، فبقوا على ذلك مدة غير طويلة، وعاشوا على جملة جميلة، حتى فتكت بهم يد المنون، وهلك أحمد بن سهل عن عمر قصير، واستمتاع بإمامة غير كبير، قال: أخبرني أبو محمد الحسن بن الوزيري: وكان لقي أبا زيد وتتلمذ له قال: كان أبو زيد ضابطاً لنفسه ذا وقار، وحسن استبصار، قويم اللسان، جميل البيان، متثبتاً نزر الشعر، قليل البديهة، واسع الكلام في الرسائل والتأليفات، إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة، وكان قليل المناظرة، حسن العبارة، وكان يتنزه عما يقال في القرآن، إلا الظاهر المستفيض من التفسير والتأويل، والمشكل من الأقاويل، وحسبك ما ألفه من كتاب نظم القرآن، الذي لا يفوقه في هذا لاباب تأليف.
قرأت في كتاب البصائر لأبي حيان الفارسي، من ساكني بغداد، قال: قال أبو حامد القاضي لم أر كتاباً في القرآن مثل كتاب لأبي زيد البلخي، وكان فاضلاً يذهب في رأي الفلسفة، لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع، وأخرج سرائره، وسماه نظم لاقرآن، ولم يأت على جميع المعاني فيه.
قال: وللكعبي كتاب في التفسير، يزيد حجمه على كتاب أبي زيد، قال الوزيري: وكان أيضاً يتحرج عن تفضيل الصحابة بعضهم على بعض، وكذلك عن مفاخرة العرب والعجم، ويقول ليس في هذه المناظرات الثلاث ما يجدي طائلاً، ولا يتضمن حاصلاً، لأن الله تعالى يقول في معنى القرآن: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) الآية وأما معنى الصحابة وتفضيل بعضهم على بعض، فقوله عليه السلام، أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم، وكذلك العربي والشعوبي، فإنه سبحانه يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ويقول في موضع آخر، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) قال: وسمعت بعض أهل الأدب يقول: اتفق أهل صناعة الكلام أن متكلمي العالم ثلاثة، الجاحظ، وعلي بن عبيدة اللطفي، وأبو زيد البلخي، فمنهم من يزيد لفظه على معناه، وهو الجاحظ ومنهم من يزيد معناه على لفظه، وهو علي بن عبيدة، ومنهم من توافق لفظه ومعناه، وهو أبو زيد.
وقال أبو حيان في كتاب النظائر: أبو زيد البلخي يقال له بالعراق جاحظ خراسان، وحكي أن أبا زيد لما دخل على أحمد بن سهل، أول دخوله عليه، سأله عن اسمه، فقال أبو زيد، فعجب أحمد بن سهل من ذلك، حين سأله عن اسمه فأجاب عن كنيته، وعد ذلك من سقطاته، فلما خرج ترك خاتمه في مجلسه عنده، فأبصره أحمد بن سهل، فازداد تعجباً من غفلته، فأخذه بيده ونظر في نقش فصه، فإذا عليه أحمد بن سهل، فعلم حينئذ أنه إنما أجاب عن كنيته للموافقة الواقعة بين اسمه واسمه، وأنه أخذ بحسن الأدب، وراعى حد الاحتشام، واختار وصمة التزام الخطإ في الوقت والحال، على أن يتعاطى اسم الأمير بالاستعمال والابتذال.

وحكي أن أبا زيد في حداثته، وحال فقره وخلته كان التمس من أبي علي المنيري حنطة، فأمره بحمل جراب إليه ففعل، فلم يعطه حنطة، وحبس الجراب، ومضى على هذا أعوام كثيرة، وخرج شهيد بن الحسين إلى محتاج بن أحمد بالصعانيان، وكتب إلى أبي زيد كتباً لم يجبه أبو زيد عنها، فكتب إليه شهيد بهذين البيتين، يعيره بحديث الجراب:
أمني النفس منك جواب كتبي ... وأقطعها لتسكن وهي تابي
إذا ما قلت سوف يجيب قالت ... إذا رد المنيري الجرابا
قال: وقرأت بخط أبي الحسن الحديثي، على ظهر كتاب كمال الدين لأبي زيد، قال أبو بكر الفقيه: ما صنف في الإسلام كتاب أنفع للمسلمين من كتاب البحث عن التأويلات، صنفه أبو زيد البلخي، وهذا الكتاب يعني كتاب كمال الدين.
وكان لأبي زيد حافد يقال له علي بن محمد بن أبي زيد، قال: ولأبي زيد نحو من سبعين تأليفاً، قال: ولقي أحمد بن سهل الأمير أبا زيد في طريق، وقد أجهده السير، فقال له: عييت أيها الشيخ، فقال أبو زيد: نعم أعييت أيها الأمير، فنبهه أنه لحن في قوله " عييت " إذ العي في الكلام، والإعياء في المشي، وأنشد أبو زيد:
لكل امرئ ضيف يسر بقربه ... ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف
تناءت بنا دار الحبيب اقترابها ... فلم يبق إلا رؤية الطيف للطيف
وقال أبو زيد: كان ببلخ مجنون من عقلاء المجانين وكان يعرف بأبي إبراهيم إسحاق بن إسحاق البغدادي، " من عقلاء المجانين " دخل إلي وكنت ألاعب الأهوازي بالشطرنج، فقال أبو زيد والأهوازي لك فتحيرت في هذا الكلام، فقال لي احسب فحسبت بحروف الجمل، فكان ستون، قال فصل بين كنيتك وكنيته الأهوازي، قال فوصلت، فإذا أبو زيد ثلاثون، والأهوازي ثلاثون، فقضيت عجباً من اختراعه في تلك الوهلة هذا الحساب.
وأما خبر وفاته، فقال صاحب الكتاب المذكور: ذكر أبو زيد الدمشقي قال: دخلت على أبي زيد - رحمه الله - يوم الجمعة ضحوة لعشر بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فوجدته ثقيلاً من علته، فسلمت سلاماً ضعيفاً، ثم قال: يا أبا بكر قد انقطع السبب، وما هو إلا فراق الإخوان، ودمعت عينه، وبكيت أنا، وقلت: أرجو أن يشفع الله الشيخ فينا وفي عترتنا بعافيته، فقال: أيهات: وقرأ هذه الآية: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) ثم قال: لا تغب عني وكن بالقرب.
فلما كان عند العتمة قال: انصرفوا حتى أدعوكم، وقال لابنه الحسين إذا طلع القمر ونزل في الدار فأعلمني، فلما طلع القمر أعلمه، فصاح بهم فجاءوا، وقال أطلع القمر؟ فقالوا: نعم، قال: اجمعوا كل من في المنزل، فاجتمعوا عليه، فسأل كل واحد منهم عن حاله، وعن كسوته، وعن آلة الشتاء، ثم قال: بقي شيء لم أصلحه لكم. قالوا: لا: فاستحلفهم ثم قال: عليكم السلام، هذا آخر اجتماعي معكم، ثم جعل يتشهد ويستغفر، ثم قال: قوموا فقد جاء نوبة غيركم، فخرجوا من باب الطارمة، وهم يسمعون تشهده، ثم سكت فرجعوا وقد قضى نحبه، رحمه الله، هذا العقل والتمييز صار كما قال أبو تمام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
قال المؤلف: هذا آخر ما كتبته عن كتاب أبي سهل أحمد بن عبيد الله من أخبار أبي زيد، وما أرى أن أحداً جاء من خبر أبي زيد بأحسن مما جاء به، أثابه الله على اهتمامه الجنة، وسأكتب أخبار أبي القاسم، عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي عنه في موضعه، ولم أخل من أخبار أبي زيد التي ذكرها بشيء مما يتعلق به، إنما تركت أشياء من فوائده تتعلق بكتب المجاميع.
وقال المرزباني: أحمد بن سهل البلخي محدث معتمدي وهو القائل يرثي الحسن بن الحسين العلوي، وقد توفي ببلخ:
إن المنية رامتنا بأسهمها ... فأوقعت سهمها المسموم بالحسن
أبو محمد الأعلى فغادره ... تحت الصفيح مع الأموات في قرن
يا قبر إن الذي ضمنت جثته ... من عصبة سادة ليسوا ذوي أفن
محمد وعلي ثم زوجته ... ثم الحسين ابنه والمرتضى الحسن
صلى الإله عليهم والملائكة ال ... مقربون طوال الدهر والزمن

قال المؤلف: هكذا قال المرزباني، ولا أدري أيريد صاحبنا هذا أو غيره؟ فإنه لم يذكره بأكثر مما كتبناه.
وقرأت في كتاب البلدان لأبي عبد الله البشاري، أن صاحب خراسان استدعاه إلى بخاري، ليستعين به على سلطانه، فلما بلغ جيحون ورأى تغطمط أمواجه وجرية مائه وسعة قطره كتب إليه: إن كنت استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي فإني إن عبرت هذا النهر فلست بذي رأي ورأيي يمنعني من عبوره: فلما قرأ كتابه عجب منه وأمره بالرجوع إلى بلخ.
أحمد بن الصنديد العراقييكنى أبا مالك، كان من أهل الأدب والشعر، روى شعر المعري عنه، وله فيه شرح، وله مع الحصري مناقضات دخل الأندلس، وكان عند بني طاهر، ومدح الرساء والأكابر.
أحمد بن أبي طاهر أبو الفضلواسم طاهر طيفور، مروروزي الأصل، أحد البلغاء الشعراء الرواة، من أهل الفهم المذكورين بالعلم، وهو صاحب كتاب تاريخ بغداد، في أخبار الخلفاء والأمراء وأيامهم، مات سنة ثمانين ومائتين ودفن بباب الشام ببغداد، ومولده سنة أربع ومائتين مدخل المأمون بغداد من خراسان، ذكر ذلك ابنه عبيد الله، فيما ذيله على تاريخ والده، وحكاه عنه، قال: وروى عن عمر بن شبة، روى عنه ابنه عبيد الله، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وحدث جعفر بن أحمد صاحب كتاب الباهر: كان أحمد بن أبي طاهر مؤدب كتاب عامياً، ثم تخصص وجلس في سوق الوراقين، في الجانب الشرقي، قال: ولم أر ممن شهر بمثل ما شهر به من التصنيف للكتب، وقول الشعر أكثر تصحيفاً منه ولا أبلد علماً، ولا ألحن، ولقد أنشدني شعراً، يعرضه علي في إسحاق بن أيوب، لحن في بضعة عشر موضعاً منه، وكان أسرق الناس لنصف بيت وثلث بيت، قال: وكذا قال لي البحتري فيه، وكان مع هذا جميل الأخلاق، ظريف المعاشرة، حلواً من بين الكهول.
وحدث أبو دهقان قال: كنت أنزل في جوار المعلى ابن أيوب، صاحب العرض والجيش في أيام المأمون، وكان أحمد بن أبي طاهر ينزل عنده، فأضقنا إضاقة شديدة، وتعذرت علينا وجوه احليلة، فقلت لابن أبي طاهر: هل لك في شيء لا بأس به؟ تدعني حتى أسجيك وأمضي إلى منزل المعلى بن أيوب، فأعلمه أن صديقاً لي قد توفي فآخذ منه ثمن كفن فننفقه، فقال نعم: وجئت إلى وكيل المعلى فعرفته خبرنا، فصار معي إلى منزلي، فتأمل ابن أبي طاهر، ثم نقر أنفه فضرط، فقال لي ما هذا؟ فقلت هذه بقية من روحه كرهت نكهته فخرجت مناسته، فضحك، وعرف المعلى خبرنا، فأمر لنا بجملة دنانير، والمعلى هذا هو الذي يقول فيه دعبل، وقيل أبو علي البصير:
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم
وحدث الجهشياري في كتاب الوزراء قال: مدح أحمد ابن أبي طاهر الحسن بن مخلد، وزير المعتمد، فأمر له بمائة دينار، وقال: إيت رجاء الخادم فخدذها منه، فلقي أحمد رجاء فقال له: لم يأمرني بشيء، فكتب إلى الحسن:
أما رجاء فأرجا ما أمرت به ... فكيف إن كنت لم تأمره يأتمر؟
بادر بجودك مهما كنت مقتدراً ... فليس في كل حال أنت مقتدر
فأمر بأضعافها له.

وذكره محمد بن إسحاق النديم، وقال: له من الكتب كتاب المنثور والمنظوم، أربعة عشر جزءاً، والذي بيد الناس ثلاثة عشر جزءاً، كتاب سرقات الشعراء، كتاب بغداد، كتاب الجواهر، كتاب المؤلفين، كتاب الهدايا، كتاب المشتق، كتاب المختلف من المؤتلف، كتاب أسماء الشعراء الأوائل، كتاب الموشى، كتاب ألقاب الشعراء، ومن عرف بالكنى ومن عرف بالاسم، كتاب المعروفين من الأنبياء، كتاب المعتذرين، كتاب اعتذار وهب من ضرطته، كتاب من أنشد شعراً وأجيب بكلام، كتاب الحجاب، كتاب مرثية هرمز بن كسرى بن أبي شروان، كتاب خبر الملك العالي في تدبير المملكة والسياسة، كتاب المصلح والوزير المعين، كتاب الملك البابلي والملك المصري الباغيين، والملك الحكيم الرومي، كتاب المزاح والمعاتبات، كتاب مفاخرة الورد والنرجس، كتاب مقاتل الفرسان، كتاب مقاتل الشعراء، كتاب الخيل، كبير، كتاب الطرد، كتاب سرقات البحتري من أبي تمام، كتاب جمهرة بني هاشم، كتاب رسالة إلى إبراهيم بن المدبر، كتاب الرسالة، في النهي عن الشهوات، كتاب الرسالة إلى علي بن يحيى، كتاب الجامع، في الشعراء وأخبارهم، كتاب فضل العرب على العجم، كتاب لسان العيون، كتاب أخبار المتظرفات، كتاب اختيار أشعار الشعراء كتاب اختيار شعر بكر ابن النطاح، كتاب المؤنس، كتاب الغلة والغليل، كتاب اختيار شعر العتابي، كتاب اختيار شعر منصور النمري، كتاب اختيار شعر أبي العتاهية، كتاب أخبار بشار واختيار شعره، كتاب أخبار مروان وآل مروان واختيار أشعارهم كتاب أخبار ابن ميادة كتاب أخبار ابن هرمة ومختار شعره. كتاب أخبار ابن الدمينة. كتاب أخبار وشعر عبد الله بن قيس الرقيات. وأنشد له ابنه عبيد الله في كتابه:
وما الشعر إلا السيف ينبو وحده ... حسام ويمضي وهو ليس بذي حد
ولو كان بالإحسان يرزق شاعر ... لأجدى الذي يكدى وأكدى الذي يجدي
ومن قوله أيضاً:
قد كنت أصدق في وعدي فصيرني ... كذابة ليس ذا في جملة الأدب
يا ذاكراً حلت عن عهدي وعهدكم ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب
حدث المرزباني في كتاب المقتبس، عن عبد الله ابن محمد الحليمي، قال: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في أبي العباس المبرد:
كملت في المبرد الآداب ... واستقلت في عقله الألباب
غير أن الفتى كما زعم النا ... س دعي مصحف كذاب
وحدث عنن الصولي، عن أبي علي بن عينويه الكاتب، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: خرجت من منزل أبي الصقر، نصف النهار في تموز، فقلت ليس بقربي منزل أقرب من منزل المبرد، إذ كنت لا أقدر أصل إلى منزلي بباب الشام، فجئته، فأدخلني إلى حويشة له، وجاء بمائدة، فأكلت معه لونين طيبين، وسقاني ماء بارداً، وقال لي: أحدثك إلى أن تنام، فجعل يحدثني أحسن حديث، فحضرني لشؤمي وقلة شكري بيتان، فقلت: قد حضرني بيتان أنشدهما؟ فقال: ذاك إليك، وهو يظن أني قد مدحته، فأنشدته:
ويوم كحر الشوق في صدر عاشق ... على أنه منه أحر وأومد
ظللت به عند المبرد قائلاً ... فما زلت في ألفاظه أتبرد
فقال لي: قد كان يسعك إذا لم تحمد ألا تذم، ومالك عندي جزاء إلا أن أخرجك، والله لا جلست عندي بعد هذا، فأخرجني، فمضيت إلى منزلي بباب الشام، فمرضت من الحر الذي نالني مدة، فعدت باللوم على نفسي.
قال الخالدي حدثنا جحظة عن أحمد بن أبي طاهر قال: قصدت سر من رأى، زائراً بعض كتابها بشعر مدحته به، فقبلني وأحسن إلي، وأجزل صلتي، ووهب لي غلاماً رومياً، حسن الوجه، ورحلت أريد بغداد سائراً على الظهر، ولم أركب الماء، فلما سرت نحو الفرسخ أخذتنا السماء بأمر عظيم من القطر، ونحن بالقرب من دير السوسن، فقلت للغلام: اعدل بنا يا بني إلى هذا الدير، نقيم فيه إلى أن يخف هذا المطر، ففعل وازداد القطر واشتد، وجاء الليل، فقال الراهب: أتت العشية ههنا، وعندي شراب جيد، فتبيت وتقصف، ويسكن المطر، وتجف الطريق وتبكر، فقلت: أفعل فأخرج إلي شراباً ما رأيت قط أصفي منه، ولا أعطر فقلت: هات مدامك، وأمرت بحط الرحل، وبت والغلام يسقيني، والراهب نديمي، حتى مت سكراً، فلما أصبحت رحلت، وقلت:

سقى سر من را وسكانها ... وديراً لسوسنها الراهب
سحاب تدفق عن رعده ال ... صفوق وبارقه الواصب
فقد بت في ديره ليلة ... وبدر على غصن صاحبي
غزال سقاني الصبا ... ح صفراء كالذهب الذائب
على الورد من حمرة الوجنت ... ين وفي الآس من خضرة الشارب
سقاني المدامة مستيقظاً ... ونمت ونام إلى جانبي
فكانت هناة لك الويل من ... جناها الذي خطه كاتبي
فيا رب تب واعف عن مذنب ... مقر بزلته تائب
أحمد بن الطيب السرخسييعرف بابن الفرائقي أحد العلماء الفهماء المحصلين، الفصحاء البلغاء المتقنين، له في علم الأثر الباع الواسع، وفي علوم الحكماء الذهن الثاقب الوقاد، وبسطة الذراع، وهو تلميذ الكندي وله في كل فن تصانيف، ومجاميع وتواليف، وكان أحد ندماء أبي العباس المعتضد بالله، والمختصين به، فأنكر منه بعض شأنه، فأذاقه حمامه صبراً، وجعله نكالاً، ولم يرع له ذمة ولا إلاً.
وقال في تاريخ دمشق: ذكره أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس، قال: ولي أحمد بن الطيب الحسبة يوم الاثنين، والمواريث يوم الثلاثاء، وسوق الرقيق يوم الأربعاء، لسبع خلون من رجب سنة اثنتين وثمانين ومائتين وفي يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين غضب المعتضد على أحمد بن الطيب، وفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأولى ضرب ابن الطيب مائة سوط، وحول إلى المطبق، وفي صفر سنة ست وثمانين ومائتين مات ابن الطيب السرخسي.
حدث أبو القاسم، عن عبد الله بن عمر الحاربي، قال حدثني أبي قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، نديم المعتضد، قال: كان المعتضد في بعض متصيداته مجتازاً بعسكره وأنا معه، فصاح ناطور في قثاء فاستدعاه وسأله عن سبب صياحه، فقال: أخذ بعض الجيش شيئاً فقال: اطلبوهم فجاءوا بثلاثة أنفس، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور: نعم، فقيدهم في الحال، وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه، وسار، وأنكر الناس ذلك وتحدوا به، ونحبت قلوبهم منه، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة، فقال لي: يا عبد الله، هل يعتب الناس علي شيئاً؟ عرفني حتى أزيله، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، فقال: أقسمت عليك بحياتي إلا صدقتني، قلت: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ قال: نعم، قلت: إسراعك إلى سفك الدماء، فقال: والله ما هرقت دماً قط منذ وليت هذا الأمر إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر عليه الكلام، فقال: بحياتي لما قلت، فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، فقال: ويحك، إنه دعاني إلى الإلحاد، فقلت له: يا هذا، أنا ابن عم صاحب هذه الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، وإذا غضبت لم ترض، فلم يصلح إطلاقه، فسكت سكوت من يريد الكلام، فقال: في وجهك كلام، فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الأنفس الذين قتلتهم في قراح القثاء، فقال: والله ما كان أولئك المقتولون هم الذين أخذوا القثاء وإنما كانوا لصوصاً، حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثاء، فأردت أن أهول على الجيش، بأن من عاث منهم في عسكري وأفسدوا في هذا القدر، كانت هذه عقوبتي له، ليكفوا عما فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال والوقت، وإنما حبستهم، وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه، ليقال إنهم أصحاب القثاء، فقلت: فكيف تعلم العامة؟ قال: بإخراجي القوم الذين أخذوا القثاء أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة، ثم قال: هاتوا القوم، فجاءوا بهم، وقد تغيرت حالهم، فقال لهم: ما قصتكم؟ فاقتصوا عليه قصة القثاء، فاستتابهم عن فعل مثل ذلك وأطلقهم، فانتشرت الحكاية فزالت التهمة.
أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيمابن سعيد بن أبي زرعة الزهري مولاهم، يكنى أبا بكر البرقي، وقد ذكرنا فيما بعد برقياً آخر، اسمه أحمد بن محمد، وهو أيضاً من برقة قم، وقد اشتد علي أمره وأمر هذا، فنقلت كما وجدت، ولا شك أنهما من بيت واحد، والله أعلم.

وكانوا ثلاثة إخوة كلهم من أهل العلم، أبو بكر أحمد، وأبو عبد الله محمد، وأبو سعيد عبد الرحيم، يروي ثلاثتهم المغازي عن عبد الملك بن هشام، وفي كتاب أصبهان لحمزة، في الفصل الذي ذكر فيه أهل الأدب واللغة قال: أحمد بن عبد الله البرقي كان من رستاق برق رود، وهو أحد الرواة للغة والشعر، واستوطن قم، فخرج ابن أخيه أبو عبد الله البرقي هناك، ثم قدم أبو عبد الله أصبهان فاستوطنها.
قرأت في كتاب جمهرة النسب قال ابن حبيب: أخبرني أبو عبد الله البرقي - وكان أعلم أهل قم بنسب الأشعريين - أن ابن الكلبي قال: في ثلاثة أحياء من الأشعريين لسن وإنما هو أسن وقال مراطة، وإنما هو إمراطة، وقال زكاز وإنما هو ركاز.
أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبةأبو جعفر الكاتب، ولد ببغداد، ومات بمصر وهو على قضائها، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وقد روى عن أبيه تصانيفه كلها، حدث عنه أبو الفتح المراغي النحوي، وعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، وغيرهما، وقال أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاذ النجيرمي إن أبا جعفر بن قتيبة حدث بكتب أبيه كلها بمصر حفظاً، ولم يكن معه كتاب، وأحسب ذكر ذلك عن أبي الحسين المهلبي.
وحدث أبو سعيد بن يونس قال: قدم أحمد بن عبد الله ابن مسلم بن قتيبة مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وتولى بها القضاء وتوفي بها وهو على القضاء سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد بن عبد الله المعبديمن ولد معبد بن العباس، بن عبد المطلب بن هاشم، أحد من اشتهر بالنحو وعلم العربية من الكوفيين وجه من وجوه أصحاب ثعلب الكبار، ذكره الزبيدي، وقد تقدم ذكر آخر يقال له أحمد بن سليمان، لا أدري أهو هذا ونسب إلى جد له أعلى يقال له سليمان أم هو غيره؟ قرأت بخط ابن أبي نواس قال أبو عمر بن حيويه، قال لي أبو عمر: مات المعبدي ليلة الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغانيأبو منصور بن أبي محمد عبد الله، بن أحمد بن خزيان بن حامس الفرغاني كان أبوه صاحب محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، وقد كتبنا خبره فيما بعد في بابه، مات أحمد هذا في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ومولده لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وكانت وفاته كما أخبرني المصريون بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة عند كوني بها.
روى أبو منصور عن أبيه تصانيف أبي جعفر محمد ابن جرير الطبري، وصنف أبو منصور أيضاً عدة تصانيف، منها كتاب التاريخ، وصل به تاريخ والده، وكتاب سيرة العزيز سلطان مصر، المنتسب إلى العلويين، وكتاب سيرة كافور الإخشيدي،وبمصر كان مقامه.
أحمد بن عبد الله بن بدر القرطبيالنحوي، أبو مروان الحكم المستنصر، روى عن أبي عمر بن أبي الحباب، وأبي بكر بن هذيل، وكان نحوياً لغوياً، شاعراً عروضياً، مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، حدث عنه أبو مروان الطبيبي، وذكر خبره ووفاته، قاله ابن بشكوال.
أحمد بن عبد الله بن سليمانأبو العلاء المعري، هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، بن داود بن المطهر، بن زياد بن ربيعة، بن الحارث ابن ربيعة، بن أرقم بن أنور، بن أسحم بن النعمان، ويقال له الساطع الجمال، بن عدي بن عبد غطفان، بن عمرو بن يربح، بن خزيمة بن تيم الله، بن أسد بن وبرة ابن تغلب بن حلوان، بن عمران بن الحاف، بن قضاعة، وتيم الله مجتمع تنوخ من أهل محلة النعمان، من بلاد الشام، كان غزير الفضل، شائع الذكر، وافر العلم، غاية الفهم، عالماً باللغة حاذقاً بالنحو، جيد الشعر، جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته، وفضله ينطق بسجيته، ولد بمعرة النعمان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة واعتل بالجدري، التي ذهب فيها بصره سنة سبع وستين وثلاثمائة، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ورحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى بلده، فأقام ولزم منزله إلى أن مات، يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الأول، سنة تسع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وكان في آبائه وأعمامه، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه، من ولد أبيه ونسله فضل، وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني، لتعرف نسبه في العلم، كما عرفت ما أعطيه من الفهم.

كان سليمان بن أحمد بن سليمان جده، قاضي المعرة، ولي القضاء بحمص، وبها مات سنة تسعين ومائتين، ثم ولي القضاء بعده بها ولده أبو بكر محمد، عم أبي العلاء وفيه يقول الصنوبري الشاعر:
بأبي يا بن سليمان ... سدت تنوخا
وهم السادة شبا ... ناً لعمري وشيوخا
أدرك البغية من أض ... حى بناديك منيخا
وارداً عندك نيلاً ... وفراتاً وبليخا
واجداً منك متى است ... صرخ للمجد صريخا
في زمان غادر اله ... مات في الناس مسوخا
ثم بعده أخوه، أبو محمد عبد الله، والد أبي العلاء ولعبد الله شعر في مرثية والده:
إن كان أصبح من أهواه مطرحاً ... بباب حمص فما حزني بمطرح
لو بان أيسر ما أخفيه من جزع ... لمات أكثر أعدائي من الفرح
وتوفي عبد الله بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ومنهم أبو المجد، محمد بن عبد الله أخو أبي العلاء، وكان أسن من أبي العلاء، وله أيضاً شعر، منه في الزهد:
كرم المهيمن منتهى أملي ... لا نيتي أجر ولا عملي
يا مفضلاً جلت فواضله ... عن بغيتي حتى انقضى أجلي
كم قد أفضت علي من نعم ... كم قد سترت علي من زلل
إن لم يكن لي ما ألوذ به ... يوم الحساب فإن عفوك لي
ومنهم عبد الواحد، أبو الهيثم أخو أبي العلاء القائل في الشمعة:
وذات لون كلوني في تغيره ... وأدمع كدموعي في تحدرها
سهرت ليلي وباتت لي مسهرة ... كأن ناظرها في قلب مسهرها
وله أيضاً:
قالوا تراه سلا لأن جفونه ... ضنت عشية بيننا بدموعها
ومن العجائب أن يفيض مدامع ... نار الغرام تشب في ينبوعها
هؤلاء من حضرني، ممن كان قبل أبي العلاء وفي زمانه، وقد تأخر عن زمانه من أهله من كان عالماً فاضلاً، وأنا ذاكرهم ههنا ليجيئوا على نسق واحد، فمنهم القاضي أبو المجد، محمد بن عبيد الله، وأبو المجد الثاني هو أخو أبي العلاء، وذكره العماد في الخريدة، فقال: ذكر لي ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب، أنه كان فاضلاً أديباً، فقيهاً على مذهب الشافعي، أريباً مفتياً خطيباً، أدرك عم أبيه أبا العلاء، وروى عنه مصنفاته وأشعاره، وولي القضاء بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج - خذلهم الله - في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فانتقل إلى شيرز وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة فأقام بها إلى أن مات، في محرم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومولده سنة أربعين وأربعمائة وله ديوان ورسائل، ومن شعره:
رأيتك في نومي كأنك معرض ... ملالاً فداويت الملالة بالترك
وأصبحت أبغي شاهداً فعدمته ... فعدت فغلبت اليقين على الشك
وعهدي بصحف الود تنشر بيننا ... فإن طويت فاجعل ختامك بالمسك
لئن كانت الأيام أبلى جديدها ... جديدي وردت من رحيب إلى ضنك
فما أنا إلا السيف أخلق جفنه ... وليس بمأمون الفرند على الفتك
قال: وأنشدني بعض أهل المعرة:
جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له ... إليك عني فإن اليوم بحراني
فقال لي ما الذي تشكو؟ فقلت له ... إني هويت بجهلي بعض نجيراني
فقام يعجب من قولي وقال لهم ... إنسان سوء فداووه بإنسان
قال: وأنشدني مؤيد الدولة، أسامة بن منقذ قال: أنشدني القاضي أبو المجد المعري لنفسه:
وقائلة رأت شيباً علاني ... عهدتك في قميص صباً بديع
فقلت فهل ترين سوى هشيم ... إذا جاوزت أيام الربيع
قال الأمير أسامة: ولما فارق أهله بالمعرة وبقي منفرداً، وكان له غلام اسمه شعيا قال:
زمان غاض أهل الفضل فيه ... فسقياً للحمام به ورعيا
أسارى بين أتراك وروم ... وفقد أحبة وفراق شعيا
قال: وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي، فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرب، كان معه غلام اسمه داهر فقال:
كفى حزناً أني مقيم ببلدة ... يعللني بعد الأحبة داهر

يحدثني مما يجمع عقله ... أحاديث منها مستقيم وجائر
قال الأمير أسامة: لما بليت بفرقة الأهل، كتبت إلى أخي، أستطرد بغلامي أبي المجد، والوزير المغربي، اللذين ذكراهما في شعريهما:
أصبحت بعدك يا شقيق النفس في ... بحر من الهم المبرح زاخر
متفرداً بالهم من لي ساعة ... برفاق شعيا أو علالة داهر
الحديث شجون، يذكر الشيء بما يتصل به، وأشعار أبي المجد المعري كثيرة، منها:
قد أوسع الله البلاد وللفتى ... إلى بعضها عن بعضها مترحرح
فخل الهوينا إنها شر مركب ... ودونك صعب الأمر فالصعب أنجح
فإن نلت ما تهوى فذاك وإن تمت ... فللموت خير للكريم وأروح
ومنهم أبو اليسر، شاكر بن عبد الله، بن محمد، بن أبي المجد، بن عبد الله، بن محمد، بن سليمان، قال العماد: كان كاتب الإنشاء لنور الدين محمود بن زنكي قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته، توليت الإنشاء بعده، ومولده بشيزر في جمادى الآخرة، سنة ست وتسعين وأربعمائة، وكان قد تولى ديوان الإنشاء سنين كثيرة، قال: وأنشدني لنفسه:
وردت بجهلي مورد الصب فارتوت ... عروقي من محض الهوى وعظامي
ولم تك إلا نظرة بعد نظرة ... على غرة منها ووضع لثام
فحلت بقلبي من تثنيه لوعة ... تفرت بها حتى الممات عظامي
وله أيضاً:
سارقته نظرة أطال بها ... عذاب قلبي وما له ذنب
يا جور حكم الهوى ويا عجبا ... تسرق عيني ويقطع القلب
وله:
يا له عارضاً إذا دب في الخد ... دبيباً من تحت عقرب صدغ
قعد القلب منهما في بلاء ... وعذاب ما بين قرص ولدغ
وله:
غريت بهم نوب الليالي فاغتدوا ... ما يستقر لهم بأرض دار
حتى كأنهم طريف بضائع ... وكأن أحداث الزمان تجار
وله أيضاً:
تعمم رأسي بالمشيب فساءني ... وما سرني تفتيح نور بياضه
وقد أبصرت عيني خطوباً كثيرة ... فلم أر خطباً أسوداً كبياضه
ومنهم القاضي أبو مسلم، وادع بن عبد الله، بن محمد، ابن عبد الله، بن سليمان، كان أبو العلاء عم أبيه، تولى القضاء بمعرة النعمان وكفر طاب وحماة، وكان مشهوراً بالكرم، ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وله رسائل حسنة، وشعر بديع منه:
وقائلة ما بال جفنك أرمدا ... فقلت وفي الأحشاء من قولها لدغ
لئن سرقت عيناه من لون خده ... فغير بديع ربما نفض الصبغ
ومن شعره أيضاً:
ولما تلاقينا وهذا بناره ... حريق وهذا بالدموع غريق
تقلدت الدر الذي فاض جفنها ... فرصعه من مقلتي عقيق
ومنهم أبو عدي النعمان بن مسلم، وادع من أهل العلم والفضل، وهو القائل:
يأيها الملاك لا تبرحوا الأم ... لاك وارجوها إلى قابل
فالعام قد صحت ولكنها ... للعدل والمشرف والعامل
ومات أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة. ومنهم أبو مرشد سليمان بن علي، بن محمد بن عبد الله، بن سليمان، ولي القضاء بمعرة النعمان، وانتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة، وتوفي بها، وله رسائل وشعر، منه قصيدة التزم في كل كلمة منها حرف النون، أولها:
نزه لسانك عن نفاق منافق ... وانصح فإن الدين نصح المؤمن
وتجنب المن المنكد للندى ... وأعن بنيلك من أعانك وامنن
ومنهم أبو سهل، عبد الرحمن بن مدرك، بن علي بن محمد بن سليمان، مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وكان شاعراً مطبوع الشعر، ومنه:
جرحت بلحظي خد الحبي ... ب فما طالب المقلة الفاعلهْ
ولكن اقتص من مهجتي ... كذك الديات على العاقلهْ
ومن شعره أيضاً:
ولما سألت القلب صبراً عن الهوى ... وطالبته بالصدق وهو يروغ
تيقنت منه أنه غير صابر ... وأن سلوا عنه ليس يسوغ

فإن قال لا أسلوه قلت صدقتني ... وإن قال أسلو عنه قلت دروغ
هذه كلمة أعجمية معناها كذب، ومنهم أخوه أبو المعالي صاعد بن مدرك، بن علي، بن محمد، بن عبد الله، ابن سليمان، مولده ومنشؤه شيزر وحماة، ومات بمعرة النعمان، ومن شعره:
أيأيها الوادي المبيني هل لنا ... تلاق فنشكو فيه صنع التفرق
أبثك ما بي من غرام ولوعة ... وفرط جوى يضني وطول تشوق
عسى أن ترقى حين ملكت رقه ... وترثي له مما بهجرك قد لقي
بوصل يروي غلة الوجد والأسى ... ويطفي به حر الجوى والتحرق
وغير هؤلاء حذفت أسماءهم اختصاراً، وإنما قصدت الإخبار عن إعراق أبي العلاء في بيت العلم.
ونقلت من بعض الكتب، أن أبا العلاء لما ورد إلى بغداد، قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي، ليقرأ عليه، فلما دخل إليه، قال علي بن عيسى: ليصعد الإسطبل، فخرج مغضباً ولم يعد إليه، والإسطبل في لغة أهل الشام الأعمى، ولعلها معربة.
ودخل على المرتضى أبي القاسم، فعثر برجل، فقال من هذا الكلب؟ فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سعين اسماً، وسمعه المرتضى فاستدناه، واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً.
وكان أبو العلاء يتعصب للمتنبئ، ويزعم أنه أشعر المحدثين، ويفضله على بشار ومن بعده، مثل أبي نواس، وأبي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبئ، ويتعصب عليه، فجرى يوماً بحضرته ذكر المتنبئ، فتنقصه المرتضى، وجعل يتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبئ من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه فضلاً، فغضب المرتضى وأمر فسحب برجله، وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن للمتنبئ ما هو أجود منها لم يذكرها، فقيل: النقيب السيد أعرف، فقال أراد قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ولما رجع إلى المعرة لزم بيته: فلم يخرج منه، وسمى نفسه رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل، وترك الخروج منه. وحبسه عن النظر إلى الدنيا بالعمى: وكان متهماً في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحماً، ولا يؤمن بالرسل، والبعث والنشور، وعاش شيئاً وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة، وحدثت أنه مرض مرة، فوصف الطبيب له الفروج، فلما جئ به لمسه بيده وقال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد: وقد أوردنا من شعره ما يستدل به على سوء معتقده، ويخبرك بنحلته ومستنده.
وحدث غرس النعمة أبو الحسن الصابئ، أنه بقي خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض، ويحرم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس حشن الثياب، ويظهر دوام الصوم، قال: ولقيه رجل فقال له: لم لا تأكل اللحم؟ قال: أرحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان؟ فإن كان لذلك خالق فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملاً، فسكت، قال ابن الجوزي: وقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة، وأما ما قد ذبحه غيره فأي رحمة بقيت؟ قال: وقد حدثنا عن أبي زكريا أنه قال: قال لي المعري: ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده، فقلت له: ما أنا إلا شاك، فقال: وهكذا شيخك. قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني: قال لي المعري: لم أهج أحداً قط، فقلت له: صدقت. إلا الأنبياء عليهم السلام، فتغير وجهه.
وحدث أبو زكرياء قال: لما مات أبو العلاء أنشد على قبره أربعة وثمانون شاعراً مراثي، من جملتها أبيات لعلي بن الهمام من قصيدة طويلة:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سيرت ذكراً في البلاد كأنه ... مسك مسامعها يضمخ أو فما
وترى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أوجدب فدية من أحرما
كأنه يقول: إن ذكراك طيب، والطيب لا يحل للمحرم، فيجب عليه فدية، ومن شعره في الزهد:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

ومن شعره في الزهد:
فلا تشرف بدنيا عنك معرضة ... فما التشرف بالدنيا هو الشرف
واصرف فؤادك عنها مثلما انصرفت ... فكلنا عن مغانيها سينصرف
يا أم دفر لحاك الله والدة ... فيك الخناء وفيك البؤس والسرف
لو أنك العرس أوقعت الطلاق بها ... لكنك الأم ما لي عنك منصرف
وحدث أبو الكرم، خميس بن علي الجوزي النحوي، حدثنا القاضي أبو يوسف القزويني قال: قال لي ملحد المعرة: ما سمعت في أمر الحسين بن علي رضي الله عنهما شيئاً يجب أن يحفظ، فقلت له: قد قال سوادي من أهل بلادنا أبياتاً، لا يقول مثلها تنوخ جدك الأكبر،
رأس ابن بنت محمد ووصيه ... للمسلمين على قناة يرفع
والمسلمون لمنظر ولمشهد ... لا جازع فيهم ولا متفجع
كحلت بمنظرك العيون عماية ... وأصم رزؤك كل أذن تسمع
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك تربة ولخط قبرك مضجع
قال ولم يسم لنا قائلاً: وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر: وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، وهو من لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة، قال: لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب، رأيت شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، قال: وحضرته يوماً وهو يملي في جواب كتاب ورد عليه من بعض الرؤساء:
وافى الكتاب فأوجب الشكرا ... فضممته ولثمته عشرا
وفضضته وقرأته فإذا ... أجلى كتاب في الورى يقرا
فمحاه دمعي من تحدره ... شوقاً إليك فلم يدع سطرا
قال وأنشدني لنفسه:
لست أدري ولا المنجم يدري ... ما يريد القضاء بالإنسان
غير أني أقول قول محق ... قد يرى الغيب فيه مثل العيان
إن من كان محسناً فابكينه ... لجميل عواقب الإحسان
حدث أبو سعد السمعاني في كتاب النسب، وقد ذكر المعري فقال بعد وصفه: وذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي، أنه كان قاعداً في مسجده بمعرة النعمان، بين يدي أبي العلاء يقرأ عليه شيئاً من تصانيفه، قال: وكنت قد أقمت عنده سنين، ولم أر أحداً من أهل بلدي، فدخل المسجد مغافصة بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: إيش أصابك؟ فحكيت له أني رأيت جاراً لي، بعد أن لم ألق أحداً من أهل بلدي سنتين، فقال لي: قم وكلمه. فقلتع: حتى أتمم السياق. فقال: قم أنا أنتظر لك، فقمت وكلمته بلسان الأذربية شيئاً كثيراً، إلى أن سألت عن كل ما أردت، فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت، وقال جاري: فتعجبت غاية التعجب، كيف حفظ ما لم يفهمه.
قال المؤلف: وهذا غاية ليس بعدها شيء في حسن الحفظ، وقال المؤلف: وأنا كثير الاستحسان لقول أبي العلاء:
أسالت أتي الدمع فوق أسيل ... ومالت لظل بالعراق ظليل
أيا جارة البيت الممنع أهله ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل؟
لغيري زكاة من جمال وإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
وأرسلت طيفاً خان لما بعثته ... فلا تثقي من بعده برسول
خيالاً أرانا نفسه متجنياً ... وقد زار من صافي الوداد وصول
نسيت مكان العقد من دهش النوى ... فعلقته من وجنة بمسيل
وكنت لأجل السن شمس غدية ... ولكنها للبين شمس أصيل
أسرت أخانا بالخداع وإنه ... يعد إذا اشتد الوغى بقبيل
فإن تطلقيه تملكي شكر قومه ... وإن تقتليه تؤخذي بقتيل
فإن عاش لاقى ذلة واختياره ... وفاة عزيز لا حياة ذليل

وكيف يجر الجيش يطلب غارة ... أسير لمجرور الذيول كحيل
ومن شعره لزوم ما لا يلزم:
يا محلى عليك مني سلام ... سوف أمضي وينجز الموعود
فلجسمي إلى التراب هبوط ... ولورحي إلى الهواء صعود
وعلى حالها تدوم الليالي ... فنحوس لمعشر وسعود
أترجون أن أعود إليكم؟ ... لا ترجوا فإنني لا أعود
قرأت بخط أبي سعد، أنشدنا الوكيل بأصبهان، أنشدنا عبيد الله القشيري، أنشدنا أبو الوليد الدربندي، قال: أنشدني أبو العلاء التنوخي في داره، عند وداعي إياه.
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف علي دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لعهود إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى ... فمتى أودع خلي التوديعا؟
قال أبو الهبارية: أنشدني أبو زكريا الخطيب التبريزي قال: أنشدني أبو العلاء، أحمد بن عبد الله، بن سليمان المعري لنفسه:
أرى جيل التصوف شر جيل ... فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
ومن شعر أبي العلاء في الغزل:
يا ظبية علقتني في تصيدها ... أشراكها وهي لم تعلق بأشراكي
أعييت قلبي وما راعيت حرمته ... فلم رعيت ولا راعيت مرعاك
أتحرقين فؤاداً قد حللت به ... بنار حبك عمداً وهو واراك
أسكنته حين لم يسكن به سكن ... وليس يحسن أن يسخى بسكناك
ما بال داعي غرامي حين يأمرني ... بأن أكابد حر الوجد ينهاك
ولم غدا القلب ذا يأس وذا طمع ... يرجوك أن ترحميه ثم يخشاك
ومن خط ابن العصار، قال أبو العلاء في رجل اسمه أبو القاسم:
هذا أبو القاسم أعجوبة ... لكل من يدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يحفظ ال ... قرآن وهو الشاعر المقري
قرأت بخط أبي سعيد قال: سمعت المبارك بن أحمد ابن الأخوث مذاكرة، خرج رجل على سبيل: الفرجة فقعد على الجسر، فأقبلت امرأة من جانب الرصافة، متوجهة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري، ولم يقفا، ومرا مشرقاً ومغربة، فتتبعت المرأة وقلت لها: أخبريني - عافاك الله - عما قال لك، وعما أجبته؟ فقالت: نعم، رحم الله علي بن الجهم أراد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت بترحمي على أبي العلاء قوله:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
قال أبو زكريا، يحيى بن علي، الخطيب التبريزي: أنشدني أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه:
منك الصدود ومني بالصدود رضى ... من ذا علي بهذا في هواك قضى
لي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجاريب في ود امرئ غرضا
إذا الفتى ذم عيشاً في شبيبته ... ماذقا يقول إذا عصر الشباب مضى؟
وقد تعوضت عن كل بمشبهه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا
وله أيضاً:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
الأبيات: قرأت بخط عبد الله بن محمد، بن سعيد بن سنان، الخفاجي الشاعر في كتاب له ألفه في الصرفة، زعم فيه: أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة، حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله، إلا أنهم صرفوا عن ذلك، لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة، وهو مذهب لجماعة من المتكلمين والرافضة، منهم بشر المريسي، والمرتضى أبو القاسم، قال في تضاعيفه: وقد حمل جماعة من الأدباء قول أصحاب هذا الرأي، على أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدي، على أن ينظموا على أسلوب القرآن، وأظهر ذلك قوم، وأخفاه آخرون.

ومما ظهر منه قول أبي العلاء في بعض كلامه: أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، ما بين الأشراط ومطالع سهيل، إن الكافر لطيول الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، اتق مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناجٍ.
وقوله: أذلت العائذة أباها، وأصاب الوحدة ورباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال وصباها، " ولا يخاف عقباها " .
وقال:
ما جار شماسك في كلمة ... ولا يهوديك بالطامع
والطيلسان اشتق في لفظه ... من طلسة المبتكر الخامع
والقس خير لك فيما أرى ... من خاطب يخطب في جامع
وله أيضاً:
قالوا: فلان جيد فأجبتهم ... لا تكذبوا ما في البرية جيد
فغنيهم نال الغناء ببخله ... وفقيرهم بصلاته يتصيد
والناس في أبي العلاء مختلفون، فمنهم من يقول: إنه كان زنديقاً، وينسبون إليه أشياء مما ذكرناها، ومنهم من يقول: كان زاهداً عابداً متقللاً، يأخذ نفسه بالرياضة والخشونة، والقناعة باليسير، والإعراض عن أعراض الدنيا.
قال كمال الدين أبو القاسم، عمر بن أبي جرداة: قرأت بخط أبي اليسر شاكر بن عبد الله، بن سليمان المعري، أن المنتصر صاحب مصر، بذل لأبي العلاء ما ببيت المال بالمعرة من الحلال، فلم يقبل منه شيئاً، فقال:
كأنما لي غاية من غنى ... فعد عن معدن أسوان
سرت برغمي عن زمان الصبي ... يعجلني وقتي وأكواني
صد أبي الطيب لما غدا ... منصرفاً عن شعب بوان
وقال أيضاً:
لا أطلب الأرزاق وال ... مولى يفيض علي رزقي
إن أعط بعض القوت أع ... لم أن ذلك ضعف حقي
قال: وقرأت بخط أبي المعري في ذكره، وكان - رضي الله عنه - ، يرمى من أهل الحسد له بالتعطيل، وتعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار، يضمنونها أقاويل الملحدة قصداً لهلاكه، وإيثاراً لإتلاف نفسه، فقال - رضي الله عنه - :
حاول إهواني قوم فما ... واجهتهم إلا بإهوان
يخرشوني بسعاياتهم ... فغيروا نية إخواني
لو استطاعوا لوشوا بي إلى ال ... مريخ في الشهب وكيوان
وقال أيضاً:
غريت بذمي أمة ... وبحمد خالقها غريت
وعبدت ربي ما استطع ... ت ومن بريته بريت
وفرتني الجهال حا ... سدة علي وما فريت
سعروا علي فلم أح ... س وعندهم أني هريت
فهرست كتبه على ما نقلته من خط أحد مستملي أبي العلاء، قال: الذي أملاه أبو العلاء، أحمد بن عبد الله، بن سليمان التنوخي - تجاوز الله عنه - من الكتب على ضروب: منها ما هو في الزهد، وقرأت في نسخة أخرى: فهرست كتبه ما صورته، قال الشيخ أبو العلاء - رضي الله عنه - : لزمت مسكني منذ سنة أربعمائة، واجتهدت على أن أتوفر على تسبيح الله وتحميده، إلى أن أضطر إلى غير ذلك، فأمليت أشياء، وتولى نسخها الشيخ أبو الحسن، علي بن عبد الله ابن أبي هاشم - أحسن الله معونته - فألزمني بذلك حقوقاً جمة، وأيادي بيضاء، لأنه أفنى في زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه، والله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادي الزمن والأرزاء، وهي على ضروب مختلفة، فمنها ما هو في الزهد والعظات، وتمجيد الله سبحانه وتعالى من المنظوم والمنثور، فمن ذلك، الكتاب المعروف بالفصول والغايات، والمرادب الغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت، أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم، ما خلا الألف، لأن فواصله مبينة على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين، ولكن تجئ الهمزة وقبلها ألف، مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التي يبنى عليها مستوية الإعراب، بل تجئ مختلفة.
وفي الكتاب قواف تجئ على نسق واحد، وليست المطلقة بالغايات، ومجيئها على حرف واحد، مثل أن يقال: عمامها، وغلامها، وغمامها، وأمرا، وتمرا، وما أشبه، وفيه فنون كثيرة من هذا النوع.

وقيل إنه بدأ بهذا الكتاب قبل رحلته إلى بغداد، وأتمه بعد عوده إلى معرة النعمان، وهو سبعة أجزاء، وفي نسخة، مقداره مائة كراسة، وكتاب الشاذن، أنشأه في ذكر غريب هذا الكتاب، وما فيه من اللغز، مقداره عشرون كراسة، وكتاب إقليد الغايات، لطيف مقصور على تفسير اللغز، مقداره عشر كراريس، الكتاب المعروف بالأيك والغصون، وهو كتاب الهمزة والردف بخطه، يبنى على إحدى عشرة حالة، الهمزة في حال إفرادها وإضافتها، ومثال ذلك السماء بالرفع: السماءَ، بالنصب: السماء، بالخفض: سماء يتبع الهمة التنوين: سماؤه، مرفوع مضاف، سماءه منصوب مضاف: سمائه مخفوض مضاف، ثم يجئ سماؤها، وسماءها، وسمائها، على التأنيث، ثم همزة بعدها هاء ساكنة، مثل عباءه وملاءه، فإذا ضربت في حروف المعجم الثمانية والعشرين، خرج من ذلك ثلاثمائة فصل وثمانية فصول، وهي سمتوفاة في كتاب الهمزة والردف، وذكرت فيه الأرداف الأربعة بعد ذكر الألف، وهي الواو المضموم ما قبلها، والواو التي قبلها فتحة، ويذكر لكل جنس من هذه أحد عشر وجهاً، كما ذكر للألف، ومن غير خطه وهو في العظات وذم الدنيا، وهو إثنان وتسعون جزءاً، نسخة أخرى، ويكون مقدار هذا الكتاب ألفاً ومائتي كراسة، ومن خطه الكتاب المعروف بتضمين الآي، وهو كتاب مختلف الفصول، فمنه طائفة على حروف المعجم، وقبل الحرف المعتمد ألف، مثل أن يقال في الهمزة: بناء ونساء، وفي الباء ثياب وعباب، ثم على هذا إلى آخر الحروف، ومنه فصول كثيرة على فاعلين، مثل باسطين وقاسطين، وعلى فاعلون، مثل حامدون وعابدون، وفيه ما هو على غير هذا الفن، والغرض أن يأتي بعد انقضاء الكلام آية من الكتاب العزيز، مثل قوله " إياك نعبد وإياك نستعين " ، وربما اقتصر على بعض الآية، أو جئ بآيتين أو أكثر منهما، إذا كانت الآيات من ذوات القصر، كآيات " عبس " ونحوها، ومقدار هذا الكتاب أربعمائة كراسة.
وكان السبب في تأليف هذا الكتاب، أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتاباً برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف شيئاً في غير العظات، والحث على تقوى الله، فأملى هذا الكتاب. كتاب تفسير الهمزة والردف، جزء، كتاب سيف الخطبة جزءان، يشتمل على خطب السنة، فيه خطب للجمع والعيدين، والخسوف والكسوف، والاستسقاء، وعقد النكاح، وهي مؤلفة على حروف من حروف المعجم، فيها خطب عمادها الهمزة، وخطب بنيت على الباء، وخطب على الدال، وعلى الراء، وعلى اللام، وعلى الميم، وعلى النون، وتركت الجيم والحاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات، ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً، ومقداره أربعون كراسة، وكان سأله في الكتاب رجل من المتظاهرين بالديانة، فصنف له كتاب نشر شواهد الجمهرة ولم يتم ثلاثة أجزاء. كتاب دعاء وحرز الخيل، كتاب مجد الأنصار في القوافي، كتاب تاج الحرة في عظات النساء خاصة، وتختلف فصوله، فمنها ما يجئ بعد حرفه الذي بني الروي عليه ياء للتأنيث، كقوله: " شائي " وتشائي وتسائي، وهابي، وترائي. ومنه ما هو مبني على الكاف، نحو غلامك وكلامك. ومنها ما يجيء على تفعلين، مثل ترغبين وتذهبين، وأنواعه كثيرة، فيكون هذا الكتاب نحو أربعمائة كراسة. كتاب يعرف بدعاء ساعة، وكتاب آخر يعرف بوقفة الواعظ، وكتاب يعرف بسجع الحمائم، يتكلم فيه على ألسن حمائم أربع، وكان بعض الرساء سأله أن يصنف له تصنيفاً يذكره فيه، فأنشأ له هذا الكتاب، وجعل ما يقوله على لسان الحمامة في العظة، والحث على الزهد. قال غيره: هو أربعة أجزاء، مقداره ثلاثون كراسة. كتاب يعرف بلزوم ما لا يلزم، وهو في المنظوم، بني على حروف المعجم، يذكر كل حرف سوى الألف بوجوهه الأربعة، وهي: الضمة والفتحة والكسرة والوقف، ومعنى لزوم ما لا يلزم، أن القافية يردد فيها حرف لو غير لم يكن مخلاً بالنظم، كما قال كثير:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم انزلا حيث حلت
فلزم اللام قبل اتاء، وذلك لا يلزمه، ولم يفعل كما فعل الشنفري في قصيدته التي على التاء، لأنه لم يلزم فيها إلا حرفاً واحداً، ولكنه خالف بين الحروف التي قبل الروي، فقال:
أرى أم عمرو أزمعت فاستقلت ... وما ودعت جيرانها يوم ولت
وقال فيها:
بريحانة من نبت حلية نورت ... لها أرج ما حولها غير مسنت
وقال فيها:

لها وفضة فيها ثلاثون سيحفاً ... إذا أنست أولى العداة اقشعرت
ومن غير خطه ما هو ثلاثة أجزاء، أو أربعمائة وعشرون كراسة، يحتوي على أحد عشر ألف بيت من الشعر. كتاب زجر النابح، يتعلق بلزوم ما لا يلزم، وذلك أن بعض الجهال تكلم على أبيات من لزوم ما لا يلزم، يريد بها التشرر والأذية، فألزم أبا العلاء أصدقاؤه أن ينشئ هذا، فأنشأ هذا الكتاب وهو كاره، ومن غير خطه ما هو شرح اللزوم، وهو جزء واحد، مقداره أربعون كراسة، كتاب يتعلق بزجر النابح، سماه بحر الزجر، كتاب ملقى السبيل، صغير، فيه نظم ونثر، كتاب الجلي والحلي، سأله فيه صديق له من أهل حلب، يعرف بابن الحلي، مجلد واحد وعشرون كراسة، ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف، فيه شعر قيل في الدهر الأول: يعرف بكتاب سقط الزند، وأبياته ثلاثة آلاف بيت، كتاب يعرف بجامع الأوزان، فيه شعر منظوم على معنى اللغز، يعم به الأوزان الخمسة عشر، التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها، ويذكر قوافي كل ضرب من ذلك، مثاله أن يقال للضرب الأول من الطويل أربع قواف، المطلقة المجردة، ثم قول القائل:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيانا عداً آخر الدهر
والقافية المردفة، مثل قول امرئ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
والمقيدة المجردة، وذلك مفقود في الشعر القديم والمحدث، وربما جاء به المحدثون على النحو الذي يسمى مقصوراً، كما قال بعض الناس وهو في السجن: هو صالح ابن عبد القدوس:
إلى الله أشكو إنه موضع الشكوى ... وفي يده كشف المصيبة والبلوى
خرجدنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا مخبر عن حديثها ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الرؤيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطلت ... وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
والقافية المقيدة المؤسسة، مثل أن يكون العادل والقائل، وذلك مرفوض متروك، ثم على هذا النحو إلى آخر الكتاب، ومقداره ستون كراسة، ويكون عدد أبيات شعره نحو تسعة آلاف بيت، وهو ثلاثة أجزاء.
كتاب يعرف بالسجع السلطاني، يشتمل على مخاطبات للجنود والوزراء، وغيرهم من الولاة.
وكان بعض من خدم السلطان وارتفعت طبقته، لا قدم له في الكتابة، فسأل أن ينشأ له كتاب مسجوع من أوله إلى آخره، وهو لا يشعر بما يريد، لقلة خبرته بالأدب، فألف هذا الكتاب، وهو أربعة أجزاء، وكتاب يعرف بسجع الفقيه، جزء، ثلاثون كراسة، وكتاب لطيف يعرف بسجع المضطرين، عمله لرجل مسافر يستعين به على أمور دنياه، وكتاب مختصر يعرف بذكرى حبيب، في غريب شعر أبي تمام، سأل فيه صديق لأبي العلاء من الكتاب، وهو أربعة أجزاء ستون كراسة، وهذه الكتب المسئسول في تأليها، إنما تكلفها مؤلفها من فرط الحياء، وهو لتأليفها كاره، وكتاب عبث الوليد، فيما يتصل بشعر البحتري، وكان سبب إنشائه: أن بعض الرساء أنفذ نسخة ليقابل له بها، فأثبت ما جرى من الغلط، ليعرض ذلك عليه، وهو جزء واحد وعشرون كراسة، وكتاب يعرف بالرياش المصطنعي في شرح مواضع من الحماسة الرياشية، عمل لرجل يلقب بمصطنع الدولة، ويخاطب بالإمرة، واسمه كليب بن علي، ويكنى أبا غالب، أنفذ نسخة من الحماسة الرياشية، وسأل أن يخرج على حواشيها شيئاً لم يذكره أبو رياش، مما يحتاج إلى تفسيره، فخشي أن تضيق الحواشي عن ذلك، فصنع هذا الكتاب، وجمع فيه ما سنح مما لم يفسره أبو رياش، أربعون كراسة، وكتاب يعرف بشرف السيف، عمل للرجل الذي كان مقيماً بدمشق، وهو المعروف بنشتكين الدزبري.

وكان السبب في عمله: أنه كان يوجه إلى أبي العلاء بالسلام، ويحفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل، - جزءان - وكتاب يعرف بتعليق الجليس، مما يتصل بكتاب أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، المعروف بالجمل - جزء - وكتاب إسعاف الصديق، ثلاثة أجزاء، يتعلق بالجمل أيضاً، وكتاب قاضي الحق، يتصل بالكتاب المعروف بالكافي، الذي ألفه أبو جعفر النحاس، وكتاب الحقير النافع، مختصر في النحو، خمس كراريس، وكتاب يتصل به يعرف بالطل الطاهري، أنشئ لرجل يعرف بأبي طاهر حلبي، وكتاب المختصر الفتحي، يتصل بكتاب محمد بن سعدان، صنعه لرجل يكنى أبا الفتح، محمد بن علي بن أبي هاشم، وكان أبو هذا الرجل، تولى إثبات ما ألفه أبو العلاء من جميع هذه الكتب، فألزمه بذلك حقوقاً جمة، وأيادي كثيرة، وكتاب في الرسائل الطوال، فيها رسالة الغفران، كتاب سميته خطب الخيل، يتكلم على ألسنتها، ومقداره عشر كراريس، كتاب يعرف بخطبة الفصيح، يتكلم فيه على أبواب الفصيح، مقداره خمس عشرة كراسة، وكتاب شرح فيه ما جاء في الذي قبله من الغريب، يعرف بتفسير خطبة الفصيح، وكتاب رسل الراموز، نحو ثلاثين كراسة، وكتاب راحة اللزوم، ويشرح فيه ما في كتاب لزوم ما لا يلزم من الغريب، نحو مائة كراسة، وكتاب لطيف يعرف بخماسية الراح، في ذم الخمر، ومعنى هذا الوسم، أنه بني على حروف المعجم، فذكر لكل حرف تمكن حركته خمس سجعات مضمومات، وخمساً مفتوحات، وخمساً مكسورات، وخمساً موقوفات، يكون مقداره عشر كراريس، وكتاب المواعظ الست، وهو لطيف، ومعنى هذا التلقيب، أن الفصل الأول منه في خطاب رجل، والثاني في خطاب اثنين، والثالث في خطاب جماعة، والرابع في خطاب امرأة، والخامس في خطاب امرأتين، والسادس في خطاب نسوة، نحو خمس عشرة كراسة، كتاب ضوء السقط، تفسير غريب سقط الزند، مقادره عشرون كراسة، وكتاب الصاهل والشاحج يتكلم فيه على لسان فرس وبغل، مقداره أربعون كراسة، صنفه لأبي شجاع فاتك، الملقب بعزيز الدولة، والي حلب من قبل المصريين، وكان رومياً، وكتاب منار القائف، في تفسير الكتاب الذي قبله فيما جاء فيه من اللغز والغريب، عشر كراريس، كتاب دعاء الأيام السبعة، وكتاب رسالة على لسان ملك الموت عليه السلام، وكتاب بعض فضائل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكتاب أدب العصفورين، وكتاب السجعات العشر، موضوع على كل حرف من حروف المعجم، عشر سجعات في المواعظ، كتاب شرح كتاب سيبويه، لم يتم، مقداره خمسون كراسة، كتاب يتصل بكتاب الزجاجي، يعرف بعون الجمل، عمل أيضاً لأبي الفتح، محمد بن علي، بن أبي هاشم المذكور آنفاً، وهو آخر شيء أملاه، وكتاب في النحو يتصل بالكتاب المعروف بالعضدي، ولقبه ظهير العضدي، وكتاب ديوان الرسائل، وهو ثلاثة أقسام.
الأول رسائل طوال، تجري مجرى الكتب المصنفة، مثل كتاب رسالة الملائكة، وكتاب الرسالة السندية، جزء، وكتاب رسالة الغفران، جزء، وكتاب رسالة الفرض، جزء، ونحو ذلك.
والثاني: رسائل دون هذه في الطول، مثل كتاب رسالة المنيح، وكتاب رسالة الاغريض.
والثالث كتاب الرسائل القصار، كنحو ما تجري به العادة في المكاتبة، قيل إنه أربعون جزءاً، وقيل إنه ثمانمائة كراسة، وكتاب خادم الرسائل، في تفسير ما تضمنته هذه الرسائل، مما يحتاج إليه المبتدئون في الأدب، كتاب نظم السور، وكتاب عظات السور، وكتاب الراحلة، ثلاثة أجزاء، في تفسير كتاب لزوم ما لا يلزم، وكتاب في المنظوم، يعرف بكتاب استغفر واستغفري، مقداره مائة وعشرون كراسة، فيه نحو من عشرة آلاف بيت، وكتاب يعرف بالرسالة الحضية، وكتاب رسائل المعونة، وهي ما كتبت على ألسن قوم، وكتاب مثقال النظم في العروض، جزء، وكتاب اللامع العزيزي، في تفسير شعر المتنبي، عمل للأمير عزيز الدولة، وغرسها ابن تاج الأمراء، أبي الدوام، ثابت ابن ثمال، بن صالح، بن مرداس، بن إدريس، بن نصر، بن حميد، بن شداد، بن عبد قيس، بن ربيعة ابن كعب، بن عبد الله، بن أبي بكر، بن كلاب، ابن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، ويقال له أيضاً اللامع العزيزي، مقداره مائة وعشرون كراسة.
هذا ما وجدناه وأثبتناه عن جماعة من أصحاب أبي العلاء، قالوا: وله بعض كتب في العروض والشعر، بدأها ولم تتم، أو تمت وشذ عنا أسماؤها.
ومن شعره الدال على سوء عقيدته من لزوم ما لا يلزم:

ألا فانعموا واحذروا في الحيا ... ة ملهىً يسمى زوال النعم
أتوكم بأقوالهم والحسا ... م يسد به زاعم ما زعم
تلوا باطلاً وجلوا صارماً ... وقالوا صدقنا فقلنا نعم
زخارف ما ثبت في القلوب ... عمى عليكم بهن المعم
ومن ذلك أيضاً:
فقد طال العناء فكم تعاني ... سطوراً عاد كاتبها بطمس
دعا موسى وزال وقام عيسى ... وجاء محمد بصلاة خمس
وقيل يجئ دين غير هذا ... فأودى الناس بين غد وأمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي ... وإن قلت اليقين أطلت همسي
ومن ذلك أيضاً:
وجدت الشرع تخلقه الليالي ... كما خلق الرداء الشرعبي
هي العادات يجري الشيخ منها ... على شيم تعودها الصبي
وأشوى الحق رام مشرقي ... ولم يرزقه آخر مغربي
فذا عمر يقول وذا سواه ... كلا الرجلين في الدعوى غبي
ومن ذلك أيضاً:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله ... وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من أصل زنية ... وأن جميع الناس من عنثر الزنا
وقال في رسالة الغفران، ولما أجلى عمر بن الخطاب أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلاً من يهود خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:
يصول أبو حفص علينا بدرة ... رويدك إن المرء يطفو ويرسب
مكانك لا نتبع حمولة ماقط ... لتشبع أن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتم ... علينا ولكن دولة ثم تذهب
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا ... لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا ... وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
وهذا يشبه أن يكون شعره، قد نحله هذا اليهودي، أو أن إيراده لمثل هذا، واستلذاذه به، من أمارات سوء عقيدته، وقبح مذهبه، ومن أشعاره الدالة على سوء اعتقاده، قوله في لزوم ما لا يلزم أيضاً:
وهيهات البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها
تقدم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من افتراها
فقال رجاله وحي أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها
وما حجي إلى أحجار بيت؟ ... كؤوس الخمر تشرب في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها
وله أيضاً:
خذ المرآة واستخبر نجوماً ... تمر بمطعم الأرى المشور
تدل على الممات بلا ارتياب ... ولكن لا تدل على النشور
ومنها أيضاً:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدوا ... ويهود حارت والمجوس مضللهْ
إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دين لا عقل لهْ
ومنها أيضاً:
إن الشرائع ألقت بيننا إحناً ... وأورثتنا أفانين العداوات
وما أبيحت نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بأحكام النبوات
ومنها أيضاً:
تناقض ما لنا إلا الشكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد فديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار؟
قال المؤلف: كان المعري حماراً، لا يفقه شيئاً، وإلا فالمراد بهذا بين، لو كانت اليد لا تقطع إلا في سرقة خمسمائة دينار، لكثر سرقة ما دونها، طمعاً في النجاة، ولو كانت اليد تفدى بربع دينار، لكثر من يقطعها، ويؤدي ربع دينار دية عنها، نعوذ بالله من الضلال. ومنها أيضاً:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ومما يدل على كفره تصريحاً قوله:
عقول تستخف بها سطور ... يدري الفتى لمن الثبور؟
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور
ومن ذلك أيضاً:
صرف الزمان مفرق الإلفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

أنهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وبعثت أنت لقتلها ملكين؟
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين!!
ومن ذلك أيضاً:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
ومن ذلك أيضاً قوله:
في كل أمرك تقليد تدين به ... حتى مقالك ربي واحد أحد
وقد أمرنا بفكر في بدائعه ... فإن تفكر فيه معشر لحدوا
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد
ومن ذلك أيضاً قوله:
قلتم لنا خالق قديم ... صدقتم هكذا نقول
زعمتموه بلا زمان ... ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول
ومن ذلك أيضاً قوله:
دين وكفر وأنباء تقال وقر ... قان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل ملفقة ... فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟
ومن ذلك أيضاً:
ألحمد لله قد أصبحت في لجج ... مكابداً من هموم الدهر قاموساً
قالت معاشر لم يبعث إلاهكم ... إلى البرية عيساها ولا موسا
وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ... وصيروا دينهم للملك ناموسا
ولو قدرت لعاتبت الذين بغوا ... حتى يعود حليف الغي مغموسا
ومن ذلك أيضاً قوله:
ولا تحسب مقال الرسل حقاً ... ولكن قول زور سطروه
وكان الناس في عيش رغي ... فجاءوا بالمحال فكدروه
قال المؤلف: نقلت هذا كله من تاريخ غرس النعمة محمد بن هلال، بن المحسن الصابئ، وحمدت الله تعالى على ما ألهم من صحة الدين، وصلاح اليقين، واستعذت به من استيلاء الشيطان على العقول.
قرأت في كتاب فلك المعاني، أن كثيراً من الجهال يعد الموت ظلماً من الباري عز وجل، ويستقبحه، بما فيه من النعمة، والحكمة والراحة والمصلحة، وقد قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري مع تحذلقه ودعواه الطويلة العريضة، وشهرة نفسه بالحكمة، ومظاهرته:
ونهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وبعثت أنت لقتلها ملكين
وزعمت أن لنا معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين!!
وهذا كلام مجنون معتوه، يعتقد أن القتل كالموت والموت كالقتل، فليت هذا الجاهل لما حرم الشرع وبرده، والحق وحلاوته، والهدى ونوره، واليقين وراحته، لم يدع ما هو برئ منه، بعيد عنه، ولم يقل:
غدوت مريض العقل والرأي فالقني ... لتعلم أنباء العقول الصحائح
حتى سلط الله عليه أبا نصر بن أبي عمران، داعي الدعاة بمصر، فقال له: أنا ذلك المريض رأياً وعقلاً، وقد أتيتك مستشفياً فاشفني، وجرت بينهما مكاتبات كثيرة، أمر في آخرها بإحضاره حلب، ووعده على الإسلام خيراً من بيت المال، فلما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام، سم نفسه ومات، وليته لما ادعى العقل خرس، ولم يقل مثل هذه الترهات التي يخلد إليها من لا حاجة لله تعالى فيه.
قال المؤلف: لما وقفت على هذه القصة، اشتهيت أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه، حتى ظفرت بمجلد لطيف، وفيه عدة رسائل من أبي نصر، هبة الله ابن موسى، بن أبي عمران، إلى المعري في هذا المعنى، انقطع الخطاب بينهما على المساكتة، ولم يذكر فيها ما يدل على ما ذهب إليه ابن الهبارية، من سم المعري نفسه. ونقلها على الوجه يطول، فلخصت منها الغرض، دون تفاصح المعري وتشدقه.
كتب ابن أبي عمران إليه:

الشيخ - أحسن الله توفيقه - الناطق بلسان الفضل والأدب، الذي ترك من عداه صامتاً، مشهود له بهذه الفضيلة، من كل من هو فوق البسيطة، غير أن الأدب الذي هو جالينوس طبه، وعنده مفاتح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة، في معاشه أو معاده، سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامع المذكور به، علم أنه له بمكانة الجمال والزينة، مادام حياً، فإذا رمت به يد المنون من ظهر الأرض إلى بطنها، فلا بحسن ذكره ينتفع، ولا بقبيحه يستضر، وإذا كانت الصورة هذه، كان مستحيلاً منه، - أيده الله - مع وفور عقله، أن جعل مواده كلها منصبة إلى إحكام اللغة العربية، والتقعر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة له منها، وترك نفسه المتوقدة، نار ذكائها خلواً من النظر في شأن معاده، وأن يختار من عمله ما لا ينفع، فيمكث إذا ذهب الزبد جفاء من غيره، فإذا هو - حرسه الله - بمقتضى هذا الحكم، مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به، لضرب من ضروب السياسة، والدليل على كونه ناظراً لمعاده، سلوكه سبيل العيش والتزهد، وعدوله عن الملاذ، من المأكول والمشروب والملبوس، وتعففه عن أن يعل جوفه للحيوان مدفناً، أو أن يذوق من درها لبناً، أو يستطعم من استبدت عليه في حرثه وإنشائه، وهذه طريقة من يعتقد أنه إذا آلمها جوزي بألمها، وهذا غاية في الزهد.
ولما رأيت ذلك، وسمعت داعية البيت الذي يعزى إليه، وهو:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
شددت إليه راحلة العليل في دينه وعقله، إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح، وأنا أول ملب لدعوته، معترف بخبرته، وهو حقيق ألا يوطئني العشواء فيسلك بي في المجاهل، ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل.
وأول سؤالي عن أمر خفيف، فإن استنشقت نسيم الصبا، سقت السؤال إلى المهم: أسأله عن العلة في تحريمه على نفسه اللحم واللبن، وكل ما يصدر إلى الوجود من منافع الحيوان، فأقول: أليس النبات موضوعاً للحيوان يمتار منه؟ وبوجوده وجوده، وبقوة في الحيوان حساسة استولى على الانتفاع بالنبات، ولو لم يكن الحيوان، لكان موضوع النبات باطلاً لا معنى له، وعلى هذه القضية، فإن القوة الإنسانية مستولية على الحيوان، استيلاء الحيوان على النبات، لرجحانها عليه بالنطق والعقل، فهي مسخرة له على أنواع من التسخير، ولولا ذلك، لكان موضوع الحيوان باطلاً، فتجافى الشيخ - وفقه الله - عن الانتفاع بما هو موضوع له، مخلوق لأجله، إبطال لتركيب الخلقة، ثم امتناعه عن أكل الحيوان، ليس يخلو القصد به من أحد أمرين، الأول: إما أنه تأخذه رأفة بها، فلا يرى تناولها بالمكروه، وما ينبغي له أن يكون أرأف بها من خالقها، فإذا ادعى أن تحليلها وتحريمها، إنما كان من بعض البشر، يعني به أصحاب الشرائع، وأن الله لم يبح إراقة دم حيوان وأكله، كان الدليل على بطلان قوله، وقوع المشاهدة لجنس السباع وجوارح الطير، التي خلقها الله سبحانه على صيغة لا تصلح إلا لنتش اللحوم وفسخها، وتمزيق الحيوانات وأكلها. وإذا كان هذا الشكل قائم العين في الفطرة، كان جنس البشر وسيع العذر في أكل اللحوم، وكان من أصل لهم ذلك محقاً.
والثاني: أنه يرى سفك دماء الحيوان خارجاً عن أوضاع الحكمة، وذلك اعتراض منه على خالقه الذي أوجده. وإذا أنعم الشيخ وساق إلى حجة أعتمدها، رجوت كشف المرض الذي وقع اعترافي به.
الجواب من أبي العلاء المعري إليه قال العبد الضعيف العاجر، أحمد بن عبد الله، بن سليمان: أول ما أبدأ به، أني أعد سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين - أطال الله بقاءه - ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء، وهو بكتابه إلي متواضع، ومن أنا؟ حتى يكتب مثله إلى مثلي، مثله في ذلك، مثل الثريا كتب إلى الثرى وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الإبصار نقيل، قضي علي وأنا ابن أربع، لا أفرق بين النازل والطالع، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، ومنيت في آخر عمري بالإقعاد، وعداني عن النهضة عاد. وأما ما ذكره سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، فالعبد الضعيف العاجز، يذكر له مما عاياه طرفاً، فأقول: إن الله - جلت عظمته - ، حكم علي بالإزهاد، فطفقت من العدم في جهاد، وأما قول العبد الضعيف العاجز:

" غدوت مريض العقل والدين فالقني " فإنما خاطب به من هو في غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصل، وقد علم أن الحيوان كله حساس يقع به الألم، وقد سمع العبد الضعيف من اختلاف القدماء.
وأول ما يبدأ به، لو أن قائلاً من البشر قال: إذا بنينا القضية البتية المركبة من المسند والمسند إليه، ولها واسطتان، إحداهما نافية، والأخرى استثنائية، فقلنا: الله لا يفعل إلا الخير، فهذه القضية كاذبة أم صادقة؟ فإن قيل صادقة، فقد رأينا الشرور غالبة، فعلمنا أن ذلك أمر خفي، ولم يزل من ينسب إلى الدين يرغب في هجران اللحوم، لأنها لم يوصل إليها إلا بإيلام حيوان، يفر منه في كل أوان، وأن الضائنة تكون في محل القوم وهي حامل، فإذا وضعت وبلغ ولدها شهراً أو نحوه، اعتبطوه فأكلوه، ورغبوا في اللبن، وباتت أمه ثاغية، لو تقدر سعت له باغية، وقد تردد في كلام العرب ما يلحق الوحشية من الوجد، والناقة إذا فقدت الفصيل، فقال قائلهم:
فما وجدت كوجدي أم سقب ... أضلته فرجعت الحنينا
وللسائل أن يقول: إن كان الخير لا يريد ربنا سواه، فالشر لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد علم به أو لا. فإن كان عالماً به، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مريداً له أو لا. فإن كان مريداً له، فكأنه الفاعل، كما أن القائل يقول: قطع الأمير يد السارق، وإن لم يباشر ذلك بنفسه.
وإن كان غير مريد، فقد جاز عليه ما لا يجوز على أمير مثله في الأرض، أنه إذا فعل في ولايته شيء لا يرضاه أنكره، وأمر بزواله، وهذه عقدة، قد اجتهد المتكلمون في حلها فأعوزهم.
وقد ذكرت الأنبياء: أن البارئ - جلت عظمته - رؤوف رحيم، ولو رأف ببني آدم، وجب أن يرأف بغيرهم من أصناف الحيوان، الذي يجد الألم بأدنى شيء، وقد علم أن الوحوش الراتعة يبكر إليها الفارس، فيطعن العير أو الأتان، وهن ما أسدين إليه ذنباً، ولأي حال استوجب من يفعل بها هذا، " الرقة " ؟ وهي لم تشرب من الماء بذنوب، ولم تجز ما تكسب من الذنوب، وقد رأيت الجيشين المنتسب كل واحد منهما إلى الشرع المنفرد، يلتقيان وكلاهما في مدد، ويقتل بينهما آلاف عدداً، فهذا محسوب من أي الوجهين؟ فليس عند النظر بهين. فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلاف الأقوال، وبلغ ثلاثين عاماً، سأل ربه إنعاماً، فرزقه صوم الدهر، فلم يفطر في السنة ولا الشهر، إلا في العيدين، وصبر على توالي الجديدين، وظن اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العاقبة.
وقد علم سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين ولا ريب، أنه قد نظر في الكتب المتقدمة، وما حكي عن جالينوس وغيره، من اعتقاد يدل على الحيرة. وإذا قيل: إن الباريء رؤوف رحيم، فلم سلط الأسد على افتراس نسمة إنسية؟، ليست بالمفسدة ولا القسية، وكم مات بلدغ الحيات جماعة مشهورة؟، وسلط على الطير الراضية بلقط الحبة البازي والصقر، وإن القطاة لتدع فراخها ظماء، وتبتكر لترد ماء تحمله إليها في حوصلتها، فيصادفها دونهن أجدل فيأكلها، فيهلك فراخها عطشاً، وذكر أشياء من هذا الباب، ثم قال: وأعوذ بالله وأتبرأ من قول الكافر:
ألمت بالتحية أم بكر ... فحيوا أم بكر بالسلام
وكائن بالطوى طوى بدر ... من الشيزي يكلل بالسنام
ألا يا أم بكر لا تكرى ... علي الكأس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه وكان قرماً ... من الأقرام شراب المدام
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه ... فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟؟
أينزل أن يرد الموت عني ... ويحييني إذا بليت عظامي؟؟
ولعن الله القائل. ويقال: إنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
أدنها مني خليلي ... عنه لا دون الإزار
فلقد أيقنت أني غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى ... يركبوا دين الحمار
وأرى من يطلب الجن ... ة يسعى في خسار
وويل لابن رعيان إن كان قال:
هي الأولى وقد نعموا بأخرى ... وتسويف الظنون من السواف

فإن يك بعض ما قالوه حقاً ... فإن المبتليك هو المعافى
ومما حثني على ترك أكل الحيوان، أن الذي لي في السنة نيف وعشرون ديناراً، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن وما لا يعذب على الألسن، فأما الآن، فإذا صار إلى من يخدمني كبير، فعندي وعنده هين، فما حظي إلا اليسير المتعين، ولست أريد في رزقي زيادة، ولا أوثر لسقمي عيادة، والسلام.
الجواب من ابن أبي عمران حوشي الشيخ: - أدام الله سلامته - من أن يكون ممن قطف في مرض دينه وعقله بعلته، وأجاب دعوة الداعي منه، بالبيت الشائع عنه، لينال شفاء علته، جواباً يزيده إلى غلته غلة، إذاً يكون كما قال المتنبي:
أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
كان سؤالي له - حرسه الله - في شيء يختص بنفسه، في هجره ما يسد الجسم من اللحم، الذي ينبت اللحم، فأجاب بما أقول في جوابه: أهذه أنباء الخ، وهل زاد السقيم بدوائه هذا إلا سقماً، والأعمى الأصم في دينه وعقله بما قال إلا عمىً وصمماً، على أن جميع ما ذكره بنجوة عن سؤالي الأول، ومعزل عنه، ولا مناسبة بينهما وبينه.
وأما القول بأن اللحوم لا يوصل إليها إلا بإيلام الحيوان، فقد سبق الجواب: لا يكونن الشيخ أرأف بها من خالقها، فليس يخلو من كونه عادلاً أو جائراً، فإن كان عادلاً، فإنه سبحانه يقبض أرواح الآكل والمأكول جميعاً، وذلك مسلم له، وإن كان جائراً، لم ينبغ أن نرجع لعى خالقنا بعلنا وجوره.
وأما قوله وللسائل أن يقول: إن كان الخير هو الذي لا يريد ربنا سواه، فالشر لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون قد عليم به أو لا، إلى آخره، فأقول: قيل إن إنساناً ضاع له مصفحف، فقيل له اقرأ " والشمس وضحاها " فإنك تجده، فقال: وهذه السورة أيضاً فيه، فأقول أيضاً: إن هذا أيضاً من ذلك، وجميعه ظلمات فأين النور؟ وإنما قصدنا أن نعرف أنباء الأمور الصحائح كما قاله. وأما قوله: لما رأي اختلاف الأقوال، وأيقن بنفاه وزوال، سأل ربه أن يرزقه صوم الدهر، واقتنع بالنبات، فما صح لي أن الرب الذي سأله، هو الذي يريد الشر وحده، أو الذي يريدهما جميعاً، والصوم فرع على أصل، من شرع يأتي به رسول، والرسول يتعلق بمرسل، وقصتنا في الرسل مشتبهة، يبعث رسولاً يريد أن يطاع، أم لا يطاع؟ فإن كان يريد أن يطاع، فهو مغلوب على إرادته، لأن من لا يطيعه أكثر، وإن كان يريد ألا يطاع، فإرساله إياه محال، وطلبة حجة على الضعفاء ليعذبهم، فإن كان موضوع صومه على هذا، فلم يفعل شيئاً، وإن كان على غيره مما هو أجلى وأوضح، فهو الذي أطلبه.
وأما حكايته قول بعض الملحدين، واستعاذته بالله أن يكون من المعترضين، في قوله تعالى: " وأنه أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى " الآيات. إن كان الباري سبحانه خلقهم، وهو يعلم أنهم مجرمون، ومن التوبة والإنابة يحرمون، فكان الأولى به، وهو الرؤوف الرحيم، ألا يخلقهم لئلا يعذبهم، وإن كان لا يعلم، فهو كأمثالنا، ولا يدري ما يكون منه. وقول الشيخ بعده: معاذ الله أن نقول ذلك. بل نسلم ونتلو الآية: " من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " فليس الملحد إذا قال: إن السكر حلو، والخل حامض، لا يقبل منه لكونه ملحداً. وقوله يقتضي جواباً. فإن كان عند الشيخ جواب، فهو الذي نبغي، وإلا فما التسليم في هذا الموضع، إلا التسليم للملحد، لا شيء غيره، وأما إنشاده: " ألمت بالتحية أم عمرو " وما بعده من الأشعار، وذمه من قال ولعنه، فمن الذي اتهمه بشيء من ذلك؟ حاشاه، وما الذي أوجب الإذكار بكفريات شعرهم؟. وأما ختمه الرسالة بقوله: إن الذي حثه على ترك أكل الحيوان، أن الذي له في السنة نيف وعشرون ديناراً، يصير إلى خادمه معظمها ويبقى له أيسرها، فتحمل مئونة القدر الذي يطعمه، لو كان ثقيلاً لوجب تحمله، فكيف وهو الخفيف محمله؟. وقد كاتبت مولاي تاج الأمراء، - حرس الله عزه - ، أن يتقدم بإزاحة العلة، فيما هو بلغة مثله من ألذ الطعام، ومراعاته به على الإدرار والدوام، ليتكشف عنه غاشية هذه الضرورة، ويجري أمره في معيشته على أحسن ما يكون من الصورة، ثم إن قام من الشيخ نشطة لجواب، أعفاني فيه عن قصد الأسجاع، ولزوم ما لا يلزم، فإن ملتمسي فيه المعاني لا الألفاظ.
الجواب من أبي العلاء "

سيدنا الرئيس الأجل، المريد في الدين، عصمة المؤمنين، هدى الله الأمم بهدايته، وسلك بهم طريق الخير على يده، قد بدأ المعترف بجهله، - المقر بحيرته، والداعي إلى الله سبحانه أن يرزقه ما قل من رحمته، في أول ما خاطبه به - ، أن ذكر اعتقاده في سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، ضوأ الله الظلم ببصيرته، وأذهب شكوك الأفئدة برأيه وحكمته، وما نفسه عليه من الذلة والحقرية عنده، وأنه سحسبها ساكتة في بعض السوام، وعجب أن مثله يطلب الرشد ممن لا رشد عنده، فيكون كالقمر الذي هو دائب في خدمة ربه ليلاً ونهاراً، يطلب الحقيقة ممن أقمر بفلاة يرد الماء على الصائد، ويصيب قلبه بسهم. وقد ذكر - أيد الله الحق بحياته - ، بيتاً من أبيات على الحاء، ذكر وليه ليعلم غيره ما هو عليه من الاجتهاد في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة؟ التي هي قوله: " من يهد الله فهو المهتد " وأولها:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً ... ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولا يقدر أحد يدفع أن الحيوان البحري، لا يخرج من الماء إلا وهو كاره وإذا سئل المعقول عن ذلك، لم يقبح ترك أكله وإن كان حلالاً، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما هو لهم حلال مطلق:
وأبيض أمات أرادت صريحة ... لأطفالها دون الغواني الصرائح
والمراد بالأبيض: اللبن، ومشهور أن الأم إذا ذبح ولدها وجدت عليه وجداً عظيماً، وسهرت لذلك ليالي، وقد أخذ لحمه، وتوفر على أصحاب أمه ما كان يرضع من لبنها، وأي ذنب لمن تحرج عن ذبح السليل؟ ولم يرغب في استعمال اللبن، ولا يزعم أنه محرم، وإنما تركه اجتهاداً في التعبد، ورحمة للمذبوح، رغبة أن يجازى عن ذلك بغفران خالق السموات والأرض، وإذا قيل: إن الله سبحانه يساوي بين عباده في الأقسام، فأي شيء أسلفته الذبائح من الخطأ، حتى تمنع حظها من الرأفة والرفق؟
فلا تفجعن الطير وهي غوافل ... بما وضعت فالظلم شر القبائح
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الليل، وذلك أحد القولين في قوله عليه الصلاة والسلام: " أقروا الطير في وكناتها " ، وفي الكتاب العزيز: " يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم " إلى غيرها من الآي في المعنى، فإذا سمع من له أدنى حس هذا القول، فلا لوم عليه إذا طلب التقرب إلى رب السموات والأرضين، بأن يجعل صيد الحل كصيد الحرم، وإن كان ذلك ليس بمحظور:
ودع ضرب النحل الذي بكرت له ... كواسب من أزهار نبت فوائح
لما كانت النحل تحارب الشائر عن العسل بما تقدر عليه، وتجتهد أن ترده عن ذلك، فلا غرو إن أعرض عن استعماله، رغبة في أن تجعل النحل كغيرها، مما يكره فيه ذبح الأكيل، وأخذ ما كان يعيش به لتشربه النساء، كي يبدن وغيرها من بني آدم، وقد وصفت الشعراء ذلك، فقال أبو ذئب يصف مشتار العسل:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت لوب عواسل
وروى عن علي عليه السلام حكاية معناها: أنه كان له دقيق شعير في وعاء يختم عليه، فإذا كان صائماً لم يختم على شيء من ذلك الدقيق، وقد كان عليه السلام يصل إلى غلة كثيرة، ولكنه كان يتصدق بها، ويقتنع أشد اقتناع، وروي عن بعض أهل العلم أنه قال في بعض خطبه: إن غلته تبلغ في السنة خمسين ألف دينار، وهذا يدل على أن الأنبياء والمجتهدين من الأئمة، يقصرون نفوسهم، ويؤثرون بما يفضل منهم أهل الحاجة.

وقد عدل سيدنا الرئيس إلى الإيماء بأن من ترك أكل اللحم ذميم، ولو أخذ بهذا المذهب، لوجب على الإنسان ألا يصلي صلاة إلا ما افترض عليه، لأن ما زاد على ذلك، أداه إلى كلفة، والله تبارك وتعالى لا يريد ذلك، ولوجب أن الذي له مال كثير، إذا أخرج عن الذهب ربع العشر، لا يحسن به أن يزيد على ذلك، وقد حث الناس على النفقات في غير موضع من الكتاب الأشرف. والعبد الضعيف العاجز، قد افتقر إلى مثل ذلك، ولو مثل بحضرته السامية، لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب، لأن أعضاءه متخاذلة، وقد عجز عن القيام في الصلاة، فإنما يصلي قاعداً، والله المستعان. وكيف له أن يكون يصل إلا أن يدب على عكاز؟. ثم استشهد على عجزه بأشعار العرب، وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود، فربما استعنت بإنسان، فإذا هم بإعانتي، وبسط يديه لنهضتي، ضربت عظامي، لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن. وأما استشهاده ببيت أبي الطيب، فمن استرشد بمثل العبد الضعيف العاجز، مثله مثل من طلب في القتادة ثمر النخلة، وإنما حمل سائله على ذلك حسن الظن، الذي هو دليل على كرم الطبع، وشرف النفس، وطهارة المولد، وخالص الخيم.
وأما ما ذكره من المكاتبة في توسيع الرزق علي، فيدل على إفضال ورثه عن أب فأب، وجد في إثر جد، حتى يصل النسب إلى التراب، فالعبد الضعيف العاجز، ما له رغبة في التوسع، ومعاودة الأطعمة. وتركها صار له طبعاً ثانياً. وإنه ما أكل شيئاً من حيوان خمساً وأربعين سنة.
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
وقد علم أن السيد الأجل، تاج الأمراء، فخر الملك، عمدة الإمامة، وعدة الدولة ومجدها، ذا الفخرين، نصيف أولاد سام وحام ويافث، وود العبد الضعيف العاجز، لو أن قلعة حلب، وجميع جبال الشام جلعها الله ذهباً، لينفقه تاج الأمراء، نصير الدولة النبوية، على إمامها السلام. وكذلك على الأئمة الطاهرين من آبائه، من غير أن يصير إلى العبد الضعيف من ذلك قيراط، وهو يستحي من حضرة تاج الأمراء، أن ينظر إليه بعين من رغب في العاجلة بعد ما ذهب، وهو رضي أن يلقى الله جلت قدرته، وهو لا يطالب إلا بما فعل من اجتناب اللحوم، فإن وصل إلى هذه الرتبة فقد سعد. ثم اعتذر عن السجع بأخبار أوردها، واحتجاجات ذكرها. وسيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، لازالت حجته باهرة، ودولته عالية، كما قال ثعلبة بن صعير:
ولرب قوم المين ذوي شذى ... تغلي صدورهم بهتر هاتر
لاقيتهم مني بما قد ساءهم ... وخسأت باطلهم بحق ظاهر
ولو ناظر أرسطاليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه، والله يجمل بحياته الشريعة، وينصر بحججه الملة، وحسبي الله ونعم الوكيل.
" الجواب من ابن أبي عمران "

ما فاتحت الشيخ - أحسن الله توفيقه - بالقول، إلا مفاتحة متناكر عليه فيه، مؤثر لأن يخفي من أين جاء السؤال؟ فيكون الجواب عنه باستدلال ورفض حشمة، وحذف تكلف للخطاب بسيدنا والرئيس، وما يجري هبذا المجرى، إذ كان حكم ما يتجارى فيه، موجباً ألا يتخلله شيء من زخارف الدنيا، ولأني أعتقد أن سيدي بالحقيقة، من تستقل دون يده يداي، صداً منه للدنيا، أو تمتار نفسي من نفسه، استفادة من معالم الأخرى، فما أدري كيف انكشفت الحال؟، حتى صار الشيخ - أدام الله تأييده - يخاطبني بسيدنا والرئيس، ولست مفضلاً عليه في دنيا ولا دين، بل شاد راحلتي إليه الاستفادة، إن وردت موردها، أو صادفت نهراً أو علالتها، قابلتها بالشكر لنعمته، والإسجال على نفسي بأستاذيته، وبعد، فإني أعلمه - أدام الله سلامته - أني شققت جيب الأرض، من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدت الناس بين رجلين، إما منتحل لشريعة صبا إليها، ولهج بها، إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلاً طار، أو جملاً باض، لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه، ويسفهه ويلعنه، والعقل عند من هذه سبيله في مهواة وفي مضيعة، فليس يكاد ينبعث أن هذه الشريعة التي هو منتحلها، لم يطوق طوقها، ولم يسور سوارها، إلا بعد بلوغ نور العقل منه، فكيف يصح توليه أولاً، وعزله آخراً؟. فلما رمت بي المرامي إلى الشام، وسمعت أن الشيخ - وفقه الله - يفضل في الأدب والعلم، وقد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره مبتلين، فكل يذهب فيه مذهباً، وحضرت مجلساً جليلاً أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثاً وسميناً فحفظته في الغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده، يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق الله سراً قد أسبل عليه من البقية ستراً، وأمراً يميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضاً، ولما سمعت البيت " غدوت مريض العقل " توثقت من خلدي فيما حدثت عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لساناً يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقاً، ويفتق من هذا الفخر العظيم رتقاً، للسان صامت عنده كل ناطق، من ذروة من جبل العلم شاهق، فقصدته قصد موسى للطور، أقتبس منه ناراً، وأحاول أن أرفع بالفخر مناراً، لمعرفة ما تخلف عن معرفته المتخلفون، واختلف في حقيقته المختلفون، فأدليت دلوي بالمسألة الخفيفة، التي سألت عنها، ترقياً من دون إلى فوق، وتدرجاً من صغرى إلى كبير فكان جوابه، أنه يصغر عن أن يكون للاسترشاد محلاً، فقلت: هذه زيادة في فضله، وما يجوز صدور مثله عن مثله، ثم انتهى إلى الإحالة على كون الناس ممن تقدم أو تأخر، في وادي الحيرة تائهين، وفي أذياله متعثرين، من قائل يقول: إن الخير والشر من الله، ومجيب يجيبه، هل كان ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعث السفر؟ وكل مستعاذ منه، خيراً أو شراً. فإن كان خيراً فالاستعاذة منه باطلة، وإن كان شراً والله مريده، فالاستعاذة منه كذلك فضول وزيادة في المعنى، وسؤال من يسأل: هل كان سم الحسن وقتل الحسين، عليهما السلام خيراً أو شراً؟ فإن كان خيراً فاللعنة على القاتل من أي جهة؟ وإن كان شراً والله مريده، زال اللوم عن القاتل. وقائل يقول: إن الخير من الله، والشر من غيره، ومجيب يجيب بالجواب الذي يقطع به الأسباب، وغيره مما أطال به الخطاب، من أشعار الملحدة وأقوالهم، فكان جوابي - أدام الله سلامته - أنني من هؤلاء الذين ذكرتهم، تبريت إليك، وتطايحت عليك. وإن كلامهم عندي قبل أن عللته عليل، وهو على مسامع القبول مني ثقيل، فافتح لي إلى ما عندك باباً، وأفسح لي من لدنك جناباً، فلم يفعل، ثم خاطبته على امتناعه من أكل اللحوم، فاحتج بكونه متحرجاً من قصدها - أعني البهائم - بالمضرة والإيلام، متعففاً عنها لهذه الجهة، فقطعت لسان حجته بعد تناهيها، وقلت: إذا كان الله تعالى سلط بعضها لتأكل بعضاً، وهو أعرف بوجوه الحكمة، وأرأف باخليقة، فلا يكون أرأف بها من ربها، ولا أعدل فيها من خالقها، ثم عدل إلى قصور يد الاستطاعة دون ذلك، إذ كان القدر الذي هو له في السنة منصرفاً إلى من يتولى خدمته أكثره، وخالصاً له أقله، فقطعت الحجة في هذا الباب أيضاً، وعينت له على جهة كريمة، من الذين لا يتعبون ما أنفقوا مناً ولا أذى، ما يقوم

بقدر كفايته، من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدخرون فتجافت نفسه - وقاها الله السوء - عن هذا الباب أيضاً، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك، ولا يرغب فيه، ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول: إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده، وإن البيت الذي قاله مما تعلقت به، وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة " من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة، لأنه إن كانت الآية حقاً، كان الاجتهاد باطلاً. وقال: إن لله سبحانه أسراراً لا يقف عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف، فإن قلنا: إنه - حرسه الله - من أصحابه، بدعوى صحته في دينه وعقله ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟ ثم قال: إن البيت المقول:ر كفايته، من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدخرون فتجافت نفسه - وقاها الله السوء - عن هذا الباب أيضاً، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك، ولا يرغب فيه، ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول: إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده، وإن البيت الذي قاله مما تعلقت به، وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة " من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة، لأنه إن كانت الآية حقاً، كان الاجتهاد باطلاً. وقال: إن لله سبحانه أسراراً لا يقف عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف، فإن قلنا: إنه - حرسه الله - من أصحابه، بدعوى صحته في دينه وعقله ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟ ثم قال: إن البيت المقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء العقول الصحائح
يؤدي معناه البيت الثاني:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً ... ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
فكأن مرض الدين والعقل من جهة أكل اللحوم، وشرب الألبان، وتناول العسل، فمن ترك هذه المطاعم، كان صحيحاً دينه وعقله، وهو يعلم أن صحة الأديان والعقول لا تقوم بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا البيت الثاني، ناسخاً لحكم الأول، فيكون محصول دعواه في فقر الناس، إلى أن يصح دينهم وعقلهم، هو أن يقول لهم: لا تأكلوا اللحم واللبن!!! وأما قوله: إن الحيوان البحري كاره أن يخرج إلى البر، وإنه ليس يقبح في العقول ترك أكله وإن كان حلالاً، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما لهم طلقاً، فما من حيوان بحري ولا بري، هو أجل من هذا الإنسان الحي العاقل، وهو كاره للموت فيموت، وكاره لأن يأكله شيء، والدود يأكله في قبره، فإن كان ذلك صاندراً عن موضع حكمة، كان ما ذكره من الحيوان البري والبحري جارياً في مضمار هذا، مثلاً بمثل، وإن كان معدولاً به عن وجه الحكمة، كان محالاً أن يكون صانعي سفيهاً، وأكون - وأنا مصنوعه - حكيماً.
وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى إلى أن تقرحت قدماه، فقيل له فيه، فقال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟ فما هذا مما نحن عليه في شيء، والإنسان له أن يصلي ما شاء من الصلوات، في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة، على ألا يزيد في الفرائض ولا ينقص منها، وهذا الكلام شرعي، وكانت القضية للتكلم على العقليات.
وأما قوله: إنه عليه الصلاة والسلام، حرم صيد الحرم، وإن لغيره أن يحرم صيد الحل تقرباً إلى الله سبحانه، فليس لأحد أن يحلل أو يحرم غيره، وأما قوله: إن علياً عليه السلام: لما قدم إليه الخبيص سأل: هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه؟ فلما قالوا لا: رفعه ولم يأكله، فهذه الحجة عليه لا له، فإن الناس مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفارق أكل اللحم، وهو يهجره دهره، وذلك بالضد سواء، ولو أنه - حرسه الله - لم يستظهر علي بالشريعة، ولم يتجاوز نصبة العقل، لصنته عن هذا الجواب الذي عسى أن يستغل سره. ويعز علي ذلك.

وأما ما شكاه من ضعفه، وقصور حركته، وأنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب، فما هو - حرسه الله - على علاته من الضعف والقوة، إلا من محاسن الزمان، وممن سارت بذكر فضله الركبان، إلا أنه على عدوان الدهر عليه، عدا على نفسه، بحرمانها ملاذ دنياها، فإن وثقت نفسه بملاذ تعتاض عنها، مما هو خير وأبقى منها، فما خسرت صفقته، وقام مصداق قوله بالبيت المقدم ذكره، وإن كان يوسم بميسم الشح بمنع المنتجعين، ورد السائلين. وإن كان شق على نفسه من غير بصيرة كما يدعيه الآن، خوضاً مع الخائضين، وتحيراً مع أمثالنا من المتحيرين، فقد أضاعها وجنى عليها، وادعى في البيت المقدم ذكره ما لا برهان له، والغرض في السؤال والجواب الفائدة، وإذا عدمت فقد خفف الله عنه أن يتكلف جواباً.
وأما الأسجاع ومساءلتي التخلي عنها، فما كانت إلا ضحاً بالمعاني أن تضل بتتبعها، ولأنني إذا تتبعت فضله، بصنعاته في الأدب والشعر، وجدت في أرضه مراغماً كثيراً وسعة، ومن أين لي، أن أظهر على مكنون جواهر علوم دينه؟ كظهوري على مصنفات أدبه وشعره، وقبل وبعد، فأنا أعتذر عن سر له - أدام الله حراسته - أذعته، وزمان منه بالقراءة والإجابة شغلته، لأنني من حيث ما نفعته ضررته، والله تعالى يعلم، أني ما قصدت به غير الاستفادة من علمه، والاغتراف من بحره، والسلام.
وكنا بحضرة القاضي الأكرم، الوزير جمال الدين، أبي الحسن علي بن يوسف، بن إبراهيم الشيباني - حرس الله مجده - وفيه جماعة من أهل الفضل والأدب، فقال أبو الحسن، علي بن عدلان النحوي الموصلي: حضرت بدمشق عند محمد بن نصر، بن عنين الشاعر، وزير المعظم، فجاءته رقعة طويلة عريضة، خالية من معنى، فارغة من فائدة، فألقاها إلي قائلاً: هل رأيت قط رقعة أسقط أو أدبر من هذه، مع طول وعرض؟ فتناولتها فوجدتها كما قال، وشرعت أخاطبه، فأومأ إلي بالسكوت وهو مفكر، ثم أنشدني لنفسه:
وردت منك رقعة أسأمتني ... وثنت صدري الحمول ملولا
كنهار المصيف ثقلاً وكرباً ... وليالي الشتاء برداً وطولا
فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة، وعجبوا من حسن المعنى، فقال القاضي الأكرم: مازلت أستحسن كلاماً وجدته على ظهر كتاب ديوان الأعشى، في مدينة قفط سنة خمس وثمانين، يتضمن لأبي العلاء المعري شعراً، يشبه ما في هذين البيتين من المقابلة، ضداً بضد في موضعين، ولعل هذين البيتين يفضلان على ذلك، فقلنا له: وما ذلك الكلام؟ فقال: حكي أن صالح بن مرداس صاحب حلب، نزل على معرة النعمان محاصراً، ونصب عليها المجانيق، واشتد في الحصار لأهلها، فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء، لعجزهم عن مقاومته، لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر، بالخروج إليه بنفسه. وتدبير الأمر برأيه، إما بأموال يبذلونها، أو طاعة يعطونها، فخرج ويده في يد قائده، وفتح الناس له باباً من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو أبو العلاء، فجيئوني به، فلما مثل بين يديه، سلم عليه، ثم قال: الأمير - أطال الله بقاءه - ، كالنهار الماتع، قاظ وسطه، وطاب أبرداه، أو كالسيف القاطع، لان متنه، وخشن حداه، " خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين " فقال صالح: " لا تثريب عليكم اليوم " قد وهبت لك المعرة وأهلها، وأمر بتقويض الخيام والمجانيق، فنقضت ورحل، ورجع أبو العلاء وهو يقول:
نجى المعرة من براثن صالح ... رب يعافي كل داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة ... الله ألحفهم جناح تفضل
قال أبو غالب بن مهذب المعري في تاريخه، في سنة سبع عشرة وأربعمائة:

صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها، فنفر كل من في الجامع، وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان أسد الدولة في نواحي صيدا، فوصل الأمير أسد الدولة، فاعتقل من أعيانها سبعين رجلاً، وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ، وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة، قال: ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بآمد وميا فارقين على المنابر، وقطع تادرس عليهم ألف دينار، وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح، وهو بظاهر المعرة، وقال له الشيخ أبو العلاء: مولانا السيد الأجل، أسد الدولة، ومقدمها وناصحها، كالنهار الماتع، اشتد هجيره، وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع، لان صفحه، وخشن حداه، " خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين " .
فقال صالح: قد وهبتهم لك أيها الشيخ، ولم يعلم أبو العلاء، أن المال قد قطع عليهم، وإلا كان قد سأل فيه، ثم قال الشيخ أبو العلاء بعد ذلك شعراً وهو:
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيون فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل ... وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد
أحمد بن عبد الرحمن بن نخيل الحميريأبو العباس الشنتمري يقول فيه أبو العباس، أحمد بن عبد العزيز، بن غنزوان الكاتب الشنتمري، وقد حضر القراءة عليه هو وجماعة من طلبة شنتمرية:
ومجلس ليس لشر به ... باع وباع الخير فيه مديد
وربما تقضى حياة به ... وينثني العالم فيه بليد
يزينه في جمعه فتية ... غر كما تدري صباح الخدود
ما منهم في جمعهم واحد ... إلا أخو نبل وذهن حديد
تجمعوا حول فقيه حوى ... حلماً وعلماً مع رأي سديد
إن خانك التفكير في مشكل ... فآت من يبلغ ما قد تريد
وإن يقل كان الذي قاله ... ولم يكن فيه لخلق مزيد
كأنه بين تلاميذه ... بدر بدا بين نجوم السعود
أحمد بن عبد الله المهاباذي الضريرمن تلاميذ عبد القاهر الجرجاني، له شرح كتاب اللمع.
أحمد بن عبد السيد بن علييعرف بابن الأشقر، النحوي أبو الفضل، متأخر من ساكني قطيعة باب الأزج، ذكره أبو عبد الله بن الدبيثي في كتابه، الذي ذيله على تاريخ السمعاني وقال: هو أديب فاضل، قرأ على أبي زكريا، يحيى بن علي الخطيب التبريزي، ولازمه حتى برع في فنه، وسمع على علو سنه، من أبي الفضل محمد بن ناصر السلامي، قال: وسمعت من يذكر أنه رأى أبا محمد بن الخشاب النحوي بالقطيعة، من باب الأزج، وهو يسأله عن مسائل من النحو ويباحثه، وقد روى الأشقر: وأقرأ العربية، إلا أن الروايات عنه قليلة.
أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الملكابن عمر، بن محمد، بن عيسى، بن شهيد أبو عامر، أشجعي النسب، من ولد الوضاح، بن رزاح، الذي كان مع الضحاك يوم المرج، ذكره الحميدي وقال: إنه مات في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة بقرطبة، ومولده سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وأبو عبد الملك بن أحمد، شيخ من شيوخ وزراء الدولة العامرية، ومن أهل الأدب، وكان في أيام عبد الرحمن الناصر، له شعر وبديهة، ولم يخلف لنفسه نظيراً في علمي النظم والنثر. قال: وهو من العلماء بالأدب، ومعاني الشعر، وأقسام البلاغة، وله حظ من ذلك بسق فيه، ولم ير لنفسه في البلاغة أحداً يجاريه، وله كتاب حانوت عطار في نحو من ذلك.
وسائر رسائله وكتبه نافعة الجد، كثيرة الهزل، وشعره كثير مشهور، وقد ذكره أبو محمد علي بن أحمد مفتخراً به، فقال: ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك، بن شهيد. وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار، ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل، ومن شعر أبي عامر المختار:
وما ألان قناتي غمز حادثة ... ولا استخف بحلمي قط إنسان
أمضي على الهول قدماً لا ينهنهني ... وأنثني لسفيهي وهو حردان

ولا أقارض جهالاً بجهلهم ... والأمر أمري والأيام أعوان
أهيب بالصبر والشحناء ثائرة ... وأكظم الغيظ والأحقاد نيران
وقوله:
ألمت بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وذادني كرمي عمن ولهت به ... ويلي من الحب أو ويلي من الكرم
قال: وقال أبو محمد علي بن أحمد: ولم يعقب أبو عامر، وانقرض عقب الوزير أبيه بموته، وكان جواداً لا يليق شيئاً، ولا يأسى على فائت، عزيز النفس، مائلاً إلى الهزل، وكان له من علم الطب نصيب وافر.
أحمد بن عبد الملك بن علي بن أحمدابن عبد الصمد، بن بكر المؤذن، أبو صالح النيسابوري، الحافظ الأمين، لافقيه المفسر، المحدث الصوفي، نسيج وحده، في طريقته وجمعه وإفادته، ولد في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ومات لتسع خلون من شهر رمضان سنة سبعين وأربعمائة، وكان أبو سعد السمعاني في المزيد فقال: ومن خطه نقلت، كان عليه الاعتماد في الودائع من كتب الحديث، المجموعة في الخزائن، الموروثة عن المشايخ، الموقوفة على أصحاب الحديث، وكان يصونها، ويتعهد حفظها، ويتولى أوقاف المحدثين، من الحبر والكاغد وغير ذلك، ويقوم بتفرقتها عليهم، وإيصالها إليهم، وكان يؤذن على منارة المدرسة البيهقية سنين احتساباً، ووعظ المسلمين وذكرهم، وكان يأخذ صدقات الرؤساء والتجار، ويوصلها إلى ذوي الحاجات، ويقيم مجالس الحديث، وكان إذا فر، جمع وصنف وأفاد، وكان حافظاً ثقة ديناً، خيراً كثير السماع، واسع الرواية، جمع بين الحفظ والإفادة والرحلة، وكتب الكثير بخطه.
ثم ذكر أبو سعد جماعة كثيرة، ممن سمع عليه، بجرجان، والري، والعراق، والحجاز، والشام، ثم قال كما ينطق به تصانيفه وتخريجاته، ولم يتفرغ للإملاء، لاشتغاله بالمهمات التي هو بصددها، ثم ذكر جماعة رووا عنه. ثم قال: وصنف التصانيف، وجمع الفوائد، وعمل التواريخ، منها: كتاب التاريخ لبلدنا مرو، ومسودته عندنا بخطه، وأثنى عليه ثناء طويلاً.
وذكر أن الخطيب أبا بكر ذكره في تاريخه، وأنه كتب عنه، وكتب هو عن الخطيب، ووصفه بالحفظ والمعرفة، والذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى عنه أخباراً وأسانيد كثيرة، منها ما أسنده إليه، وقال: أنشد الشريف أبو الحسن عمران ابن موسى المغربي لنفسه:
حذيت وفائي منك غدراً وخنتني ... كذاك بدور التم شيمتها الغدر
وحاولت عند البدر والشمس سلوة ... فلم يسلني يا بدر شمس ولا بدر
وفي الصدر مني لوعة لو تصورت ... بصورة شخص ضاق عن حملها الصدر
أمنت اقتدار البين من بعد بينكم ... فما لفراق بعد فرقتكم قدر
أحمد بن عبد الوهاب بن هبة اللهابن محمد، بن علي، بن الحسين، بن يحيى، بن السيني، أبو البركات، بن أبي الفرج، مؤدب الخلفاء، كانت له معرفة حسنة بالآداب، ومات في سادس عشر من المحرم، سنة أربع عشرة وخمسمائة، عن ست وخمسين سنة، وثلاثة أشهر.
قال أبو الفرج بن الجوزي: كان أبو البركات يعلم أولاد المستظهر، وكان له أنس بالمسترشد، فلما قبض على ابن الجوزي صاحب المخزن، ولي ابن السيني مكانه النظر في المخزن سنة وثمانية أشهر، وكان عالماً بالأدب والشعر، كثير الإفضال على أهل العلم، وخلف من المال ما حزر بمائة ألف دينار. وقف وقوفاً على مكة والمدينة.
أحمد بن عبيد بن ناصح بن بلنجرأبو جعفر النحوي الكوفي، يعرف بأبي عصيدة. ديلمي الأصل، من موالي بني هاشم، حدث عن الواقدي، والأصمعي، وأبي داود الطيالسي، وزيد بن هارون، وغيرهم. وروى عنه القاسم بن محمد، بن بشار الأنباري، وأحمد بن حسن، بن شهير، ومات فيما ذكره أبو عبد الله، محمد ابن شعبان بن هارون، بن بنت الغرياني في تاريخ الوفيات له، في سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
قالوا: وكان ضعيفاً فيما يرويه، وله من التصانيف: كتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، وكتاب الزيادات في السفر لابن السكيت في إصلاحه، وكتاب عيون الأخبار والأشعار.

وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: كان أبو عصيدة وابن قادم يؤدبان ولد المتوكل، قال: لما أراد المتوكل أن يتخذ المؤدبين لولده، جعل ذلك إلى إيتاخ، فأمر إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك، فبعث إلى الطوال، والأحمر، وابن قادم، وأبي عصيدة هذا، وغيرهم من أدباء ذلك العصر، فأحضرهم مجلسه، وجاء أبو عصيدة، فقعد في آخر الناس، فقال له من قرب منه: لو ارتفعت، فقال: بل أجلس حيث انتهى بي المجلس، فلما اجتمعوا، قال لهم الكاتب: لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم، واخترنا. فألقوا بينهم بيت ابن عنقاء الفزاري:
ذريني إنما خطئي وصوبي ... علي وإنما أنفقت مال
فقالوا: ارتفع مال بإنما، إذا كانت ما بمعنى الذي، ثم سكتوا، فقال لهم أحمد بن عبيد من آخر الناس: هذا الإعراب، فما المعنى؟ فأحجم الناس عن القول، فقيل له: فما المعنى عندك؟ قال: أراد ما لومك إياي؟ وإن ما أنفقت مال، ولم أنفق عرضاً، فالمال لا ألام على إنفاقه، فجاءه خادم من صدر المجلس فأخذ بيده، حتى تخطى به إلى أعلاه، وقال له: ليس هذا موضعك، فقال: لأن أكون في مجلس أرفع منه إلى أعلاه، أحب إلي من أن أكون في مجلس أحط عنه. فاختير هو وابن قادم، بخط عبد السلام البصري.
حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف، بن يوسف، بن موسى سبط فلان، قال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله، ابن محمد، بن جعفر الأزدي قال: سمعت أحمد بن عبيد، بن ناصح يقول: لما أراد المتوكل أن يعقد للمعتز ولاية العهد، حططته عن مرتبته قليلاً، وأخرت غداءه عن وقته، فلما كان وقت الانصراف، قلت للخادم احمله، فضربته من غير ذنب، فكتب بذلك إلى المتوكل: فأنا في الطريق منصرفاً، إذ لحقني صاحب رسالة فقال: أمير المؤمنين يدعوك، فدخلت على المتوكل وهو جالس على كرسي، والغضب يبين في وجهه، والفتح قائم بين يديه متكئاً على السيف، فقال: ما هذا الذي فعلته يا أبا عبد الله؟ قلت: أقول يا أمير المؤمنين؟ فقال: قل، إنما سألتك لتقول، قلت: بلغني ما عزم عليه أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - فدعوت ولي عهده وحططت منزلته، ليعرف هذا المقدار، فلا يعجل بزوال نعمة أحد، وأخرت غداءه، ليعرف هذا المقدار من الجوع، فإذا شكي إليه الجوع عرف ذلك، وضربته من غير ذنب، ليعرف مقدار الظلم، فلا يعجل على أحد، قال: فقال أحسنت، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، ثم لحقني رسول قبيحة بعشرة آلاف أخرى، فانصرفت بعشرين ألفاً. قال: وحدثنا أبو القاسم الأزدي قال: سمعت أحمد بن عبيد، بن ناصح يحدث قال: قال لي المعتز يوماً: يا مؤدبي، تصلي جالساً؟ وتضربني قائماً؟ فقلت له: وضربك من الفروض، ولا أودي فرضي إلا قائماً، وقال عبد الله بن عدي الحافظ: أحمد بن عبيد، أبو عصيدة النحوي، كان بسر من رأى يحدث عن الأصمعي، ومحمد بن مصعب القرقساني بمناكير، وقال أبو أحمد الحافظ النيسابوري وذكره فقال: لا يتابع على جل حديثه قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني أبي قال: أنشدنا أحمد ابن عبيد:
ضعفت عن التسليم يوم فراقنا ... فودعتها بالطرف والعين تدمع
وأمسكت عن رد السلام فمن رأى ... محباً بطرف العين قبلي يودع؟
رأيت سيوف البين عند فراقنا ... بأيدي جنود الشوق بالموت نلمع
عليك سلام الله مني مضاعفاً ... إلى أن تغيب الشمس من حيث تطلع
أحمد بن عبيد الله بن محمدابن عمار أبو العباس الثقفي الكاتب المعروف بحمار العير، كذا قال الخطيب، قال: وله مصنفات في مقاتل الطالبيين وغير ذلك، وكان يتشيع، ومات في سنة أربع عشرة وثلاثمائة. حدث عن عثمان بن أبي شيبة، وسليمان بن أبي شيخ، وعمر ابن شبة، ومحمد بن داود بن الجراح، وغيرهم. ورى عنه القاضي الجابي، وابن زنجي الكاتب، وأبو عمرو بن حيويه، وأبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، وغيرهم. وفيه يقول ابن الرومي:
وفي ابن عمار عزيرية ... يخاصم الله بها والقدر
ما كان لم كان؟ وما لم يكن ... لم لم يكن؟ فهو وكيل البشر
لا بل فتى خاصم في نفسه ... لم لم يفز قدماً وفاز البقر
وكل من كان له ناظر ... صاف فلا بد له من نظر
هذا ما ذكره الخطيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...