Translate

الخميس، 9 مارس 2023

إظهار الحقيقة " ذلك عيسى بن مريم قول ال محمد بن علي بن جميل المطري

إظهار الحقيقة

---
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ

 الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} بقلم محمد بن علي

 بن جميل المطري

 المقدمة 

الحمد لله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

 

أما بعد:

فإن الله أنزل القرآن على محمد خاتم النبيين ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأظهر بالقرآن - الذي هو كلام رب العالمين - ما كان مخفيا عند أهل الكتاب، وقص عليهم فيه أكثر الذي هم فيه يختلفون، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون!!

 

وقد اهتدى المسلمون بكتاب الله لما اختُلِف فيه من الحق، وكتب علماء المسلمين الناصحين كثيرا من الكتب التي تكشف ما في التوراة والإنجيل من باطل التحريف والتبديل، وتكشف شبهات اليهود والنصارى على الحق المبين، فتظهر الحقائق لأولي الأبصار، ويهتدي إليها أولو الألباب. 

وإن من خير الكتب المصنفة في بيان حقيقة عقيدة النصارى، وكشف شبهات المنصِّرين والمستشرقين على الدين الحق كتابين أحدهما متقدم على الآخر:

أولهما: كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى عام (728ه / 1328م). 

وثانيهما: كتاب إظهار الحق تأليف العلامة رحمة الله الكيراوني الهندي المتوفى عام (1308ه / 1891م).

 

ومن لا يطَّلع على هذين الكتابين فقد فاته ما لا يجده في كتابٍ غيرهما ، فقد قررا الحقائق الدينية والتاريخية بأسهل الطرق وأقربها، واعتمدا في ذلك على ما في كتب العهدين القديم والجديد المسلَّمة عند فرق النصارى، لا سيما الكتاب الثاني، فقد درس مؤلفه تلك الكتب دراسة نقدية تحليلية عدة مرات حتى صار أعلم بها من أهلها، كما درس كتب القدماء والمتأخرين من علماء المسلمين واليهود والنصارى، حتى أصبح عالماً بجميع طرق النقد، والمواضع التي يستدل بها على دعواه. 

ومجموع طبعات كتب العهدين التي رجع إليها مؤلف إظهار الحق (32) طبعة بأربع لغات، منها (13) بالعربية، و (8) بالفارسية، و (6) بالهندية، و (5) بالإنجليزية، ورجع إلى (58) مصدراً أساسياً مما كتبه علماء أهل الديانتين اليهودية والنصرانية، ورجع أيضا إلى كثير من كتب علماء المسلمين. 

ومع كثرة مراجعه وتنوعها إلا أنه لم يطَّلع على كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وهو كتاب عظيم القدر فيه تحقيقات بديعة، وفوائد كثيرة، ولو اطَّلع عليه لنقل منه الكثير، ولزاد كتابه فوائد على فوائده.

فهما كتابان لا يغني أحدهما عن الآخر، لكنهما كبيران، فالجواب الصحيح مطبوع في ستة مجلدات، وإظهار الحق في أربعة مجلدات، فتلك عشرة مجلدات يعسر على كثير من الناس قراءتها جميعا، فعقدت العزم على اختصار الكتاب الثاني، ثم أضيف إليه من الكتاب الأول أحسن الفوائد المناسبة، وبهذا العمل يتيسر لطالبي العلم والحقيقة الوصول إلى خلاصة هذين الكتابين العظيمين بأيسر طريق.

 

فدونك أيها القارئ زبدة ما في الكتابين مع زيادة فوائد من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن حاشية محقق كتاب إظهار الحق الدكتور محمد أحمد خليل ملكاوي، ومن مختصر كتاب إظهار الحق للمحقق المذكور، ومن كتابي نبي الرحمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.

 

وقد اعتمدت في كتابي هذا على ترتيب كتاب إظهار الحق لحسن ترتيبه لأبوابه وفصوله، وهذه هي أبواب الكتاب:

الباب الأول: كتب العهد العتيق والجديد.

الباب الثاني: إثبات تحريف التوراة والإنجيل.

الباب الثالث: إثبات نسخ شريعة موسى وعيسى عليهما السلام.

الباب الرابع: إبطال عقيدة التثليث.

الباب الخامس: إثبات كون القرآن كلام الله والمعجزة الخالدة لمحمد رسول الله.

الباب السادس: إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله أن يبارك في هذا الكتاب، وأن يهدي به كثيراً من أولي الألباب.

 

أبو الحارث محمد المطري

20 صفر 1434هـ الموافق 2يناير 2013م


 

 

 

 

 

 

 

الباب الأول
كتب العهد القديم والجديد


الفصل الأول
في بيان أسمائها وتعدادها

يُقسِّم علماء النصارى كتابهم المقدس إلى قِسمين:

قسم يدّعون أنه وصل إليهم بواسطة الأنبياء الذين كانوا قبل عيسى عليه السلام.

وقسم يدّعون أنه كُتِب بالإلهام بعد عيسى عليه السلام.

فمجموع الأسفار من القسم الأول يسمى بالعهد القديم، ومجموع الأسفار من القسم الثاني يسمى بالعهد الجديد، ومجموع العهدين يسمى (بيبل) وهو لفظ يوناني بمعنى الكتاب.

والنصارى قديماً وحديثاً مختلفون في إثبات بعض الأسفار، وقد دعا الإمبراطور قسطنطين علماء النصارى سنة 325م في بلدة نيقية ليتشاوروا في أمر هذه الأسفار المشكوك فيها، فحكموا بعد المشاورة أن سفر يهوديت - وهو من العهد القديم - واجب التسليم، وأبقوا سائر الأسفار المختلفة مشكوكة كما كانت.

ثم انعقد مجلس آخر يسمى بمجلس لوديسيا سنة 364م فزادوا سبعة كتب أخرى وجعلوها واجبة التسليم وهي:

1- كتاب استير وتسمى التوراة العبرانية.

2- رسالة يعقوب.

3- رسالة بطرس الثانية.

4و5- الرسالة الثانية والثالثة ليوحنا.

6- رسالة يهوذا.

7- رسالة بولس إلى العبرانيين.

ثم انعقد بعد ذلك مجلس آخر سنة 397م يسمى مجلس كارتهيج فزادوا أيضاً سبعة كتب أخرى وجعلوها واجبة التسليم وهي:

كتاب وزدم.

كتاب طوبيا.

كتاب باروخ.

كتاب إيكليزيا ستيكس.

5و6- كتابا المكابيين.

7- كتاب مشاهدات يوحنا.

وبعد انعقاد تلك المجالس صارت الكتب المشكوكة مسلَّمة عند جمهور النصارى مدة اثني عشر قرناً إلى أن ظهرت فرقة البروتستانت فردوا سبعة كتب وهي:

1- كتاب باروخ.

2- كتاب طوبيا.

3- كتاب يهوديت.

4- كتاب وزدم.

5- كتاب إيكليزيا ستيكس.

6و7- كتاب المكابيين.

وردوا بعض أبواب كتاب استير وسلموا البعض.

وتمسكوا في هذا الإنكار والرد:

بأن هذه الكتب كانت في الأصل باللسان العبراني وغيره ولا توجد الآن بتلك الألسنة.

وأن علماء النصارى المتقدمين أجمعوا على عدم تسليمها وأوجبوا ردها، فكيف يقبل حكم المجامع المتأخرة على إثباتها بلا بينة؟!

هذه هي حقيقة الكتاب المقدَّس!!

 


الفصل الثاني
في بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل
لكتاب من كتب العهد القديم والجديد

أولاً: التوراة:

التوراة المشهورة اليوم ليست هي التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله، بل هي مجموعة من الروايات والقصص المشتهرة بين اليهود جمعها أحبارهم، وتواتر هذه التوراة منقطع قبل زمان يوشيا بن آمون، وهو من أولاد داود عليه السلام، جلس على سرير السلطنة قبل ميلاد المسيح ب 641 سنة، والنسخة التي وُجدت بعد (18) سنة من جلوسه على سرير السلطنة لا اعتماد عليها يقيناً، ومع كونها غير معتمدة ضاعت، ثم في حادثة بختنصر قبل ميلاد المسيح ب 588 سنة انعدمت التوراة وسائر كتب العهد القديم، ولم يبق لها أثر، ولما كتب عزرا هذه الكتب على زعمهم ضاعت نسخها وأكثر نقولها في حادثة أنتيوكس الذي حكم سوريا من سنة 175 - 163 ق.م، وأراد أن يمحق ديانة اليهود فقتلهم ودمر القدس وأحرقه ولم ينج منهم إلا من فر إلى الجبال أو اختفى في المغارات.

ومن قابل الباب الخامس والأربعين والسادس والأربعين من كتاب حزقيال بالباب الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من سفر العدد يجد تخالفاً صريحاً في الأحكام!!

ومن يقرأ بعض الفقرات في التوراة يجزم بلا شك أنها كُتبت بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام مثل الإصحاح (34) من سفر التثنية وفيه بعض هذه الآيات:

" (1) وصعد موسى من عربات مؤاب إلى جبل نبو..

(5) فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب..

(6) ودفنه في الجواء في أرض مؤاب..

(7) وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات..

(10) ولم يقم بعد بني إسرائيل مثل موسى.. ".

وعلماء النصارى يقولون بالظن: إنها من ملحقات نبي من الأنبياء، وهذا القول مردود؛ لأنه ادعاء بلا برهان: ((وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [النجم:28].

وقد شهد كثير من علماء النصارى بتحريف التوراة، ففي دائرة معارف بيني:

قال الدكتور سكندر كيدس الذي هو من فضلاء المسيحية المعتمدين في ديباجة البيبل الجديد: ثبت لي بظهور الأدلة الخفية ثلاثة أمور جزماً:

الأول: أن التوراة الموجودة ليست من تصنيف موسى.

الثاني: أنها كُتبت في كنعان أو أورشليم ولم تُكتب في عهد موسى الذي كان بنو إسرائيل في عهده في الصحراء.

الثالثة: لا يثبت تأليفها قبل سلطنة داود، بل أُلِّفت بعد (500) سنة من وفاة موسى. انتهى باختصار، وهذا اعتراف من أحد كبار علماء النصارى بتحريف التوراة!!

ثانياً: حال كتاب يوشع

كتاب يوشع هو في المنزلة الثانية من التوراة، ولم يظهر لعلماء أهل الكتاب إلى الآن بالجزم اسم مُصنِّفه ولا زمان تصنيفه، وافترقوا إلى خمسة أقوال:

1- قال جرهاد وديوديتي وهيوت وباترك وتلامين والدكتور كري: إنه تصنيف يوشع.

2- وقال الدكتور لائت فت: إنه تصنيف فينحاس.

3- وقال كالون: إنه تصنيف العازار.

4- وقال وانتل: إنه تصنيف صموئيل.

5- وقال هنري: إنه تصنيف إرميا.

وبين يوشع وإرميا مدة 850 سنة تخميناً!!

فانظروا إلى اختلافهم الفاحش، مما يدل على عدم وجود إسناد لهذا الكتاب عندهم.

 

ثالثاً: حال كتاب القضاة

اختلف أهل الكتاب خلافاً عظيماً في مصنفه وزمن تصنيفه، فقيل: صنّفه فينحاس، وقيل: حزقيا، وقيل: إرميا، وقيل: حزقيال، وقيل: عزرا.

وبين عزرا وفينحاس أزيد من (900) سنة!! ولو كان عندهم سند لما وقع هذا الخلاف الفاحش.

رابعاً: حال كتاب راعوث

قال بعضهم: صنفه حزقيا، وقيل: عزرا، وقال اليهود وجمهور النصارى: صموئيل.

خامساً: حال كتاب نحميا

قال أكثرهم: إنه تصنيف نحميا، وقال بعض علمائهم المحققين: إنه تصنيف عزرا.

سادساً: حال كتاب أيوب

فيه خلاف كثير جداً، قال مماين ديز وهو من علماء اليهود المشهورين: هذا الكتاب حكاية باطلة وقصة كاذبة، وكذلك قال ميكايلس وليكرك وسملر واستاك وغيرهم من علماء النصارى، وقال لوثر إمام البروتستانت: هذا الكتاب حكاية محضة.

سابعاً: حال زبور داود

قال القدماء من علماء اليهود: هذه الزبورات تصنيف هؤلاء الأشخاص: آدم، إبراهيم، موسى، آساف، همان، جدوتهن، ثلاثة أبناء قورح، وأما داود فجمعها في مجلد واحد، فعندهم داود عليه السلام جامع الزبورات فقط لا مصنفها.

وقال هورن: المختار عند المتأخرين من علماء اليهود وكذا عند جميع المفسرين من المسيحيين أن هذا الكتاب تصنيف هؤلاء الأشخاص: موسى، داود، سليمان، آساف، همان، اتهان، جدوتهن، ثلاثة أبناء قورح.

فاختلف متقدمو اليهود ومتأخروهم في تعداد الأشخاص الذين صنفوا الزبور!!

وقال أورجن وكريز استم واكستاين وأنبروس ويهوتي ميس وغيرهم من قدماء النصارى: إن هذا الكتاب كله تصنيف داود عليه السلام.

وأنكر قولهم هليري واتهانيسيش وجيروم ويوسي بيس وغيرهم.

وقال كامت: إن الزبورات التي صنفها داود خمسة وأربعون فقط، والزبورات الباقية من تصنيفات آخرين!!!

ثامناً: حال إنجيل متّى

قدماء النصارى يقولون: إن إنجيل متّى كان باللسان العبراني وفُقد بسبب تحريف الفرق النصرانية، والموجود الآن ترجمته، ولا يوجد عندهم سند هذه الترجمة، ولا يعلمون يقيناً اسم المترجِم فضلاً عن معرفة حاله، ويقولون بالظن: لعل فلاناً أو فلاناً ترجمه!!

تاسعاً: حال إنجيلي مُرقس ولوقا

قال وارد الكاثوليكي: صرّح جيروم أن بعض العلماء المتقدمين كانوا يشُكُّون في الباب الآخر من إنجيل مرقس [وهو الإصحاح (16)]، وبعض القدماء كانوا يشكون في بعض الآيات من الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا!!

عاشراً: حال إنجيل يوحنا

لا يوجد سند متصل يدل على أن إنجيل يوحنا من تصنيفه، بل الآية 24 من الباب 21 من هذا الإنجيل تدل على أن الذي كتبها غير يوحنا!!

قال كاتبه في حق يوحنا نفسه: " هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق ".

وقد أُنكِر هذا الإنجيل في القرن الثاني.

وقال المحقق برطشنيدر: إن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه، بل صنفها أحد في ابتداء القرن الثاني!!

وفي كاثوليك هرلد (ص 205 ج 7) المطبوع سنة 1844م: كتب استادلن في كتابه أن كاتب إنجيل يوحنا طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية بلا ريب.

وقال المحقق كروتيس: إن هذا الإنجيل كان عشرين باباً فأَلحقت كنيسة أفسس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا.

وفي أول الباب الثامن من هذا الإنجيل إحدى عشرة آية ردّها جمهور علماء النصارى، ولا توجد هذه الآيات في الترجمة السريانية!!

وقال هورن في الباب الثاني من القسم الثاني من المجلد الرابع من تفسيره المطبوع سنة 1822م: الحالات التي وصلت إلينا في باب زمان تأليف الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة أبتر وغير معينة ولا تُوصلنا إلى أمر معين، والمشايخ القدماء الأولون صدّقوا الروايات الواهية وكتبوها، وقَبِل الذين جاءوا من بعدهم مكتوبهم تعظيماً لهم، وهذه الروايات الصادقة والكاذبة وصلت من كاتب إلى آخر وتعذَّر تنقيتها بعد انقضاء المدة اه!!!

فكيف يعتمد العاقل على ما في هذه الكتب وهذا حالها بشهادة أهلها؟!!

 


الفصل الثالث
في بيان الاختلافات والأغلاط في كتب العهدين

الاختلافات في كتب أهل الكتاب كثيرة، ولو كانت هذه الكتب من عند الله لما وُجِد فيها أي خلاف؛ لأن الله حق ولا يقول إلا الحق وهو علام الغيوب لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.

فمن هذه الاختلافات:

في سفر صموئيل الثاني الآية التاسعة من الباب الرابع والعشرين: " وكان عدد بني إسرائيل (800) رجل بطل يضرب بالسيف، ورجال يهوذا عدتهم (500) ألف رجل مقاتلة ".

وفي الآية الخامسة من الباب الحادي والعشرين من السفر الأول من أخبار الأيام هكذا: " وكان عدد كل إسرائيل ألف ألف ومائة ألف رجل جاذب سيف، ويهوذا (470) ألف رجل مقاتلة ".

في الآية الثالثة عشرة من الباب الرابع والعشرين من سفر صموئيل الثاني: " وأتى جاد إلى داود وأخبره قائلاً: إما أن يكون سبعة سنين جوعاً لك في أرضك ".

وفي الآية الثانية عشرة من الباب الحادي والعشرين من السفر الأول من أخبار الأيام هكذا: " إما ثلاثة سنين جوعاً ".

وقد أقر مفسروهم أن الأول غلط!!

الآية السادسة والعشرون من الباب الثامن من سفر الملوك الثاني: " وكان قد أتى على أخزيا اثنان وعشرون سنة إذ مَلَك ".

وفي الآية الثانية من الباب الثاني والعشرين من السفر الثاني من أخبار الأيام هكذا: " ابن اثنين وأربعين سنة كان أخزيا ".

وقد أقر مفسروهم أن الثاني غلط!!

بين الآية الثامنة من الباب الثالث والعشرين من سفر صموئيل الثاني والآية الحادية عشرة من الباب الحادي عشر من السفر الأول من أخبار الأيام اختلاف واضح، قال آدم كلارك في ذيل شرح عبارة صموئيل: قال الدكتور كني كات: إن في هذه الآية ثلاث تحريفات جسيمة اه!!!

بين الآية الحادية والثلاثين من الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني، والآية الثالثة من الباب العشرين من السفر الأول من أخبار الأيام اختلاف واضح أيضا، قال هورن في المجلد الأول من تفسيره: إن عبارة سفر صموئيل صحيحة فلتُجعل عبارة سفر أخبار الأيام مثلها. اه.

فعنده عبارة سفر أخبار الأيام غلط، وانظر كيف أمر بالإصلاح والتحريف!!

والعجب أن مترجم الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844م جعل عبارة سفر صموئيل مثل عبارة سفر أخبار الأيام التي غلّطها هورن!! وكذلك في طبعة سنة 1865م!! فهذه سجيتهم من قديم الزمان.

بين الباب الثاني من كتاب عزرا والباب السابع من كتاب نحميا اختلاف عظيم في أكثر المواضع، قال جامعو تفسير هنري واسكات ذيل شرح عبارة عزرا: وقع فرْق كثير في هذا الباب والباب السابع من كتاب نحميا من غلط الكاتب!!

من قابل بيان نسب المسيح عليه الصلاة والسلام الذي في إنجيل متّى بالبيان الذي في إنجيل لوقا يجد ستة اختلافات منها:

أن في إنجيل متّى (1/1-17): أن عيسى بن يوسف بن يعقوب، وأنه من نسل سليمان بن داود.

وفي إنجيل لوقا (3/ 23-38): أن عيسى بن يوسف بن هالي وأنه من نسل ناثان بن داود!!

وفي إنجيل متّى بين المسيح وداود ستة وعشرون أباً، وفي إنجيل لوقا بين المسيح وداود واحد وأربعون أباً!!

وقد تحيَّر علماء النصارى من هذا الاختلاف الواضح الفاضح، واعترف جماعة من المحققين منهم مثل أكهارن وكيسر وهيس وديوت ووينر وفرش وغيرهم من المفسرين المشهورين بأن هذا اختلاف معنوي وليس لفظيا، وآدم كلارك نقل في ذيل شرح الباب الثالث من إنجيل لوقا عن مستر هارمرسي (ص 408) من المجلد الخامس قوله: كانت أوراق النسب تحفظ في اليهود حفظاً جيداً، ويعلم كل ذي علم أن متّى ولوقا اختلفا في بيان نسب الرب اختلافاً تحيّر فيه المحققون من القدماء والمتأخرين!!

والحق هو ما أخبرنا الله في كتابه القرآن أن عيسى هو ابن مريم، وأن الله خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم، والله على كل شيء قدير، قال الله سبحانه: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) [آل عمران:59-60].

وقال الله سبحانه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ: ((قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) [الإخلاص:1-4].

وقال الله سبحانه: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)) [المائدة:72-77].

فكيف يعتمد العاقل على ما في التوراة والإنجيل مع وجود هذا الخلاف فيما بينها؟!!

 

وأما الأغلاط التي في كتب العهدين فكثيرة جداً فمنها:

في سفر الخروج في الآية (40) من الباب (12) أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر كانت (430) سنة، وهذا غلط، والصواب (215) سنة كما صرّح بذلك مفسروهم ومؤرخوهم واعترفوا بأن ذلك غلط واضح!!

في سفر أخبار الأيام الثاني (36/6): أن بختنصر ملك بابل أسر يواقيم بسلاسل وسباه إلى بابل، وهذا غلط، والصحيح أنه قتله في أورشليم وأمر أن تلقى جثته خارج السور كما في سفر إرميا (22/9).

في سفر التكوين (2/17): " وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت " ، وهذا غلط؛ لأن آدم عليه السلام أكل منها ولم يمت في يوم الأكل كما هو معلوم!!

في الآية الأولى من الباب السادس من سفر الملوك الأول أن سليمان بنى بيت الرب في سنة (480) من خروج بني إسرائيل من مصر، وهذا غلط عند المؤرخين، قال آدم كلارك في الصفحة (1293) من المجلد الثاني من تفسيره ذيل شرح الآية المذكورة: اختلف المؤرخون في هذا الزمان على هذا التفصيل:

في المتن العبراني (480)، في النسخة اليونانية (440)، عند كليكاس (330)، عند ملكيوركانوس (590)، عند يوسيفس (592)، عند سلبي سيوس سويروس (588)....إلخ ما ذكره من الخلافات، فلو كان ما في العبراني صحيحاً إلهاميا لما خالفه مترجمو الترجمة اليونانية ولا المؤرخون من أهل الكتاب!!

في إنجيل متّى (24/2)، وإنجيل مرقس (13/2)، وإنجيل لوقا (21/6) قول المسيح: " الحق أقول لكم: إنه لا يُترك ههنا – أي: في بيت المقدس - حجر على حجر لا يُنقض ".

وصرّح علماء البروتستانت أنه لا يمكن أن يبقى في موضع بناء الهيكل بناء، بل كلما يُبنى ينهدم كما أخبر المسيح!!

وهذا أمر يكذبه التاريخ والواقع، فقد بنى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد الأقصى، وبنى عبدالملك بن مروان مسجد قبة الصخرة، ولا يزال البناء قائماً في بيت المقدس ولم يُنقض، فظهر بطلان هذا الخبر.

الآية الثامنة والعشرون من الباب التاسع عشر من إنجيل متّى هكذا: " فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً "، فشهد عيسى للحواريين الاثني عشر بالفوز والنجاة وهو غلط؛ لأن أحدهم وهو يهوذا الإسخريوطي ارتد ومات كافراً على زعمهم، فلا يمكن أن يجلس على الكرسي الثاني عشر!!

الآية الحادية والخمسون من الباب الأول من إنجيل يوحنا هكذا: " وقال له: الحق الحق أقول لكم: مِن الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان ".

وهذا غلط، ولا أحد يرى السماء مفتوحة!!

الآية الثانية عشرة من الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: " الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها؛ لأني ماضٍ إلى أبي ".

وفي الآية 17 و 18 من الباب السادس عشر من إنجيل مرقس: " وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يُخرِجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون ".

وهذا غلط، ولا سمعنا أن أحداً من النصارى فعل أفعالاً أعظم من أفعال المسيح، وليس من علامة من آمن بالمسيح فعل الأشياء المذكورة!!

في إنجيل لوقا(3/27): " ابن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شألتيئيل بن نيري ".

وفي إنجيل متى (1/13): أن زربابل وَلِد أبيهود وليس ريسا.

وزربابل هو ابن فدايا لا ابن شألتيئيل كما في سفر أخبار الأيام الأول (3/17 - 19).

وشألتيئيل هو ابن يوخانيا لا ابن نيري كما في سفر أخبار الأيام الأول (3/17 - 19).

فهذه ثلاثة أغلاط في آية واحدة من إنجيل لوقا فكيف يقال: إن هذا الكتاب من عند الله؟!!!


الفصل الرابع
بطلان دعوى أهل الكتاب أن كتبهم كُتبت بالإلهام

ادعاء أهل الكتاب أن كتبهم كُتبت بالإلهام دعوى بلا برهان، وهو ادعاء باطل قطعاً، ويدل على بطلانه وجوه كثيرة منها:

أنه يوجد فيها الاختلافات المعنوية الكثيرة، واضطر محققوهم ومفسروهم بالتسليم في بعضها بأن إحدى العبارتين صادقة والأخرى كاذبة، إما بسبب التحريف القصدي أو بسبب سهو الكاتب، ووجهوا بعضها بتوجيهات ركيكة بشعة لا يقبلها الذهن السليم.

أنه يوجد فيها أغلاط كثيرة، والكلام الإلهامي بعيدٌ كل البعد عن وقوع الغلط والاختلاف المعنوي.

أنه وقع فيها التحريفات القصدية وغير القصدية في مواضع كثيرة جداً غير محصورة ولا مجال للنصارى أن ينكروها، وسيأتي ذكر بعضها في الباب الثاني.

أن كتاب باروخ وكتاب طوبيا وكتاب يهوديت وكتاب وزدم وغيرها أجزاء من العهد القديم عند فرقة الكاثوليك، وقد بيّنت فرقة البروتستانت بأنها ليست إلهامية واجبة التسليم، واليهود أيضاً لا يُسلِّمونها إلهامية.

والسِّفر الثالث لعزرا جزء من العهد القديم عند فرقة الأرثوذكس، وقد بيَّنت الفرقتان الكاثوليكية والبروتستانتية بأدلة واضحة أنه ليس إلهامياً.

وكتاب القضاة ليس إلهامياً على قول من قال: إنه تصنيف فينحاس، وكذا على قول من قال: إنه تصنيف حزقيا.

وإنجيل متّى على قول القدماء وأكثر علمائهم من المتأخرين - الذين قالوا: إنه كان باللسان العبراني ففُقد والموجود الآن ترجمته - ليس إلهامياً.

وإنجيل يوحنا على قول استائدلن والمحقق برطشنيدر ليس إلهامياً، والباب الأخير منه على قول المحقق كروتيس ليس إلهامياً، وجميع رسائل يوحنا ليست إلهامية على قول المحقق برطشنيدر.

والرسالة الثانية لبطرس ورسالة يهوذا ورسالة يعقوب والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ومشاهدات يوحنا ليست إلهامية على قول الأكثر.

5- في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها كثير من علماء انجلترا في (ج11/274) في بيان الإلهام قالوا: قد وقع النزاع في أن كل قول مندرج في الكتب المقدسة هل هو إلهامي أم لا؟ وكذا كل حال من الحالات المندرجة فيها، فقال جيروم وكروتيس وأرازمس وبروكوبيس والكثيرون الآخرون من العلماء: إنه ليس كل قول منها إلهامياً.

ثم قالوا في (ج19/20): إن الذين قالوا: إن كل قول مندرج فيها إلهامي، لا يقدرون أن يُثبتوا دعواهم بسهولة!!!

وصدق العلامة ابن القيم رحمه الله حين قال في كتابه هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى(309-311): هذه التوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان ما لا يخفى على الراسخين في العلم، وهم يعلمون قطعا أن ذلك ليس في التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك مثل قولهم حكاية نزول الألواح، وكيف رمى بها موسى عليه الصلاة والسلام، ونفس الألواح كانت هي التوراة!! وقصة وفاة موسى، ووفاة موسى إنما حدثت بعد نزول التوراة بسنين عديدة!! ولا في الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، وكيف يكون في الإنجيل الذي أُنزل على المسيح قصة صلبه، وما جرى له، وأنه صُلب يوم كذا وكذا، وصلب ودفن وقام من القبر بعد ثلاث؟! وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالإنجيل وسموا الجميع إنجيلا، ولذلك كانت الأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضاً.

والنصارى لا يقرون أن الإنجيل منزل من عند الله على المسيح، وأنه كلام الله، بل كل فرقهم مجمعون على أنها أربعة (أناجيل) تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة، ولا يعرفون الإنجيل على غير هذا، وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه الإنجيل، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها!! انتهى كلامه مختصرا.

فالتوراة التي هي كلام الله وأنزلها على نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، والإنجيل الذي هو كلام الله وأنزله على نبيه عيسى عليه الصلاة والسلام فُقِدا قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، والكتب التي بأيدي اليهود والنصارى ليست التوراة والإنجيل المذكورَين في القرآن الكريم، وقد أخبر الله في القرآن عن أهل الكتاب أنهم حرّفوا كتبهم فقال: ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...)) [البقرة:79]، وقال الله: ((أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [البقرة:75]، وقال سبحانه: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)) [المائدة:41]، وقد حفظ الله آخر كتبه القرآن الكريم الذي أنزله على آخر أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، وجعله ناسخاً للكتب السابقة التي حُرِّفت وبُدِّلت، قال الله سبحانه: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)) [المائدة:48]، وقال: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [النمل:76-77].

وأختم هذا الفصل بقول الله تعالى: ((فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) [الانشقاق:20-25].

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثاني
إثبات تحريف التوراة والإنجيل


أولاً: إثبات التحريف اللفظي بالتبديل

النُّسخ المشهورة للتوراة ثلاث نسخ:

الأولى: العبرانية وهي المعتبرة عند اليهود وجمهور علماء البروتستانت.

الثانية: اليونانية وهي التي كانت معتبرة عند النصارى إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وكانوا يعتقدون تحريف النسخة العبرانية، وأن اليهود حرفوها عمداً سنة (130م) للتشكيك في صحة النسخة اليونانية، ولما ظهرت الفرقة البروتستانتية عكست الأمر وقالت بصحة النسخة العبرانية وتحريف اليونانية!! ولا تزال الكنيسة اليونانية وكنائس المشرق (المذهب الأرثوذكسي) على اعتبار هذه النسخة اليونانية ويقال لها: السبعينية؛ لأنه اشترك في ترجمتها 72 عالماً من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية، وكذلك يعترف بها نصارى الكاثوليك.

الثالثة: النسخة السامرية وهي المعتبرة عند السامريين، وهي النسخة العبرانية لكنها تشتمل على سبعة كتب من العهد القديم فقط وهي التي يُسلِّم بها السامريون، وتزيد على النسخة العبرانية في الألفاظ والفقرات.

ومن الشواهد على وجود التحريف في هذه النسخ ما يلي:

في النسخة العبرانية أن بين خلق آدم إلى طوفان نوح عليهما السلام (1656) سنة، وفي النسخة اليونانية (2262) سنة، وفي النسخة السامرية (1307) سنة!!

في النسخة العبرانية أن من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام (292) سنة، وفي النسخة اليونانية (1072) سنة، وفي النسخة السامرية (942) سنة!!

في الآية الرابعة من الباب (27) من كتاب التثنية في النسخة العبرانية هكذا: " فإذا عبرتم الأردن فانصبوا الحجارة التي أنا اليوم أوصيكم في جبل عيبال "، وهذه الجملة في النسخة السامرية هكذا: " فانصبوا الحجارة التي أنا أوصيكم في جبل جرزّيم ".

وعيبال وجرزيم جبلان متقابلان، وبين اليهود والسامريين سلفاً وخلفاً نزاع مشهور في تعظيم أحد هذين الجبلين، وتدعي كل فرقة منها أن الفرقة الأخرى حرّفت التوراة في هذا المقام، وكذلك بين علماء البروتستانت اختلاف في هذا الموضع، وكثير من الناس يجزمون بأن اليهود حرفوا لأجل عداوة السامريين، وجبل جرزيم ذو عيون وحدائق ونباتات كثيرة، وعيبال جبل يابس.

وقع في الآية الثامنة والعشرين من الزبور المائة والخامس في العبرانية: " هم ما عصوا قوله " ، وفي اليونانية: " هم عصوا قوله ".

ففي الأولى نفي، وفي الثانية إثبات، فأحدهما غلط يقيناً!!

وتحير علماء النصارى فيه، ففي تفسير هنري واسكات: لقد طالت المباحثه لأجل هذا الفرق جداً، وظاهر أنه نشأ إما لزيادة حرف أو لتركه. ا ه.

في الآية التاسعة من الباب الرابع والعشرين من سفر صموئيل الثاني: "بنو إسرائيل كانوا ثمانمائة ألف رجل شجاع، وبنو يهوذا خمسمائة ألف رجل شجاع".

وفي الآية الخامسة من الباب الحادي والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول: "فإسرائيل كانوا ألف ألف ومائة ألف رجل شجاع، ويهوذا كانوا أربعمائة ألف وسبعون ألف رجل شجاع".

فإحدى العبارتين هنا محرفة، وقد اعترف بهذا آدم كلارك في المجلد الثاني من تفسيره ذيل عبارة صموئيل فقال: لا يمكن صحة العبارتين، وتعيين الصحيحة عسير، والأغلب انها الأولى، ووقعت في كتب التواريخ من العهد العتيق تحريفات كثيرة بالنسبة إلى المواضع الأخر.اه كلامه!!


ثانياً: إثبات التحريف اللفظي بالزيادة

تقدم في أول الكتاب في الفصل الأول من الباب الأول بيان كتب العهد القديم والجديد، ويظهر من ذلك البيان مبلغ التحريف بالزيادة، حيث كانت عدة كتب غير مقبولة عند أهل الكتاب إلى سنة 325م، وكانت محرفة غير إلهامية، ثم جعلها أسلاف النصارى في المجالس المتعددة واجبة التسليم وأدخلوها بأهوائهم في الكتب الإلهامية، وأجمع ألوف من علمائهم على حقيتها وإلهاميتها، والكاثوليك إلى هذا الزمان يُصرِّون على كونها إلهامية!!

فظهر من هذا أنه لا اعتبار لإجماع أسلافهم، وقد كان أسلافهم مجمعين على صحة نسخة التوراة اليونانية، ويعتقدون تحريف النسخة العبرانية ثم عكس المتأخرون الأمر وقالوا في حق النسخة العبرانية ما قال أسلافهم في النسخة اليونانية!!

وأجمعت الكنيسة الكاثوليكية على صحة الترجمة اللاتينية، وعلماء البروتستانت يثبتون أنها محرفة ويقولون: لم تُحرَّف ترجمة مثلها!!

قال هورن في المجلد الرابع من تفسيره (ص463) طبعة سنة 1822م: وقعت التحريفات والإلحاقات الكثيرة في هذه الترجمة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر!!

وأكتفي بذكر شاهدين على وجود الإلحاقات في كتب العهدين:

قال المفسر هارسلي في المجلد الأول من تفسيره (ص283): إن ست آيات من الباب الأول من كتاب القضاة من الآية العاشرة إلى الخامسة عشرة إلحاقية!!

وقع في الباب الخامس من رسالة يوحنا الأولى هكذا: " (7) لأن الشهود الذين يشهدون في السماء ثلاثة وهم الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة واحد. (8) والشهود الذين يشهدون في الأرض ثلاثة وهم الروح والماء والدم، وهؤلاء الثلاثة تتحد في واحد".

والآية السابعة ملحقة يقيناً، وكريسباخ وشولرز متفقان على إلحاقيتها، وهورن مع تعصبه قال: إنها إلحاقية واجبة الترك!!

وقد وردت هذه العبارة في طبعتي سنة 1865م وسنة 1983م بين قوسين هلاليين للدلالة على أن هذه العبارة ليست موجودة في أقدم النسخ وأصحها، حسبما هو اصطلاح هاتين الطبعتين المذكور في التنبيه في أول صفحة فيهما، فاعتبروا يا أولي الأبصار!!


ثالثاً: إثبات التحريف اللفظي بالنقصان

الشواهد على وجود النقص في كتب العهدين كثيرة منها:

في الآية الثانية والعشرين من الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين في النسخة العبرانية هكذا: " ولما أن سكن إسرائيل تلك الأرض مضى روبيل وضاجع بلها سريّة أبيه فسمع إسرائيل ".

قال جامعو تفسير هنري واسكات: اليهود يُسَلِّمون أن شيئاً سقط من هذه الآية، والترجمة اليونانية تتمها هكذا: " وكان قبيحاً في نظره ".

الآية الخامسة من الباب الأربعين من كتاب إشعياء في العبرانية هكذا: " ويظهر جلال الرب ويرى كل بشر معاً قاله فم الرب "، وفي الترجمة اليونانية هكذا: " ويظهر جلال الرب ويرى كل بشر معاً نجاة إلهنا لأن فم الرب قاله ".

قال آدم كلارك في الصفحة (2785) من المجلد الرابع من تفسيره بعدما نقل عبارة الترجمة اليونانية: ظني بأن هذه العبارة هي الأصل، ثم قال: وهذا السقوط في المتن العبراني قديم جداً متقدم على الترجمة الجالدية واللاتينية والسريانية، وتوجد هذه العبارة في كل نسخة من الترجمة اليونانية، وسلمها لوقا في الآية السادسة من الباب الثالث، وعندي نسخة واحدة قديمة جداً سقطت منها هذه الآية كلها!!

وقال جامعو تفسير هنري واسكات: فلتُزد هذه الألفاظ: (نجاة إلهنا) بعد لفظ (يرى)، انظروا الآية العاشرة من الباب الثاني والخمسين والترجمة اليونانية.

قال آدم كلارك في ذيل شرح الآية الخامسة من الباب الرابع والستين من كتاب إشعياء: اعتقادي أنه وقع النقصان من غلط الكاتب، وهذا التحريف قديم جداً؛ لأن المترجمين المتقدمين لم يقدروا على بيان معنى الآية بياناً حسناً كما لم يقدر عليه المتأخرون منهم. ا ه.

والآية هي: " تلاقي الفرح الصانع البر الذين يذكرونك في طرقك ها أنت سخطت إذ أخطأنا هي إلى الأبد فنخلص ".

وهي عبارة ركيكة لا معنى لها!! وننزه الله عن قول مثل هذا الكلام الذي لا يصدر مثله إلا من سكران أو مجنون.

وبعد هذه الشواهد الواضحة الفاضحة يتبين لكل قارئ تحريف كتب أهل الكتاب، وهذا التحريف الواقع في كتب العهدين لا يثبته المسلمون وحدهم، بل اعترف به كثير من علماء اليهود والنصارى من المفسرين والمحققين المشهورين عندهم، وقد تقدم ذكر بعض أقوالهم، وقد شهد المؤرخ موشيم بانتشار التحريف عند اليهود قبل المسيح عليه السلام وعند النصارى في القرن الثاني، قال موشيم في بيان علماء القرن الثاني (ج1/65) من تاريخه المطبوع سنة 1832م: كان بين متبعي رأي أفلاطون وفيساغورس مقولة مشهورة أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق وعبادة الله ليسا بجائزين فقط، بل قابلان للتحسين، وتعلّم أولاً منهم يهود مصر هذه المقولة قبل المسيح، كما يظهر هذا جزماً من كثير من الكتب القديمة، ثم أثّر وباء هذا الغلط السوء في المسيحيين كما يظهر هذا الأمر من الكتب الكثيرة التي نُسبت إلى الكبار كذباً. ا ه كلامه، وهو مؤرخ قديم وشهادته معتبرة.

وقال آدم كلارك: كان اليهود في عهد يوسيفس يريدون أن يزينوا الكتب المقدسة باختراع الصلوات والغناء واخترع الأقوال الجديدة، انظروا إلى الإلحاقات الكثيرة في كتاب استير، وإلى حكاية الخمر والنساء والصدق التي زيدت في كتاب عزرا ونحميا، وإلى غناء الأطفال الثلاثة الذي زيد في كتاب دانيال، وإلى الإلحاقات الكثيرة في كتاب يوسيفس!!

وفي دائرة معارف ريس في المجلد الرابع في بيان بيبل: قال الدكتور كني كات: إن نسخ العهد العتيق الموجودة كُتبت ما بين عامي (1000-1400م)، وقال: إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة أو الثامنة أُعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم.

وكان إعدامهم لتلك النسخ بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي وُلد سنة 570م، وبُعث عام 610م، وتوفي سنة 633م في بداية القرن السابع الميلادي.

ونقل واتسن في كتابه (ج3/283) عن جيروم أنه قال: لما أردت ترجمة العهد الجديد قابلت النسخة التي كانت عندي فوجدت اختلافاً عظيماً!!

وقال آدم كلارك في المقدمة من المجلد الأول من تفسيره: كانت الترجمات الكثيرة باللسان اللاتيني من المترجمين المختلفين موجودة قبل جيروم، وكان بعضها محرفة في غاية درجة التحريف، وبعض مواضعها مناقِضة للمواضع الأخر كما يستغيث جيروم!!

ونقل وارد الكاثوليكي عن المؤرخ الإنجليزي كارلائل أنه قال: المترجمون الإنكليزيون أفسدوا المطلب، وأخفوا الحق، وخدعوا الجهال، وجعلوا مطلب الإنجيل الذي كان مستقيماً معوجاً، وعندهم الظلمة أحب من النور، والكذب أحق من الصدق!!

هذه حقيقة الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، فما بال أقوام يُصرِّون على تغميض أعينهم عن رؤية الحق؟!

وأختم هذا الفصل بذكر أمور يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتب اليهود والنصارى:

الأمر الأول: يذكر اليهود أن موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار، ووصاهم بمحافظتها ووضعها في صندوق، وإخراجها كل سبع سنين في يوم العيد لإسماع بني إسرائيل، فكانت هذه النسخة موضوعة في الصندوق، وكانت الطبقة الأولى على وصية موسى عليه السلام، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل وكثر المرتدون منهم وضاعت تلك النسخة الموضوعة في الصندوق قبل عهد سليمان بن داود عليهما السلام، ففي الآية التاسعة من الباب الثامن من سفر الملوك الأول أن سليمان لما فتح الصندوق لم يكن فيه إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى وكانت الأحكام العشرة مكتوبة فيهما.

وبعد موت سليمان تفرق أسباط بني إسرائيل وصارت السلطنة الواحدة سلطنتين، وشاع الكفر والارتداد في السلطنتين، وعبدوا الأصنام جيلاً بعد جيل، حتى سلط الله عليهم الآشوريين والمصريين، ونهب بيت المقدس أكثر من مرة، وانعدمت نُسخ التوراة، ثم في عهد الملك يوشيا (638-608ق.م) ادّعى الكاهن حلقيا أنه وجد نسخة التوراة (سفر التثنية فقط) كما في القصة المذكورة في سفر الملوك الثاني (22/3-11).

لكن لا يعتمد على هذه النسخة ولا على قول الكاهن حلقيا؛ لأن بيت المقدس نهب مرتين، وما كانت تلك النسخة إلا من مخترعات حلقيا الكاهن جمعها من الروايات اللسانية التي وصلت إليه من أفواه الناس جيلاً بعد جيل سواء كانت صادقة أو كاذبة، وبعدما جمعها نسبها إلى موسى عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لم يُعمل بهذه النسخة إلا ثلاثة عشر عاماً إلى موت يوشيا سنة (608 ق.م) ثم لم يُعلم حالها، والمظنون زوالها في حادثة بختنصر عندما أسر بني إسرائيل وسباهم إلى بابل وهدم سور أورشليم، وأحرق بيت المقدس، وانعدمت جميع كتب العهد القديم التي كانت مصنفة قبل هذه الحادثة سنة (587ق.م).

الأمر الثاني: زعم أهل الكتاب أن عزرا عليه السلام كتب العهد العتيق مرة أخرى، ولكن بعد كتابته وقعت حادثة أخرى انعدمت معها جميع نسخ كتب العهد القديم، ففي الباب الأول من الكتاب الأول للمكابيين أنه لما فتح أنتيوكس ملك ملوك الفرنج أورشليم أحرق جميع نسخ كتب العهد العتيق التي حصلت له من أي مكان بعدما قطعها، وكان يقتل من وجد عنده نسخة من كتب العهد العتيق ويعدم تلك النسخة، وكانت هذه الحادثة سنة (161ق.م) وامتدت ثلاث سنوات ونصف كما هو مذكور في تواريخهم، وانعدمت جميع النسخ التي كتبها عزرا.

قال جان ملنر الكاثوليكي: لما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضاً في حادثة أنتيوكس. ا ه.

الأمر الثالث: وقعت على اليهود حوادث أخرى على أيدي ملوك الفرنج منها حادثة تيطس الرومي سنة (70م) هلك فيها من اليهود في أورشليم ونواحيها ألف ألف ومائة ألف بالجوع والنار والسيف والصلب، وأُسِر سبعة وتسعون ألفاً وبيعوا في الأقاليم المختلفة. [انظر تاريخ كنيسة المسيح ص26].

الأمر الرابع: أن قدماء النصارى ما كانوا ملتفتين إلى نسخة التوراة العبرانية بل جمهورهم كانوا يعتقدون تحريفها، وكانت الترجمة اليونانية معتبرة عندهم، فكانت نُسخ التوراة العبرانية قليلة.

الأمر الخامس: أن اليهود أعدموا نسخاً كثيرة في القرن السابع والثامن الميلادي لكونها تخالف مخالفة كثيرة للنسخ المعتمدة عندهم، فكان لهم مجال واسع للتحريف كما هو واضح من الشواهد التي ذكرنا بعضها في هذا الفصل.

الأمر السادس: تعرض النصارى في القرن الأول والثاني والثالث الميلادي لأنواع من المحن والبلايا مما يوجب قلة نُسخ الأناجيل وإمكان التحريف، فقد وقعت عليهم عشر قتلات عظيمة:

الأولى: في عهد السلطان نيرو سنة (64م) حيث اضطهد النصارى بعنف، وقُتل بطرس وبولس.

الثانية: في عهد السلطان دومشيان (دوميتيان) (81-96م) الذي نكَّل بالنصارى تنكيلاً عظيماً، فظهر القتل العام حتى كاد يستأصل النصارى وأجلى يوحنا الحواري.

الثالثة: في عهد السلطان تراجان (ترايانوس) من سنة 101م إلى سنة 117م وقَتل كثيراً من الأساقفة.

الرابعة: في عهد السلطان مرقس أنتيونينس من سنة 161م إلى أزيد من عشر سنين، وكان فيلسوفاً ووثنياً متعصباً، اضطهد النصارى بعنف فترة طويلة.

الخامسة: في عهد السلطان سويرس (سيفيروس) من سنة (202م) حيث اضطهد النصارى بقسوة وعذبهم وشردهم، وكان القتل في غاية الشدة حتى ظن النصارى أن ذلك الزمان زمان الدجال.

السادسة: في عهد السلطان مكسيمن من سنة (237م) حيث قُتل أكثر علماء النصارى، وقُتل البابا بونتيانوس والبابا أنتيروس.

السابعة: في عهد السلطان دي شس (دنيس) سنة (253م) حيث أراد استئصال الملة النصرانية، وأصدر أوامره إلى حكام الولايات فنفذوا أوامره بقسوة وبحثوا عن النصارى وقتلوهم بعد التعذيب الشديد.

الثامنة: في عهد السلطان ولريان سنة (257م) حيث قتل الألوف من النصارى، وأمر بقتل الأساقفة وخدام الدين، ودام اضطهاده ثلاث سنوات ونصف.

التاسعة: في عهد السلطان أريلين سنة (274م)، صدر أمره باضطهاد النصارى لكنه قُتل بعد أربعة أشهر.

العاشرة: في عهد الإمبراطور ديو كليشين في سنة (302م) حيث امتلأت الأرض شرقاً وغرباً بالقتلى من النصارى، وأراد أن يمحو وجود الكتب المقدسة من العالم واجتهد في هذا الباب، وأمر سنة (303م) بهدم الكنائس وأحرق الكتب.

فهذه الوقائع لا يتصور معها كثرة النسخ، ولا محافظة الكتب كما ينبغي، ولا تصحيحها وتحقيقها، ويكون للمحرفين في أمثال هذه الأوقات مجال كبير للتحريف بسهولة.

ولذلك لما أراد الإمبراطور قسطنطين جمْع النصارى على ملة واحدة جمعها بهواه من ملل شتى، واجتمع بأحبارهم في مَجمَع نيقية سنة (325م)؛ كان معهم حينها من الأناجيل سبعون إنجيلا كلٌ يدَّعي أن إنجيله هو الصحيح، فأمر الإمبراطور بإحراقها كلها إلا أربعة أناجيل وهي التي بأيدي النصارى اليوم، وهي كغيرها لم تَسْلم من التحريف والزيادة والنقصان كما هو واضح من الشواهد التي ذكرنا بعضها في هذا الفصل.

قال الله تعالى في كتابة القرآن المجيد المحفوظ: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ)) [العنكبوت:68].


 

 

 

 

 

 

 

الباب الثالث
إثبات نسخ شريعة موسى وعيسى عليهما السلام


النسخ هو بيان مدة انتهاء الحكم العملي، والنسخ لا يطرأ على الأخبار الصحيحة، بل يطرأ على الأحكام العملية.

وليس معنى النسخ أن الله أمر أو نهى أولاً وما كان يعلم عاقبته ثم بدا له رأي فنسخ الحكم الأول، فإن هذا يلزم منه الجهل والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى، بل المراد بالنسخ أن الله كان يعلم أن هذا الحكم يكون باقياً على المكلفين إلى وقتٍ ما ثم يُنسخ، فلما جاء الوقت أنزل حكماً آخر نسخ الحكم الأول وبيّن انتهاء العمل به والعمل بالحكم الجديد.

وفي نَسْخ الأحكام حِكَمٌ ومصالح كثيرة نظراً إلى حال المكلفين والزمان والمكان، وسواء ظهرت لنا المصلحة أو لم تظهر فإن الله هو الحكيم العليم.

وليس كل حكم من أحكام التوراة والإنجيل منسوخ بالشريعة الخاتمة التي أرسل الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم، فمن أحكام التوراة التي لم تُنسَخ: حرمة القتل والزنا والسرقة وحرمة نكاح الأمهات والبنات والعمات والخالات وغير ذلك من الأحكام الكثيرة التي أقرتها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وكذا بعض أحكام الإنجيل لم تُنسَخ مثل ما وقع في الباب الثاني عشر من إنجيل مرقس هكذا: " (29) فقال له عيسى وهو يحاوره: إن أول الأحكام قوله: استمع يا إسرائيل فإن الرب إلهنا رب واحد (30) وأن تحب الرب إلهك بقلبك كله وروحك كلها وإدراكك كله وقواك كلها، هذا هو الحكم الأول (31) والثاني مثله وهو أن تحب جارك كنفسك، وليس حكم آخر أكبر من هذين ".

فهذان الحكمان باقيان في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وليسا بمنسوخين.

والنسخ ليس بمختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل وُجد في شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً منها:

كان يجوز في عهد آدم عليه السلام تزوج الأخوة بالأخوات، والنكاح بالأخت حرام في شريعة موسى، كما في الآية التاسعة من الباب الثامن عشر من سفر الأحبار، والآية السابعة عشرة من الباب العشرين من سفر الأحبار، والآية الثانية والعشرين من الباب السابع والعشرين من كتاب التثنية.

فقد كان هذا النكاح جائزاً في شريعة آدم ثم نُسخ.

في الآية الثالثة من الباب التاسع من سفر التكوين أن الله قال لنوح وأولاده: وكل ما يتحرك على الأرض وهو حي يكون لكم مأكولاً كالبقل الأخضر.

فكانت جميع الحيوانات حلالاً في شريعة نوح كالبقولات، ثم حرم الله في شريعة موسى على بني إسرائيل كثيراً من الحيوانات كالجمال والأرنب والخنزير كما في سفر التثنية (14/7-8).

تنبيه: الآية المذكورة من سفر التكوين هي بلفظ (وهو حي) كما في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1625م) وسنة (1648م)، وأما في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م) فقد تُرجمت هكذا: (كل دبيب طاهر حي يكون لكم مأكلاً كخضر العشب) فزاد المترجم من عنده لفظ (طاهر) لئلا تشتمل الحيوانات المحرمة في شريعة موسى، ولم ترد كلمة طاهر في طبعات سنة (1844م) وسنة (1865م) ولا في النسخة السامرية كذلك.

في التوراة أنه جمع يعقوب عليه السلام بين الأختين ليّا وراحيل ابنتي خاله كما في سفر التكوين (29/15-35)، وهذا الجمع حرام في شريعة موسى كما في الآية الثامنة عشرة من الباب الثامن عشر من سفر الأحبار قال: " ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها، ولا تكشف عورتهما جميعاً فتحزنهما ".

يجوز في شريعة موسى أن يطلق الرجل زوجته بكل علة، وأن يتزوج المطلقة رجل آخر كما في سفر التثنية (24/1-3)، ولا يجوز الطلاق في شريعة عيسى إلا بعلة الزنا، ولا يجوز لرجل آخر نكاح المطلقة بل هو بمنزلة الزنا، ففي الباب الخامس من إنجيل متّى: " (31) وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق (32) وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني".

جاءت شريعة موسى عليه الصلاة والسلام بتعظيم يوم السبت وحرمة العمل فيه، ففي سفر الخروج (31/14-15): " (14) فاحفظوا يومي يوم السبت فإنه طهر لكم، ومن لا يحفظه فليُقتل قتلاً، من عمل به عملاً فتُهلك تلك النفس من شعبها (15) اعملوا عملكم ستة أيام واليوم السابع هو يوم سبت راحة طهرٍ للرب، وكل من عمل عملاً في هذا اليوم فليُقتل ".

وقد نسخ الله في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام تعظيم يوم السبت، وأراد اليهود المعاصرون لعيسى قتله لعدم تعظيمه يوم السبت، ففي إنجيل يوحنا (5-61): " ومن أجل ذلك طرد اليهود عيسى وطلبوا قتله؛ لأنه كان قد فعل تلك الأشياء يوم السبت ".

حكم الختان للذكر كان في شريعة إبراهيم كما في سفر التكوين (17/9-14)، وبقي في شريعة موسى كما في سفر الأحبار (12/3)، وخُتن عيسى عليه السلام كما هو مصرح به في إنجيل لوقا (2/21)، ولم ينسخه عيسى ولكن نسخه بولس الذي يزعم النصارى أنه رسول المسيح، فقد أبطل بولس جميع الأحكام العملية للتوراة إلا أربعة: ذبيحة الصنم والدم والمخنوق والزنا، فأبقى بهواه حرمة هذه الأربعة فقط وأباح لهم ما عداها، ففي الباب الخامس عشر من أعمال الحواريين هكذا: " (24) ثم إنا قد سمعنا أن نفراً من الذين خرجوا من عندنا يضطربونكم بكلامهم ويزعجون أنفسكم ويقولون: إنه يجب عليكم أن تختنوا وتحافظوا على الناموس ونحن لم نأمرهم بذلك...(28) لأنه قد حسُن للروح القدس ولنا نحن أن لا نحملكم غير هذه الأشياء الضرورية (29) وهي أن تجتنبوا من قرابين الأوثان والدم والمخنوق والزنا التي إن تجنبتم عنها فقد أحسنتم والسلام ".

في الآية الثامنة عشرة من الباب السابع من الرسالة العبرانية: " لأن نسخ ما تقدم من الحكم قد عرض لما فيه من الضعف وعدم الفائدة ".

ففي هذه الآية تصريح واضح بأن نسخ أحكام التوراة لأجل أنها كانت ضعيفة بلا فائدة.

في الباب الثامن من الرسالة العبرانية: " (7) فلو كان العهد الأول غير معترض عليه لم يوجد للثاني موضع... (13) فبقوله عهداً جديداً صيَّر الأول عتيقاً، والشيء العتيق والبالي قريب من الفناء ".

وفي تفسير دوالي ورجردمينت في ذيل شرح الآية الثالثة عشرة قول بايل هكذا: هذا ظاهر جداً أن الله تعالى يريد أن ينسخ العتيق الأنقص بالرسالة الجديدة الحسنى، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه.

وما تقدم من الأمثلة هو نسخ يكون في شريعة نبي لحُكم كان في شريعة نبي سابق، وتوجد أمثلة أخرى للنسخ في شريعة النبي نفسه حيث يكون الناسخ والمنسوخ في الشريعة الواحدة، وهذا كثير في كتب أهل الكتاب، وأكتفي بذكر مثالين:

في سفر العدد (4/3): " من ابن ثلاثين سنة وما فوق ذلك إلى ابن خمسين سنة جميع الذين يدخلون ليقوموا ويخدموا في قبة العهد ".

وفي سفر العدد أيضاً (8/24-25): " هذه سُنّة اللاويين من ابن خمس وعشرين سنة وما فوق ذلك فليدخلوا في قبة العهد. وإذا تمت لهم سنة الخمسين من عمرهم فيبطلوا من الخدمة ".

فإن كانت الآيتان محفوظتين ولم يحصل تحريف في أحدهما فإن الثانية تكون ناسخة للأولى.

في الباب العاشر من إنجيل متّى فقرة (5و6): " هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً: إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. ولكن انطلقوا خاصة إلى الخراف التي هلكت من بيت إسرائيل ".

وفي الباب الخامس عشر من إنجيل متّى فقرة (24): " لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ".

وفي إنجيل مرقس (16/15): " اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها ".

ففي الآيات الأولى التي في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام يخصص رسالته ببني إسرائيل، وفي آية إنجيل مرقس تعميم رسالته، فإن كانت آية مرقس محفوظة فهي ناسخة لما في إنجيل متى، ولكنا نجزم بكونها غير محفوظة، فقد أخبر الله في القرآن المحفوظ أن عيسى خص برسالته بني إسرائيل فقط كما قال الله سبحانه: ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُو الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) [الصف:6-9].

وفي إنجيل يوحنا (16/12-13): " إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ".

وهذه بشارة من عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر القرآن، وتصريح من عيسى بأن النبي الآتي بعده سيأتي بشريعة جديدة لم يأت بها عيسى، وأنها حق عليهم أن يتبعوها، فهلا يتبع العقلاء من النصارى هذه الآية التي في الإنجيل!!


فضل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه

دين الأنبياء واحد وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة، فموسى عليه الصلاة والسلام بعثه الله بالعدل، وعيسى عليه الصلاة والسلام بعثه الله بتكميل شريعة موسى بالفضل، ومحمد عليه الصلاة والسلام جمع الله له في شريعته بين العدل والفضل، جاء موسى بالجلال، وعيسى بالجمال، ومحمد بالكمال الجامع بين الجلال والجمال.

وقد جعل الله أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطا عدلا خيارا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ولم يُحرِّم عليهم شيئا من الطيبات كما حرَّم على اليهود الإبل والشحوم، ولم يُحِل لهم شيئا من الخبائث كما استحلَّت النصارى الخنزير.

ولم يُضيِّق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيَّق على اليهود، وقد كان اليهود لا يرون إزالة النجاسة بالماء، بل إذا أصاب ثوب أحدهم نجاسة قرضه بالمقراض، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة، ولا يجتنبون النجاسة في الصلاة، بل ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.

واليهود يبالغون في طهارة أبدانهم مع خبث قلوبهم، والنصارى يدَّعون أنهم يُطهِّرون قلوبهم مع نجاسة أبدانهم، والمسلمون يُطهِّرون أبدانهم وقلوبهم جميعا.

واليهود إذا حاضت عندهم المرأة، لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض، والمسلمون يصنعون معها كل شيء إلا الجماع.

وكذلك المسلمون وسط في الشريعة ; فلم يجحدوا شرع الله الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعلت اليهود، حيث لم يؤمن اليهود بشرعة عيسى الذي جاء بنسخ بعض أحكام التوراة، ثم لم يؤمنوا بمحمد الذي نسخ الله بشريعته التوراة والإنجيل، ولا غيّروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، وذلك أن دين النصارى الباطل إنما هو دين مبتدع، ابتدعوه بعد المسيح عليه السلام، وغيروا به دين المسيح، ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كفروا به فصار كفرهم وضلالهم من هذين الوجهين: تبديل دين عيسى، وتكذيب الرسول محمد، كما كان كفر اليهود بتبديلهم أحكام التوراة قبل مبعث المسيح، ثم تكذيبهم المسيح عليه السلام.

والمسلمون لم يجعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائصه، ومعايبه من الفقر، والبخل، والعجز، كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى.

والمسلمون لم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى.

وكذلك هم وسط في المسيح، فاليهود يقولون: هو ساحر وكذاب وابن زنا ونحن قتلناه، والنصارى يقولون: هو إله وثالث ثلاثة وابن الله وقد قُتِل وصُلِب ثم ارتفع إلى السماء ونحن نعبده، والمسلمون يقولون: هو عبد الله ورسوله، وهو عيسى ابن مريم خلقه الله بلا أب ليجعله للناس آية، وأيده بالمعجزات العظيمة، فلما كذَّبه اليهود وأرادوا قتله نجاه الله منهم ورفعه إلى السماء، قال الله تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)) [النساء:157-158].

واليهود قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس وبخسوهم حقوقهم، والنصارى غلوا في الأنبياء والصالحين واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولم يُفرِّقوا بين أحد من رسله، وآمنوا بجميع النبيين، وبكل كتاب أنزله الله، فلم يُكذِّبوا الأنبياء ولا سبوهم ولا غلوا فيهم ولا عبدوهم، وكذلك أهل العلم والدين لا يبخسونهم حقهم ولا غلوا فيهم.

والنصارى لهم عبادات وأخلاق بلا علم ومعرفة ولا ذكاء، واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة، والمسلمون جمعوا بين العلم النافع، والعمل الصالح، بين الزكا والذكاء.

والمسلمون لا يُجوِّزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم كائنا من كان أن يُغيِّر شيئا من شريعته، فلا يُحلِّل ما حرَّم ولا يُحرِّم ما حلَّل، ولا يُوجب ما أسقط ولا يُسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرم الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليست عقيدة المسلمين آراء مجامع ولا قرارات كنائس، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعاً لم يشرعها المسيح عليه السلام، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة، مثل تعظيم الصليب واستحلال لحم الخنزير وترك الختان وترك الطهارة من الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا، فدين النصارى ليس هو دين عيسى، وهم يزعمون أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، ويصف لهم أكابرهم عقائد وشرائع ما أنزل الله بها من سلطان، كما وضع لهم الثلاثمائة وثمانية عشر من أحبارهم الذين كانوا في زمن الملك قسطنطين الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم، وفيها أمور لم ينزل الله بها كتابا، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح.

واليهود لا يجوِّزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئا من شرعه، والنصارى يجوِّزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله بآرائهم، وأما المسلمون: فعندهم أن الله له الخلق والأمر، لا شرع إلا ما شرع الله على ألسنة رسله، وله أن ينسخ ما شاء كما نسخ المسيح ما كان شرعه للأنبياء قبله.


شبهة أن القرآن عظّم المسيح وذكر معجزاته ومدح أتباعه

يذكر بعض النصارى شبهة ليُثبتوا أن دين النصارى غير منسوخ فيقولون: القرآن عظّم المسيح ومريم عليهما السلام، وذكر معجزاته، وعظّم الإنجيل، ومدح أتباع عيسى.

والجواب عن هذه الشبهة من عدة وجوه:

أن تعظيم المسيح وأمه حق لا نزاع فيه، ولم تكفر النصارى بالتعظيم، وإنما كفرت بالغلو فيهما، وعبادتهما، وادعاء الولد لله والصاحبة، والقول بالحلول والاتحاد، تعالى الله عما يفترون.

إذا اعترف العاقل بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق فهذا دليل على أن القرآن حق، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى.

أن هذا برهان ناطق على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان، فإنه مشتمل على تعظيم جميع الرسل وجميع الكتب المنزلة.

أن مدح القرآن الكريم لمن كان على دين عيسى عليه الصلاة والسلام الذي لم يُبدَّل حق، فالذين مدحهم القرآن كانوا مؤمنين مسلمين مهتدين يعبدون الله وحده، ويعتقدون أن عيسى عبد الله ورسوله، ومن أدرك منهم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم آمن به ولم يستكبر عن اتَّباعه، وكذلك الذين كانوا على دين موسى الذي لم يُبدَّل إلى أن بُعِث المسيح فآمن به من أدركه هم مؤمنون مسلمون مهتدون، قال الله في هؤلاء: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)) [القصص:52-53]، وقال الله عنهم: ((ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) [المائدة:82-86]، وقال الله سبحانه: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة: 62]، ومعنى الآية: أن المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والذين هادوا الذين اتبعوا موسى عليه السلام، وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل، والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام، وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل، والصابئين وهم الصابئون الحنفاء، كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ، فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم هم الذين مدحهم الله تعالى، وأما بعد النسخ والتبديل فليس أهل الكتاب ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا، كما قال الله تعالى: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة:29]، وقال الله سبحانه: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:72-74].

ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل، يتركون النصوص المحكمة الصريحة البيِّنة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا، ويتمسكون بالمتشابه المحتمل، وإن كان فيه ما يدل على خلاف مرادهم، كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)) [آل عمران:7].


 

 

 

الباب الرابع
إبطال عقيدة التثليث


مقدمات مهمة تفيد الباحث عن الحق

كتب العهد القديم ناطقة بأن الله واحد أزلي أبدي لا يموت، قادر يفعل ما يشاء ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وهذا الأمر لكثرته وشهرته غير محتاج إلى الشواهد وانظر مثلاً سفر التثنية (4/35) و (6/4) وكتاب إشعياء (46/9).

عبادة غير الله حرام، وحرمتها مصرحة في مواضع كثيرة من التوراة كما في سفر الخروج (20/3-5)، وفي سفر التثنية (13/1-5) أنه لو دعا نبي إلى عبادة غير الله يُقتل هذا الداعي وإن كان ذا معجزات عظيمة.

لو كان التثليث حقاً لكان الواجب على موسى عليه السلام وأنبياء بني إسرائيل أن يبينوه حق التبيين، فالعجب كل العجب أن تكون شريعة موسى خالية عن بيان هذه العقيدة التي هي مدار النجاة على زعم أهل التثليث، ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبياً كان أو غير نبي!!

وأعجب منه أن عيسى عليه السلام أيضاً لم يبين هذه العقيدة إلى عروجه ببيان واضح!!!

وليس في أيدي أهل التثليث من أقواله إلا بعض الأقوال المتشابهة، ومعلوم للناظر في كتب العهدين وقوع المجاز بكثرة، ففي الآية الأولى من الباب السابع من سفر الخروج: " فقال الرب لموسى: انظر فإني قد جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون لك نبياً ".

وكان الإجمال يوجد كثيراً في أقوال المسيح عليه السلام بحيث لا يفهمها معاصروه وتلاميذه، كما في إنجيل يوحنا (6/32-65) و(3/1-13) و(8/21-22) و (8/51-52) و (11/11-14) وإنجيل متّى (16/6-12)، وإنجيل لوقا (8/52-53) و(9/44-45) و(18/31-34).

وأيضاً شُبِّه على تلاميذ عيسى عليه السلام أمران ولم يزل هذا الاشتباه من أكثرهم أو كلهم إلى موتهم:

الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن القيامة تقوم في عهدهم.

الثاني: أنهم كانوا يعتقدون أن يوحنا لا يموت إلى القيامة.

فألفاظ المسيح عليه السلام بعينها ليست محفوظة في أي إنجيل من الأناجيل، بل في كلٍ توجد ترجمتها على ما فهم الرواة والمترجمون، وقد ثبت أن التحريف وقع في هذه الكتب يقيناً كما تقدم في هذا الكتاب بأدلته الصريحة الواضحة، وقد ثبت أن أهل الكتاب كانوا يحرفون كتبهم قصداً لتأييد مسألة مقبولة أو لدفع اعتراض، فلو وُجِدت بعض الأقوال المنسوبة إلى عيسى تدل على التثليث فإنه لا يمكن للمنصف أن يعتمد عليها لعدم صحة نسبتها إلى عيسى عليه السلام ولكونها متشابهة غير صريحة.


الفصل الأول
إبطال التثليث بالبراهين العقلية

البراهين العقلية على إبطال التثليث كثيرة، وأكتفي ببرهانين فيهما كفاية لكل عاقل منصف:

البرهان الأول: التثليث والتوحيد حقيقيان عند النصارى، فإذا وُجِد التثليث الحقيقي فلابد من أن تُوجد الكثرة الحقيقية بداهة، ولا يمكن بعد ثبوتهما ثبوت التوحيد الحقيقي، فمعلوم أن: 1+1+1=3، ولا يمكن أن يكون 1+1+1=1 كما يدعي النصارى أن الآب والابن وروح القدس إله واحد!!!

البرهان الثاني: فرقة البروتستانت ترد على فرقة الكاثوليك في استحالة الخبز إلى المسيح في العَشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فلو قالوا: إن المسيح يصير خبزاً لكان ذلك أقل بعداً، أما أن الخبز يصير المسيح فهذا أشد فساداً وأظهر بطلاناً وأكثر بعداً عن العقل!!

وهذا الرد والسخرية يرجعان أيضاً لفرقة البروتستانت، فالذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنسانياً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات فيكون القول به باطلاً كالقول باستحالة الخبز إلى المسيح، مع كون الخبز على حاله، ولو ترك مدة طويلة لتعفّن كغيره، فكيف يصدق العاقل أن ذلك الخبز هو عيسى؟! وكيف يصدق العاقل أن عيسى الذي كان يراه الناس إنساناً يأكل ويشرب هو الإله؟!

وقول النصارى: إن عيسى إله بلاهوته ورسول بناسوته كلام باطل من وجوه كثيرة منها:

أن الذي كان يكلم الناس إما أن يكون هو الله أو هو رسول الله، فإن كان هو الله بطل كونه رسول الله، وإن كان رسول الله بطل كونه هو الله.

أن خطابه خطاب رسول ونبي كما لا يخفى على الناظر في الأناجيل، بل وفيها أنه كان يعبد الله ويدعوه.

أن مصير الشيئين شيئا واحدا مع بقائهما على حالهما بدون الاستحالة والاختلاط ممتنع في صريح العقل، وإنما المعقول مع الاتحاد أن يستحيلا ويختلطا كالماء مع اللبن، فإنهما إذا صارا شيئا واحدا استحالا واختلطا.

أنه مع الاتحاد يصير الشيئان شيئا واحدا فيكون الإله هو الرسول، والرسول هو الإله!! فيلزم أن يكون رب العالمين قد أصابه ألم الجوع والعطش وكذلك الضرب والصلب على قولهم!! وهذا شر من قول اليهود: إنه فقير وإنه بخيل وإنه مسه اللغوب، سبحان الله وتعالى عما يصفه الجاهلون الظالمون.


الفصل الثاني
إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام

أقوال المسيح عليه السلام المذكورة في الأناجيل التي يؤمن بها النصارى وتدل على التوحيد كثيرة أكتفي بنقل خمسة أقوال منها:

القول الأول: في إنجيل يوحنا (17/3): " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ".

القول الثاني: في إنجيل مرقس (12/29): " الرب إلهنا رب واحد ".

القول الثالث: في إنجيل مرقس (13/32): " وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب ".

القول الرابع: أقوال عيسى الكثيرة التي يعبر فيها عن نفسه بأنه ابن الإنسان، وهذا كثير جداً في الأناجيل انظر مثلاً: إنجيل متى (8/20)، (9/6)، (16/13)، (17/9)، (18/11)، (19/28)، (20 /18)، (24/27)، (26/24)، وظاهر أن ابن الإنسان لا يكون إلا إنساناً.

القول الخامس: في إنجيل يوحنا (20-17): " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".

وهذا القول يقلع جذور التثليث من قلوب عُبَّاد الصليب لو أنصفوا وعقلوا، فكما أن تلاميذ المسيح عباد الله وليسوا بأبناء الله حقيقية بل بالمعنى المجازي، فكذلك المسيح هو عبد الله وليس هو ابن الله إلا بالمعنى المجازي.

وهذا القول الخامس يطابق ما حكى الله عنه في القرآن المجيد: ((مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)) [المائدة:117].

يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم لجميع النصارى: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)) [المائدة:74-77].

 

الفصل الثالث
إبطال استدلال النصارى على ألوهية المسيح

الأقوال المنسوبة إلى عيسى عليه السلام ويستدل بها النصارى على ألوهيته هي غالباً مجملة منقولة من إنجيل يوحنا، وهذا الإنجيل مملوء من المجاز كما هو واضح للناظر فيه، والإجمال يوجد كثيراً في أقوال المسيح عليه السلام بحيث لم يفهمها معاصروه ولا تلاميذه في كثير من الأحيان ما لم يفسرها بنفسه، وعيسى لم يبين ألوهيته بياناً صريحاً واضحاً كما يظهر من الأقوال التي يستدل بها النصارى على ألوهيته وهي:

إطلاق لفظ ابن الله على المسيح عليه السلام، وهذا الإطلاق معارض بإطلاق ابن الإنسان عليه في كثير من المواضع كما تقدم في الفصل السابق، وبإطلاق ابن داود عليه كما في إنجيل متّى (9/27)، (15/22)، وإنجيل مرقس (10/47)، وإنجيل لوقا (18/38).

وفي إنجيل متّى (22/42): " قائلا: ما تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود".

ثم إن إطلاق لفظ ابن الله على عيسى هو بالمعنى المجازي كما أطلق على غير عيسى في مواضع كثيرة منها:

في سفر التثنية (14/1): " أنتم أولاد للرب إلهكم ".

وفي إنجيل متّى (5/9): " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون".

وفي إنجيل متّى أيضاً (5/44-45): " وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات ".

وفي إنجيل يوحنا (8/41-42): " أنتم تعملون أعمال أبيكم فقالوا له: إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله، فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني ".

وفي الرسالة الأولى ليوحنا (3/9): " كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية؛ لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله ".

وفي الرسالة الأولى ليوحنا أيضاً (5/1-2): " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله، وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً. بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه ".

وفي الرسالة الرومية (8/14): " لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله".

وفي رسالة بولس لأهل فيلبس (2/14-15): " افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة. لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً لله بلا عيب ".

وفي إنجيل لوقا (20/34،36): " وقال لهم يسوع: أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوَّجون. وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ".

فأطلق لفظ أبناء الله وأبناء القيامة على أهل الجنة، ولم يفهم أحد من النصارى أن الله ولِد أهل الجنة، أو أن القيامة ولِدت أهل الجنة، فلماذا فهموا من إطلاق لفظ عيسى بن الله أنه ابنه حقيقة؟! أفلا يعقلون؟!

فتبين من هذه النقول لكل ناظر أن إطلاق أن عيسى ابن الله مجاز كما أُطلق على غيره على جهة العموم أنهم أبناء الله، بل وأُطلق لفظ ابن الله على غير عيسى على جهة الخصوص، وهذا كثير في كتب العهدين، ومن ذلك ما يلي:

في إنجيل لوقا (3/38): " آدم ابن الله ".

وفي سفر الخروج (4/22): " يقول الرب: ابني بكري إسرائيل ".

وفي الزبور (38/19،26): " حينئذ كلمت بنيك بالوحي.... هو يدعوني أنت هو أبي وإلهي وناصر خلاصي ".

وفي كتاب إرميا (31/9): " إني صرت أباً لإسرائيل وأفرام هو بكري ".

وفي سفر صموئيل الثاني (7/14) قول الله في سليمان: " وأنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً ".

فهذه النصوص تنسف عقيدة التثليث نسفا، فلماذا لا يعبد النصارى آدم وإسرائيل وداود وسليمان وهذه النصوص في كتبهم تثبت أنهم أبناء الله؟! ولماذا لا يقولون: إنهم كلهم أبناء الله حقيقة وهم جميعا شركاء لله من قبل عيسى؟! ولماذا يجعلون عيسى فقط هو ابن الله؟!

يقول الله سبحانه وتعالى: ((لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)) [الأنبياء:17-24].

يستدل النصارى على ألوهية عيسى بما في إنجيل يوحنا (8/23): " فقال لهم: أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم. يعني أني إله نزلت من السماء وتجسمت ".

ولما كان هذا القول مخالفاً للظاهر؛ لأن عيسى من هذا العالم أولوه بقولهم: (يعني أني إله نزلت من السماء وتجسمت)، وهذا باطل لمخالفته البراهين العقلية وأقوال عيسى المصرحة بأن الله واحد وأنه إلهه كما تقدم في الفصل الأول والثاني من هذا الباب الرابع.

ثم إن عيسى عليه السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً كما في إنجيل يوحنا أيضا (15/19): " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم ".

وفي إنجيل يوحنا أيضاً: (17/14): " لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم ".

فسوى بينه وبين تلامذته في عدم كونهم من هذا العالم، فلو كان هذا اللفظ مستلزماً للألوهية كما زعموا للزم أن يكونوا كلهم آلهه والعياذ بالله، بل التأويل الصحيح لهذه العبارة: أنتم طالبوا الدنيا وأنا لست كذلك بل طالب الآخرة، وهذا من المجاز الشائع كما يقال للزهاد: ليسوا من الدنيا، مع كونهم من الدنيا بلا شك.

يستدل النصارى على اتحاد المسيح بالله - تعالى الله عما يقولون - بما في إنجيل يوحنا (10/30): " أنا والآب واحد ".

وهذا الاستدلال باطل؛ لأن المسيح عندهم أيضاً إنسان ذو نفس ناطقة وليس بمتحد فاحتاجوا إلى التأويل فقالوا: كما أنه إنسان كامل فكذلك إله كامل، فبالاعتبار الأول مغاير، وبالاعتبار الثاني متحد، وهذا تأويل باطل ليس عليه دليل: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:111].

وقد وقع في الإنجيل مثل هذا القول في حق الحواريين فلماذا لم يجعلوهم متحدين بالله؟!

ففي إنجيل يوحنا (17/21-23): " ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا واحد. أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد ".

ولا شك أن اتحادهم فيما بينهم ليس حقيقياً، فكذا اتحاده بالله ليس حقيقياً.

يستدل النصارى على اتحاد المسيح بالله - سبحانه عما يصفون - بما يُنسب إلى عيسى في إنجيل يوحنا (14/9-10) أنه قال: " الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت: أرِنا الآب؟ ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيّ؟ الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال ".

وهذا الاستدلال ضعيف لوجهين:

الوجه الأول: لأن رؤية الله في الدنيا ممتنعة عند النصارى، وقد صرحت كتبهم في مواضع عديدة بأن رؤية الله في الدنيا غير واقعة.

ففي إنجيل يوحنا (1/18): " الله لم يره أحد قط "، وفي رسالة يوحنا الأولى (4/12): " الله لم ينظره أحد قط ".

الوجه الثاني: الآية العشرون من الباب المذكور هكذا:

" في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم " انظر إنجيل يوحنا (14/20)، فيلزم من قولهم أن يكون الحواريون آلهة؛ لأنه إذا حل الإله في عيسى فيجب أن يكون حالاًّ في المحل الذي حل فيه عيسى أي: في الحواريين، وقد تقدم أن في إنجيل يوحنا (17/23) قول عيسى: " أنا فيهم وأنت فيّ ".

يستدل النصارى على ألوهية المسيح بأنه ولد بلا أب.

وهذا الاستدلال ضعيف جداً؛ لأن العالم كله حادث، وآدم عليه السلام وأصل جميع الحيوانات خُلقوا من غير أب ولا أم، ويشاركون عيسى في كونه مخلوقا بلا أب، ويفوقون عليه في كونهم بلا أم، فكيف يكون هذا الأمر سبباً للألوهية؟!

قال الله في القرآن الكريم: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) [آل عمران:59-60].

يستدل النصارى على ألوهية المسيح بمعجزاته، وهذا الاستدلال ضعيف جداً، فمن أعظم معجزاته إحياء الموتى، ففي الأناجيل أنه أحيا ثلاثة أشخاص فقط كما في إنجيل متّى (9/25)، وإنجيل لوقا (7/11-17)، وإنجيل يوحنا (11/1-14).

وقد وقع من غيره إحياء الموتى ففي سفر حزقيال (37/1-14) أن حزقيال أحيا ألوفاً.

وأحيا إيليا عليه السلام ميتاً كما في سفر الملوك الأول (17/17-24).

وأحيا اليسع عليه السلام ميتاً كما في سفر الملوك الثاني (4/8-37).

وأبرأ اليسع الأبرص من برصه كما في سفر الملوك الثاني (5/1-14).

وقلب موسى عليه السلام العصا حية تسعى بإذن الله.

فلو كانت معجزات عيسى تدل على أنه إله لكان هؤلاء الأنبياء آلهة أيضاً: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الطور:43].

وبعد؛ فهذه استدلالات النصارى على ألوهية المسيح، وقد نقلنا أقواله من الأناجيل المحرفة وأجبنا عنها من كتبهم لإتمام الإلزام، وعلى تقدير صحتها إن لم يُصبها التحريف، وإلا فقد أثبتنا في أول هذا الكتاب أنها كتب محرفة، ولا يثبت عندنا أن كل ما فيها أقوال عيسى عليه السلام.

والمسيح عليه الصلاة والسلام هو عبد الله ورسوله وهو بريء من هذه العقيدة الكفرية عقيدة التثليث، ولم يعبد قط أحد الأنبياء عيسى ولا عبدوا الصليب، بل كلهم كان يعبد الله وحده لا شريك له.

قال الله في كتابه القرآن المجيد: ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [آل عمران:67].

وقال الله سبحانه: ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة:130-141].


 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الخامس
إثبات كون القرآن كلام الله والمعجزة الخالدة لمحمد رسول الله


الفصل الأول
الأدلة على أن القرآن الكريم كلام الله

الدليل الأول: كون القرآن في أعلى درجات البلاغة التي لم يَعهد مثلها العرب في تراكيبهم، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم وهم أهل البلاغة والفصاحة، وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله أو بسورة مثله فعجزوا قال الله: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) [الإسراء:88].

وقال الله: ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [يونس:38].

الدليل الثاني: تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة ولطف الإشارة، وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن الكريم.

الدليل الثالث: إخبار القرآن عن حوادث آتية فوُجِدت في الأيام اللاحقة كما أخبر، ومن ذلك:

قوله تعالى: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)) [الروم:1-4]، فأخبر القرآن عن انتصار فارس على الروم وأن الروم سيهزمونهم بعد ذلك في بضع سنين، أي: من ثلاث إلى تسع سنين ووقع ذلك كما أخبر القرآن العظيم!

قوله تعالى: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)) [الفتح:27]، فوعد الله المسلمين أن يدخلوا المسجد الحرام آمنين، وكان ذلك الوعد في السنة السادسة من الهجرة وكفار قريش في مكة يمنعون المسلمين أن يدخلوها، فوقع بينهم الصلح تلك السنة ثم دخل المسلمون مكة بعد ذلك بسنة آمنين معتمرين، وقبل دخولهم مكة يسر الله لهم فتح خيبر في أول السنة السابعة من الهجرة كما قال الله: ((فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)) [الفتح:27]، فتحقق لهم الوعدان بعد نزول الآية بوقت يسير!!

قال الله: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، فأخبرنا الله أنه سيحفظ القرآن من التحريف والزيادة والنقصان فوقع كما أخبر، فما قدر أحد من الكفار أن يحرف شيئاً من القرآن الكريم إلى هذا الزمان، لا آية من آياته، ولا كلمة من كلماته، ولا حتى حركة من حركات إعرابه، فقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يأتيه جبريل عليه السلام بالقرآن الكريم شيئاً بعد شيء لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحفظ ما يسمعه من الملَك جبريل ولا ينساه، ثم يقرؤه على أصحابه ويأمرهم بكتابته، ويحفظه غيبا كثير منهم، ويسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤه في صلواته الجهرية يومياً، ويُعلِّم أصحابه آياته، ويُعلِّم من حفظ منهم غيرهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وفَّق الله الصحابة فكتبوا القرآن الكريم في مصحف واحد، وكان حفاظه حينئذ كثيرين ويحفظونه بإتقان، ويستطيع كثير منهم أن يمليه من أوله إلى آخره غيباً، ولكنهم لشدة تحريهم اجتهدوا أن لا يكتبوا شيئاً من القرآن إلا من تلك المكتوبات التي كُتبت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فجمعوه كاملاً كما أنزله الله، واجتهدوا في تعليمه للتابعين كما كان يقرؤه رسول الله، وتناقله المسلمون جيلاً بعد جيل بالتواتر إلى أن وصل إلينا بلا زيادة ولا نقصان، والحمد لله رب العالمين.

الدليل الرابع: ما أخبر الله في القرآن من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، وقد عُلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، بل عاش بين قوم كانوا أميين يعبدون الأصنام، ولا يعرفون الكتاب، قال الله تعالى: ((وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)) [العنكبوت:48-49].

الدليل الخامس: ما فيه من كشف أسرار المنافقين مع كونهم كانوا يجتهدون في إخفائها، ولكن الله كان يُطلع نبيه على أحوالهم وأقوالهم، وكذا ما فيه من كشف حال اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، بل والإخبار عما في ضمائرهم.

الدليل السادس: جمعه لمعارف وعلوم لم تعهدها العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من علم الشرائع والمواعظ والحِكَم وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والأخلاق.

الدليل السابع: كونه سليما من الاختلاف والتناقض: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)) [النساء:82].

الدليل الثامن: كونه معجزة باقية متلوة مع تكفل الله بحفظه بخلاف معجزات الأنبياء، فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت نزوله إلى زماننا هذا.

الدليل التاسع: أن قارئه لا يسأمه، وسامعه لا يمجه، بل تكراره يوجب زيادة محبته، وغيره من الكلام ولو كان بليغاً يُمل مع الترديد في السمع، ويُكره في الطبع.

الدليل العاشر: تيسير حفظه لمتعلميه تيسيرا عجيبا كما قال الله: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:17]، فما أكثر من يحفظه من الرجال والنساء، والكبار والصغار، والعرب والعجم!!


الفصل الثاني
رد شبهات القسيسين على القرآن الكريم

الشبهة الأولى: قالوا: لا نُسَلِّم أن القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة، وبلاغته لا تُعرف إلا لمن كان له معرفة تامة بلسان العرب.

والجواب: عدم تسليم كون القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة مكابرة محضة، وقولهم: بلاغته لا تُعرف إلا لمن يعرف اللسان العربي حق، لكن لما كانت هذه المعجزة لتعجيز البلغاء والفصحاء من العرب، وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوا القرآن واعترفوا بعجزهم، وعرف ذلك العرب بلغتهم، وعرف ذلك غيرهم من علماء أهل الكتاب بمهارتهم في فن البيان، وإحاطتهم بأساليب الكلام، وعرف ذلك عوام اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم بشهادة ألوف الألوف من العرب، وكثير من العلماء المنصفين من غير المسلمين؛ فظهر بهذا أنها معجزة يقيناً، وصارت دليلاً من الأدلة الكثيرة التي يُعلم بها أن القرآن حق، ولا يدّعي أهل الإسلام أن سبب كون القرآن كلام الله منحصر في كونه بليغاً فقط، ولا يدّعون أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم منحصرة في بلاغة القرآن فقط، بل يقولون: هذه البلاغة دليل من الأدلة الكثيرة على أن القرآن حق وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق.

الشبهة الثانية: قالوا: القرآن مخالف لكتب العهد القديم والجديد في مواضع فلا يكون كلام الله.

والجواب: أن هذه الكتب ثبت يقيناً بالأدلة القاطعة للشك أنها مختلفة اختلافاً معنوياً في مواضع كثيرة، ومملوءة بالأغلاط الكثيرة كما تقدم في أول هذا الكتاب، وقد ثبت التحريف فيها يقيناً كما ذكرنا في الباب الثاني الأدلة الواضحة عليه، فلا تضر مخالفة هذه الكتب للقرآن الكريم الذي تكفّل الله بحفظه وجعله ناسخاً للكتب التي سبقته، قال الله سبحانه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، وقال سبحانه: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)) [المائدة:48].

 

الشبهة الثالثة: قالوا: في القرآن أن الهداية والضلالة من عند الله، وهذا خطأ.

والجواب: عدم التسليم بكونه خطأ، بل هو صواب، وقد ذُكِر مثله في كتب العهدين:

ففي سفر الخروج (4/21): " وقال له الرب وهو راجع إلى مصر: انظر جميع العجائب التي وضعتها بيدك اعملها قدام فرعون فأنا أُقسي قلبه فلا يُطْلِق الشعب ".

وفي سفر التثنية (29/4): " ولم يعطكم الرب قلباً فهيماً ولا عيوناً تنظروا بها ولا آذاناً تسمعوا بها حتى اليوم ".

وفي كتاب إشعياء (6/10): " أعْمي قلب هذا الشعب وأُثقِّل آذانه وأُغمض عيونه لئلا يبصر بعينه ويسمع بأذنه ويفهم بقلبه ويتوب فأشفيه ".

وفي إنجيل يوحنا (12/39-40): " لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم ".

وفي كتاب إشعياء (45/7): " المصور النور والخالق الظلمة، الصانع السلام والخالق الشر، أنا الرب الصانع هذه جميعها ".

وفي كتاب ميخا (1/12): " فإن الشر نزل من قِبَل الرب إلى باب أورشليم ".

وفي الرسالة الرومية لبولس (9/18): " هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء ".

فالله هو خالق كل شيء، ولا خالق إلا الله، ولا يلزم من خلقه الشر أن يكون شريراً، فإنه خلق الشر لحكمة، كما أنه خلق الشيطان الذي هو أصل الشرور ورأس المفاسد لحِكَم كثيرة، منها ابتلاء العباد ليتبين من يطيع الله ومن يطيع الشيطان، فالله أحكم الحاكمين: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء:23].

الشبهة الرابعة: قالوا: في القرآن أن الجنة مشتملة على القصور والأنهار والحور، وهذا خطأ.

والجواب: عدم التسليم بكونه خطأ، بل هو صواب، ولا قُبح في كون الجنة مشتملة على النعيم، ولا يقول أهل الإسلام: إن الجنة مشتملة على اللذات الجسمانية فقط، بل هي مشتملة على اللذات الروحانية والجسمانية، والأولى أفضل من الثانية، وكلاهما يحصل للمؤمنين في الجنة، قال الله سبحانه: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هو الفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:72].

والعجب أن النصارى يعترفون بالحشر الجسماني، فأي استبعاد في اللذات الجسمانية؟!

فنسأل الله أن يُدخلنا الجنة وأن يُعيذنا من النار.

الشبهة الخامسة: قالوا: يوجد في القرآن اختلافات معنوية، مثل ذكر أن المسيح رسول، وفي أخرى ذكر أنه كلمته ألقها إلى مريم وروح منه.

والجواب: أنه لا تعارض، ومن تدبر الآية من أولها إلى آخرها تبين له الحق في عيسى عليه السلام وأنه رسول الله، قال الله سبحانه: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)) [النساء:171-173].

ففي هذه الآية وقع قبل لفظ: ((وَرُوحٌ مِنْهُ)) [النساء:171] التشنيع على النصارى في غلوهم في المسيح عليه السلام، ووقع بعد اللفظ المذكور: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) [النساء:171].

وقوله: ((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)) [النساء:171] قال معمر عن قتادة: وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان.

وكذلك قال قتادة: ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة.

وقوله: ((وَرُوحٌ مِنْهُ)) [النساء:171] أي: ذو روح منه خلقها الله وأرسل بها جبريل فألقاها إلى مريم فحملت بعيسى من غير أب بقدرة الله، وليس المراد أنه جزء من الله، فالنصارى يزعمون أن عيسى تجسّد من مريم ومن روح القدس، واعتقدوا أن روح القدس التي خُلق المسيح منها ومن مريم هي حياة الله، وأنه إله يخلق ويرزق ويُعبد، وهذا من ضلال النصارى، وليس في شيء من الكتب الإلهية أن الله سمى صفته روح القدس، بل المراد به جبريل عليه السلام الذي كان ينزل على الأنبياء، وقد سمى الله جبريل بروح القدس وسماه الروح الأمين، ويُطلق عليه روح الله من باب التشريف والتكريم كما قال الله في قصة مريم: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا)) [مريم:16-21].

فالأعيان إذا أضيفت لله فهي إضافة تشريف كما يقال: بيت الله وناقة الله وعباد الله وروح الله، فمعنى ((وَرُوحٌ مِنْهُ)) [النساء:171] كما فسرها علماء أهل الإسلام أن عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله واصطفاها وأكرمها، وقد قال الله عن آدم عليه السلام في آية أخرى: ((ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)) [السجدة:9]، وقال عن آدم أيضاً: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) [الحجر:29]، فأطلق الله على نفس آدم: ((مِنْ رُوحِهِ)) [السجدة:9]، ولم يقل أحد: إن آدم بعض من الله، بل مثل هذا التعبير موجود في التوراة نفسها، ففي سفر حزقيال (37/14) قال الله في خطاب ألوف من الناس الذين أحياهم بمعجزة حزقيال: " وأعطيت روحي فيكم "، فلا يلزم من هذا اللفظ أن يكون هؤلاء الألوف من الناس آلهة لإطلاق أن روح الله فيهم.

ومما يزيد الأمر بياناً أن الله قال في القرآن: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13]، وليس المراد أن السماوات والأرض وما فيها جزء من الله لأنه قال: ((جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13]، بل المعنى أن الله خلقهما وابتدأهما، فهي من الله وليست من غيره، وكذلك روح عيسى هي من الله وليست من غيره، خلقها الله وأمر جبريل أن يلقيها إلى مريم فنفخها فيها بأمر الله فحملت بعيسى بلا أب كما قال الله: ((وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:91]، قال المفسرون: فعلنا النفخ في مريم عليها السلام من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، كما قال الله في الآية الأخرى: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17]، أضاف الله سبحانه الروح إليه وهو للملَك تشريفا وتعظيما؛ لأنه روح مبعوث من الله ([1])، فالذي نفخ هو الروح الأمين جبريل عليه السلام، نفخ في مريم روح عيسى وهي روحٌ مخلوقة كغيرها من الأرواح إلا أن الله جعله آية فخلقه من أم بلا أب، وإسناد فعل الملَك إلى الله موجود في القرآن كقوله تعالى: ((لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)) [القيامة:16-18]، قال المفسرون: أي إذا قرأ جبريل القرآن فاستمع قراءته، فأضاف الله القراءة إلى نفسه والقارئ هو جبريل عليه السلام.


الشبهة السادسة: قالوا: قال الله في القرآن: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) [الغاشية:21-22]، وهذا يخالف الآيات التي فيها الأمر بالجهاد.

والجواب: أن هذا ليس باختلاف، بل هذا الحكم كان قبل الأمر بالجهاد، فلما نزل حكم الجهاد نسخ هذا الحكم، فإن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو المشركين إلى الإسلام ولم يأذن الله له بالجهاد، بل نهى المسلمين عنه، ولما هاجر إلى المدينة وقوِي المسلمون وصارت لهم دولة؛ أذِن الله لهم بالجهاد، وليس هذا اختلافاً، بل كان كل حُكم بما يناسب الحال وبما يتفق مع الحكمة والمصلحة.

الشبهة السابعة: قالوا: القرآن عربي وليس بلغتنا، فهو خاص بالعرب وحدهم كما قال الله في القرآن: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) [يوسف:2]، وقال: ((لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)) [يس:6]، فالعرب لم يأتهم رسول قبله، ولا يلزمنا اتباعه لأننا قد أتانا رسل من قبله بلغتنا، فمحمد رسول إلى غيرنا.

والجواب: أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر أنه مُرسل إلى العرب والعجم، وإلى جميع الإنس والجن، ولم يقل قط: إنه لم يُرسل إلى غير العرب، ولا في القرآن ما يدل على ذلك، وما احتجوا به من القرآن لم يفهموا معناه، فقد أمره الله أن ينذر عشيرته الأقربين ويخصهم بالدعوة أولا فقال: ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214]، ثم أمره أن يدعو سائر العرب فقال: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)) [الشورى:7]، وأم القرى المقصود بها مكة، فكان النبي محمد عليه الصلاة والسلام يدعو العرب في مواسم الحج قبيلة قبيلة، ثم عمم بدعوته جميع الناس فقال الله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158]، وقال: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]، وقال: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) [سبأ:28].

ولسان موسى وعيسى عليهما السلام كان عبرانيا، ولم تكن لغة عيسى سريانية ولا رومية ولا عربية، ومع هذا فالنصارى يَدْعون جميع الناس إلى دينهم مع اختلاف لغاتهم، ويَدَّعون أن دينهم للعالمين مع أن عيسى لم يدَّعِ هذا، بل أُرسِل إلى بني إسرائيل فقط كما أخبر الله سبحانه عنه في القرآن: ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)) [الصف:6]، وفي الباب العاشر من إنجيل متّى فقرة (5و6) أن عيسى أوصى الذين أرسلهم قائلا: " إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. ولكن انطلقوا خاصة إلى الخراف التي هلكت من بيت إسرائيل "، وفي الباب الخامس عشر من إنجيل متّى فقرة (24): " لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة "، ولكن النصارى قوم جاهلون جعلوا دين عيسى للعالمين بلا برهان، واليهود لا يدَّعون أن رسالة موسى للعالمين، بل لبني إسرائيل خاصة، ولذلك لا يدْعون غيرهم إلى الدخول في دينهم، فهم أعلم من النصارى.

ومن المعلوم بالضرورة بالنقل المتواتر أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ذكر عن نفسه أنه أُرسِل إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى، وأنه أُرسِل إلى جميع بني آدم عربهم وعجمهم من الروم والفرس والترك والهند والصين والبربر والحبشة والزنج وسائر الأمم، وأخبر أنه رسول لجميع الإنس والجن، وأنزل الله عليه قوله: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)) [الجن:1-2]، وقال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار}([2]).

وقد أمر الله رسوله بقتال أهل الكتاب إذا لم يؤمنوا فقال سبحانه: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الجن:29-31].

وقد آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في عهده كثير من اليهود والنصارى لما تبيَّن لهم أنه رسول الله إليهم حقا، ثم بعد موته دخل منهم في الإسلام ما لا يعلم عددهم إلا الله، وإلى يومنا هذا لا يزال كثير ممن تبلغهم دعوته وفيهم خير يدخلون في الإسلام ويشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

وهل من حكمة الله أن يُرسِل خاتم النبيين إلى العرب خاصة ويترك غيرهم في الظلمات ولا يُرسل إليهم من يهديهم لا سيما اليهد والنصارى الذين بدَّلوا دين أنبيائهم وحرفوا كتب الله التي أنزلها إليهم؟!

وأما كون القرآن أُنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة:

أحدها: أن يقال: والتوراة إنما أُنزلت باللسان العبري وحده، وموسى عليه السلام لم يكن يتكلم إلا بالعبرية، وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد بلسان الذي أُنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا، ثم بعد ذلك تبلَّغ الكتب إما بالترجمة لمن لا يعرف لغة ذلك الكتاب، وإما بأن يتعلَّم الناس لغة ذلك الكتاب فيعرفون معانيه، وإما بأن يُبيَّن للمرسَل إليهم معاني ما أُرسل به الرسول وإن لم يعرفوا سائر ما أُرسل به.

وأكثر الناس لا يعرفون معاني الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والقرآن إلا بمن يبينها ويفسرها لهم وإن كانوا يعرفون اللغة، والله يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)) [إبراهيم:4]، فإذا بين لقومه ما أراده حصل بذلك المقصود لهم ولغيرهم، فإن قومه الذين بلَّغ إليهم أولا يمكنهم أن يبلغوا عنه اللفظ ويمكنهم أن ينقلوا عنه المعنى لمن لا يعرف اللغة ويمكن لغيرهم أن يتعلم منهم لسانه فيعرف مراده، فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بما يُنقل عن الرسول باللفظ أو المعنى، وشرط التكليف تمكُّن العباد من فهم ما أُرسل به الرسول إليهم سواء عرفوا لغته أو لم يعرفوها.

وقد كان العارفون باللغة العربية حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إنما يوجدون في جزيرة العرب وما والاها كأرض الحجاز واليمن وبعض الشام والعراق ثم انتشر الإسلام فصار أكثر الساكنين في وسط المعمورة يتكلمون العربية، حتى اليهود والنصارى الموجودون في وسط الأرض يتكلمون بالعربية كما يتكلم بها أكثر المسلمين، بل كثير من اليهود والنصارى يتكلمون بالعربية أجود مما يتكلم بها كثير من المسلمين.

ويمكن للإنسان أن يعرف ما أمره الله به وإن لم يعرف اللغة العربية، ويكفيه أن يقرأ فاتحة الكتاب وسورا معها يصلي بهن، وكثير من الفرس والروم والترك والهند والصين والبربر والحبشة والزنج وغيرهم لا يعرفون أن يتكلموا بالعربية الكلام المعتاد وقد أسلموا وصاروا من أولياء الله المتقين، وليس فهم كل آية من القرآن واجب على كل مسلم، وإنما يجب على المسلم أن يعلم ما أمره الله به وما نهاه عنه بأي لغة كانت، ولهذا دخل في الإسلام جميع أصناف الأمم من غير العرب.

وأما قوله تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) [يوسف:2] فهذا يتضمن إنعام الله على عباده; لأن اللغة العربية من أيسر اللغات تعلما وأسهلها إتقانا، وهي أكمل الألسنة وأحسنها بيانا للمعاني، فنزول الكتاب بها أعظم نعمة على الخلق من نزوله بغيرها، وقد خوطب بالقرآن العرب أولا ليفهموه ثم من يعلم لغتهم يفهمه كما فهموه ثم من لم يعلم لغتهم يترجمه له من عرف لغتهم، وكانت إقامة الحجة به على العرب أولا والإنعام به عليهم أولا لمعرفتهم بمعانيه قبل أن يعرفه غيرهم.

وليس في هذا أن النبي محمدا لم يُرسل إلى غيرهم لكن إذا تبين القرآن لقومه العرب لكونه بلسانهم أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه إما بتعلمه بالعربية وإما بالترجمة لمعانيه، والكاتب يكتب كتاب علم في الطب أو الحساب بلسان قومه ثم يُترجم ذلك الكتاب ويُنقل إلى لغات أخر وينتفع به أقوام آخرون وإن كان المصنف إنما صنف الكتاب بلسان قومه أولا، وإذا كان هذا واقعا في أمور الدنيا فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من العذاب؟!

وكيف يمتنع أن يأمر الله العباد بالخير وينهاهم عن الشر بلغة يبين بعض المسلمين معناها لهم وفي ذلك صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؟!

ولو جاءت رسالة من ملك إلى ملك بغير لسانه لطلب من يترجم مقصود الملك المرسِل ولم يجز أن يقول: أنت لم تبعث إلي من يخاطبني بلغتي مع قدرته على أن يفهم مراده بالترجمة، فكيف يجوز أن يقال ذلك لرب العالمين؟!

فليس لأحد ممن أُرسل إليه رسول وهو قادر على معرفة ما أُرسل به إليه بالترجمة أو غير الترجمة أن يمتنع من شرع الله الذي أنزله لكون لغة الرسول غير لغته مع قدرته على أن يعرف مراده بطرق متعددة.

والناس في مصالح دنياهم يتوسل أحدهم إلى معرفة مراد الآخر بالترجمة وغيرها فيتبايعون وبينهم ترجمان يبلغ بعضهم عن بعض، ويتراسلون في عمارة بلادهم وأغراض نفوسهم بالمترجمين الذين يترجمون لهم، وأمر الدين أعظم من أمر الدنيا عند أولي العقول.

وأختم هذا الفصل بقول الله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [المائدة:15-16].


الفصل الثالث
إثبات صحة الأحاديث النبوية

اليهود يُعظِّمون الأحاديث والروايات اللسانية أعظم من التوراة، وجمهور قدماء النصارى يعظمون الروايات اللسانية ويعتبرونها.

قال آدم كلارك في شرح ديباجة كتاب عزرا في المجلد الثاني من تفسيره: قانون اليهود كان منقسماً على نوعين: مكتوب، ويقولون له: التوراة، وغير مكتوب، ويقولون له: الروايات اللسانية التي وصلت إليهم بواسطة المشايخ، ويدّعون أن الله كان أعطى موسى كلا النوعين على جبل الطور، فوصل إلينا أحدهما بواسطة الكتابة، وثانيهما بواسطة المشايخ بأن نقلوها جيلاً بعد جيل، ولهذا يعتقدون أن كليهما متساويان في المرتبة، ومن جانب الله، وواجبا التسليم،بل يرجحون الثاني، ويقولون: إن القانون المكتوب ناقص ومغلق في كثير من المواضع اه.

وقال يوسي بيس المؤرخ النصراني الكبير المتوفى سنة 339م في كتاب التاريخ الكنسي المطبوع سنة 1847م في الباب التاسع (ج2/78): والظاهر أن كليمنس نقل هذه الحكاية عن الروايات اللسانية التي وصلت إليه من الآباء والأجداد.

وقال في الباب 39 (ج3/142): قال بيبيس في ديباجة كتابه: أكتب لانتفاعكم جميع الأشياء التي وصلت من المشايخ إلي، وحفظتها بعد التحقيق التام.

ونقل في الباب العشرين (ج5/219) قول أرينيوس: سمعت بفضل الله هذه الأحاديث بالإمعان التام، وكتبتها في صدري لا في القرطاس.

وقال جان ملنر الكاثوليكي في كتابه الذي طبع في بلدة دربي سنة 1843م في رسالته العاشرة: إن أرينيوس قال في الباب الخامس من المجلد الثالث من كتابه: إنه لا يوجد لطالبي الحق أمر أسهل من أن يتفحصوا في كل كنيسة الروايات اللسانية التي هي منقولة عن الحواريين، وأظهروها في العالم كله.

فعُلِم بهذا أن إنكار فرقة البروتستانت للأحاديث مطلقاً مخالف للكتب المقدسة ولقدماء النصارى ومع ذلك لابد للبروتستانت من اعتبارها في كثير من عقائدهم التي لا توجد في الكتب المقدسة عندهم مثل: أن الابن مساو للآب في الجوهر، وأن الروح القدس مخرج من الآب والابن، وأن عيسى بعدما مات نزل الجحيم.

فهذه العقائد الباطلة لا توجد في كتب النصارى المقدسة، ومع ذلك اعتقدها البروتستانت من الأحاديث والتقليدات.

وقد اعترف بعض المحققين من علماء البروتستانت بأن الروايات اللسانية معتبرة مثل المكتوب، ففي المجلد الثالث من كاثوليك هرلد (ص63): قال الدكتور بريت الذي هو من فضلاء البروتستانت في (ص73) من كتابه: إن هذا الأمر ظاهر من الكتب المقدسة أن الدين العيسوي صار مفوضاً إلى الأساقفة الأولين وتابعي الحواريين بالرواية اللسانية.

وقال في الصفحة (32و33) من الكتاب المذكور: نرى بولس وغيره من الحواريين أنهم كما بلغوا إلينا الأحاديث بواسطة التحرير، كذلك بلغوا بواسطة الرواية اللسانية أيضاً.

وبعد هذا نقول: كان اهتمام المسلمين بالأحاديث النبوية في القرن الأول أكثر من اهتمام اليهود وقدماء النصارى بأحاديث أنبيائهم وروايات مشايخهم، كما أن اهتمام المسلمين بحفظ القرآن في كل قرن أشد من اهتمام أهل الكتاب بكتبهم المقدسة، لكن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدونوا الأحاديث النبوية في الكتب حتى لا يختلط كلام رسول الله بكلام الله، واكتفوا بحفظ الأحاديث في صدورهم وتبليغها لمن بعدهم، ثم جاء التابعون فنقلوا عن الصحابة القرآن والأحاديث النبوية، وأمنِوا من اختلاط بعضهما ببعض فشرعوا في تدوين الأحاديث بالأسانيد عمن سمعوها من مشايخهم، ثم جاء من بعدهم فاجتهدوا في أمر الأحاديث اجتهاداً عظيماً، ورووا الأحاديث بالأسانيد المتعددة، ولم يكتفوا أن يرووا الحديث من طريق واحد، بل من عدة طرق ليتبين لهم أي خطأ يطرأ من بعض الرواة، وصنفوا كتباً عظيمة في أسماء الرواة، يُعلم منها حال كل راو من رواة الأحاديث ومنزلته في الديانة والحفظ، وكانوا يعرفون منزلته في الحفظ بمقارنة رواياته برواية زملائه الذين شاركوه في رواية الأحاديث، فيعلمون بذلك من أتقن حفظ الحديث ومن زاد فيه أو نقص، وأي خطأ يقع لبعض الرواة في رواية الحديث يتبين لهم خطؤه بهذا الميزان، وهو مقارنة روايته برواية غيره، وعرفوا بذلك الأحاديث الغرائب التي تفرد بروايتها راو واحد ولم يشاركه أحد في روايتها، وحكموا على كل حديث بما يستحق من القبول أو الرد، وبينوا الأحاديث الصحيحة التي يُعتمد عليها، وبينوا الأحاديث الموضوعة التي رواها الكذابون، والأحاديث الضعيفة التي رواها الضعفاء الذين لم يُتقنوا حفظ الأحاديث فأخطئوا في روايتها لضعفهم في الحفظ أو لكونهم لا يُعتمد على ما تفردوا بروايته لجهالتهم أو فسقهم أو غير ذلك مما هو مبين في كتب أهل الحديث.

والله تعالى لما حفظ القرآن حفظ السنة التي تبين القرآن، فإن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله كما قال في كتابه: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) [النساء:59]، وقال: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80]،وقال: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7]،وقال: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) [الأحزاب:21]، فقد أمرنا الله مثلاً في القرآن بإقامة الصلاة، ولم يبين الله لنا في القرآن كيفيتها وأحكامها، وبين لنا ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته، فبيّن عدد كل صلاة، وما يُقرأ في القيام، وما يُقال في الركوع والسجود، وبيّن صفتها وأحكامها وأنواعها، وهكذا الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام، فلا غنى للمسلمين عن السنة، ولذا وفق الله المسلمين لحفظها كما حفظ لهم القرآن، والحمد لله رب العالمين.


الفصل الرابع
رد شبهات القسيسين على الأحاديث النبوية

الشبهة الأولى: قالوا: إن رواه الأحاديث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأقاربه وأزواجه فلا اعتبار لشهادتهم في حقه.

والجواب أن يقال: إن رواة حالات المسيح وأقواله المندرجة في هذه الأناجيل هم تلاميذه وأمه مريم ويوسف النجار، فلماذا تعتبرون شهادتهم في حقه إذاً؟!

ثم إن الله قد أثنى على أصحاب نبيه وأزاوجه وأهل بيته وزكاهم في القرآن، قال الله سبحانه: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100].

وقال سبحانه: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)) [الفتح:29].

وقال سبحانه عنهم: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)) [الحجرات:7].

وجعل أزواج النبي أمهات للمؤمنين فقال الله: ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب:6]، وقال الله: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)) [الأحزاب:32]، وقال الله لأزواج نبيه: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)) [الأحزاب:33-34].

إلى غير ذلك من الآيات التي تبين فضل الصحابة وإيمانهم وثقتهم وصدقهم، وبهذا يُعلم ضلال الشيعة الروافض الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويردون أحاديثهم، فهم مخالفون للقرآن الذي زكاهم وأمر بالاستغفار لهم كما في قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10].

فقول هذه الفرقة الضالة ليس حجة على أهل الإسلام، كما أن النصارى لا يعتبرون أقوال الفرق الضالة التي تخالف معتقداتهم المشهورة، مثل الفرقة المارسيونية النصرانية التي قال عنها المؤرخ النصراني (بل) في تاريخه: إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن الإله إلهان: أحدهما: خالق الخير، وثانيها: خالق الشر، وكانت تقول: إن التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الإله الثاني، وكلها مخالف للعهد الجديد!!

ونقل لاردنر في المجلد الثالث من تفسيره قول اكستاين في بيان فرقة ماني كيز النصرانية: هذه الفرقة تقول: إن الإله الذي أعطى موسى التوراة، وكلم الأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان من الشياطين!!

ثم قال لاردنر: اتفق المؤرخون أن هذه الفرقة ما كانت تُسلِّم الكتب المقدسة للعهد القديم، وكانت تتمسك بالآية الثامنة من الباب العاشر من إنجيل يوحنا بأن المسيح قال عن أنبياء بني إسرائيل: " سُرَّاق ولصوص ".

فكما أن النصارى لا يلتفتون إلى هذه الفرق الضالة وأمثالها، فكذلك أهل الحق المسلمون لا يلتفتون إلى بدع الروافض وغيرهم المخالفين للقرآن والسنة.

الشبهة الثانية: قالوا: إن مؤلفي كتب الحديث ما سمعوا أقوال محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل نقلوها عنه بواسطة بعد مائة سنة أو مائتي سنة من وفاته، وجمعوها ولم يعتبروا كثيراً منها.

والجواب: أن الرواية اللسانية معتبرة عند جمهور أهل الكتاب، واعتبارها ثابت من هذا الإنجيل المتداول، بل إن خمسة أبواب من سفر الأمثال جُمعت من الروايات اللسانية في عهد حزقيال بعد مائتي وسبعين سنة من موت سليمان عليه السلام، وإنجيل مرقس ولوقا وتسعة عشر باباً من كتاب الأعمال كُتبت بالرواية اللسانية.

وهذا جواب على هذه الشبهة مما هو معروف عند علمائهم ومقرر في كتبهم.

ثم نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم حفظوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرته، ورووها للتابعين الذين جاءوا بعدهم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بحفظ سنته ونقلها لمن سيأتي بعدهم، فقال عليه الصلاة والسلام مرغباً في حفظ سنته: {نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يُبلِّغه، فرُب مُبَلَّغ أحفظ له من سامع}([3])، وقال عليه الصلاة والسلام: {فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عَضوا عليها بالنواجذ}([4]).

والتابعون كانوا حريصين على تعلم السنة كما يتعلمون القرآن، ونقلوا لمن بعدهم القرآن والسنة، وشرعوا في تدوين الأحاديث في الكتب لكنهم لم يرتبوها، ثم جاء أتباع التابعين فدونوها مرتبة على الأبواب الفقهية، ثم جاء من بعدهم فاستمروا في تدوينها وتفننوا في تصنيفها وتنقيحها، وبينوا صحيحها من ضعيفها، ثم جاء من بعدهم من المحدِّثين فزادوها تنقيحاً وصنفوا المصنفات العظيمة في علوم الحديث التي تفتخر بها هذه الأمة، ولا يوجد لها نظير عند أي أمة من الأمم!!

ثم إن المحدِّثين ميزوا المقبول منها والمردود وردوا المردود، وهذا من الفضائل والمحاسن، فكيف يُعد من الرذائل والمعايب؟!

والنصارى يثنون على من يرد الأناجيل الكاذبة وإن كانت في الواقع كلها محرفة، قال آدم كلارك: إن هذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية، وكثرة هذه الأحوال الكاذبة غير الصحيحة هيجت لوقا على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة، والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية، وكان فابري سيوس جمع هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاثة مجلدات. ا ه.

الشبهة الثالثة: قالوا: إن أكثر الأحاديث لا يمكن أن تكون معانيها صادقة.

والجواب: الأحاديث التي ردها أهل الحديث وحكموا ببطلانها وجودها كعدمها، أما الأحاديث الصحيحة التي أثبتوها بعد التحقيق والدراسة لمتونها وأسانيدها فلا يوجد فيها ما يخالف الواقع أو يتعارض مع العقل، وما فيها من أشياء تُحيِّر العقول لا يلزم من ذلك أنها ممتنعة في العقول، فالمعجزات التي هي خلاف العادة وبعض أحوال الجنة والجحيم والملائكة ونحو ذلك مما ليس له نظير في هذه الدنيا لا يمنع وقوعها العقل السليم وإن كان يتعجب منها ويتحيَّر فيها، فمثلا معجزة عصا موسى عليه السلام التي صارت حية تسعى وابتلعت جميع حبال وعصي السحرة الذين سحروا أعين الناس حتى رأوها حيات، يتحير العقل من صيرورة العصا إلى تلك الحية الحقيقية وابتلاعها للحبال والعصي حقيقة ثم رجوعها عصا كما كانت بلا زيادة!!

فهذه معجزة تحير العقول لكن لا تمنع العقول السليمة وقوعها فإن الله على كل شيء قدير.

 

الشبهة الرابعة: قالوا: إن الأحاديث فيها مخالفة للقرآن، مثل قول الله: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) [الضحى:7]، وقوله: ((مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)) [الشورى:52]، وفي الأحاديث أنه ولِد مؤمناً ولم يكن مشركاً.

والجواب: أن الضال في الآية الأولى ليس المراد أنه كان كافراً بل قال المفسرون: وجدك ضالاً عن شريعتك لا تعرفها فهداك الله إليها بالوحي.

ومعنى الآية الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل بعثته يعرف القرآن ولا الإيمان، أي: لا يعرف تفاصيل الشريعة من الفرائض والأحكام.

وهذا المعنى حق لا يخالف ما جاء في الأحاديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الوحي مؤمناً بتوحيد الرب إجمالاً ولم يكن عارفاً بتفاصيل شرائع الإسلام، وإنما عرفها بعد الوحي.

الشبهة الخامسة: قالوا: الأحاديث مختلفة فيما بينها.

والجواب: أن الاعتبار للأحاديث الصحيحة التي يعتمدها أهل الحديث المتخصصون في نقد الأحاديث وتمييز الصحيح منها من الضعيف والموضوع، فالأحاديث الموضوعة والضعيفة غير معتبرة ولا تعارض الأحاديث الصحيحة، بل يستدل المحدثون على ضعف الحديث أو وضعه بمخالفته للآيات القرآنية أو الأحاديث الصحيحة الثابتة.

وما كان من أحاديث صحيحة متعارضة في الظاهر فإن أهل العلم يبينون عدم تعارضها ويجمعون بينها، وإن لم يُمكن الجمع وأمكن النسخ وكان أحدهما متقدما على الآخر، فإن المتأخر يكون ناسخاً للمتقدم، وإن لم يُعلَم تقدم أحدهما على الآخر، فإنهم يُرجِّحون ما كان أقوى، ولهم مرجحات كثيرة متنوعة، وقد ألفوا في هذا المؤلفات الكثيرة المحررة.

وبعد هذا نقول للقسيسين: ما هو جوابكم عن نصوص كتابكم المقدس المختلفة التي لا يمكن الجمع بينها بأي وجه من الوجوه؟ ونذكر منها على سبيل المثال:

في كتاب حزقيال (18/20): " النفس التي تخطئ فهي تموت والابن لا يحمل إثم الآب، والآب لا يحمل إثم الابن، وعدل العادل يكون عليه، ونفاق المنافق يكون عليه ".

وفي سفر الخروج (34/7): " تجازى الأبناء وأبناءهم بإثم آبائهم إلى ثلاثة وأربعة أجيال".

وفي إنجيل متّى (23/35-36): " يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والذبح. الحق أقول لكم: إن هذا كله يأتي على هذا الجيل ".

فهذه ثلاثة اختلافات في ثلاثة نصوص لا يمكن الجمع بينها أبداً، ففي الأول يثبت أن كل نفس تحمل إثم نفسها ولا تحمل إثم غيرها، وفي الثاني أنها تحمل إثم غيرها إلى ثلاثة أو أربعة أجيال، وفي الثالث يثبت حمل الأبناء إثم آبائهم بعد آلاف السنين!!

وتوجد مخالفة أخرى بين النص الأخير حيث سمى زكريا بن برخيا، وبين سفر أخبار الأيام الثاني (24/20) حيث سماه زكريا بن يهوياداع!!

ولعل هذا أشكل على لوقا فلم ينسبه في إنجيله إلى أبيه بل نقل قول المسيح هكذا: " لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم. من دم هابيل إلى دم زكريا الذي أهلك بين المذبح والبيت. نعم أقول لكم: إنه يطلب من هذا الجيل ". انظر إنجيل لوقا (11/50-51).

في سفر الأمثال (15/3): " عينا الرب في كل مكان يترقبان الصالحين والطالحين".

وفي سفر التكوين (3/9): " فدعا الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ ".

ففي الآية الأولى أن الله يرى كل شيء، وفي الثانية أنه لم ير آدم حين اختفى في وسط شجرة الفردوس فاحتاج أن يسأله عن مكانه!!

في سفر العدد (23/19): " ليس الله برجل فيكذب ولا ابن الإنسان فيندم ".

وفي سفر التكوين (6/6-7): " فندم على عمله الإنسانَ على الأرض، فتأسف بقلبه داخلاً. وقال: فامحوا البشر الذي خلقته عن وجه الأرض من البشر حتى الحيوانات من الدبيب حتى طير السماء لأني نادم أني عملتهم ".

ففي الآية الأولى ينزّه الله عن الندم، وفي الثانية يصفه بالندم سبحان الله عما يصفون!!

ومثل هذا التعارض بين سفر صموئيل (15/29) و(15/11)، ففي آية (29): " ليس إنساناً فيندم "، وفي آية (11): " ندمت على أني صيرت شاوول ملكاً ".

وهذا تعارض في باب واحد!!

في سفر التكوين (32/30) قول يعقوب عليه السلام: " رأيت الله وجهاً لوجه ".

وفي الرسالة الأولى ليوحنا (4/12): " الله لم ينظره أحد قط ".

ففي الأول أن يعقوب رأى الله، وفي الثانية أنه لم يره أحد!!

في إنجيل يوحنا (5/37) قول عيسى لليهود: " لم تسمعوا صوته قط ".

وفي سفر التثنية (5/24): " قد أرانا الرب إلهنا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار ".

فمن نصدق: قول عيسى أنهم لم يسمعوا صوته قط أو ما في سفر التثنية أنهم سمعوا صوته؟!

والجواب لا يخفى على من علم تحريف هذه الكتب.

ويدل على التحريف وصفهم لله تعالى بصفات النقائص كما في بعض الأمثلة السابقة، وكذلك طعنهم في الأنبياء المعصومين عليهم السلام، وأكتفي بذكر خمسة أمثلة من طعنهم في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

في سفر التكوين (9/20) أن النبي نوحاً عليه السلام شرب الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه ورآه ابنه عارياً.

2- في سفر التكوين (19/30-38) أن النبي لوطا عليه السلام زنى بابنتيه.

3- في سفر الخروج (32/1-6) أن النبي هارون عليه السلام عبد العجل.

4- في سفر صموئيل الثاني (11/1-27) أن النبي داود عليه السلام زنى بامرأة متزوجة فحملت منه ثم قدّم زوجها في القتال ليُقتل وتزوجها بعده.

5- في سفر الملوك الأول (11/1-13) أن النبي سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد.

ومثل هذه الأكاذيب لا توجد في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة، قال الله تعالى: ((وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)) [الأنعام:115]، وقال الله عن نبيه: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هو الا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:3-4].

فمن لم يستح فليصنع ما يشاء، كيف يتكلم القسيسون في القرآن الكريم والسنة المطهرة بالباطل وفيهما الهدى والنور والكمال والجلال والعظمة والجمال؟! ويتجاهلون أن في كتبهم المحرفة المبدلة مثل ما ذكرنا من التعارض والاختلاف والأغلاط، وفيها من الظلام والجهل والأكاذيب والضلالات مثل وصف الله وأنبيائه بما يستحيى من ذكره، ويُعرضون عما في كتبهم من الهدى والحق الذي جاء القرآن بتصديقه!!

((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)) [الشعراء:227].


 

 

 

 

 

 

 

الباب السادس
إثبات نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم


الفصل الأول
أدلة نبوة محمد رسول الله

الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، فمن ذلك:

ظهور المعجزات الكثيرة على يديه، وهو أكثر الأنبياء معجزة، وقد جمعها بعض العلماء فوصلت ألفاً ومائتي معجزة ودليلاً من دلائل نبوته، فمنها:

إخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أما الماضية فكإخباره بقصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأمم السالفة من غير سماع من أحد ولا دراسة لكتاب كما قال الله في القرآن: ((تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)) [هود:49]، وأما المستقبلة فكثيرة كإخباره أصحابه بفتح مكة واليمن والشام وبيت المقدس ومصر والعراق، وأنهم يقتسمون كنوز ملك فارس وملك الروم، فوقعت هذه الأمور في زمن أصحابه كما أخبر.

ومثل إخباره بأنه سيكون بعده اختلاف كثير وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وأن الخلافة بعده ثلاثون سنة ثم تصير مُلكاً عضوضاً بعد ذلك، فكانت الخلافة التي على منهاج النبوة ثلاثين سنة تماماً كما أخبر؛ لأن خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه كانت سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت عشر سنين وستة أشهر، وخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت أربع سنين وعشرة أشهر، وخلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما كانت نحو ستة أشهر وهي تمام الثلاثين سنة، ثم تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، وهو أول ملوك الإسلام وصار الملك عضوضاً وراثياً كما أخبر النبي، فالنبي عليه الصلاة والسلام توفي سنة (11ه)، ثم كانت الخلافة على منهاج النبوة ثلاثين سنة إلى عام (41ه)، ومنذ سنة (41ه) ابتدأ الملك العضوض الوراثي، فما أعظمها من معجزة!!

ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عمار بن ياسر رضي الله عنه تقتله الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية وهم الفئة الباغية التي بغت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

وأخبر أن الحسن بن علي سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فوقع ما أخبر به النبي الذي لا ينطق عن الهوى فأصلح الله به بين المسلمين بعد اختلافهم وذلك عام (41ه).

وأخبر أنه يكون في قبيلة ثقيف كذاب ومبير أي: مهلِك، فكان الكذاب المختار بن أبي عبيد الثقفي المتوفى سنة (67ه) الذي ادّعى النبوة، وكان المهلك الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة (95ه) الذي كان سفاكاً للدماء.

وأخبر أن ناساً من أمته يغزون في البحر، وأن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها منهم فوقع ذلك كما أخبر.

وأخبر أن ابنته فاطمة عليها السلام أول أهله موتاً بعده فماتت بعده بستة أشهر.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خروج نار عظيمة من أرض الحجاز، وقد تواتر عند المؤرخين خروجها سنة (654ه)، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها قبل ظهورها بنحو (650) سنة تقريباً!!

ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام الإسراء بجسده الشريف من مكة إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ثم العروج به إلى السماوات العلى، قال الله سبحانه: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الإسراء:1]، وقال الله سبحانه: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم:1-18].

ومن معجزاته انشقاق القمر، فقد سأله أهل مكة آية فأراهم انشقاق القمر فكذبوه وادعوا أنه سحر فأنزل الله سبحانه: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)) [القمر:1-3].

ثم أسلم كثير ممن كذبوه من أهل مكة، وآمنوا بالقرآن، فلو لم يكونوا رأوا انشقاق القمر لما آمنوا بالقرآن الذي يُثبت انشقاقه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة القمر في الأعياد، ليُسمع الناس ما فيها من آيات النبوة، وكل الناس يُقر ذلك ولا ينكره، ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه، فلو لم يكن القمر انشق لما كان يُخبر بهذا ويقرؤه في مجامع الناس العظيمة، ويستدل به ويجعله آية له، فعُلِم بهذا أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة، وقد روى انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة.

وعدم نقل الأمم لهذه الحادثة العظيمة لا يلزم منه عدم وقوعها، فإنها وقعت في جزء من الليل وأكثر الناس نائمون أو غافلون، وما أكثر ما يُخسف القمر ولا يعرف الناس ذلك، ولم يكن الناس يتوقعون حدوث هذا الانشقاق حتى يترقبوه.

ومن رأى ذلك لا يلزم أن يكون مؤرخاً حتى يكتب ذلك، وإن تكلم به فما أسهل تكذيبه، إذ ذلك مستبعد عند الناس جداً، وإخبار بعض العوام لا يكون معتبراً عند المؤرخين في الوقائع العظيمة، وربما كتب ذلك بعض المؤرخين ولم يصل إلينا كتابه، فلا يلزم من عدم النقل العدم، ومن أثبت حجة على من لم يثبت.

ثم إن عند أهل الكتاب حادثة عظيمة يثبتونها مع عدم ذكر الأمم لها، وهي حادثة وقوف الشمس ليوشع كما في كتاب يوشع (10/12-13)، وكانت على زعم النصارى قبل ميلاد المسيح بألف وأربعمائة وخمسين سنة، فاحتباس الشمس ظاهر للناس ومع هذا ليست مكتوبة في تواريخ أهل الهند ولا أهل الصين ولا أهل فارس، مع أن في كتاب يوشع أنها وقفت في كبد السماء ولم تعجل إلى الغروب يوماً تاماً.

وحادثة أخرى يثبتها النصارى مع عدم ذكر الأمم لها، وهي ما في إنجيل متّى (27/45) وإنجيل مرقس (15/33) وإنجيل لوقا (23/44) أنه لما صُلب المسيح - كما يزعمون - كانت الظلمة على الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة.

وهذه الحادثة لما كانت في النهار على الأرض كلها على زعمهم وممتد إلى أربع ساعات فلا بد أن لا تخفى على أكثر أهل العالم، ومع هذا ليست مذكورة في تواريخ أهل الهند والصين والفرس.

ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه في مواطن متعددة حضراً وسفراً، وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه الصلاة السلام، فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة، وأما من لحم ودم فلم يُعهد من غيره صلى الله عليه وسلم، والله على كل شيء قدير.

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام القليل حتى يكفي الناس الكثير، وقد وقع هذا أكثر من مرة، ومن ذلك أنه أطعم يوم الخندق ألف رجل لحماً وخبزاً من صاع من الشعير وعنَزة صغيرة، فأكلوا منها حتى شبعوا من اللحم والخبز، والقدر مازال مليئاً باللحم والعجين مازال على حاله لم ينقص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغرف لهم اللحم وامرأتان تخبزان من العجين.

ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب على جذع نخلة، فلما صُنع له المنبر قام عليه يخطب فحن الجذع وسمع الناس صوته حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فوضع يده على الجذع فسكت، وهذه القصة رواها جمع من الصحابة رضي الله عنهم.

ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن شفى الله على يديه وبدعائه كثيراً من المرضى، مثل تفله في عيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أرمداً فبرئ، ومثل نفثه على ساق سلمة بن الأكوع رضي الله عنه لما ضُربت في غزوة خيبر فبرئ، ومن ذلك أنه دعا لخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويكثر ولده وماله، فكثر ماله جداً وطال عمره حتى كان من آخر الصحابة موتاً، وكثر ولده جداً حتى كانوا نحو المائة.

فإن قالوا: معجزات محمد لم تتواتر عندنا قيل: ليس من شرط التواتر أن يتواتر عند طائفة معينة بل هذا كما يقول المشركون والمجوس وغيرهم: لم يتواتر عندنا معجزات موسى والمسيح عليهما السلام، وإنما تتواتر أخبار كل إنسان عند من رأى المشاهدين له أو رأى من رآهم وهلم جرا.

ومعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين رأوه ونقلوا معجزاته أضعاف أصحاب المسيح عليه السلام، والتابعون الذين نقلوا ذلك عن الصحابة كذلك، فيلزم من التصديق بمعجزات المسيح عليه السلام التصديق بمعجزات محمد صلى الله عليه وسلم، ومن التكذيب بمعجزات محمد التكذيب بمعجزات المسيح.

ومن الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة والأوصاف الجزيلة والكمالات والمحاسن ما يجزم العقل معها بأنه نبي لا يكذب، وقد اعترف بهذا المخالف، فمن ذلك ما نقله سيل في مقدمة ترجمته للقرآن عن إسبان هميس النصراني قال: كان النبي محمد حسن الوجه وزكيا، وكانت طريقته مرضية، وكان الإحسان إلى المساكين شيمته، وكان يعامل الكل بالخلق الحسن، وكان شجاعاً على الأعداء، وكان يُعظم اسم الله تعظيماً عظيماً، وكان يُشدِّد على المفترين والذين يرمون البرآء، والزانين والقاتلين وأهل الفضول والطامعين وشهود الزور تشديداً بليغاً، وكانت كثرة وعظه في الصبر والجود والرحمة والبر والإحسان وتعظيم الأبوين والكبار وتوقيرهم وتكريمهم، وكان عابداً مرتاضاً للغاية. ا ه.

ومن أعظم الأدلة على نبوته شريعته وما يدعو إليه، فشريعته خير شاهد على نبوته، فقد اشتملت على الاعتقادات الصحيحة والعبادات الكاملة والمعاملات العادلة والسياسات الحكيمة والآداب الحسنة والأخلاق الطيبة مما يعلم بأنها من عند الله، وأن المبعوث بها نبي كريم.

ومن الأدلة على نبوته أنه كان من قوم أميين لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم، فبعثه الله من بينهم بكتاب منير وشريعة كاملة شاملة، فقام مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى قبول شريعة الله التي ارتضاها لعباده، مخالفاً لجميع أهل الأرض من الأقارب والأباعد والملوك والرعية واليهود والنصارى، فقام يدعو الله، وقال: إني رسول الله، وضلّل آراءهم، وأبطل مللهم، وصبر على أذيتهم، وبلّغ رسالة الله التي أرسله بها ولم يخش لومة لائم، فأظهر الله دينه على جميع الأديان في مدة قليلة شرقاً وغرباً، ولا يزال مستمراً على مر الأعصار والأزمان، ولم يقدر أعداؤه مع كثرة عددهم وعُددهم وشدة شوكتهم وفرط تعصبهم وبذل غاية جهدهم إطفاء نور دينه، فهل يكون ذلك إلا بعونٍ من الله الذي أرسله؟! قال الله سبحانه: ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هو الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) [الصف:8-9].

ومن الأدلة على نبوته أنه ظهر في وقت كان الناس في أمس الحاجة إلى من يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويدعوهم إلى دين الله القويم؛ لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان ووأد البنات، والفرس على اعتقاد الإلهية وعبادة النار ووطء الأمهات والبنات، والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد، والهند على عبادة البقر والسجود للشجر والحجر، واليهود على الجحود وتشبيه الخالق بالمخلوق وترويج الأكاذيب والزور، والنصارى على القول بالتثليث وعبادة الصليب والضلال المبين، وهكذا سائر العالم كانوا في الظلمات يخبطون، وبالباطل يشتغلون، ولا يليق بحكمة الله الرحمن الرحيم الحكيم إلا أن يُرسل رسولاً يكون رحمة للعالمين، قال الله: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]، وقال: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)) [إبراهيم:1].

ومن الأدلة على نبوته إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته، وتبشيرهم بمجيئه.

فإن أنبياء بني إسرائيل - كما في الكتب المقدسة - أخبروا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش وإسكندر وحوادث مصر وبابل، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن بعثة محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، فكيف يخبروا عن الحوادث الأخرى التي هي أقل أهمية ولا يخبروا عن هذه الحادثة العظيمة؟!

ولا يشترط في إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر أن يخبر عنه بالتفصيل التام، بل يكون هذا الإخبار غالباً مجملاً عند العوام، وأما عند العلماء الراسخين فقد يصير جلياً بواسطة القرائن، وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه حتى يذكر النبي اللاحق أن النبي المتقدم بشر به، ويظهر صدقه بمعجزاته ودلائل نبوته.

وادعاء أهل الكتاب أنهم ما كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء عليهما السلام ادعاء باطل، بل كانوا منتظرين لغيرهما، فإن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام أولاً: أأنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أأنت إيلياء؟ ولما أنكر سألوه: أأنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر به موسى، وكان منتظراً عندهم مثل المسيح وإيلياء حتى أنهم لم يذكروا اسمه، ولعله كان مذكوراً باسمه فحذف المحرفون اسمه، والمقصود أنهم كانوا منتظرين نبياً غير المسيح وإيلياء، فتأمل النص المذكور وهو في إنجيل يوحنا (1/19-20) هكذا: " وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه: إذاً ماذا؟ إيلياء أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا ".

ثم قال في إنجيل يوحنا (1/25): " فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيلياء ولا النبي ".

وهذا النص ظاهر جداً في إثبات أنهم كانوا ينتظرون نبياً غير عيسى وإيلياء، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشّر به موسى عليه السلام كما أخبر القرآن بذلك.

وادعاء أن المسيح خاتم النبيين ولا نبي بعده باطل بدليل أنهم كانوا منتظرين للنبي المعهود الذي يكون غير المسيح وإيلياء عليهم السلام.

ثم إن النصارى يدّعون نبوة الحواريين تلاميذ المسيح وبولس الذي أفسد دين النصارى بعد رفع عيسى عليه السلام، فالعجب أنهم صدقوا الكذابين وكذبوا النبي الصادق الذي بشر به عيسى!!

وعيسى قد حذرهم من تصديق الأنبياء الكذبة كما في إنجيل متّى (7/15): " احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحِملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة ".

وفي رسالة يوحنا الأولى (4/1): " أيها الأحبة لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم ".

وفي إنجيل متّى (24/4-5): " لا يضلكم أحد فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح ويضلون كثيرين ".

ومقصود عيسى عليه السلام التحذير من الأنبياء الكذبة لا من النبي الصادق الذي بشّر به، ولذلك قال كما في إنجيل متّى (7/16): " من ثمارهم تعرفونهم ".

ومحمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء الصادقين كما تدل عليه ثماره وأدلة نبوته ومعجزاته، ولا اعتبار لإنكار اليهود له كما أنه لا اعتبار لإنكارهم عيسى عليه السلام، بل يدّعي اليهود أن عيسى عليه السلام أشر رجل من ابتداء العالم إلى زمن خروجه، وكذلك لا اعتبار لإنكار النصارى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتت أدلة نبوته بما لا يبقى مجال للشك في صدقه ونبوته.

والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم المذكورة في الإنجيل كثيرة، وتأويلات النصارى لها غير مقبولة كما أن تأويلات اليهود لبشارات عيسى المذكورة في التوراة غير مقبولة عند النصارى، ويستدلون بها على أن عيسى حق رغم تأويلات اليهود لها بأنها في حق مسيحهم المنتظر أو في حق غيره، والنصارى يثبتون أنها في حق عيسى عليه السلام ولا يبالون بمخالفتهم، وكذلك نحن المسلمين لا نبالي بمخالفة النصارى في إثبات بعض الإخبارات التي في الإنجيل التي هي في حق محمد صلى الله عليه وسلم مع أنها أظهر صدقاً من الإخبارات التي نقلها النصارى عن التوراة في حق عيسى، ولكن المعاند له مجال واسع للتأويل في أمثال هذه الإخبارات، وما أسهل التكذيب على غير المخلصين المنصفين، لاسيما وتلك الإخبارات ليست مفصَّلة بل مجملة، وعادة أهل الكتاب سلفاً وخلفاً في تراجمهم أنهم يوردون بدل الأسماء معانيها دون ألفاظها، وهذا خبط عظيم، ومفتاح للفساد، فيزيدون شيئاً من كلامهم بطريق التفسير في الكلام الذي يزعمون أنه كلام الله، ولا يشيرون إلى أنه من تفسيرهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة عندهم وجد أن هذا الأمر معتاداً بينهم، وشواهده كثيرة منها:

في سفر التكوين (22/14) في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م) هكذا: " سمى إبراهيم اسم الموضع: مكان يرحم الله زائره ".

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1844م): " ودعا اسم ذلك الموضع: الرب يرى ".

فترجم المترجم الأول الاسم العبراني وهو كلمة واحدة بجملة: (مكان يرحم الله زائره)، وترجم المترجم الثاني ذلك الاسم بجملة: (الرب يرى) ولم يذكرا الاسم العبراني!!

في سفر التكوين (49/10) في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1625م) وسنة (1844م): " فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم ".

فقوله: (الذي له الكل) هي ترجمة للفظ: (شيلوه) وهو اسم الشخص المبشَّر به.

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م) ترجموا لفظ شيلوه ب (الذي هو له).

وورد هذا الاسم في سفر التكوين (49/10) في النسخة السامرية هكذا: (حتى يأتي سليمان وإليه تنقاد الشعوب).

فانظر كيف تصرف المترجمون في هذا الاسم كلٌ بما ظهر وترجح عنده، ولم ينقلوه بلفظه أداء لأمانة الترجمة، وهذا مألوف عندهم في تراجمهم!!

في سفر الخروج (17/15) في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1625م) وسنة(1844م) هكذا: " فابتنى موسى مذبحاً ودعا اسمه: الرب عظمتي ".

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م): " وبنى مذبحاً وسماه: الله علمي ".

وفي النسخة السامرية في طبعة سنة (1865م): " فبنى موسى مذبحاً ودعا اسمه: يهوه نِسِّي ".

فانظر كيف ترجم المترجمون الاسم العبراني ولم ينقلوه كما هو واختلفوا في ترجمته مع أنه اسم لا يُترجم!!

في قاموس الكتاب المقدس (ص81) و (ص927) أن إشعياء له ابن اسمه مهر شالال جاشنر وهو اسم عبراني معناه: مسرع إلى الغنيمة أو يعجل السلب ويسرع النهب، وقد ذكر هذا الاسم بالعبراني في الترجمة الفارسية لكتاب إشعياء (8/1-3) المطبوعة سنة (1839م)، وكذلك في ترجمة أردو المطبوعة سنة (1825م)، وأما في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1844م) فترجموا الاسم هكذا: (اسمه: اغنم بسرعة وانهبوا تجده).

فانظر كيف ترجموا الاسم على آرائهم واختلفوا فيما بينهم!!

فلو بدل هؤلاء المترجمون في البشارات المحمدية اسماً من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو زادوا شيئاً فلا استبعاد منهم؛ لأن هذه عاداتهم في تراجمهم للأسماء.

في إنجيل متّى (27/46): " ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لمَ شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ ".

وفي إنجيل مرقس (15/34) هكذا: " وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: ألُوي ألُوي لم شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ "، فاللفظ الأخير في الإنجيلين أُلحقا بكلام المصلوب وليسا من كلامه يقيناً، بل هما تفسيران له.

في إنجيل مرقس (5/41): " وقال لها: طليثا قومي الذي تفسيره: يا صبية لك أقول: قومي "، فهذا التفسير إلحاقي ليس من كلام عيسى، وطليثا كلمة آرامية معناها صبية كما في قاموس الكتاب المقدس (ص578).

في إنجيل يوحنا (1/42) قول عيسى عليه السلام في حق بطرس الحواري في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م) هكذا: " أنت تدعى ببطرس الذي تأويله الصخرة ".

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1816م): " ستسمى أنت بالصفا المفسَّر ببطرس ".

فانظر كيف لا يتميز من كلامهم المفسِّر عن المفسَّر!!

ولاشك أن هذا التفسير ليس من كلام عيسى عليه السلام، بل هو إلحاقي، فإذا كان هذا حالهم في ترجمة خليفة إلههم فكيف نرجو منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد أو لقب من ألقابه صلى الله عليه وسلم؟!

في إنجيل يوحنا (5/2) في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1823م) و (1844م): " تسمى بالعبرانية بيت صيدا ".

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1860م): " يقال لها بالعبرانية: بيت حسدا ".

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م): " تسمى بالعبرانية بيت حصدا أي: بيت الرحمة ".

فاختلفوا في صيدا وحسدا وحصدا، وزاد المترجم الأخير تفسيراً من عنده في الكلام الذي هو كلام الله بزعمه!! فلو زادوا شيئاً بطريق التفسير من عند أنفسهم في البشارات المحمدية فلا يستغرب منهم.

فثبت بهذه الشواهد أن ترجمة الأسماء أو تبديلها بألفاظ أخر وإلحاق التفسيرات من عند أنفسهم من عادة هؤلاء المترجمين سلفاً وخلفاً، فلا بُعد أن يترجموا اسماً من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو يبدلوه بلفظ آخر أو يزيدوا فيه بطريق التفسير شيئاً من عند أنفسهم بحيث يخل الاستدلال به على نبوته بحسب الظاهر.

ومع وقوع التحريفات في كتب أهل الكتاب المقدسة عندهم فإنه والحمد لله لا تزال توجد فيها بشارات كثيرة تبشِّر بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وسأكتفي بذكر عشر بشارات:

البشارة الأولى: في سفر التثنية (18/17-18): " قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ".

وهذه البشارة ليست بشارة يوشع عليه السلام كما يزعم أحبار اليهود، ولا بشارة عيسى كما يزعم بعض النصارى، بل هي بشارة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبياً آخر مبشراً به، وكان هذا النبي المبشَّر به عندهم غير المسيح، فلا يكون عيسى ولا يكون يوشع من باب أولى، فإن يوشع خليفة موسى عليه السلام.

ففي إنجيل يوحنا (1/19-20): " وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه: إذاً ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا ".

ثم قال في إنجيل يوحنا (1/25): " فسألوه: وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيلياء ولا النبي ".

ثم في هذه البشارة قال: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك)، ويوشع ليس مثل موسى، بل هو متبع لشريعته، وخليفته على بني إسرائيل من بعده، وعيسى ليس مثل موسى، فإن شريعة موسى مشتملة على الأحكام بخلاف شريعة عيسى كما هو معلوم من الأناجيل المتداولة بينهم.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو صاحب شريعة ناسخة للشرائع السابقة وهو خاتم الأنبياء والمرسلين.

ووقع في هذه البشارة قوله: (من وسط إخوتهم)، والأسباط الاثنا عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده، فلو كان المقصود بالنبي المذكور المبشَّر به أنه منهم لقال: منهم أو من بينهم، ولم يقل: (من وسط إخوتهم)، فالمراد أنه من بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام كما جاء هذا اللفظ في حق إسماعيل في سفر التكوين (6/12) طبعة سنة (1844م): " وقبالة جميع إخوته ينصب المضارع ".

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة (1811م): " بحضرة جميع إخوته يسكن ".

وجاء هذا الاستعمال أيضاً في حق إسماعيل في سفر التكوين (25/18): " منتهى إخوته جميعهم يسكن ".

ويوشع وعيسى عليهما السلام من بني إسرائيل وليسا من إخوتهم، أي: ليسا من بني إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام.

ومما يبين أن هذه البشارة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله فيها: (أجعل كلامي في فمه)، وهذا إشارة إلى أن ذلك النبي المبشَّر به ينزل عليه الوحي ويكون حافظاً له مع كونه أمياً لا يقرأ من كتاب ولا يكتب، وكان ينطق بالوحي.

ويوشع كان عاملاً بالتوراة ولم ينزل عليه كتاب مستقل.

ومما يدل على أن هذه البشارة ليست في عيسى أن نحو هذه البشارة وردت في سفر أعمال الرسل وفيها التفريق بين المسيح وبين هذا النبي، ونص البشارة في كتاب أعمال الرسل (3/19-23) في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1844م): " (19) فتوبوا وارجعوا كي تمحى خطاياكم (20) حتى أن إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب ويرسل المنادي به لكم وهو يسوع المسيح (21) الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كل شيء تكلم به الله على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر (22) إن موسى قال: إن الرب إلهكم يقيم لكم ما يكلمكم به (23) ويكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تهلك من الشعب ".

ونص الآيتين (22و23) في طبعة سنة (1865م) هكذا: " (22) فإن موسى قال للآباء: إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل ما يكلمكم به (23) ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب ".

وانظر كذلك سفر أعمال الرسل (7/37).

فهذه العبارة فيها بشارتان بعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهما، وفيها التصريح بأن المسيح تقبله السماء إلى زمان الذي يظهر فيه هذا النبي.

ومن ترك التعصب من النصارى وتأمل في هذه العبارة ظهر له بطلان ادعاء علماء البروتستانت أن البشارة المذكورة في سفر التثنية (18/17-18) في حق عيسى عليه السلام بل هي في محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد أقر كثير من علماء اليهود بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبشَّرٌ به في التوراة، وأسلم كثير منهم، وبعضهم بقي في الكفر مع اعترافه بأنه الرسول المبشَّر به في التوراة، فعبد الله بن سلام كان أعلم اليهود في المدينة بشهادتهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم وأخبر اليهود بأن محمدا هو النبي الذي يجدونه في التوراة، وقصة إسلامه مشهورة في كتب الحديث والسيرة.

وروت صفية بنت حُيي- وأبوها سيد قومه من اليهود - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً من مكة ذهب إليه أبوها حيي وعمها أبو ياسر فعندما رجعا قال أبو ياسر لحيي: أهو هو؟ أي: المبشَّر به في التوراة، فقال: نعم والله، قال: أتثبته وتعرفه؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عدواته ما بقيت أبداً!! [انظر السيرة النبوية لابن هشام(1/519)].

البشارة الثانية: في سفر التثنية (23/2): " فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم ".

وسعير اسم لجبال فلسطين، وفاران اسم مكة بالعبرانية، فمعنى مجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من سعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلائه من جبل فاران إنزاله القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

والدليل القاطع على أن فاران مكة أن في سفر التكوين (21/20-21) في بيان حال إسماعيل عليه السلام: " وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران ".

ولا شك عند المؤرخين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وعاش في مكة، وهذه البشارة موافقة لقوله تعالى في القرآن الكريم: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)) [التين:1-3]، ففي هذه الآيات إشارة لأماكن بعثة الأنبياء الثلاثة، فالتين والزيتون إشارة إلى أرض فلسطين التي أرسل الله فيها عيسى، وطور سينين هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، والبلد الأمين هو مكة التي بعث الله فيها رسوله محمداً صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وفي التوراة شبه بعثة موسى بمجيء الفجر، وبعثة عيسى بشروق الشمس، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالظهور والاستعلان في كبد السماء، فهو أوضح ممن سبقه وختم جميع الأنبياء، وبه يتم النور على الخلائق ويكتمل دين الله الذي رضيه للعباد.

البشارة الثالثة: في سفر التكوين (17/20): " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً... وأجعله أمة كبيرة " ، فهذه بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يأت من نسل إسماعيل نبي غيره.

البشارة الرابعة: في سفر التكوين (49/10): " فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبَّر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم ".

ولفظ: (الذي له الكل)، ترجمة لفظ: (شيلوه)، كما في طبعة سنة (1865م): " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب ".

وقد اختلفوا في ترجمة هذا اللفظ، ففي قاموس الكتاب المقدس (ص536): وقد حار العلماء في تفسير شيلون وفهم المقصود منه. ا ه.

وسبب حيرتهم هو التعصب الأعمى، ومن أنصف منهم قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وانطباق الآية عليه ظاهر، فإنه لم تجتمع الشعوب إلا إليه، فقد أرسله الله للناس كافة.

البشارة الخامسة: في الزبور (45/47) البشارة بنبي ذكر صفاته ثم قال: " سأذكر اسمك في كل جيل وجيل من أجل أن تعترف لك الشعوب إلى الدهر وإلى الداهرين ".

وهذا الأمر مسلَّم عند أهل الكتاب أن داود عليه السلام يبشر في هذا الزبور بنبي يكون ظهوره بعد زمانه، ولم يظهر إلى هذا الحين عند اليهود نبي يكون موصوفاً بتلك الصفات، ويدعي بعض النصارى أن هذا النبي الموعود هو عيسى عليه السلام، والصواب أنه محمد صلى الله عليه وسلم فقد ذكر صفاته: أنه أفضل البشر، وأنه يكون متقلداً بالسيف ويكون قوياً وتسقط الشعوب تحته، وتأتي له الهدايا، وكون اسمه مذكوراً جيلاً بعد جيل، وكل هذه الأوصاف توجد في محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه ولا تنطبق على عيسى عليه الصلاة والسلام.

البشارة السادسة: في كتاب إشعياء (42/9-13): " أنا مخبر أيضاً بالأحداث قبل أن تحدث وأسمعكم إياها. سبحوا للرب تسبيحة جديدة حمده من أقاصي الأرض راكبين في البحر وملؤه الجزائر وسكانهن. يرتفع البرية ومدنها في البيوت تحل قيدار سبحوا يا سكان الكهف من رءوس الجبال يصيحون. يجعلون للرب كرامة وحمده يخبرون به في الجزائر ".

والتسبيحة الجديدة عبارة عن العبادة على النهج الجديد التي هي في الشريعة المحمدية، وتعميمها على سكان أقاصي الأرض وأهل الجزائر وأهل المدن والبراري إشارة على عموم نبوته صلى الله عليه وسلم، ولفظ (قيدار) أقوى إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمداً من نسل قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، انظر قاموس الكتاب المقدس (ص751).

وقوله: (من رءوس الجبال يصيحون) إشارة إلى العبادة المخصوصة التي يؤديها المسلمون في الحج، حيث يصيح مئات الألوف من الحجاج المسلمين: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

وقوله: (حمده يخبرون به في الجزائر) إشارة إلى الأذان يخبر به الملايين في أقطار العالم حتى في الجزر في خمسة أوقات كل يوم وليلة جهراً يقولون:

الله أكبر الله أكبر... الله أكبر الله أكبر

أشهد أن لا إله إلا الله... أشهد أن لا إله إلا الله

أشهد أن محمداً رسول الله... أشهد أن محمداً رسول الله

حي على الصلاة... حي على الصلاة

حي على الفلاح... حي على الفلاح

الله أكبر الله أكبر

لا إله إلا الله.

البشارة السابعة: في كتاب إشعياء (54/1-5)، (11-13): " ترنمي أيتها العاقر التي لم تلدي، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض؛ لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب. أوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي أطيلي أطنابك وشددي أوتادك. لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أمماً ويعمر مدناً خربة. لا تخافي لأنك لا تخزين.. فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب. أيتها الذليلة المضطربة هأنذا أبني بالإثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفك ياقوتاً وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة ".

فهذه الآيات في وصف مكة، وهي المراد بالعاقر؛ لأنها لم يظهر فيها نبي بعد إسماعيل عليه السلام كما قال الله في القرآن: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)) [السجدة:3]، بخلاف أورشليم فقد ظهر فيها الأنبياء الكثيرون.

ويدل على أنها مكة أنه قال: (لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل) وبنو المستوحشة هم أولاد هاجر؛ لأنها كانت بمنزلة المطلقة المخرجة من البيت ساكنة في البر، ولذلك قال في سفر التكوين (16/11-12): " وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابناً وتدعين اسمه إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع لمذلتك: وإنه يكون إنساناً وحشياً ".

والمراد ببني ذات البعل أولاد سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، فخاطب الله مكة آمراً لها بالتسبيح والتهليل وإنشاد الشكر؛ لأجل أن كثيرين من أولاد هاجر صاروا أفضل من أولاد سارة، وبعث الله فيها محمداً أفضل الأنبياء والمرسلين وهو من أولاد إسماعيل، وحصل لمكة من التعظيم والتوسعة بواسطة هذا النبي ما لم يحصل لغيرها من المعابد في الدنيا، ويبقى هذا التعظيم لمكة إلى آخر الدنيا إن شاء الله كما في هذه البشارة: (لا تخافي لأنك لا تخزين) وقوله: (إحساني لا يزول عنك).

وقوله: (تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمماً ويعمر مدناً خربة) ظاهر في مكة، فإن المسلمين انتشروا شرقاً وغرباً وورثوا الأمم وعمروا المدن.

 

وسلاطين الإسلام سلفاً وخلفاً اجتهدوا اجتهاداً تاماً في بناء الكعبة والمسجد الحرام وتزيينهما وخدمتهما إلى يومنا هذا، والملايين من الناس يصلون إليها في كل سنة من كل فج عميق من أقاليم مختلفة وديار بعيدة.

البشارة الثامنة: في إنجيل متّى (3/2) قول يوحنا المعمدان: " توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ".

وفي إنجيل متّى (4/12،17،23): " ولما سمع يسوع أن يوحنا أُسْلِم انصرف إلى الجليل. من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز [أي: يُبشِّر] ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات. وكان يسوع يطوف كل الجليل يُعلِّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ".

وفي إنجيل متّى (6/10) في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: " ليأت ملكوتك ".

ولما أرسل الحواريين للدعوة وصاهم بوصايا منها قوله: " وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات " كما في إنجيل متّى (10/7).

وفي إنجيل لوقا (10/9): " ويقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله ".

وملكوت السماوات المراد به طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الملكوت لم يظهر في عهد عيسى ولا في عهد الحواريين، بل كل منهم بشَّر به وبيّن قرب مجيئه.

وليس المراد به طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى عليه السلام، وإلا لمَا قالوا: (إن ملكوت السماوات قد اقترب)، ولمَا علّم عيسى تلاميذه أن يقولوا في الصلاة: (وليأت ملكوتك).

فما قاله علماء النصارى بأن المراد به شيوع الملة المسيحية في جميع العالم بعد نزول عيسى تأويل ضعيف خلاف الظاهر، وترده التمثيلات المنقولة عن عيسى عليه السلام، ففي إنجيل متّى (13/31): " يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله".

وفي إنجيل متّى (13/33) وإنجيل لوقا (13/21): " يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع ".

فشبه ملكوت السماوات بحبة خردل وبخميرة، مما يدل على أنه شيء جديد.

وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى كما في إنجيل متّى في الباب الحادي والعشرين: " لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ".

وهذا القول ظاهر جداً على أن المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم كما يدَّعي النصارى تحريفاً لهذه البشارة العظيمة بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وتأمل ما في إنجيل متّى (13/31،32)، وإنجيل مرقس (4/31-32) وإنجيل لوقا (13/18-19): " قدَّم لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله. وهي أصغر جميع البزور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها ".

فملكوت السماوات هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت شجرة عظيمة أحاطت شرقاً وغرباً، وقد ذكر الله في القرآن محمداً وأصحابه فقال: ((وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ)) [الفتح:29].

البشارة التاسعة: في إنجيل متّى (20/1-16): " شبه ملكوت السماوات برجل استأجر عمالاً في الصبح واتفق معهم على دينار في اليوم، ثم خرج نحو الساعة الثالثة فاستأجر عمالاً آخرين، ثم خرج نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك، ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين فاستأجرهم، فلما كان المساء قال لوكيله: ادع العمال وأعطهم الأجرة مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين، فأعطى أصحاب الساعة الحادية عشرة ديناراً ديناراً، فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً فتذمروا، وقالوا: الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا!! فقال لأحدهم: ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار؟! فخذ الذي لك واذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أوَما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟! هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين؛ لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون ".

وهذا المثل مذكور أيضاً في إنجيل مرقس (10/31) وفي إنجيل لوقا (13/30).

فالآخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهم يُقدَّمون في الأجر، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَثَلكم ومَثَل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: مالنا أكثر عملاً وأقل عطاء؟ قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء}([5]).

البشارة العاشرة: في إنجيل يوحنا في آخره (14/15-16): " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد ".

وفي إنجيل يوحنا: (14/26،30): " والفارقليط روح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كلما قلته لكم. والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنوا ".

وفي إنجيل يوحنا (16/7،12،13): " لكني أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم. وإن لي كلاماً كثيرا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن. وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه لا ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي ".

وقد ورد اسم المبشَّر به في طبعات سنة (1821م) وسنة (1823م) وسنة (1831م) وسنة (1844م) بلفظ: فارقليط، وبارقليط، وروح الحق.

وفي طبعة سنة (1825م) وسنة (1826م) بلفظ: المعزّي، وروح الصدق.

وفي طبعة سنة (1816م) الشافع.

وفي طبعة سنة (1865م) وسنة (1970م) وسنة (1971م) وسنة (1976م) وسنة (1983م) وسنة (1985م) بلفظ: المعزي، وروح الحق.

وفي طبعة دار المشرق ببيروت سنة (1982م) بالمطبعة الكاثوليكية بلفظ: المؤيد، وروح الحق.

وقد تقدم أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم أن يترجموا الأسماء غالباً، ومعلوم أن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا اليوناني، وإنجيل يوحنا كتب باليونانية، فلا شك أن يوحنا ترجم اسم المبشر به باللغة اليونانية بحسب عادتهم، ثم مترجمو العربية عرّبوا اللفظ اليوناني بفارقليط، أو المعزي، أو المؤيد، أو روح الحق، أو روح الصدق، أو الشافع.

ولفظ: فارقليط معرّب من اللفظ اليوناني الأصل، ولفظ الأصل: (بيركلوطوس) ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، وادعاء القسيسين أن لفظ الأصل: (باراكلي طوس) بمعنى المعزي لا يضر، فإن التفاوت بين اللفظين يسير جداً، فتبدل بيركلوطوس بباراكلي طوس غير مستعبد، لكن نرجح أن اللفظ الأصل كان (بيركلوطوس) بمعنى محمد أو أحمد؛ لأن الله أخبر في القرآن بأن عيسى بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) [الصف:6].

وبعد هذا نقول: اللفظ العبراني الذي قاله عيسى مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمته، فإن سلمنا للنصارى بأن اللفظ اليوناني كان (باراكلي طوس) كما يدَّعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً؛ لأن معناه المعزي أو الشافع، وهذا يصدق على محمد صلى الله عليه وسلم.

ومما يدل على أن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم أن في إنجيل يوحنا (16/8): " فإذا جاء فهو يوبِّخ العالم ".

فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي وبخ العالم لاسيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلا معاند بحت.

فهذه عشر بشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم منقولة من كتب العهد القديم والجديد المعتبرة عند النصارى، وأما البشارات التي توجد في كتب أخرى ليست معتبرة عندهم فنكتفي بذكر بشارة واحدة صريحة باسم محمد وهي في إنجيل برنابا، ويكفي أنه إنجيل كُتب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفيه ذكر اسمه بلفظه والبشارة به، فما أعظمها من بشارة!!

في إنجيل برنابا (220/19-21): " فلما كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة. وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله. وبعد أن تكلم يسوع بهذا قال: إنك لعادل أيها الرب إلهنا لأن لك وحدك الإكرام والمجد بدون نهاية ".

وفي إنجيل برنابا أيضاً (112/13-17): " فاعلم يا برنابا أنه لأجل هذا يجب عليّ التحفظ وسيبيعني أحد تلاميذي بثلاثين قطعة من نقود. وعليه فإني على يقين مِن أن مَن يبيعني يُقتل باسمي. لأن الله سيصعدني من الأرض وسيُغيِّر منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إياي. ومع ذلك فإنه لمّا يموت شر ميتة أمكث في ذلك العار زمناً طويلاً في العالم. ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة ".

وقد جاء النص الصريح على اسم محمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا في عشرة مواضع منه.

ولا اعتبار لرد النصارى لهذا الإنجيل القديم، فإنه يوجد ذكره في القرن الثاني والثالث الميلادي قبل مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقرون، وفي عام 366م أمر البابا دماسس بعدم مطالعة إنجيل برنابا، وفي عام 382م صدر نفس القرار السابق من مجلس الكنائس الغربية، وفي عام 465م صدر مثله عن البابا أنوسنت، وفي عام 492م حرّم البابا جلاطيوس الأول مطالعة بعض الأناجيل، فكان منها إنجيل برنابا، وقد عُثِر على إنجيل برنابا في مكتبة بلاط فينا باللغة الإيطالية، وتُرجم بعد ذلك إلى كثير من اللغات، وترجمه من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية مترجم نصراني، ويبعد كل البعد أن يكون أحد المسلمين حرّف هذا الإنجيل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المسلمين لم يلتفتوا إلى الأناجيل الأربعة المشهورة فكيف يلتفتون إلى إنجيل برنابا الذي بقي حبيس بعض الكنائس الأوربية إلى أن قدَّر الله العثور عليه ونشره ؟!

فهذه إحدى عشرة بشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفيها كفاية لقوم يتفكرون، قال الله في كتابه الحكيم عن محمد صلى الله عليه وسلم: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [الأعراف:157].


الفصل الثاني
رد شبهات القسيسين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم

الأنبياء معصومون عند المسلمين من كبائر الذنوب، وكذلك من صغائرها على الراجح عند علماء المسلمين، أما اليهود والنصارى فلا ينزهون الأنبياء من كبائر الذنوب، وكتبهم المحرفة مليئة بوصف أنبيائهم بأقبح الأوصاف، وبأقبح الأعمال، ومن ذلك:

1-في سفر التكوين (9/20) أن النبي نوحاً عليه السلام شرب الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه ورآه ابنه عارياً.

2-في سفر التكوين (19/30-38) أن النبي لوطا عليه السلام زنى بابنتيه.

3-في سفر الخروج (32/1-6) أن النبي هارون عليه السلام عبد العجل.

4-في سفر صموئيل الثاني (11/1-27) أن النبي داود عليه السلام زنى بامرأة متزوجة فحملت منه ثم قدّم زوجها في القتال ليُقتل وتزوجها بعده.

5-في سفر الملوك الأول (11/1-13) أن النبي سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد.

وهذه الذنوب المفتراة في التوراة يصدقونها ومع هذا لا تقدح عندهم في نبوة هؤلاء الأنبياء، أفلا يستحيون أن يعترضوا على محمد صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور التي يفهمونها ذنوباً في زعمهم الفاسد وهي لا تقدح في النبوة أصلاً على أصولهم الفاسدة؟! ومع هذا يطيلون ألسنتهم إطالة فاحشة في حق محمد صلى الله عليه وسلم في أمور خفيفة يغالطون بها العوام، ويجعلون الخردلة جبلاً ليوقعوا الجهال في شبهاتهم الباطلة، وسنذكر شبهاتهم الباطلة والجواب عنها بما يزيل الاشتباه عند كل منصف فنقول:

الشبهة الأولى: مطعن الجهاد، وهو من أعظم المطاعن في زعمهم، ويقررونه في رسائلهم بتقريرات عجيبة مموهة منشؤها العناد الصرف، ويخلطون الحق بالباطل ليضلوا الخلق.

والجواب عن هذه الشبهة: أن الله يبغض الكفر والكفار ويجازيهم على كفرهم في الآخرة يقيناً، وكذلك يبغض العصيان، وقد يعاقب الكفار والعصاة في الدنيا قبل الآخرة كما أغرق الكفار في عهد نوح عليه السلام كما في سفر التكوين (7/10-24)، وكما أغرق فرعون وجنده في عهد موسى عليه السلام كما في سفر الخروج (14/21-31)، وكما أهلك قرى قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة من السماء وقلب المدينة كما في سفر التكوين (19/23-29).

وقد يعاقب الله الكفار بجهاد الأنبياء ومتبعيهم، فالجهاد لا يختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على من طالع كتب العهدين، وله شواهد كثيرة نذكر بعضها:

في كتاب التثنية (20/10-17): " وإذا دنوت من القرية ادعهم أولاً بالصلح. فإن قبلت وفتحت لك الأبواب فكل الشعب الذي بها يخلص ويكونوا لك عبيداً يعطوك الجزية. وإن لم ترد تعمل معك عهداً وتبتدي بالقتال معك فقاتلها أنت. وإذا سلَّمها الرب إلهك بيدك اقتل جميع ما بها من جنس الذكر بفم السيف. دون النساء والأطفال والدواب وما كان في القرية غيرهم واقسم للعسكر الغنيمة بأسرها، وكُلْ من سلب أعدائك الذي يعطيك الرب إلهك. وهكذا فافعل بكل القرى البعيدة منك جداً وليست من هذه القرى التي ستأخذها ميراثاً. فأما القرى التي تعطى أنت إياها فلا تستحيي منها نفساً ألبتة. ولكن أهلكهم إهلاكاً كلهم بحد السيف الحيثي والأموري والكنعاني والفرزي والحوايي واليابوسي كما أوصاك الرب إلهك ".

وهذا الشاهد يكفي في جوابهم عن تقريراتهم الواهية، وقد نقله علماء الإسلام سلفاً وخلفاً في مناظرة أهل الكتاب، لكنهم يسكتون عن الجواب عنه وكأنه ليس في التوراة التي بأيديهم!!

وأمثال هذا الشاهد في كتبهم كثيرة، انظر سفر الخروج (23/23-24)، وسفر الخروج أيضاً (34/12،13)، وسفر التثنية (7/1،2،5).

وتأمل ما في سفر العدد (33/51،52،55،56): " مُر بني إسرائيل وقل لهم: إذا عبرتم الأردن وأنتم داخلون أرض كنعان. فأبيدوا كل سكان تلك الأرض واسحقوا مساجدهم واكسروا أصنامهم المنحوتة جميعها واعقروا مذابحها كلها. ثم إن أنتم لم تبيدوا سكان الأرض فالذين يبقون منهم يكونوا لكم كأوتاد في أعينكم وأرماح في أجنابكم ويشقون عليكم في الأرض التي تسكنونها. وما كنت عزمت أني أفعل بهم سأفعله بكم ".

في سفر العدد (25/1-10) أن موسى عليه الصلاة السلام أرسل اثني عشر ألفاً لمحاربة أهل مديان فانتصروا عليهم وقتلوا كل ذكر منهم وخمسة من ملوكهم وسبوا نساءهم وأولادهم ومواشيهم كلها، وأحرقوا القرى والمدائن بالنار، فلما رجعوا منتصرين ومعهم الأسرى من النساء والأطفال غضب موسى لعدم قتلهم النساء. ثم أمرهم أن يقتلوا كل طفل ذكر وكل امرأة ثيبة وأبقوا الأبكار، ففعلوا ما أمرهم، وكانت الأبكار اثنين وثلاثين ألفاً، والغنيمة من الغنم ستمائة وخمسة وسبعين ألفاً، ومن البقر اثنين وسبعين ألفاً، ومن الحمير واحداً وستين ألفاً، وكان لكل مجاهد ما نهب من غير الدواب والإنسان ".

ونحن ننزه موسى عليه الصلاة والسلام أن يأمر بقتل النساء والأطفال، ولكن نثبت لهم من كتبهم أن الجهاد لم يكن مختصاً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل أُمِر به موسى عليه السلام الذي يؤمنون به.

في سفر يشوع من الباب الأول إلى الباب الحادي عشر بيان حروب يوشع بن نون عليه السلام بعد موت موسى، ويتبين منها أنه قتل الملايين من المشركين، وفي (12/1-24) أنه قتل واحداً وثلاثين سلطاناً من الكفار وتسلط بنو إسرائيل على ممالكهم بعد أن أفنوا شعوبهم.

في سفر صموئيل الأول (27/9): " وكان يخرب داود كل الأرض ولم يكن يبقي منهم رجلاً ولا امرأة، ويأخذ الغنم والبقر والحمير والجمال والأمتعة ".

وفي سفر صموئيل الثاني (12/29-31): " فجمع داود جميع الشعب وسار إلى رابه فحارب أهلها وفتحها. والشعب الذي كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير، وكذلك صنع بجميع قرى بني عمون، ورجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم ".

ونحن ننزه داود عليه السلام أن يقتل النساء أو أن يقتل الكفار الأسرى بالمناشير، ولكن ننقل أمثال هذا من الكتاب المقدس عند أهل الكتاب لنكشف شبهة القسيسين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أمر الجهاد، فهذه النقول موجودة في كتبهم المقدسة ولا يجدون مثلها في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يشنعون على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الجهاد وينسون ما في كتبهم من الأشياء الشنيعة التي لا تليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أفلا يستحيون؟!

في إنجيل متى (10/34-36) أن عيسى عليه السلام قال: " لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته ".

فثبت بهذه النقول أن الجهاد كان مشروعا في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ثم لم يشرع في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام وإن كان النقل الأخير يبين أن عيسى لو قدر على الجهاد لفعله؛ لأن الأحكام تختلف بحسب اختلاف المصالح والأزمنة والمكلفين كما أثبتنا ذلك في الباب الثالث من هذا الكتاب بالشواهد الكثيرة التي تثبت النسخ، وقد كان بنو إسرائيل غير مأمورين بالجهاد قبل خروجهم من مصر ثم أُمروا به بعد خروجهم، وعيسى عليه السلام بعد نزوله آخر الزمان يجاهد فيقتل الدجّال وعسكره كما هو مصرح به في رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي (2/8-9)، وفي سفر رؤيا يوحنا (19/20-21).

فلا يجوز لمن يُصدِّق بالنبوة والوحي أن يعترض بالجهاد على شريعة أي نبي من الأنبياء، فجهاد الأنبياء رحمة لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والجهاد أُمِر به المسلمون لحِكَم كثيرة قال الله سبحانه: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة:216]، وهو نوعان: جهاد الدفع، وجهاد الطلب.

فجهاد الدفع يكون لدفع عدوان الكافرين، قال الله تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)) [الحج:39-41].

وجهاد الطلب يكون في حال قوة المسلمين لنشر الإسلام الذي رضيه الله لعباده، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة:123]، وقال سبحانه: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:14-15].

والجهاد أمر الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ولينذرهم من عذاب جهنم التي أعدها الله لأعدائه الكافرين، ويدعوهم إلى الجنة التي أعدها لعباده المؤمنين، وقد أمر الله رسوله بتبليغ ما أنزل إليه من القرآن، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولكن الصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة، والباطل وأهله من جهة أخرى، وهذه سُنَّة إلهية لا تتخلف، ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك.

وقد أمر الله رسوله بقتال الكافرين فقال: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) [الأنفال:38-40]، فأمر الله رسوله أن يقاتل الكافرين حتى لا تكون فتنة، أي: شرك وصد عن سبيل الله، ويكون الدين كله لله، فهذا هو المقصود من الجهاد، أن يدفع شرهم عن دين الله، وأن يُدعى الناس إلى دين الله الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان.

وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فجاهد في الله حق جهاده، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأعمقهم فراسة وتيقظاً، جامعاً بين الحزم والرحمة والحكمة، استطاع بقتاله الكفار أن يفرض الأمن ويبسط السلام ويطفئ نار الفتنة ويكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية.

وقد غيّر أغراض الحروب وأهدافها، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب، والقتل وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعفاء والأطفال، وإهلاك الحرث والنسل؛ إذ صارت الحرب في الإسلام جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة وأغراض سامية وغايات محمودة، فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ليدخلوا في دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وخلقهم ليقوموا به، فإذا أسلموا عرفوا أن قتال المسلمين لهم ما هو إلا علاج لأنفسهم المريضة لتسعد بدين الله، ودواء لقلوبهم الغافلة لتطمئن بذكر الله، ولولا الجهاد في سبيل الله لفسدت الأرض ببقاء الكفر والضلال والظلم والطغيان.

ومن مقاصد الجهاد تخليص الإنسان من نظام الظلم إلى نظام العدل، وتطهير أرض الله من الإثم والعدوان، وبسط الأمن والسلام، ومراعاة الحقوق، وإعطاء كل ذي كل حق حقه، وأعظم ذلك أن يُعطى الخالق حقه فيُعبد وحده ولا يُشرك به شيئاً، فمن أبى أن يعطي الخالق حقه، بل وقاتل من يدعو الناس إلى إعطاء الخالق حقه، وصد الناس عن دين خالقهم وعبادته؛ فهو أظلم الناس، ومن الرحمة بالناس أن يُزال هذا الطاغوت الذي يحول بينهم وبين عبادة خالقهم.

وقد أمر الله رسوله بالغلظة على الكافرين المحاربين لدين الله، المانعين الناس عن توحيد الله فقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [التوبة:73]، وكم حصل من خير عظيم بالجهاد في سبيل الله، ومن أعظم ذلك أن دخل في دين الله من كان يصدهم الكفار المحاربون عن سبيل الله، وينفرونهم عن توحيد الله، من أولادهم ونسائهم ومَن وراءهم، بل وكم دخل في دين الله من الكفار المحاربين أنفسهم عندما جاء نصر الله، وسمعوا كلام الله، ورأوا أخلاق المجاهدين، فآمن بالله كثير منهم ونجوا من النار بفضل الله ثم بسبب الجهاد في سبيل الله.

فجهاد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام لم يكن لأطماع دنيوية، ولا لمنافع مادية، وإنما هو لإعلاء كلمة الله، وإنقاذ الكافرين من عذاب الله.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم يقول: {اغزوا ولا تغلوا – أي: لا تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها- ولا تغدروا ولا تمثِّلوا – أي: بالقتلى من الكفار- ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم}([6]).

وهذه الخصال الثلاث هي:

الإسلام: فيكونون مسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.

الجزية: وهي مال يدفعونه للمسلمين مع بقائهم على دينهم.

القتال: فيقاتلهم المسلمون إن استكبروا عن دين الله وأبوا أن يدفعوا الجزية.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان والأجراء الذين لا يعينون الكفار على قتال المسلمين([7]).

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغدر([8]).

ونهى عن قتل الأسير الكافر إذا أسلم حتى ولو كان يغلب على الظن أنه أسلم خوفاً أن يُقتل([9])، فإذا قال: لا إله إلا الله حرم قتله، ويبقى أسيراً في أيدي المسلمين يرى فيه أمير الجيش رأيه، فما أعظم هذه الكلمة: لا إله إلا الله، تحقن دم الكافر حتى ولو أضر بالمسلمين!!

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في جهاده كثيراً ما يعفو عن الكافرين بعد القدرة عليهم كما في السنة السادسة من الهجرة عندما تسلل ثمانون من الكفار إلى معسكر المسلمين ليغدروا بهم فاعتقلهم المسلمون جميعاً ثم أطلق نبي الرحمة سراحهم وعفا عنهم([10]).

وعندما فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة عفا عن كفار قريش مع قدرته عليهم، وهم الذين أخرجوه من مكة، وحاربوه وقتلوا أصحابه، وطالما ناصبوه العداء وهو في المدينة، ومع هذا عفا عنهم وكانوا ألفين، فما كان منهم إلا أن أسلموا كلهم عندما رأوا هذه الأخلاق العظيمة من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم([11]).

ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تعذيب الناس حتى ولو كانوا من الكفار فقال: {إن الله يعذِّب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا}([12])، وقال عليه الصلاة والسلام: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة}([13]).

ومن أحكام الجهاد في سبيل الله التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أمته أنه لا يقاتَل إلا الكفار المحاربون فقط كما قال الله تعالى: ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [البقرة:190]، أما الكفار المستأمنون والمعاهدون والذميون فلا يُقاتلون.

والمستأمن هو الكافر الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان دون نية الاستيطان، والمعاهد هو من له عهد مع المسلمين إما بأمان من أي مسلم أو هدنة من حاكم، والذمي هو المعاهد الذي أعطي عهداً يأمن به على ماله وعرضه ودينه ويدفع الجزية.

فالذين يقاتلهم المسلمون هم الكفار المحارِبون فقط الذين يصدون الناس عن سبيل الله، ويمنعون المسلمين من تبليغ دين الله، أما من عداهم من المعاهدين والمستأمنين والذميين فإنهم لا يقاتلون، قال الله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة:4]، وقال الله تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)) [التوبة:6]، وقال الله تعالى: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الممتحنة:8].

فالأصل في الكفار غير المحاربين أن يُعاملوا بالحسنى، قال الله تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [العنكبوت:46].

فدين الإسلام هو دين السماحة والرحمة، وهو يسع الناس كلهم، قال الله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)) [البقرة:256]، عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اتق دعوة المظلوم وإن كان كافراً}([14]).

وهذا الحديث الصحيح فيه التحذير من ظلم الكافر في نفسه أو ماله أو عرضه.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما}([15]).

وعن عمر بن الحَمِق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ أمّن رجلاً على ذمة فقتله فأنا بريء من القاتل ولو كان المقتول كافراً}([16]).

وعن أبي بَكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ قتل نفساً معاهدة بغير حِلِّها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها}([17]).

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم}([18]).

وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ألا مَن ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة}([19]).

وهذا الحديث كان مشهورا جداً بين الصحابة والتابعين فقد رواه ثلاثون راوياً من أبناء الصحابة عن آبائهم كما في رواية البيهقي([20]).

وبهذا الجواب يتبين أن الجهاد في سبيل الله ليس مطعناً في النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو قتال بأمر الله لمن لم يعبد الله، جزاءً على ظلمه حيث لم يعبد ربه الذي خلقه لعبادته كما قال الله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، فمن أبى أن يعبد الله الذي خلقه، ولم يؤمن برسوله الذي أرسله، ولم يُصدِّق بكتابه الذي أنزله؛ فإنه في الآخرة من الخاسرين، ويجب أن يكون في الدنيا من الأذلين، قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [المجادلة:20-21].

فيجب على المخلوق أن يؤدي حق الله كما يجب عليه أن يؤدي حق عباد الله، فكما تجب عليه طاعة والديه وطاعة مديره وطاعة أميره فكذلك يجب عليه طاعة خالقه سبحانه، وكما يستحق الإنسان العقوبة على ترك طاعة والديه أو مديره أو أميره فكذلك من بابٍ أولى يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة على ترك طاعة خالقه جل جلاله، قال الله سبحانه: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:14-15].

فهدف الجهاد هو إعلاء كلمة الله وإظهار دين الله، ولهذا فالإسلام لا يبيح القتال لغايات عدوانية، أو مقاصد مادية، أو لسيادة عنصر على عُنصر، أو شعب على شعب، أو توسيع رقعة مملكة أو مكاسب اقتصادية أو أسواق تجارية مما تتخذه الدول القوية قديماً وحديثاً وسيلة لإشعال الحروب، فغاية الجهاد في الإسلام مبادئ كريمة يعم نفعها الناس جميعاً في الدنيا والآخرة.

الشبهة الثانية: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم للغنائم والجزية من الكفار.

والجواب عن هذه الشبهة: أن الغنائم أمر طبيعي في الحروب القديمة والحديثة، فالمنتصر يأخذ ما وجد من غنائم المنهزم، ولكن الشأن في مشروعية ذلك القتال، هل هو بحق أو أنه بغي وعدوان؟

وكما أذن الله للمسلمين في قتال أعدائه فقد أحل لهم الغنائم التي يأخذونها منهم عند قتالهم، قال الله تعالى: ((فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الأنفال:69]، والغنائم التي يستولي عليها المجاهدون ليست كلها لهم، فقد جعل الله فيها حظاً لغيرهم فقال تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الأنفال:41].

فأربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وخُمس الغنيمة يُصرف في مصالح المسلمين، ولقرابة النبي عليه الصلاة والسلام ولليتامى وللمساكين وابن السبيل.

وقرابة النبي عليه الصلاة والسلام يُعطَون من خمس الغنيمة إكراماً لهم ولأنهم لا تحل لهم الزكاة التي تصرف لغيرهم من الفقراء ويُمنعون منها، فإن الزكاة لا تحل للنبي ولا لأهل بيته.

والغنائم إنما تحل من الكفار المحاربين لدين الله، وهم إذا انتصروا على المسلمين يأخذون الغنائم التي يقدرون عليها، فكيف لا يأخذ المسلمون الغنائم إذا انتصروا عليهم؟!

وأما الكفار المسالمون فلا يحل قتالهم أصلاً، ولكن تؤخذ منهم الجزية وهي جزء من المال يؤخذ منهم كل سنة مقابل حماية المسلمين لهم وإقرارهم في بلادهم آمنين.

وقد تبين أن الله أمر المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الذين كفروا به، وأعرضوا عن دينه الذي ارتضاه لعباده، وكذبوا رسوله وكتابه وصدوا الناس عن اتباع سبيله، فإن لم يقاتِلوا المسلمين، وخلّوا بينهم وبين الدعوة إلى دين الله، فإن المسلمين لا يقاتلونهم، ولا يُكرِهونهم على الدخول في الإسلام، ولكن عليهم أن يدفعوا جزية تقابل ما يدفعه المسلمون من زكاة، ولهم أن يعيشوا في ظل دولة المسلمين آمنين في حياتهم، ولكن لهم الويل من الله بعد موتهم، حيث كفروا بالله ربهم، واستكبروا عن قبول دين خالقهم.

هذا والجزية تدعوهم إلى أن يفكروا في الدخول في الإسلام ليرفعوا عن أنفسهم هذه الذلة بدفع الجزية، وفي الإسلام عزهم في الدنيا والآخرة، فدفع الجزية فيه حِكَم عظيمة ومصالح عديدة.

والجزية لا تكون إلا على من يطيق القتال، فلا جزية على صبي ولا على امرأة ولا على فقير يعجز عنها، وهذا من عدل الإسلام ورحمته بالمخالفين.

الشبهة الثالثة: إباحة الرق والتسري.

الجواب: أن الأصل في الإنسان الحرية، والرق أمر طارئ، وهو نظام قديم قِدَم المظالم والاستعباد، وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين، وفي الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال، وفي بعض الحضارات كالفرعونية والفارسية كان النظام الطبقي يحول دون تحرير الأرقاء، وفي الحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية، وكانت الأغلبية في الإمبراطورية أرقاء أو في حكم الأرقاء.

وعندما ظهر الإسلام كانت للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقي والطبقي منابع وروافد عديدة تزيد كل يوم في الأرقاء مثل:

الحرب، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء.

الخطف للأحرار وبيعهم ظلما.

النسل المولود من الأرقاء يكون رقيقاً.

وأمام هذا الواقع اتخذ الإسلام طريق الإصلاح في قضية الرق، فحرم الإسلام كل أسباب الرق المحرمة التي بغير حق كالخطف وبيع الأحرار، وفتح أمام الأسرى باب العتق والحرية: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) [محمد:4]، وسعى الإسلام إلى تحرير العبيد، فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعاً، كما جعل الإسلام عتق الأرقاء كفارة كثيرة من الذنوب والخطايا ككفارة قتل الخطأ وكفارة اليمين والظهار وغير ذلك، وجعل للدولة مدخلاً في تحرير الأرقاء، حيث جعل من مصارف الزكاة تحرير الرقاب، وجعل الحرية هي الأصل التي يولد عليها الناس، فمجهولو الحال يكونون أحراراً كاللقطاء.

وشرع الله للرقيق شراء أنفسهم بنظام المكاتبة، قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)) [النور:33]، وهذا باب عظيم جداً للحرية فتحه الإسلام على مصراعيه، فكل رقيق من عبد أو أمة يحب أن يحرر نفسه، فإن الله أمر سيده أن يجيبه إلى طلبه إن علم منه خيراً، بل وأمر سيده أن يؤتيه من مال الله الذي آتاه، فأي تسهيل لتحرير العبيد بعد هذا التسهيل؟!

وقد سبق الإسلام الحضارة الغربية الحديثة التي تزعمت في العصر الحديث الدعوة إلى تحرير الأرقاء، بعد أن استعبد المستعمرون الأسبان والبرتغال والإنجليز والفرنسيون سكان أمريكا الأصليين، ومارسوا أكبر أعمال القرصنة والخطف في تاريخ البشرية، حيث استعبدوا أكثر من أربعين مليوناً من زنوج أفريقيا، وسلسلوهم بالحديد، وشحنوهم في سفن الحيوانات؛ لتقوم على دمائهم وعظامهم المزارع والمصانع والمناجم، ولا يزال أحفادهم يعانون من التفرقة العنصرية في الغرب إلى الآن كما هو معلوم.

وعندما سعت أوربا في القرن التاسع عشر إلى إلغاء الرق وتحريم تجارته؛ كانت دوافعها في أغلبها مادية، وفي ذلك القرن الذي دعت فيه أوربا لتحرير الرقيق استعمرت العالم، فاسترقت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقاً جديداً، ولا تزال الإنسانية تعاني منه حتى الآن.

هذا ما يتعلق بالرق، وأما التسري فهو اتخاذ مالك الأمة منها سرية يعاشرها معاشرة الأزواج، ولم يكن الرق والتسري تشريعاً إسلامياً مبتكراً، وإنما كان موروثاً اجتماعياً واقتصادياً إنسانياً، ذاع وشاع في كل الحضارات عبر التاريخ، وكان التسري فرعاً من فروع الرق.

وفي المأثورات التاريخية أن إبراهيم عليه السلام تسرى بهاجر المصرية أم إسماعيل عليه السلام، وأن نبي الله سليمان تسرى بثلاثمائة سرية، وهذا لا ينكره أهل الكتاب لأنه في كتبهم المقدسة، انظر سفر التكوين (12/16) وسفر الملوك الأول (11/3).

وكما شاع التسري عند العرب والعجم قبل الإسلام، فقد مارسه بعد الإسلام المسلمون وغير المسلمين.

ولقد وضع الإسلام للتسري ضوابط شرعية، وجعل الغرض من التسري ليس مجرد إشباع غرائز الرجل، وإنما أيضاً الارتفاع بالأمة إلى ما يقرب كثيراً من رتبة الزوجة الحرة، ومن المقاصد الشرعية من التسري تحقيق الإحصان والتعفف للرجل والمرأة وثبوت النسب لأولادهن.

بل جعل الإسلام من نظام التسري سبيلاً عظيماً لتحقيق مزيد من الحرية للأرقاء، فأولاد السرية يولدون أحراراً، وبمجرد أن تلد ترتفع إلى مرتبة (أم ولد)، ثم تصبح كاملة الحرية بعد وفاة والد أولادها الذي تسرَّى بها.

الشبهة الرابعة: قالوا: من شروط النبوة ظهور المعجزات على يد من يدعيها، ولم تظهر معجزة على يد محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله في القرآن: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)) [الأنعام:109]، وقال الله تعالى: ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)) [الإسراء:90-93].

والجواب: أن هذه الشبهة فيها مغالطات كثيرة، فصدور المعجزة ليس من شروط النبوة كما هو مقرر في الإنجيل، ففي إنجيل يوحنا (10/41): " فأتى إليه كثيرون وقالوا: إن يوحنا لم يفعل آية واحدة ".

ومع ذلك فإن يوحنا نبي عندهم كما في إنجيل متّى (11/26): " يوحنا عند الجميع نبي".

فيوحنا لم تصدر عنه معجزة من المعجزات مع أن نبوته مسلَّمة عند النصارى.

وأما قولهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم تظهر معجزة على يده فهذا مكابرة، وقد ذكرنا في الفصل الثالث من الباب السادس كثيراً من معجزاته، بل هو أكثر الأنبياء معجزة.

وأما استدلالهم بالقرآن على أنه لم يُظهِر معجزة فغلط، فالمقصود بتلك الآيات نفي المعجزة المقترحة، ولا يلزم من هذا النفي نفي المعجزات مطلقاً، ولا يلزم على الأنبياء أن يظهروا معجزة كلما طلبها المنكرون لنبوتهم، بل هم غالباً لا يُظهرون معجزة لأولئك المنكرين إذا طلبوها عناداً أو امتحاناً أو استهزاءً، والدليل على هذا نذكره من الإنجيل، ففي إنجيل مرقس (8/11-12): " فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه. فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم: لن يُعطى هذا الجيل آية ".

وورد مثله في إنجيل متّى (12/38) وإنجيل لوقا (11/16) وإنجيل يوحنا (6/30).

وفي إنجيل متّى (4/3-7): " فتقدم إليه المجرِّب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً. فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل. وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل؛ لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجرٍ رجلك. قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرِّب الرب إلهك ".

وبهذا الجواب تتهافت هذه الشبهة كغيرها من شبهات المبطلين.

الشبهة الخامسة: قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان مذنباً، وكل مذنب لا يصح أن يكون شافعاً للمذنبين يوم القيامة، فقد أمره الله في القرآن أن يستغفر لذنبه، وأخبر أنه غفر ذنوبه، وفي الأحاديث أنه كان يستغفر من ذنوبه.

والجواب عن هذه الشبهة أن نقول:

تقدم في أول الفصل الثاني من الباب السادس أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها، وأن اليهود والنصارى لا ينزهون الأنبياء عن كبائر الذنوب والفواحش، وذكرنا شواهده بما نستحي أن نعيد ذكره هنا؛ لأنه كذب على الأنبياء وافتراء، ولكنهم يصدقونها في حق الأنبياء ومع ذلك لم تقدح في نبوة أنبيائهم، وهذا الجواب المجمل يكفي لإسكاتهم ولكننا نبين الجواب بالتفصيل فنقول:

أفعال الأنبياء وأقوالهم كثيراً ما تكون لتعليم الأمة لتقتدي بهم، وفي إنجيل متّى (6/12-13) في الصلاة التي علَّمها عيسى عليه الصلاة والسلام تلاميذه هكذا: " واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير ".

والظاهر أن عيسى عليه السلام كان يصلي تلك الصلاة التي علَّمها تلاميذه، والعصمة من الذنوب وإن لم تكن من شروط النبوة عند النصارى إلا أنهم يثبتونها لعيسى لكونهم يزعمون أنه إلههم، فجوابهم عن استغفار عيسى هو جوابنا عن استغفار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما معصوم عندنا وعندهم.

فإن عجزوا عن الجواب فنقول لهم: إن لفظ الذنب إذا استُعمل في حق الأنبياء يكون بمعنى خلاف الأولى، فقد يقصد النبي المعصوم عبادة أو أمراً مباحاً ويقع بلا تعمد في زلة لمجاورة هذه العبادة أو الأمر المباح بهذه الزلة، وهي تكون خلاف الأولى، وحاشا الأنبياء أن يتعمدوا معصية الله، فهم الذين اصطفاهم الله من بين خلقه لهدايتهم، وما يُذكر من ذنوب لهم فهي إما افتراء عليهم أو وقعت قبل نبوتهم كمعصية آدم بأكله من الشجرة، ومعصية موسى بقتله القبطي مع كونه لم يتعمد قتله بل أراد أن يُخلِّص الإسرائيلي من القبطي حين استغاثه، فوكزه موسى فقضى عليه، ومن كمال عبادة الأنبياء لله وخشيتهم منه أن يستغفروا من ذنوبهم التي وقعت لهم قبل إكرام الله لهم بالنبوة، وقد يكون الذنب منهم بتأويل ككذبات إبراهيم الثلاث عندما كسر أصنام قومه وترك كبيرها فلما سألوه قال: ((فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)) [الأنبياء:63]، وقوله لقومه عندما أرادوا الذهاب إلى عيدهم: ((إِنِّي سَقِيمٌ)) [الصافات:89]، وقوله عن زوجته سارة: إنها أختي؛ خوفاً على نفسه من الجبّار، ونحو ذلك مما يكون النبي عليه الصلاة والسلام فيه معذوراً، ومع هذا يستغفر ربه من ذلك.

والدعاء بالمغفرة كما يكون لتعليم الأمة، وكما يكون للذنوب التي هي خلاف الأولى، قد يكون كذلك لمحض التعبد لله كما في قوله تعالى: ((رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)) [آل عمران:194]، فإن الله سيؤتي المؤمنين ما وعدهم على ألسنة رسله ولابد، ومع ذلك طلبوه من الله، وكقوله تعالى مُعلِّماً نبيه أن يقول: ((رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)) [الأنبياء:112]، مع أنه يعلم أنه لا يحكم إلا بالحق.

وقال بعض العلماء: الاستغفار هو طلب الغفران، والغفران هو الستر على القبيح، وهذا الستر نوعان:

الأول: بالعصمة منه، وعليه يحمل استغفار النبي صلى الله عليه وسلم، وإخبار الله بأنه قد غفر له بمعنى عصمه.

الثاني: بالستر بعد الوجود، وهذا هو المطلوب من استغفار المؤمنين.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان أرفع الخلق عند الله درجة، وأتمهم معرفة بربه، كان يُقبِل على ربه بجميع قلبه ويرى أن شغله بما سواه – وإن كان ضرورياً - نقصاً فيما يجب عليه لربه، فكان يستغفر الله من ذلك طلباً للمقام الأعلى كما قال عليه الصلاة والسلام: {إنه لَيَغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرة}.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: {غفرانك}.

قال بعض العلماء: سبب استغفاره بعد خروجه من الخلاء أنه لم يذكر الله حال قضاء حاجته، فعدَّ ذلك نقصاً فعندما خرج استغفر لذنبه!

وقيل: استغفر الله لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بتسهيل قضاء حاجته.

ثم إن قولهم: إن المذنب لا يكون شفيعاً للمذنبين يوم القيامة لا دليل عليه، بل التائب من الذنب كمن لا ذنب له كما أخبر بذلك نبينا نبي التوبة صلى الله عليه وسلم.

الشبهة السادسة والأخيرة: طعنهم في رسول الله بسبب زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقالوا: إن المسلمين لا يجوز لهم أزيد من أربع زوجات، ومحمد صلى الله عليه وسلم تزوج تسعاً.

وقالوا: والمسلمون يجب عليهم العدل بين زوجاتهم، وأظهر حكم الله في حقه أن هذا العدل ليس واجباً عليه.

وقالوا: ولما دخل بيت زيد بن حارثة فرأى زوجته زينب بنت جحش فوقعت في نفسه، فطلقها زيد فتزوجها النبي محمد، وأظهر أن الله أجاز له أن يتزوجها.

وقالوا: إنه جامع أمته مارية القبطية في بيت زوجته حفصة في نوبتها فغضبت حفصة؛ فحرَّم محمد صلى الله عليه وسلم مارية على نفسه إرضاء لزوجته، ثم لم يقدر أن يبقى على هذا التحريم فأظهر أن الله أجازه لإبطال اليمين بأداء الكفارة.

وقالوا: إنه يُجوِّز في حق المسلمين إن مات أحد منهم أن يتزوج الآخر زوجته بعد انقضاء عدتها، وأظهر حكم الله في حقه أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج زوجة من زوجاته بعد مماته.

هذه الوجوه الخمسة في الشبهة الأخيرة هي منتهى جهدهم في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار النساء، وتوجد هذه الوجوه في أكثر رسائلهم التي يطعنون فيها في دين الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم.

والجواب عن هذه الشبهة يظهر بأمور:

أن تزوج أكثر من امرأة كان جائزاً في الشرائع السابقة، ففي كتب أهل الكتاب أن داود عليه السلام تزوج نساء كثيرات كما في سفر صموئيل الثاني (5/13)، وسليمان عليه السلام كان له ألف امرأة سبعمائة من الحرائر وثلاثمائة من الجواري كما في سفر الملوك الأول (11/1-10) وتأمل ما في سفر التثنية (11/10-12): " وإذا خرجت إلى القتال مع أعدائك وأسلمهم الرب إلهك في يدك وسبيتهم. ورأيت في جملة المسبين امرأة حسنة وأحببتها وأردت أن تتخذها لك امرأة فأدخلها إلى بيتك...." إلخ.

الصحيح في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها وهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت زوجة لزيد بن حارثة رضي الله عنه، الذي تبناه النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وكان يُدعى زيد بن محمد، وكانت زينب تفخر على زيد لكونها قرشية وهو مولى، فأراد زيد أن يطلقها فنهاه النبي عن تطليقها، وأمره بإمساكها، ثم طلقها زيد، وزوّج الله نبيه بها ليبطل عادة التبني التي كانت منتشرة في الجاهلية، ويدعون أن الولد بالتبني كالولد من الصلب لا يجوز الزواج بزوجته، قال الله سبحانه: ((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) [الأحزاب:37-40].

الأحكام الشرعية لا يجب أن تكون متحدة في جميع الشرائع، أو مطابقة لعادات الأقوام وآرائهم، فنكاح زوجة المتبنى بعد الطلاق كان قبيحاً عند مشركي العرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى من طعن المشركين في نكاحه زينب ولم يكن يريد الزواج بها، فلما أمره الله بالتزوج بها، بل وزوّجه بها من فوق سبع سماوات لبيان الشريعة، وإبطال عادة الجاهلية؛ لم يبال النبي صلى الله عليه وسلم بعادة المشركين، وتزوجها ولم يخش لومة لائم.

من الأيمان تحريم الأمة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: حرّمت مارية على نفسي، تعتبر يميناً، وقد شرع الله لليمين الكفارة، وعاتب الله نبيه على تحريمه الأمة إرضاء لزوجته، ولم يُخفِ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي عاتبه الله فيها، بل أظهرها وبلَّغ ما أوحى الله إليه، قال الله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهو العَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [التحريم:1-2]، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرّم الأمة على نفسه، فلما عاتبه الله على ذلك رجع إلى تحليلها، وأطاع أمر الله، ولم يُخفِ عتاب الله له؛ فهذه منقبة له.

الله يَخُص مَن يشاء من الأنبياء بما شاء، ففي كتب أهل الكتاب أن الله خص هارون وأولاده بأمور كثيرة مثل خدمة قُبّة الشهادة وما يتعلق بها، وقد خص الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بجواز نكاح أكثر من أربع وغير ذلك،كما قال في القرآن: ((خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) [الأحزاب:50].

كان للنبي صلى الله عليه وسلم في مختلف مراحل حياته إحدى عشرة امرأة، واجتمع منهن تسع في آخر حياته، وتوفيت اثنتان في حياته، وأكثرهن تزوج بهن رحمة لهن، وكلهن كن ثيبات قد تزوجن قبله سوى واحدة فقط تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهي بكر، وهي عائشة رضي الله عنها.

وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أكثر من زوجة إنما كان في آخر حياته، بعد أن قضى ما يقارب من ثلاثين عاماً من ريعان شبابه مقتصراً على زوجة واحدة تكبره في السن وهي خديجة رضي الله عنها.

وزواجه صلى الله عليه وسلم بهذا العدد الكثير من النساء إنما هو لأغراض عظيمة، فقد تزوج بعائشة وحفصة ابنتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما زوَّج النبي عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان بابنته رقية وبعد وموتها زوّجه بابنته أم كلثوم رضي الله عنهما، وزوج عليا بابنته فاطمة رضي الله عنها.

وهؤلاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي هم أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهم خلفاء الرسول بعد موته، فأراد النبي بمصاهرتهم توثيق الصِّلات بهم، وكان من عادة العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم باباً من أبواب التقرب من القبائل المختلفة، وكانوا يرون محاربة الأصهار عاراً على أنفسهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر شدة عداء القبائل للإسلام، وذلك حينما يرونه قد تزوج من قبائلهم، ومن بنات أعمامهم وأرحامهم.

كذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام مأموراً بتعليم المسلمين وتزكيتهم رجالاً ونساء، فتزوَّج النبي عليه الصلاة والسلام من النساء ما يكفي لتربية نساء المؤمنين العجائز منهن والشابات والصغيرات، فيكفينه مؤنة تعليم النساء وتزكيتهن.

وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياتها منهن كعائشة رضي الله عنها، فقد روت للمسلمين أكثر من ألفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وأحواله.

وفيما يلي ذكرٌ موجَز لزوجاته صلى الله عليه وسلم:

خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة وعمره 25 سنة، وكان عمرها حين تزوج بها 40 سنة، وهي أول زوجاته، وجميع أولاده منها سوى إبراهيم، ولدت له القاسم وعبد الله وماتا وهما صغيران، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن، ولم يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام عليها امرأة أخرى حتى توفيت قبل الهجرة وعمرها 65 سنة، وكان عمره حين وفاتها 50 عاماً.

سودة بنت زمعة رضي الله عنها، تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام بعد وفاة خديجة بنحو شهر وكان بإمكانه أن يتزوج غيرها من الأبكار، ولكنه رحِمَها حيث كانت ممن هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فمات عنها، فصارت وحيدة لا زوج لها يحفظها، ولا عشيرة تحميها، حيث كان أقاربها مشركين، فتزوجها نبي الرحمة.

عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها، اختارها الله زوجة لنبيه عليه الصلاة والسلام وهي مازالت طفلة، ففي الحديث الصحيح عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال، جاءني بكِ الملَك في سَرَقة من حرير – أي قِطعة - فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك، فإذا أنتِ هي، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه}([21]).

عقد النبي عليها من أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد زواجه بسودة بسنة، وكانت بنت ست سنين فقط، ولم يدخل بها لصِغَر سِنِّها، ولما بلغت تسع سنين واحتملت أن يدخل بها دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر.

حفصة بنت عمر رضي الله عنها، مات زوجها بسبب جرح أصابه في غزوة بدر، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة (3ه) رحمة بها وحباً في مصاهرة أبيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها، استشهد زوجها في غزوة أحد، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام سنة (4ه) رحمة بها، وقد توفيت بعد زواجها بالنبي بثلاثة أشهر.

أم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها، توفي زوجها سنة (4ه) متأثراً بجراح من غزوة أحد، فحزنت عليه حزناً عظيماً، وكان لها أولاد منه، فتزوجها نبي الرحمة في تلك السنة، وجعل أولادها في رعايته عليه الصلاة والسلام.

زينب بنت جحش رضي الله عنها، تزوجت بزيد بن حارثة الذي كان يُدعى في الجاهلية زيد بن محمد، حيث تبناه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فطلقها زيد، وكان أهل الجاهلية يرون تحريم زوجة المتبنى على أبيه المتبني مثل تحريم زوجة الابن من الصلب، فلما انقضت عدتها من زيد سنة (5ه) زوّجها الله بالنبي عليه الصلاة والسلام لإبطال التبني، وقد شق ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام خشية من ألسنة الناس، فعاتبه الله على ذلك في القرآن الكريم كما تقدم.

جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، سباها المسلمون في غزوة بني المصطلق سنة (6ه) وكانت بنت سيد بني المصطلق، فأعتقها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام؛ فأعتق المسلمون جميع السبي الذي استولوا عليه في تلك الغزوة، وهم مائة أهل بيت، وقالوا: أصهار رسول الله، فكانت أعظم النساء بركة على قومها، ثم أسلم قومها عندما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بنت سيدهم، ورأوا المسلمين قد أعتقوا السبي الذي أخذوا؛ فكان زواجه صلى الله عليه وسلم بها رحمة عظيمة لها ولقومها.

أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، أبوها قائد مشركي قريش في غزوة أحد وسيدهم، أسلمت من بين أهلها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ومات زوجها وصارت في بلاد الحبشة غريبة وحيدة لا تدري أين تذهب، وماذا تفعل؛ ولكن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم جبر كسرها، ومسح دمعتها، وآنس وحشتها، فتزوجها وهي في الحبشة وجاءت إلى المدينة ودخل بها عليه الصلاة والسلام سنة (7ه)، وانكسرت شدة عداء أبيها للإسلام عندما عَلِم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج ابنته، ثم إن أباها أسلم وجميع أهلها سنة (8ه).

10- صفية بنت حُيي بن أخطب رضي الله عنها، وأبوها كان سيد بني النضير، وكان ألد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، وقد قُتل في غزوة بني قريظة وسُبيت صفية في غزوة خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها نبي الرحمة وتزوجها وذلك بعد فتح خيبر سنة (7ه).

11- ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها، كانت امرأة ثيباً من المستضعفين المؤمنين الذين في مكة بين ظهراني كفار قريش، فلما اعتمر نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام سنة (7ه) بحسب الصلح الذي جرى بينه وبين كفار قريش تزوجها، وأخرجها من بين الكفار إلى المدينة.

وكان للنبي صلى الله عليه وسلم سريَّتان أي: أمتان هما:

مارية القبطية رضي الله عنها، أهداها للنبي المقوقس ملك مصر سنة (7ه)، وقد ولدت للنبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم الذي توفي صغيراً.

ريحانة القرظية رضي الله عنها، وكانت من سبي بني قريظة من اليهود، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه.

فتبين مما سبق أن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين لم يكن لمصلحته الشخصية، وإنما كان لأغراض أخرى أعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج، وزواجه بأكثرهن كان رحمة بهن، وجبراً لخواطرهن، وإحساناً إليهن، وقد كانت عشرته صلى الله عليه وسلم بزوجاته في غاية الحسن والعدل والإحسان كما هو معلوم في سيرته، بالرغم من كثرة مشاغله، وعظم مناصبه، وتعدد أعماله، وكان يقول: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي}([22]).

7- الشريعة الإسلامية تبيح تعدد الزوجات بشرط أن يعلم الزوج من نفسه القدرة على العدل بينهن، فإن كان يعلم أنه لا يستطيع العدل بينهن أو يخشى أن لا يعدل بينهن فلا يجوز له أن يتزوج غير امرأة واحدة، ولا يأمر الإسلام كل مسلم أن يتزوج بأكثر من واحدة مطلقاً، قال الله تعالى: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)) [النساء:3].

والشريعة الإسلامية تُحرِّم الزنا وتعاقب عليه أشد العقاب، ولاشك أن منع تعدد الزوجات يدفع الناس إلى الزنا لاسيما النساء، فإن عدد النساء في العالم يزيد على عدد الرجال، ويزداد الفرق بينهما كلما نشبت الحروب وتعددت، فمنع كل الرجال من الزواج إلا بامرأة فقط يؤدي ولابد إلى بقاء عدد كبير جداً من النساء بلا زواج، وحرمان المرأة من الزواج مع استعدادها له معناه أن تجاهد المرأة طبيعتها، وهو جهاد ينتهي غالباً بالفشل والاستسلام، وإباحة الأعراض والرضا بالسفاح.

وكذلك فإن الرجل والمرأة مختلفان من حيث استعدادهما للجماع، فالمرأة ليست مستعدة في كل وقت للجماع؛ لأنها تحيض في كل شهر مرة، ولا يجوز جماعها حال الحيض، ويحرم جماعها مدة النفاس وقد تصل إلى أربعين يوماً غالباً، وكذلك شهوة المرأة تضعف طول فترة الحمل أو على الأقل مدة الإثقال بالحمل، ثم إن المرأة تصل إلى سن اليأس في الخمسين من عمرها غالباً، فلا تعد صالحة للحمل بعده، وتضعف شهوتها حينها، أما الرجل فاستعداده للجماع واحد، لا يختلف باختلاف أيام الشهر والسنة، وتستمر شهوته إلى سن متأخرة، فإذا مُنع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة فمعنى هذا حمل الكثيرين من الرجال على الزنا؛ لأن كثيراً من الرجال لا يستطيعون أن يكبتوا غرائزهم الجنسية أيام الحيض والنفاس والإثقال بالحمل وبعد يأس المرأة.

والشريعة تقدِّر قوة الغرائز الجنسية حق قدرها، فلم تُعرِّض الرجل أو المرأة لامتحان إن نجح فيه العشرات من الناس سقط فيه الألوف.

والشريعة لم تفرض على الرجل أن يتزوج امرأة واحدة فقط حتى لا تحكم على كثير من النساء بالبقاء عوانس مدى الحياة، يتمنين الرجل فلا يحصلن عليه من طريق الحلال، ويحلمن بالأولاد والأسرة ولا سبيل إلى تحقيق حلمهن، ويقاومن الغرائز الجنسية فلا تعود عليهن المقاومة إلا بضعف الصحة والعقل، وربما تضعف المرأة فتخسر الشرف والعفة، وتصاب بالأمراض النفسية والجنسية.

والزواج شُرع للتناسل وتكوين الأسرة، فإن تزوج الرجل امرأة عقيما ومُنع أن يتزوج غيرها فقد تعطلت وظائفه الجنسية عن أداء الغرض الذي خُلقت له، وتعطل الغرض من الزواج نفسه.

فالشريعة الإسلامية أباحت تعدد الزوجات لرفع الضرر، ورفع الحرج، ولتحقيق المساواة بين النساء، فالتعدد رحمة بالنساء قبل الرجال، ولكن أكثر النساء لا يعلمن بذلك إلا إذا كانت المرأة عانساً أو مطلقة أو أرملة فإنها حينئذ تعلم حكمة الشريعة في إباحة التعدد، وتتمنى أن يتزوجها رجل ولو كان متزوجاً، فذلك خير لها من أن تعيش بمفردها بلا زوج يعفها وينفق عليها ويرعاها ويقوم بأمورها.

والشريعة الإسلامية حددت التعدد بأربع، ولم تجعله مطلقاً كما كان في الجاهلية، وأباحت هذا التعدد لترفع مستوى أخلاق المجتمع، وتنقذه من شيوع الفاحشة من قِبل الرجال والنساء.

هذا وإنه لا حل لمشكلة العنوسة أبداً إلا بإباحة التعدد بضوابطه الشرعية: ((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50].

وبسبب زيادة النساء على الرجال، وعدم انتشار تعدد الزوجات؛ انتشرت الفواحش المنتنة في المجتمعات المتفسخة، وأصبح لكثير من الرجال الفسقة عدد من الخليلات يشاركن زوجته في رجولته وعطفه وماله، بل قد يكون لإحداهن من هذه الأمور أكثر من نصيب زوجته.

وانتشر الزنا وما يترتب عليه من أمراض جنسية ونفسية، وجنايات عظيمة مثل الاغتصاب وكثرة أبناء السفاح الذين يُرمون في الشوارع بلا رحمة، وكثُر الإجهاض وقتل الأجنة في بطون الأمهات، وقلة النسل قلة ظاهرة في تلك المجتمعات الإباحية.

وتعدد الزوجات هو العلاج الطبيعي الوحيد لهذه الظواهر والأمراض الاجتماعية الخطيرة.

وبعد هذا البيان في كشف شبهات القسيسين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم يتبين لكل منصف أن أي قول في القدح في النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو قول باطل عاطل، وأي شبهة في الإسلام أو القرآن أو السنة فهي شبهة فاسدة كاسدة.


الخاتمة

أيها الباحث عن الحقيقة قد بيَّن لك هذا الكتاب حقيقة عقيدة النصارى الضالين، وأثبت تحريف كتب اليهود والنصارى، وكشف شبهات المبطلين على الإسلام والقرآن والسنة والنبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي أرسله الله رحمة للعالمين.

فيا أيها العاقل كن منصفاً واترك التعصب للباطل، واحذر من اتباع الهوى فتضل عن سبيل الله، والله خلقك ولم تكن شيئا لتعبده بما شرعه، وأمرك باتباع الحق وترك الباطل، فلا تقدم الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، وأنت لا تدري كم بقي من عمرك، فسارع إلى الحق تُفلح في الدنيا والآخرة، والله يحب التوابين، ومن تاب وآمن وعمل الصالحات يدخله الله الجنة خالدا فيها أبدا، ومن أصر على الكفر بالله والتكذيب بالقرآن ولم يؤمن بمحمد رسول الله خاتم النبيين فله نار جهنم خالدا فيها أبدا.

وأختم كتابي بقول الله سبحانه وتعالى: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:64].

 

وكتبه/ محمد بن علي بن جميل المطري

Matari63@hotmail.com

 


فهرس المحتويات

إظهار الحقيقة لمن يحب المسيح عليه السلام

المقدمة

الباب الأول كتب العهد القديم والجديد

الفصل الأول في بيان أسمائها وتعدادها

الفصل الثاني في بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد القديم والجديد

أولاً: التوراة:

ثانياً: حال كتاب يوشع

ثالثاً: حال كتاب القضاة

رابعاً: حال كتاب راعوث

خامساً: حال كتاب نحميا

سادساً: حال كتاب أيوب

سابعاً: حال زبور داود

ثامناً: حال إنجيل متّى

تاسعاً: حال إنجيلي مُرقس ولوقا

عاشراً: حال إنجيل يوحنا

الفصل الثالث في بيان الاختلافات والأغلاط في كتب العهدين

الفصل الرابع بطلان دعوى أهل الكتاب أن كتبهم كُتبت بالإلهام

الباب الثاني إثبات تحريف التوراة والإنجيل

أولاً: إثبات التحريف اللفظي بالتبديل

النُّسخ المشهورة للتوراة ثلاث نسخ:

ثانياً: إثبات التحريف اللفظي بالزيادة

ثالثاً: إثبات التحريف اللفظي بالنقصان

الباب الثالث إثبات نسخ شريعة موسى وعيسى عليهما السلام

فضل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه

شبهة أن القرآن عظّم المسيح وذكر معجزاته ومدح أتباعه

الباب الرابع إبطال عقيدة التثليث

مقدمات مهمة تفيد الباحث عن الحق

الفصل الأول إبطال التثليث بالبراهين العقلية

الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام

الفصل الثالث إبطال استدلال النصارى على ألوهية المسيح

الباب الخامس إثبات كون القرآن كلام الله والمعجزة الخالدة لمحمد رسول الله

الفصل الأول الأدلة على أن القرآن الكريم كلام الله

الفصل الثاني رد شبهات القسيسين على القرآن الكريم

الفصل الثالث إثبات صحة الأحاديث النبوية

الفصل الرابع رد شبهات القسيسين على الأحاديث النبوية

الباب السادس إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

الفصل الأول أدلة نبوة محمد رسول الله

الفصل الثاني رد شبهات القسيسين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم

الخاتمة

فهرس المحتويات

 

([1])انظر التفسير الكبير(22/183) وفتح القدير(3/502) والتحرير والتنوير(17/138).

([2]) أخرجه مسلم (153).

([3]) سنن أبي داود (3660) ومسند أحمد (4157) وهو حديث صحيح عند أهل الحديث.

([4]) سنن أبي داود (4607) وسنن الترمذي (2676) وهو حديث صحيح عند أهل الحديث.

([5]) صحيح البخاري (2268).

([6]) أخرجه مسلم في صحيحه (1731).

([7]) انظر صحيح البخاري (3014) وصحيح مسلم (1744) وسنن أبي داود (2669).

([8]) انظر صحيح البخاري (6178) وصحيح مسلم (1735).

([9]) انظر صحيح البخاري (4019 و 4269) وصحيح مسلم (95 و 96).

([10]) انظر الرحيق المختوم (ص297).

([11]) انظر الرحيق المختوم (ص330) و (348).

([12]) أخرجه مسلم (2613).

([13]) أخرجه مسلم (5167).

([14]) أخرجه أحمد (12571) وهو في صحيح الجامع (119).

([15]) أخرجه مسلم (2543).

([16]) أخرجه ابن حبان في صحيح (5982) وهو في صحيح الجامع (6103).

([17]) أخرجه النسائي (4748) بسند صحيح.

([18]) أخرجه أبوا داود (3050) وهو في السلسلة الصحيحة (882).

([19]) أخرجه أبوا داود (3052) وهو في الصحيح الجامع (2655).

([20]) انظر سنن البيهقي الكبرى (18511).

([21]) أخرجه البخاري (3895) ومسلم (2438).

([22]) أخرجه الترمذي (3895) وهو في صحيح الجامع (3314).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...