Translate

الخميس، 9 مارس 2023

فاستقم كما أمرت/عبد العزيز بن ناصر الجليل

فاستقم كما أمرت/عبد العزيز بن ناصر الجليل 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه. ونعوذ بالله    من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن من رحمة الله عز وجل وتوفيقه لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا، فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه. خائفا من مضلات الفتن وزلة القدم بعد ثبوتها. وهذا دأبه في ليله ونهاره، يفر بدينه من الفقر ويجأر إلى ربه عز وجل في دعائه ومناجاته يسأله التوفيق والثبات والوفاة على الإسلام والسنة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأجلاء رضي الله عنهم ، غير مبدل ولا مغير ولا محرف ولا مؤول.

كما يسأله عز وجل أن يجنبه السبل التي تحرفه عن الصراط المستقيم،كما في قوله سبحانه: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) [الأنعام:153 ]

 وكما حذر سبحانه من ذلك أيضا في قوله تعالى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )) [النساء:115] .

وإن التمسك بطريق النجاة وسبيل أهل الاستقامة أمر ليس بالهين والسهل وبخاصة في واقعنا المعاصر، بل إنه يحتاج إلى مزيد عناية بالشرع، والتبصر بالدين، والإخلاص  لله عز وجل والتواصي بالثبات عليه، وتجنب أسباب الانحراف، والتماس أسباب الثبات وسؤال الله عز وجل قبل ذلك وبعده الثبات على الدين الصحيح، وتصريف القلب على طاعته. وإذا كان الرسول e وهو أعلم الخلق بربه وأقربهم إليه وسيلة، وقد رأى من آيات ربه الكبرى قد قال له ربه سبحانه: (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) [ الاسراء:74 ] فمن سواه أحوج إلى التثبيت، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق سبحانه.

وقد قال يوسف الصديق عليه السلام: (( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) [ يوسف: من الآية33 ] . وكان عامة يمين رسول الله e ( لا ومقلب القلوب)([1]) ، وقال: (( ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه))([2]) ، وكان يكثر أن يقول: (( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) ([3]) .

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على قوله عز وجل: (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ... الآية ))         [ ابراهيم:27 ] فيقول: "تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه، فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين. فإن لم يثبته، وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: (( لَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ))         [ الاسراء:74 ]، وقال تعالى: لأكرم خلقه: (( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ))  [ الأنفال:12 ].

وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: (وهو يسألهم ويثبتهم)([4]) ، وقال تعالى لرسوله: (( وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ  ))  [ هود: 120 ]،، فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت "([5])  أهـ.

وإن الثبات على طريق الحق وعلى طريق أهل الاستقامة ليس بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى يقظة دائمة ومحاسبة مستمرة، وعلم وإخلاص، وتواصي بين أهل الحق بلزوم الصراط المستقيم، والحذر من اتباع السبل التي تبعد عنه وتكدره.

ومما يدل على ثقل الحق وكثرة المنحرفين عنه والصادين عن سبيله ذلك الحشد الكبير من الآيات التي تأمر بلزومه والاستمساك به والحذر من اتباع الصاد عنه.

وبالتأمل في هذه الآيات نجدها موجهة للرسول e وهو من هو إيماناً وعلماً وتقوى وثباتاً ومع ذلك احتاج أن يقول له ربه عز وجل : (( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ )) [ هود: 112 ]، وقال له: (( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ))  [ الزخرف:43 ] . وحذره من طاعة المكذبين فقال: (( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ))  [ القلم:8- 9 ] ، وأمره باتباع الشريعة المنزلة عليه وحذره من اتباع أهواء الظالمين فقال: (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ))  [ الجاثـية:18 ] .

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وليس المقام مقام حصر لها، وإنما المقصود التنبيه على أنه إذا كان الرسول e احتاج أن يؤمر بالتمسك بالحق وأن يحذر من طاعة الصادين عن الصراط المستقيم وهو نبي الله تعالى فإن من دونه من الأتباع أحوج وأولى باليقظة والحذر والمحاسبة وإلا فهو الهلاك والخسار.

ويصور الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى العوائق التي تصرف العبد عن الصراط المستقيم، وأن الثبات عليه ليس بالأمر الهين إلا بتثبيت الله تعالى، والتماس أسباب الهداية من الدعاء ودوام اليقظة والمحاسبة فيقول: "... ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته، إلى أن يسأل الله أن يهديه

الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع له منها.

فإن الصراط المستقيم يتضمن علوما وإرادات وأعمالاً وتروكاً ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت. فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد، وقد لا يعلمها، وقد يكون ما لا يعلمه أكثر مما يعلمه، وما يعلمه قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه، وهو الصراط المستقيم وإن عجزت عنه، وما يقدر عليه قد تريده نفسه وقد لا تريده، كسلأ وتهاونا، أو لقيام مانع وغير ذلك، وما تريده قد يفعله وقد لا يفعله، وما يفعله قد يقوم فيه بشروط الإخلاص وقد لا يقوم، وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة وقد لا يقوم، وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه وقد يصرف قلبه عنه، وهذا كله واقع سار في الخلق. فمستقل ومستكثر... " أهـ([6]) .

وإن المتأمل في زماننا اليوم وما يعج به من ألوان الفتن والفساد والشبهات والشهوات ليشعر بالخوف الشديد، والإشفاق على نفسه من أن يزيغ قلبه أو تزل قدمه في وسط هذه الأمواج العاتية، وكيف لايخاف وهو يرى تقلب القلوب ومزلات الأقدام من حوله، كيف لا وهو يرى أنماطا من السلوك والتفكير والمواقف تظهر على أشخاص وهيئات لم تكن معهودة لهم من قبل، ولا يتصور أن تصدر من أمثالهم؟ حيث أصبحنا نسمع ونرى مالم نك نعهده في المنتسبين إلى عقيدة أهل الاستقامة أهل

السنة والجماعة، الذين ثبتوا على ما كان عليه الرسول e، وصحبه الكرام عقيدة وسلوكاً وعبادة ودعوة وجهاداً، وما أبرئ نفسي فاللهم سلم سلم.

وفي هذه الرسالة الجديدة من رسائل الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم؟ سأتطرق فيها إن شاء الله تعالى إلى مسألة الاستقامة على دين الله عز وجل. ما حقيقتها، وما ورد في الكتاب والسنة، وآثار السلف الصالح عنها، وما هي أسباب ترك الاستقامة أو ضعفها، وما مظاهر البعد عنها في واقعنا المعاصر، وسبل تحقيقها إلى غير ذلك من المباحث.

وقبل الدخول في مباحث الرسالة يحسن ذكر بعض الأمور التي دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام، والذي له مساس بواقعنا المعاصر، وبخاصة في واقع الدعوة والدعاة، والتي يظهر من خلالها الأهمية القصوى للموضوع وأبعاده وخطورته. ومن هذه الأمور ما يلي:

الأمر الأول: النصيحة لنفسي ولإخواني المسلمين وبخاصة طلبة العلم والدعاة منهم، لأن النصيحة واجبة بين المسلمين، وتتأكد أيام الفتن، وفشو المنكرات، وكثرة الشبهات والشهوات كما هو واقع في هذه الأزمنة، وقد قال الرسول e: (( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ([7])، وقال جرير بن عبد الله البجلي:"بايعت رسول الله e على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل

مسلم "([8]) والنصيحة للمسلمين هي من لوازم قوله e: (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ([9]). ومتى ما كثرت المناصحة بين المسلمين، وأداها بعضهم لبعض، فإن هذا مما تدفع به الشرور والفتن. وهذا من التواصي بالحق، والتواصي بلزوم الاستقامة على دين الله تعالى. ومعلوم أن المناصحة ضرب من التواصي بالحق، والذي هو من صفات أهل الاستقامة الناجين من الخسران، والمذكورين في سورة العصر في قوله تعالى : (( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )) [ العصر:1- 3 ]

أسأل الله عز وجل أن يكون ما أكتبه في هذه الرسالة هو من التواصي بالحق والنصح لنفسي ولإخواني المسلمين.

الأمر الثاني: ما ظهر في هذا الزمان من الفتن العظيمة المتلاطمة؛ والذي تتولى كبره وسائل الإعلام المقروء منها والمسموع، والمشاهد، وذلك مما يثار فيها من الشبهات، والأفكار المنحرفة، أو ما يبث فيها من الشهوات التي تدعو إلى الرذيلة وتقتل العفة والحياء، والأخلاق الكريمة. وقد عمت الفتنة وطمت بعد أن انفتح العالم بعضه على بعض في السنوات الأخيرة عن طريق القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت التي فتن  بهاالناس إلا من رحم الله تعالى.وكان من جزاء ذلك أن فشت المنكرات،وظهر كثير من العادات والتصورات، والأنماط السلوكية المخالفة لطريق أهل الاستقامة. وساير الناس بعضهم بعضا في المسارعة إليها. وكانت من الكثرة وسرعة الانتشار أن ضعف أمام ضغوطها كثير من المسلمين؟ فألقوا سلاح المقاومة وحنوا رؤوسهم للعاصفة، وظهرت كثير من التنازلات، وسرت روح الانهزامية والتبعية للغرب الكافر، وتزامن مع هذه الفتن انفتاح الدنيا على أهلها، وظهرت صور من الوسائل المحرمة في كسب المال فمال إليها كثير من الناس بشبهة أو شهوة، ولم يسلم من هذه الفتن كلها إلا من رحمه الله عز وجل؟ فوفقه، وثبته أمام هذه الفتن، ورزقه الصبر والقبض على الدين، فكان من القلة الذين أخبر عنهم النبي e بقوله: (( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)) ([10]).

قال صاحب التحفة: "قال القاري: الظاهر أن معنى الحديث كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم " ([11]).

ولكن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة تذكر الأجر العظيم الذي يناله االمستعصي على ضغط الواقع، والمستعلي بإيمانه. من ذلك قوله  e : (( إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم))([12]) .

 

وسيأتي في ثنايا هذه الرسالة ذكر شيء من هذه التنازلات، والمسايرات التي ضربت بأطنابها في كثير من بيوتنا، ومجتمعاتنا لعلنا نحاسب أنفسنا ونتناصح فيما بيننا لنتخلص منها قبل أن يباغتنا الأجل، ونحن مقيمون على ما يسخط الله عز وجل.

الأمر الثالث: ظهور بعض الفتاوى الغريبة من بعض المنتسبين إلى العلم المتصدرين للفتوى من خلال وسائل الإعلام والتي يغلب عليها تتبع الرخص، أو الشاذ من أقوال العلماء دون اعتبار لمآلات فتاويهم هذه وما تفتح من الشرور والمبررات لأهل الفساد الذين يتربصون بالأمة الشر والدمار، وينتظرون أدنى شبهة شرعية يبررون بها ما يدعون إليه، ويخططون له من إفساد دين الأمة، والتحلل من الأحكام الشرعية وإبعاد المسلمين عن طريق أهل الاستقامة، وسواء علم هؤلاء المتصدرون للفتوى بمكر الماكرين وخداعهم، أم لم يعلموا، فإنهم بمثل هذه الفتاوى التي يفتون الناس بها، وتطير فيهم كل مطير، يسهمون في مزيد من انحدار الناس إلى الفساد، وتقديم المبررات لما يقعون فيه من التنازلات والتبعية المهزومة. وسيكون إن شاء الله تعالى في ثنايا هذا البحث مناقشة لهذه الظاهرة وما فيها من المخاطر.

الأمر الرابع: ما ظهر على بعض الدعاة من بعض التنازلات، والرضى بأنصاف الحلول في العقيدة أمام بطش الأنظمة الطاغوتية التي تحكم في كثير من بلدان المسلمين، أو رذ فعل لبعض التصرفات الخاطئة لبعض الجماعات الغالية. فرأوا من باب المصلحة الوطنية وحماية الدعوة أن يمدوا جسور التعاون مع بعض الأحزاب الوطنية العلمانية، بل وصل الأمر بهم إلى مد الجسور مع هذه الأنظمة الكفرية والعيش معها تحت مظلة واحدة، والسكوت على كفرهم اجتهادأ منهم أن في ذلك مصلحة للدعوة والمسلمين، أو درء بعض المفاسد عن الدعوة ومجتمعات المسلمين.

فكان لا بد من المناصحة معهم ومن تأثر بهم وبيان أن طريق أهل الاستقامة المتمثل في منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبخاصة ما كان عليه الرسول e وصحبه الكرام أن ذلك مما يخالف منهج المداهنة وقبول المساومات في دين الله عز وجل.

وكان الأجدر بهؤلاء أن لا يتحرجوا من إعلان براءتهم من الطواغيت التي تحكم بغير ما أنزل الله، وأن يبينوا شرك هذه الأنظمة للناس. أما أن يشاركوهم ويسكتوا عن بيان حقيقة التوحيد وما يضاده من الشرك فهذا مما يخالف منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين صدعوا بالتوحيد وتبرءوا من الشرك، وأهله من أول يوم في دعوتهم وسيأتي إن شاء الله تعالى في ثنايا البحث بيان خطورة هذا السكوت على الداعية والعلماء من جانب وعلى الأمة الإسلامية من جانب آخر.

الأمر الخامس : عـدم تحرير بعض المصطلحات الشرعيه، وبعض  القواعد الفقهيه مما أدى إلى ظهور خلط، واضطراب في مدلولاتها. ونشأ من جراء ذلك: اللبس أو التلبيس، وذلك في استخدام مثل هذه القواعد في تبرير بعض المخالفات الشرعية، والتماس العذر للواقعين في ذلك، واستغلال ذلك من قبل المفسدين في تمرير ما يريدونه من شر وبلاء. ومن أمثال ذلك الخلط بين مفهومي المداراة والمداهنة، واستخدام القواعد الفقهية القائمة على التيسير في غير محلها، ودون مراعاة لضوابطها الشرعية، كمفهوم المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، والضرورة تبيح المحظور، وقاعدة عموم البلوى... إلخ، فكان لا بد من تحرير هذه المصطلحات ومدلولاتها وفي أي مجال يمكن أن يستدل بها وما ضوابطها... إلخ. وهذا ما سيكون في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

الأمر السادس: ظهور نابتة من بني جلدتنا، وبعضهم ينتسب إلى العلم والدعوة يدعون إلى التهوين من منهج السلف الصالح، ويرفعون ما يسمونه بشعار النهضة والتنوير ومواكبة العصر في مستجداته، وتطوير المفاهيم والتصورات والمواقف بما يتناسب مع العصر ويستحسنه العقل والفكر، وعندهم يمكن إعادة النظر في أصول أهل السنة وثوابتهم الراسخة فكل شيء قابل للنقاش بما في ذلك الثوابت، فقد تكون عندهم ثوابتاً         في عصر ولا تكون كذلك في عصر آخر بل إن الأمر وصل بهم إلى أن تجرأوا على مقام أصحاب محمدe ووهونوا من شأنهم وحجية إجماعهم، وقال بعضهم بعدم عدالة كل الصحابة، وهذا فتح لهم  الباب ليتجرأوا على من دون الصحابة، ممن أجمعت الأمة على إمامتهم كالأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام، وأصبحنا نسمع من يسيء الأدب معهم

ويكيل الانتقاد الفج لهم  وهو ما يزال أميا إذا قيس علمه بعلمهم رحمهم الله تعالى فكان لا بد من التصدي لهذه المدرسة المخالفة لطريق أهل الاستقامة نصحاً لأهلها، وتحذيراً للأمة من شرها وخطرها، وسيأتي في ثنايا البحث الحديث عن أبرز سماتها إن شاء الله تعالى.

الأمر السابع: ظهور بعض الانحرافات في مفهوم الإيمان والكفر والتي جانبت طريق أهل الاسمتقامة أهل السنة والجماعة وتأثرت ببعض الطوائف البدعية كالمرجئة الذين حصروا الإيمان في التصديق والإقرار والكفر في التكذيب والاستحلال. فنشأ من جراء ذلك مفاسد في العقيدة والأخلاق، وتمادى المفسدون في فسادهم وإفسادهم، وحربهم على العقيدة والأخلاق. ونجم الكفرالنفاق، ووجهت التهم للمتمسكين بطريق السلف بأنهم تكفيريون وخوارج وأهل فتنة وشر فكان لا بد من النصيحة للأمة، وبيان الحق لها، وإزالة اللبس والتلبيس عنها.

الأمر الثامن: وآخر هذه الدوافع التي دفعت إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام هو مخاطبة من من الله عز وجل عليهم بالاستقامة على دينه، والثبات على ما كان عليه الرسول e، وأصحابه الأجلاء، فقبضوا على دينهم كقبضهم على الجمر فلم يغيروا ولم يبدلوا، لأقول لهم من خلال هذه الرسالة: هنيئاً لكم هذه الاستقامة. واعلموا أن العاقبة للمتقين. ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون. تذكروا قول الرسول e في الحديث الصحيح: (( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)) ([13]) ، وفي رواية: (( أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) ([14]) ، واسمعوا قول سفيان رحمه الله تعالى: "اسلكوا سبيل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهله "([15]) .

 

أسأل الله عز وجل لي ولكم ولجميع المسلمين الثبات على دينه والاستقامة على أمره.

وبعد هذه المقدمة التي ظهر لنا فيها أهمية الموضوع، والدوافع التي دفعت إلى الكتابة فيه يمكن تقسيم مواضيع الرسالة إلى الفصول التالية: الفصل الأول  : ذكربعض الآيات والأحاديث والآتارالتى تأمر بالاستقامة وتنهى عن ما يضادها من السبل المنحرفة.

الفصل الثاني : ذكربعض الأسباب المؤدية إلى ضعف الاستقامة والوقوع فيما يضادها.

الفصل الثا لث : ذكربعض المظاهرالمعاصرة المخالفة طريق أهل الاستقامة. وذلك فى ثلاث مباحث.

 

 

المبحث ا لأول: ذكربعض المظاهرالمعاصرة المخالفة لطريق

أهل الاستقامة فى العقيدة والفكر

المبحث الثاني : ذكربعض المظاهرالمعاصرة المخالفة لطريق

أهل الاستقامة فى الإفتاء والاستدلال على

الأحكام

المبحث الثالث : ذكربعض المظاهرالمعاصرة المخالفة لطريق

أهل الاستقامة فى السلوك والمعاملات.

الفصل الرا بع :الاسباب المؤدية إلى  لزوم الاستقامة، والثبات على دين الله عزوجل.

أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم موافقاً لما جاء به الرسول الأمين e، كما أسأله عز وجل أن يرزقنا الاستقامة على دينه حتى نلقاه، وأن ينفع بهذه الرسالة كاتبها وقارءها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

ذكربعض الآيات والأحاديت والآثار

 

التى تأمربالاستقامة وتنهى عن ما يضادها من السبل المنحرفة

المبحث الأول: الآيات الواردة في ذلك: وهي كثيرة منها:

الآية الأولى: قوله تعالى: (( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) [ هود:112 ]

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء، ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعة، حتى ولو كان على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء"([16]) أهـ.

ويبين الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى معنى الاستقامة في الآية وصلتها بما قبلها فيقول: "ترتب عن التسلية التي تضمنها قوله "ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه " وعن التثبيت المفاد بقوله "فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء" الحض على الدوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم.

 

 

وعبر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواما جماعه الاستقامة عليه والحذر من تغييره.

ولما كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السلام إنما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النبي e بالاستقامة على كتابه أمر المؤمنين بتلك الاستقامة أيضا، لأن الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأن مخالف الأمة عمدا إلى أحكام كتابها إن هو إلا ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأئه اختلافها على أحكامه.

وفي الحديث: (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)([17])، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلأ دون ذلك، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قيد شبر. ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان.. "([18]) اهـ.

وقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة تارة، وتذكر فضل أهلها تارة أخرى. من ذلك قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ))  [ فصلت:30 ]،  وقوله تعالى: (( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ....الآية )) [ فصلت: 6 ] ، وقوله تعالى: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ))  [ الجـن: 17 ]

والاستقامة هي: لزوم العدل بين طرف الغلو والإفراط وطرف التقصير والتفريط، وهي ضد الطغيان الذي هو مجاوزة الحدود في كل شيء، كما أنها ضد التفريط والتقصير الذي هو ترك الواجبات وفعل المحرمات.

ويذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شيئا من أقوال السلف في معنى الاستقامة فيقول:

سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة- أبو بكر الصديق - عن الاستقامة فقال: "أن لا تشرك بالله شيئا" يريد الاستقامة على محض التوحيد.

وقال عمر بن الخطاب "الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي. ولا تروغ روغان الثعالب ".

وقال عثمان بن عفان : "استقاموا: أخلصوا العمل لله ".

وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس : "استقاموا: أدوا

ا لفرائض ".

وقال الحسن: "استقاموا على أمر الله. فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته ".

وقال مجاهد: "استقاموا على شهادة أن لا إله إلآ الله حتى لحقوا بالله ".

 

 

 

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول: استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة.

وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: (( قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولأ لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم)) ([19])، وفيه عن ثوبان عن النبي e قال: (( استقيموا. ولن تحصوا. واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة. ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))([20])  والمطلوب من العبد الاستقامة. وهي السداد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن زل عنها فالتفريط والإضاعه... فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين. وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء، بالعهد. والاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله. قال بعض العارفين: كن صاحب استقامة لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة. سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله تعالى روحه- يقول: أعظم الكرامة لزوم ا لاستقا مة "([21]) أهـ.

وينبه رحمه الله تعالى إلى أثر الاستقامة على العبد حين تحضره الوفاة، وأنه يموت طيباً تبشره الملائكة بالجنة، وتطمئنه بذهاب الخوف والحزن عنه في قبره ونشره. وضد ذلك من أتته منيته وقد أسرف على نفسه ولم يتب من خيانته وأن مثل هذا معرض للخوف والحزن عند موته، أو في قبره أو يوم بعثه في عرصات يوم القيامة. يقول رحمه الله تعالى: "فإذا طالع جنايته شمر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل. وتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم. وطلب التمحيص؟ وهو تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية، كتمحيص الذهب والفضة، وهو تخليصهما من خبثهما. ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص. فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب. ولهذا تقول لهم الملائكة:      (( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)) [الزمر: 73 ]، وقال تعالى: (( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ  )) [ النحل: 32 ]، فليس في الجنة ذرة خبث.

وهذا التمحيص يكون في دار الدنيا بأربعة أشياء: بالتوبة، والاستغفار، وعمل الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة. فإن محصته هذه الأربعة وخلصته: كان من الذين تتوفاهم الملائكه طيبين. يبشرونهم بالجنة، وكان من الذين (( تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ )) عند الموت: (( أَلَّا تَخَافُوا  وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ))  [ فصلت:31- 32 ]

وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه، فلم تكن التوبة نصوحاً - وهي العامة الشاملة الصادقة- ولم يكن الاستغفار النافع، لا استغفار من في يده قدح السكر، وهو يقول: أستغفر الله، ثم يرفعه إلى فيه. ولم تكن الحسنات في كميتها وكيفيتها وافية بالتكفير، ولا المصائب. وهذا إما لعظم الجناية، وإما لضعف الممحص، وإما لهما- محص في البرزخ بثلاثة أشياء.

أحدهما : صلاة أهل الإيمان الجنازة عليه ، واستغفارهم له ، وشفاعتهم فيه .

الثاني : تمحيصه بفتنة القبر ، وروعة الفتان ، والعصرة والانتهار ، وتوابع ذلك.

الثالث: ما يهدي إخوانه المسلمون إليه من هدايا الأعمال، من الصدقة عنه، والحج، والصيام عنه، وقراءة القرآن عنه والصلاة، وجعل ثواب ذلك له. وقد أجمع الناس على وصول الصدقة والدعاء. قال الإمام أحمد: لا يختلفون في ذلك. وما عداهما فيه اختلاف. والأكثرون يقولون بوصول الحج. وأبو حنيفة يقول: إنما يصل إليه ثواب الإنفاق. وأحمد  ومن وافقه: مذهبهم في ذلك أوسع المذاهب. يقولون: يصل إليه           ثـواب جميع القرب. بدنيها ومـاليها، والجامع للأمرين. واحتجوا بأن

 

 

النبي e قال لمن سأله (( يا رسول الله، هل يبقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم)) ([22]). فذكر الحديث  وقد قالe : (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه))([23]) .

فإن لم تف هذه بالتمحيص. محص بين يدي ربه في الموقف بثلاثة أشياء: أهوال القيامة وشدة الموقف. وشفاعة الشفعاء. وعفو الله عز وجل.

فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه فلا بد له من دخول الكير، رحمة في حقه ليتخلص ويتمحص، ويتطهر في النار. فتكون النار طهرة له وتمحيصا لخبثه. ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته، وشدته وضعفه وتراكمه. فإذا خرج خبثه وصفي ذهبه، وصار خالصا طيبا أخرج من النار، وأدخل الجنة"([24]) .

الآية الثانية: قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))

[ البقرة: 208- 209 ]

يقول شيخ الإسلام عند هذه الاية: "وقد قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) ، قال مجاهد وقتادة: نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم، لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضا بذلك، والجمهور يقولون: (في السلم) أي في الإسلام، وقالت طائفة: هو الطاعة، وكلاهما مأثور عن ابن عباس ، وكلاهما حق، فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال. وأما قوله: (كافة) فقد قيل: المراد ادخلوا كلكم. وقيل: المراد به فادخلوا في الإسلام جميعه، وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه...

... والمقصود أن الله أمر بالدخول في جميع الإسلام كما دل عليه هذا الحديث، فكل ما كان من الإسلام وجب الدخول فيه، فإن كان واجباً على الأعيان لزمه فعله، وإن كان واجباً على الكفاية اعتقد وجوبه، وعزم عليه إذا تعين، أو أخذ بالفضل ففعله، وإن كان مستحباً اعتقد حسنه وأحب فعله "([25]) أهـ.

ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله- أن يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وتـرك جميع زواجـره مـا

استطاعوا من ذلك.

قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، والضحاك، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وابن زيد، في قوله: (( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ ))  يعني: الإسلام...

... وقوله: (( كَافَّةً )) قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة والضحاك: جميعا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الاعمال ووجوه البر...

... وقوله (( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )) أي: اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون)، و (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير). ولهذا قال: (إنه لكم عدو مبين). قال مطرف: أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان.

وقوله: (( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ )) أي: عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله عزيز في انتقامه، لايفوته هرب، ولا يغلبه غالب. حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه، ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. وقال محمد بن إسحاق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده)([26]) أهـ.

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الاية الكريمة فيقول : "إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة..

وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية...

... ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق الله وإما طريق الشيطان. وإما هدى الله وإما غواية الشيطان... وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.

إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد.. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لايتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان..

ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك. إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج الله أو غواية الشيطان. والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة، ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلاغافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان.

ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان: (( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))  [البقرة:209]([27]) .

الآية الثالثة: قوله تعالى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)) [النساء:115]

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسولe  فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له، واتضح له. وقوله :     (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد  تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لمااجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه ضمنت لهم العصمة في إجتماعهم من

الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم. وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، قد ذكرنا منها طرفاً صالحاً في كتاب (أحاديث الأصول). ومن العلماء من ادعى تواتر معناها. والذي عول عليه الشافعي رحمه الله تعالى في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك. ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله (( نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً))  أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له... وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة... "([28]) .

الآية الرابعة: قوله تعالى: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))

[الأنعام:153]

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) ، وفي قوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنـه إنما أهلك مـن كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله

ونحو هذا، قاله مجاهد، وغير واحد.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر بن شاذان، حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم هو ابن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: "خط رسول الله  e  خطا بيده ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلاعليه شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ (وأن هذاصراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )([29])... وقوله تعالى:   (( فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ )) إنما وحد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها... "[30].

الآية الخامسة: قوله تعالى: (( كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف:2- 3]

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "أي هذا كتاب أنزل إليك من ربك (( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ )) ، قال مجاهد وعطاء وقتادة والسدي: شك منه. وقيل ألا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به {فاصبر كما صبر ألوا العزم من الرسل }، ولهذا قال: (( لِتُنْذِرَ بِهِ)) أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين (( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ))، ثم قال تعالى مخاطباً للعالم (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )) أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه  (( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )) أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسل إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره "([31]) .

ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الطوائف التي تكون في صدورها حرج من القرآن فيقول: "والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه. وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه، ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمنوا به، كما قال تعالى:   (( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًَ)) [الأنعام:125]

ومن آمن به من وجه ؛ دون وجه ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه. فمن أقر أنه منزل من عند الله أنزله على رسوله، ولم يقر بأنه كلامه الذي تكلم به، بل جعله مخلوقاً من مخلوقاته كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك. ومن أقر بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الاخر ؛ وهو حروفه كان من الحرج منه         ما يناسب ذلك. ومن زعم أنه غير كاف في معرفة الحق وأن العباد يحتاجون معه إلى معقـولات، وآراء ومقـاييس ، وقواعـد منطقية، ومباحث عقلية،

ففي صدره منه أعظم حرج. وأعظم حرج منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح، ويشهد العقل بخلافه. وكذلك من زعم أن آياته لايستفاد منها علم ولا يقين، ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم ومن زعم أن الخطاب به خطاب جمهوري يخيل للعامة ما ينتفعون به ما ليس له حقيقة في نفس الأمر ؛ ففي صدره منه أعظم حرج. ومن زعم أن أجل ما فيه وأشرفه وأفضله وهو قسم التوحيد المتضمن للأسماء والصفات، مجازات واستعارات وتشبيهات لا حقائق ؛ ففي صدره منه أعظم حرج. فكل هذه الطوائف في صدورهم منه حرج وريب، وليس في حقهم هدى ولا شفاء، ولا رحمة..."([32]).

ويقول أيضا:" ولا تجد ظالماً فاجراً إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته فتدبر هذا المعنى ثم ارض لنفسك ما شئت "(1).

ويبين سيد قطب رحمه الله تعالى جانبا آخر من الحرج الذي يواجهه الداعي إلى الحق، الذي ينبغي أن لا يأبه به ولا يصده عن الصدع به فيقول: (( كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))..

كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير.. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون ؛ ولمجابهة عقـائد وتـقاليد وارتبـاطات ؛

 

ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة.. لا يدرك ذلك- كما قلنا في التعريف بالسورة- إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف ؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه   المعاناة ؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها، وفي مظاهرها وفروعها، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة e ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها..

وهـذا الموقـف ليس مقصوراً على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك،

وما كان في الأرض من حولها.. إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه!.. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة.. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة!.. إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها- وهذه هي "الرجعية" البائسة المرذولة- وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من          هذه "الرجعية" مرة أخرى كذلك والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض   له الداعية  الأول e وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية ؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات، وظلام الشهوات، وظلام الطغيان والذل، وظلام العبودية للهوى الذاتي، ولأهواء العبيد أيضا! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج،

وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي e: (( كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )) ..

ويعلم- من طبيعة الواقع- من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى،   ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار. ويعود هذا القرآن عنده كتاباً  حياً يتنزل اللحظة، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرار جهاداً  كبيراً...

... وفي الوقت الذي وجه الله سبحانه- هذا التكليف إلى رسوله، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة- وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية- الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله. ذلك أن القضية في صميمها هي قضية "الاتباع ".. من يتبع البشر وفي حياتهم؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون. أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان:  (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) ([33]) أ هـ.

الآية السادسة: قوله تعالى: (( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [النحل:9] .

 

يعلق الشاطبي رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول: "فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق أي: عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات، أعاذنا الله من سلوكها بفضله- وكفى بالجائر أن يحذر منه، فالمساق يدل على التحذير والنهي...

... عن التستري: (قصد السبيل): طريق السنة. (ومنها جائر) يعني

إلى النار، وذلك الملل والبدع.

وعن مجاهد: (قصد السبيل) أي: المقتصد منها بين الغلو والتقصير وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف     البدع "([34]) أهـ.

الآية السابعة: قوله تعالى: (( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً )) [الاسراء:73- 75]

يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: "اختلف أهل التأويل     في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول الله  e  بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره ؛ فقال بعضهم: ذلك الإلمام بالآلهة، لأن المشركين دعوه إلى ذلك، فهم به رسول الله e... وقال آخرون: إنما كان ذلك أن

 

رسول الله  e هم أن ينظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها...

... والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه e ، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله. وجائز أن يكون ذلك كان ماذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمس آلهتهم، ويلم بها. وجائز أن يكون كان ذلك ما ذكر عن ابن عباس من أمر ثقيف، ومسألتهم إياه ماسألوه مما ذكرنا ؛ وجائز أن يكون غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان. والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عني بذلك منه.

وقوله: (( وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً )) يقول تعالى ذكره: ولو فعلت ما دعوك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك إذا لأنفسهم خليلا، وكنت لهم وكانوا لك أولياء.

(( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ))

يقول تعالى ذكره: لولا أن ثبتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة (( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئن شيئا قليلأ، وذلك ما كان e هم به من أن يعمل بعض الذي كانوا سـألوه فعله، فقال رسول الله  e فيما ذكر

حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبوهلال، عن قتادة، في قوله (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) فقال رسول الله  e : (( لا تكلني إلى نفسي طرفة عين)) ([35])  "أهـ.

ويتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية عن خطر الركون للطواغيت من الكفار والمنافقين والرضى ببعض مساوماتهم فيقول: "هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما محاولة إغرائهم لينحرفوا- ولو قليلأ- عن استقامة الدعوة وصلابتها،. ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا، فأصحاب السلطان لايطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقى الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها!

 

 

ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة. لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!

والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها. فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل!، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر. وليس فيها فاضل ومفضول[36] (1). وليس فيها ضروري ونافلة. وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه. كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره!

وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات. فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسلم الصفقة كلها !

والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها؛هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في

نصرة الدعوة. والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم. ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة، فلن تنقلب الهزيمة نصرا "([37]) أ. هـ.

الآية الثامنة: قوله تعالى: (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ))

[القصص:65-66]

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أي: " فلا يسألهم ربهم عن موجبات عقولهم بل عما أجابوا رسله فعليه يقع الثواب والعقاب "([38]) .

ويقول في ميميته المشهورة:

وبالسـنة الغـراء كـن متمســكا

هي العروة الوثقى التي ليس تفصـم

تمسك بها مســك البخيل بمالــه

وعض عـليها بالنواجــذ تسـلم

وإياك مــا أحــدث الناس بعدها

فمرتع هاتيك الحـوادث أوخــم

 

وهيء جـوابا عندمــا تسمع النـدا

من الله يوم العرض: ماذا أجبتم؟

به رسـلي لما أتـوكم فمن يجــب

سواهم سيخزى عند ذاك ويندم([39])

وقال أيضا في نونيتة البليغة:

ويرون أن أمامهم يــوم اللقا         لله مسـألتـان شـاملــتان

مـاذا عبدتم ثم مــاذا قـد          أجبتم مـن أتى بالحق والبرهان

هاتوا جوابا للســؤال وهيئوا         أيضـاً صـواباً للجواب يداني

وتيقنوا أن ليس ينجيكم سوى           تجريـدكم لحقائـق الإيـمان

تجريــدكم توحيده سبحانه           عن شـركة الشيطان والأوثان

وكذاك تجريد اتباع رسولــه          عـن هـذه الآراء والهـذيان

والله ما ينجي الفتى عـن ربـه          شيء سوى هذا بلا روغان([40])

 

وهذه الآية وإن كانت في المشركين والكفار فإن فيها توجيها لكل مسلم بأن يخاف ويعد الجواب لهذا الســؤال العظيم في الموقف الرهيب

ويحاسب نفسه في الدنيا عن مدى إجابته للرسول  e واستسلامه لشرعه وتفقد نفسه لئلا يكون قد قدم على ما جاء به الرسول e ذوقا أو عقلأ أو رأيا لرجل من الرجال، ولذلك حذر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الحاكم والمفتي من التعصب لأقوال الأئمة وتقديمها على الكتاب والسنة لأن الله عز وجل سيسألهم عن رسوله e وماجاء به، يقول رحمه الله تعالى: "ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا البتة، فإن الله سائلهما      عن رسول الله e وما جاء به، لا عن الإمام المعين وما قاله، وإنما يسأل الناس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول  e ، فيقال له في قبره: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)) ولا يسأل أحد قط عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غيره، بل يسأل عمن اتبعه وأتم به غيره، فلينظر بماذا يجيب؟ وليعد للجواب صوابا"([41]) أهـ.

ويقول أيضا في موطن آخر: "... قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالسؤال عماذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها، والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليه. فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تنعقد عليه الخناصر ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا

يؤخذ بأطراف الأنامل "([42]) أهـ .

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)) هل صدقتموهم، واتبعتموهم أم كذبتموهم وخالفتموهم؟

(( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ)) أي: لم يحيروا عن

هذا السؤال جوابا، ولم يهتدوا إلى الصواب. ومن المعلوم أنه لا ينجي في هذا الموضع ؛ إلا التصريح بالجواب الصحيح ؛ المطابق لأحوالهم ؛ من أننا أجبناهم بالإيمان ؛ والانقياد. ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لأمرهم ؛ لم ينطقوا بشيء. ولا يمكن أن يتساءلوا ؛ ويتراجعوا بينهم ؛ فبماذا يجيبون به ؛ ولو كان كذبا) أهـ([43]) .

الآية التاسعة: قوله تعالى: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [النور: 63]

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: "وقوله: : (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )) أي: عن أمر رسول الله  e . سبيله هو ومنهاجه، وطريقته، وسنته، وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله. كائنآ من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله

أنه قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). ([44])

أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا أو ظاهرا (( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ )) ، أي: في قلوبهم،من كفر أو نفاق أو بدعة، (( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ، أي: في الدنيا، بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن همام بن منبه قال: فهذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله  e : (( مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللاتي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحمن فيها. قال: فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها))([45]). أخرجاه من حديث عبد ا لرزاق) [46] أهـ.

الآية العاشرة: قوله تعالى: (( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) [الزخرف:43].

يقول الشــيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (( فَاسْتَمْسِكْ

بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ )) فعلاً واتصافاً بما يأمر بالاتصاف به ودعوة إليه، وحرصاً على تنفيذه بنفسك وفي غيرك.

(( إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) موصل إلى الله وإلى دار كرامته. وهذا مما يجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء، إذا علمت أنه حق، وعدل، وصدق، تكون بانيا على أصل أصيل إذا بنى غيرك على الشرك والأوهام، والظلم والجور"([47]) أهـ.

الآية الحادية عشر: قوله تعالى: (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )) [الجاثـية:18-19]

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: "أي: ثم شرعنا لك شريعة كاملة، تدعو إلى كل خير، وتنهى عن كل شر، من أمرنا الشرعي (( فَاتَّبِعْهَا )) فإن في اتباعها السعادة الأبدية، والصلاح والفلاح.

(( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )) أي: الذين تكون أهويتهم، غير تابعة للعلم، ولا ماشية خلفه. وهم كل من خالف شريعة الرسول - e  هواه وإرادته ؛ فإنه من أهواء الذين لا يعلمون.

(( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ))  أي: لا ينفعونك عــند الله،

فيحصلوا لك الخير، ويدفعوا عنك الشر، إن اتبعتهم على أهوائهم. ولا يصلح أن توافقهم وتواليهم، فإنك وإياهم متباينون.

(( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )) يخرجهم من الظلمات إلى النور، بسبب تقواهم، وعملهم بطاعته "([48]) أهـ.

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول: "فالشريعة التي جعله ربه عليها تتضمن ما أمره به، ورضيه له. وكل عمل وحب وذوق ووجد وحال لا تشهد له هذه الشريعة التي جعله عليها فباطل وضلال، وهو من أهواء الذين لايعلمون فليس لأحد أن يتبع ما يحبه فيأمر به، ويتخذه دينا، وينهى عما يبغضه ويذمه إلا بهدى من الله، وهو شريعته التي جعل عليها رسوله، وأمره والمؤمنين باتباعها ولهذا كان السلف يسمون كل من خرج عن الشريعة في شيء في الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء ؛ يذمونهم بذلك ويحذرون عنهم ولو ظهر عنهم ما ظهر من العلم والعبادة والزهد والفقر والأحوال وا لخوارق "([49]) أ. هـ.

ويتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآية الكريمة فيقول: (وهكذا يتمحض الأمر فإما شرعة الله، وإما أهواء الذين         لا يعلمون. وليس هنالك من فرض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة

المستقيمة والأهواء المتقلبة . وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون .

والله سبحانه يحذر رسوله e أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون ، فهم لا يغنون عنه من من الله شيئا . وهم يتولون بعضهم بعضا ، وهم لا يملكون أن يضروه شيئا حين يتولى بعضهم بعضا ، لأن الله هو مولاه :  (( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) .

وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعين سبيل صاحب الدعوة وتحدده ، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل : " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين "

إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف ، وما عداها أهواء منبعها الجهل . وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ، ويدع الأهواء كلها . وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء ، فاصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة . وهم إلب عليه ، فبعضهم ولي لبعض وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة ، فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحا عن الهوىالذي يربط بينهم برباطه . ولكنهم أضعف من أن يؤذوه .      ( والله ولي المتقين ) أين ولاية من ولاية؟وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى

 

بعضهم بعضاً من صاحب شريعة يتولاه الله ولي المتقين؟"[50] (1) أهـ.

الآية الثانية عشرة: قوله تعالى:

(( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)) [القلم:8- 9]

 

يقولى القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (قوله تعالى:    (( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)) نهاه عن ممايلة المشركين، وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر. وقال تعالى:        (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ))

... وقوله تعالى: (( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) ، قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم.

وعن ابن عباس أيضا: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. والإدهان: التلين لمن لا ينبغي له التليين، قاله الفراء. وقال مجاهد: المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك... إلى أن قال: وقال الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم.. إلخ.

ثم قال القرطبي قلت: كلها إن شاء الله صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الإدهان: اللين والمصانعة، وقيل مجاملة العدو وممايلته "([51]) .

وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلام نفيس عن أولئك الذين يداهنون في قول الحق ويتنازلون عنه أمام كيد الكائدين وذلك عند قوله تعالى: (( أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ )) [الواقعة:81]  فيقول: "... ثم وبخهم سبحانه على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون بما حقه أن يصدع به ويفرق به ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه لا يمنة ولايسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به فهو روح الوجود وحياة العالم، ومدار السعادة وقائد الفلاح وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة ؟ وإنما أنزل بالحق وللحق. والمداهنة ([52]) إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا يمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أنه يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل. فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يدهن به؟ "([53]) أهـ.

ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض الفوائد في       النهي عن طاعة المكذبين الواردة في هذه الآية فيقول: "منها: أن النهي عن طاعة المرء نهي عن التشبه به بالأولى فلا يطاع المكذب والحلاف، ولا يعمل بمثل عملهما ، كقوله : ولا تطع الكافرين والمنافقين ، وأمثاله، فإن

النهي عن قبول قول من يأمر بالخلق الناقص أبلغ في الزجر من النهي عن التخلق به.

"ومنها" أن ذلك أبلغ في الإكرام، والاحترام ؛ فإن قوله: لا تكذب، ولا تحلف، ولا تشتم، ولاتهمز: ليس هو مثل قوله لا تطع من يكون متلبسا بهذه الأخلاق ؛ لما فيه من تشريفه وبراءته.

"ومنها" أن الأخلاق مكتسبة بالمعاشرة، ففيه تحذير عن اكتساب شيء من أخلاقهم بالمخالطة لهم: فليأخذ حذره، فإنه محتاج إلى مخالطتهم لأجل دعوتهم إلى الله تعالى.

"ومنها" أنهم يبدون مصالح فيما يأمرون به ؛ فلا تطع من كان هكذا ولو أبداها ؛ فإن الباعث لهم على ما يأمرون به هو ما في نفوسهم من الجهل والظلم. وإذا كان الأصل المقتضي للأمر فاسدا لم يقبل من الآمر، فإن الأمر مداره على العلم بالمصلحة وإرادتها، فإذا كان جاهلأ لم يعلم المصلحة، وإذا كان الخلق فاسدا لم يردها: وهذا معنى بليغ...

... وقوله: (( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) الآية. أخبر أنهم يحبون إدهانه ليدهنوا، فهم لا يأمرونه نصحا، بل يريدون منه الإدهان ويتوسلون بإدهانه إلى إدهانهم، ويستعملونه لأغراضهم في صورة الناصح ؛ وذلك   لما نشأ من تكذيبهم بالحق، فإنه لم يبق في قلوبهم غاية ينتهون إليها من الحق ؟ لا في الحق المقصود ولا الحق الموجود ، لا خبراً عنه ، ولا أمراً به،

 

 

ولا اعتقاداً ، ولا اقتصاداً "([54]) أ هـ .

ويحذر سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية من الرضوخ لمساومة المكذبين والالتقاء معهم في منتصف الطريق فيقول: " فهي المساومة إذن، والالتقاء في منتصف الطريق. كما يفعلون في التجارة. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها لأن الصغير منها كالكبير. بل ليس في العقيدة صغير وكبير . إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء. لايطيع فيها صاحبها أحداً ، ولا يتخلى عن شيء منها أبداً .

وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق. وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان  جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء . إن الهوة بينهم وبين الإسلام لا تعبر، ولا تقام عليها قنطرة، ولاتقبل قسمة ولاصلة. وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق ([55]) !

ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي e  ليدهن لهم ويلين ؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون مــاء وجوههم أمام

 

جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول  e كان حاسماً في موقفه من دينه، لا يدهن فيه ولا يلين. وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه: "فلا تطع المكذبين "!

ولم يساوم e في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة. وهو محاصر بدعوته. وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين، تأليفا لقلوبهم، أو دفعا لأذاهم. ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد"([56]) أهـ.

وأكتفي بهذا القدر من الآيات الكريمات التي سقتها على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فالآيات في الأمر بلزوم الاستقامة على دين الله عز وجل، والتحذير من الانحراف وطاعة الكافرين والمنافقين كثيرة وكثيرة جدا. ولقد هالني هذا الحشد الكبير من الآيات الواردة في ذلك، والذي يدل دلالة واضحة على أن هذا الأمر جد خطير، ولا يجوز بحال الغفلة عنه وتناسيه. وكما ذكرت سابقا إذا كان شخص كشخص النبي الكريم المعصوم محمد e احتاج أن يأمره ربه بالاستقامة ويحذره من طاعة الكافرين واتباع أهواء المفسدين وذلك بمثل ما مر بنا في الآيات السـابقة

كقوله (( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ )) .(( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْك)) .(( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ )) .(( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)).(( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) .(( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) .   (( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِين )) ، وغيرها وغيرها من الآيات. إذا كان الشأن معه e فكيف تكون الحال مع من دونه بدرجات كثيرة من أتباعه من الدعاة والمصلحين؟ إن حاجة أتباعه  e  إلى هذه التوجيهات والتحذيرات الربانية أشد وأشد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني: الأحاديث الوادرة في ذلك:

وهي كثيرة جدا أذكر منها ما تيسر مما يدل على غيرها:

الحديث الأول: عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولآ لا أسأل عنه أحذا بعدك. قال: (( قل آمنت بالله ثم استقم)) ([57]) .

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في شرحه للحديث: "فهذا الرجل طلب من النبي e كلاما جامعا للخير نافعا، موصولأ صاحبه       إلى الفلاح، فأمره النبي e بالإيمان بالله، والذي يشمل ما يجب           اعتقاده من عقائد الإيمان وأصوله، وما تبع ذلك من أعمال القلوب والانقياد والاستسلام لله باطنا وظاهرأ، ثم الدوام على ذلك والاسـتقامة

 

عليه الى الممات "([58]).

الحديث الثاني: عن عبد الرحمن بن عمر السلمي عن العرباض بن ســارية وكان ممن أنزل الله فيهم (( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ)) [التوبة: 92] ، قال: فدخلنا فسلمنا عليه وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين فقال: صلى رسول الله e وقال أبو عاصم (أحد رجال السند): صلى بنا رسول الله e الصبح يوما فأقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب قال: قلنا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال أبو عاصم في حديثه: فأوصنا قال: ((أوصيكم عباد الله بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى بعدي اختلافاً كثيراً. وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) ([59]) .

الحديث الثالث: عن مالك بن أنس رحمه الله بلغه أن رسول الله  e قال (( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) ([60]) .

الحديث الرابع: عن أبي موسى   عن النبي e قال: (( إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقالى: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني النذير العريان فالنجاء ؛ فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا على مكانتهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واستباحهم. فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)) ([61]) .

الحديث الخامس: عن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله e خطا فقال: ((هذا سبيل الله)) ثم خط في جانبه خطوطاً يميناً وشمالاً ثم قال: ((هذه سبل) زاد يزيد بن هارون (متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو) ثم قرأ هذه الآية (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) ([62])[الأنعام: 153]

الحديث السادس: عن أبي رافع قال: قال رسول الله e (( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) ([63]) .

 

الحديث السابع : عن أبي هريرة : أن رسول الله e خرج إلى المقبرة فقال : (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ).. الحديث، إلى أن قال فيه: (فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم ألا هلم فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً)) ([64]) .

الحديث الثامن: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله e يقول: (( إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعاً ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون )) ([65]) .

الحديث التاسع: عن أبي موسى e عن النبي e قال: (( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة فقبلت الماء، وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت طائفة منها أجادب أمسكت الماء فنفع شربها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا. وأصاب طائفة منها أخرى هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولا تقبل هدى الله الذي أرسلت به)) ([66]) .

الحديث العاشر : عن عتبة بن غزوان عن النبي  e أنـه قال : (( إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم، قال: بل منكم)) ([67]) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثالث: الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان

 

الأثر الأول: عن عبد الله بن مسعود قال: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لاتؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد  e ، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه  e ، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم "([68]) .

الأثر الثاني: وعنه قال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه بذهاب أهله. عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعمل، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق"([69]) .

 

 

وقال أيضا: "يا أيها الناس لا تبتدعوا ولا تنطعوا، ولا تعمقوا وعليكم بالعتيق. خذوا ما تعرفون، ودعوا ما تنكرون "([70]) والمراد بالعتيق ما كان عليه الرسول e وأصحابه .

الأثر الثالث: عن أبي بكر الصديق قال: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله e يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ "([71]) .

الأثر الرابع: وخرج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب: أنه قال: "عليكم بالسبيل والسنة؟ فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله، ففاضت عيناه من خشية الله، فيعذبه الله أبداً ، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه، فاقشعر جلده من خشية الله ؛ إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها، فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة، فتحات عنها ورقها؟ إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها ؛ فإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً واقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم)([72]) .

الأثر الخامس:عن الزهري قال: سمعت أبا إدريس يقول : أدركت أبا

 

الدرداء ووعيت منه، وأدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل فأخبرت أنه كان يقول في كل مجلس يجلسه: "الله حكم قسط تبارك اسمه. هلك المرتابون. إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن، فيقول قد قرأت القرآن فما للناس لا يتبعوني، وقد قرأت القرآن ثم ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره ؛ فإياكم وماابتدع فإن ما ابتدع ضلالة واتقوا زيغة الحكيم فإن الشيطان يلقي علي في الحكيم كلمة الضلالة ويلقي المنافق كلمة الحق. قال: قلنا: وما يدرينا يرحمك الله أن المنافق يلقي كلمة الحق وأن الشيطان يلقي على في الحكيم كلمة الضلالة؟ قال: اجتنبوا من كلام الحكيم كل متشابه الذي إذا سمعته قلت ما هذا ولا ينأ بك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ويلقي الحق إذا سمعه فإن على الحق نوراً([73]) .

الأثر السادس : عن عاتكة بنت جزء قالت: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه عن الدجال قال لنا: "لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال: أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أو رجيل أدرك ذاك الزمان فالسمت الأول السمت الأول، فأما اليوم على السنة([74]) .

 

الأثر السابع: عن حميد بن هلال حدثني مولى لأبي مسعود قال: دخل أيو مسعود على حذيفة فقال: إعهد إلي فقال: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربي قال: فاعلم أن الضلالة، حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله تعالى فإن دين الله واحد([75]) .

الأثر الثامن: عن عبد الله بن مسعود    قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، إذا ترك منها شيء قيل تركت السنة. قال: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ذلك إذا ذهب علماؤكم، وكثرت جهالكم، وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين "([76]) .

الأثر التاسع: عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: سن رسول الله e وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها. فمن اقتدى بماسنوا اهتدى، ومن استبصر به أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله عز وجل ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيراً "([77]) .

ويعلق الشاطبي رحمه ألله تعالى على هذا الأثر بقوله: "وهذا من نفيس كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يُعْجِب مالكاً جداً...

... وبحق ما كان يعجبهم، فإنه كلام مختصر جمع أصولأ حسنة من السنة : منها ما نحن فيه لأن قوله: " ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها" قطع لمادة الابتداع جملة، وقوله "من عمل بها مهتد...! إلى آخر الكلام، مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك، وهو قول الله سبحانه وتعالى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)) [النساء:115]([78]).

الأثر العاشر: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: إنه لم يبتدع الناس بدعة إلا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة منها. والسنة ما استنها إلا من علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي القوم "([79]) .

الأثر الحادي عشر: وقال أيضاً: (قف حيث وقف القوم، وقل كما قالوا، واسكت كما سكتوا؟ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى (2) .

 

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذا الأثر بقوله: " أي : فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه. ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلامن سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم،  إنهم لهم السابقون، ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه مايشفي، فما دونهم مقصر، ولا فوقهم مجسر، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا، وطمح آخرون عنهم فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم "([80]) .

رأيهم الأثر الثاني عشر: وقال! الشعبي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول " وقال أيضاً : "ما حدثوك به عن أصحاب محمد e فخذه، وما حدثوك به عن فانبذه في الحش " (1).

الأثر الثالث عشر: قال الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقل كما قالوا، وكف عما كفو. ولو كان هذا خير ما خصصتم به دون أسلافكم؟ فإنهم لم يدخر عنهم خير خبىء لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب رسول الله e الذين اختارهم له وبعثه فيهم ووصفهم فقال: (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )) [الفتح: 29](1).

الأثر الرابع عشر: قال مالك رحمه الله تعالى: " قبض رســول الله

e  وقد تم هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رســول الله

e ولا نتبع الرأي، فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل أقوى في الرأي منك فاتبعته، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته! أرى هذا لا يتم "([81]) .

الأثر الخامس عشر: عن محمد بن سيرين قال: "كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر"([82]) .

الأثر السادس عشر: كان إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى يقول: "اللهم اعصمني بدينك وسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى ، ومن ســبيل الضلالة ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ وا لخصومات "([83]) .

الأثر السابع عشر: عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: "إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الأثر، وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا([84]) .

الأثر الثامن عشر: عن الفضيل بن عياض : قال: " اتبع طريق الهدى

ولا يضرك قلة الســالكين وإياك وطرق الضــلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين "([85])  .

 

الأثر التاسع عشر : عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال : اعلم أي أخي أن الموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكوا وحشتنا وذهاب الإخوان وقلة الأعوان، وظهورالبدع، إلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع)([86]) .

 

 

*  *  *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

ذكرالأسباب المؤدية إلى ضعف الاستقامة والوقوع فيما يضادها

 

إن الأسباب المؤدية إلى ضعف الاستقامة، واتباع السبل المضادة لها كثيرة، لكنها لا تخرج في أصلها عن مصدرين اثنين هما أصلا كل الشرور، وهما الشبهات والشهوات. وهناك أسباب توقع في الشبهات وأخرى توقع في الشهوات ويظهر هذا في المباحث التالية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول: الأسباب التي توقع في الشبهات:

 

(1) ضعف العلم الشرعي: الأصل في الشبهات هو الجهل بالدين وقواعده الشرعية الصحيحة، وضعف العلم الشرعي: حيث أن بعض من يقع في مخالفة شرعية، ويصر عليها إنما يقع فيها إما جهلأ منه في كونهـا مخالفة شرعية، أو أنه يعلم بحرمتها، لكنه تأول في ارتكابها أمام ضغوط الواقع، وكثرة الفساد ببعض التأويلات، كأن يكون في المسألة قول ولو ضعيف أو شاذ يبيحها، أو أن المخالفة قد استشرت وعمت على الناس جميعا فتأول في إرتكابها في أنها مما عمت به البلوى، وأن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج؟ والمشقة تجلب التيسير، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية التي هي صحيحة في أصلهـا، لكنها غير صالحة لتطبيقها في التحلل من الأحكام الشرعية مهما عم الفساد وطم.

 

وسيـأتي الرد على هذه الشبهات في مبحث قادم إن شاء الله تعالى.

ولا يبعد أن يصاحب مثل هذه الشبهات شهوة وهوى من أصحابها جعلتهم يبحثون لشهواتهم عن شبهة يغطون بها أهواءهم. وهذا تلبيس ومغالطة يعرف صاحبها ذلك من نفسه قبل غيره. والله وحده هو علام الغيوب، والمطلع على ما في القلوب. ويسهم في نشر هذه الشبهات وأمثالها المفسدون الذين يحبون أن تشيع الأفكار، والأخلاق الفاسدة في الذين آمنوا، والذين يريدون أن يميلوا بالمؤمنين ميلا عظيما. ويستخدمون في ذلك شتى الوسائل، ومن ذلك استخدامهم لبعض المنتسبين للعلم في إصدار الفتاوى التي يوظفونها في تضليل الناس وتحقيق مآربهم باسم الدين وأهله.

(2) تكالب أعداء هذا الدين من الكفار الصرحاء من اليهود والنصارى ومن المنافقين الذين تسلطوا على رقاب المسلمين فحكموهم بغير شرع الله تعالى، وتصدوا لمن أنكر عليهم من المصلحين بشتى صنوف الأذى والنكال، ووضع العقبات في طريقهم ؛ مما أدى ببعض الدعاة إلى شيء من اليأس وجعلهم يعيدون النظر في تمسكهم بالمواقف الصلبة والثبات على المبادئ، مما حدى ببعضهم إلى التنازل أمام هذه الضغوط عن بعض المبادئ والثوابت. وحجتهم في ذلك شبهة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وأن ذلك لا يحصل إلا بشيء من التنازلات، بل حجة بعضهم هي الأخذ بمبدأ الواقعية، ويعنون بالواقعيه: الرضا بالأمر الواقع، ومسايرته، لعدم القدرة على مصادمته.

وقد أجــاد الأستاذ محمد الحامد في وصف هذا الصنف من الناس

حيث قال : "الواقعي ذلك الشخص الذي يرى أن الحياة والناس في زماننا قد حددوا مسارهم وساعدت عوامل عديدة على استقرار تلك الأوضاع والقيم والنظم بحيث أصبحت محاولة الإصلاح والتغيير في الحياة الفردية أو الجماعية لديه ضربا من المستحيل.

أما الفكر الواقعي فهو ذلك الفكر الذي يعطي الشرعية للمسار العام الذي يعيش فيه، ويزكي بل يعمل لتنمية جوانب يراها تخدم هذا الوضع وتحسن من مستوى المسار العام في وقت ما. وفي نفس الوقت ينقم على من يخالف فكره الواقعي حتى لو كان هذا المخالف يعمل لإيجاد وضع أحسن وأفضل يؤمن الواقعي بجدواه.

عيب الواقعي أنه في كثير من جوانب حياته جبري من حيث يدري أولا يدري، وجبريته قد لا تكون تلك المدرسة القديمة بكل مواصفاتها، لكن من وجه أو آخر هو جبري. وجبريته واضحة صارخة حينما يقول لك: لا فائدة من التغيير أو العمل على تبديل الوضع إلى ما هو أحسن منه، بل أحيانا في حياته وسلوكه الشخصي ترى معالم الاستسلام لما يسميه الواقع وواقعه هو السلبية التامة.

لقد عرفت بعض هؤلاء الناس عن قرب، وأثق بقدرتهم وعقولهم وعلمهم. قال لي أحدهم: لا بد من مراعاة الواقع والظروف الصعبة. وكان يهمس بهذه الأفكار في شك من جدواها وصحتها، كان لا يثق بهذه الفكرة- فكرة الاستسلام والخنوع- ويشعر بالهزيمة الباطنة في أعماقه وهو يسوق تلك الكلمات...

مر الزمن على صاحبي، وكان يوما بعد آخر يبحث عن أدلة وحجج، ركان يعثر يوماً بعد آخر على شبهة، أوموقف ضعف، أو مبرر حتى اجتمع له حشد كبير عرضه لي، وكانت حججا متهافتة كل منه كاسر مكسور، وقلت له: معك دليل واحد فقط هو لب موقفك وخلاصته: العجز، العجز الذي يقود إليه الخوف والجبن وموت الهمة.

 

غضب صاحبي ولوى وجهه، وأدبر يجمع حججه وقد لبس جلباب الواقعية والتعقل والإصلاح، ولم يعلم أنه إنما يقر بهدم أمة، ويؤكد ضياع جيل أو أجيال، ويستسلم لهوان، بل يؤصل لمدرسة الهوان التي حاربت الهدى. وإلا كيف يفسر مغامرة الأنبياء بمواجهة أممهم؟ وكيف يفسر رقفة الرسول e على الصفا؟ وكيف يفسر ذهابه للطائف، ثم العودة إلى مكة في جوار المطعم؟ وكيف يفسر الهجرة؟ بل أعظم من هذا كيف يفسر معركة بدر وأحد والحديبية وجل الغزوات والسرايا.

لولا خشية صاحبي وبقية تقوى وخير لقال: إنها تهور وهلكة لم يأمر الله بها. لندع تلك الأمثلة ولنقل: لما فعل محمد بن عبد الوهاب ما فعل؟ أين الواقعية بل أين جبرية صاحبنا هذا من موقف هذا الداعية؟

وهكذا ما من مصلح ومغير إلا وهو في نظر صاحبي متهور، وما من ميت وهو حي إلا وهو واقعي، وكل الجمادات واقع.

صاحبي خذ واقعيتك واجلس عليها في شارع الواقعيين فستجد أنصاراً أكبر وأكثر مما كنت تتوقع. هؤلاء الواقعيون ينكرون قدرة الحق على  التغيير، ينكرون دور عباد الله المخلصين في مسار الأمم، ويستغربون العمل النافع الرائد... إنهم مترددون لاغير، إنهم يتركون للواقع، للمجتمع أن يغير مسارهم وأن يرسم لهم الطريق والخطوة القادمة. بل قال صاحبي: من يقف في وجه الريح ويغير مسارها؟ قلت له: لا تقف إن كنت عاجزا، ولكن لا تهب معها حيث هبت ذلك أسمى ما أريد منك.

هيهات إنه يرى نفسه واقعيا. من هؤلاء رجال خيرون يفكرون في الإصلاح ولكن يجب أن يدركوا أن الثوب الخرق: كلما رقعته من جانب هبت الريح عليه فانخرق "([87]) .

(3) ردود الأفعال التي تدفع بأصحابها إلى طرف آخر يقابل المردرد عليه، ولو استقرأنا تاريخ الفرق الضالة لرأينا بعضها رد فعل لفرقة أخرى، كما هو الحال في مقابلة المرجئة للخوارج، والقدرية للجبرية، والمشبهة للمعطله، وفي واقعنا المعاصر رأينا من تأثر بالفكر الإرجائي في مقابل بعض الطوائف التي غلت في التكفير.

(4) مجالسة أهل الأهواء والشبهات ، وحضور نواديهم ومناظراتهم

أو القراءة في كتبهم، وسماع أشرطتهم، لأن ذلك قد يؤدي إلى التأثر بشبههم، ومناهجهم في الاستدلال، والتي آلت بهم وبكل من أخــذ بها

 

 

إلى مجانبة طريق أهل الاستقامة؟ سواء في المعتقد أو السلوك. وقد رأينا في زماننا هذا من تبنى بعض مآخذ المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل بسبب مخالطتهم لمتبعي الشبهات أو القراءة في كتب من يسمون أنفسهم بالعقلانيين أو العصرانيين، أو غيرها من الألفاظ المحدثة.

ومن باب الفائدة والتحذير من هذه الشبه والمآخذ البدعية والتي تعد من أسباب الانحراف عن طريق الاستقامة أنقل ما ذكره الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم (الإعتصام) عن مآخذ أهل البدع في الاستدلال وذلك على سبيل الإختصار. قال رحمه الله تعالى: "... إذا تبين أن للراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق، وأن الزائغين على غير طريقهم؟ فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها، وقد بين ذلك أهل أصول الفقه، وبسطوا القول فيه، ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين. فهل يمكن حصر مآخذها أولا؟

فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين، وهي قوله تعالى: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام: 153]، فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة، وأن للباطل طرفا متعددة لا واحدة، وتعددها لم ينحصر بعدد مخصوص.

وهكذا الحديث المفسر للآية، وهو قول ابن مسعود: خط لنا رسول    الله e خـطاً ، فقال : (( هذاسبيل الله )، ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه

 

ويساره، وقال: (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ([88]) ، ثم تلا هذه الآية.

ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل، ولا لنا أيضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء.

أما العقل ؛ فإنه لايقضي عددا دون آخر ؛ لأنه غير راجع إلى أمر محصور ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات؟ ووجوه الجهل لا تنحصر، فصارطلب حصرها عناء من غير فائدة.

وأما الاستقراء ؛ فغير نافع أيضاً في هذا المطلب ؛ لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت، وجدناها تزداد على الأيام، ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث، إلى زماننا هذا، وإذا كان كذلك ؛ فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا بها فيما تقدم، لا سيما عند كثرة الجهل، وقلة العلم، وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد، فلا يمكن إذا حصرها في هذا الوجه.

ولا يقال: إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق فإن وجوه المخالفات لا تنحصر أيضا، فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء، لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها:

 

فمنها: اعتمادهم على ألاحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله e، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها...

ومنها: ضد هذا، وهو ردهم !لأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، غير جارية على مقتضى الدليل، فيجب ردها، كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة، وكذلك حديث الذباب وقتله وأن في أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء، وأنه قدم الذي فيه الداء... وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول، وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم، ومن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم، كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب، وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلهـا...

.. وذهب طائفة منهم إلى نفي أخبار الآحاد جملة، والاستقصار على ما استحسنته عقولهم في فهـم القرآن...

... وربما احتج طائفة من المبتدعة على رد الأحاديث بأنها تفيد الظن وقد ذم الظن فى القرآن لقولـه تعالى : (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ )) [النجم: 23 ]، وماجاء في معناه، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه  e ، وليس تحريمها في القرآن نصا، وانما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا...

 

ومنها: تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية التي يفهم به عن الله ووسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا، ويدينون به، ويخالفون الراسخين في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسم واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك...

... فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب ، حيث قال: إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه، ولا تتبعوا به أهواءكم، أي فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى. وعنه أيضاً "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل ئأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينفس المال على أخيه" .

وعن الحسن: أنه قيل له: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: نعم فليعلمها فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك ".

وعنه أيضاً قال:  أهلكتهم العجمة، يتأولون القرآن على غير تأويله.

ومنها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف، وطلب الأخذ به تأويلأ، كما أخبر الله تعالى في كتابه إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثي- بقوله: (( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه)) (آل عمران:7)  وقد علم العلـماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة

حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه. ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي... ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد: وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضه ببعض، فإن مأخذ الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها إلى ما سوى ذلك من مناحيها... فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا تصورت صورة واحدة. وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما- أي دليل كان- عفواً وأخذاً أولياً وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي...

ومن اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها أو في العمومات من غير تأمل، هل لها مخصصات أم لا، وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أوخاصاً فيعم بالرأي من غير دليل سواه: فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل.

ومنها: تحريف الأدلة عن مواضعها، بأن يرد الدليل على مناط، فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله.

ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً ، إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك     السبب مبتدعاً .. "([89]) أهـ.

وبعد هذا النقل النفيس في بيان مآخذ أهل البدع في الاستدلال والتي يشبهون بها على من جالسهم، أو ناظرهم أو قرأ لهم أو استمع حديثهم فيكون ذلك سبباً في الإضلال والانحراف عن طريق أهل الاستقامة. يحسن بعد هذا نقل بعض ما روي عن أهل الاستقامة في النهي عن مجالسة أو مناظرة أهل البدع وجدالهم والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم المنحرفة ([90]) ليظهر لنا حرص السلف على حماية قلوبهم والابتعاد عن الأسباب التي تكون سبباً في الضلال والإضلال.

ومن هذه النقولات:

* عن الحسن قال: قال معاذ بن جبل أنه قال: "إنما أخشى عليكم ثلاثة من بعدي زلة عالم وجدال منافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوه. ومن لم يكن غنياً من الدنيا فلادين له . قال عبد المؤمن فسألت أبي ما يعني بهذا ؟ فقـال :

سألناه فقال: من لم يكن له من الدنيا عمل صالح فلا دين له)([91]) .

*عن مجاهد قال: قيل لابن عمر : إن نجدة- أي الخارجي- يقول : كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء([92]) .

 

*كان الحسن يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم([93]) (3).

* عن سعيد بن عامر قال: سمعت أسماء يحدث قال: دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا. قال: تقومان عني وإلا قمت، فقام الرجلان فخرجا فقال بعض القوم: ماكان عليك أن يقرآ آية؟ قال: إني كرهت أن يقرءا آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي "([94]).

* عن أبي قلابة قال: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم كثيرا مما تعرفون (4).

 

 

 

* عن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب: احفظ عني أربعاً: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمدe فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك([95]) .

عن معمر قال: "كان ابن طاووس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال: فجعل يتكلم قال: فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه قال: وقال لابنه: أي بني: أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد لا تسمع من كلامه شيئاً قال معمر: يعني أن القلب ضعيف " (1).

فهل بعد هذه الآثار من عذر لبعض دعاة أهل السنة الذين يرون فتح المجال لأهل البدع والأهواء ليقولوا قولهم، ويرد عليهم من يرد، وذلك لفتح الباب للنقاش الحر زعموا؟!

(4) إهمال الأخذ بقاعدة سد الذرائع عند بعض المتصدرين للفتوى، وقلة الفقه بواقع المسألة المستفتى عنها وعدم الانتباه لمكر وخداع بعض المستفتين، مما قد يدفع بعضهم إلى إصدار فتاوى مجردة لم يراعوا فيها مآلات فتواهم، مما قد يؤدي إلى بعض المفاسد والشرور في مجتمعات المسلمين، كما هو الحاصل اليوم مما نسمعه من بعض الفتاوى التي يفرح بها ضعاف الإيمان، ويتربص بها المفسدون ليوظفوها في مخططاتهم الإفسادية.

وسيأتي في مبحث قادم إن شاء الله تعالى مناقشة لمبدأ سد الذرائع، وضرورة مراعاته في إفتاء الناس، وما ينوبهم من قضايا ونوازل.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديثه عن الفوائد المتعلقة بالفتوى: (الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه- أي المفتي- إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهه في الشرع. وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم.. "([96]) أهـ.

وبالجملة فإن الشبهات إنما تأتي حينما يقل العلم الصحيح بالشرع ويكثر الجهل، وعندما يقل وجود الراسخين من أهل العلم الذين يجمعون بين العلم والورع والفقه في الواقع، أو يوجدون ولكن أثرهم في الأمة قليل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني: الأسباب التي توقع في الشهوات:

 

وهذا النوع من الأسباب التي ئضعف الاستقامة على دين الله عز وجل ليس مصدرها قلة العلم بالشرع، أو الاشتباه في معرفة الحكم الشرعي، وإنما مصدرها الشهوة والهوى، وضعف الوازع الديني، لأن من يقع في المخالفات بسبب الشهوة لم يؤت من عدم معرفته بالحكم الشرعي

فيها، بل يعرف أنها حرام، وإنما أتي من ضعف إيمانه وصبره ومسايرة هواه وشهوته أو مسايرة شهوة غيره ممن يلتمس رضاهم ويتقي سخطهم.

ومن أهم هذه الأسباب ما يلي:

ا- إنفتاح مجالات الإفساد على الناس من أوسع أبوابها المقروء والمسموع والمشاهد والتي تركز على إثارة الشهوات، وإشاعة الفاحشة بين الناس وتسهيل أمرها، ويتولى كبر ذلك المفسدون في الأرض سواء القائمون على مؤسسات الإفساد أو الذين مكنوا لهم لينشروا فسادهم. ووافق ذلك ضعف التربية، وضعف الوازع الديني عند كثير من الناس، وميلهم إلى الشهوات. وساير بعضهم بعضاً، ففتحوا قلوبهم وبيوتهم لهذه الوسائل المفسدة، فتربى عليها الصغير، وشاب عليها الكبير، فلاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد يقاوم بعض أهل الخير هذه الشهوات والمفاسد، وينأى بنفسه وأهله عنها في أول الأمر، لكن قوة تيار الفساد، وشدة الضغوط التي تضغط عليه من داخل بيته ومن خارجه تجعل بعضهم لا يستطيع الاستمرار في المقاومة والثبات لما يواجه من العنت والمشقة في ذلك؟ فيلقي السلاح في نهاية المطاف، ويصعب عليه القبض على الجمر فيسقط ضحية مسايرة الواقع، وأهواء الناس وشهواتهم. وقد يكون متألماً في أول الأمر، لكن ما يلبث أن يستمرئ المنكر مع مرور الوقت، ويستسلم لهواه في ذلك والعياذ بالله تعالى. وهذا مكمن الخطر في مسايرة هوى النفس وأهواء الآخرين، حيث أن الشيطان لا يقنع بخطوة واحدة من التنازل بل يسعى لمزيد من

الخطوات في التنازل والتحلل من الأحكام الشرعية وقد حذرنا الله عز وجل من خطوات الشيطان بقوله تعالى: (( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) (البقرة: 168) ، وما دام أن العبد يشعر بالندم، والألم ويعترف بوقوعه في المحذور، ويسعى بجهده إلى الإقلاع والتوبة فهذا على خير ويرجى له التوبة إن شاء الله تعالى. أما إذا تحول الأمر عنده إلى تبرير هذه المخالفات وتأصيلها، ومزج شهوته وهواه بشبهة يغطي بها معصيته، ومخالفته فهذه هي المصيبة، لأن هذا هو التلبيس بعينه والله عز وجل لا تنطلي عليه الحيل، ومثل هذا لا يرجى له أن يقلع من سقطته إلا أن يشاء الله تعالى.

2- الطمع في الدنيا وإغراءاتها وشهواتها:

إن الدنيا ومغرياتها، وشهواتها لا يتماسك أمامها إلا من ثبته الله عز وجل؟ فخاف مقام ربه سبحانه ونهى النفس عن الهوى، وكان في عمره حذراً خائفاً من مزلات الأقدام ومضلات الفتن.

ولقد جدَّ في زماننا اليوم من مغريات الدنيا وفتنها، وشهواتها ما أصبح سبباً في تساقط كثير من الناس في حبائلها، وبعدهم عن طريق الاستقامة، حيث انفتحت الدنيا بزخرفها وزينتها. وشمل ذلك جميع جوانب الحياة، وساير الناس بعضهم بعضاً فيها، وتنافسوا فيها حتى أوقعهم ذلك في الترف المحرم، والتفاخر بالأموال والأولاد والمساكن واللباس إلخ؟ وكان للمرأة النصيب الأكبر من هذه الفتنة، ففتنت نفسها وفتنت غيرها، وظهرت ألوان وألوان من المخالفات الشرعية لم يسلم منها إلا من رحم الله عز وجل.

وسيأتي في مبحث قادم إن شاء الله تعالى ذكر بعض هذه المظاهر والمخالفات بشيء من التفصيل. ويندرج تحت هذا السبب من أسباب ضعف الاستقامة: الطمع في مناصب الدنيا وشهوة حب الظهور والشهرة فيقع بعض الناس بسببها في بعض التنازلات والمخالفات المجانبة لطريق أهل الاستقامة.

وأحذر نفسي وإخواني الدعاة من هذا المزلق الخطير، فلكم رأينا ممن يكتم الحق، أو يقول الباطل، ويثني على أهله طمعاً في منصب أو شهرة أو دنيا زائلة. وأدهى من ذلك وأشنع من يتبنى الباطل وينشره مع علمه ببطلانه لا لشيء إلا ليشتهر بين الناس، ويكثر الرادون عليه، ويتردد اسمه بين الناس ولو على سبيل التشهير ومجانبة الحق، وذلك طبقاً لقول القائل: ((خالِف تُذكَرْ))،. وهذا مرض نفسي وشهوة خفية أصلها شعور من هذا شأنه بالنقص والإحباط لسبب من الأسباب، وبدلاً من أن يأخذ بالأسباب الشرعية في علاج مرضه هذا مال مع هواه وشهوته في إظهار نفسه وإشهارها بين الناس ولو بالباطل عياذأ بالله تعالى.

3- الحقد والحسد: وهذان المرضان من أشد الأمراض فتكاً بالقلوب، ومن أقوى الأسباب المانعة من الاستقامة على دين الله عز وجل. وهما من أمراض الشهوات التي تدفع أصحابها إلى رد الحق، مع علمهم أنه حق، وإلى ارتكاب الباطل مع علمهم ببطلانه. والحسد هو الذي كفر بسببه إبليس، واليهود، وكل من رد الهدى بعد بيانه.

قال الله عز وجل عن اليهود: (( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ *  بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ )) (البقرة:89 ،90) ، وقال سبحانه وتعالى عنهم: (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) (البقرة:109) ، وهكذا يعمل الحسد في القلوب، حيث يتعمد الحاسد مخالفة الحق، وملابسة الباطل لأن فلاناً الذي يحسده، ويحقد عليه جاء به، ودعا إليه. نعوذ بالله من الخذلان.

4- التعصب المذموم: وهذا أيضاً من أمراض الشهوات التي تصد العبد عن الحق وتصرفه عن طريق الاستقامة، فبسببه يتعصب من في قلبه هذا المرض للباطل الذي يعلم بطلانه، ويقع في المخالفات الشرعية التي يعلم حرمتها لا لشيء إلا أن شيخه الذي يحب! ويتعصب له أو طائفته التي يتحزب لها كانوا على هذه المخالفة فلا يريد أن يخالفهم، أو يحكم عليهم بالخطأ ومجانبة الاستقامة. وهذا هو الهوى والاستكبار عياذاً بالله من ذلك.

5- مخالطة أصحاب الشهوات: وهذا السبب من أعظم أسباب الانحراف ، والوقوع في الشهوات ، ومخالفة أهل الاستقامة وطريقهم ، لأن الإنسـان بطبيعته يؤثـر ويتأثر . فإذاخالط أهل الشهوات ، وحضر

مجالسهم المملوءة بالمفاسد والشرور، تأثر بهم إن عاجلاً أو آجلاً ، لأن الإنسان ضعيف، والشيطان والنفس يأمرانه بالسوء؟ فإذا اجتمعت عليه هذه الشرور أصبح أسير أعدائه من شياطين الإنس والجن، ولا يلبث أن يصبح قتيلهم، إلا أن يتداركه الله برحمة من عنده، فيبغض له هذه المجالس وينقذه منها.

ونعني بمجالس أهل الشهوات تلك المجالس التي لا يستحيي أهلها من قول الكلام الفاحش الذي يثير الشهوة، ويحببها للنفس، أو التي تثار فيها الغرائز بقراءة القصص الماجنة، ورؤية المجلات الخبيثة، والأفلام الخليعة، وغير ذلك مما جد في زماننا اليوم وتفنن فيه أهل الفساد والشهوات الذين يريدون أن يميلوا بالناس ميلاً عظيماً.

- ويلحق بذلك مجالس أهل الدنيا والتجارات الذين لا يفرقون بين الحلال والحرام، ولابين البيع الحلال والربا الحرام ؟ فإن في مجالسة هؤلاء خطراً على من جالسهم حيث يحذو حذوهم، ويقع فيما وقعوا فيه من المال الحرام ؟ ثم يستمرئ ذلك مع الوقت، ويمتلى القلب بشهوة حب المال؟ فلا يبالي بعد ذلك أجمع المال من حلال أو حرام؟ كما لا يبالي في إنفاقه أفي حلال أم حرام.

- كما أن من المجالس التي توقع العبد في الشهوات مجالس أهل الجاه والسلطان، فكم فتنت من عالم وداعية، ومن دونهما أولى وأحرى، ذلك أن مثل هذه المجالس لا يكون فيها إلا ذكر الدنيا ومشاهدة زخرفها وزينتها. وأشد من ذلك ما يكون فيها من الإغراء والمساومات لأهل العلم

والدعوة، حتى يكتموا الحق، أو يقولوا الباطل، أو يلبسوا الحق بالباطل، ويداهنوا أصحاب السلطان من أجل هذه الدنيا الزائلة، سواء كان ذلك منصباً، أو مالاً أو أي عرض من أعراض الدنيا التافهة. وهذه الفتنة إنما كان بدايتها حضور مثل هذه المجالس التي قد يزين الشيطان حضورها، ويلبسها لهم بلبوس شرعي حتى يقعوا في حبائل هذه الفتنة وشركها، وقد حذر الرسول e من هذه الفتنة بقوله: (( من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً ))([97]) .

6- الهزيمة النفسية عند بعض المسلمين الذين رأوا حضارة الغرب وما

فيها من التقدم العلمي والصناعي، والترف المادي، فانبهروا بذلك وانساقوا وراء شهواتهم، وصاروا يحاكون الغرب في كثير من عاداته وتقاليده، وبخاصة أولئك الذين درسوا في بلاد الغرب، أو كانوا من المكثرين من الأسفار إلى بلدانهم سواء لتجارة أو سياحة أو غيرها، أو الذين فتحوا قلوبهم وعقولهم وبيوتهم لثقافات الغرب وعاداته وفساده ومجونه التي تبث عبر القنوات وغيرها؟ فوافق ذلك خواء في العلم الشرعي، وضعفا في التربية الإيمانية "فوافق قلباً خالياً فتمكنا"، وظهرت كثير من المخالفات الشرعية، بداية من أخطرها ألا وهي موالاة الكفار، والتشبه بهم، وضعف البراءة منهم. وانتهاء بدقائق العادات والممارســات في المأكل والملبس

 

والمسكن... وغيرها. وممن كرس هذه الهزيمة في بلدان المسلمين قوم من بني جلدتنا يدعون العقلانية والعصرانية والاستنارة، وهم مع ذلك قد سقطوا في حمأة التقليد، وأهملوا إعمال العقول فيما يضر وفيما ينفع، فتراهم يدعون إلى محاكاة الغرب، وتطوير الإسلام وأحكامه بما يناسب العصر ويساير الواقع، كبرت كلمة تخرج من أفواههم؟ فلا شرع لديهم ولا عقل إلا ما وافق أهواءهم وشهواتهم.

وسيأتي في مبحث قادم إن شاء الثه تعالى مناقشة للقوم وشبهاتهم؟ أسأل الله عز وجل العون والتوفيق.

وهنا كلمة أخيرة حول الأسباب بعامة، ما كان مصدرها الشبهات أو الشهوات أنبه فيها نفسي وإخواني المسلمين إلى خطر الشيطان الرجيم الذي هو مصدر هذه الشرور كلها، والذي لا يبالي من أي باب يدخل منه على الإنسان، أمن باب الشبهات أو الشهوات؟ فالمهم عنده الإضلال. وإن كان إضلال الناس بالشبهات أحب إليه من إضلالهم بالشهوات، لأن صاحب الشبهات يحسب أنه على الحق، فقليل منهم من يتوب ويقلع، أما صاحب الشهوات فيعلم أنه على مخالفة ومعصية فالتوبة منه أقرب وأحرى.

وهناك أمر آخر يتعلق بالشيطان وإغوائه، ألا وهو عدم يأسه من إغواء الناس مهما فشل في محاولاته؟ بل يستمر ويستخدم جميع المحاولات، وشتى الوسائل حتى يفور ببغيته، وهو لايحقر أي شيء في الإغواء، بل يفرح بأي قدر من الإنحراف يحصل للناس رلو كان قليلأ، ويسير معهم

خطوة خطوة كما قال الله عز وجل محذراً عباده المؤمنين من خطوات : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) (البقرة:208)  . وأسوق بهذه المناسبة كلاماً بديعاً للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوضح فيه خطر الشيطان وخطواته المتنوعة في الإغواء، واستخدامه جميع أسباب الغواية في إبعاد الناس عن طريق الاستقامة، سواء كان بالشبهات أو الشهوات، وفرحه بأي شيء يقدح في عقيدة المسلم أو سلوكه. يقول رحمه الله تعالى:

"... فإنه- أي الشيطان الموكل بالعبد- يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض. لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها:

العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح. فإن اقتحم هذه العقب! ونجا منها ببصيرة الهداية، وسلم معه نور الإيمان طلبه على:

العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة. إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل  الله به رسوله، وأنزل به كتابه. وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله: من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً. والبدعتان في الغالب متلازمتان قبل أن تنفك إحداهما عن الأخرى... فإن قطع   هذه العقبة، وخلص منها بنور السنَّة، واعتصم منها بحقيقة المتابعة، وما مضى عليه السلف الأخيار، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وهيهات

أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحدة من هذا الضرب! فإن سَمَحَتْ به نَصَب له أهلُ البِدَع الحبائل، وبَغُوه الغوائل، وقالوا مبتدِع محدِث.

العقبة الثالثة: وهي عَقبة الكبائر. فإن ظفر به فيها زَيَّنها له، وحسنها

في عينه، وسوّف به، وفتح له باب الإرجاء، وقال! له: الإيمان هو نفس التصديق ؛ فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق، وهي قوله "لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة". والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه لمناقضتها الدين، ودفعها لما بعث الله به رسوله. وصاحبها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها، بل يدعو الخلق إليها، ولتضمنها القول على الله بلاعلم، ومعاداة صريح السنة ومعاداة أهلها، والاجتهاد على إطفاء نور السنة، وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولاه الله ورسوله. واعتبار ما رده الله ورسوله، ورد ما اعتبره. وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه. وإثبات ما نفاه، ونفي ما أثبته. وتكذيب الصادق، وتصديق الكاذب. ومعارضة الحق بالباطل. وقلب الحقائق بجعل الحق باطلأ، والباطل حقا. والإلحاد في دين الله. وتعمية الحق على القلوب، وطلب العوج لصراط الله المستقيم. وفتح باب تبديل الدين جملة.

فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها، حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين. فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون في ظلمة العمى (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)) [النور: 40].

 

فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله، أو بتوبة نصوح تنجيه منها، طلبه على:

العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر. فكال له منها بالقفزان، وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أو ما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات. ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها. فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالأ منه. فالإصرار على الذنب أقبح منه. ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. وقد قال e: (( إياكم ومحقرات الذنوب ثم ضرب لذلك مثلأ بقوم نزلوا بفلاة من الأرض. فأعوزهم الحطب، فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود، حتى جمعوا حطباً كثيراً ؛ فأوقدوا نار، وأنضجوا خبزتهم؟ فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهـلكه)) ([98]) .

العقبة الخامسة: وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها؛ فشغله بها عن الاستكثار من الطاعاث، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات. وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح، والمكاسب العظيمة، والمنازل

العالية، ولو عرف السعر لما فوت على نفسه شيئا من القربات، ولكنه جاهل بالسعر.

فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد، ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها، وقلة المقام على الميناء، وخطر التجارة، وكرم المشتري، وقدر ما يعوض به التجار، فبخل بأوقاته، وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح طلبه العدو على.

العقبة ا السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات. فأمره بها وحسنها في عينه. وزينهـا له، وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم سببا وربحا. لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية؛ فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الاحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له.

ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.

فإن نجا منها بفِقْهٍ في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرهـا، والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها. فإن في الأعمال والأقوال سيداً ومسوداً، ورئيساً ومرؤوساً، وذروة وما دونها، كما في الحديث الصحيح     (( سيد الاستغفار : أن يقول العبد : اللهـم أنت ربي ، لا إله إلا أن الحديث)) ([99]) وفي الحديث الآخر: (( الجهاد ذروة سنام الأمر))  ([100])، وفي الأثر الآخر "إن الأعمال تفاخرت. فذكر كل عمل منها مرتبتة وفضله. وكان للصدقة مزية في الفخر عليهن "[101] (3) ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، والسائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه.

فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها. ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه. وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط. وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به. فهو  في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله؛ فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين. وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولوا البصائر التامة. ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه

لعدوه، وإغاظته له وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من

كتابه:

أحدها: قوله: (( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة)) [النساء: 100] ، سمي المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما يراغم به عدوه الله وعدوه. والله يحب من وليه مراغمة عدوه، وإغاظته. كما قال تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) [التوبة: 120]، وقال تعالى: في مثل رسول الله e وأتباعه: (( وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) [الفتح: 29]

... فمن تعبد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر. وعلى قدر محبة العبد لربه، وموالاته ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة. ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين، والخيلاء والتبختر عند صدقة السر، حيث لا يراه إلا الله. لما في ذلك من إرغام العدو. وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل))([102])  أهـ.

 

*  *  *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

ذكرلبعض المظاهرالمعاصرة فى مخالفة طريق أهل الاستقامة

 

وفي هذا الفصل سأتطرق إن شاء الله تعالى لأهم مظاهر البعد عن الاستقامة في واقعنا المعاصر، أنصح وأحذر بها نفسي بادئ ذي بدء، ثم أخص بها إخواني الدعاة وطلبة العلم الذين هم نور المجتمعات، وقدوات الناس، والذين تعقد عليهم الآمال بعد الله عز وجل في التغيير والإصلاح، وإنقاذ الأمة مما حل بها من الشرور والفتن.

وحينما أتطرق لذكر بعض هذه المخالفات؛ فلست أعني بها تلك المخالفات التي تطرأ في حياة كل فرد من بعض الذنوب والمعاصي، ثم يتوب منها ويقلع؛ فمثل هذه المخالفات لايسلم منها أحد، ولو كان من أولياء الله المتقين، لأن بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون؛ وإنما أعني بها تلك المخالفات الواضحة التي يصر عليها أصحابها، إما بشبهة فاسدة، أو شهوة عاتية أو بهما جميعا، وتصبح عادة له في حياته ومنهجه لا يحاسب نفسه في تركها، بل قد يناضل عنها ويبرر فعله لها.

كما أكرر القول بأني لا أقصد بهذه المظاهر أولئك المفسدين الذين يسعون لإفساد الأمة أفرادا ومجتمعات في جميع مجالات الحياة، وينفذونه بمكر الليل والنهار؛ فهؤلاء أمرهم معروف وفسادهم مفضوح، وإنما أقصد نفسـي، وإخـواني مـن الدعاة وطلبة العلم الذين يتعرضون لهذه الفتن

 

المتلاطمة، وقد يقع فيها البعض منا بشبهة أو شهوة، لعل فيها تحذيرا لمن لم يقع فيها أن ينتبه لخطرها ويتوقاها. ولمن وقع فيها أن يحاسب نفسه ويقلع عنها.

ويمكن الحديث عن مظاهر هذه المخالفات من خلال المباحث التالية:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول

ذكر بعض هذه المظاهر في مجال الفكر والعقيدة

المظهر الأول:

ضعف عقيدة الولاء والبراء

إن الولاء والبراء هو صلب التوحيد وأسه الذي لا يقوم إلا به، لأن حقيقة التوحيد تقوم على كلمة التوحيد والإخلاص كلمة لا إله إلا الله) وهذه الكلمة العظيمة تقوم على ركنين. الأول: البراءة من الشرك والمشركين ومعبوداتهم وهذا معنى لا إله). والثاني: إفراد الله سبحانه وحده بالعبادة والولاء لاشريك له. وهذا معنى (إلا الله). وبدون هذين الركنين لا يقوم بنيان التوحيد. وبسقوط أحدهما أو كلاهما يسقط بنيان التوحيد.

والبراءة من الشرك والمشركين تعني عداوتهم وبغضهم، وبغض من أحبهم ، والهجرة من بلدهم إذا لزم الأمر ، وجهادهم بعد دعوتهم ، كما

 

 

 

 

تعني بغض شركهم والكفر به، وفضحه، وبيان خطره للناس، وتحذيرهم منه .

أما الولاء فيعني محبة الله عز وجل وعبادته وحده ومحبة رسله ومحبة الموحدين له ونصرة دينه، ونصر أوليائه المؤمنين. وخلاصة معنى الولاء والبراء هو محبة الله عز وجل ونصرة دينه ومحبة ما يحبه ومن يحبه. والبراءة مما يبغضه الله عز وجل ومن يبغضه وعداوتهما.

قال الله تعالى آمرا عباده المؤمنين بالتأسي بإمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام في ذلك: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.....)) [الممتحنة:4] ، وقال سبحانه : (( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [المجادلة:22] والآيات في ذكر موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين والمنافقين كثيرة ومعروفة. وليس المقصود هنا تفصيل القول في هذه المسألة العظيمة، وإنما أردت الإشارة إلى خطورة التساهل فيها، أو الوقوع في مايضعفها، ويوهنها وهي بهذه المنزلة العظيمة، وذلك بكونها أصلأ أصيلأ من أصول عقيدة التوحيد، وأن أي ضعـف يصيبهـا أو يخدشــها، إنما هو ضعف

وخدش في التوحيد. وما أحسن ما أوصى به الإمام محمد بن عبد الوهاب إخوانه حينما قال:"... فالله الله إخواني: تمسكوأ بأصل دينكم أوله وآخره، أسه ورأسه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، واعرفوا معناها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين؛ واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم فقد كذب على الله وافترى، بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم، ولو كانوا: إخوانه وأولاده. فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً "([103]) .

وأسوق فيما يلي بعض الأمثلة من واقعنا المعاصر والتى تدل على ضعف هذه العقيدة في بعض النفوس:

المثال الأول:

السكوت من بعض الدعاة على صور من الشرك الأكبر تلبس به طوائف من الناس في كثير من بلدان المسلمين. فكم يرى بعض الدعاة أنواعا من الشرك بالله عز وجل في العبادة والنسك من سؤال الموتى والذبح والنذر لهم، وإقامة الموالد الشركية، وغير ذلك من الصور الشركية، ثم لايكون هناك منهم الدعوة الجادة إلى التوحيد، والنكير. والتحذير مما يضاده من مثل هذه الشركيات، بل الواقع من بعض الدعاة

الذين يرون مثل هذه المظاهر الشركية هو التساهل وعدم الحزم والعزم، ووضع الخطط والبرامج، والوسائل المختلفة في دعوة الناس إلى التوحيد وتحذيرهم من هذا الشرك الخطير الذي يحبط جميع الأعمال، بحيث لا تنفع معه صلاة ولا صوم ولا حج ولا غير ذلك من القربات، وأنه من أسباب الخلود في نار جهنم؛ فحري بذنب هذا خطره وهو أعظم الذنوب أن يخص بالاهتمام وبيان خطره للناس ودعوتهم إلى التوحيد الخالص الذي لا يصح إلا بعبادة الله وحده والبراءة من الشرك وأهله.

والمقصود أنه كلما قويت عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية، دفعه ذلك إلى بيان التوحيد الخالص للناس، وأزعجه، وأقض مضجعه رؤيته لمظاهر الشرك الأكبر يتلبس بها بعض الناس، كما يدفعه ذلك إلى بذل الجهد في تحذير الناس منه، وإنقاذهم بإذن الله تعالى مما يؤدي بهم إلى الشقاء في الدنيا، والخلود في نار جهنم في الدار الآخرة. والعكس من ذلك حينما تضعف عقيده الولاء والبراء في النفس؛ فإنه في المقابل تضعف الهمة والحركة لفضح الشرك وتحذير الناس منه ومن شره.

المثال الثاني:

السكوت على مظهر آخر من مظاهر الشرك الأكبر، ظهر بشكل جلي في عصورنا المتأخرة ألا وهو تبديل شرع الله الحكيم العليم، وتنحيته    عن الحكم، وأن تكون له السيادة. وتحكيم القوانين الوضعية، والتشريعات الجاهلية بدلا منه، وجعل السيادة العليا لها، ممثلة في طاغوت يشرع     مـن دون الله تعـالى، إمـا فرداً، أو مجلساً، أو برلماناً، أو غير ذلك.

وإن من مقتضيات الولاء والبراء فضح هذا الشرك والبراءة منه وبيانه للناس حتى يكفر به.

ومع أنه لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من هذا الكفر المستبين- إلا

من رحم الله تعالى- فإن فضح هذا الشرك، والبراءة منه ومعاداته ومعاداة أهله لم يأخذ حظه من البيان من بعض الدعاة وطلبة العلم، وعلماء الأمة، بل بقي كثير من الناس تحت تأثير الإعلام المضلل لهذه الأنظمة يحسبون أنهم في ظل أنظمة إسلامية؛ فبذلوا لها الولاء والحب والنصرة، وعادوا من يعاديها. فمن هو المسؤول عن السكوت عن هذا الشرك الأكبر؟

والجواب: أن هناك تقصيرا من كثير من الدعاة وأهل العلم في بيان

هذا الشرك للناس، فالدعاة في كل بلد هم المسؤولون عن أي تقصير في هذا البيان، أولا: لأن من مقتضى الكفر بالطاغوت: البراءة منه ومعاداته وبيان خطره للناس، وتحذيرهم منه، وثانيا: لأن الله عز وجل قد أخذ على أهل العلم الميثاق ببيان الحق للناس. وإن أحق الحق الذي لا يجوز تأخير بيانه هو التوحيد، والتحذير من أبطل الباطل وهو الشرك بالله تعالى.

قال الله عز وجل: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) [آل عمران:187] .

 

 

وينبه الدكتور الصاوي على وجوب العلم بهذه القضية فيقول وفقه الله تعالى: "إن التأكيد على قضية انعدام الشرعية عن النظم التي لا تكون السيادة فيها لشريعة الله عز وجل، بل لبشر من دونه ولا يكون الرسول e فيها هو المتبوع المطاع، بل الأهواء التي تسمى إرادة الأمة،وإشاعة العلم بذلك بين الخاصة، والعامة يعد من اكد القضايا التي يجب أن تعني بها الجماعات الإسلامية المعاصرة سواء في دعوتها إلى الله - عز وجل- وخطابها إلى العامة، أو في علاقاتها بعضها ببعض...

... إن أهمية إشاعة العلم بهذه القضية في أوساط العامة هو بسبب تراكم الجهل بحقائق التوحيد عبر عصور الانحطاط التي مرت بها هذه الأمة، والتي كان من نتاجها إفراغ كلمة التوحيد من معانيها الأساسية، مما أتاح لأعدائها من الصليبيين واليهود والعلمانيين أن ينحوا شريعة الله عن مواقع الحكم والتشريع، وأن يجعلوا الحق في التشريع المطلق إلى بشر من دون الله، مع إيهام الناس أن إسلامهم وشرعية أوضاعهم لا تتأثر بذلك...

... إن إشاعة العلم بهذه القضية ضرورة ماسة لتحمل هذه الأمة هم الإسلام وتتحرك به بعد أن استنامت طويلا إلى مفاهيم مغلوطة، صورت لها فيما صورت أن أمر تحكيم الشريعة لا علاقة له بشرعية النظام أو إسلامه، وأن الشرعية تتحقق من خلال الانتخابات والبرلمانات ومعسول الشعارات؛ الأمر الذي أتاح لعدوها بعد انسحاب جيوشه من بلاد المسلمين أن يقيم حكومات من أهل هذه البلاد تستمر في تحكيم القوانين الوضعية وتنحية الشريعة الإسلامية، بينما هي تتمتع في حس الأمة بشرعية كاملة،

فتقبلها الناس بنظمها الفاسدة، وقواعدها الوضعية الباطلة دون أن يحركوا ساكنا. والواجب عليهم أن يقفوا في وجهها مطالبين بالعودة إلى الإسلام والحكم بشريعة الله حتى تتحقق لهذه النظم: الشرعية وتجب لها       الطاعة "([104])

وقد يقول الساكتون الذين لم يبينوا هذا الكفر البواح، والشرك الأكبر للأمة بأننا نخشى الفتنة، وما يترتب من المفاسد على البيان، لذا ينبغي الصبر والسكوت حتى يتقوى المصلحون ثم يبينون ذلك ويواجهون به ا لطوا غيت.

وللرد على هذا الكلام أقول وبالله التوفيق: إن هناك فرقا بين التبيين والتغيير. والمطلوب هنا البيان باللسان أو القلم دون التغيير باليد والسنان، فإن التغيير بالجهاد والمواجهة يشترط فيه القدرة، ومراعاة المصالح والمفاسد. أما بيان المعروف الأكبر وهو التوحيد، والمنكر الأكبر وهو الشرك فلا يجوز تأخيره أبدا.

إن هذه القضية هي التي بينها الرسل عليهم الصلاة والسلام من أول يوم، وواجهوا بها أقوامهم، ولم يؤجلوها لحظة واحدة. وهذا هو الرسول

e أعلنها لقومه منذ أن أمره ربه سبحانه بالإنذار بقوله{ قم فأنذر }، وهو خائف مستضعف، وأصحابه مستخفون بإسلامهم، بينما نجده e فيما يتعلق بالتغيير والقوة قد أجل ذلك حتى تمت له القوة والقدرة ولم يحطم الأصنام التي في جوف الكعبة إلا بعد فتح مكة عندما هزم الله الشرك وأهله، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وبقيت هذه الأصنام بعد بعثته e إحدى وعشرين عاما لم تحطم إلا في السنة الثامنة من الهجرة  بعد فتح مكه، بينما تم بيان شرك من يعبدها وشرك من يتحاكم إليها وأمثالها من الطواغيت من أول يوم في البعثة.

والحاصل أن هناك فرقاً بين التبيين والتغير، وكذلك فيما يتعلق بالأمر المراد بيانه للناس، فإنه يختلف تأجيله أو تعجيله حسب أهميته وخطورته، فما كان من أمر يتعلق بتوحيد العبادة الله عز وجل وبيان ما يضاده من الشرك الأكبر، فهذا أمر لا يحتمل التأخير، ولا تدخله المفاسد والمصالح، لأنه لا فتنة ولا مفسدة أكبر من الشرك، وأي فتنة تربو على ترك الناس على شركهم أو تضليلهم في دينهم فيوالون المشركين ويعادون المصلحين!!؟

أما إذا كان الأمر المراد بيانه من المنكرات دون ذلك من جنس المعاصي، فهذا ينظر فيه إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد حسب الضوابط الشرعية والقواعد المرعية، والله أعلم.

ثم إن هنا أمرا مهما يتعلق بالبيان لمظاهر الشرك الأكبر، وتحذير الناس منها، ألا وهو ضرورة التسلح بالصبر وتوطين النفس على مواجهة الابتلاء

بالسراء والضراء، وعلى النصيحة في سبيل الله تعالى لأن هذا البيان لا يرضى عنه الطواغيت؛ وقد يواجهون الدعاة الذين يصدعون ببيان التوحيد الحق، وما يضاده من الشرك، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، حتى يكفوا عن ذلك. فليحذر المصلحون من هذه المزالق كي لا تزل فيها الأقدام وكي لا يتركوا من أجلها ما أوجبه الله عليهم من البيان. ولنعلم أن بيان التوحيد وما يضاده من الكفر والشرك بالله عز وجل يستحق أن يضحى من أجله بالنفس والنفيس وأن يستعلى فيه على الخوف والطمع. ولنا في أنبياء الله عز وجل والمصلحين من أتباعهم أسوة حسنة في التضحية والصبر العظيم الذي بذلوه في سبيل بيان التوحيد وما يضاده من الشرك ثم كانت العاقبة للمتقين([105]) .

المثال الثالث:

وهو متصل بما قبله، وإنما أفردته هنا لخطورته وتركيز الضوء عليه، ألا وهو ما ظهر علينا في الآونة الأخيرة من بعض الدعاة هداهم الله، حيث أن الأمر بالنسبة لهم- ويا للأسف الشديد- قد تجاوز السكوت عن هذا

الكفر الاكبر الذي أشرت إليه آنفا في الفقرة السابقة إلى التهوين من شأنه والدفاع عن كونه شركا أكبر، إنما هو من جنس المعاصي والذنوب التي يفعلها العباد ما دام أن المشرع لهذه القوانين، والحاكم بها لم يجحد، ولم يستحل فعله هذا؛ فإن هذا من جنس سائر الذنوب، والمعاصي، وبخاصة أنه يقول: لا إله إلا الله، وينتسب إلى الإسلام، ولم يجحد شرائعه!!

وهذا القول قد يتجاوز كونه ضعفا في الولاء والبراء إلى أن يكون انحرافاً في العقيدة والتصورات.

وللرد على هذه الفرية أنقل فيما يلي نقولات مختصرة من بعض علماء الأمة في القديم والحديث؛ يظهر لنا منها أن تبديل شرع الله عز وجل بغيره من تشريعات البشر هو في حد ذاته كفر أكبر سواء وجد الاستحلال أم لم يوجد.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى- وكان ممن عاصر التتار الذين وضعوا قوانين ملفقة ألزموا الناس بها-: "إن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار. هذا إذا حكم في قضية معينة لشخص. وأما إذا حكم حكما عاما في دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، ونهى    عــما أمره الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر

 

يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي (( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص: 70] ،{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}[الفتح:28]"([106]) .

    ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، بعد أن ساق بعض فقرات الياسق الذي يحكم به التتار:"... فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله e خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا، وقدمها عليه؟ من فعل.ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال تعالى: (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50]،وقال تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65]([107]) .

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقد جاء القرآن وصح    الإجماع بأن دين الإسلام نسخ كل دين كان قبله، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه كافر، وقد أبطل الله كل شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن   والإنـس شرائع الإسلام ؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام ، ولا فرض إلا

ما أوجبه الإسلام "([108]) .

وإذا كان من التزم بما جاءت به التوراة والإنجيل، ولم يلتزم القرآن هو كافر، فكيف بمن التزم بالقانون الفرنسي أو الإنجليزي أو غيرهما من دساتير الكفر؟! وتأمل كلام هذا الإمام رحمه الله تعالى وقوله "من التزم" من غير ذكر للاستحلال، لأن مجرد الالتزام بشريعة عامة غير شريعة الإسلام كفر في حد ذاته.

وأخيراً : أنقل ما ذكره العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى وقد عاصر هذه الدول التي بدلت شرع الله عز وجل، والتزمت بغير شريعته، حيث ذكر أنواعا ستة يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبراً .

فبعد أن ذكر الجاحد، والمفضل لقوانين البشر على شرع الله تعالى، والمساوي بينهما، والمجوز للحكم بغير شرع الله تعالى "وهو المستحل ": ذكر بعد ذلك النوع الخامس والسادس فقال: "الخامس: وهو أعظمها وأشملها، وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية: إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريغاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً إلزاماً، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله   e ، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شـرائع شتى، وقوانين

كثيرة، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك.

فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيئة مكملة، مفتوحة

الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة، وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها في هذا الموضع "([109])..

ثم ذكر النوع الأخير فقال: "السادس:مايحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم"يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله " (1) أهـ.

فانظر رحمك الله كيف وضع الشيخ رحمه الله تعالى النوع الخامس والسادس بعد النوع الرابع وهو المجوز المستحل، وهذا يدل عنده على أن التبديل للشرع كفر بذاته ولو لم يوجد استحلال.

ولما رأى الذين المشترطون الجحود أو الاستحلال في كفر من حكم

القوانين الوضعية هذه النقول الواضحة البينة خرجوا على الناس بتوجيه لهذه الأقوال، لم يسبقوا إليها، ولم ندر من أين جاءوا بها، فقال قائلهم: "التبديل في الحكم في اصطلاح العلماء هو الحكم بغير ما أنزل الله على أنه من عند الله، كمن حكم بالقوانين الفرنسية وقال: هي من عند الله أو من شرعه تعالى، ولا يخفى أن الحكام بغير ما أنزل الله اليوم لا يزعمون ذلك، بل هم يصرحون أن هذه القوانين محض نتاج عقول البشر ا لقا صرة "[110] (1).

سبحان الله العظيم. ما أعظم فرح الطواغيت المبدلين لشرع الله اليوم بمثل هذا الكلام. إن هذا الكلام لمما يقدح في عقيدة الولاء والبراء: الولاء لله عز وجل وشرعه ودينه وعباده المؤمنين، والبراءة من الشرك والمشركين، وعداوتهم وفضح كفرهم والكفر بهم وبمعبوداتهم.

وقد ناقش فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله هذه الشبهة في مقال له نشر في مجلة الدعوة قال فيه: "... هذا التبديل الذي ذكرت أنه كفر بإجماع المسلمين هو تبديل غير موجود وإنما هو افتراضي من عندك لا يقول به أحد من الحكام اليوم ولا قبل اليوم، وإنما هناك استبدال وهو اختيار جعل القوانين الوضعية بديلة عن الشريعة الإسلامية؛ وإلغاء المحاكم الشرعية، وهذا كفر أيضا لأنه يزيح تحكيم الشريعة الإسلامية وينحـيها

نهائيا، ويحل محلها القوانين الوضعية، فماذا يبقى للإسلام. وما فعل ذلك إلا لأنه يعتنقها ويراها أحسن من الشريعة الإسلامية، وهذا لم تذكره ولم تبين حكمه، مع أنه فصل للدين عن الدولة، فكأن الحكم قاصر عندك على التبديل فقط، حيث ذكرت أنه مجمع على كفر من يراه، وكأن قسيمه وهو الاستبدال فيه خلاف حسبما ذكرت، هذا إيهام يجب بيانه ...."([111]) أهـ.

والذي يظهر والله أعلم أن المتكلفين لهذه الشبهة قد أتوا من تأثرهم بالمدرسة الإرجائية التي تحصر الإيمان في التصديق والإقرار، ولا تدخل العمل في حقيقة الإيمان، وبالتالي فالكفر عندهم هو التكذيب أو الجحود أو الاستحلال المضاد للتصديق، ولذلك جاءوا بهذه البدعة المحدثة في كون المبدل لشرع الله تعالى لا يكفر إلا إذا نسب ما جاء به من البديل إلى شرع الله تعالى. أي أنه لا يكفر عندهم إلا إذا أعلن كذبه على الله تعالى، وقال هذا من عند الله وما هو من عند الله، فعاد مناط التكفير عندهم إلى التكذيب والاستحلال، والكذب على الله عز وجل. لا إلى مجرد التبديل، وهذا هو أصل بدعة المرجئة الذين لا يرون الكفر إلا في التكذيب والجحود أو الاستحلال، ولا يرونه في الإباء والاستكبار، ورفض الالتزام بشرائع الإسلام ما دام أنه مصدق غير مكذب ولا جاحد ولا مستحل!!

 

المثال الرابع:

وهو أشد خطراً من سابقاته: ألا وهو السقوط في موالاة أعداء الدين

من المشركين والمنافقين، ومداهنتهم في دين الله عز وجل مع ظهور كفرهم ونفاقهم ومحاربتهم لشرع الله عز وجل. ومن ذلك أن يوجد في بعض المنتسبين إلى العلم أو الدعوة من يتقرب إلى الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شرع الله عز وجل، ويكيلون لهم الثناء والتعظيم في المحافل والمجالس العامة أو في بعض المؤلفات، حتى يخيل لمن يسمع هذا المديح وكأنه موجه لأحد الخلفاء الراشدين، وقد تحصل بعض التنازلات الخطيرة عن بعض الثوابت، والرضا بأنصاف الحلول التي تقضي على الدعوة وأهدافها. ولا يخفى ما في ذلك من خطر الوقوع في المداهنة والنفاق من أجل دنيا خسيسة من مال أو منصب يحصل عليه المداهن أو يريد الحصول عليه. وما درى المسكين أنه تحمل بذلك وزر نفسه ووزر من تسبب في تضليله من المسلمين.

ولقد سمعت- ويا للأسف- شريطاً مسجلاً لمحاضرة لأحد المنتسبين للعلم في بلد لا تحكمه شريعة الله عز وجل، بل يحكمه القانون الوضعي الذي يستحل الزنا حالة الرضى، ولا يقيم حدود الله عز وجل، ويستحل الخمر والربا، وقد امتلأت السجون في ذلك البلد من الدعاة والمصلحين الذين واجهوا هذا الكفر المستبين وأنكروه وحاولوا بيانه للناس. ومع ذلك فقد سمعت هذا المحاضر يضع نفسه في خندق هذا النظام الكفري ويسمي الرأس القائم عليه: ولي أمر المسلمين وأن من أنكر عليه علانية أو حـذر

من هذا الكفر المبين، فهو من الخوارج أعداء الدين الذين يجب القضاء عليهم وكف شرهم عن المسلمين!! إن هذا والله لمن أشد القوادح في عقيدة الولاء والبراء، وصدق ابن عقيل رحمه الله تعالى حينما قال: "إذا أردت أن تعلم محال الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بـ (لبيك)، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة"([112]) .

شبهة والرد عليها:

قد لا يكون الدافــع إلى هذه المواقف عند البعض شهوة محضة بل

قد تمزج بشبهة تبررها وذلك مثل قول بعضهم: إن هذه المواقف من باب المداراة التي يدفع بها شر أكبر، أو تتحقق من ورائها مصلحة أكبر.

وللرد على هذه الشبهة، لابد من توضيح الفرق بين المداراة التي هي صفة مدح، والمداهنة التي هي صفة ذم. فكثير ما يختلط المفهومان ببعضهما، وبالتالي تلتبس المواقف وتبرز صور من المداهنة يسعى أولئك الواقعون في فتنتها إلى إقناع أنفسهم أو غيرهم بأنهم يدارون. والله سبحانه هو علام الغيوب، ويعلم ما تخفيه الصدور، وكل إنسان أدرى بنفسه. ويمكن تفصيل الجواب على هذه الشبهة فيما يلي:

 

بوب البخاري رحمه الله تعالى في الجامع الصحيح بقوله: "باب المداراة مع الناس " وقال: "يذكر عن أبي الدرداء "إنا لنكشر([113]) في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم ".

وعن عائشة أنه أستأذن على النبي  e رجل فقال: (( إئذنوا له فبئس ابن العشيرة- أو بئس أخو العشيرة- فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول، فقال: (أي عائشة: إن شر الناس منزلة عند الله من تركه- أو ودعه- الناس اتقاء فحشه))([114]) وعلق الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على هذين الحديثين بقوله: "قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة.

وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة. والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه.

وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير

إنكار عليه.

والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعلم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك "([115]) .

ثم علق على حديث عائشة في باب "لم يكن النبي e فاحشا ولا متفحشا" بقوله: "وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم إتقاء شرهم، مالم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى. ثم قال تبغا لعياض: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أوهما معا وهي مباحة، وربما استحبت والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا"([116]) أهـ.

ويفرق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بين المداراة والمداهنة فيقول: "... وكذلك المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما: أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على الباطل ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق000"([117]) أهـ.

 

 

وبعد هذا الوضوح الذي لا لبس فيه في الفرق بين المداراة والمداهنة، نعود إلى مناقشة الشبهة المطروحة لنرى هل القرب من الطواغيت المبطلين، والثناء عليهم والسكوت على باطلهم، وتقديم التنازلات في الدين هل هذا من قبيل المداراة أم من قبيل المداهنة؟ وللجواب على ذلك نعود إلى تعريف المداراة وتعريف المداهنة ونعرض عليهما هذه المواقف، وعندها يتبين لنا حقيقة الأمر.

إن المداراة كما مرت بنا هي بذل الدنيا لإصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، والمداري هو من يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أويرده عن الباطل. فهل السكوت على ما يفعله الطواغيت من ظلم وشرك، وفساد في الأمة فيه إصلاح للدين أو إفساد له؟ وهل الذين يثنون ويمدحون الظلمة ويصورونهم للناس أنهم أهل صلاح وخير، وأنهم يحبون الإسلام ويحكمون به!! هل هذا فيه إصلاح لدين الأمة وعقيدتها أم إفساد وتلبيس وتضليل؟! إن المتأمل لهذه الأفعال والمواقف لا يتردد أبدا في وصفها بالمداهنة، وذلك لانطباقها تماما على تعريف المداهنة وهي ترك الدين لصلاح الدنيا.

أو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن المداهن بأنه: الذي يتلطف بصاحبه ليقره على باطل و يتركه على هواه.

ولو جاز لنا أن نعتبر السكوت عن قول الحق في بعض الظروف والأحوال هو من باب المداراة إذا كان الساكت يخشى أن يترتب على الكلام مفسدة عظيمة عليه أو على غيره. أقول: لو جاز لنا في هذه الحالة

اعتبار ذلك من المداراة فإنه لا يجوز بحال التكلم بالباطل واظهاره في صورة حق، أو الثناءعلى المبطلين المفسدين وإظهارهم للناس بأنهم من المصلحين والمحبين للدين وأهله، لما في ذلك من المفاسد العظيمة على الناس بتضليلهم ولبس الحق بالباطل، وجعلهم يوالون من أوجب الله عز وجل البراءة منه، ويعادون من أوجب محبته وموالاته، نعم هناك حالة وحيدة يجوز أن يقول فيها المسلم كلمة الباطل من الكفر ومادونه. ألا وهي عند الإكراه الملجئ وذلك بأن يعرض على السيف أو التعذيب الشديد، فعندها يجوز له ذلك حتى يدفع التلف عن نفسه أو عن إخوانه المسلمين، وذلك بشرطين:

أ حدهما: أن يكون القلب مطمئنا بالإيمان المستلزم للبراءة من المشركين وشركهم، وإنما قالها بلسانه تقية.

الثاني: أن يكون تحت الإكراه الملجى.

والشرطان مذكوران في قوله تعالى: (( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ))[النحل:106]

ومع ذلك فلو أخذ بالعزيمة وصبر حتى قتل ولم يقل كلمة الباطل فهو الأفضل.

نسأل الله عز وجل السلامة والعافية في ديننا ودنيانا.

وهناك من أهل العلم من اشترط شرطا ثالثا يخص حال المكره وذلك

 

بأن لا يكون من العلماء البارزين في الأمة، والذين يقتدى بأقوالهم وأفعالهم فإن كان من هؤلاء فلا يجوز له أن يترخص في قول الباطل، ولو أكره على ذلك، لأن الأمة تقتدي به وتحسب أن ما قاله هو الحق ولا تدري أن ما قاله من الباطل تقية فيحصل من ذلك فتنة للناس وإضلال، ففي هذه الحالة يرتكب أهون المفسدتين لرفع أعظمهما عند التزاحم والمفسدة التي تكون على الدين، وتعم طائفة من الناس أعظم من المفسدة التي تخص فردا في نفسه. ومن أجل ذلك لم يأخذ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بالتقية حينما أكره على قول الباطل، وهو القول بخلق القرآن، بل صبر على السجن والتعذيب خوفا على الناس من الفتنة في دينهم، وقال رحمه الله تعالى لعمه عندما طالبه بالتقية، والأخذ بالرخصة: "يا عم: إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، متى يتبين الحق "[118] (1).

والحاصل: أن قول الباطل، والثناء على المبطلين هو من المداهنة المذموم فاعلها، والذي يتحمل وزر نفسه، ووزر من ضل وانخدع بقوله أو فعله، ولن ينفع المداهن في ذلك دنيا زائلة يحصلها، أو منصب أو جاه يصيبهما من جراء ذلك إذا حقت الحقائق، وعرض الناس على ربهم يوم القيامة لا تخفى منهم خافية.

وقد لا تكون المبادرة من المداهن في طلبه الدنيا مقابل قول الباطل ،

بل قد يسعى إليه المفسدون والطواغيت يساومونه على بعض التنازلات، ويلوحون له بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى، حتى يرضى بموافقتهم، ويقدم بعض التنازلات معللا ذلك بشبهة شرعية أحيانا. ثم لا تقف التنازلات بعد ذلك عند حد، بل يتلوها تنازلات وتنازلات، وهكذا خطوات الشيطان مع الإنسان. نعوذ بالله من شر الشيطان وشركه.

وقد ورد في القرآن الكرم عدة آيات تحذر من مداهنة المبطلين، وتنهى

عن طاعتهم والركون إليهم. وقد مر بنا في أول البحث بعضها، وذلك مثل قوله تعالى: (( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)) وذكرنا أقوال بعض المفسرين عندها، ونضيف هنا كلاما جيدا لسيد قطب رحمه الله تعالى يحذر فيه الدعاة من المداهنة والمساومة في دين الله تعالى: حيث يقول: لقد تلقى رسول الله  e التكليف من ربه لينذر وقيل له: (( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ)) [المدثر:1- 2]، فلما أن نهض، واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة، وتثير في نفوسهم التشبث بما هم عليه، وتقودهم إلى العناد الشديد، ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم، ومكانتهم ومصالحهم ومألوف حياتهم، ولذائذهم وشهواتهم، إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد.

وأخذ هذا الدفاع العنيد صورا شتى، في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة، ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد ئم تشويه هذه العقيدة، وإثارة الغبار حولها بشتى التهم والأساليب كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد.. فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد

يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها، وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة e طرقا شتتى من الإغراء إلى جانب التهديد والإيذاء، ليلتقي بهم في منتصف الطريق، ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم، ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه، كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق، عند الاختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض ا لمعهودة.

وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشابهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة

إلى الله في كل أرض وفي كل جيل. والنبى e ولو أنه رسول حفظه الله من الفتنة وعصمه من الناس.. إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف. والله يعلم منه هذا فلا يدعه وحده لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق. وها هو العون والمدد والتوجيه (أنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة وينبوع حقيقتها، إنها من الله هو مصدرها الوحيد. وهو الذي نزل بها القرآن فليس لها مصدر آخر، ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع، وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه، ولا يستمد منه، ولا يستعار لهذه العقيدة منه شيء، ولا يخلط بها منه شيء.

ثم إن الله الذي نزل القرآن، وكلف بهذه الدعوة لن يتركها. ولن يترك الداعي إليها، وهو كلفه وهو نزل القرآن عليهء ولكن الباطل يتبجح

 

والشر ينتفش، والأذى يصيب المؤمنين، والفتنة ترصد لهم. والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه، فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه. ثم هم يعرضون المصالحة وقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق. وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصيبة.. هنا تجئ اللفتة الثانية (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثفا أو كفورا).. إن الأمور مرهونة بقدر الله، وهو يمهل الباطل، ويملي للشر، ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص.. كل أولئك لحكمة يعلمها يجري بها قدره وينفذ بها حكمه (فاصبر لحكم ربك) حتى يجيء موعده المرسوم. اصبر على الأذى والفتنة، واصبر على الباطل يغلب والشر يتنفج، ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك.. اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق، على حساب العقيدة: "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر، ولا إلى خير فهم آثمون كفار. يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر. إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف        الطريق. وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك، وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان، وباسم شهوة المال، وباسم شهوة           الجسد: فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم، والثراء حتى يكون أغنى  من أغناهم، كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات، حيث كان             عتبة بن ربيعة يقول له: "ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي فإنها من أجمل قريش بنات "! كل الشهوات التي يعرفها أصحاب الباطل      لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل..

(فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا) فإنه لا لقاء بينك وبينهم. ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم، وتصورك للوجود كله عن تصورهم، وحقك عن باطلهم، وإيمانك عن كفرهم، ونورك عن ظلماتهم، ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم.. اصبر ولو طال الأمد، واشتدت الفتنة، وقوي الإغراء، وامتد الطريق.. "([119]) .

المثال الخامس:

قد يرى بعض الدعاة- من منطلق الحرص على شباب الصحوة الإسلامية، ومكتسبات الدعوة، وخوفا من القيادات السياسية في القضاء على الدعوة ومكتسباتها، وإلحاق الأذى بأهلها- أن تمد الجسور مع الأنظمة الحاكمة، وأن يقوم تحالف مع الأحزاب الوطنية والقومية لكي تتظافر الجهود وتتوحد الكلمة في مصلحة الأمة والوطن، ومحاربة العدو الخارجي المشترك.

وقد جاءت مثل هذه الاجتهادات أيضا كردة فعل لبعض الحركات الجهادية التي استخدمت المواجهة المسلحة مع أنظمتها الحاكمة قبل أوانها، مما جر عليهم وعلى غيرهم من المفاسد الشيء الكبير.

ويطرح أهل هذا الاجتهاد سؤالأ مفاده: لماذا يحترم الإسلاميون العاملون في الغرب الكافر أنظمة البلدان التي يعيشون فيها ، ويسود بينهم

وبين القيادات السياسية في الغرب الهدوء والاسترخاء بينما هي بالعكس في بلدان المسلمين؟ وكأن القصد من هذا السؤال الإشارة إلى إعادة النظر في علاقة العمل الإسلامي بالقيادات السياسية في بلدان المسلمين، وأن يسودها ما يسود العلاقة مع الغرب الكافر من الاسترخاء والهدوء ومد الجسور!!

يقول صاحب هذه الاجتهادات: "... ولعل من اللافت للنظر بين واقع العمل الإسلامي في المجتمعات الغربية، ومثيله في بلاد المشرق، هذه المفارقة المذهلة بين الهدوء والاسترخاء اللذين يسودان علاقة العمل الإسلامي بالقيادات السياسية في الغرب، والتحفز والاستفزاز اللذين يسودان هذه العلاقة في بلاد المسلمين. وقد كان المتوقع هو العكس "... إلى أن قال:..." لقد التقى الفريقان في الغرب على أن هناك دولة قائمة - ظالمة كانت أو عادلة- وأن لهذه الد ولة نظما سارية لا سبيل إلى تغييرها إلا من خلال آليات التغيير المعتمدة في هذه المجتمعات، وأنه لا بد من الوقوف عند هذه الحدود التي تمثل إشارة ضوئية، تضبط السير وتحدد العلاقة بين الفريقين:

فالعمل الإسلامي يرى أنه يعيش في إطار دولة يجب عليه أن يتقيد بنظمها وإن مثلت نوعا من أنوع الجور على حقوقه في بعض الجوانب، أو تناقضت مع بعض قواعد المشروعية التي يعتقدها، ويدين بها في جوانب أخرى، وهو يبذل هذا الانضباط عن طواعية واختيار، والدولة ترى في نظمها حدودا ملزمة لا يجوز أن تنتهكها؛ لتبطش بمواطنيها بغير حق، فتكفل الحماية والمنعة وتبذل الحقوق والرعاية لكل من يقيمون على أرضها

ما داموا وقافين عند هذه الحدود التي فصلتها الأنظمة والشرائع السارية. وهكذا أصبح الإنضباط المتبادل سنة التعامل بين الفريقين في هذه المجتمعات، ولكن الأمر على النقيض من ذلك في بلاد المسلمين، حيث مسلسل الانتهاكات الصارخة التي تتجاوز المعقول واللامعقول، وتدخل بالعلاقة- بين الطرفين- في سراديب ملتوية كثيرة التعاريج.

ولهذا فإن من آكد محاور الترشيد- التي نسجلها في هذا المقام- أن يدرك التيار الإسلامي بفصائله المختلفة أنه يعمل في إطار دول قائمة، وتحت مظلة أنظمة سارية، وأن عليه أن يرتب برامجه في ضوء هذه الحقيقة، وأن يستنفد المتاح قبل أن يتطلع إلى غيره، وأن يدرك أن تشوفه لغير المتاح قد يفقده المتاح وغير المتاح.

لقد درج كثير من العاملين للإسلام- خلال الحقبة الماضية- على أن ينطلقوا في أعمالهم الدعوية والتربوية والاحتسابية من خلال الشرعية التي يعتقدونها، والمرجعية التي يدينون بها سواء التقت مع المرجعية السائدة في مجتمعاتهم أم تعارضت، وقد ترتب على ذلك ما ترتب عليه من صراعات ومواجهات أسيفة دامية"([120]) أهـ.

هذا ما يقوله أصحاب هذا الاجتهاد عن العلاقة بالقيادات السياسية في بلدان المسلمين أما عن رأيهم في العلاقة مع الآخرين ذوي الاتجاهـات

 

القومية والوطنية خارج الإطار الإسلامي فيقولون: "إذا تجاوزنا الحديث عن خارطة الصلات والعلائق داخل الإطار الإسلامي إلى الحديث عن العلاقة مع الآخرين من ذوي الاتجاهات القومية أو الوطنية خارج الإطار الإسلامي، فهل يشرع التنسيق والتحالف مع بعض هؤلاء لدفع غائلة عامة، والتصدي لعدو مشترك يجتاح البلاد والعباد انطلاقا من عمومات النصوص التي تحض على التعاون على البر والتقوى، وتأسيسا على صحيفة المدينة التي اتفق فيها مع جميع الطوائف على الدفاع عن المدينة في إطار مرجعية الشريعة. لا شك أننا أمام تساؤل دقيق حري بأن نتدبره في ظل الظروف الراهنة للعمل الإسلامي المعاصر"([121]) ثم ساق الأدلة المتعارضة في جواز التحالف مع غير المسلمين ثم ذهب أهل هذا الاجتهاد إلى أبعد من ذلك بطرحهم السؤال التالي: "... هل يجوز للاتجاه الإسلامي أن يدخل في تحالف مع سائر الاتجاهات السياسية القائمة لإزاحة ظلم قائم، وإقامة بديل سياسي، يكون الحكم فيه ديموقراطيا. أي يترك الأمر في تحديده إلى الأمة؟ "([122]) .

ومع أن أصحاب هذا الطرح قد قيدوه بالضوابط الشرعية، وبما تقرر

في قواعد الأصول من أن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها إلا أن لنا على هذه الاجتهادات الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: إن هذه التساؤلات، ومثل هذه المواقف إنما ظهرت نتيجة لضغط الواقع الشديد الذي تواجهه الدعوة الإسلامية والقائمون عليها من قبل القيادات السياسية الظالمة الغاشمة، والتي لم تأل جهدا في القضاء على الدعوة والصحوة، والبطش بالقائمين عليها، كما نشأت كرد فعل على ما تقوم به بعض الجماعات الجهادية من مواجهة مسلحة تحملت الدعوة بسببها مفاسد كثيرة.

والمواقف التي تنشأ من ردود الأفعال تكون في الغالب عاطفية غير مؤصلة، وفي الغالب تذهب إلى الطرف المقابل، ولا تبقى في الوسط الذي هو بين الإفراط والتفريط. ففي حالتنا التي نحن بصددها فإنه بالإمكان مراجعة الأخطاء وعرض المواقف على الكتاب والسنة ومنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل، وبخاصة دعوة الرسول e، وعندها يتبين إن شاء الله الموقف الحق، وتتعدل الأخطاء وتقوم المسيرة، وفي المقابل تسلم من مواقف الموالاة، والمداهنة للظلمة، والخضوع للأمر الواقع، والذي يفرح به الظالمون المفسدون. ولو تتبعنا الفرق المبتدعة، وملابسات نشأتها، لرأينا أن من أهم أسباب ظهورها ردود الأفعال التي تبدأ بمعالجة انحراف معين، فلا تلبث هذه المعالجة أن توقع أصحابها في انحراف آخر مقابل الانحراف الأول ؛ فالمرجئة مثلأ إنما نشأت رد فعل للخوارج، والجبرية نشأت رد فعل للقدرية... وهكذا.

وقد لا تكون هذه المواقف متأثرة بمواقف أخرى وإنما شدة الابتلاء وضغط الواقع على الدعوة وأهـلها قد يؤدي إلى اليأس، والإحباط الذين

بدورهما يؤديان إلى مهادنة الظلمة والرضا منهم بالكف عن الدعوة مقابل التعاون معهم، والسكوت عن باطلهم، وفسادهم. وهذا من أخطر ما يكون على الدعوة وأهلها، فإن ذريعة هذه الدعوة التصالحية مع الأنظمة العلمانية في البلاد الإسلامية هي انقاذ الصحوة الإسلامية وشبابها من محرقة التصادم مع هذه الأنظمة، ولكن الخشية من إلقاء هذه الصحوة وشبابها في بوتقة الانصهار والذوبان في واقع غير إسلامي فهي دعوة إلى الانصهار بحجة الهروب من الاحتراق.

ولا يفهم من هذا الكلام إقرار اسلوب التصادم ولكن المقصود أن لا نعالج الخطأ بخطأ مقابل يفتقر إلى الأسس العلمية والموضوعية.

الملاحظة الثانية: إن هذه المواقف وإن كانت لا تزال في صورة أسئلة مطروحة فإنها تتضمن بعض المغالطات، وعدم تحقيق المناط فيها.

ومثالأ لذلك الاستشهاد بعمومات النصوص التي تحض على التعاون على البر والتقوى، أو بالاستشهاد بصحيفة المدينة التي تعاون فيها الرسول e مع الطوائف الكفرية على الدفاع عن المدينة، وذلك للتدليل على جواز التحالف مع الأحزاب الكفرية اليوم مقابل التصدي للعدو المشترك!  فأي بر وأي تقوى يمكن أن يتعاون عليهما مع الأنظمة، أو الأحزاب التي تتنكر للبر والتقوى، وهي ما قامت إلا على الإثم وا لعدوان؟!

إن هذا الشيء عجاب، وأعجب منه الاستدلال بالمعاهدات التي تمت

 

 

بين الرسول e وغير المسلمين في المدينة على الدفاع المشترك عن المدينة، لأن المناطين مختلفان، فالرسول e هو رئيس الدولة، والكل خاضعون له، وهو الأقوى في أي تحالف أو معاهدة، فأين هذا من الواقع المعاصر الذي يظهر فيه العكس، حيث الاستضعاف للدعوة والعاملين فيها بينما القوة والهيمنة للظلمة والأحزاب الكافرة؟! وعلى أية حال فإن المقام هنا لا يتسع للرد على هذا التوجه الخطير وإنما أكتفي بهذه الإشارات السريعة والحر تكفيه الإشارة.

الملاحظة الثالثة: لا أدري هل يدرك من يثيرون هذه التساؤلات، ويطرحونها للنقاش تلك الأخطار الكبيرة التي تترتب عليها؟ الذي أعرفه عمن يطرح هذه التساؤلات سلامة تصوره وتمكنه من العلم الشرعي، وحرصه الشديد على الدعوة وأهلها، وسعيه الحثيث على وحدة العاملين فيها. وهذا هو الذي يثير العجب والاستغراب، لأن هذه المواقف لو طرحت ممن هو مزجى البضاعة في العلم الشرعي، أو أن لديه غبشا في التصور لما كانت محل استغراب، لأن كل إناء بما فيه ينضح، أما وإنها تصدر من أناس لهم باع في العلم الشرعي والدعوة إلى الله عز وجل، فإن هذا مما يحز في النفس ويخاف على من يتبنى هذه المواقف ومن يقلدهم فيها من مزلة القدم، بتمييع الدعوة، وثلم ثوابتها، وتفريغها من مضمونها وأهدافها، لأن الدعوة إنما تقوم في حقيقتها على عقيدة الولاء والبراء، ومثل هذه المواقف تضعف من عداوة المشركين وشركهم، وتورث في النفوس إلفهم ومداهنتهم وموالاتهم، فالذي أنصح به أن نعي هذه الأخطار، وأن نعود إلى منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسـلام ، وبخاصة

منهج نبينا محمد e ، نتأمله ونستهدي به، وأن نتأنى في اجتهاداتنا، وأن نحقق المناط فيما نريد أن نستدل له بسيرة الرسول e في دعوته ومواقفه من الأعداء. ومما قد يلاحظ في هذه الطروحات أن من يطرحها لم يصرح بتبنيها، وإنما طرحها للنقاش ومعرفة الحق فيها، ومع ذلك فكم تمنينا أن لا تكون مثل هذه المواقف موضعا للنقاش العام لخطورة مآلاتها، وبخاصة في أزمنتنا المعاصرة، والتي يحتاج الدعاة فيها إلى من يتواصى معهم بالثبات على المبادئ، والصبر على ضغوط الواقع لا أن يزيدهم وهنا وتنازلاً.

وقبل أن ننتقل إلى المثال السادس من أمثلة ضعف الولاء والبراء أنقل كلاما جيدا مناسبا للمقام يحسن أن يكون تعقيبا لهذه الصورة وممهدا للتي بعدها. وهو مقال للأستاذ إياس المزني قال فيه: "... من الأمراض التي تسربت إلى الساحة الإسلامية، واعترت الفهم الإسلامي في الدعوة، الاستعجال واستبطاء النتائج. ومن أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الحال، ضغط الجاهلية، وقوة وسائلها في الحيلولة دون الدعوة والوصول إلى        أهدافها.

فإلى ماذا أدى هذا الموقف؟

الملاحظ أنه أدى ببعض العاملين إلى الانسحاب والنكوص عن طريق الدعوة... أما هذه النتيجة فليست من مقاصد الكلام، لأنها نتيجة واضحة، والموقف منها- تبعا لذلك- لا يحتاج لكثير بيان، فهي- إذن - ليست محلأللبحث في "ميزان الحكمة".

 

إن النتيجة الخطيرة والدقيقة لهذه العلة تتمثل فيمن يبقى مستمراً في طريق الدعوة، لايصرح بالخروج عنها، ولكنه يصاب بالملل من التمسك بالثوابت التي قام في الأصل يدعو إليها! والغطاء المستخدم عادة في مثل هذه التحولات هو التنازل المبرَّر!...

... ومن المهم التوضيح أن هذا الموقف يبرز عندما تمل الجاهلية من أساليب القمع والسجون، لأنها ترسخ التمسك بالدعوة، وتميل إلى ما هو أخطر، وهو محاولة الاحتواء وتمييع الطرح الإسلامي.

وتعلن الجاهلية: تفضلوا، إعملوا للإسلام من خلال مؤسسات الدولة! واعرضوا برامجكم على الناس، ولتحققوا ما تستطيعون من مكاسب!

إنها طريقة رفع المصاحف على الرماح، التي تربك الصف المواجه، وتوهمه بأنه خطا خطوة للأمام، وحقق مكاسب ينبغي المحافظة عليها! ومن أجل أن يسوغ لنفسه يلجأ إلى التقعيد والتأصيل لخطواته "الذكية"، فمرة يقول لك: مقاصد الإسلام، ومرة يقول تغيير الأحكام... وثالثة: مصلحة الدعوة، ورابعة: نريد سحب البساط من تحت أقدام الجاهلية عن طريق إحراجها أمام الجماهير!!!

فإذا حاولت مناقشته، وسرد الأدلة على بطلان قوله، يوقفك.. وبمنتهى الحكمة، بكلمات متأنية يقول لك:" علينا أن نراعي الحقائق   على الأرض ؛ ومن الخطأ أن نتوقف عند الشعارات ؛ وهناك فارق بين النظرية والتطبيق ".

وغير ذلك من العبارات التي تدل على أن قائلها "واقعي "، في حين أن المعترض "جاهل " كبير غير مطلع على بواطن الأمور، "متحمس " تجره العاطفة إلى عدم تقدير الواقع!.

ولا شك أن حساب معطيات الواقع أمر لا بد منه، وأن الكلام عن الطموحات والأهداف يجب أن يكون معقولا، لا بناء على الهواء يوشك أن يقع على من بناه، ولا زراعة في البحر لاتحصد- بعد الجهد- غير الماء! ولذلك فإننا نرفض موقف من يسعى إلى خلافة راشدة اعتمادا على بضعة رجال، ويسقط أمريكا، وينفلها أصحابه، لا استنادا على رؤية منبثقة من فقه الواقع، وإنما اعتمادا على "الإيدز" الذي سيقضي على أمريكا من الداخل!

إنه موقف مرفوض تماماً، كموقف من يضع الأصول والثوابت وراءه ظهريا مدعيا فقه الواقع، متعلقا بما يسميه "الحقائق"، رافضاً " التنظير"! والسؤال المهم الآن هو: إلى أي مدى يستطيع الداعية التوفيق بين النظري والعملي؟ وبمعنى آخر: هل يستطيع الداعية أن يبقي متمسكا بمبادئه وأهدافه إلى النهاية؟ أم أن ضغط الواقع سيجره إلى التنازل المبرر عن مبادئه وأهدافه؟

إن دعوة الجاهلية الدعاة إلى الإصلاح من خلال مؤسساتها، تمثل إغراء تصعب مقاومته، وتؤثر سلبا على المنهج السليم في التغيير...

لقد واجـه رسول الله e مثل هذا الموقف . واقع صعب ضاغط ،

 

وعروض من الجاهلية توهم بالتنازل: كن ملكا، كن أغنانا، كن سيدنا... فلم ينثن  e ، ولم ينسحب إلى التأويل، بل بقي ثابتا على مبادئه "النظرية" التي بدأ بها.

وهذا منهج في الدعوة: فلا يجوز التنازل عن ثوابت الدعوة مقابل أي مكسب جانبي، أو نصر متوهم، لقد عبرت أكثر من آية عن هذا المنهج، إليك بعضها:

قال تعالى: (( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)) [يونس:109] ، إنه الصبر على المنهج حتى يحكم الله.

وقال سبحانه: (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) [الروم:60]

... إن أمام الدعاة طريقا طويلا وصعبا وأن بداية الفتنة تأويل. ووضوح الغاية المنسجمة مع القدرات المرحلية حاجز أمام الفتنة، ومانع من أن يقف لك أحدهم كالشوكة في الحلق ليرد عليك قائلأ: "هناك فرق بين التنظير والواقع... وكلامك نظري " ([123]) .

المثال السادس: وهي لا تنفك عن الصورة السابقة، حيث يسارع بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية في البلدان التي تدعي         الديمقراطية إلى المشـاركة مع الأنظمة الطاغوتية، والأحزاب الكفرية في

 

تلك البلدان في مجالس برلمانية تسمى تارة بالمجلس الوطني، وتارة بمجلس الشعب، وتارة بمجلس الأمة.. إلخ هذه الأسماء الجاهلية، وفي هذه المجالس يشترك الإسلاميون مع العلمانيين، والقوميين، والدروز، والرافضة، والنصارى وغيرهم من ملل الكفر تحت سقف واحد. وما يتفق عليه المجلس أو ما يكون بالأغلبية فهو النافذ في الأمة، لأن له السيادة العليا، وهو المرجعية في كل الأنظمة والتشريعات. وهو يشرع مالم يأذن به الله تعالى، ويحلل ما حرم الله تعالى ويحرم ما أحل الله تعالى، ولا معقب لحكمه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

إن في مشاركة بعض الدعاة- هداهم الله- في هذه المجالس كثيراً من المخاطر العظيمة على عقيدة الولاء والبراء ؛ الولاء لله عز وجل ودينه ورسوله e والمؤمنين، والبراءة من المشركين وشركهم، وبذل العداوة والبغضاء لهم. ويمكن ذكر أهم هذه الأخطار التي قد تهدد عقيدة المشارك في هذه المجالس وذلك فيما يلي:

أولا: إعطاء اليمين الدستورية من كل مشترك في هذه المجالس باحترام الدستور العام للدولة بما في ذلك البنود التي تستحل الزنا حالة الرضا، وتستحل المسكرات والربا، وغيرها من المحرمات، وبما فيها من الأنظمة التي تمنح الرخص لمواخير الزنا، وحانات الخمور، وغيرها مما حرم الله عز وجل.

فيا سبحان الله كيف تعطى اليمين على احترام الكفر بالله عز وجل،

وأي مفسدة أعظم من الوقوع في هذا الخطر الجسيم، وأي مصلحة تقابل هذا الفساد العريض على الفرد المشارك وعلى الأمة.

ثانياً: وهي لا تقل عن الخطر السابق، حيث يقبل المشتركون في هذه المجالس من الإسلاميين أن يصوتوا على أحكام الله عز وجل خالق السموات والأرض ؛ فما وافق عليه المجلس فهو الذي له الشرعية والنفاذ وما عارضه فهو الملغي، ولا يأخذ الشرعية. فيا سبحان الله وبحمده كيف تعرض أحكام العليم الحكيم العظيم الخبير على عقول البشر ويصوت عليها بالتحريم أو التحليل؟!! كيف يقبل مسلم أن يوضع حجاب المرأة، أو شرب المسكرات، أو فتح مواخير الزنا؟ هذه الأمور التي حسمها شرع الله عز وجل وأنزل حكمها القاطع في كتابه الكريم. كيف يقبل مسلم أن تكون أحكام الله عز وجل مجالا للقبول أو الرفض، وأن تكون السيادة العليا عليها لمجالس البشر الظالمة الجاهلة؟!

وقد يقول المشارك في هذه المجالس من الإسلاميين، إني بوجودي في المجلس أقف مع شرع الله عز وجل، وأطالب بتحريم ما حرم الله تعالى وتحليل ما أحل الله تعالى ولا أقبل خلاف ذلك. وإذا كثرت أصوات المطالبين بشرع الله عز وجل كانت نتيجة التصويت إقرار شرع الله تعالى!! والجواب المجمل على هذا القول هو أن الخطر يكمن في قبول محاكمة شرع الله تعالى، والتصويت على قبوله أو رفضه بغض النظر عن نتيجة التصويت، فالأصل أن تكون السيادة العليا هي لشرع الله تعالى، فما وافقه يؤخذ به، وما عارضه يترك ويرفض. ولكن الحاصل في المجالس الجاهلية هو العكس، حيث السيادة العليا هي لهذه المجالس فما وافق تشريعاتها أقر وما خالفها يترك، وهذا هو الخطر العظيم الذي من قبل بـه فإن توحيده

وولاءه وبراءه في خطر. وفي علمي أنه لا مفسدة أكبر من هذا الخطر، حتى لا يقال إننا ندفع به مفسدة أعظم.

ثالثاً: إن المشاركة في هذه المجالس، والدخول تحت مظلتها، والجلوس جنباً إلى جنب مع الكفرة والملحدين فيها يعد بمثابة الإقرار لهذه المجالس بالشرعية، وبالتالي شرعية القائمين عليها، والمنشئين لها من الطواغيت وأحزابهم. وفي دخول الإسلاميين فيها تناقض عجيب بين ما يدعون إليه وبين صنيعهم هذا ؛ فالمطلوب من الدعاة إلى الله عز وجل أن يكفروا بهذه المجالس ومن أنشؤوها، ويحاربوها، لأن ذلك من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله تعالى، والذي هو الهدف الأساس للدعوة إلى الله عز وجل، أما أن يقبلوها ويقبلوا بالسيادة لها عليهم، فإن هذا من العجائب والعجائب جمة!! كما أن في الاستجابة لهذه المجالس قبولأ لألاعيب أرباب السياسة وخداعهم، فهم قطعا لا يريدون مصلحة المسلمين من ذلك بل هم أعداء الإسلام والمسلمين. ولولا أنهم يحققون مكاسب من وراء ذلك لما سمحوا بهذه المشاركات، وكم يفرح الطواغيت بسقوط الإسلاميين في فخهم، وفي مداهنتهم. مع أنهم قد خطوا لهم خطاً أحمراً لوخرجوا عنه أو تجاوزوه فإن الضرب بيد من حديد سيكون لمن تسول له نفسه ذلك.

إذن فما دام أرباب السياسة مستفيدين من هذه المشاركات فالباب مفتوح، واذا رأوا أن الكفة ستتحول إلى أن يستفيد الإسلاميون منها، فعندئذ تتخذ الإجراءات الكفيلة بإحباط ذلك، فهلا وعى الإسلاميون هذا الأمر، وهلا وعوا تجارب إخوانهم في الجزائر وتركيا والكويت وغيرها.

وقد يحتج المشاركون في هذه المجالس، وما ينبثق عنها من استلام بعض الوزارات بمشاركة يوسف عليه السلام في حكومة ملك مصر!! حيث قال: (( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْض)) [يوسف: 55]!! فيا سبحان الله كيف يستدل بأمر يختلف كل الإختلاف عن القضية التي يراد الاستدلال لها؟

وذلك أنه عندما نحقق المناطين في كلا القضيتين فسنجد أن المناطين مختلفان تماما وتوضيح ذلك فيما يلي:

بدأت تولية يوسف عليه السلام على خزائن الأرض في حكومة الملك بقول الملك (( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)) [يوسف:54] ، فاشترط له أن يمكنه في الأمر الذي سيوكله إليه، من غير تدخل ولا مساءلة. وقد بين ذلك أصدق القائلين سبحانه بقوله عز وجل: (( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) [يوسف:56]، فالله عز وجل في هذه الآية يبين أنه مكن ليوسف عليه السلام تمكينا يفعل فيه ما يشاء وذلك من قوله (( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ)) ([124])، ومن خلال هذا التمكين الذي صيره في حقيقة الأمر الحاكم الفعلي الذي له الأمر والنهي في الناس وأقواتهم، أصلح الله به أقوات الناس، وحماهم بإذن الله تعالى من مجاعة محققة على مصر وما جاورهـا من البلدان . ولم

يتعقبه أحد في حكمه وتصرفاته، بل إنه ومن خلال هذا التمكين دعا إلى الله عز وجل وإلى توحيده، ونهى عن الشرك وحذر الناس منه، ولم يتنازل في تمكينه هذا عن دينه ولا ولائه وبرائه، ولم يكن أداة لطاغوت مصر ينفذ ما يقول ويخضع لنظامه وأمره ونهيه.

فيا أرباب العقول والبصائر هل ما قام به يوسف عليه السلام عندما تمكن

من الأمور هو ما يقوم به المشاركون اليوم في مجالس ووزارات الأنظمة الطاغوتية اليوم؟! اللهم لا وألف لا، لأن المناطين والحالين مختلفان كل الاختلاف، إن جعلهما حالتين متطابقتين لمن الشطط والمغالطة.

إنه متى ما حصل للإسلاميين اليوم أن يكون لهم من التمكين، والأمر والنهي، واستقلال القرارات، وإصلاح الناس في أديانهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم كما حصل ليوسف عليه السلام، فإن هذه الحالة لا يتحفظ عليها أحد، ولا يجوز التخلف عنها، ولكن هل هذا هو الحاصل اليوم؟ أم أن الحاصل هو العكس، حيث الخضوع التام لأي مشارك في مجلس أو وزارة لأنظمة السلطة القائمة، ولا يستطيع أن يخرج عنها قيد أنملة. وحقيقة المشاركين أنهم منفذون وملزمون بما يمليه عليهم نظام الطاغوت وقوانينه، أو على أكثر تقدير: يرسم لهم إطارا محددا (يلعبون) فيه ولا يتجاوزونه، ولو حدث أحد نفسه بالخروج عنه فأقل عقوبة له أن يعفى ويبعدمن منصبه.

ولقد حدثني من أثق به في دولة علمانية وصل فيها بعض الإسلاميين    إلى بعض الـوزارات والبلديات، بأن رئيـس البلدية المسلم كان يعطي

التصاريح لفتح حانات الخمور، وبيوت الدعارة لأن النظام يلزمه بذلك. ولو أراد هذا الرئيس المسلم أن يمنع فتح خمارة أو بيت دعارة، فإنه لا يستطيع منع ذلك بشرع الله عز وجل، وإنما يحاول منع بعضها بمخالفتها للقانون، كأن يكون المحل لم تتوفر فيه الشروط المطلوبة، فإذا توفرت الشروط القانونية فإنه ملزم بإعطاء التصريح بذلك والعياذ بالله تعالى.

فهل بقي بعد هذا حجة لمن يقول: إن القضيتين متشابهتان، وأن المناطين واحد؟! إن واحدة من المخاطر السابقة تكفي لأن ترجح على كل المصالح الموهومة التي يدعي هؤلاء الإسلاميون أنهم يحققونها؟ فنصيحتي لإخواني المهتمين بهذه المشاركات أن يعوا خطر هذه الممارسات، وأن يجردوا ولاءهم لله عز وجل ولدينه ولرسوله e والمؤمنين، وأن يعلنوا براءتهم وعداوتهم للشرك والمشركين، وأن يتوجهوا للعمل الجاد المميز الذي كان عليه الرسول e وصحابته الكرام فإن فيه النجاة والمخرج والنصر بإذن الله تعالى.

كما أنصح بالتأني في دراسة هذه النوازل وأمثالها، وذلك بأن يتشاور طلبة العلم العاملون في حقل الدعوة مع علمائهم وأن يعقدوا دورات تطرح فيها هذه الأمور للمناقشة في ضوء الكتاب والسنة وفهم الواقع لكل قضية تطرح، ويتحقق من مناطها، ومناط القضية التي يراد القياس عليها، وتدرس كل القضايا بعيدا عن الهوى وحظوظ النفس، فإنها لا تغني من الله شيئا، ولنعد لقوله تعالى: {ماذا أجبتم المرسلين } الجواب السديد الذي ينجينا عند الله تعالى ولنحذر أن نكون كمن قال الله فيهم بعد هذا

النداء: {فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لايتساءلون }.

أسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

المثال السابع: ضعف الشعور بالعداوة للكفار من اليهود والنصارى، والزنادقة الباطنيين، وضعف البراءة منهم ومن كفرهم، وذلك بعد الانفتاح على الغرب الكافر، وتكاثرهم في بلدان المسلمين مما أدى إلى موادتهم، وضعف عقيدة الولاء والبراء إن لم تنعدم عند بعض الناس، وحل حلها محبة الكافر ومداهنته وعدم إظهار العداوة له والبراءة من شركه وكفره.

ولم يتوقف الأمر عند جهلة المسلمين وعامتهم، بل إنه تجاوزهم إلى بعض المفكرين الإسلاميين، وبعض المتصدرين للفتوى، وتأسست بذلك مدرسة خطيرة تعد مصدر فتنة للمسلمين، وتلبيس وتضليل لهم باسم الإسلام. وفيما يلي بعض ما قاله أحد رموز هذه المدرسة ومنظريها:

قال عن النصارى: "فكل القضايا بيننا مشتركة فنحن أبناء وطن واحد مصيرنا واحد، أمتنا واحدة، أنا أقول عنهم: إخواننا المسيحيين، والبعض ينكر علي هذا، كيف أقول إخواننا المسيحيين (إنما المؤمنون إخوة) نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر"([125]) .

سبحانك هذا بهتان عظيم كيف هم مؤمنون بوجه آخر؟؟!! ألم يسمع هذا المفتي الظالم لنفسه وللمسلمين قول الله تعالى: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )) [المائدة:73]  ، وقوله تعالى: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) [المائدة: 72] ، فيكف يقول عن هؤلاء الكفرة أنهم مؤمنون بوجه آخر، والله عز وجل يصرح بكفرهم ؟ ويقول: "إن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها"([126]) ، فياسبحان الله ألم يسمع هذا المفتي بما آتاه الله من العلم قول الله تعالى : (( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ..... الآية )) [المجادلة:22].

وقال: "إن العداوة بيننا وبين اليهود من أجل الأرض فقط، لا من أجل الدين "([127]) ، وهذا التقرير الخطير لا يحتاج إلى تعليق. فسبحان مقلب القلوب والأبصار.

* أما أصحاب البدع الكفرية ممن ينسبون أنفسهم للإسلام، والإسلام منهم بريء، كالرافضة وغيرهم من الباطنيين، فقد ظهر في السنوات الأخيرة أصوات تدافع عنهم، وتدعو إلى التقارب معهم لأنهم إخوان لنا في العقيدة والدين!!، وينسون بذلك عقائد الرافضة وأصولهم الكفرية، فكيف يدافع عمن يعتقد العصمة ومعرفة الغيب لأئمتهم. وكيف يتقارب

مع من يؤلهون أئمتهم، ويستغيثون بهم من دون الله عز وجل ويحجون إليهم ويقربون لهم القرابين. وكيف يدافع عمن يعتقد تحريف القرآن. وإن نفوا قولهم هذا تقية فليتبرؤا من كتابهم المقدس: الكافي للكليني ؛ وكتابهم (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) للطبرسي، وليعلنوا براءتهم من كاتبيهما وتكفيرهم لهما.

وكيف يدافع عن من يسب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويلعنهم ويكفرهم كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وسعد، وأبي عبيدة، وغيرهم من الصحابة الأجلاء ؟ بل بلغ بهم الكفر والحقد أن رموا أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق بالزنا، وقد برءها الله من فوق سبع سماوات؟ وكيف... وكيف؟؟[128] (1).

إن من يدافع عن الرافضة اليوم وأشباههم ويدعو إلى التقارب معهم

لا يخلو أن يكون من إحدى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: إما جاهل بهم وبعقائدهم، وأصولهم الكفرية، وحقدهم الشديد على السنة وأهلها.

الفئة الثانية: وإما عالم بأصولهم الكفرية، لكـنه منخـدع بنفاقهم

وتقيتهم، وقولهم بأنهم تخلوا عن هذه العقائد ولم يعودوا يؤمنون بها، فصدقهم في ذلك وانخدع بكذبهم وتقيتهم. مع أنه لو بذل أدنى جهد في التحري عن رافضة العصر لوجدهم على أصول أجدادهم بل أشد وأنكى، فهذا الخميني الهالك صرح بلعن الشيخين أبي بكر وعمر وذلك في الوثيقة المنشورة عنه والتي مطلعها: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما.. إلخ " وقد صرح في كتابه "ولاية الفقيه " بأن أئمتهم يعلمون الغيب وتخضع لهم كل ذرة في السماء والأرض، وترحم على ابن العلقمي، ونصير الدين الطوسي الرافضيين الحاقدين، الذين خانا الخليفة العباسي، وتمالأ مع التتار حتى اجتاحوا بغداد وقتلوا فيها الرجال وسبوا النساء وأحدثوا فيها من المآسي مالم يمر على المسلمين مثله.

ومما يزيد الأمر فتنة ويجعل بعض الناس ينخدع بتقيتهم ونفاقهم ما يظهرونه اليوم من مواجهة لأمريكا، واليهود، كما هو الحاصل بين من يسمي نفسه "حزب الله " وبين اليهود من الصراع في جنوب لبنان، حيث انتهى الموقف بانسحاب اليهود. ولا شك أن في ذلك فتنة لمن نظر للأمر من ظاهره وغلبت عليه العاطفة.

ولكن هنا أمران إذا فطن لهما المسلم لم تنطل عليه هذه الفتنة ولم ينخدع بها:

الأمر الأول: أن العلاقة التاريخية بين الرافضة واليهود والنصارى كانت علاقه تحالف، وموادة ونصرة، وبخاصة إذا كان التحالف على أهل السنة . ولم يعرف للرافضة في تاريخهم جهاد ضد الصليبيين النصارى ولا

اليهود، ولا التتار، بل الحاصل هو العكس. وبهذه النظرة قد يمكتنا القول بأن هناك مخططا ماكرا بين رؤوس "حزب الله " وبين اليهود والأمريكان في هذا الانسحاب، وقد يكون سواد الجنود من الرافضة جادون في حربهم مع اليهود والله أعلم([129])  .

الأمر الثاني: ولو سـلمنا بصدقهم في حربهم مع اليهود والأمريكان

وأن الانسحاب اليهودي من جنوب لبنان إنما هوهزيمة لليهود أمام حزب الله وأن العداوة حقيقة بينهما.

أقول: لو سلمنا بهذا، فهل كل من حارب اليهود أو أعلن عداوته لأمريكا يكون أخانا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا؟! دون النظر إلى عقيدته؟! لا أظن مسلما عاقلا يقول بذلك، وإلا فالشيوعيون عداؤهم معروف للغرب وأمريكا. والبعثيون والقوميون يظهرون عداءهم لليهود، وحربهم لهم، وهم من هم في عقائدهم الكفرية، وحربهم للإسلام والمسلمين. والنصيريون الباطنيون يظهرون عداءهم لليهود ورفضهم للسلام، وهم أكفر من اليهود والنصارى.

إذن فلا يعني قتال الرافضة لليهود في جنوب لبنان، أو ما يجد من حـروب مفتعلة ، أو غير مفتعلة من الطرفين أنهم على حق ، كلا والله ؟

فباطلهم وعقائدهم الكفرية أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولقد آن الأوان أن لا نأخذ مواقفنا العقدية من عواطفنا، بل من كتاب ربنا سبحانه وسنة نبينا محمد e ، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

الفئه الثالثة: تعلم عقائد الرافضة وتدرك خطرهم ونفاقهم، ومع ذلك يظهرون لهم اللين والسكوت عن باطلهم، وقد يحالفونهم أو يطلبون النصرة منهم ؛ فإذا بين لهم خطر الرافضة ومخططاتهم وخبث معتقداتهم، أجابوا بأنهم يعرفون ذلك كله، وقالوا بأن مواقفنا مع الشيعة الرافضة مواقف سياسية ومصلحية، وليست عقدية. فيا سبحان الله، متى كانت العقيدة في منأى عن السياسة. وهل يعي أهل هذه المواقف تلك الأخطار التي تترتب على التقارب مع الرافضة والمداهنة لهم والسكوت عن باطلهم؟ إن أول من سيكتوي بنار فتنتهم هم أهل هذه المواقف أنفسهم، وسيتعدى خطرهم إلى عامة المسلمين الذين يضللون ويلتبس عليهم الأمر بسبب هذه المداهنة ؛ فيحسبون أن الرافضة على حق فيقعون في فتنتهم وشرهم. والمقصود مما سبق في هذه الفقرة الإشارة إلى ضعف عقيدة الولاء والبراء فيما يتعلق بأهل البدع وبخاصة أصحاب البدع الكفرية ؛فينبغي الانتباه إلى هذا الأمر وتداركه وتقويته. ولو جاز التساهل فيه من قبل العامة فلا يجوز بحال أن يتساهل فيه الدعاة إلى الله عز وجل الذين تصدروا لنصرة العقيدة الصحيحة ومحاربة ما يضادها من العقائد الباطلة.

المثال الثامن: مـن المعلوم أن من صور الولاء للكفار التشبه بهم في

عاداتهم وتقاليدهم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بمناسباتهم الدينية أو في هديهم الظاهر، أو في أنماط سلوكهم في المأكل والمسكن والملبس وغيرها، وسأرجئ الكلام عن الصور التي تشبه فيها المسلمون اليوم بأعدائهم الكفار إلى مبحث الحديث عن: مظاهر البعد عن الاستقامة في السلوك والأخلاق، ولكن يحسن الحديث هنا عن أثر المشابهة للكفار في هديهم الظاهر على المودة لهم، وذلك حتى لا يقول قائل: وما أثر هذه الأعمال على الدين والإيمان، أو يقول: هذه قشور ومظاهر ينبغي أن لا ننشغل بها عن اللب والحقائق!! وللرد على هذه الأقوال أنقل ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن أثر التشبه بالكفار في هديهم الظاهر على البواطن، حيث يقول رحمه الله تعالى: "... إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين... بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك: لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما... فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة، فتكون محرمة"([130]) .

المثال التاسع: الحزبية المقيته

وهذه الآفة لا تأتي إلا من ضعف عقيدة الولاء والبراء في القلوب، وهي تكثر في التجمعات التي تقوم على أساس القوم أو الوطن أو القبيلة دون النظر إلى عقيدة المنتمي لهذه التجمعات أو إلى صلاحه أو فساده، وإنما المهم أن يكون من القوم أو الوطن أو القبيلة، وما خرج عن هذه التجمعات فيحرم من الولاء ولو كان مسلماً صالحاً.

وقد سرت هذه اللوثة إلى بعض الجماعات الإسلامية، فبدل أن يبذل الولاء والنصرة والمحبة لكل مسلم صحيح المعتقد، أصبح يوجه لأفراد الحزب أو الطائفة أو القوم الذين هو منهم، فلا يحب ولا يوالي إلا من كان من الحزب. ولا يخفى ما في هذا من الخلل والانحراف عن المفهوم الصحيح لعقيدة الولاء والبراء لأن أصل الموالاة والمعاداة في الإسلام على العقيدة، فكل مسلم صحيح الإيمان يجب أن يبذل له من المحبة والموالاة ما يكافيء إيمانه وتقواه، بغض النظر عن جنسه ولونه ولغته وانتمائه، وصاحب العقيدة الصحيحة المتخلق بأخلاق السلف يجب أن يبذل له الولاء التام، أما المسلم المقدوح في عقيدته أو سلوكه، بحيث لا تصل هذه القوادح إلى حد الكفر، فإن هذا وأمثاله يبذل لهم الولاء العام المكافيء لما فيهم من الإيمان والخير، ويتبرأ من بدعتهم ومعصيتهم وخلقهم المشين. وأما الذي ينتفي عنه الولاء بالكلية، ولا يجوز في حقه إلا البراءة التامة، فهو الكافر والمنافق نفاقا اعتقاديا ظهرت عليه علاماته.

ولا يفهم من هـذا الكـلام التهوين من شأن الجماعات الإسلامية

والتجمع على الخير والتعاون على البر والتقوى، حاشا وكلا، وإنما المقصود الحذر من لوثة الحزبية المقيتة والتعصب المذموم لهذه التجمعات، وجعل الانتماء إليها أو عدمه هو أساس الموالاة والمعاداة. أما إذا سلمت هذه الجماعات الداعية إلى الله عز وجل من هذه اللوثات فحيهلا بها. وعملها من أفضل القربات إلى الله عز وجل، وقيامها من باب التعاون على البر والتقوى. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل: التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله. فإن الله ورسوله أمر بالجمماعة والأئتلاف، ونهيا عن الفرقة والإختلاف، أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان "([131]) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المظهر الثاني من مظاهر المخالفة في العقيدة والفكر:

القدح في عدالة أصحاب نبينا محمد e.

 

أصحاب محمد e ، ورضي الله عنهم هم الذين نقلوا إلينا كـتاب

الله عز وجل وسنة نبيه e، وهم الذين فتحو الدنيا بالإسلام، وأوصل الله بهم الإسلام إلينا، حيث بذلوا أنفسهم وأموالهم، وضحوا في سبيل الله عز وجل حتى وصل إلينا هذا الدين نقيا صافيا، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين في كل مكان خير الجزاء.

ولقد استفاض فضلهم، وعلو منزلتهم في كتاب الله عز وجل وأحاديث رسول الله e وكلام سلف الأمة بما لا مزيد عليه.

وما داموا هم الواسطة التي جاءنا عن طريقها كتاب الله عز وجل وسنة نبيه e فإن القدح فيهم، أو الشك في عدالتهم يعد قدحا في القرآن والسنة لأن القدح في الناقل قدح في المنقول.

ولقد خرجت في الأزمنة الأخيرة نابتة تنتسب إلى أهل السنة تجرأت على أصحاب الرسول e متأثرة بشكل مباشر، أو غير مباشر ببعض شبه الرافضة، أو من يسمون أنفسهم بالعقلانيين والعصرانيين، وأصبحنا نسمع من الرويبضات كلاما عجيبا ينال من مقام أفضل البشر بعد الأنبياء، الذين كانوا سببا في هداية البشرية، وهداية هؤلاء العاقين لهم والمنكرين لمعروفهم وفضلهم([132]) .

وأنقل فيما يلي بعض ما ورد في كتاب الله عز وجل في فضلهم وعلو منزلتهم، وشهادة رب العالمين لهم بالخيرية، والإيمان الحق، وما أعد لهم من الفوز العظيم في جنات النعيم، أنصح بها من زلت به القدم في شيء من هذه المهلكات أن يتأملها ويقبل عليها بقلبه يتدبرها تدبر الطالب للحق المتجرد من أسر الهوى، والشهوة الخفية والتقليد الأعمى، والمؤمن بالمصير إلى الله عز وجل، وسؤاله سبحانه له: {ماذا أجبتم المرسلين }.

الآية الأولى: قوله تعالى: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)) [الحجرات:7]، هذا كلام الله عز وجل فمن نصدق؟

أنصدق شهادة القرآن لهم بالرشد والإيمان، أم شهادة القوم عليهم بالكفر والفسوق والعصيان؟ فانتبهوا يا أولي الألباب، ويا من يحسن الظن بالرافضة الباطنيين.

الآية الثانية: قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) [الأنفال:74]

     الآية الثالثة: قوله تعالى: (( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100]

      الآية الرابعة: قوله تعالى: (( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) [آل عمران:172- 174]،وهذا كان في أعقاب غزوة أحد.

الآية الخامسة: قوله تعالى: (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) [الأحزاب:22] ، وهذا كان يوم الأحزاب عندما تحزب أهل الشرك على المسلمين في المدينة وعندما نقض يهود بني قريظة العهد وغدرت بالمسلمين.

الآية السادسة: قوله تعالى: (( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) [الفتح:26]،فهل بعد شهادة الله عز وجل لهم بأنهم أهل التقوى- وهم أحق بها- من شهادة؟

الآية السابعة: قوله تعالى: (( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18] ، ففي هذه الآية يبين الله عز وجل رضاه عن أصحاب هذه البيعة ويزكي قلوبهم وبما وقر فيها من الوفاء والصدق.

الآية الثامنة: قوله تعالى: (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه، في رواية عنه، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة قال: لأنهم يغيظونهم. ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء "([133]) .

والآيات في ذكر فضلهم وسبقهم لمن بعدهم كثيرة أكتفي بما ذكرته

سابقاً.

وأما الأحاديث الثابتة في مناقبهم وعدالتهم وفضلهم، فكثيرة جداً ويكفي أن يرجع المسلم المنصف، الطالب للحق إلى صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن والمسانيد، وغيرها من كتب الحديث، ليطلع على ما جاء في مناقب الصحابة بأسمائهم وأعيانهم، كالعشرة المبشرين       بالجنة، وأهل بدر وأهل العقبة، وأهل بيعة الرضوان، وغيرهم. وأكتفي  من ذلك بقوله e :  (( لا تسبوا أصحابي فوالله لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) ([134]) .

أما ما نقل عن أئمة السلف الصالح، التابعين لهم بإحسان من الكلام

في عدالتهم وعظيم فقههم وفهمهم، وكونهم أسعد بالحق والفهم الصحيح ممن جاء بعدهم فهو كثير وكثير، وقد أحسن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان هذه النقولات([135]) ، وبيان الأسباب التي جعلت فهم الصحابة وفقههم هو الأصل في فهم الكتاب والسنة، وأنهم مقدمون على من سواهم، وفيما يلي بعض ما ذكره في كتابه القيم أعلام الموقعين عن عدالة الصحابة وصحة فهمهم واستنباطاتهم.

قال رحمه الله تعالى: "ولما كان التلقي عنه e على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم. والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها، وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟!

تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأيدوا قواعــد الإسلام، فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا، فتحوا القلوب بعدلهم

بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم e عن جبريل، عن رب العالمين سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا، وفرضه علينا، وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: (( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)) [الواقعة:13- 14]([136]) .

       وقال في موطن آخر: "قال الشـافعي رحمه الله في رسالته البغدادية

التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني وهذا لفظه: وقدأثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله e في القرآن والتوراة والإنجيل ،       وسبق لهم على لسان رسول الله e من الفضل ما ليس لأحد بعدهم ، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدوا إلينا سنن رسول الله e وشاهدوه، والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله e عاماً وخاصاً وعزماً  وإرشاداً وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع

 

وعقل ، وأمر استُدرك به علم ، واستنبط به ، وآراؤهم لنا أحمد ، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا ومن أدركنا ممن يرضى أو حُكي لنا عنه ببلدنا . صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله e فيه سنة إلى قولهم أن اجتمعوا ، أو قول بعضهم أن تفرقوا . وهكذا نقول ، ولم نخرج عن أقاويلهم . وإن قال أحدهم ، ولم يخالف غيره ، أخذنا بقوله ...

.. والمقصود أن أحداً ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم ، وكيف يساويهم ، وقد كان احدهم يرى الرأي ، فينزل القرآن بموافقته ، كما رأى عمر في أسارى بدر أن تُضْربَ أعناقهم ، فنزل القرآن بموافقته ، ورأى أن تحجب نساء النبيe فنزل القرآن بموافقته ، ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى ، فنزل القرآن بموافقته ، وقال لنساء النبيe لما اجتمعن في الغيرة عليه : (( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ  )) [ التحريم: 5 ] فنزل القرآن بموافقته ، ولما توفي عبدالله بن أبي قام رسول الله e ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوبه ، فقال: يا رسول الله ، إنه منافق ، فصلى عليه رسول الله e فأنزل الله عليه : (( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ))

[ التوبة: 84]

... وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً  من رأينا لأنفسنا ، وكيف لا ! وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله ونصيحة للأمة ، وقلوبهم على قلب نبيهم ، ولا واسطة بينهم وبينه ، وهم ينقلون العـلم

والإيمان من مشكاة النبوة غضاً طرياً، لم يشبه إشكال ولم يشبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس "[137] (1).

ثم تحدث رحمه الله عن خصائص الصحابة e وما انفردوا به عمن

جاء بعدهم فقال: "الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولا أو حكم بحكم أو أفتى بفتيا، فله مدارك ينفرد بها عنا، ومدارك نشاركه فيها، فأما ما يختص به، فيجوز أن يكون سمعه من النبي e شفاها أو من صحابي آخر عن رسول الله e فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به، فلم يرو كل منهم كل ما سمع، وأين ما سمعه ،الصديق  ، والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة   إلى ما رووه...

... هذا فيما انفردوا به عنا، أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوبا، وأعمق علماً، وأقل تكلفا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن؟. لما خصهم  الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن  القصد، وتقوى الرب تعالى. فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في

 

قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، في حقهم إلا أمران:

أحدهما: قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا.

والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما..

.... هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائها، وصحتها وقوة إدراكها، وكماله، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا، وما شاركناهم فيه، فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم، أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل؟

ومَنْ حدَّث نفسـه بهـذا، فليـعزلها مـن الـدين والعلم، والله المستعان "([138]) .

وبعد هذه النقولات التي بينت فضل اصحاب محمد e ، وتفردهم عن من سواهم ممن جاء بعدهم بصفات، وخصائص حباهم الله بها، وألزمهم بها وكانوا أحق بها وأهلها..

 

 

 

أقول بعد هذه النقولات لم يبق أمام المسلم الباحث عن الحق المحب لنفسه الخير إلا أن يترضَّ عنهم ، ويحفظ لهم حقوقهم ، ويبذل لهم المحبة والولاء ، وأن يعتقد فضلهم وعدالتهم ، وأن يسأل ربه أن يهديه صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين . ونشهد أن أصحاب محمد e هم أول من يدخل في صفات المنعم عليهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

نسأل الله عزوجل أن يحشرنا في زمرتهم ، وأن يجعلنا من المتبعين لهم بإحسان ، لا نبغي عن طريقهم حولا ، وأن يجعلنا ممن قال الله فيهم بعد أن أثنى على المهاجرين والأنصار في سورة الحشر : (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )) [الحشر:10].

عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال : قالت لي عائشة رضي الله عنها : يا ابن اختي ، أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمدe فسبوهم"([139])

شبهة ومناقشتها :

من المعلوم المستفيض أن مما يميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل الأهواء والبدع قولهم في مرجعيتهم ، ومنهج الاستدلال لديهم بأنه قائم على : كتاب الله عز وجل وسنة نبيه e وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ،

 

وأن فهم الصحابة مقدم على فهم غيرهم فكل فهم يخالف ما فهموه فهو مردود على صاحبه .

وقد شرق بعض من تأثر بأهل الأهواء والبدع بهذا القيد وقالوا : إن الأصل في صحة المنهج الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ولا داعي لتقييده بفهم الصحابة رضي الله عنهم ، لأن هذا القيد مجدث ، ولم يكن معروفاً للصحابة ولا لغيرهم . ولجواب على هذه الشبهة أقول وبالله التوفيق :

إن الناظر للخط التاريخي لظهور البدع ، وبداية نشأتها يلاحظ مرحلتين هامتين لابد من تأملهما حتى يزول الاشكال المطروح ، وتدحض الشبهة القائمة ، وهاتان المرحلتان هما :

الأولى : منذ بعثة النبي e ،وحتى منتصف خلافة علي وبالتحديد سنة 37هـ ، وهذه الحقبة الذهبية التي كانت كلمة المسلمين فيها مجتمعة على فهم الكتاب والسنة الفهم الصحيح التي تلقاها الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله e وتلقاها عنهم من بعدهم .

وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون القرآن وأحاديث الرسول e  ، ويفهمون معانيهما ، ويؤمنون بهما ، ويعملون بما فيهما ، ونحن نعتقد أنهم كانوا يفهمون ما يخاطبون به من العلميات والعمليات بما أعطاهم الله من صفاء الذهن والفصاحة والبيان . وما أشكل عليهم كانوا يسألون عنه ويتلقونه بالقبول والتسليم من رسول الله e .

وكانوا في حياة الرسول e على عقيدة واحدة ناصعة نقية ، لأنهم

كانوا ينهلون من معين الوحيين الصافيين.

ثم جاءت خلافة أبي بكر الصديق   ، فكان الأمر فيها كما كان على عهد رسول الله e . المسلمون على عقيدة واحدة مرجعهم الكتاب والسنة.

ثم جاء عهد عمر بن الخطاب فكان الأمر على ما كان عليه رسول الله e وأبو بكر الصديق   ، إلا ما وقع من صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن فضربه عمر حتى تاب ([140]) ، ولم تعد مثل هذه الحوادث في الظهور.

ثم جاء عهد عثمان بن عفان ولم يظهر شيء يذكر مما يخالف   ما كان عليه الرسول e في المعتقد، ثم كانت خلافة علي بن أبي طالب ، وكان المسلمون في صدرها على عقيدة واحدة، ولم يعرف عنهم في هذه المدة بعد وفاة الرسول e أن تنازعوا في مسائل العقيدة، إنما اختلفوا في بعض مسائل الأحكام مما يقبل الخلاف ويسعه الاجتهاد. وفي ذلك يقول الإمام بن القيم رحمه الله تعالى: (... وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانا ولكنهم بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال 000([141]) .

هذا هو الواقع الذي عاشه الصحابة في هذه المدة، فكان مجتمعهم بصورته تلك سليماً من كل انحراف يعكر صفاءه أو يشوه نقاءه، وكان منهجهم قائما على الكتاب والسنة ولم يكونوا بحاجة إلى تقييده بفهم الصحابة لأنه مجتمع واحد متوحد في الفكر والعقيدة.

المرحلة الثانية: وهي التي بدأت بعد فتنة التحكيم في منتصف خلافة علي بن أبي طالب وبالتحديد سنة 37 هـ حيث برزت أول البدع ظهوراً وهي بدعة الخوارج ثم ظهرت في مقابلها بدعة الشيعة والمرجئة ثم ظهرت القدرية.

وقد أنكر هذه البدع كل من أدركهما من أصحاب الرسول eودعوا الناس إلى تمسكهم بالكتاب والسنة حسب ما فهموه من النبي e

ومنذ ظهور البدع في تلك الحقبة إلى يومنا هذا، كان لزاما لكل متبع لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه e أن يقيد فهمه لهما بفهم الصحابة ، وسيبقى هذا القيد ما بقي لأهل الأهواء والبدع وجود، وهذا ما سار عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان في كتبهم ومجالسهم، ومناظراتهم. وهنا يأتي الجواب على شبهة القائل: ما ضرورة هذا القيد، ولماذا لا يكتفى بالكتاب والسنة، فمن رجع إليهما في معتقده، فهو المتبع ومن خالفهما فهو المبتدع؟!!

والجواب : أن يقال : إن تقييد الرجوع إلى الكتاب والسـنة بفهم

 

 

البدع، وأفكارهم البدعية، لأن الناس كانوا على عقيدة واحدة، ومنهج واحد.

أما بعد نشأة البدع، فكان لا بد من هذا القيد وذلك ليميز السائرون على ما كان عليه النبي  e وأصحابه الكرام، عن غيرهم من المبتدعة المخالفين، لأن كل طائفة تدعي أنها ترجع إلى الكتاب والسنة.

وكل يدعي وصلاً بليلى            وليلى لاتقرلهم بذاك

وإذا لم يوجد هذا القيد، ووكل فهم الكتاب والسنة إلى عقول كل طائفة: اختلطت الأمور والتبس على الناس أمر دينهم، وصارت كل طائفة تدعي أن فهمها للنصوص هو الفهم الصحيح. وعندما يأتي المعارض بفهم آخر من عقله، فإن المخالف له لايسلم له بفهمه واجتهاده، إذ ما الذي يجعل عقل غيره وفهمه أولى من عقله هو وفهمه. وعند ذلك تتمسك كل طائفة بفهمها للنصوص. ومن هنا نشأت الفرق البدعية.

أما أهل السنة والجماعة المستمسكون بما كان عليه النبي e وأصحابه فقالوا للمخالفين: إنه لا يسوغ لنا ولا لكم أن نتعامل مع النصوص بفهمنا الخاص وعقولنا القاصرة، وإنما الفيصل بيننا وبينكم فهم الصحابة للكتاب والسنة، فهو الفهم الذي يجب أن نرجع إليه، وأن يكون هو الحكم على الجميع، وذلك لما حبى الله عز وجل أصحاب محمد e من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحكمة وعلما ومعرفة وفهما عن الله عز وجل وعن رسوله e ، ونصيحة للأمـة . وقلوبهم على قلـب نبيهم ،

 

ولا واسطة بينهم وبينه، شاهدوا التنزيل، ونقلوا العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا طريا، فوق ما انفردوا به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم وحسن الإدراة وقلة المعارض أو عدمه "([142]). هذه صفاتهم التي لا توجد مجتمعة فيمن بعدهم.

ولكي يتضح لطالب الحق أهمية التقيد بفهم الصحابة أذكر تطبيقاً لذلك في مسألة الاعتقاد في أسماء الله عز وجل وصفاته الواردة في الكتاب والسنة: فحينما تطرح دراستها بعيدة عن فهم الصحابة ، فإن كل طائفة تدعي أنها هي التي على المنهج الصحيح لفهم الأسماء والصفات، ولا تسلم كل طائفة للأخرى، بفهمها لأن كل طائفة تدعي أنه هي الأفهم والأعقل لنصوص الكتاب والسنة، وهذا أمر بدهي في المناظرات التي مرجعها العقل وحده.

أما حين يرفع شعار فهم الصحابة للأسماء والصفات وأنه هو المرجع ، فما تكلموا به وفهموه أخذنا به وتكلمنا، وما سكتوا عنه سكتنا عنه، فإن الفهم حينئذ ينضبط ويقال لمن تعامل مع النصوص بعقله فقط، هات لنا مستندا من قول الصحابة ونقبله على العين والرأس، وإلا رددناه عليك، وبقينا على فهم أصحاب محمد e الذين هم أبر قلوبا وأعمق إيمانا وعلما، وهم الذين تلقوا عن رسول الله e بلا واسطة، وهم أهل اللغة والفصاحة والذكاء والفطنة.

ولو كان ما أتت به الطوائف المبتدعة خيرا وحقا، لكان أصحاب رسول الله e أسبق إليه وأسعد بفهمه منهم. وبهذا يلقم أهل البدع حجراً ويبهتون، وتصبح حجتهم داحضة، وحجة المتبعين لفهم الصحابة عالية وهادية مهدية.

وهذا المثال يسري على جميع أبواب العقيدة الأخرى، ويرفع هذا الشعار في وجوه كل الطوائف المبتدعة التي أحدثت في دين الله تعالى مالم يقله النبي e ولم يفهمه أصحابه .

وها هو أحد السعداء بهذا المنهج يستخدمه في مناظرة رأس المعتزلة في وقته ابن أبي دؤاد القائل بأن القرآن مخلوق. وتنتهي المناظرة وبكلمات معدودة بعلو حجة المتقيد بفهم الصحابة، وسقوط حجة الخصم وتهافتها، وللفائدة أنقل القصة بطولها كما ذكره الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الاعتصام.

"ذكر صالح بن علي الهاشمي ؛ قال: حضرت يوما من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رفع طرفه إلي ؛ أطرقت.

فكأنه علم ما في نفسي، فقال لي: يا صالح! أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره. قال: فقلت: نعم يا أمير المؤمنين!

فأمسك، فلما فرغ من جلوسه ؛ أمر أن لا أبرح ، ونهض ، فجلست

 

جلوساً طويلاً، فقمت إليه وهو على حصير الصلاة، فقال لي يا صالح! أتحدثني بما في نفسك أم أحدثك؟ فقلمت: بل هو من أمير المؤمين أحسن. فقال: كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا، فقلت: أى خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن!

فقال: قد كنت على ذلك برهة من الدهر، حتى قدم على الواثق شيخا من أهل الفقه والحديث من (أذنة) من الثغر الشامي مقيدا، طوالا، حسن الشيبة، فسلم غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرحمة عليه.

فقال: يا شيخ! أجب أبا عبد الله أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك عنه. فقال: يا أمير المؤمنين! أحمد يصغر ويضغف ويقل عند المناظرة.

فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة عليه والرقة له غضبا، فقال: أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك؟! فقال: هون عليك يا أمير المؤمنين! أتأذن لي في كلامه؟ فقال له الواثق: قد أذنت لك.

فأقبل الشيخ على أحمد، فقال: يا أحمد! إلام دعوت الناس؟ فقال أحمد: إلى القول بخلق القرآن. فقال له الشيخ: مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن؟ أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاماً إلا بالقول بها؟ قال: نعم. قال الشيخ: فرسول الله e دعا الناس إليها     أم تركهم. قال: لا. قال له: يعلمها أم لم يعلمها؟ قال: علمها، قال:   فلم دعـوت الناس إلى مالم يدعهم رسول الله e إليه وتـركهم منه ؟

 

فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين! هذه واحدة.

ثم قال له: أخبرني يا أحمد! قال الله تعالى في كتابه العزيز: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة: 3]، فقلت أنت: إن الدين لا يكون تاما إلا بمقالك بخلق القرآن، فالله تعالى عز وجل أصدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك؟! فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين! وهذه ثانية!

ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد! قال الله عز وجل (( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه)) [المائدة :67] ، فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله e إلى الأمة أم لا؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين! وهذه ثالثة!

ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد! لما علم رسول الله e مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها؟ ائسع له أن أمسك عنهم أم لا؟ قال أحمد: بل اتسع له ذلك. فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر، وكذلك لعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلي، رحمة الله عليهم؟ قال: نعم.

فصرف وجهه إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين! إذا لم يتسع لنا ما أتسع لرسول الله e ولأصحابه ؛ فلا وسع الله علينا. فقال الواثق: نعم؟ لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله e ولأصحا به.

 

 

 

 

ثم قال الواثق: اقطعوا قيوده. فلما فكت جاذب عليها. فقال الواثق: دعوه. ثم قال: يا شيخ! لم جاذبت عليها؟ قال!: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها، فإذا أخذتها، أوصيت أن تجعل بين يدي وكفني حتى أقول: يا ربي! سل عبدك: لم قيدني ظلما وارتاع في أهلي؟ فبكى الواثق، وبكى الشيخ وكل من حضر.

ثم قال له الواثق: يا شيخ! اجعلني في حل. فقال: يا أمير المؤمنين!

ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاما لرسول الله e، ولقرابتك منه.

فتهلل وجه الواثق، وسر، ثم قالى: له: أقم عندي آنس بك. فقال له: مكاني في ذلك الثغر أنفع، وأنا شيخ كبير، ولي حاجة. قال: سل ما بدا لك. قال: يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم. قال: قد أذنت لك. وأمر له بجائزة، فلم يقبلها.

فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة، وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها".

قال الشاطبي: "فتأملوا هذه الحكاية، ففيها عبرة لأولي الألباب، وانظروا كيف يأخذ الخصوم في إفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة e "([143]) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المظهر الثالث:

مخالفة أهل الاستقامة في نظرتهم إلى العقل وموقفه من النصوص

أهل الاستقامة والاتباع كعادتهم وسط في جميع الأبواب بين الإفراط والتفريط. بين الغلو والتقصير؟ ومن ذلك نظرتهم إلى العقل، ووظيفته إزاء النصوص؟ فهم وسط بين من غلى فيه ورفعه فوق منزلته وقدمه على النقل وحاكم إليه النصوص، وبين من فرط فيه وأهمله، وألغى دوره في فهم النصوص وتدبرها ومعرفة مقاصدها وعللها حسب الإمكان، وجعله نهبا للخرافات والأساطير التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولقد ظهرت في هذه الأزمنة المعاصرة نابتة من شباب المسلمين، ومثقفي أهل السنة تأثرت بشكل أو بآخر بمن يسمون أنفسهم بالعقلانيين، أو العصرانيين أو المستنيرين، ونحوها من المسميات التي هي (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا)، وظهر من جراء ذلك بعض الأفكار، والمواقف الغريبة التي تصادم أصول السلف، ومنهجهم في الاستدلال، وتعاملهم مع النصوص، وصرنا نرى من بعضهم جرأة عجيبة على أصول أهل السنة وثوابتهم في العقيدة والأحكام.

وفي هذا المبحث أوجه النصيحة لإخواني المخدوعين من أهل السنة بهذه المدرسة المحدثة، وذلك من خلال فضح هذه المدرسة ومن وراءها ومحاكمة آرائها إلى الكتاب والسنة وفهم الصحابة ، وما هي المآلات الخطيرة التي تؤول إليها؟ وسيتم تفصيل ذلك من خلال معرفة فهم السلف الصالح لمنزلة العقل ، ونظرة من يسمــون أنفسهم بالعقلانيين إلى العقل

وذلك كما هو مبين فيما يلي:

أولا: بيان فهم السلف الصالح لمنزلة العقل في الكتاب والسنة.

لقد كان لسلفنا الصالح منهج واضح في تحديد دور العقل، ومنزلته في ضوء كتاب الله عز وجل وسنة نبيه e، تميزوا به عن مخالفيهم من أهل البدع الذين انحرفوا في هذا الباب، وأتوا فيه بالشطحات والزلات.

وإن أبرز معلم لمنهج السلف الصالح في هذا الشأن:

أن لا تعارض بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وبين شيء من المعقولات الصريحة: ويمكننا اختصار هذا المعلم بالقول المشهور عند أهل السنة والجماعة بأن لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح. وبيان ذلك أن يقال:

".. إن العقل خلقه الله تعالى وجعل من وظائفه أن يفهم عنه، ويعقل دينه وشرعه، فلا يجوز في حقه أن يرد شيئا من الوحي- الكتاب والسنة - بحجة أنه يخالف المعقول، بل الشريعة كلها بأخبارها وأحكامها ليس فيها ما يعلم بطلانة بالعقل، بل العقل يشهد بصحتها على الإجمال والتفصيل. أما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول e ، فيلزم هن ذلك تصديق النبي e في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.

وأما التفصيل، فإن مســائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل، بل كل

 

 

ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقاً وتعضيداً وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظمة الشريعة وتفوقها. ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها؟ فالشريعة تأتي بما يحير العقول لا بماتحيله العقول.. وذلك كالعلوم الغيبية وما في حكمها، فهذه إنما تعرف من جهة خبر الشارع، وأما من أحال غير المعتاد من العلوم على المعتاد منها لمعرفتها وكشف حقيقتها؛فقد يقع في التكذيب أو التشكيك، كمن أنكر أخبار الشارع بمعجزات الأنبياء كقلب الشجر حيوانا، وانشقاق القمر، وغيرها، وكمن أنكر إخبار الشارع بصفات الله تعالى وأسمائه، وأحوال المعاد والجزاء والحساب، وتفاصيل ذلك، ونحوها من مسائل الغيب، فمن قايس هذه المسائل الغيبية وحاكمها إلى المعلومات المشاهدة المحسوسة لم يهتد فيها إلى الصواب، بل يقابلها بالإنكار والرد، ويحتج في إنكارها بما يسميه المعقول، كمن ينكر أحوال البرزخ والصراط والميزان... إلخ، لأنه لا يعقل وجود صفة على غير المعتاد من صفات المخلوقين...

والحق أنه ليس في العقل ما يشهد بإحالة شيء من ذلك، وإنما فيه إثبات عجز العقل عن درك هذه المسائل على حقيقتها، وما ذلك إلا لكمال الشريعة، وتفوقها وعجز العقل وقصوره... أما أن يأتي الشرع بما يعلم العقل الصحيح بطلانه فهذا محال!.

والمقصود هو بيان أن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح، وأن الحاكم والمقدم في موارد النزاع هو النقل، بل كما يقول الشاطبي رحمه الله

تعالى (إذا تعارض النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل، فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل)([144]) "([145]) .

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يرد على من يسمون أنفسهم بأصحاب المدرسة العقلية: "... فإطلاق كلمة "العقل " إطلاق الأمر إلى شيء غير واقعي!- كما قلنا- فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان.. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى "مقرراته ". وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة، فإننا ننتهي إلى فوضى!

وقد نشأ هذا كله من الاستغراق في مواجهة انحراف معين.. ولو أخذ الأمر- في ذاته- لعرف للعقل مكانه ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط، وبدون تقصير ولا تفريط كذلك ؛ وعرف للوحي مجاله، وحفظت النسبة بينهما في مكانها الصحيح..

إن "العقل " ليس منفياً ولا مطروداً ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه ؛ مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو "الحكم " الأخـير. وما دام النص

محكماً، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرارته هو من مدلول هذا النص الصريح "([146]) .

أسباب توهم التعارض بين النقل والعقل ووجوه دفعه.

لقد سبق بيان أن لا تعارض بين العقل الصحيح والنقل الصحيح. وهذا معتقد أهل الاستقامة، وإذا ظهر تعارض بين الدليل النقلي والعقلي، فإما أن يكون النقل ليس بثابت، فهنا لا يعارض به العقل الصريح، أو يكون النقل صحيحا، ولكن المستدل غلط في الاستدلال به. وهنا يكون العقل فاسدا غير صحيح وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته:

"   فإذا تعارض نص لفـظ وارد         والعقل حتى ليـس يلتقيــان

فالعقل إمـا فاســد ويظنه          الرائي صحيحا وهو ذو بطلان

أو أن  ذاك النص  ليس بثابت          ما قالــه المعصوم بالبرهـان

ونصوصه ليس تعارض  بعضها         بعضافسـل عنها عليم زمـان

هـاذا ظننت تعارصا فيها فـذا         من آفة الأفهام والأذهان "([147])

 

 

 

 

وللتعارض الموهوم عدة صور:

الصورة الأولى: "أن يكون العقل ليس بصحيح، والنقل صحيح ثابت في الكتاب والسنة. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد، والصفات، ومسائل القدر والنبوات، والمعاد، وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط...) "([148]) .

الصورة الثانية: أن يكون العقل صحيحاً صريحاً، ولكن النقل غير ثابت، وذلك بتقصير من الناظر في ثبوت السمع بعد تيقنه من دلالة العقل، فيظن في السمع الصحة، والأمر ليس كذلك، فيظهر عنده التعارض، وهو تعارض بين دليل صحيح ودليل فاسد، والدليل الفاسد لا يصلح أن يكون دليلاً فضلاً عن أن يعارض به الدليل الصحيح، بل الواجب تقديم الدليل الصحيح سمعياً كان أو عقلياً

الصورة الثالثة: أن يكون النقل صحيحاً ، لكن غلط المستدل في الاستدلال به فيظهر التعارض نتيجة الفهم القاصر، فالتقصير في معرفة النقل تارة يكون في معرفة طرقه وتمييز الصحيح من السقيم، وتارة يكون

 

في معرفة دلالته وتحقيق معانيه، فعدم إدراك الدلالة الصحيحة للسمع من أسباب ادعاء التعارض بين المعقول والمنقول "([149]) .

وسطية أهل السنة في نظرتهم للعقل.

أهل السنة كما سبق وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وردوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء،و هم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتىللعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول. وكلا الطرفين ابتعدا عن منهج أهل السنة. وهدى الله السلف وأتباعهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه، حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجهوه لتدبرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تحط، به العقول منها. والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) [الحج:46] ،وكما في قوله تعالى- وفي أكثر من آية-(( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الروم: 24]،. وقوله: (( أَفَلا يَعْقِلُونَ)) [يّـس: 68]

 

"ومن سمات العقل عند أهل السنة أنه عقل مسلم يعرف حجمه، والآفاق التي له أن يتحرك فيها، والآفاق المغلقه التي يحظر عليه أن يخترقها، أو أن يخطر ذلك بباله؛ فهناك مساحات محظورة، ومساحات مقيدة، ومساحات مفتوحة تماماً. وكما تلقى أسلافنا آيات الصفات، وفوضوا كيفيتها لله سبحانه وتعالى، شأن الراسخين في العلم الذين يقولون (آمنا به كل من عند ربنا)؛ فالعقل في المناطق المحظورة التي لم يعط القدرة على إدراكها حذر ووقاف، وشأنه فيها التسليم والإذعان الكامل للنصوص لعلمه ويقينه أن فهم ما وراء هذه المساحات أمر أكبر من إمكانيته وأبعد من طاقته... "([150]) .

د) وسطية أهل السنة في نظرتهم للثوابت والمتغيرات:

إن سلفية العقل عند أهل السنة تتجلى أكثر ما تتجلى في تمسكه بالثوابت التي لا تقبل النقض، ولا التجاوز، ولا التغيير، وما سوى الثوابت من الفروع المتجددة والنوازل المتغيرة؛ فإن العقل تظهر مرونته واجتهاده فيها حسب الأحوال والأمكنة والأزمنة منطلقا في اجتهاداته من الأصول، والثوابت المقررة في الشريعة الإسلامية.

وليس التمسك بالثوابت جموداً ، ولا تحجراً ، بل هو إقرار واقعي بآدمية الآدمي وقصور عقله ومحدوديته، وربوبية الرب عز وجل وكماله وعظمته وجلاله([151]) .

والثوابت لا يمكن الفكاك عنها ولا تجاهلها، ولابد منها حتى عند أصحاب الأفكار المنحرفة من أصحاب المذاهب والأحزاب الأرضية، وعند الغرب والشرق، وعند أصحاب الإدارة، فكلهم يؤكدون على الثوابت، وعدم التنازل عنها. فكيف بدين سماوي هو خاتم الرسالات إلى البشر؛ وهو من عند الله العليم الحكيم، واللطيف الخبير

والثوابت التي يعنيها أهل السنة هي تلك التي لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الأحوال، فمن وصفه الله عز وجل بالشرك أو الكفر أو النفاق لا يصبح في زمان آخر، أو مكان آخر غير مشرك، أو غير منافق. وكذلك الأخلاق والقيم الثابتة لا تتغير؛ فلا يتحول مثلاً الزنا والسفور والعري في وقت من الأوقات أو في مكان من الأمكنة مباحاً مستحسناً...

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن خاصية الثبات كخاصية من خصائص العقيدة الإسلامية: "من الخاصية الأساسية للتصور الإسلامي- خاصية الربانية- تنبثق سائر الخصائص الأخرى. وبما أنه "رباني " صادر من الله، ووظيفة الكينونة الإنسانية فيه هي التلقي والاستجابة والتكيف والتطبيق في واقع الحياة، وبما أنه ليس نتاج فكر بشري، ولا بيئة معينة، ولا فترة من الزمن خاصة، ولاعوامل أرضية على وجه العموم.. إنما هو ذلك الهدى الموهوب للإنسان هبة لدنية خالصة من خالق الإنسان، رحمة بالإنسان..

بما أنـه كـذلك فمن هذه الخاصية فيه تنشأ خاصية أخرى.. خاصية :

 

"الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت ".

هناك "ثبات " في مقومات هذا التصور الأساسية، وقيمه الذاتية. فهي

لا تتغير ولا تتطور؛ حينما تتغير "ظواهر" الحياة الواقعية، و"أشكال " الأوضاع العملية.. فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع، يظل محكوما بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور..

ولا يقتضي هذا "تجميد" حركة الفكر والحياة. ولكنه يقتضي السماح

لها بالحركة- بل دفعها إلى الحركة- ولكن داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت..

ونزوع هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع الأرضي وتطويره.. حقيقة ثابتة كذلك منبثقة أولاً من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون. ومنبثقة ثانياً من فطرة هذا الإنسان. وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض. فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته.. أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور.

وهكذا تبدو سمة: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت " سمة عميقة في الصنعة الإلهية كلها. ومن ثم فهي بارزة عميقة في طبيعة التصور الإسلامي.

ونحن نسبق السياق هنا، فنستعرض نماذج من المقومات والقيم الثابتة

في هـذا التصـور... وهي التي تمثل "المحور الثابت " الذي يـدور عليه

 

المنهج الإسلامي في إطاره الثابت.

إن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية- وهي قاعدة التصور الإسلامي- ثابت الحقيقة، وثابت المفهوم أيضا. وغير قابل للتغيير ولا للتطوير:

حقيقة وجود الله وسرمديته، ووحدانيته، وقدرته، وهيمنته، وتدبيره لأمر الخلق، وطلاقة مشيئته... إلى آخر صفات الله عز وجل وآثارها في الكون والحياة والناس..

وحقيقة أن الكون كله- أشياءه وأحياءه- من خلق الله وإبداعه. أراده الله- سبحانه- فكان. وليس لشيء ولا لحي في هذا الكون أثارة من أمر الخلق في هذا الكون، ولا التدبير ولا الهيمنة. ولا مشاركة في شيء من خصائص الألوهية بحال..

وحقيقة العبودية لله.. عبودية الأشياء والأحياء.. وعموم هذه العبودية للناس جميعاً، بما فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عبودية مطلقة، لا تتلبس بها أثارة من خصائص الألوهية. مع تساويهم في هذه ا لعبودية..

وحقيقة أن الإيمان بالله- بصفته التي وصف بها نفسه-، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره شرط لصحة الأعمال وقبولها، وإلا فهي باطلة من الأساس، غير قابلة للتصحيح، مردودة غير محتسبة وغير مقبولة..

 

 

 

وحقيقة أن الدين عند الله الإسلام. وأن الله لا يقبل من الناس ديناً سواه. وأن الإسلام معناه إفراد الله- سبحانه- بالألوهية وكل خصائصها. والاستسلام لمشيئته، والرضى بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته. وأن هذا هو دينه الذي ارتضاه، لا أي دين سواه.

وحقيقة أن "الإنسان "- بجنسه- مخلوق مكرم على سائر الخلائق في الأرض، مستخلف من الله فيها، مسخر له كل ما فيها. ومن ثم فليست هناك قيمة مادية في هذه الأرض تعلو على قيمة هذا الإنسان أو تهدر من أجلها قيمته..

وحقيقة أن الناس من أصل واحد. ومن ثم فهم- من هذه الناحية- متساوون. وأن القيمة الوحيدة التي يتفاضلون بها- فيما بينهم- هي التقوى والعمل الصالح؛ لا أية قيمة أخرى، من نسب، أو مال، أو مركز، أو طبقة، أوجنس.. إلى آخر القيم الأرضية.

وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة لله.. بمعنى العبودية المطلقة لله وحده، بكل مقتضيات العبودية، وأولها الائتمار بأمره- وحده- في كل أمور الحياة صغيرها وكبيرها والتوجه إليه- وحده- بكل نية وكل حركة، وكل خالجة وكل عمل. والخلافة في الأرض وفق منهجه- أو بتعبير القرآن وفق دينه- إذ هما تعبيران مترادفان عن حقيقة واحدة..

وحقيقة أن رابطــة التجمع الإنساني هي العقيدة، وهي هذا المنهج

 

الإلهي؛ لا الجنس، ولا القوم، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة، ولا المصالح الاقتصادية أو السياسية،ولا أي اعتبارآخرمن الاعتبارات ا لأرضية.

وحقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل. وأن الآخرة دار حساب وجزاء.

وأن الإنسان مبتلى وممتحن في كل حركة، وفي كل عمل، وفي كل خير يناله أو شر، وفي كل نعمة وفي كل ضر.. وأن مرد الأمور كلها إلى الله...

... هذه وأمثالها من المقومـات والقيم كلها ثابتة، غير قابلة للتغير

ولا للتطور، ثابتة لتتحرك ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع في إطارها، وتظل مشدودة إليها. ولتراعي مقتضياتها في كل تطور لأوضاع الحياة، وفي كل ارتباط يقوم في المجتمع، وفي كل تنظيم لأحوال الناس أفراداً وجماعات في جميع الأحوال والأطوار.

وقد تتسع المساحة التي تتجلى فيها مدلولات هذه المقومات والقيم،

كلما اتسعت جوانب الحياة الواقعية؛ وكلما اتسع مجال العلم الإنساني، وكلما تعددت المفاهيم التي تتجلى فيها هذه المقومات والقيم، ولكن أصلها يظل ثابتا، وتتحرك في إطاره تلك المدلولات والمفاهيم...

... وقيمة وجود تصور ثابت للمقومات والقيم على هذا النحو هي

ضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية، فلا تمضي شاردة على غير هدى، كما وقع في الحياة الأوربية - عندما أفلتت من عـروة العقيدة -

 

فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع واللألاء الكاذب، الذي يخفي في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس.

وقيمته هي وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه "الإنسان " بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتطورات؛ وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات، فيزنها بهذا الميزان الثابت ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، ومن ثم يظل دائما في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في   الطريق !

وقيمته هي وجود "مقوم " للفكر الإنساني. مقوم منضبط بذاته، يمكن

أن ينضبط به الفكر الإنساني؛ فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. وإذا لم يكن هذا المقوم الضابط ثابتا، فكيف ينضبط به شيء إطلاقا إذا دار مع الفكر البشري- كيفما دار- ودار مع الواقع البشري- كيفما دار- فكيف تصبح عملية الضبط ممكنة، وهي لا ترجع إلى ضابط ثابت يمسك بهذا الفكر الدوار؟ أو بهذا الواقع الدوار؟!

إنها ضرورة من ضروات صيانة النفس البشرية، والحياة البشرية أن تتحرك داخل إطار ثابت، وأن تدور على محور لا يدور! إنها على هذا النحو تمضي على السنة الكونية الظاهرة في الكون كله، والتي لا تتخلف في جرم من الأجرام!

إنها ضرورة لا تظهر كما تظهر اليوم، وقد تركت البشرية هذا الأصل

 

الثابت؟ وأفلت زمامها من كل ما يشدها إلى محور، أصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور عليه في هذا المدار. ويوشك أن يصطدم فيدمر نفسه ويصيب الكون كله بالدمار.

(( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ))

[المؤمنون: 71]

والعاقل "الواعي " الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم، حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وأوضاعها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها تخبطاً منكراً شنيعاً. يراها تخلع ثيابها وتمزقها كالمهووس! وتتشنج في حركاتها وتتخبط وتتلبط كالممسوس. يراها تغير أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس وفق أهواء بيوت الأزياء!.. يراها تصرخ من الألم، وتجري كالمطارد، وتضحك كالمجنون، وتعربد كالسكير، وتبحث عن لاشيء! وتجري وراء أخيلة! وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من أحجار وأوضار!

لعنة! لعنة كالتي تتحدث عنها الأساطير!

إنها تقتل "الإنسان " وتحوله إلى آلة.. لتضاعف الإنتاج!

إنها تقضي على مقوماته "الإنسانية"، وعلى إحساسه بالجمال والخلق والمعاني السامية لتحقيق الربح لعدد قليل من المرابين وتجار الشهوات، ومنتجي الأفلام السينمائية وبيوت الأزياء!

 

وتنظر إلى وجوه الناس، ونظراتهم، وحركاتهم، وأزيائهم، وأفكارهم، وآرائهم، ودعواتهم؛ فيخيل إليك أنهم هاربون! مطاردون! لا يلوون على شيء، ولا يتثبتون من شيء! ولا يتريثون ليروا شيئاً ما رؤية واضحة صحيحة، وهم هاربون فعلاً! هاربون من نفوس التي بين جنوبهم! هاربون من نفوسهم الجائعة القلقة الحائرة التي لا تستقر على شيء "ثابت "، ولا تدور على محور ثابت، ولا تتحرك في إطار ثابت. والنفس البشرية لا تستطيع أن تعيش وحدها شاذة عن نظام الكون كله. ولا تملك أن تسعد وهي هكذا شاردة تائهة، لا تطمئن إلى دليل هاد، ولا تستقر على قرار مريح!

وحول هذه البشرية المنكودة زمرة من المستنفعين بهذه الحيرة الطاغية، وهذا الشرود القاتل.. زمرة من المرابين، ومنتجي السينما، وصانعي الأزياء والصحفيين، والكتاب.. يهتفون لها بالمزيد من الصرع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلت خطاها، وحنت إلى المدار المنضبط والمحور الثابت، وحاولت أن تعود!

زمرة تهتف لها.. التطور.. الانطلاق.. التجديد.. بلا ضوابط ولا حدود، وتدفعها بكلتا يديها إلى المتاهة كلما قاربت من المثابة، باسم التطور، وباسم الانطلاق، وباسم التجديد.

إنها الجريمة. الجريمة المنكرة في حق البشرية كلهـا، وفي حق هــذا

 

 

الجيل المنكود! "([152]) أهـ.

وما ذكره سيد قطب رحمه الله تعالى من الثوابت هو على سبيل المثال

لا على سبيل الحصر، وإلا فهناك تفصيلات تحت هذه العناصر هي الأخرى من الثوابت التي ثبت عليها الرسول e وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، وقد تمثل هذا في الأصول التي قررها سلف الأمة في العقيدة، ودونوها في كتبهم، وردودهم على أصل البدع، وبنوا دليلهم عليها من الكتاب والسنة.

وكذلك هناك الثوابت التي تتعلق بالأخلاق والقيم الثابتة، وكل مـا

علم من الدين تحريمه بالضرورة فهي الأخرى تعد من الثوابت التي لا تتغير منذ وجد الحق على وجه الأرض، فالزنا، والظلم، وسفور المرأة وعريها، وعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وهتك العرض والربا. وغيرها من مساوئ الأخلاق كلها من المحرمات الثابتة بثبوت الحق.

وبالجملة فإن الثوابت التي نعنيها هي: "القطعيات ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بينة في كتابه أو على لسان رسوله e، ولا مجال فيها لتطوير أو اجتهاد، ولا يحل الخلاف فيها لمن علمها، بالإضافة      إلى بعض الاختيارات العلمية الراجحة التي تمثل مخالفتها نوعاً من الشذوذ أو الزلل... ومجال هذه الثوابت إنما يكون في كليات الشريعة، وأغلب مسائل الاعتقاد، وأصـول الفرائض، وأصول المحرمات وأصول الفضائل

والأخـلاق، وأبرز ميـادينها العقـائد والعبادات والأخلاق أصـول

ا لمعا ملات "([153]) .

وهذه الثوابت وأمثالها منها ما هو شرط لبقاء عقد الإسلام ومنها ما

هو شرط للبقاء في دائرة أهل السنة.

وأما المتغيرات: فهي التي تتعلق بموارد الاجتهاد التي لا يضلل فيها المخالف، والتي وسع السلف الصالح الاختلاف فيها، وبالتالي يسع المتبعين لهم ما وسع سلفهم، إما للاختلاف في الدليل، أو الاختلاف في فهم الدليل[154] (2). أو الاختلاف في مسألة لم يرد بشأنها دليل معين ولا قول للسلف؛ وإنما ينشأ الاختلاف من الاجتهاد في الترجيح بين المفاسد والمصالح المتعلقه بها، كالمستجدات التي تجد في كل عصر. كما يلحق بالمتغيرات كل ما تركه الشرع لأعراف الناس وعاداتهم في القبض والحرز والمعروف في العشرة والنفقة وبعض الأخلاق المتعلقه بأعراف الناس مما لم يأت في الشرع نهي عنه كتغطية الرأس للرجل، وكشفه أمام الناس. وعندما يقال عن بعض المسائل أنها من المتغيرات؛ فلا يقصد أنها منطلقة بلا قيد ولا ضابط، وإنما هي كما أشار سيد قطب رحمه الله تعالى:

"تدور داخل إطار ثابت حول محور ثابت " أي أنها تنطلق من الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية، بحيث لا يقبل أي أمر جديد، أو تغيير أمر كان العمل عليه في زمن معين إذا كان الأخذ به هدفا أو مخالفة لأصل من أصول الدين، أو كان منطلقا من هوى وفساد نية.

مثال ذلك: كثير مـن المستجدات التي ظهرت في عصرنا، ولم يكن

لها وجود قبل ذلك، ككثير من وسائل الإعلام والتعليم التي لا تشتمل على محرم. فمثل هذه لا يرى الإسلام بأساً في الأخذ بها في الإصلاح، ودرء الفساد، ويحرم الأخذ بها إذا كان للفساد والإفساد. وقل مثل ذلك في النوازل التي تنزل في كل عصر، ويجتهد أهل العلم فيها انطلاقاً من الأصول الثابتة في هذا الدين.

أما أهل العصرنة والعقلنة فيأخذون بمستجدات عصرهم ولو كان في

ذلك هدم للثوابت بحجة التجديد والتطور!!

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى في موطن آخر على الأهمية الكبرى لخاصيـة الثبـات في هذا الدين فيقول :  " والقيمة الكبري لهذه الخاصية، هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوره؛ فتقوم عليه الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في استقرار وثبات، مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي الأنظمة، والأوضاع. فلا تتجمد في قالب حديدى ميت- كالذي أرادته الكنيسة في العصور الوسطى- ولا تنفلت كذلك من كل ضابط انفلات النجم الهالك من مـداره وفلكه ! وانفـلات القطيع الشارد في المهلكة المقطوعة ! كمـا

صنعت أوربا في تاريخها الحديث، حتى انتهت إلى ذلك التفكير الماركسي

الشائه!

ولعل هذه الخاصية هي التي ضمنت للمجتمع الإسلامي تماسكه وقوته مدى ألف عام، على الرغم من جميع الهزات، ومن جميع الضربات، ومن جميع الهجمات الوحشية عليه من أعدائه المحيطين به في كل مكان.. ولم يبدأ تفككه وضعفه إلا منذ أن تخلى عن هذه الخاصية في تصوره، وإلا منذ أن أفلح أعداؤه في تنحية التوجيه الإسلامي، وإحلال التوجيهات الغربية مكانه في العالم الإسلامي.

ومما لا شك فيه أن المجتمع الذي يجري دائما وراء تصورات متقلبة أبدا، لا تستند إلى أصل ثابت إطلاقا، تنبع من الفكر البشري المحدود المعرفة، الظني المعرفة كذلك، الذي يبني علمه- مهما علم- على الظن والحدس والخرص، والفروض المتقلبة أبداً، ثم يجعل من هذا العلم الظني إلهاً، أو يجعل من الهوى المتقلب إلهاً، يتلقى منه التصورات والقيم         وا لموا زين.

مما لا شك فيه أن مجتمعاً كهذا معرض دائماً للهزات العنيفة، والأرجحة المستمرة، التي تنشيء في عقله الحيرة، وفي ضميره البلبلة، وفي أعصابه التعب، وفي حياته الشرود، وفي كيانه الفساد.

وهذا هو الذي حدث في الجتمعات الأوربية المفلتة من كل أصل      ثابت . وهذا هو الذي تشقى به البشرية كلها اليوم. وهي تخبط في التيه،

 

وراء المجتمعات الأوربية الشاردة!

لا بد من تصور ثابت المقومات والقيم، يجيء من مصدر ثابت العلم والإرادة. مصدر يرى المجال كله، والخط كله، فلا تخفى عليه منحنيات الدروب، ولا يقدر اليوم تقديراً يظهر في غد خطؤه ونقصه، ولا تتلبس به شهوة أو هوى يؤثر في موازينه، وتقديراته، ولا ضير بعد هذا من الحركة، والتغير، والتطور، والنمو، والترقي، بل تصبح كلها مطلوبة، وتصبح كلها مأمونة، وتصبح كلها تلبية للفطرة: القائمة على الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت. ولكنها حركة راشدة واعية، مدركة للغاية الثابتة التي تتجه إليها، في خطو متزن، مستقيم راسخ.. وهذا هو ضمان الحياة الطويلة المدى، المتناسقة التصميم "([155]) .

ثم يختم هذا الفصل القيم من كتابه بالحديث عن الخسارة العظيمة على المسلمين بل على البشرية جمعاء إن المسلمون ضيعوا ثوابت دينهم العظيم وجروا وراء كل ناعق لهم باسم التطور والتجديد، فيقول رحمه الله تعالى: "ونحن نقول. إن الخسارة لن ترجع علينا- نحن المسلمين وحدنا- ولكنها سترجع على البشرية كلها، سترجع على البشرية كلها بتشويه وتحريف المصدر الوحيد الباقي لها من هداية الله. وتكدير- أو     تسميم- المورد الوحيد، الذي يمكن أن تستقي منه الهدى الرباني الخالص وسترجع على البشرية كلها بحرمانها هذه المثابة الثابتة المستقرة، في الأرض

المرجرجة التي تمور بالأهواء. والتي ظهر فيها الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولم تعد لها منجاة إلا في هذه المثابة الآمنة المستقرة، الموصولة بالله...

والذين يحاولون زعزعة هذه المثابة.. سواء باسم التجديد والإصلاح والتطور؛ أو باسم التخلص من مخلفات القرون الوسطى! أو تحت أي شعار آخر، هم: أعداؤنا الحقيقيون، هم أعداء الجنس البشري، وهم الذين ينبغي أن نطاردهم، وأن نطلب إلى الجنس البشري مطاردتهم كذلك!

إنهم يتحدثون باسم "التقدمية" ضد "الرجعية" في حين أنهم لا يزالون يقتاتون على نتاج القرن التاسع عشر أو القرن الثامن عشر- نتاج أوربا لا نتاجهم!- ولم يصلوا بعد إلى نتاج القرن العشرين! إنهم متخلفون في تفكيرهم نصف قرن على الأقل. لم يعلموا بعد أن التفكير المضاد للماركسية، وللحيوانية، قد أخذ يبدو كظاهرة عامة في الفكر الأوربي نفسه، بينما هم يتعبدون لمادية وجدلية الفكر الماركسي ومشتقاته! ولنشوء وارتقاء دارون ومشتقاته! إنهم "رجعيون " يزعمون أنهم "تقدميون "!...

... ونحن الذين وقانا الله شر تلك الملابسات التاريخية التي شردت الفكر الغربي في مجاهل التيه.. نكون أحمق الحمقى إذا نحن شردنا في    التـيه مختـارين بدون عذر ولا سبب ولا ملابسة من ملابسات التاريخ!

 

ولا نكون مضيعين لأنفسنا في التيه فحسب؛ بل نكون مضيعين للبشرية كلها، حين نفقدها المثابة الثابتة، التي يمكن أن تفيء إليها ذات يوم. فتجد عندها الأمن والطمأنينة والاستقرار، بعد طول الشرود والقلق وا لعثار.

فلنقدر تبعتنا الخطيرة تجاه أنفسنا وتجاه البشرية كلها في هذا الأمر الخطير"([156]) .

ثانياً: نظرة العصرانيين ومن يسمون أنفسهم بالعقلانيين إلى العقل:

"إن نظرة أصحاب هذه المدرسة هي أن يحل العقل محل النص، وأن يقوم هوى الإنسان مقام هدى الرحمن جل جلاله، وأن تكون النظريات البشرية حاكمة على القطعيات الربانية.

وقد جاء في معجم المصطلحات العلمية- يوسف خياط- بأن العقلانية يراد بها عموماً المذهب الفلسفي الذي ترى أن كل ما هو موجود مردود إلى مباديء عقلية. ويراد به خصوصا- وهذا محل كلامنا- الاعتداد بالعقل ضد الدين بمعنى عدم تقبل المعاني الدينية إلا إذا كانت مطابقة للمبادئ المنطقية.. "([157]) أهـ.

والغالب على الظن أن تكون بذور الدعوة العقلانية بذور يهوديـة

 

نصرانية يراد منها إبعاد الدين عن أن يكون هو منطلق التعامل والميزان الذي توزن به المواقف والأشياء. وقد يوجد في منطلقات اليهود النصاري تفسير لنشوء المدارس العقلانية عندهم لا سيما بعد سيطرة الكنيسة ردحاً من الزمن على الناس، وإلغائها العقل، ونشرها الخرافة والأساطير ووصفها الإبداعات العقلية أنها خروج عن الدين، وصاحبها ملحد يجب القضاء عليه وعلى إبداعه، فنشأ كرد فعل لهذه الجمود والتحجر واحتكار الدين مذاهب ومدارس شطحت بأهلها إلى تقديس العقل، وإنكار كل ماله صلة بالدين والعقيدة والغيبيات.

فجاء من بني قومنا ممن جهلوا أو تجاهلوا حقيقة الدين الإسلامي وحقيقة موقفه من العقل- كما بينا في الصفحات السابقة" فبدأوا يتاجرون بالعقلنة، ويطرحونها كجزء من الفكر الإسلامي، وقالوا بأن الإسلام عقلاني، وهو أبو العقلانية، واتهموا عقول المتدينين الذين ينهجون نهج السلف الصالح لهذه الأمة بأنهم أصحاب عقول متحجره وعقول اسطورية غيبية جامدة.

والناظر في من ينتمي إلى هذه المدرسة، أو من تأثر بها يرى أنهم ليسوا على مستوى واحد من الظلال، بل هم متفاوتون في الانحراف حسب نظرة كل فريق إلى العقل والدين وحسب خبثه أو جهله وذلك حسب الأصناف التالية.

الصنف الأول: "صنف الزنادقة والمنافقين الذين يتلاعبون بالمسلمين وعقيدتهم، ويتخذون من الدين هزواً ولهواً بالتصريح تارة وبالتعريض تارة

أخرى، ويتقنعون بأقنعة من الدين مكذوبة من الموضوعية والعلمية يمررون من تحتها سموماً، إن تمكنت أهلكت.

وهذا الصنف قد مكن لكثير منهم، وهو بارع في تغيير الأقنعة واستحداث القضايا والشواغل، والهاء المسلمين بسراب يحسبه الظمآن ماء ولا يدرك أن في وروده الهلاك. وهم يرون أن الدين تطور اجتماعي من إفراز البشر، رأن القرآن غير مقدس، والسنة غير معتبرة، وأن السلف ومذهبهم لا مكان لهم في عصرنا، وهم يملأون الدنيا دوياً ويقولون للمسلمين: أنتم لستم عقلانيين، فيتشنج ألف صوت أبح يقول: بل الإسلام هو العقلانية، والعقلانية هي الإسلام ثم يبدأ السذج في ابتلاع الطعم والسم والتقاط العدوى الخبيثة"([158]) .

الصنف الثاني: وهم الذين وقعوا في أحابيل المنافقين لاندفاعهم وعدم تماسكهم أمام ضغوط الواقع والهجمة الشرسة من المنافقين الملبسين، ووصفهم له بأنهم متشددون ومتطرفون، وجامدون متحجرون فنشأ من ذلك عندهم مركب النقص والهزيمة النفسية، وانخدعوا ببعض طروحات المنافقين وقبلوها، ودعوا إليها مع كونهم من المسلمين بل ربما كانوا من رواد الدعوة والفكر الإسلامي، وهم الذين يطلق عليهم اليوم العصرانيون أو أصحاب معاهد الفكر الإسلامي، حيث صاروا يدعون إلى إسلام متطور !! حتى آل الأمر ببعضهم إلى إعادة النظر في الثوابت والأصـول

الإسلامية، وصياغتها صياغة تلائم العصر وتطوراته سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو ما يتعلق منها بالأحكام والأخلاق.

مثال ذلك: إعادة النظر في أصول عقيدة أهل السنة، وأصول الحديث وقواعد الجرح والتعديل والقواعد الفقهية، وتطبيق الحدود الشرعية اليوم، والمسائل المتعلقة بحجاب المرأة وعملها واختلاطها بالرجال، إلى آخر هذه الطروحات التي امتلأت بها كتبهم ومنتدياتهم وحواراتهم، نسأل الله لنا ولهم الهداية والسداد.

الصنف الثالث: وهؤلاء ليسوا من أهل هذه المدرسة وإنما ذكروا هنا لظهور بعض شبهات القوم عليهم، وهم بعض الدعاة المخلصين الذين تأثروا بطروحات الصنف الثاني السابق ذكره وذلك بكثرة الجلوس معهم ومحاوراتهم، وأمام ضغط الواقع وكثرة الفساد؛ حيث حصل لهم بعض التأثر ببعض الشبهات، واستندوا على بعض القواعد الشرعية التي         لم يحرروا ولم يحققوا مناط الحكم فيها، كمثل قواعد الضرورة،           والمصلحة الشرعية، والتيسير، وتغير الفتوى بتغيير الزمان والمكان...    إلخ؟ فصرنا نسمع من بعض الدعاة والمفتين- الذين لا نشك في عقيدتهم، وصدقهم- بعض المقالات والفتاوى الغريبة، والتي تضللها شبهات العصرانيين ([159]) .

 

ذكر بعض معالم المدرسة العقلية وسمات أهلها:

لأصحاب هذه المدرسة معالم وسمات يعرفون بها من خلال أحاديثهم وحواراتهم وكتاباتهم يمكن اختصار أهمها فيما يلي:

السمة الأولى: تقديسهم للعقل وتقديمه على النقل الصحيح.

وهذه السمة هي أبرز ما يعرف به أصحاب هذه المدرسة، فهم يجعلون العقل والرأي نداً لنصوص الوحيين، وهم أمام النصوص التي لا توافق عقولهم بين تأويل للنصوص المتواتر منها بحجة أنها غير صريحة، وذلك إذا كانت من القرآن أو الحديث المتواتر، وبين رد الأخبار الصحيحة غير المتواترة بحجة أنها أحاديث آحاد؛ فهم بذلك بين تأويل، ولي للنصوص إذا كانت متواترة، أورد لها إذا كانت أخبار آحاد. ويفصل القول في هذا المأخذ من مآخذ أهل البدع في الاستدلال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى فيقول: "ومنها- أي من مآخذهم في الاستدلال- ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها، كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان، ورؤية الله عز وجل في الآخرة...

.. وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ومن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم، كل ذلك ليردوا على من خالفهم في المذهب، وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة، لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها...

 

... وذهبت طائفة منهم إلى نفي أخبار الآحاد جملة، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن... ولما ردوها بتحكم العقول، كان الكلام معهم راجعاً إلى أصل التحسين والتقبيح، وهو مذكور في          الأصول...

... وربما احتجت طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما

تفيد الظن، وقد ذم الظن في القرآن، كقوله تعالى: (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)) [النجم:23]،... وما جاء في معناه، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه e، وليس تحريمها في القرآن نصاً، وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا....)

.. فعلى كل تقدير.، كل خبر واحد صح سنده فلا بد من استناده

إلى أصل في الشريعة قطعي فيجب قبوله. ومن هنا قبلناه مطلقاً، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء، فلا بد من ردها وعدم اعتبارها، وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله "([160]) .

وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ينزل بقلمه البليغ وعباراته الجزلة نزول الصاعقة على المغرورين بعقولهم وآرائهم فيقول :".... سبحان الله! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي، واقتباس العلم من

 

مشكاته من كنوز الذخائر؟! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبراً . وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً.

درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها. ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعرفونها. ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها. وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها. وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها.

خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة؛ فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين ! نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام ؛ فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام. وتلقوها من بعيد، ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: مالك عندنا من عبور، وإن كان ولا بد، فعلى سبيل الاجتياز. أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان. له السكة والخطبة وماله حكم نافذ ولا سلطان. المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر، مبخوس حظه من المعقول. والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة، والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول. وأهل الكتاب والسنة، المقدمون لنصوصها على غيرها، جهال لديهم منقوصون (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)) [البقرة:13]

        حرموا- والله- الوصول، بعدولهم عن منهج الوحي، وتضييعهم   الأصول.

وتمسكوا بأعجاز لاصدور لها، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها. حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه، وقدموا على ما قدموه (( وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) [الزمر: 47]، وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.

فياشدة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه وكده هباءاً منثوراً؛وياعظيم المصيبة عند ما يتبين بوارق أمانيه خلباً وآماله كاذبة غروراً. فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى، والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر؟ وما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعا ذر؟

أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟ أو بالإشارات والشطحات، وأنواع الخيال؟

هيهات والله. لقد ظن أكذب الظن، ومنته نفسه أبين المحال. وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره، وتزود التقوى وائتم بالدليل، وسلك الصراط المستقيم، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى

التي لا انفصام لها والله سميع عليم "[161] (1) أهـ.

ومن عجيب أمرهم أنهم في الوقت الذي يردون فيه حديث الآحاد الصحيح إذا خالف عقولهم بحجة أنه يفيد الظن، تجدهم أحياناً يحتجون ببعض الأحاديث الضعيفة إذا وافقت عقولهم، وفي هذا التناقض دلالة على تحكيم العقل في تناول النصوص. ومثال ذلك ما قاله أحد المتأثرين بأفكار هذه المدرسة وذلك في كتابه فقه السيرة وهو يعقب على تخريج           الشيخ الألباني رحمه الله لأحاديث الكتاب حيث يقول: ".. آثرت هذا المنهج في كتابة السيرة، فقبلت الأثر الذي يستقيم متنه مع ما صح من قواعد الأحكام، وإن وهي سنده... وأعرضت عن أحاديث توصف بالصحة لأنها- في فهمي لدين الله وسياسة الدعوة- لم تنسجم مع السياق العام... "[162] (2).

السمة الثانية: ادعاء التجديد والتطوير والعصرانية:

وهي ثمرة للسمة الأولى، وذلك بأنهم يعرفون بهجومهم على السنة المشرفة، وعلى الفقهاء المعظمين للنصوص، وبطعنهم في بعض الثوابت في الشريعة الإسلامية، وإلحاحهم على مسايرة الواقع ومستجداته وخاصة فيما يتعلق بالمرأة وأكذوبة تحريرها ، ونزع حجابها . أو ما يتعلق بتحكيم

الشريعة واتباع السلف .وكذلك بمطالبتهم بالحوارات التقريبية مع النصارى، والعلمانيين، والقوميين وملل الكفر الأخرى. كل ذلك بحجة تغير الواقع؛ فلا بد من التجديد والتطوير الذين يتمشيان مع الواقع وظروفه، ومع العصر ومستجداته.

السمة الثالثة: سوء الخلق والإرهاب الفكري مع المخالف.

يتفقون في السمات الخلقية المشينة، كسوء الأدب والصلف مع مخالفهم الذي لا ينسجم مع باطلهم. وكلما كان المخالف أكثر اتباعاً للسلف ومنادياً بشمولية الإسلام كان عداؤهم له أشد. وهذا المدعو: حسين أحمد أمين يحمل بصلف وبذاءة على الجماعات الإسلامية بكل فصائلها فيقول وهو يصف أسلوب الإسلاميين بأنه "يفيض بذاءة وينضح بالحقد دون مبرر ظاهر غير اختلاف الرأي!!، وإنه لأمر يتعذر فهمه إلا على ضوء تكويننا العقلي وفساد تربيتنا"([163]) . ويقول أيضاً عنهم: "غير أن لدى مفكرينا من الصفاقة ما يسمح لهم بالحديث عن مادية الغرب وروحانية الشرق "(1).

وبجرة قلم يحاول إلغاء نور الشمس فيستكثر أن يكون للأمة سلف صالح، ووصف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بالجهل، ووصف الأئمة والفقهاء بقلة الأمانة وباللؤم ، وصنفهم في مربـع الجبناء.... إلى

 

آخر هذه البذاءات وقلة الأدب([164]) .

ووصل سـوء أدبهم وصلفهم إلى أصحاب محمد e، فكالوا لهم

من النقد والتجريح ما يستحى من ذكره إجلالاً لأصحاب محمد e ، وانظر إن شئت إلى كتبهم، وممن كتب في نقدهم ككتاب: "العقلانية هداية أم غواية " للاستاذ عبد السلام البسيوني ص 83، 84 وما بعدها.

والمقصود أن كتابات أهل هذه المدرسة ومن تأثر بهم تتم بالصلافة وسوء الأدب مع من يرفض أباطيلهم ويدافعها.

والغريب في الأمر أن هذه السمة ليست جديدة، وإنما هي قديمة في سلفهم المتقدمين من رؤوس المعتزلة، فها هو عمرو بن عبيد أحد رؤوس المعتزلة في القرن الثاني الهجري يقول عن مخالفيه من أئمة السلف ما أورده الشاطبي في الاعتصام حيث قال: "قال ابن علية  حدثني اليسع. قال: تكلم واصل بن عطاء يوماً. قال فقال عمرو بن عبيد: ألا تسمعون؟ ماكلام الحسن وابن سيرين عند ما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة.

وقال عمر بن النضر: سئل عمرو بن عبيد عن شيء وأنا عنده فأجاب

فيه فقلت له: ليس هكذا يقول أصحابنا، قال: ومن أصحابك لا أبالك؟ فقلت: أيوب، ويونس، وابن عون، والتيمي. قال: أولئك أنجاس أرجاس أموات غير أحياء "([165]) .

ومن صفاتهم المتعلقة بهذه السمة مصادرتهم لآراء الآخرين وتسفيهها، واستخدام الإرهاب الفكري في إلغاء الرأي المخالف، بحيث لا يصح عندهم إلا مايرونه هم صحيحاً.

ونخلص من ذلك أن التدني في الأخلاق والإسفاف في القول هو من سمات أصحاب المدرسة العقلانية ؛ وأن ذلك يوحي بإفلاسهم وعدم مصداقيتهم، وتهافت منهجهم مما يلجئهم إلى ستر ذلك بالسباب والفحش في القول، كما يوحي بأنهم لا يملكون أخلاقاً نبيلة ولو تمكنوا لقمعوا الرأي المخالف لهم دون تردد ولا حياء، وبالأخص أتباع السلف الصالح.

كما يوحي بالحقد الدفين على أهل الحق وأنهم لا يترددون في تلفيق التهم والقذائف المكذوبه وتأليب السلطات واستعدائها محافظة على مكاسبهم.

فهل سمعنا من سلفنا الصالح كالإمام أحمد، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب، وابن باز، رحمهم الله تعالى شيئاً من هذا في الحوار ومناقشة المخالف ؟ اللهم لا.

السمة الرابعة: بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب.

وذلك بدعواهم التركيز على الجوهر واللباب، دون القشور والأشكال، أو قولهم بأنهم يتعاملون مع روح النص، لا مع ظاهره ومنطوقه. وهذه البدعة هي مدخل العقلانية القديمة إلى التأويل والهروب

 

 

من الالتزام بالنص. وهي الآن مدخل العقلانية الجديد إلى الجنوح، والتفلت من النصوص، كما أنه منزلق خطير يؤدي إلى فتح باب الإرجاء الذي يزعم أن الإيمان هو تصديق القلب، وأن الأعمال الظاهرة لا علاقة لها بالإيمان، كما أنها تفتح الباب للتفلت من الأعمال والهدي الظاهر الذي هو من سنن الإسلام، كإعفاء اللحية وتقصير الثياب واجتناب المحرمات، والنظر إلى من يحرص على هذه الأعمال بالسخرية، وأنه يقف مع القشور والأشكال. وهذه بدعة شنيعة، إذ لا قشور في الإسلام؛ فكله محكم، وهو تشريع العليم الحكيم المبرء من الجهل والنقص، وهو الكامل الشامل الذي لم يشرع الله فيه شيئاً عبثاً، إنما كل شيء فيه بحكمة، وفي مصالح العباد. والعبد مأمور بالتعبد لله تعالى في كل ما أمر به، أو نهى عنه صغيراً كان أوكبيراً.

قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) [البقرة:208]، "إن منهج رفض القشور "المزعوم " أفرز لنا من جهته القريبة المحتملة علماء ومفكرين بلاهوية، وبلا تميز، وبلا حظوة لدى جمهور الأمة، حتى إن كثيراً منهم لا يمكن تمييزه عن غيره في منطقه وسلوكه وزيه، وقد أدى هذا إلى سقوطهم سقوطاً ذريعاً.

ومن أخطر عواقب هذه البدعة- بدعة " القشور واللباب "- أو بدعة "روح النص وظاهره "- ما حدث من اختلاط المفاهيم والأسماء وعدم تمييز المناهج المنحرفة من المناهج المستقيمة، فلقد كـان الناس في الماضي

محددين معروفين: شيعة وسنة. ومعتزلة، وخوارج، وفلاسفة، ومرجئة.. إلخ وكان لكل من هؤلاء تميزه ومعالمه وذلك في عز دولة الإسلام وعز فهمها للدين الصيحح وتطبيقها له...

ولقد تغير هذا الآن فتداخلت المفاهيم، وضعف الأصل الشرعي العظيم ألا وهو أصل الولاء والبراء...، وطبقاً لهذا الاضطراب والتداخل: صار الحلولي مفكراً وإسلامياً مقبولاً!!، والمعتزلي العقلاني أو العلماني العقلاني مفكراً إسلامياً مستنيراً، والباطني الواضح على اختلاف اسمه: درزياً أو نصيرياً أو إسماعيلياً صار تحت مظلة القشر واللباب مجتهداً مقبولاً!! وصار.. وصار... وصار...

وكان هذا الخلط سبباً عظيماً من أسباب الاضطراب في الرؤية، وإدخال الناس في متاهات الرضا بالواقع وتبريره وإضفاء الشرعية عليه بروح النصوص!! "([166]) .

السمة الخامسة: إصطناع الشبهات والمغالطات والتهم الباطله وجر التيار الإسلامي إلى متابعتها والدفاع عنها

يقول صاحب كتاب "العقلانية هداية أم غواية": "أشرت فيما مضى

إلى أن العقلانيين مهرة في اختلاق التهم وافتراء الأكاذيب التي يشغلوننا بها عن المضي على دروب الدعوة ، ولكي نضيع الوقت في دفعهـا عن

 

أنفسنا- حتى وإن لم تكن عيباً ولا عاراً- فيتبدد الجهد، وتتوزع الطاقات، ونفقد مواقع عزيزة نحن بحاجة إلى كسبها وبقائها بأيدينا.

ومن أبرز القضايا التي يلحون على إثارتها وتفجيرها بصورة منظمة قضية ما يدعى عند النصارى بالحكم الإلهي: theocracyوالكهنوت أو سلطة رجال الدين.

ويدعون أن الإسلام يجعل الإمام "الحاكم- الخليفة- الأمير- الرئيس... إلخ " خليفة عن الله في الأرض، ويجعل لأوامره قوة القرآن في الإلزام، فكلامه مقدس، وأوامره وحي "!! "..

ومنها: الهجوم الشديد على السلفية.. ولها معنى مطاط عندهم يستغرق كل التيارات الإسلامية من أقصى الأجنحة المتطرفة كالتكفير بغير حق، إلى الجمعيات الرسمية، إلى مجرد الانتماء العاطفي ما دام لا يوافق منهجهم.

ومنها: المبالغة في إثارة قضايا الذميين والحدود، وترويج أن الإسلام

لن يدع ذميا إلا أذله، وإذا أفلت أحد من الحدود فإن التعازير ستكفي لقطع لسانه!!

ومنها: التركيز على قضية التطرف والإلحاح على تشويه المنتسبين للإسلام جميعاً، فهم يقولون: احذروا المعتدلين، فهم يبدأون معتدلين وينتهون متطرفين "؟!! ".

 

 

فلا يذكر التيار الإسلامي عندهم إلا مرتبطا بقائمة من الأوصاف،       تتراوح بين التكفير والتعصب والجمود..

ولا يشار إلى دعوات تطبيق الشريعة إلا في سياق العنف والانقلاب

وا لارتد اد.

وعندما يتطرق الحديث إلى الدعاة أو المشتغلين بالعمل الإسلامي، فإن الصورة التي ترسم لهم تضاف إليها- ولا بد- الخناجر والجنازير "ومطاوي " قرن الغزال. ناهيك عما ينسب إليهم من آراء هي خليط من التخلف والتفاهة والسفاهة "انظر: ندوة مجلة "فكر" عن التطرف الديني السياسي- من 32- 111 "...

ومن القضايا التي لا يفتأون يثيرونها قضية المرأة وقد سبق الكلام عنها .

ومنها: قضية العبث بالتاريخ الإسلامي وتسليط النظرة الانتقائية التشويهية عليه، وكتابته من مناظير منحرفة، كالمنظور المادي أو الاستشراقي أو القومي العروبي. وتتفرع عن هذه القضية قضية تقسيم الفقه والتراث الإسلامي إلى بدوي وحضري. وهذا ظاهر عند عركون، وعمارة وحسين أمين، فضلأ عن بعض الرموز الإسلامية التي أبتلعت الطعم.

ومنها: الإساءة إلى مصطلحات لا غبار عليها، كالأصولية أو السلفية

أو النصوصية، وتحويلها إلى "بعبع " ليصير كل أصولي شيطاناً، وكل سلفي سفاك دماء!!!

منها: لعبة "التقريب " الخطيرة، ومحاولة اعتبار العقائد كلها شيئاً واحداً، فيسوون في النتيجة بين المسلم والكافر..

ومنها: التشكيك في طبيعة نظرة الإسلام إلى المال، والتأثير على الناس من هذا الباب..

فيذهب طرفهم القريب إلى القول بتحليل الربا- وهي مدرسة واسعة

- وقد تكلم عن القضية قبلهم جمال الدين الأفغاني- وهو من المدرسة الوسيطة- الذي حرم الربا إذا كان أضعافا مضاعفة، ذاهباً إلى جواز الربا المعقول "؟! " الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة.

كما قال بجوازه أيضاً الشيخ محمد عبده الذي ذهب إلى أن الربا حلال لضرورة الوقت، فقال مستدلاً: "إن أهل بخارى جوزوا الربا لضرورة الوقت عندهم، والمصريون قد ابتلوا بهذا، فشدد الفقهاء على أغنياء البلاد، فصاروا يرون الدين ناقصاً. هذا في الطرف القريب، أما طرفهم الغالي المتطرف، فهو لايؤمن أصلاً بشيء اسمه الاقتصاد  الإسلامي، بل يعده- كما سبقت الإشارة- مؤامرة لإفساد الحياة المصرية وقهر المجتمع!! " أهـ([167])  .

 

 

ومن أبرز الشبهات التي يثيرونها ويتكئون عليها- ولا سيما المتعالمون منهم- تلك القواعد الشرعية التي هي في ذاتها صحيحه ومعتبرة شرعاً ([168])، لكنهم يوقعونها في غير مناطها، ويفصلونها عن ضوابطها الشرعية، ويشبهون بها على الجهلة من الناس، ويتبعهم أهل الأهواء في ذلك وكثير منهم يعلم أنه ملبس ومغالط. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر أهم هذه القواعد التي يشبهون بها على الناس والرد عليهم.

السمة السادسة: كثرة طرحهم لمصطلح الواقعية ومجاراة الواقع وعدم مصادمته، وقولهم بمراعاة ضغوط الواقع ومستجداته، والاعتراف بالأمر الواقع وغير ذلك مما يحتجون به في إعادة النظر في بعض المواقف العقدية التي تعد من أصول السلف، أو في بعض مسائل الأحكام والحلال والحرام!!

وما أحسن ما سطرته يد الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يحذر دعاة الإسلام من مجاراة الواقع والذي هو من سمات المهزومين المستنيرين!!

يقول رحمه الله تعالى: "لم يجى الإسلام ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعم وعاداتهم وتقاليدهم.. سواء      منها ما عاصر مجيء الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في الشرق  أو في الغرب سواء.. إنما جاء ليلغي هذا كله إلغاء، وينسخه نســخاً،

ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة. جاء لينشيء الحياة انشاء. لينشيء حياة تنبثق منه انبثاقاً، وترتبط بمحوره ارتباطاً. وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية. ولكنها ليست هي، وليست منها.. إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً. تلك شجرة تطلعها حكمة الله، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر:

(( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً))

[لأعراف: 58]

... وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة.. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل. وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم. ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى!

لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً، ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة.. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة.. هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم.. هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله؟ يريد أن يطيبكم.. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم.. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعـدكم.. والإسـلام سيغير تصوراتكم

وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى قيم أخرى تشمئزون معها من قيمكم السائدة في الأرض جميعاً.. وإذا كنتم أنتم- لشقوتكم- لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية، لأن أعداءكم- أعداء هذا الدين- يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة، ودون تجسد هذه الصورة، فنحن قد رأيناها- والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه!...

... وكذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس

كأنه متهم يحاولون هم دفع التهمة عنه! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله، وأن الإسلام لم يصنع شيئاً- في هذه الأمور- إلا ما تصنعه "الحضارات " الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام!

وهان ذلك دفاعاً! وساء ذلك دفاعاً!

إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي تنبعث منها. وهذه "الحضارات " التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها.وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام..ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو "العالم الإسلامي"! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون.. وحجة الإسلام التي يدلي بها

للناس: أنه خير منها بما لا يقاس، وأنه جاء ليغيرها لا ليقرها، وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب   " الحضارة "..

فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة، وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة. فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء.. إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه.

ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول: أننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شي من تقاليدها. مهما يشتد ضغطها علينا.

إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية

في مكان هذه الجاهلية. ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق، كما قد يخيل إلى البعض منا.. إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق..

إن ضغط التصورات الإجتماعية السائدة، والتقاليد الإجتماعية الشائعة، ضغط ساحق عنيف، وبخاصة في دنيا المرأة. والمرأة المسلمة  تواجه في هذه الجاهلية ضغطاً قاسياً مشؤوماً حقاً.. ولكن لا بد مما ليس منه بد . لا بد أن نثبت أولاً ، ولا بـد أن نستعلي ثانياً، ولا بد أن نرى

 

 

الجاهلية حقيقة الدرك الذي هى فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التى نريدها.

ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها ونعتزل.. كلا، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع "([169])  أهـ.

السمة السابعة: الاعتقاد قبل الاستدلال والحكم قبل المداولة.

وذلك أن معظم من يسمون أنفسهم بالعقلانيين يحددون مسبقاً موقفهم من التراث الإسلامي، دون أن يجهدوا أنفسهم في التعرف عليه، والإطلاع على ما فيه، ثقة بما لديهم وغروراً، واستكباراً واستنكافاً من قراءة غير ما هم مقتنعون به من الفكر الأوربي العصراني!!

وبعضهم يملك شيئا من الشجاعة، فيبين عن محصوله الحقيقي من المعرفة بالإسلام، وأنه لم يقرأ علومه ولم يتعمق في فهمه، وبعضهم يكابر ويدعي أنه قرأ وقرأ الكثير عن الإسلام وأنه يملك أكثر مما يملكه مجتهدو الإسلام في كل العصور!! فهم إذن كالقاضي الذي يصدر حكمه قبل سماع أقوال المتهم، وقبل استماع الشهود وفحص البينات والأدلة، لأن الحكم قد جهز له ســلفا وليس عليه إلا الإستدلال عليه بأية شبهة، ثم

 

النطق بالعقوبة على المتهم المجرم سلفاً، وهذا الوضع هو الذي حذر منه سلفنا الصالح ونبهوا على الترتيب الصحيح وهو أن يستدل أولاً ثم يعتقد.

وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى هذا المنهج المنحرف في عقيدة المعتزلة ومنهجهم فقال: ".. إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المفسرين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم "([170]) .

وهذا المنهج الردئ هو السائد اليوم بين كثير من العقلانيين، فهم في الجملة بلا اطلاع عميق، ولا فهم صحيح لأصول الإسلام وأحكامه، بل ربوا هنا أو هناك، وتمت برمجتهم في أوكسفورد، وكامبردج، والسربون وغيرها، فعادوا من هنالك عاشقين للغرب عاقين للإسلام منصبغين بالحضارة الغربية، ناقمين على التحجر والرجعية زعموا.

فها هو الدكتور زكي نجيب محمود يعترف بشجاعته أنه قضى معظم سني عمره في محراب الغرب والفلسفات الغربية!، دون أن تكون له أدنى صلة بالتراث الإسلامي فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت أعينهم على فكر أوربي- قديم أو جديد- حتى سبقت إلى خواطرهم        بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، ولبثت هذه الحالة معه أعواماً بعد أعوام؟ فالفكر الأوربي: دراسته وهو طالب، وتدريسـه وهو

 

أستاذ، ومسلاته كلما أراد أن يتسلى في أوقات الفراغ "([171]) .

وبعد ذكر أهم السمات لأصحاب هذه المدرسة أختم الكلام عن هذه الطائفة بكلام بديع خطه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عندما رأى المعارضين أو المعترضين على شرع الله عز وجل وأمره بعقولهم وأذواقهم وسياساتهم الفاسدة، ورأى فتنتهم قد عمت وطمت في عصره ففضحهم وذلك بعد أن فضح المعترضين على أسماء الله تعالى وصفاته بالشبه الباطلة، والتي يسمونها القواطع العقليه، وهي النوع الأول من الاعتراض. قال بعد ذلك "النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره. وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:

أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم، المتضمنة تحليل ماحرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده.

وهذه هي الاراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، والتحذير منها. وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض. وحذروا منهم، ونفروا عنهم.

النوع الثاني: الاعتراض على حقـائق الإيمان والشــرع بالأذواق

 

والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفوس الجاهلة.

والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ. وكل ما هم فيه فحظ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله، والإعراض عن دينه، واعتقاد أنه قربة إلى الله. فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات، المعترفين بذمها، المستغفرين منها، المقرين بنقصهم وعيبهم، وأنها منافية للدين؟.

وهؤلاء في حظوظ اتخذوها ديناً، وقدموها على شرع الله ودينه. واغتالوا بها القلوب، واقتطعوها عن طريق الله؛ فتولد من معقول أولئك، وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة، وأذواق هؤلاء: خراب العالم، وفساد الوجود، وهدم قواعد الدين. وتفاقم الأمر وكاد؛ لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه، ويبين معالمه، ويحميه من كيد من يكد.

النوع الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة، التي لأرباب الولايات، التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.

فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل.

وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس: قدمنا القياس.

 

 

وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع قدمنا الذوق والوجد والكشف.

وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة.

فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتاً يتحاكمون إليه.

فهؤلاء يقولون: لكم النقل، ولنا العقل. والآخرون يقولون: أنتم أصحاب آثار وأخبار، ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار. وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر، ونحن أهل الحقائق. والآخرون يقولون: لكم الشرع. ولنا السياسة.

فيا لها من بلية، عمت فأعمت، ورزية رمت فأصمت، وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون، وأهوية عصفت فصمت منها الآذان، وعميت منها العيون. عطلت لها- والله- معالم الأحكام، كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام. واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم. وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريم وتأويل، والدين وقفاً على كل إفساد وتبد يل " أ هـ([172]) .

وقال في موطن آخر وهو يتحدث عن التواضع للدين ولوازم ذلك

 

التواضع: "التواضع للدين " هوالانقياد لما جاء به الرسول e، والاستسلام له، والإذعان، وذلك بثلاثة أشياء.

الأول: أن لا يعارض شيئاً مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العا لم، المسماة: بالمعقول، والقياس، والذوق، والسياسة. فالأولى: للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين، الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل. وعزلنا النقل، إما عزل تفويض، وإما عزل تأويل.

والثاني: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص قدمنا القياس على النص، ولم نلتفت إليه.

والثالث: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد، فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر، قدموا الذوق والحال، ولم يعبأوا بالأمر. والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين. إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة، قدموا السياسة، ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.

فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكبر. والتواضع التخلص من ذلك كله.

الثاني: أن لا يتهم دليلاً من أدلة الدين، بحيث يظنه فاسـد الدلالة ،

أو ناقص الدلالة، أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه، ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه، والبلية فيه، كما قيل:

 

 

وكم من عائب قولاصحيحاً              وآفته من الفهم السـقيم

ولكن تأخذ الأذهـان منه                على قدر القرائح والفهوم

وهكذا الواقع في الواقع حقيقة أنه ما اتهم أحد دليلاً للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله، وذهنه، فالآفة من الذهن العليل، لا في نفس الدليل.

وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك، وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأن تحته كنزاً من كنوز العلم، ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك.

وأما بالنسبة إلى غيرك فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي، وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص، فما لم تفعل ذلك فلست على شيء، ولو... ولو... وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.

قال الشافعي، قدس الله روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله e لم يحل له أن يدعها لقول أحد.

الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلاً ألبتة، لا بباطنه، ولا بلسانه ولا بفعله، ولا بحاله، بل إذا أحس بشيء من الخلاف فهو كخلاف المقدم على الزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو داع إلى النفاق، وهو الذي خافه الكبار، والأئمة على نفوسهم.

 

 

واعلم أن المخالف للنص- لقول متبوعه وشيخه ومقلده، أو لرأيه ومعقوله، وذوقه، وسياسته، إن كان عند الله معذوراً- ولا والله ما هو بمعذور- فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله، وملائكته، والمؤمنين من عباده.

فواعجباً إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليداً، أو تأويلاً، أو لغير ذلك، فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم، وأقوال شيوخهم، لأجل موافقة النصوص؟ وكيف نصبوا له الحبائل، وبغوه الغوائل، ورموه بالعظائم، وجعلوه أسوأ حالاً من أرباب الجرائم؟ فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذاً، وقذفوه بمصابهم، وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذاً لهم ومعاذاً. والله أعلم "([173]) أهـ.

 

 

 

*  *  *

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثانى

المخالفات المتعلقة بالفتاوى الشرعية والاستدلال على الأحكام

 

إن افتاء الناس في دينهم أمانة عظيمة كان السلف الصالح يخافون منها أشد الخوف لأنهم يبلغون عن الله عز وجل، وعن رسوله e هذا الدين، وما يتعلق به من عقائد وأحكام. وعامة الناس يتعلقون بفتاوى أهل العلم، وينفذون أقوالهم على أنها حكم الله تعالى. فإذا أفتى المفتي بلا علم، أو كان على علم بوجه الحق في المسائل، ثم كتم الحق أو أفتى بخلاف الحق مسايرة لواقع الناس واتباعاً لأهوائهم، أو طمعاً في دنيا فانية، فالويل له من سؤال الله عز وجل له: بماذا أجبتم المرسلين؟ والويل له مما يتحمل من آثام الناس الذين جعلوه واسطة بينهم وبين الكتاب والسنة.

ولو تأملنا في أكثر المخالفات التي يقع فيها الناس اليوم لرأيناها لا تخرج عن الاسباب التالية:

ا- جهلهم بأحكام الله عز وجل حيث يقعون في الحرام جهلاً منهم بحرمته أو تعلقهم بشبهة واهية.

2- تعلقهم بفتاوى بعض أهل العلم، الظالمين لأنفهسم ولغيرهم ممن

لم يراعوا قواعد الفتوى، أو لم يكن عندهم الورع الذي يمنعهم من كتم الحق ومسايرة أهواء الناس، أو تعلقهم ببعض القواعد الشرعية الصحيحة في أصلها لكنهم أنزلوها في غير مناطها.

 

3- علمهم بالحق وبحكم الله في المسألة لكنهم اتبعوا أهواءهم وشهواتهم وخالفوا الحق عن عمد وشهوة وهوى.

ويحسن في هذا القسم من المخالفات التوسع فيه، والتعرض للشبهات

التي تتعلق به، والرد عليها، إذ أن من أسباب انحراف الناس ووقوعهم في المخالفات الشرعية تزيين بعض المفتين هذه المخالفات للناس، وذلك بلي أعناق النصوص، وتحكيم العقل والرأي في مقابلة النصوص، أو التعلق بأدلة واهية، أو الأخذ بشذوذات الفقهاء وزلاتهم، أو الاستدلال بقواعد التيسير وإنزالها في غير محلها.

ولا يظهر خطر مثل هذه الفتاوى، كما يظهر في هذه الأزمنة المتأخرة حيث تساهل بعض المفتين هداهم الله، وتسرعوا في إفتاء الناس بفتاوى تطير عبر وسائل الإعلام بشتى صورها إلى أصقاع الدنيا، فيعمل بها الناس، مع مخالفتها أحياناً للدليل الصحيح، أو حاجتها إلى مزيد من التأمل والدراسة، والنظر في حال المستفتي وزمانه ومكانه وقصده، أو الإفتاء في مسألة دون النظر إلى مآلات الفتوى فيها.

ومما يؤلم النفس أن نرى في هذا الزمان جرأة على أحكام الله عز وجل من الصغير والكبير والمرأة والرجل، لا يتورعون من القول في شرع الله تعالى بلا علم، أو تقليد أعمى وذلك في المجالس أو على أعمدة الصحف والمجلات!!

ونظراً لعظم شأن الفتوى وخطورتها أنبه نفسي وإخواني من أهل العلم

إلى الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: لا يخفى علينا ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الخوف الشديد من إفتاء الناس، والتوقيع عن رب العالمين في كون الأمر المسؤول عنه حلالاً أو حراماً، وإذا كا ن خوف السلف شديداً من الإفتاء، وهم على ما هم عليه من العلم الغزير والورع الشديد، فحري أن يكون من بعدهم أشد خوفاً وإشفاقاً منهم.

وفيما يلي أمثلة مضيئة من حال سلفنا الصالح الذين جمعوا بين العلم العظيم والخوف من الله عز وجل، ومع ذلك كانوا يكرهون الإفتاء ولا يجيبون على كل مسألة يسألون عنها؛ لعل في قراءتنا لها أكبر عظة وعبرة.

قال ابن الصلاح([174]) : "عن محمد بن المنكدر، قال: إن العالم بين الله

وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم[175]...

... ولما ذكرناه هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة، واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدافع بالجواب، أو يقول: لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري.

فروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: "أدركت عشرين ومائة

من الأنصار من أصحاب رسول الله e يسأل أحدهم عن المسألة يردها

 

هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول ". وفي رواية: "ما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يمستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا([176]) .

وعن ابن مسعود أنه قال: "من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون "([177]) .

وعن ابن عباس نحوه ([178])  .

وروينا عن أبي حصين الأسدي أنه قال: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر".

وروي عن الحسن والشعبي مثله...

وقال محمد بن عجلان: "إذا أغفل العالم لا أدري أصيب في مقاتله "([179])...

وروى مالك مثل ذلك عن ابن عباس ([180])...

عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : "أنه جاءه رجل فسـأله عن شيء ، فقال القاسم : لا أحسنه ، فجعل الرجل يقول : إني

 

دفعت إليك لا أعرف غيرك؟ فقال القاسم: "لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه "، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: "يا ابن أخي ألزمها، فو الله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي

به "([181]).....

 

وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن شيء أياماً ما يجيبه، فقال يا أبا عبد الله إني أريد الخروج، وقد طال التردد إليك؟ قال فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: ما شاء الله يا هذا، إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه"([182]) .

 

وروي عن الشافعي "أنه سئل عن مسألة، فسكت، فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي، أو في ا لجواب ".

وعن أبي بكر الأثرم، قال سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول لا أدري، وذلك فيما قد عرف الأقاويل فيه "([183])...

 

وعن سحنون أنه قال: (أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه

من باع آخرته بدنيا غيره. قال: ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره، فوجدته المفتي، يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقه، فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقه، وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا" ([184])  أهـ.

وعن نافع أن رجلاً سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته، فقال له: يرحمك الله! أما سمعت مسألتي؟ قال بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا رحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به([185]) .

وعن سيار أبي الحكم، قال: قال ابن عمر :  إنكم تستفتوننا استفتاء قوم كأنا لا نسأل عما نفتيكم به " ([186])  .

وعن عبد الله بن بشر: أن علي بن أبي طالب سئل عن مسألة فقال: لا علم لي، ثم قال وابردها على الكبد: سئلت عما لا أعلم فقلت: لا أعلم "([187]) .

 

وعن عقبة بن مسلم: أن ابن عمر سئل عن شيء، فقال: لا أدري ،

ثم أتبعها، فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسوراً في جهنم؛ أن تقولوا أفتانا ابن عمر بهذا([188]) .

وعن أيوب قال: سمعت القاسم يسأل بمنى فيقول: لا أدري، لا أعلم. فلما أكثروا عليه قال: والله لا نعلم كل ما تسألونا عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا يحل لنا أن نكتمكم([189]) .

وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم يقول: ما نعلم كل ما نسأل عنه؛ ولأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله تعالى عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم (2).

وعن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "من تكلم في شيء

من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأله عنه: كيف أفتيت في دين الله؟ فقد سهلت عليه نفسه ودينه " ([190])  وقال أيضا: "لولا الفرق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً؟ يكون له المهنأ، وعلي الوزر" (3).

عن عطاء بن السائب: "أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد" ([191]) .

 

وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: "من أجاب في مسألة، فينبغي من

قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها" ([192]) .

وعن البراء بن عازب قال: "لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى"([193]) .

هذه بعض أحوال السلف رحمهم الله تعالى مع العلم والفتوى؟ وهم أهل العلم والفتوى، والتقوى؛ فما بالنا اليوم مع قلة علمنا وتقوانا يتجرأ أحدنا على الفتيا بلا علم، أو بنصف علم، أو بأظن، ولعل، وكأن الفتوى عنده شربة ماء؟!

ألا فالنتق الله عز وجل، ونحسب للوقوف بين يدي الله حسابه، ولنعد للسؤال جواباً.

وأخص بهذا الكلام أولئك الذين ظلموا أنفسهم، وتجرأوا على الفتوى، فصاروا يصدرون أحكاماً في قضايا الأمة، ونوازلها بغير علم أو بأنصاف علم، فامتلأت بآرائهم أعمدة الصحف وبرامج القنوات فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الوقفة الثانية: إن من عـلامة عالم الملة المتجرد لله سبحانه أن لا يميل

 

مع أهواء الناس وما يشتهون، بل يراقب الله عز وجل، ويفتي بما يرضي الله سبحانه، وهو ما كان عليه الدليل الصحيح، دون النظر إلى أغراض الناس وما سيقولونه عن المفتي وشدته أو سماحته؛ لأنهم لن يغنوا عنه من الله شيئا يوم القيامة. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قد تكرر لكثير من أهل الإفتاء الإمساك عما يفتون به مما يعلمون أنه الحق إذا خالف غرض السائل ولم يوافقه. وكثير منهم يسأله عن غرضه، فإن صادفه عنده كتب له، وإلا دله على مفتٍ أو مذهب يكون غرضه عنده. وهذا غير جائز على الإطلاق، بل لا بد فيه من تفصيل؛ فإن كان المسؤول عنه من مسائل العلم والمحنة أو من المسائل العلميات التي فيها نصن عن رسول الله e لم يسع المفتي تركه إلى غرض السائل، بل لا يسعه توقفه في الإفتاء به على غرض السائل، بل ذلك إثم عظيم، وكيف يسعه من الله أن يقدم غرض السائل على الله ورسوله؟

وإن كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التي يتجاذب أعتتها الأقوال والأقيسة، فإن لم يترجح له قول منها لم يسع له أن يترجح لغرض  السائل، وإن ترجح له قول منها وظن أنه الحق فأولى بذلك؛ فإن السائل إنما يسأل عما يلزمه في الحكم ويسعه عند الله عز وجل، فإن عرفه          المفتي أفتاه به سواء وافق غرضه أو خالفه. ولا يسعه ذلك أيضا إذا علم أن السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذا لغرض، لا تعبدا لله تعالى بأداء حقه؛ فلا يسعه، بل ولا يجب          عليه أن يفتي هذا الضرب من الناس فإنهم لا يسألون ديانة وإنما يستفتون توصلاً إلى حصـول أغراضهم بأي طريــق اتفق، فلا يجب على المفتي

 

مسـاعدتهم، فإنهم لا يريدون الحق، بل يريدون أغراضهم بأي طريق وافق "([194]) .

الوقفة الثالثة: على المفتي الذي يخاف يوم الحساب أن يتفطن لمكر وخداع بعض المستفتين، ومسائلهم التي في بعضها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم " فلا يعينهم على ذلك، بل يجب أن يكون بصيرا بأحوال الناس وخداعهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن المفتي: "يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب، أو تحليل محرم أو مكر، أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم؟ فالغبي ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة يتفقد مقصدها وباطنها؛ فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم. والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود.

وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق. وكم من حق يخرجه بتهجينه، وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن  لــه أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ، بل هـذا أغلب أحـوال

الناس "([195]) أهـ .

الوقفة الرابعة: على المفتي أن يفصل في جوابه على المسألة التي تحتمل عدة صور وأحوال، فقد ترد مسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف حسب حال السائل وظروفه"فليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل استفصله "([196]) ، ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إذا كان السؤال محتملاً لصور عديدةح فإن لم يعلم المفتي الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها، وإن علم الصور المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب، ولكن يقيد لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها فيقول: إن كان الأمر كيت وكيت، أو كان المسئول عنه كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا، وله أن يفرد كل صورة بجواب فيفصل الأقسام المحتملة، ويذكر حكم كل قسم. ومنع بعضهم من ذلك لوجهين: أحدهما: أنه ذريعة إلى تعليم الحيل، وفتح با ب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء.

الثاني: أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي فيضيع مقصوده. والحق التفصيل فيكره حيث استلزم ذلك، ولا يكره بل يستحب إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان وازالة لبس "([197]) .

الوقفة الخامسة: على المفتي أن يتضرع إلى الله عز وجل ويسأله الهداية إلى الصواب وأن لا يعتد بكثرة علمه وذكائه وعقله وشهرته، وأن يكثر من الاستغفار وذكر الله عز وجل إذا اشتبهت عليه المسائل. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "([198]) ، وكان شيخنا- يعني ابن تيمية- كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويكثر الاستعانة بذلك، وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.. "([199]) .

ويقول أيضاً: "ينبغي للمفتي إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي، لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب، ومعلم         الخير، وهادي القلوب، أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمل فضل ربه أن لا يحرمه إياه... وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل، واستعصت عليه

فر منها إلى التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته؛ فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مداً، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ([200]) .

الوقفة السادسة: نذكر أهل العلم بالإخلاص لله تعالى فيما يقولونه ويفتون الناس به، ذلك لأن موقعهم مظنة الفتنة ومزلة الأقدام. ومن أخطر ما ينافي الإخلاص عند المتصدرين لإفتاء الناس ما يلي:

ا- حب الظهور والشهرة بين الناس. وهذا بدوره يورث الإعجاب بالنفس، ولا يخفى ما في ذلك كله من إضعاف الإخلاص وكونه من أسباب حبوط العمل وتحمل الآثام.

2- التزين للناس بالعلم وإظهار العلم بكل شيء من الشرع والاستنكاف عن الاعتراف بعدم العلم بالمسألة عندما لا يظهر له جواب فيها.

3- التزلف إلى الناس بافتائهم ما يهوونه، والظهور أمامهم بمظهر العالم المرن المواكب لعجلة التطور، ومسايرة الواقع والتيسير على الناس، وذلك باتباع الرخص الواهية والأقوال المرجوحة، بل الشاذة والمهجورة في أحيان أخرى.

 

 

4- وقد يدخل الشيطان على المفتي من باب إظهار علمه لأرباب السلطة واشتهاره في وسائل الإعلام بأنه المفتي المرن الذي يراعي ظروف الواقع ومشاكله المعاصرة، وفي نفسه إرضاء السلطان ليكون ذلك سلماً للوصول إلى غرض من أغراض الدنيا الفانية، سواء كان ذلك مالاً أو جاهاً أو منصباً، أو غير ذلك مما ينافي الإخلاص والتجرد لله تعالى وابتغاء وجهه الكريم .

يقول ابن الصلاح رحمه الله: "لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى. ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى، وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل. ولئن يبطئ ولا يخطى أكمل به من أن يعجل فيضل ويضل.

فإن تقدمت معرفته بما سئل عنه على السؤال فبادر عند السؤال بالجواب فلا بأس عليه، وعلى مثله يحمل ما ورد عن الأئمة الماضين من هذا القبيل.

وقد يكون تساهله وانحلاله، بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة، أو المكروهة والتمسك بالشبه، طلباً للترخيص على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه، ونسأل الله تعالى العافية والعفو... "أهـ([201]) .

الوقفة السابعة: الانتباه الشديد إلى مآلات الفتوى، وما يترتب عليها

من الأفعال والمواقف، وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي كثرت فيه النوازل، وانتشرت فيه الأهواء والشهوات فلا جرم كان الإهتمام بهذه المسألة متعيناً، إذ قد لا يكون في المسألة المراد بحث حكمها المجرد بأس ولا حرج، أو قد تكون مسألة خلافية، لكن عندما ينظر إلى مآلات الحكم في زمن ما أو مكان ما أو شخص ما؛ فإن الحكم حينئذ قد يتغير؛ فإن كان يغلب على الظن أن الحكم سيئول إلى مفسدة وشر، ووقوع في الحرام، فإنها تصبح حراماً، لأن الوسائل لها حكم المقاصد. وإن كان الحكم لا يؤول إلى وقوع في الحرام، أو مفسدة على الدين فانها تبقى جائزة.

وهذا يدخل فيما يعرف بقاعدة سد الذرائع، وهي قاعدة عظيمة شريفه يحصل بإلغائها وعدم مراعاتها مفاسد عظيمة في أديان الناس ونفوسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم. والعجب ممن لا يراعيها في      نظره للأحكام وما يفتي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، مع أن كثير من التشريعات الإسلامية في الكتاب والسنة كان قائماً على هذه القاعدة، لأن المحرمات في الإسلام منها ما هو محرم لذاته ومنها ما هو محرم لغيره. والمحرم لغيره إنما حرم لا لأنه في ذاته حرام، وإنما لما سيؤدي إلى الوقوع  في المحرم لذاته، والأمثلة في ذلك كثيرة. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الثه تعالى تسعة وتسعين وجهاً لهذه القاعدة في كتابه المشهور أعلام الموقعين قدم لها بقوله: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسـائل

المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل.

فإذا حرم الرب تعالى شيئاً، وله طرق ووسائل تفصي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى، وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبي ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضاً، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده.

وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء... "([202]) .

ثم شرع في ذكر الأوجه المختلفة لهذه القاعدة حيث ذكر تســعة

وتسعين وجهاً أختار منها ما يلي:

الأول: قوله تعالى: (( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )) [الأنعام:108]

فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز.

الثاني: قوله تعالى: (( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)) [النور:31]، فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائراً في نفسه،. لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.

الثالث: أن النبي e كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم إن محمداً يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه. ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.

الرابع : أنه e حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها، ولو في الحج وزيارة الوالدين، سذا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع...

 

الخامس: أن الله تعالى أمر بغض البصر وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله؛ سداً لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور...

السادس: أن النبي e نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور، وتشريفها، واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيداً، وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثاناً والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده، ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سداً للذريعة...

السابع: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله e عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان.

وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أوحانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي الله عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه.

ومن هذا عصر العنب لمن يتخذه خمراً، وقد لعنه رسول الله e          هـو والمعتصر معاً. ويلزم من لم يسـد  الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن

يجوز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في         العقد، والذرائع غير معتبرة، ونحن مطالبون في الظواهر، والله يتولى السرائر، وقد صرحوا بهذا، ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة         رسول الله e... "([203]) .

ثم عقب على هذه الأوجه وغيرها بقوله: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان؛ أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة؛ فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين "[204] (2).

من خلال هذه النقولات النفيسة في أهمية مراعاة مآلات الفتوى المنطلقة من قاعدة سد الذرائع، يتبين لنا خطورة إهمالها، وأن ذلك يؤول إلى مفاسد كثيرة، وتحايلات على الشرع، ونشر للفساد من قبل المفسدين المتربصين بمثل هذه الفتاوى، والذين يسعون إلى توظيفها في مخططاتهم الخبيثة الداعية إلى مسايرة الركب، ومواكبة الغرب الكافر في أفكاره وأخلاقياته الفاسدة.

وإن المفتي الموفق هو الذي يتأنى في إفتاء المستفتين قبل إفتائهم، وبخاصـة إذا كانـت الفتوى تتعلق بالجوانـب الإجتماعية في الأمة، أو

بعلاقتها بالأمم الكافرة، أو ما يتعلق بالدعوة وأهلها، حيث يجب على المفتي أن يتأمل في المسائل المطروحة عليه ويفهم واقعها ومقاصد أهلها وما يحيط بها من الملابسات وما تؤول إليه على الفرد والمجتمع، ثم يفتي بعد ذلك على ضوء هذه المعلومات. وإن لم يفعل ذلك فقد يكون في الفتوى المجردة مفسدة على الأمة، وقد يكون من وراء السؤال من يتربص بالإجابة المحررة عليه ليوظفها في إفساد الأمة في جوانبها الإجتماعية، أو الإقتصادية أو السياسية أو غيرها.

وينبه الشاطبي رحمه الله تعالى إلى ضرورة اعتبار المآلات في فتوى المجتهد فيقول: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يجتهد على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلابعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل... "([205]) .

ويعلق الأستاذ الريسوني على هذا النقل فيقول: "... أي أن المجتهد، حين يجتهد ويحكم ويفتي، عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته- تنحصر في "إعطاء الحكم الشرعي "، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره... فإذا لم يفعل، فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها.

وهذا فرع عن كون "الأحكام بمقاصدها". فعلى المجتهد الذي أقيم متكلما باسم الشرع، أن يكون حريصاً أميناً على بلوغ الأحكام مقاصدها، وعلى إفضاء التكاليف الشرعية إلى أحسن مآلاتها... "([206]) .

وأضرب أمثلة ثلاثة من واقعنا المعاصر أحدهما إجتماعي، والآخر سياسي، والثالث دعوي ليتبين لنا من خلالها أثر الحكم في حال اعتبار المآلات، وفي حال عدم اعتبارها.

المثال الأول: الأحكام المتعلقة بالمرأة في مجالاتها المختلفة.

وذلك بأن يتعرض المفتي لمسائل كثيرة عن المرأة، كأن يسأل عن الحجاب الشرعي، وحكم اختلاطها بالرجل، وهل تجوز قيادتها للسيارة؟.. وغير ذلك من المسائل التي تخصها.

فإن أفتى المفتي في مثل هذه المسائل دون النظر إلى مآلات الحكم، أو دون النظر لمكر المستفتي، أو دون النظر لمن سيوظف الفتوى في مخططه المرسوم لإفساد المرأة. إذا لم يراع المفتي هذه الأمور، فإنه سيفتي فتوى مجردة كأن يقول بالرأي المرجوح في جواز كشف المرأة لوجهها، أو جواز اختلاطها بالرجل بالضوابط الشرعية! أو جواز قيادتها للسيارة، كما كانت. تقود البعير والحمار في القديم!!

أما إذا نظر المفتي في هذه المسائل وتأملها، ووعى واقعه الذي يعيشه

 

والذي ستنتشر فيه فتواه، وماذا ستئول إليه فتواه، ومن هم المفسدون الذين سيتخذون الفتوى ذريعة لمفاسد يبيتونها وتطفح على ألسنتهم وكتاباتهم. إنه إذا نظر إلى ذلك كله، فإن الفتوى حينئذ ستأخذ في الاعتبار مفاسد كشف الوجه في هذا الزمان، وما يترتب عليه من الفتن، وأنه باب إلى السفور والتبرج. وكذلك مفاسد اختلاط المرأة بالرجل، وأن المتربصين بالمرأة يريدون زجها مع الرجل في كل ميادين العمل، ما يناسب المرأة منها وما لا يناسبها، وستكون سكرتيرة وعاملة في المصنع مع الرجل، تخلو به ويخلو بها، وغير ذلك من المفاسد.

وكذلك ما يتعلق بقيادة السيارة؛ فعندما ينظر إلى المفاسد العظيمة التي تؤول إليها، فإن الفتوي تتغير ولا يصبح الأمر شبيهاً بقيادة الحمار أو البعير!! وإنما الأمر فيه من المخاطر ما الله به عليم. ولا يقال أن هذا الكلام تخرص وتوهم، وإنما هو عين الحقيقة لمن تبصر واقعه، وما جد فيه من الفتن والشرور. ويكفي أن نلقي نظرة فاحصة على من وقع في هذه الفتن من بلدان المسلمين لتكون شاهدا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وليس المقام مقام تفصيل هذه المفاسد، فهي أوضح من أن تفصل وتذكر. ولسنا بحاجة إلى ذكر ذلك كله، وإنما حاجتنا إلى أن يتق الله بنو قومنا من الذين يتكلمون بلا علم أو وعي لواقعهم، فيفتون بلا مراعاة لمآلات فتواهم فيضلون ويضلون. ليتقوا الله في دين الأمة وأعراض المسلمين، وليحذروا من مكر الماكرين ومغالطات المفسدين الذين يفرحون

بمثل هذه الفتاوى لينفذوا بها مخططاتهم الخبيثة باسم الشرع والدين.

وبالجملة فإن المفتي الموفق في هذا الزمان هو الذي يأخذ حذره في فتواه وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة لأنها مستهدفة، ويراد لها أن تحاكي المرأة الغربية في زيها وممارساتها في نهاية الأمر، فإذا أدرك المفتي هذا المخطط الإفسادي، وأدرك حقيقة المعركة اليوم بين السفور والحجاب، فإنه حينئذ سيكون فطناً ولا يصدر فتواه إلا بعد روية ومعرفة بمآلات فتواه، وهذا يقتضي وعيه بالواقع، وسؤال أهل الخبرة والاختصاص والاستفصال من السائل عن كل ما يتعلق بسؤاله. ويفصل في جوابه بحيث يسد على المفسد أي باب يمكن أن يدخل منه في توظيف الفتوى في غير مقصودها الشرعي.

والمصيبة اليوم أن الفتوى لم تعد قاصرة على أهلها، بل تسلق إليها كل رويبضة من رجل وامرأة، وصغير وكبير، فأصبحنا نرى نساء ورجالاً قد وضعوا أنفسهم في رتبة المجتهدين في نوازل الأمة، فسودوا الصحف والمجلات بجرأتهم العجيبة على دين الله عز وجل وأحكامه، فهذا يفتي في حجاب المرأة ولباسها، وهذه تفتي في حكم سفرها بلا محرم وقيادتها للسيارة، وأخرى تفتي في حكم عملها مع الرجل، وغير ذلك من الفتاوى التي تصدر عن جاهل أو جاهلة بشرع الله عز وجل. ولو سألت هذا الظالم عن أركان الصلاة أو شروط الوضوء أو مفسدات الصوم لما علم لذلك جواباً!! فكيف يبيح هؤلاء لأنفسهم الإفتاء في أمر يجهلون أدلته وقواعده؟ بينما لو تكلم أحد في غير اختصاصه مـن علوم الدنيا كالطب

والهندسة لأنكروا عليه وشنعوا!! ألا إنه الهوى والجرأة على دين الله عز وجل، وخلو الساحة ممن يأخذ على أيديهم ويؤدبهم.

المثال الثاني: أحكام الصلح والسلام مع الكفار.

وهذا مما كثرت فيه الأقوال، واختلطت فيه الأوراق وذلك نتيجة لعدم تحقيق المناط أو عدم مراعاة لمآلات الأحكام. وسبب هذا الخلط هو عدم معرفة الواقع، وأبعاد القضية وما تؤول إليه في نهاية الأمر. فعندما لا ينظر المفتي إلى هذه الأبعاد ومآلاتها، فإنه سيفتي فتوىً مجردة وسيقيسها على صلح الرسول e مع المشركين يوم الحديبية، أو على معاهدته e مع اليهود في المدينة، أو غيرها من معاهدات المسلمين مع الكفار. وسيكون الحكم بالجواز!!

أما إذا نظر إلى حقيقة الواقع، وأن طرفي الصلح لا يمتان إلى الإسلام بصلة؛ فطرف فيه الكافر الأصلي. والطرف الاخر ينسب نفسه للإسلام مع رفضه للإسلام وشريعة الرحمن، فكيف يقاس من هذا شأنه بالرسول e المستسلم لشرع ربه عز وجل القائم بأمر الله تعالى في كل شئونه وشئون الأمة؟

كيف يعطى هؤلاء الرافضون لشرع الله عز وجل فتوى من سيرة الرسول e مع أنهم لا يرضون بشريعة الإسلام ولا يتحاكمون إليها؟ إن في هذا إهانة للإسلام وخدمة لأهواء الطواغيت.

وكذلك عندما ينظر المفتي إلى مآلات الحكم بجواز السلام مع العدو الكافر، وما يترتب على التطبيع معهم من المفاسد العظيمة في أديان الناس

وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم، فإن الحكم حينئذ سيتغير، وسيكون الرفض والمنع سداً للذريعة وحماية للأمة من هذه الشرور العظيمة.

وقد يفتي المفتي بجواز الصلح المؤقت معهم لمصلحة، لكن إذا علم أن في هذا الحكم مجال لتوظيفه في الصلح الدائم والإقرار المطلق لليهود في استيلائهم على بلاد المسلمين فإن هذا الحكم سيتغير ما دام أنه ذريعة لمفاسد تنتهي إليه.

والمقصود أن اعتبار قاعدة سد الذريعة، ومراعاة مآلات الفتوى لها الأثر الكبير في الوقوف أمام مخططات الأعداء الكفار منهم والمنافقون في تمرير مخططات الاستسلام والخنوع، وأن عدم اعتبارها فيه تقديم خدمة لأعداء الدين فيما يرومونه من الكيد لهذه الأمة.

المثال الثالث: خروج بعض رموز الدعوة في بعض المنابر الإعلامية المشهورة بفسادها دون الإنتباه إلى ما قد يترتب على ذلك من المفاسد الجلية. وحسبنا في هذا المثال أن نذكر بعض هذه المنزلقات دون الحصر:

ا- مما لا شك فيه أن استقلالية، وتميز الخطاب الدعوي الإسلامي مطلب أساس في ذاته قلباً وقالباً. قلباً على مستوى مضمون هذا الخطاب ذاته، وقالباً على مستوى وسائل الدعوة وأوعيتها. لذا فإن خروج بعض الدعاة الرموز في منابر إعلامية تعلن في برامجها محاربتها الصريحة أو        المبطنة للعقيدة، والأخلاق الإسلامية، والفضيلة فيه تزكية لهذه القنوات  في أعين بعض الناس، كما أن خروج الداعية المتميز في القنوات بخاصـة

يجعله بعض الناس ذريعة لاقتناء هذه الأجهزة المفسدة.

2- قد يتعرض الداعية الرمز إلى أسئلة محرجة من قبل هذه المنابر قد تدفعه إلى أن لا يقول الحق فيها كاملاً، فيضطر إلى أن يأتي بأجوبة سياسية غامضة، من شأنها تضليلل العامة والتدليس عليهم.

3- قد يطلب من الداعية الرمز الحديث في مسائل يعرف الملبسون موقف الداعية منها كالحديث عن الغلو والتكفير والحركات الجهادية، ولكنهم يريدون من ذلك توظيفها في محاربة الدعوة وأهلها، وقد يرى الداعية أنه يقول الحق فيها مجرداً، وينسى أن التوقيت قد لا يكون مناسباً لتناول مثل هذه القضايا. وقد يقدم الداعية الرمز بعض التنازلات أو المسوغات فيما يخص هذه القضايا قد يرى أنها ضرورية في هذا الظرف أو ذاك، فيؤدي هذا التغير في المواقف إلى إضعاف مكانته عند شباب الصحوة ومن ثم اسقاط مرجعيته العلمية والدعوية عند باقي الأمة وتصبح بذلك الساحة الإسلامية مفرغة من العلماء المرجعيات، وهذا ما يصبوا إليه من وراء هذا النوع من الإعلام المشبوه.

والمقصود أن على الداعية الرمز أن يراعي مآلات خروجه في هذه القنوات أو ما يقوله فيها. وأن لا ينسى المفاسد الكثيرة التي تترتب على مشاركاته والتي قد لايقدر بعض الدعاة ضخامة أخطارها، والله أعلم.

وقد وقفت على مقال نفيس كتبه الأستاذ خالد أبو الفتوح، يحذر فيه

من المكر الإعلامي وينبه الدعاة إلى مخاطر المشاركة في وسائل الإعلام المفسدة.

اختار منه بعض الفقرات بشيء من الاختصار والتصرف اليسير، يقول حفظه الله تعالى: "لم يقف المكر الإعلامي عند حد التضليل والتزييف بشتى الطرق، بل تعدى ذلك إلى محاولة استخدام بعض المشايخ والدعاة والرموز السياسية الإسلامية للمشاركة في تشكيل الرأي العام بالصورة التي يريدها هذا الإعلام الماكر على حساب الصورة الدعوية التي يريدها هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز، وعلى حساب صورتهم هم ومرجعيتهم هم بالنسبة لأتباعهم ومريديهم...

حيث يتوجه الإعلام الماكر  إلى الزج بدعاة ورموز- لهم رصيدهم المعروف من الاستقلالية والأتباع المخلصين- في معترك المنظومة الإعلامية العلمانية بـ (فتح) المجال أمامهم للحديث عن قضايا عامة في منابر إعلامية رسمية أو مشبوهة...

... إن كل جهاز إعلامي له رسالته المحددة وأهدافه الواضحة في ذهن القائمين عليه والموجهين له، كما أن له خططه طويلة المدى وقصيرة المدى التي يحقق من خلالها هذه الأهداف، وعلى أساس هذه الرسالة وهذا الهدف وتلك الخطط ترسم الخطوط العامة للبرامج والأساليب- وأحياناً المواد- التي ينبغي أن يراعيها المنفذون والعاملون في هذا الجهاز أو     تلك الوسيلة الإعلامية، وليس بالضرورة أن يدرك هؤلاء المنفذون والعاملون أبعاد تلك الخطط أو كل تفاصيلها، بل قد يكونون- على المستوى الشخصي- لا يتفقون مع هذه الأهداف ولا يوافقون على تلك الخطط إذا علموا بجميع تفاصيلها، ولكن مع ذلك يشاركون في تنفيذها

بكفاءة ونجاح بحسب المطلوب منهم، وبحسب إمكاناتهم التي تهيأت أو هيئت لهم وفق الآلية الإدارية التي تحكمهم وتسيرهم... وهذا ما نجده في أي منشأة ذات إدارة منظمة.

والمقصد: أنه ينبغي علينا ألا ننخدع بآراء أو توجهات المنفذين الشخصية، ويغيب عنا وضع تصور- ولو تقريبيا- لأهداف القائمين على هذا الجهاز أو تلك الوسيلة، والموجهين لها وخططهم التنفيذية لتحقيق تلك الأهداف... وهنا يبرز سؤلا جدير بالنقاش: هل أتاح القائمون على هذه الأجهزة الإعلامية العلمانية والمشبوهة الفرصة لبعض الدعاة والمشايخ والرموز الإسلامية بالظهور في تلك المنابر من أجل الخروج بالدعوة من نخبويتها بمخاطبة أكبر قطاع من الأفراد، ومن أجل التوسيع على رموز الصحوة بتمكينهم من وسائل دعوية جدية وفعالة، وإيصال الخير إلى الناس؟ أم أن لهؤلاء القائمين على تلك الأجهزة أهدافهم الخاصة التي رأوا أن تحقيقها من خلال هذا النوع من الدعاة والمشايخ أجدى وأنفع؟

ثم نطرح تساؤلات أخرى لا تقل أهمية عن السابق: وما الذي يمنع

من قيام هؤلاء الدعاة والرموز بدورهم من خلال هذه المنابر الإعلامية حتى ولو كانت أهداف القائمين عليها خبيثة؟ ألا يبلغ هؤلاء كلمة حق أو موعظة مخلصة كانوا سيقولونها من على منابرهم الدعوية؟ أليس ذلك خيرا من ترك هذه المنابر بالكلية للفاسدين والمفسدين يصولون فيها ويجولون؟ ثم: ألم يكن الرسول e يذهب إلى منتديات المشركين في مكة ليبلغهم رسالة الله؟

أحب أن أوضح أنني هنا لا أتحدث عن الحكم الشرعي في هذا المسلك، ولكني أريد فقط أن أستكشف الجانب الذي يخص هذا المقال، وهو لفت الانتباه إلى بعض أساليب المكر الإعلامي فيما يخص قضايانا، وهذا الجانب في هذا المسلك لا يتبين إلا بعد أن ندرك طبيعة تكوين التأثير الإعلامي لدى الجماهير، فصاحب أي رسالة إعلامية- والدعوة في أحد جوانبها رسالة إعلامية أيضا- لا يلقي بمادة رسالته الإعلامية إلى الجماهير دفعة واحدة، ولكنه يلقيها جزءا بعد جزء، مستهدقا تكوين الصور الكلية لرسالته الإعلامية لدى هذه الجماهير على المدى الطويل بطريقة تراكمية ولكنها موجهة من طرفه، وهذه الطريقة أشبه بتكوين لوحة من الفسيفساء (الموزاييك) التي تتكون من أجزاء صغيرة ولكن تركيبها متجاورة متلاصقة يعطي في النهاية صورة عامة كلية من خلال هذه الأجزاء.

وقد يتداخل في التأثير على الجماهير المستهدفة أكثر من صاحب رسالة إعلامية مختلفة أو متباينة من أكثر من مصدر، وحينها قد تكون الصورة النهائية لدى الأفراد غير مقتصرة على مصدر واحد ورسالة واحدة، بل قد تحمل نوعاً من اختلاط الصور التي قد تخرج صورة أخرى، ربما تكون مختلفة عن الصور المبثوثة جميعاً، لكن الغلبة ستكون لصاحب التأثير الأقوى في الساحة الإعلامية، لذا: نجد محاولات من يريدون تشكيل الرأي العام الوصول- ما استطاعوا- إلى جميع منافذ التأثير الإعلامي- كالمدارس والصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ومنابر المساجد.. وأخيرا مواقع الإنترنت- واحتكاره ومنع أصحاب الرسائل الإعلامية المخالفة لهم من استخدامها، أو ممارسة نــوع من الإغراق الإعـلامي

تجاههم، أو التشويش عليهم وعلى رسالتهم على الأقل...

... أرى أنه الآن بدأ يتضح خط المكر فيما نحن بصدده، الصور الإعلامية التي يريد الإعلام العلماني تكونيها لدى الرأي العام تحتوي على بعض أجزاء تتشابه من أجزاء أخرى من الصورة الإعلامية التي يريد الإعلام الدعوي إيصالها؛ لذا: يستغل الإعلام العلماني هذا التشابه في تطبيق ما يمكن أن يطلق عليه (نظرية الصور المتقاطعة) لصالحه، ووجه الحكم هنا هو أن هذه الأجزاء عندما تنتزع من صورة لتوضع في صورة أخرى فإنها حينئذ لا تخدم ولا تكون معبرة عن الصورة الأولى، بل تتماهى في الصورة الثانية لتصبح جزءا من نسيج صورة كلية منبتة الصلة عن الصورة الأولى التي قد تصبح صورة مشوهة، ومع ذلك: يظل هؤلاء الذيز ساهموا- عن غير قصد- في بناء هذه الصورة الإعلامية (العلمانية)، يظنون أنهم عندما يتحدثون في هذه الجزئية إنما يرسمون صورتهم الدعوية التي يريدونها، وهذا غير صحيح واقعاً.

أزيد الأمر وضوحاً ثم أضرب له مثالاً: من المعلوم أن الدعاة والرموز الذين يخرجون في هذه المنابر هم (ضيوف) عليها يعرفون حدود (الضيف)، بمعنى أن هذه المنابر الإعلامية هي الطرف الأقوى في تحديد- أو الموافقة على- الموضوعات المطروحة، وفي توجيه اتجاه الحديث، وفي استضافة آخرين في الوقت نفسه أو في غيره لوضع الرتوش المناسبة على جزئية الصورة المطروحة، ومن ثم: فإن هؤلاء الدعاة لا يتمكنون من استكمال صورتهم الدعوية التي يريدون إيصالها من خلال هذه المنابر.

وهنا تأتي مناسبة القول: إن رسول الله  eكان يذهب إلى منتديات المشركين ليدعوهم فيها. صحيح أن الرسول e كان يفعل ذلك، ولكنه مع ذلك كان يبلغ رسالة الله عز وجل- كاملة غير منقوصة كما يريد هو كما يقتضيه (البلاع المبين) وليس كما يمليها عليه المشركون، ولم يكن-e يضع رغبات هؤلاء المشركين ولا النقاط المشتركة بينه وبينهم معياراً لاختيار طبيعة الموضوع الذي سيتحدث فيه.. فهل يستطيع أن يفعل ذلك من يخرج الآن في منابر الإعلام العلماني؟ هل يستطيعون- إذا شاؤوا- أن يعيبوا من فوق هذه المنابر اللات والعزى وهبل المعاصرين، فيبينوا- على سبيل المثال- حقيقة العلمانية والعلمانيين، وعمالتهم لأعداء الأمة، وحكمهم في دين الله؟ هل يستطيعون تجلية أصل الولاء والبراء والموالاة والمعاداة، وإلى من ينبغي أن تصرف هذه المشاعر في الواقع..؟ هذه واحدة.

وأخرى: هي أن هذه المنابر لها جمهورها المختلف عن جمهور هؤلاء الدعاة والرموز؛ أي أن من يتلقى من الدعاة هذه الجزئية التي تحدثوا فيها سيكمل عليها أجزاء أخرى من هذه إلى هؤلاء المتلقين مرات أخرى لتصحيح التشويه الذي يمكن أن يحدث للمعاني التي يريدون إيصالها من حديثهم، أو لاستكمال بقية أجزاء الصورة الدعوية كما يريدونها وليس كما يريدها العلمانيون القائمون على هذه المنابر، وذلك بعكس جمهورهم المريد لهم، أو الذي يستطيعون الوصول إليه بسهولة، فهو إن لم يستكمل الصورة الإعلامية الدعوية من تتابع الحضور لهم استكملها من شريط مسجل أو من رسالة مطبوعة أو من مقال منشور أو حتى من داعية أو رمز

آخر.. وبذلك تتجمع هذه الجزئيات وتوضع في سياق واحد.

ونضرب لذلك مثالاً أعرف أنه ذو حساسية: فلو أن أحد المنابر الإعلامية هذه استضافت رمزاً إسلامياً للحديث عن موضوع يدور حول (مشكلة الغلو والتكفير)، فالمتوقع أن تدور محاور الحديث حول عناوين فرعية، مثل: (أصل هذه المشكلة وصلتها بالخوارج)، (انحراف أصحابها عن منهج أهل السنة)، (خطورة هذه المشكلة على المجتمع)، (مقترحات لمعالجة هذه المشكلة)...

طبعاً سوف يتحدث هذا الرمز من منطلق حرصه على الشباب وعلى توضيح منهج أهل السنة، وضمن إطار كلي (في ذهنه) ينتظم فيه هذا الحديث وتستكمل صورته، وهذا الإطار وهذه الصورة تشمل أجزاء أخرى، مثل:

- خطر الإرجاء (المقابل للغلو والتكفير) وأثره في الأمة.

- التكفير في الأصل يقول به كل دين.

- أن الحديث هو عن خطر تكفير المسلمين، وليس عمن لم يحقق أصل دين الإسلام.

- الفرق بين التكفير بالمعصية- كما هو معتقد الخوارج- ومقالات المتكلمين، والتكفير بنواقض الإسلام.

- أن الخطأ في التكفير- إذا كان الاجتهاد حسب أصول أهل السنة-

 

 

هو خطأ فقهي وليس اعتقادياً.

- أن الغلو صفة غير محصورة بالمسلمين، بل موجودة في كل دين وكل فكر، فهي مشكلة نفسية في الأساس... إلى آخر هذه المسائل الجزئية التي يعرفها هذا الرمز بلا شك، ولكنها مع ذلك لن تطرح في هذه (ا لاستضا فة).

بينما المنبر الإعلامي الذي يتحدث من خلاله هذا الرمز لا يشغله منهج أهل السنة ولا أهل البدعة، بل تشغله أمور أخرى يريد تثبيتها في ذهن الجمهور مستغلأ هذه الجزئية ومستكملأ عليها أجزاء أخرى من الصورة التي تخصه هو والتي يبثها سابقاً أو لاحقاً، مثل:

- أن معارضي النظام العلماني الحاكم من الإسلاميين يكفرون المسلمين (ولو افتراء عليهم).

- أنهم خوارج منحرفون لا يمثلون أهل السنة والإسلام الصحيح (بل

إن بعض النظم تشبههم بالذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ).

- أنهم منحرفون أخلاقياً وسلوكياً.

- أن الوسطية والاعتدال هي التي يمثلها هذا النظام.

- أن مواجهتهم واجب على كل مواطن؛ لأنهم خطر على المجتمع   كله .

 

 

وهكذا.. فبينما الرمز الإسلامي يتحدث في إطار علمي ضمن صورة دعوية كلية (ولكنها غائبة)، يستغل المنبر الإعلامي حديثه هذا ويضعه ضمن جزئيات صورة كلية أخرى ضمن إطار دعائي سياسي، مستهدفاً تثبيت شرعية النظام العلماني الذي يتحدث باسمه ودعم استقراره، وخلع الغطاء الديني عن معارضيه السياسيين الذين يصرح بعضهم بعدم الاعتراف بشرعية النظام من منطلق إسلامي.

ومن هنا كانت أهمية الحرص على تحديد محاور الحديث مع الرمز الإسلامي بالشكل السابق، واستبعاد المحاور الأخرى التي سوف تفسد عليه هدفه، والتي لن يستطيع الرمز استكمالها أمام هذا الجمهور الذي تلقي منه هذا (الطعم)!، وهو طعم لا يصلح لإلقائه طبيب ولا إعلامي ولا أي مفكر.. بل لا بد أن يكون عالماً دينياً ولا سيما إن كان رمزاً دعوياً.

وهكذا نرى أن الإعلام العلماني، والقائمين عليه، ومن وراءهم أصابوا من وراء ذلك الأسلوب عدة أهداف برمية واحدة:

1- اكتسب مشروعية هو في حاجة إليها، وثقة فيه يفتقر إليها بمشاركة هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز.

2- وبمقدار نمو هذه المشروعية المكتسبة تتآكل مرجعية هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز لدى جمهورهم الدعوي الذي سوف ينظر بعضه إليهم على أنهم مهادنون، خاصة إذا تطاول أفراد من هذا الجمهور عليهم، وهذا

 

مطلب علماني!

3- أصبغ على نفسه وعلى النظام السياسي الذي يمثله صبغة تعددية (ديمقرا طية) زائفة.

4- كون بعض أجزاء صورته الإعلامية بدقة ومهارة وبشكل دعائي عن طريق متخصصين موثوق في كلامهم لدى الجماهير.

5- استهلك جهود بعض أصحاب الرسائل الإعلامية الأخرى المنافسة له بما يؤثر على أدائهم لهذه الرسائل، وصرفهم عن بذل الجهود الخاصة بها.

6- وهناك مكاسب عرضية ولكنها مهمة، منها:

هز بعض المسلمات المختارة بقصد والتشكيك فيها بزعم عرضها على ساحة النقاش والتمحيص، وهذا بالنسبة لهؤلاء العلمانيين مكسب في حد ذاته حتى ولو انتهى الحديث إلى صورة الرأي الذي قال به الداعية أو الشيخ أو الرمز، ففي النهاية تصبح هذه المسلمة (محتمله) حتى وإن ذكر أن (الراجح) فيها هو القول المسلم به قبل المناقشة، وهذه الخطوة مهمة يرضى بها العلمانيون الآن.

ومنها: تهميش القضايا المهمة وإلهاء الجماهير وصرفهم إلى قضايا أخرى يكثر فيها الكلام وتتضخم لتأخذ حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، وإقحام الدعاة وإشغالهم في معارك تدور حولها.

 

 

ومنها: ضرب بعض فصائل الحركة ببعضها وذلك بإتاحة الحديث لرمز فصيل ما عن رموز فصيل آخر أو آرائه واجتهاداته التي يتبناها.

ومنها: تحول بعض مشاركات هؤلاء الرموز إلى حلبة صراع كلامي يستعرض فيها المشاركون (عضلاتهم الكلامية والفكرية)، وهم وإن (انتصروا) في النهاية إلا أن الأثر المنطبع في ذهن المتلقي يظل أثراً بارداً لا يؤدي غالباً إلا إلى إثارة ذهنية كلامية جدلية، وهذا ما ينعكس سلباً على المعاني والقيم التي يلقيها هؤلاء الرموز من هذا المنبر. بعكس حديث هذه الرموز نفسها من منابرها؛ حيث توجد علاقة تفاعل إيجابي بين الملقي والمتلقي، تجعل هذا الأخير يتلقى رغبة في الالتزام بما يسمع وفي المشاركة في حركة إيجابية في المجتمع.

ومنها: مشاركة هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز- من حيث لا يقصدون أو ينتبهون- في ترسيخ معنى العلمانية في شعور المتلقين؛ وذلك عندما يرى هؤلاء المتلقون انفصالاً حاداً وواسعاً بين طبيعة الخطاب (الديني) الذي يظهر من خلاله هؤلاء وطبيعة المواد الأخرى التي يتابعونها والتي لا تمت للدين بصلة، بل قد تخاصمه أو تهاجمه صراحة أو خفية.

لا شك أن هناك أبعاداً أخرى في هذا الموضوع تؤيد وجهة النظر هذه

أو تعارضها، ومع قناعتي بضرورة الانفتاح الدعوي على الجماهير فإني أرى شخصياً أن هذا الانفتاح ينبغي أن يكون بطريقة منهجية مدروسة تحسب المصالح والمفاسد، والوسائل المتاحة، والأساليب المختارة، والحلول

المقترحة، والضوابط المراعاة... وذلك حتى لا نشارك من حيث لا ندري في عمليات تزييف وتضليل تحاك ضد هذه الأمة)([207]) .

وبالجملة فإن المفتي الموفق هو الذي يأخذ حذره في هذه الأزمنة، وذلك في الفتاوى المتعلقة بقضايا الأمة المصيرية، وعلاقتها مع الكفار، فلا يفتي إلا بعد فهم الواقع، وما تؤول إليه الفتوى من المصالح والمفاسد. مع أن الإفتاء في مثل هذه القضايا والنوازل تحتاج إلى تشاور بين أهل العلم، واجتماع على دراستها، واستعانة بأهل الخبرة والعلم في النازلة والواقعة، حتى تكون الفتوى قد أخذت حظها من البحث وبذل الحهد، وحينئذ تكون هذه الفتاوى أسعد بالحق والصواب بإذن الله تعالى.

الوقفة الثامنة: شبهات والرد عليها.

يتمسك بعض المفتين- الذين لم يؤتوا رسوخاً في علم الكتاب والسنة- ببعض الشبهات والقواعد الشرعية، وذلك فيما يفتون به، مما يعد مخالفة للدليل الشرعي، إما عن جهل بالقاعدة وضوابطها، أو عن جهل بالواقعة التي ينزلون عليها الحكم الشرعي أو القاعدة الشرعية، أو عن شهوة وهوىً. وأهم هذه الشبهات التي ينطلقون منها هي:

ا- الاستدلال ببعض القواعد الشرعية المنطلقة من قاعدة التيسير ورفع الحرج كقاعدة: عموم البلوى، وقاعدة الضرورة، والأخذ بالأيسر من أقوال العلماء ورخصهم.

2- الأخذ بالمصالح المرسلة.

3- تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال.

مناقشة هذه الشبهات:

أولاً: شبهة رفع المشقه، واليتيسير على الناس فيما تعم به البلوى).

وقبل الرد على هذه الشبهة يحسن الإلمام بقاعدة عموم البلوى

وضوا بطها.

تعريف عموم البلوى في الاصطلاح الشرعي العام.

"هو الحادثة التي تقع شاملة مع تعلق التكليف بها، بحيث يعسر  احتراز المكلفين أو المكلف منها، أو يعسر استغناء المكلفين، أو المكلف عن العمل بها إلا بمشقه زائدة تقتضي التيسير والتخفيف، أو يحتاج جميع المكلفين، أو كثير منهم إلى معرفة حكمها، مما يقتضي كثرة السؤال عنه أو ا شتهاره " ([208])  .

مـن هـذا التعريف يتضح صلة عموم البلوى بعدة قواعد فقهية

منها :

 

 

 

 

ا) قاعدة سد الذرائع:

وتبرز هذه الصلة من خلال النظر في مضمون ما يترتب على التيسير،

فإذا ترتب على التيسير في حال عموم البلوى مفسدة مساوية، أو أعظم من مفسدة عدم التيسير، فإنه لا يعتبر عموم البلوى هنا، وذلك لأنه حينئذ يكون وسيلة لشيء منهي عنه، فتكون وسيلته وهي اعتبار عموم البلوى والتيسير عنده ممنوعة أيضا وهذا من باب سد الذرائع.

2- قاعدة المشقة تجلب التيسير:

وذلك لأن عموم البلوى أحد تلك الأسباب التي يخفف عندها، ويعتبر تحققه ضابطاً لحصول المشقة ومن هنا كان التخفيف عند عموم البلوى داخلاً تحت قاعدة "المشقة. تجلب التيسير".

ومن أدلة ذلك من السنة:

* التسامح في سؤر الهرة لصعوبة التحرز منها لأنها من الطوافين

وا لطوا فات.

* التسامح في الحياض التي تردها السباع والكلاب والحمر، وأنها

طا هرة.

* تطهير التراب للنجاسة العالقة بباطن النعل.

ولكن هل كل ما كان فيه مشـقة في الاحتراز منه، أو صعوبة في الاستغناء عنه يتسامح فيه بحجة عمـوم البلوى ؟ وهل كل أحد يفتي في

 

 

ذلك؟ والجواب: لا. وإلا دخلت الأهواء والشهوات وتحلل الناس من أحكام الشريعة بحجة عموم البلوى والتيسير، ولتلاعب الناس بالدين. كل يجتهد فيه ويدلي بدلوه من غير علم ولا ورع.

ولذلك فهناك شروط وضوابط لاعتبار عموم البلوى سبباً للتيسير لا بد

من الإحاطة بها وهي كما يلي:

الشرط الأول: أن يكون عموم البلوى متحققاً لا متوهماً.

ويدخل تحت هذا الشرط حالتان

أ- أن يكون عموم البلوى متحققاً في عين الحادثة بحيث يكون العمل

في هذه الحادثة مما يعسر الاحتراز منه، أو مما يعسر الاستغناء عنه بالفعل. فإن لم يعسر الاحتراز منه، أو الإستغناء عنه، فلا يعتبر من قبيل عموم البلوى. فمن ذلك مثلاً لو أنه كان أمام شخص طريقان أحدهما فيه طين، والآخر سالم منه، فإنه لو سلك الطريق التي فيها الطين المختلط بنجاسات البيوت لا يعفى عنه لأن هذا الطين لا يعسر الاحتراز منه.

وكذا فإن نظر الطبيب مثلاً إلى عورة المريض يكون إلى الموضع الذي يعسر الاستغناء عن النظر إليه، ولا ينظر إلى ما عداه مما لا تدعو إليه الحاجة، أو الضرورة لأن هذا مما لا يعسر الاستغناء عنه، فلا تعم بذلك البلوى.

وحينئذ فإن عموم البلوى في هذين المثالين وما ماثلهما غير متحقق في عين الحادثة. فمن ادعى تحققه فإنما هو توهم.

 

ب- أن يكون عموم.. البلوى.. متحققاً لجميع المكلفين إذا كان وقوعه

عاماً لأشخاصهم بحيث يكون عسر الاحتراز أو عسر الاستغناء شاملاً لأفرادهم، فلو أن أحدهم، أو بعضهم لم يعسر احترازه أو لم يعسر استغناؤه في حادثة يعتبر وقوعها عاماً؛ فإن عموم البلوى هنا لا يعتبر متحققاً لذلك الفرد، أولأولئك البعض. ومن ذلك مثلاً أن بعض الفقهاء قد ذكر أن المطر إنما يعتبر عذراً في الجمع بين الصلاتين لمن تلحقه المشقه بملابسته، أما من لم تلحقه المشقة مطلقا لكونه جاراً للمسجد، أو ساكناً فيها أو نحوها فلا يعتبر المطر هنا عذراً له... وذلك لأن عموم البلوى لم يتحقق لأولئك، وإنما هو متوهم بالنسبة إليهم[209] ().

الشرط الثاني: أن يكون عموم البلوى من طبيعة الشيء وشأنه وحاله

فإذا كان عموم البلوى في الشيء ناشئاً من تساهل المكلف في التلبس بذلك الشيء، فإن عموم البلوى لا يعتبر سبباً في التيسير في هذه الحال، ويمكن أن نلمس أثر هذا الشرط فيما ذكره بعض الفقهاء في الفروع الفقهية، فقد ذكر النووي أنه يشترط للعفو عن النجاسة الجافة إذا دلكت أن تكون ملابستها بالمشي من غير تعمد.. فلو أنه تعمد تلطيخ الخف بالنجاسة فإنه يجب عليه غسلها، ولا يعتبر هذا من قبيل عموم البلوى لتساهل المكلف بالفعل الذي عمت به البلوى.

الشرط الثالث: أن لا يكون التلبس بما تعم به البلوى بقصد الترخص

فإذا دخل في الحادثة التي تعم بها البلوى بقصد حصول الرخصة لم يجز له أن يترخص، ولا يعتبر عموم البلوى هنا سبباً في التيسير،... ومن ذلك ما أشار إليه بعض علماء الحنابلة من أن المرأة إذا شربت دواءً مباحاً لحصول الحيض، وكان قصدها من ذلك حصول الترخص بالفطر في رمضان مثلاً فإنه لا يجوز لها ذلك.

الشرط الرابع: أن يكون الترخص في حال عموم البلوى مقيداً بتلك الحال ويزول بزواله، وذلك لأنه إذا زال عموم البلوى فإنه يصبح أمراً متوهماً، فيفقد الشرط الأول السابق وهذا الشرط يدخل تحت قاعدة: "ما جاز لعذر بطل بزواله "([210]) .

هذه أهم الشروط التي يجب مراعاتها في كون عموم البلوى سبباً للتيسير، ورفع الحرج والمشقة.

ويحسن إضافة شرط- خامس يتعلق بمن له الحق في الحكم على النوازل والحوادث في كونها مما تعم بها البلوى أم لا. إذ لا يحكم فيها إلا العالم المجتهد الذي يجمع بين العلم بالشرع وأحكامه وأدلته وقواعده، وبين العلم بالواقعة والنازلة وملابسات وجودها، حتى ينزل الحكم عليها. وهذا ما يسمى بتحقيق المناط. كما يشترط فيه الورع والدين الذي يحميه من اتباع الهوى ورغبات الناس.

أما أن يتصدر للحكم في النوازل من هب ودب، ممن لم يؤت حظاً

من العلم أو الورع، فإن النتيجة أن يتحلل الناس من الأحكام الشرعية شيئاً فشيئاً، وينتشر الفساد ويعم الشر وتكثر الفتن، بحجة أن هذا الأمر أو ذاك مما تعم به البلوى.

والمراقب اليوم لواقعنا المعاصر يشاهد ما ظهر فيه من التساهل في دين

الله عز وجل، والجرأة على الفتوى من الصغير والكبير والرجل والمرأة. فهذا يفتي في القناة الفلانية بجواز اختلاط المرأة بالرجل في الأعمال والندوات والتعليم بحجة تغير العصر، وعموم البلوى بخروج المرأة وضرورة مشاركتها للرجل في العمل!! وآخر يفتي بجواز اقتناء التلفاز المعاصر لعموم البلوى به، وكونه أخف شراً من غيره! وثالث يفتي بجواز التأمين وبعض صور الربا لما عمت به البلوى! وغير ذلك من الفتاوى المتفلتة من الشروط والضوابط الشرعية والمتناسية للاثار الخطيرة المترتبة عليها.

وأما إذا كان القائلون بعموم البلوى في قضية من القضايا هم من أهل العلم والدراية بمقاصد الشرع، والذين أحاطوا بالحادثة من جميع جوانبها فإن هؤلاء وأمثالهم هم الذين تقبل فتواهم، وهم مأجورون إن شاء الله تعالى سواء أخطأوا أم أصابوا.

وفيمايلي مثال لقضية معاصرة أفتى فيها أهل العلم والاجتهاد بجوازها لعموم البلوى فيها ألا وهي: الطواف في سطح الحرم.

يقول صاحب كتاب عموم البلوى: "مع أن بعض الفقهاء المتقدمين قد تحدثوا عن حكم هذه القضية إلا أن اعتبار جدتها قد جاء من جهتين:

الأولى: أن تهيئة السطح ليكون ملائماً للطواف عليه إنما جاء في العصور المتأخرة، ولم يكن قائماً زمن التشريع، إذ كان تسويره في عهد عمر بن الخطاب ، ثم اتخاذ الأروقة في عهد عثمان بن عفان ، وتوسعة المسجد في العصور المتلاحقة حتى هذا العصر الحديث الذي صار فيه السطح مهيأً أكثر من العصور الماضية لإمكان الطواف عليه، والصلاة فيه، فكأن حديث الفقهاء المتقدمين عن هذه القضية أقرب إلى التنظير الفقهي منه إلى الواقع العملي.

الثانية:كثرة أعداد الحجاج والمعتمرين في هذه الأزمنة المتأخرة؛ لسهولة الوصول إلى البلاد المقدسة بسبب توفر وسائل المواصلات الحديثة التي ساعدت كثيراً في تسهيل حركة التنقل والسفر، فكثر مع ذلك الازدحام، وخاصة في وقت الحج، وبعض الأشهر الأخرى كرمضان، وهذا جعل الابتلاء بهذه القضية أشد في هذا الزمان منه في الأزمان الماضية، وصار للحديث عن هذه القضية حظ من النظر في الواقع العملي.

وهذا يبين أن جدة هذه القضية آتية من كثرة الابتلاء بها في هذا الزمان، وشدته أكثر منه في الأزمان الماضية.

بيان وجه عموم البلوى في المسألة:

إن الطواف في صحن المسجد مع شدة الزحام يتضمن ضرراً يلحق المكلفين، بحيث يعسر استغناؤهم عن الطواف على سطح الحرم، حتى عمت بذلك البلوى...

 

000فمعلوم أن التكليف بلزوم الطواف في صحن المسجد، والقول بعدم جوازه على السطح يفضي إلى إلحاق الضرر والمشقة بالمكلفين بسبب الازدحام في حال الطواف في صحن المسجد، إذ سيعسر استغناؤهم عن الطواف على السطح، وتعم بذلك البلوى، فيقال بجواز الطواف على سطح الحرم تيسيراً على المكلفين، ودفغا للضرر عنهم، وذلك تبعاً لقاعدة المشقة تجلب التيسير وقاعدة لا ضرر ولا ضرار.

لذلك ذهب جمهور علماء المالكية إلى أن جواز الطواف على سطح المسجد مقيداً بوجود العذر من زحام ونحوه. وهذا يتفق مع التيسير بناء على عموم البلوى. وهو داخل تحت العمل بقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار.

واعتبار عموم البلوى في هذه القضية له حظٌ من الاعتبار في هذا الزمان خاصة، إذ إن عمل المسلمين في أزمان ماضية قد استمر على الطواف في صحن المسجد، ولم تدع الحاجة إلى تغير هذا العمل، إذ إن صحن المسجد كان يسع قاصديه من الحجاج والمعتمرين، وفي هذا الزمان صارت هناك كثرة في عدد الحجاج والمعتمرين في مواسم معينة، وعسر استغناؤهم عن الطواف علي سطح الحرم حتى عمت بذلك البلوى فالقول بالتيسير بجواز الطواف على سطح الحرم اعتباراً لعموم البلوى في هذا الزمان أدعى من أي وقت مضى، فينبغي أن يختلف الحكم اعتباراً لعموم البلوى باختلاف الأحوال "([211]) أهـ.

وهذ المثال يعد أنموذجاً لتطبيق عموم البلوى على ما يجد من الحوادث

بعد أن توفرت فيه الشروط والضوابط الشرعية التي هي من شأن الراسخين في العلم في هذه الأمة.

الشبهة الثانية: هي متعلقة بشبهة التيسير ورفع الحرج عن الناس، ألا وهي قولهم بأن من التيسير اختيار الأيسر من أقوال العلماء عند الاختلاف، ويقولون أن هذا من باب الأخذ بالرخص، والتيسير على الناس، ما دام أن فيه اختلافاً بين العلماء!!

وللرد على هذه الشبهة أنقل كلاماً نفيساً لأمامين جليلين:

أولهما: عن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى حيث يقـول: "... وقد

زاد هذا الأمر على قدر الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظراً آخر، بل في غير ذلك. فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها؛ لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع. وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمدمعتمداً وما ليس بحجة حجة.

حكى الخطابي في مسألة البتع ([212]) المذكــورة في الحديث عن بعض

الناس أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه. قال وهذا خطأ فاحش. وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة، لأن الأمة قد اختلفت فيها. قال: وليس الاختلاف حجة. وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين. هذا مختصر ما قال. والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه. ومن هذا أيضاً جعل بعض الناس الاختلاف([213]) رحمة للتوسع في الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره. ويقول: إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة. والتوفيق بيد الله. وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه

كفاية والحمد لله. ولكن نقرر منه ههنا بعضاً على وجه لم يتقدم مثله.

وذلك أن المتخير بالقولين مثلاً بمجرد موافقة الغرض إما أن يكون حاكماً به، أو مفتياً، أو مقلداً عاملاً بما أفتاه به المفتي.

أما الأول : فلا يصح على الإطلاق، لأنه إن كان متخيراً بلا دليل لم

يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الاخر، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي. فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر. ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين فكذلك، أو بالنسبة إلى الأول فكذلك، أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة. وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر. ومن ههنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد، وحين فقد لم يكن بد من الإنضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان. فانضبطت الأحكام بذلك وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط. وهذا معنى أوضح من إطناب فيه.

وأما الثاني: فإنه إذا أفتى بالقولين معاً على الخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين. وهذا لايجوز له إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق. وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول. وأيضاً فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به. فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا.

وأما إن كان عاميا: فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين لمة ملك، ولمة شيطان فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى: (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) [الشمس:7- 8]، (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الانسان:3]، (( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ))  [البلد:10]، وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات. والهوى لا يعدوهما. فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له: أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق فلا يمكن- والحال هذه- أن يقول له: "في مسألتك قولان، فاختر لشهوتك أيهما شئت؟ " فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول ما فعلت إلا بقول عالم، لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة وهذا المعنى جار في المحاكم وغيره والتوفيق بيد الله تعالى" أهـ([214]).

ثانيهما: عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: ".. وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح ؛ فإن الإنكار إما

أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل. أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعاً وجب إنكاره اتفاقا؛ وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله. وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة

أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللإجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً،. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم. والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد مالم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها- إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها... "([215]) .

ويقول في موطن آخر وهو يذكر أنواع الرخص: المشروع منها وغير المشروع: "الرخصة نوعان: أحدهما: الرخصة المعلومة من الشرع نصاً كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة. وإن قيل لها عزيمة باعتباو الأمر والوجوب فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة. كفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عــليه القيام

قاعداً، وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما، ونكاح الأمة خوفاً من العنت، ونحو ذلك " فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته. ولا يرد إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة، فإن منها ما هو واجب، كأكل الميتة عند الضرورة، ومنها ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره، ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره " ففيه مصلحتان قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع؛ ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها.

النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب. فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص.

فإن من ترخص بقول أهل مكة بالصرف([216]) ، وأهل العراق في الأشربة([217]) ، وأهل المدينة في الأطعمة ، وأصـحاب الحيـل في المعاملات([218]) ، وقول ابن عباس في المتعة، وإباحة لحوم الحمر   الأهلية، وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء ، وجوز أن يكون

 

زوج قَحبة([219]) . وقول من أباح آلات اللهو والمعازف : من اليراع([220]) والطنبور([221]) ، والعود والطبل والمزمار . وقول من أباح الغناء ، وقول     من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء ، وقول من جوز للصائم أكل البرد . وقال : ليس بطعام ولا شراب ، وقول من جوز اكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم . وقول من صحح الصلاة " بمدهامتان " بالفارسية ، وركع كلحظة الطرف ، ثم هوى من غير اعتدال . وفصل بين السجدتين كحد السيف . ولم يصل على النبي e وخرج من الصلاة بحبقة([222]) .

وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن ، ونكاح بنته المخلوقة من مائه الخارجة من صلبه حقيقة، إذا كان ذلك الحمل من زنى . وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء .فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته، ويوهن

 

 

طلبه، ويلقيه فى غثاثة الرخص، فهذا لون والأول لون "([223]) أهـ.

وبعد: فرحم الله هذين الإمامين الجليلين فكأنهما يعيشان عصرنا، وما

جد فيه من الأهواء والفتن، وما خرج فيه من القوم الذين هم من بني جلدتنا، والذين ينادون بمسايرة الواقع ومواكبة العصر، والأخذ بأي قول لأهل العلم ولو كان مهجوراً شاذاً، أو مرجوحاً، تيسيراً على الناس ودفعاً للحرج عنهم زعموا! وبعض هؤلاء ينطلق من الجهل بمقاصد الشريعة وأدلة الأحكام ومناطاتها. وبعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك لغرض يخفيه في نفسه ويبديه لمن هو على شاكلته، ألا وهو البعد الاجتماعي والفكري للقضايا المثارة، وليس المقصود الخلاف الفقهي الصرف، حيث نرى اليوم- ممن ينادي بالعصرانية- يثيرون مسائل تتعلق بالمرأة، وما نقل فيها من خلاف بين أهل العلم، والدافع لذلك أبعد من مجرد الخلاف الفقهي، بل هو ستار يخفي وراءه اللهث وراء الغرب ومحاكاته، وسرعان ما يتجاوزون المسائل التي هي محل خلاف إلى مالا خلاف في تحريمه ومنعه.

وإذا تأملنا هؤلاء وأمثالهم وجدنا بضاعتهم مزجاة في علوم الشريعة- أصولها وقواعدها، وإنما همهم أن يتصيدوا من أقوال الفقهاء ما يناسب أهواءهم، ويوظفوه في تحقيق رغبتهم ومخططاتهم.

 

الشبهة الثالثة: الإحتجاج بالضرورة:

وتحت ستار الضرورة ومبدأ التخفيف يقع كثير من الناس في محظورات، ويتركون واجبات دون أن يعلموا أن ليس كل من ادعى الضرورة يسلم له ادعاؤه شرعاً؛ إذ للضرورة حد محدود، وحالات معينة، وضوابط دقيقة؛ فلا بد من الإحاطة بها للرد على هذه الشبهة.

يقول الدكتور الزحيلي: "قال الجرجاني في تعريفاته: الضرورة مشتقة

من الضرر، وهو النازل بما لا مدفع له " وللضرورة تعاريف متقاربة المعنى عند أسلافنا الفقهاء... " ([224]) .

ثم ساق بعض هذه الأقوال وخرج منها بمعنى شامل هو قوله: "الضرررة: هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة؛ بحيث يخاف حدوث ضرر، أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر في غالب ظنه ضمن قيود الشرع"([225]) .

ولما كان مفهوم الضرورة وحدودها يختلف حسب العقول والأفهام

كان لا بد من الإحاطة بضوابطها حتى لا يأتي من يدخل في الضرورة ماليس منها، إما عن جهل، أو عن شهوة وهوى؛ فليس كل مـن ادعى

وجود الضرورة يسلم له ادعاؤه أو يباح فعله.

ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:

أ- أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة. وبعبارة أخرى أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال وذلك بغلبة الظن حسب التجارب، أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمسة التي ذكرناها والتي صانتها جميع الديانات والشرائع السماوية: وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال؛ فيجوز حينئذ الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر، ولو أدى ذلك إلى الوقوع في مفسدة ارتكاب الحرام أو ترك الواجب عملاً بقاعدة: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما". فإذا لم يخف الإنسان على شي مماذكر، لم يبح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحر يم أو إيجاب.

2- أن يتعين على المضطر مخالفة الأوامر أو النواهي الشرعية، وألا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من المباحات إلا المخالفة، بأن يوجد في مكان لا يجد فيه إلا ما يحرم تناوله، ولم يكن هناك شيء من المباحات يدفع به الضرر عن نفسه، حتى ولو كان الشيء مملوكاً للغير. فلو وجد مثلأ طعاماً لدى آخر فله أن يأخذه بقيمته وعلى صاحب الطعام أن يبذله له...

3- أن يكون في حالة وجود المحظور مع غيره من المباحات أي في الحالات المعتادة عذر يبيح الإقدام على الفعل الحرام، وبعبارة أوجـز أن

 

تكون الضرورةملجئة بحيث يخشى تلف النفس والأعضاء، كما لو أكره إنسان على أكل الميتة بوعيد يخاف منه تلف نفسه، أو تلف بعض أعضائه، مع وجود الطيبات المباحات أمامه...

4- ألا يخالف المضطر مبادئ الشريعة الإسلامية الأساسية التي ذكرناها من حفظ حقوق الآخرين وتحقيق العدل وأداء الأمانات ودفع الضرر والحفاظ حقيقة على مبدأ التدين وأصول العقيدة الإسلامية؛ فمثلاً لا يحل الزنا والقتل والكفر بأي حال، لأن هذه مفاسد في ذاتها...

5- أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة في رأي جمهور الفقهاء على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، لأن إباحة الحرام ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها...

6- أن يمر- في رأي الظاهرية- على المضطر للغذاء يوم وليلة، دون أن يجد ما يتناوله من المباحات، وليس أمامه إلا الطعام الحرام.

والأصح أنه لا يتقيد الإضرار بزمن مخصوص لاختلاف الأشخاص في ذلك.

قال الإمام أحمد: إن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل من الحرام، وذلك إذا كان المضطر يخشى على نفسه سواء أكان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل من الميتة ونحوها، عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقه، فهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك

 

 

بزمن مخصوص "([226]) أهـ .

ومما ينبغي التنبيه إليه: ضرورة النظر إلى هذه الضوابط مجتمعة، لأنه

قد يتحقق في المسألة المراد بحثها ضابط، أو أكثر؛ فيظن أنها قد أصبحت ضرورة وهي ليست كذلك لتخلف ضابط أو أكثر.

وبالوصول إلى معرفة حقيقة الضرورة الشرعية وضوابطها يسد الطريق على من يفتح الباب على مصراعيه؛ فيرخص لنفسه أو للناس ارتكاب بعض المحرمات، أو ترك بعض الواجبات بحجة الضرورة، إما لأنه لم يفهم معنى الضرورة ولا ضوابطها، أو أنه مدرك لمعناها وضوابطها، ولكنه أتبع نفسه هواها ومزج هواه بشبهة الضرورة ليؤصل ضعفه، ويلبس على الناس دينهم والعياذ بالله تعالى.

وإلا فما معنى قول من يقول إن دخول التلفاز، وصور ذوات الأرواح، والخادمات الكافرات في البيوت هو من باب الضرورة؟! مع أن الضرورة في واد، وهذه الممارسات في واد آخر. وما معنى قول من يقول إن التعامل بالربا وبعض صور البيوع المحرمة، والتأمين أصبح ضرورة؟؟! ويعلم القائل بذلك أنها لا تمت للضرورة بصلة.

ألا فليتق الله الذين يفتون لأنفسهم أو يفتون للناس بارتكاب المحرمات بحجة الضرورة من دون تحر للضرورة وضوابطها، وليعدوا جواباً لسؤال لله عز وجل إياهم (ماذا أجبتم المرسلين)؟

يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: "... وربما استجاز بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض... "([227]) .

الشبهة الرابعة: المصلحة المرسلة

يستدل بعض الناس بالمصلحة المرسلة في إحداث بعض الوسائل والمواقف المستجدة. وقد اتسع هذا الباب حتى دخل منه ماليس بمصلحة شرعية، بل المصلحة الشرعية تأباه وتضاده.

ولا يعني هذا قفل باب الاجتهاد وعدم الاستدلال بالمصلحة المرسلة

على الأخذ ببعض المستجدات، والمواقف من بعض النوازل. كلا، بل المقصود هنا التعرف على حقيقة المصلحة المرسلة، وضوابطها الشرعية والتي يسوغ الاستدلال بها في المستجدات. وكم استدل أهل البدع على بدعهم بالمصلحة المرسلة. ولهذا ينبغي فهم المصلحة المرسلة بضوابطها الشرعية والفرق بينها وبين البدعة حتى لا تختلط الأمور وتشتبه.

تعريف المصلحة المرسلة:

يحسن قبل التعريف ذكر أقسام المصالح وهي ثلاثة:

الأول: أن يشهد الشرع بقبولها بدليل معين فيها فهذا لا سبيل إلى ردها ولاخلاف في مشروعية الأخذ بها وإعمالها. وتركها مناقضة للشريعة

 

وذلك كشريعة القصاص حفظاً للنفوس والأطراف.

الثاني: ما شهد الشرع بردها فلا سبيل إلى قبولها.

الثالث: ما سكت عنها الشرع فلم يرد دليل خاص بعينه لا بالاعتبار

ولا بالإلغاء، ولكنه يلائم تصرفات الشرع، بأن يوجد لمعناه جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهذا هو الاستدلال المسمى بالمصالح المرسلة([228]) .

إذاً يمكننا تعريف المصلحة المرسلة بأنها: المعنى المناسب الملائم لتصرفات الشرع الذي لم يأت دليل معين باعتباره ولا بإلغائه.

ويتضح من هذا التعريف أنه لا يمكن أن توجد مصلحة شرعية ولم يدل الشرع عليها، إما بدليل معين عليها، أو بدخولها تحت معنى عام يلائم تصرفات الشرع. وعند التأمل في التعريف السابق يلاحظ جملة: "لم يأت دليل معين باعتباره ولا بإلغائه " ولم يقل: لم يأت دليل فقط، وبهذا يمكن القول بأن كل من ورد عنه القول بعدم حجية المصالح المرسلة هو من يعرفها بأنها "التي لم يرد دليل باعتبارها ولا بإلغائها". والصواب مع الذين لم يعرفوها بهذا التعريف. أما إذا أضيف: دليل معين "؛ فلا يظن   أن أحداً يخالف في حجية الأخذ بالمصالح المرسلة وإلا سد باب الاجتهادات، واحتار الناس فيما ينوبهم من المستجدات والنوازل، وأصابهم

 

من جراء ذلك حرج شديد. لذا ينبغي للباحث في هذه المصطلحات أن لا يضيع بين قول فلان أنها حجة وقول الآخر أنها ليست بحجة، وهو لم يفهم مقصود هذا العالم أو ذاك. إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

ولقد أخذ الصحابة بالمصلحة بضوابطها الشرعية في كثير من الأمور التي لم يوجد عليها دليل بعينه في الكتاب والسنة، لكنها تدخل تحت المعنى الملائم للشرع، والذي هو من مقاصد الشريعة الإسلامية.

وذلك مثل جمع القرآن، وتدوين الدواوين، وجمع عثمان الناس على مصحف واحد، وعدم إنفاذ عمر حد السرقة عام المجاعة... إلخ ومن ثم تبعهم الأئمة الأعلام ومن بعدهم، فدونوا العلوم كعلوم العربية ومصطلح الحديث، وأصول الفقه.. إلى غيرها من المصالح الذي لا يشك عاقل أنها معتبرة شرعاً.

ولكن من هو الذي يقرر أن هذا الأمر أوذاك من المصالح المرسلة؟ إنهم العلماء المهتدون الراسخون في العلم، وليس عوام الناس، أو من أخذوا بنتف من العلم ويحسبون أنهم من الراسخين في العلم. ولو ترك الأمر لكل مدع للعقل والعلم لفسدت أديان الناس، ولأدخل في الدين ماليس منه، وبخاصة في مثل زماننا اليوم الذي عمت فيه الشبهات والشهوات، وصار كثير من الناس يسيره هواه وشهوته عياذا بالله.

ونظراً للإشتباه الذي يمكن أن يحصل بين المصلحة والبدعة فينبغي التعرف على الفـروق الدقيقة بينهما ومعرفة الضوابط الشرعية التي يجب

 

توفرها فى الأمر حتى يكون مصلحة مرسلة مشروعة.

الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة:

قال الشاطبي رحمه الله تعالى ما ملخصه:

ا- إن من شروط المصلحة كما سبق: ملائمتها مع مقاصد الشرع،

أي أن يكون لها أصل معتبر بالشرع بمجموع نصوصه، ولكن البدعة لا تتلاءم مع المقاصد بل تكون أحياناً مصادمة لها وأحياناً لا يكون لها       أصل البتة.

2- أن عامة النظر في المصالح المرسلة إنما هومما عقل منها وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول السليمة تلقتها بالقبول. أي أنها لا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية، لأن عامة التعبدات لا يعقل معناها على التفصيل كالوضوء، وعدد ركعات الصلاة، والصيام في زمن مخصوص دون غيره، والوقوف في مشاعر الحج، ونحو ذلك مما يجزم بمصلحته وإن لم نعلم ذلك بالتفصيل.

2- أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري من  باب الوسائل، أو إلي التخفيف ورفع الحرج، بعكس البدع التي هي     من باب المقاصد ويتعبد بها، ولأنها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف "أهـ([229]) .

ويقول في موطن آخر: ".،. واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله e، ككتابة المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة، فخلطوا وغلطوا واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة رابتغاء تأويلها. وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين.. فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة مالم يفهمه الأولون، أو حادوا عن فهمها. وهذا الأخير هو الصواب. إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه. وهذه المحدثات لم تكن فيهم. ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال. وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة؛ فيقال لمن استدل بأمثال ذلك هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد ولابد من ذلك. فيقال له أفكانوا غافلين عما تنبهت له أوجاهلين به أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع. وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها، قيل له فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها، ماذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول. والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية؛ فكل ما جاء مخالفاً لما

عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه. فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين، وإذا كان مسكوتاً عنه ووجد له في الادلة مساغ فلا مخالفة، إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده وهو البدعة المنكرة. قيل له بل هو مخالفة لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين:

أحدهما: أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله e، فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه، فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفاً للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد.

والثاني: أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهي المصالح المرسلة وهي من أصول الشريعة المبني عليها إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في عام الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع. وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات البتة، وانما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشدداً في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين.. " أهـ([230]) .

 

أما ضوابط المصلحة التي تفرقها عن المصلحة الملغاة والموهومة فهي:

الضابط الأول: اندراجها في مقاصد الشرع. وهذا هو معنى القول

في تعريفها أنه "لم يرد دليل معين باعتباره أو إلغائه" ولكن اعتباره أخذ من النصوص العامة التي هي مقاصد الشريعة في حفظها للدين والعقل والنفس والعرض والمال. وجميع المصالح وسائل لتحقيق المقاصد. فمثلاً جمع المصحف وسيلة لحفظ الدين، وقتل الجماعة بالواحد وسيلة لحفظ ا لنفس.. وهكذا

ومن ذلك يمكن القول بأن كل ما يعارض المقاصد أو يكون وسيلة لهدمها أو بعضها فهو وإن كان في الظاهر مصلحة فهو ملغي.

الضابط الثاني: عدم معارضتها للنص:

فإذا ورد في الكتاب أو السنة معارضتها وإلغاؤها سواء بمنطوق أو مفهوم النص فهي ملغاة وليست مرسلة.

وقد يشكل على ذلك ما أجمع عليه السلف من بعض المصالح وكانت تخالف ظواهر بعض النصوص مثل إيقاف عمر لسهم المؤلفة قلوبهم في عصره. ولكن بالتأمل في المؤلفة قلوبهم، وأنهم الذين يعطون من الزكاة لكف شرهم من الكفار، أو من يرجى إسلامه منهم. أما والمسلمون أعزة أقوياء، فليسوا بحاجة إلى ذلك، وهذا من باب العمل بالدليل عند وجود علة الحكم، والعلة تدور مع الحكم وجوداً وعدماً.

 

 

الضابط الثالث: عدم معارضتها للإجماع.

الضابط الرابع: عدم معارضتها للقياس الصحيح الذي توفرت شروطه الشرعية. أما إذا كان القياس فاسداً لا تتوفر فيه شروط القياس، فلا يعتد بهذا التعارض. والقياس في حقيقته مصلحة، فكل قياس مصلحة، وليس كل مصلحة قياساً.

الضابط الخامس: عدم تفويتها لمصلحة أهم منها أو مساوية لها.

مما لا شك فيه أن الأصل تحصيل جميع المصالح، ودفع جميع المضار، ولكن قد تتعارض بعض المصالح، ويكون لا بد لنا من تحصيل بعضها، وتفويت الآخر. فإذا تزاحمت مصلحتان ولا يمكن أخذ أحدهما إلا بتفويت الأخرى، فإنه يؤخذ بأكبرهما مصلحة ولو فاتت المصلحة الصغرى أما إذا كان أمامنا مصلحة لا يمكن الأخذ بها إلا إذا فوتنا مصلحة أكبر منها فإنها  والحالة هذه تعتبر ملغاة ولا تعد مصلحة.

وعندما تتعارض مصلحتان لا بد من تفويت إحداهما لتحقيق الأخرى

فإنا ننظر إليهما من الجوانب التالية.

أ- من حيث تحقق وقوعهما، فإذا كانت إحدى المصلحتين قطعية التحقق، أو يغلب على الظن تحققها. والأخرى موهومة، أو يغلب على الظن عدم تحققها، فإن المصلحة المقطوع تحققها تقدم على المصلحة الموهومة ولو كانت هي الاكبر والأهم.

 

 

ب- إذا تساويتا في تحقق وقوعهما؛ فإنا ننظر إليهما من ناحية نفعهما، فما كانت منفعتها عامة شاملة لجزء كبير من المسلمين تقدم على ما كانت منفعتها خاصة لفرد، أو فردين أو جزء قليل من المسلمين.

جـ- إذا تساويتا في تحقق الوقوع وفي نفعهما سواء كان عاماً أو خاصاً

فإنا ننظر إليهما من جانبين:

الأول: إن كانتا برتبة واحدة أي أن كليهما ضروري أو حاجي([231]) أو تحسيني فإننا نقدم ما يتصل بالدين على غيره من الضروريات.

الثاني: إذا كانتا برتبة مختلفة أي أن أحدهما برتبة الضروريات والأخرى برتبة الحاجيات فإنا نقدم الضروري على الحاجي. وفيما يلي مثال لما سبق:

جهاد المسلمين للكفار إذا كانوا في قلة من العدد، والعدة، بحيث يغلب على الظن أنهم سيقتل كثير من المسلمين، من غير نكاية في أعدائهم، فينبغي هنا أن نقدم مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة وهي مصلحة حفظ الدين موهومة، أو منتفية الوقوع.

 

مثال آخر: تقديم الجهاد العيني على طاعة الوالدين عند التعارض لأن الجهاد هنا فيه نفع عام وشامل. وطاعة الوالدين فيها نفع خاص؛ فيقدم العام على الخاص. ومثله: تقديم طلب العلم الشرعي وتعليم الناس على نوافل العبادات ([232]).

ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام نفيس في ذكره بعض الضوابط الدقيقة التي يفرق بها بين المصلحة الشرعية والمصلحة الملغاة أو البدعة. يقول رحمه الله تعالى بعد ذكره للفروق بين البدعة والمصلحة: "والضابط في هذا- والله أعلم- أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحة، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين. فما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه. أمراً حدث بعد النبي e من غير تفريط منا؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله e، لكن تركه النبي e لمعارض زال بموته.

وأما مالم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث؛ فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله e موجوداً لو كان مصلحة ولم يفعل، يعلم أنه ليـس

 

 

بمصلحة. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصيه الخلق، فقد يكون مصلحة...

... فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة، وهو مع

هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما دخل فيه من نسب إلى تغيير الدين، من الملوك والعلماء والعباد، أو من زل منهم باجتهاد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير واحد من الصحابة: (( إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون)) ([233]) .

فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته؟ وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات ، كقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً)) [الأحزاب:41]، وقوله تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ )) [فصلت:33] ، أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع . بل يقال : ترك رسول الله e مع وجود ما يعتقد مقتضياً ،  وزوال المانع ، سنة ، كما أن فعله سنة . فلما أمر بالأذان في الجمعة ، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامـة ، كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس

لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو أيام الشهر، أو الحج، فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره، لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له: كل بدعة ضلالة.

ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها، أو نعلم ما

فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيراً. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد كان ثابتاً على عهد رسول الله e ، ومع هذا لم يفعله رسول! الله e ، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس.

ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس: تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة، واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله e  لا ينفضون حتى يسمعوا، أو أكثرهم.

فيقال له: سبب هذا تفريطك؟ فإن النبي e كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم، وأنت قصدك إقامة رياستك، أو إن قصدت صلاح دينهم، فلا تعلمهم ما ينفعهم، فهذه المعصية منك لا تبيح

لك إحداث معصية أخرى، بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه، وقد استقام الأمر، وأن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك، لا عن عملهم.

وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة، فإنه

قد روي عن النبي e أنه قال: (( ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها)) ([234]) وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم، وبينت أن الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع، لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من ا اغتذى بالطعام الخبيث.

وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً من السياسات الجائرة من أخذ أموال

لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؟ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشمروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله؟ لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم "([235]) .

ومن هذا الكلام النفيس لشيخ الإسلام رحمه الثه تعالى يتبين لنا ضابط جديد يفرق به بين المصلحة الشرعية. وبين البدعة أو المصلحة الملغاة. وهذا الضابط هو البحث في الأمر الذي يحدثه الناس بحجة المصلحة: هل السبب المحوج إليه كان موجوداً على وقت الرسول e؟ فإن كان موجودا، ولم يأخذ به النبي e فإن الأخذ به بعد النبي e بدعة، وليس مصلحة. وإن كان السبب المحوج إليه موجودا في زمن النبي e ، ولكنه e تركه لمانع زال بموته، فإنه يؤخذ به كما فعل عمر في جمع الناس في صلاة التراويح.

وإن كان السبب المحوج للأخذ بأمر ما كونه مصلحة، ليس موجوداً

في وقت النبي e ، وإنما طرأ بعد ذلك فإنا في هذه الحالة ننظر إليه من خلال أمرين:

الأول: إن كان السبب المحوج إليه تفريطنا وذنوبنا فلا يجور استحداثه بحجة المصلحة لأنه ليس بمصلحة. والعلاج في هذه الحالة أن نتدارك تفريطنا ونتوب إلى الله تعالى من هذه الذنوب التي تضطرنا إلى استحداث مالم يكن عند سلفنا، فإذا أقلعنا عن هذه الذنوب ففي الغالب أننا لا نحتاج إلى مثل هذه المحدثات لأنها تزول بزوال الذنوب التي سببتها.

ومثال ذلك: في واقعنا المعاصر: الدعوة إلى قيادة المرأة للسيارة، فإن

من حجج المنادين بذلك هو ما يسمونه بضرورة خروج المرأة، وانشغال وليها، فكونها تقود السيارة بنفسها أولى من ركوبها مع السائق الأجنبي،

فنقول أن هذه مصلحة ملغاة لأن السبب المحوج إليها هو تفريط معظم الناس في قوامتهم لنسائهم وتركهم للأجنبي يخلو بنسائهم. فالحل علاج تقصيرنا والنهوض من عثارنا وذلك بأن تعود إلى الرجل قوامته على أهله، وتعود المرأة لتقر في بيتها وتربي أبناءها، وأن لا تخرج إلا لحاجة ماسة أو ضرورة، وأن يبعد الخادم الأجنبي عن المرأة والخلو بها. وعند ذلك سوف لانحتاج إلى قيادة المرأة للسيارة وما يترب على ذلك من المفاسد والشرور. أما أن نحتج على الخطأ بالخطأ فهذا منهج منحرف، فالانحراف لا يعالج بالانحراف وإنما يعالج بالتوبة والرجوع إلى شرع الله المطهر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

الثاني: إن كان السبب المحوج إليه ليس بسبب ذنوبنا، وتفريطنا، ففي

هذه الحالة يسوغ للعلماء الراسخين أن يجتهدو في الأخذ ببعض المستحدثات التي فيها مصلحة للمسلمين مراعين في ذلك الضوابط الشرعية، ولا يسوغ لغيرهم من عامة الناس، أو أصحاب الأهواء أن يفتوا لأنفسهم، ولمن سواهم بأن هذا الأمر مصلحة شرعية دون الرجوع إلى أهل العلم الراسخين.

الشبهة الخامسة: الاحتجاج بقاعدة: اختلاف الفتوى باختلاف الأمكنة وا لأزمنة وا لأحوال والعوائد

وهذه القاعدة صحيحة في أصلها. وأمثلتها كثيرة، ومنشأ الشبهة فيها

أن هناك من يجهل حقيقة هذه القواعد وضوابطها، أو يكون عالماً بها وبضوابطها، ولكنه يستدل بها في غير مناطها، أو يوظفها في تلبية رغبات

نفسه أو رغبات الناس في الانفلات من بعض الأحكام الشرعية حيث أنها - بزعمه- تختلف وتتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال؟ فما كان حراماً في زمن أو مكان قد لا يكون حراماً في زمن أو مكان آخرين.

وقد أشير إلى هذه القاعدة في ما مضى من الكلام حيث يدخل بعضها في أمثلة المصالح المرسلة وبعضها في قاعدة سد الذرائع، وبعضها في قواعد أخرى.

ومن المهم هنا التنبيه إلى الفرق بين اختلاف الفتوى، واختلاف الحكم فاختلاف الفتوى تكون بمراعاة المفتي لحال الشخص أو الزمان أو المكان، أو بعض الموانع التي تغير الفتوى لعدم توفر الشروط في المسألة المفتى بها، وفي هذه الحالة تكون الفتوى متوافقة مع الحكم لأن الحكم لا يطبق إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه.

يقول البوطي في تعليقه على قاعدة: "العادة محكمة" وأثرها في تغيير الفتوى: "والحقيقة هي أن الحكم الشرعي لا يتبدل مهما تبدلت الأزمان وتغيرت الأعراف اللهم إلا عن طريق النسخ، وقد أغلق بابه بعد تكامل هذا الشرع الحنيف ووفاة النبي e . والقاعدة الفقهية: " العادة محكمة" ليس معناها أن بعض الأحكام الشرعية تتبدل بتبدل الأزمان حقيقة كما يفهم من ظاهر هذا اللفظ.

وبيان ذلك يحتاج إلى تحقيق في معنى هـذه القاعدة، فلطالما كان-

ولا يزال- ظاهرها مزلقاً للأقدام ومتاهة عن حقيقة المعنى المراد بها . ولو

 

كانت هذه القاعدة على ظاهرها، لاقتضت أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهناً بيد عادات الناس وأعرافهم، وهو مالا يمكن أن يقول به أحد.

وتحقيق ذلك، هو أن ما تعارف عليه الناس وأصبح عرفاً لهم، إما أن يكون هو بعينه حكماً شرعياً أيضاً، أوجده الشرع، أو كان موجوداً فيهم فدعا إليه وأكده، وإما أن لا يكون حكماً شرعياً ولكن تعلق به الحكم الشرعي بأن كان مناطاً له، وإما أن لا يكون هذا ولا ذاك فلا يكون حكماً شرعياً ولا مناطاً لحكم شرعي...

... مثال الصورة الأولى: الطهارة من النجس، والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وثبوت نفقة الزوجة على الزوج، وستر المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص في الجنايات، والحدود في الزنا والسرقة والخمر، وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعد من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب وتركها العقاب؟ سواء منها ما كان متعارفاً عليه قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيذا ومحسئا له، كحكم القسامة والدية والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة وحجاب المرأة وغير ذلك.

فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة وتطورت العادات والا!حوال، لا!نها بحد ذاتها أحكام شمرعية ثبتت بأدلة باقيه ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بالعادة في قول الفقهاء: "العادة محكمة".

ومثال الصورة الثانية: ما يتعارفه الناس من ولممائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال والشؤون المخلة بالمروءة والآداب، وما يعتادونه مما لا حكم شرعنا فيه من شؤون المعاملات، كعادة قبض الصداق قبل الدخول، والصورة التي بها يتم قبض المبيعات وما يجذ من وسائل توثيق العقود والمعاملات، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا مدخل للإرادة والتكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ وفترة الحيض والنفاس.

فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكاماً شرعية كالأمثلة التي قبلها، ولكنها متعلق ومناط لها، فاصطلاحات الناس في تعابيرهم وكلامهم ليست أحكاماً شرعية ولكنها مناطات للأحكام المتعلقة بصيغ العقود والطلاق والأيمان، وما تعارفوا عليه من الأمور المخلة بالمروءة ليس إلا مناطاً للحكم بقبول شهادة الشاهدين أو رفضها، وما تعارفوه فيما بينهم من وسائل قبض المبيعات ووقت قبض الصداق، وانقسامه إلى مقدم ومؤخر، ليس إلا أساساً لما رتب عليه الشارع من الأحكام، ومثل ذلك بقية الأمثلة المشابهة.

وهذه الصورة من العرف هي التي عناها الفقهاء بقولهم "العادة محكمة" لا"ن الشارع جعلها هي الأساس والمناط لما علق بها من أحكام، ولا جرم أن صورة الحكم تتغير بتغير مناطه، ألا ترى أن وسيلة الطهارة تتبدل ما بين الماء والتراب حسب تبدل حال المكلف من قدرته على استعمال الماء وعدمها لأن الشارع جعل قدرته على استعماله هو مناط وجوب الطهارة به.

وقد شرط الشارع لصحة الشهادة في القضاء أن يكون صاحبها غير مختل المروءة، وجعل عادة الناس في كل قطر وبلد هي المحكمة في ضوابط المروءة وما يخدشها. واشترط قبض المبيع مع تبدل صورة القبض حسب تبدل المبيع. وشرع توثيق العقود وضبط المعقود عليه، مع اختلاف وسائل التوثيق والضبط حسب اختلاف الأزمان. وفرق بين الصريح والكناية من ألفاظ الطلاق في حكم وقوع الطلاق بهما، وترك عادة الناس في اصطلاحاتهم وتعبيراتهم هي المحكمة في تحديد المقاصد. وشرع خيار العيب في المبيع وترك عرف الناس فيما يعتبر معيباً هو المحكم في حد العيب وضبطه، وشرع نفقة الزوجة على الزوج ونفقة الأولاد الصغار على الآباء، وجعل المعروف بين الناس في قدرها وأنواعها هو المحكم في المطلوب منها وهلم جرا في كل ما يشبه ذلك([236]) .

وقد أوضح الشاطبي في موافقاته هذا الفرق بين هاتين الصورتين وما يترتب على ذلك، فقال رحمه الله تعالى: "العوائد المستمرة ضربان: أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا. والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.

فأما الأول فثابت أبداً، كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب

العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسة وطهارة التأهب للمناجاة وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس؟ إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها. فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحاً ولا القبيح حسناً ، حتى يقال مثلأ أن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن، فلنجزه، أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه، أو غير ذلك؟ إذ لو صح مثل هذا لكان نسخاً للأحكام المستقرة المستمرة. والنسخ بعد موت النبي e باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل.

وأما الثاني فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها. فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع والنظر والكلام، والبطش والمشي وأشباه ذلك. وإذا كانت أسباباً لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائماً ".

والمتبدلة منها ما يكون متبدلاً في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس، مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح "([237]) .

أمثلة شرعية على تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال     والعو ائد، والنيات:

(1) مثال على تغير الفتوى بتغير الأزمان:

تغير الفتوى بمسألة الطلاق الثلاث حسب الأزمنة:

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها حسب الأزمنة، كما عرفت، لما رأته الصحابة من المصلحة لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله e فاعله مفتوحاً بوجه ما بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره.

وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين... إلى أن قال: وصار في هذه الأزمنة التحليل كثيراً مشهوراً، والثلاث ثلاثاً ، وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين:

أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام لا سيما كثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرماً عند نفسه.

 

 

الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدوداً على عهد الصحابة، والعقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله " ([238]) .

(2) مثال على تغير الفتوى بتغير الأمكنة:

وذلك فيما يتعلق بإنكار المنكر، فالمكان الذي سيترتب على إنكار المنكر فيه منكر أكبر منه يحرم الإنكار فيه، بينما المكان الذي يزول فيه المنكر بالكلية دون أي مفسدة، أو أنه يزول لكن سيترتب على ذلك منكر آخر أخف منه، فإنه حينئذ يجب الإنكار فيه.. وهكذا فإن الفتوى تتغير حسب ظروف كل مكان.

(3) مثال على تغير الفتوى بتغير أحوال الأشخاص:

يجوز بيع العنب للناس، إلا إذا تحققنا أن من يشتريه سيصنعه خمراً ،

فلا يجوز حينئذ، ومثل ذلك بيع السلاح لمن يشارك به في حرب المسلمين أو حروب الفتن، فإن ذلك لا يجوز. ومثل ذلك تأجير بيت أو محل لمن يغلب على الظن أنه سيستخدمه في الفساد ونشره، فإن ذلك لا يجوز وما سوى ذلك فجائز لأن الأصل الجواز.

(4) مثال على تغير الفتوى بتغير العوائد والأعراف:

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " مما تتغير به الفتوى لتغير العرف

 

والعادة موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها. فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف: لا أركب دابة وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة: الحمار خاصة، اختصت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس، ولا الجمل...

وكذلك إذا حلف: لأكلت رأساً في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة، لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها... إلى أن قال: فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه، فتجني عليه، وعلى الشريعة، وتنسب إليها    ما هي بريئة منه، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد مالم يلزمه الله ورسوله به ، ففقيه النفس يقول : ما أردت ، ونصف الفقيه يقول : ما قلت ؟ " ([239])  أهـ.

ولو تأملنا أكثر الأمثلة السابقة لوجدنا بعضها يقع تحت قاعدة سد الذرائع ، وبعضها تحت الضرورة، والمصلحة وبعضها تحت قاعدة: الا مور بمقا صد ها... وهكذ ا.

والمقصود من كل ما سبق بيانه حول قاعدة تغير الفتوى بتغيير الأزمنة والأمكنة والعوائد... إلخ التأكيد على أن هذه القاعدة لها ضوابطها، وأنها لا تعني تغير أحكام الله تعالى وتبديلها، فإن هذا لا يكون إلا بالنسخ والنسخ قد أغلق بابه بموت النبي e ،وإنما المقصود بيان أن من

 

الأحكام ما هو مرتبط بمناطاتها من الأحوال والأزمنة والأمكنة والعوائد والأعراف، والتي تؤثر بدورها في فتوى المفتي جوازاً، أو منعاً، كما مر بنا في الأمثلة السابقة.

ومع وضوح هذا الأمر فإن هناك ممن يتبع الشبهات ويميل مع الشهوات يريد أن يتكئ على هذه القاعدة في تغيير أحكام الله تعالى وانسلاخ الناس منها لتغير الزمان أو المكان. وأن من الأحكام ما لا يصلح في هذا العصر ولا يواكب تطوراته ويقول قائلهم: لقد تغير الزمن اليوم وأصبح كشف عورات النساء واختلاطهن بالرجال أمراً عادياً وتقليداً معروفاً، خصوصاً وقد أصبح لهن من ضرورات الخروج إلى الوظائف والمصانع ما يصعب عليهن معه التستر، فلتتغير الفتوى في ذلك إلى ما يناسب حال العصر. أو يقول: لقد كان تحريم الربا يوم لم تكن شؤون المال والاقتصاد معقدة بالشكل الذي نراه اليوم. أما الآن فلا بد من      تغيير الحكم والفتوى حسب ما آلت إليه حال الزمان والناس !! ومما        يزيد المصيبة شناعة أن هؤلاء القوم يهرفون بما لا يعرفون ويتشبعون بما       لم يعطوا، ومالهم من علم الشريعة وقواعدها وأدلتها من حظ ولا          نصيب ؟ وقد يكون لبعضهم شيء من العلم لكنهم كما قال شيخ الإسلام عن علماء الكلام: "أوتوا علوماً ولم يؤتوا فهوماً، وأوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاءً "

نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثالث

ذكر بعض المخالفات في السلوك و المعاملات

 

وفي هذا المبحث سأتطرق إن شاء الله تعالى إلى ذكر بعض مظاهر المخالفات التي ظهرت في حياتنا اليوم، وذلك فيما يتعلق بالسلوك والمعاملات، والتساهل في الأخذ بالأحكام الشرعية. أخص بها نفسي وإخواني الدعاة وطلبة العلم والمصلحين في هذه الأمة.

ولا أقصد بهذه المخالفات تلك التي يلم بها المسلم ثم يتوب منها، ولا

يصر عليها؟ فإن مثل هذه لا يسلم منها أحد إلا من عصم الله عز وجل؟ ولكني أقصد تلك الانحرافات والمخالفات التي ضربت بأطنابها في حياة الكثير منا، وأصبحت جزءاً من ممارستنا، وضعف الكثير منا عن مقاومتها والسعي في التخلص منها؟ بل وذهب البعض إلى تبريرها والتعلق بأدنى شبهة لإضفاء الشرعية عليها.

ونظراً لكثرة هذه المخالفات وتنوعها، وعدم الاستطاعة على الإحاطة بها، وحصرها، ولكي يسهل متابعتها وإدراك خطورتها فإنه يمكن تقسيمها إلى الأقسام التالية:

القسم الأول: المخالفات المتعلقة بالسلوك الفردي.

القسم الثاني: المخالفات المتعلقة بالبيت والأسرة.

القسم الثالث: المخالفات المتعلقة بالمرأة في نفسها ومجتمعها.

القسم الرابع: المخالفات المتعلقة بكسب المال وإنفاقه.

وقبل الدخول في تفاصيل كل قسم، أود الإشارة إلى أن هناك ارتباطا شديدا بين الانحراف في الفكر والتصور والعقيدة، وبين المخالفات السلوكية بشتى أنواعها؟ فلا يكون هناك خلل في السلوك إلا وقد سبقه خلل في التفكير والتصور والاعتقاد، وسيظهر هذا واضحا عند ذكر المظاهر والأمثلة لكل قسم. وعلى سبيل المثال، فإنه عندما نتأمل في كثير من المخالفات السلوكية سواء منها الفردية أو الجماعية، أو فيما يتعلق بالمرأة أو الأسرة. نجد أنها مرتبطة أشد الارتباط بمسألة التشبه بالكفار وتقليدهم وهذا لا ينفك عن عقيدة الولاء والبراء. ولو كانت هذه العقيدة قوية في نفوس الناس لما وقعوا في موالاة أعدائهم المتمثلة في التشبه بهم وتقليدهم في عاداتهم، وسلوكياتهم المخالفة لما شرع الله عز وجل. كما أن بعض المخالفات السلوكيه إنما تنشأ من شبهة في فهم الدليل أو فهم مناطه؟ كما أن كثيرا من المخالفات إنما تنشأ عن شهوة وضعف إيمان، لا عن شهبة وجهل بالحكم الشرعي. والمقتفي لمنهج أهل الاستقامة: أهل السنة والجماعة يجب أن يلتزم بمنهجهم في السلوك والمعتقد، وليس في أحدهما فقط.

 

القسم الأولى: المخالفات المتعلقة بالسلوك الفردي

 

ما أكثر ما نقع فيه من المخالفات الشرعية في سلوكنا الفردي، سواء

منه ما كان بيننا وبين الله عز وجل، أوما كان متعلفا بحقوق العباد.

ولما كانت العبوديات موزعة على القلب واللسان والجوارح؟ فإنه يمكننا

تقسيم المخالفات سواء كانت بترك واجب أو فعل محرم على هذه المواطن الثلاثة:

ا لأول: المخالفات القلبية (الباطنة)

ويقصد بها الإخلال بالواجبات القلبية، أو الوقوع في المحرمات القلبية. والوقوع في المخالفات القلبية يعد أشد أنواع المخالفات، وذلك لخفائها عن الناس، وغفلة صاحبها عنها، ولأنها كذلك تعد أصل المخالفات الظاهرة، حيث أن القلب سيد الأعضاء؟ فبصلاحه أو فساده تصلح أو تفسد بقية الأعضاء. لذا وجب على العبد الاعتناء بقلبه، وماعليه من الواجبات فيؤديها، وما عليه من المحرمات فيجتنبها. ومن أهم المخالفات القلبية الشائعة ما يلي:

1- ضعف التوكل على الله عز وجل: التوكل على الله عز وجل من أعظم أعمال القلوب وعبودياتها. وحقيقته كمال الاعتماد على الله عز وجل، مع كمال الثقة به. ويتفرع عن التوكل عبوديات كثيرة منها الخوف والرجاء والرغبة والرهبة وغيرها. ولا يعني التوكل ترك الأسباب والركون إلى العجز والتواكل؟ وإنما حقيقتة مباشرة الأسباب التي أمر الله عز وجل بالأخذ بها، دون الاعتماد عليها أو الثقة بها وإنما الاعتماد والثقة على الله وبالله عز وجل الذي هو خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي وضع في الأسباب آثارها ولو شاء لنزعها منها فلم تؤد أثرها.

ولذلك فإن من مظاهر ضعف التوكل على الله عز وجل الاعتماد على ما خلقه الله سبحانه من الأسباب، والركون إليها، والهلع والخـوف من

فواتها، وكأن السبب ينفع أو يضر استقلالاً. ولأجل ذلك قد يقع الراكن إلى الأسباب في محرمات أو ترك واجبات، وقد يصرف خوفه ورجاءه- اللذين لا يجوز صرفهما الا لله عز وجل- لمخلوق ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن أن يملكهما لغيره.

والتوكل لا يتحقق في القلب بمجرد العلم به وبحقيقته، فهذا لون والتعبد لله عز وجل به لون آخر. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الثه تعالى: "وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص... ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل. فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته، وتفاصيله؟ فيظن أنه متوكل، وليس من أهل التوكل؟ فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به، وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها، ودواعيها. وحال المحب العاشق وراء ذلك، وكمعرفة علم الخوف. وحال الخائف وراء ذلك، وهو شبيه بمعرفة المريض ما هية الصحة وحقيقتها. وحاله بخلافها. فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوي فيه بالحقائق، والعوارض بالمطالب، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ([240]) .

وعن هذا المعنى يقول محمد قطب حفظه الله وهو يؤكد على ضرورة التربية عليه وتحويل المفاهيم إلى واقع وحال فيقول: " يقول سبحانه وتعـالى: (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذريات:58] ، ولو

أنك سألت أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله، ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق، يقول: فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه الكلمة؟

دلالتها أن تلك البديهة ذهنية فحسب، وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة؟ لأنها ليست عميقة الجذور... فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الثه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله هو المحصي المميت، وأن الله هو الضار النافع، وأن الله هو المعطي والمانع، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الذي بيده كل شيء...

ترى كم جلسة؟! كم درساً ؟! كم موعظة ؟! كم توجيهاً يحتاج إليها الإنسان ؟! ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر، وأن المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهو بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه وضرائه سواء، ويعلم يقيناً أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً" أهـ ([241]) .

2- إرادة الدنيا بعمل الآخرة:

وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وصاحب العمل. وقد يكون من الخفاء والدقـة بحيث قد يخفى حتى على الإنسان نفسه ، ولذا

وجب الحذر واليقظة ومحاسبة النفس على ما أرادت بهذا القول أو هذا العمل. وقد سماه النبي e الشرك الحفي وذلك في قوله: (( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالو: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي؟ يقوم الرجل فيصلي فيزين من صلاته لما يرى من نظر رجل))([242]) .

وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله e: (( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض. فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) ([243])  .

ونجد مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل حيث يقول الله تعالى: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ*   أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) [هود:15،16].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "... وقال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء"([244]) .

 

 

وعلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "قد ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم ولا يعرفون معناه.

الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه

الله من صدقة وصلة وإحسان إلى الناس، ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم أو كلام في عرض ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله، لكنه   لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن الله يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله، وإدامة النعمة عليهم ونحو ذلك، ولا همة له في طلب الجنة، ولا الهرب من النار فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب.

والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالاً صالحه، ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة، وهو يظهر أنه أراد وجه الله، وإنما صلى أو صام أو تصدق أو طلب العلم لأجل أن يمدحه الناس، ويجل في أعينهم؟ فإن الجاه من أعظم أنواع الدنيا. ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع: بكى معاوية بكاء شديداً      ثم قرأ هذه الآية.

النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة ومقصده بها مالاً ، مثل أن يحج لمال يأخذه، لا لله ، أو يهـاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو

يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر هذا النوع أيضاً في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح: (( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة)) ([245])  إلخ. وكما يتعلم العلم لأجل مدارسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن، ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع الكثير.

النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده

لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أوصاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر، أو كفر أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية... "([246]) أهـ.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عمن حج عن الغير ليوفي دينه فأجاب: "أما الحاج عن الغير لأن يوفي دينه، فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل. والأصح أن الأفضل الترك، فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة ليس من أعمال السلف، حتى قال الإمام أحمد: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحد بشيء. ولو كان هذا عملاً صالحاً لكانوا إليه مبادرين، والإرتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين. أعني إذا كان إنما مقصوده بالعمل إكتساب المال. وهذا المدين

يأخذ من الزكاة ما يوفي به دينه خير له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه، ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين:

إما رجل يحب الحـج، ورؤية المشاعر، وهو عاجز. فيأخذ ما يقضي

به وطره الصالح، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج.

أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة بينهما، أو لرحمة عامة بالمؤمنين، ونحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك.

وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ. وهذا

في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن أرتزق ليتعلم أو ليعلم، أو ليجاهد، فحسن. كما جاء عن النبي e أنه قال : (( مثل الذين  يغزون من أمتي . ويأخذون أجورهم. مثل أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرها )) ([247]) شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه كرغبة أم موسى في الإرضاع، بخلاف الظئر المستأجر على الرضاع، إذا كانت أجنبية.

وأما من أشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا.

ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدينا وسيلة، ومن تكون الدينا مقصوده والدين وسيلة. والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق.

 

كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها" ([248]) .

والشاهد من هذه الفتوى قوله في آخر الفتوى "ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة... ".

وفي ضوء هذه القاعدة الجليلة ينبغي أن يستعرض الواحد منا أعماله الأخروية، وينظر إلى مقصده، ودافعه في أدائه لأعمال البر من إمامة وأذان، وحج ودعوة، وطلب علم، وجهاد... إلخ. هل يريد من ذلك المال والدنيا فحسب أم أنه يريد الآخرة والدنيا تبع؟ فإن كانت نيته للدنيا، فليبادر إلى إصلاح مقصوده حتى لا يضيع نصيبه منها في الآخرة، وإن وجد الآخرى فليحمد الله تعالى على ذلك. ولا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه، ويزكي نيته وقصده، فإن مثل هذه المسائل تكون من الخفاء بحيث قد لا يشعر بها العبد إلا بعد التقصي والتدقيق؛ فهؤلاء هم أصحاب محمد e؛ قال الله عز وجل فيهم يوم أحد: (( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)) [آل عمران: 152]، فكيف بمن بعدهم؟

ولقد كان سلفنا الصالح يخافون على أنفسهم من عدم إخلاص النية لله عز وجل، وكانوا يدققون في أقوالهم وأعمالهم، هل أرادوا بها الدار الآخرة أم أرادوا بها الدنيا.

 

* فعن جبير بن نفير أنه سمع أبا الدرد اء، وهو في آخر صلاته، قد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه فقال جبير: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق فقال: دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه "([249]) .

* وعن محمد بن مالك بن ضيغم قال: حدثني مولانا أبو أيوب قال: قال لي أبو مالك يوماً: يا أبا أيوب إحذر نفسك على نفسك، فإني رأيت هموم المؤمنين في الدنيا لا تنقضي، وأيم الله لئن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هم الدينا وشقاء الآخرة. قال قلت: بأبي أنت وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو ينصب لله في دار الدنيا ويدأب؟ قال: يا أبا أيوب فكيف بالقبول وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همته، قد أصلح عمله، يجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه "([250]) .

* وعن عون بن عمارة قال: سمعت هشاماً الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل. وعلق الذهبي على هذا بقوله: قلت: والله ولا أنا. فقد كان  السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم  منهم أولاً لا لله وحصلوه، ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم

إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره.: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد. وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا الله، فهذا أيضا حسن. ثم نشروه بنية صالحة. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا، وليثنى عليهم فلهم مانووا: قال عليه الصلاة والسلام: (( من غزى ينوي عقالاً فله ما نوى)) ([251]) . وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.

وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش فتئا لهم، فما هؤلاء بعلماء!

وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار... "([252]) .

وعن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: "مابال كلام السلف أنفع من كلامنا قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق "([253]).

 

 

وبقي أن أشير بهذه المناسبة إلى آفة دقيقة هي من الآفات التي قد تقدح في النيات، وهي التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لمنزلة التهذيب عند قول الهروي: "وهي على ثلاث درجات الأولى: تهذيب الخدمة أن لا يخالجها جهالة ولا يشوبها عادة ولا يقف عندها همة ".

قال ابن القيم في شرحه لهذا الكلام: "النوع الثاني: شوب العادة.

وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها، معينة عليها، وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة، كمن اعتاد الصوم- مثلا- وتمرن عليه. فألفته النفس، وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء، فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية، وإنما هو تقاضي العادة.

وعلامه هذا: أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك، وأيسر منه، وأزم مصلحة: لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته، كما حكى عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوباً بحظي ، وذلك: أن والدتي سألتني أن أستقى لها جرعة ماء، فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجَّات كان بحظ نفسي وإرادتها، إذ لو كانت نفسي فانية([254]) لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع " ([255]) . أهـ.

وهذه مسألة مهمة يجب أن يتفطن لها ويخاصة من يجهدون أنفسهم

في الدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيله، وذلك حتى لا تتحول هذه الجهود إلى عادة، ويغيب فيها أو يضعف دافع الإخلاص لله تعالى، وابتغاء مرضاته، وحتى يتخلص من دافع حظوظ النفس، وما ألفته واعتادت عليه. وهذا يحتاج إلى محاسبة ويقظة مع النفس حتى تستشعر العبودية لله تعالى في كل ما تأتي وتذر من الأقوال والأعمال الموافقة للشرع. وعند ذلك لا يقع المسلم فيما أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كونه يقوم بطاعة عظيمة شاقة بيسر وسهولة ثم يعجز عن الإتيان بطاعة أيسر منها. ومن أقرب الأمثلة في ذلك ما نراه في بعضنا اليوم من النشاط والتحمل في الدعوة إلى الله عز وجل بالمجئ والذهاب والحل والترحال، بينما يحصل العكس من ذلك إذا كان الأمر يتعلق بخدمة الوالدين وقضاء حوائجهما فليتفطن لذلك.

والحاصل أنه يجب التفتيش عما يشوب العبودية من حظوظ النفس وتمييز حق الله عز وجل من حظها، فلعل كثيرا منها يكون فيه حظ لنفوسنا ونحن لا نشعر. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فلا إله إلا الله، كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه. وإن العبد ليعمل العمل حيث لايراه بشر ألبتة، وهو غير خالص لله. ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا،  وهو خالص لوجه الله. ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها . فبين العمل وبين القلب مســافة . وفي تلك

المسافة قُطَّاع تمنع من وصول العمل إلى القلب... ثم بين القلب وبين الرب مسافة. وعليها قطاع تمنع من وصول العمل إليه، من كبر وإعجاب، ورؤية العمل، ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصي فى طلبها لرأى العجاب "([256]) .

3 - الخواطر الرديئة وا لأماني الباطلة:

وهذه من أعظم آفات القلب، ونجاصة إذا لم ترد في أول الأمر وتركت حتى استحكمت فيه.

وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلام بديع في تصويره لخطر هذه الآفات، لامزيد عليه. قال رحمه الله تعالى: " واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة. فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر، ولا القوة على قطعها؟ فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه، كما قال الصحابة: "يارسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه مـن أن يتكلم به فقال: (( أو قد وجدتموه؟ قالو: نعم قال: ذاك صريح الإيمان))([257]) وفي لفظ: (( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)) (1) وفيه قولان أحدهما: أن رده وكراهته صريح الإيمان. والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته به. وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحا الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصا طحنته. فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحا. ولا تبقى تلك الرحا معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً، ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.

فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً، فاستخدم الإرادة فتساعدت هي والفكر على استخدام الجوارح؟ فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالمنى والشهوة، وتوجهه إلى جهة المراد. ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وءاصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات   أسهل من تدارك فساد العمل ، وتداركه أسهل من قطع العوائد . فأنفع

الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك، دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر. ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه؟ فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه، ورضاه عنك. وكل الشقاء في بعدك عته، وسخطه عليك. ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيتا خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وارادتك، فإنه يفسدها عليك فسادا!عب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك؟ فمثالك معه مثال صاحب رحا يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب، وبعر، وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه. وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب، وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام، أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها، وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه، فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.

وجماع إصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح إرادة ما يضرك إرادته. وعند العارفين أن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها، فإن تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده..

وبمالجملة: فالقلب لا يخلو قط من الفكر. إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها مثل رحا تدور بما يلقى فيها؟ فإن ألقيت فيها حبا دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجا وحصى وبعرا دارت به، والله سبحانه هو قيم تلك الرحا ومالكها ومصرفها. وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها، فتدور به. وشيطاناً يلقي فيها ما يضرها، فتدور به؟ فالملك يلم بها مرة، والشيطان يلم بها مرة؟ فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالوعد. والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد. والطحين على قدر الحب. وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع، وقيمها قد أهملها وأعرض عنها فحينئذ يبادر إلى إلقاء ما معه فيها.

وبالجملة فقيم الرحا إذا تخلى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحب  النافع فيها وجد العدو السبيل إلى إفسادها وإدارتها بما معه. وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك . وفسادها كله في الاشتغال بما لا  يعنيك " ([258]) أهـ .

ويقول رحمه الله تعالى في حديثه عن الأماني بالباطلة " ... وأما الأماني فإنها رؤوس أموال المفاليس، أخرجوها في قالب الرجاء وتلك أمانيهم. وهي تصدر من قلب تزاحمت عليه وساوس النفس ، فأظلم من دخانها، فهو يستعمل قلبه في شهواتها، وكلما فعل العاقبة والنجاة وأحالته على الحفو والمغفرة، والفضل يستوفي حقه ولا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة. ويسمي ذلك رجاء وإنما هو وسواس، وأماني باطله تقذف بها النفس إلى القلب فيستريح إليها، قال تعالى:  (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)) [النساء:123]([259]) .

ومن الوساوس الخطيرة، والخواطر الرديئة التي تحوم الخواطر والاعتراضات على قدر الله عز وجل وقضائه، المصائب والشدائد، فيحصل من سوء الظن بالته عز والتسخط في القلب ما يتلفه ويهلكه؟ إلا أن يتدارك الله ى هذا القلب بإنابة إليه تعالى ورد سريع لهذه الخواطر.

 

 

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يعدد أنواع اعتراضات العبد على

ربه سبحانه.

(النوع اليرابع: الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره. وهذا اعتراض الجهال وهو ما بين جلي وخفي، وهو أنواع لا تحصى، وهو سار في النفوس سريان الحمى في يد المحموم. ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته  وإرادته وأحواله، لرأى ذلك في قلبه عياناً. فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفساً قد أطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها. فتلك حظها التسليم والانقياد، والرضى كل الرضا" ([260]) .

ومما يلحق بالوساوس القلبية ما ابتلي به بعض الموسوسين في الوضوء والصلاة والظنون الفاسدة بالناس من غير بينة ... إلخ . ويسمون هذه الوسوسة والاحتياط . يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( والفرق بين الاحتياط والوسوسة أن الاحتياط : الاستقصاء ، والمبالغة في اتباع السنة ، وما كان عليه رسول الله e وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ، ولا تقصير ولا تفريط ؛ فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله .

وأما الوسوسة  في ابتداع ما لم تأت به السنة ، ولم يفعله رسول    الله e ، ولا أحد من الصحابة زاعماً أن يصل بذلك إلى تحصيل المشروع

 

 

وضبطه، كما يحتاط بزعمه ويغسل أعضاة في الوضوء فوق الثلاثة، فيسرف في صب الماء في وضوئه، وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارا أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقين نجاسته احتياطاً ، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطاً.. إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون ديناً ورعموا أنه احتياط، وقد كان الاحتياط باتباع هدي رسول الله e ، وما كان عليه أولى بهم ؛ فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط، وعدل عن سواء الصراط. والاحتياط كل الاحتياط عن الخروج عن خلاف السنة ولو خالفت كثر أهل الأرض بل كلهم " ([261])  .

4- الحسد وكراهية الخير للناس:

وهذا الداء من أكثر الأدواء انتشارا في قلوب العباد، ولا يسلم منه إلا

من رحم الله تعالى.

والحسد داء عضال إن لم يتداركه صاحبه بالمجاهدة والمحاسبة، فإنه يهلك القلب بما يحمله من غش للمسلمين وحقد وبغضاء.

والحسد ئعرف بتمني زوال النعمة عن الغير سواء وصلت الى الحاسد

أم لم تصل، ومما يلحق بذلك الفرح بوصول الضرر والشر للمسلمين والغم والحزن بوصول الخير لهم نعوذ بالله من الخذلان.

والناس يتفاوتون في شدة الحسد وتمكنه من القلوب ؟ فبعضهم يضمر

الشر لأخيه المسلم ، ويسعى بجهده لإيصاله إليه ، أو قطع الخير عنه . وبعضهم لا يسعى بعمله في ذلك ، ولكن يهش ويسر بوقوع الضرر بالمحسود كما يسعد بزوال النعمة والخير عنه ، وكلا الفريقين من الحاسدين ، وإن كان الأول أشد وأخبث . وبعضهم يكون عنده هذا الشعور لكنه يكره ذلك من قلبه ، ويسعى لإبطاله بإيصال الخير لأخيه المسلم ، وقطع الضرر عنه . أي يسعى في مضادة ما يشعر به في قلبه من الحسد ، وهذا على خير في مجاهدة نفسه للتخلص من هذا المرض . وبعضهم وهم الكمل من الناس أصحاب القلوب السليمة ، الذين لا يضمرون شراً لأحد من المسلمين ،  ويفرحون بالخير لكل مسلم ، ويسوؤهم الشر الذي يحل بالمسلمين ، وما أقل هؤلاء في الناس .

والحاصل أن الحسد داء خطير يجب على المسلم أن يتفقد قلبه ،  ويجاهد نفسه في إزالته والتخلص منه .

وقد يختلط بالمنافسة ، والغبطة المشروعة ؛ فيحصل اللبس بينها ويظن الحاسد أن حسده من باب المنافسة، والغبطة. والأمر خلاف ذلك. ولإزالة اللبس بينهما أنقل ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الفرق بينهما حيث يقول:"والفرق بين المنافسة والحسد؛أن المنافسة: المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك ، فتنافسه فيه حتى تلحقه، أو تجاوزه، فهي شرف النفس وعلو الهمة ، وكبر القدر . قال تعالى : (( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) [المطففين:26] ، وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلباً ورغبة فتنافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه، كما كان أصحاب رسول

 

الله e يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً عليه مع تنافسهم فيه، وهي نوع من المسابقة وقد قال الله تعالى:     (( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )) [البقرة: 148] .

... والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير، والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها، حتى يساويها في العدم كما قال تعالى:    (( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً )) [النساء: 89] وقال تعالى :    (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ )) [البقرة:109] فالحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمن تمامها عليه وعلى من ينافسه؟ فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به، أو مجاوزته له في الفضل. والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان... وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة كما في الصحيح عن النبي e : (( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)) ([262])، فهذا حسد منافسة وغبطة يدل على علو همة صاحبه، وكبر نفسه، وطلبها للتشبه بأهل الفضل "([263]) .

 

5- الكبر والتعالي على الناس والعجب بالنفس:

عرف الرسول e الكبر بقوله: (( الكبر بطر الحق وغمص الناس)) ([264]) وهو داء خبيث، وعاقبته وخيمة، ويكفي في سوء عاقبته قولهe: (( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)) (1).

ولما كان الكبر هو رد الحق وعدم قبوله، أو غمط الناس حقوقهم والتعالي عليهم- لما كان كذلك- وجب الحذر منه، والخوف من أن يكون القلب متلبسا به، وصاحبه قد يشعر به وقد لا يشعر. وقد يظهر المتكبر كبره هذا في قالب علو الهمة، وعزة النفس وصيانتها ومهابتها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والفرق بين المهابة والكبر أن "المهابة" أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله له؛ فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور ونزلت عليه السكينة وألبس رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة، وحنت إليه الأفئدة وقرت به العيون... وأما "الكبر": فأثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، وترحلت منه العبودية ونزل عليه      المقت؟ فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار، لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهاً، لا يبدأ من لقيه بالسلام وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه ، ولا يسعهم خلقه ، ولا يرى لأحد عليه حقاً ، ويرى حقوقه على الناس ،

 

ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، ولا يزداد من الله إلا بعداً، ومن الناس إلا صغاراً أو بغضاً " ([265]) .

ويقول في موطن آخر واصفاً بعض دقائق من الكبر التي قد يكون بعضنا متلبساً بها، وهو يشعر أو لا يشعر: "... فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويرفعوه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بغضة لمن لم يفعل به ذلك. ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامناً، ولهذا تراه عاتباً على من لم يعظمه، ويعرف له حقه متطلباً لعيبه في قالب حمية لله، وغضب له... " ([266]) .

وقد يظهر المتكبر حميته لنفسه وغضبه لها في صورة حمية لله تعالى، وتعظيما لأمره،. ولكن الحمية لله تعالى لون، والحمية للنفس لون آخر، ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بينهما فيقول: "وكذلك الحمية لله ، والحمية للنفس، فالأولى يثيرها تعظيم الأمر والآمر. والثانية يثيرها تعظيم النفس والغضب لفوات حظوظها. فالحمية لله أن يحمي قلبه له من تعظيم حقوقه. وهي حال عبد قد أشرق على قلبه نور سلطان الله فامتلأ قلبه بذلك النور. فإذا غضب فإنما يغضب من أجل نور ذلك السلطان الذي ألقي على قلبه. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غضب احمرت وجنتاه، وبدابين عينيه عرق يدره الغضب، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ... وهذا بخلاف الحمية للنفس فإنها حـرارة

 

تهيج من نفسه لفوات حظها أو طلبه، فإن الفتنة في النفس، والفتنة هي الحريق، والنفس متلظية بنار الشهوة والغضب، فإنما هما حرارتان تظهران على الأركان، حرارة من قبل النفس المطمئنة أثارها تعظيم حق الله، وحرارة من قبل النفس الأمارة أثارها استشعار فوت الحظ "([267]).

ولعل مما يتعلق بالحمية للنفس، والإعجاب بها ما دأب عليه بعض المغرورين من جعل جل أوقاتهم ومجالسهم في النيل من مخالفيهم، والحديث المستمر عن أخطاء الدعاة أو العلماء، وأصبح هذا شغلهم الشاغل في مجالسهم، حتى نسوا أنفسهم وما هي عليه من تقصير في إصلاحها وإصلاح الناس. فمثل هؤلاء يخشى عليهم من العجب والكبر، والحمية للنفس وحظوظها.

6- حب الدنيا وركون القلب إليها:

يقول الله تعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))             [التوبة:24]

      وقال e: (( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط   عليكم الدنيا كما بسـطت على مـن كان قبلكم  ، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم))([268]) .

هكذا حذرنا الله عز وجل ورسوله  e   من الدنيا وزخرفها المتمثل

في الأموال والأولاد والمناصب والجاه، كما ذكرها الله سبحانه في العقبات الثمانية السالفة الذكر.

وإن المتأمل لأحوالنا اليوم بعد انفتاح الدنيا علينا من جميع أبوابها انفتاحاً لم يسبق له مثيل، ليشعر بالخوف على نفسه في كل لحظة من أن تأخذه الأمواج، كما أخذت غيره ممن كان يشار إليهم بالبنان في الصلاح والدعوة والجهاد.

واني في هذه العجالة لأخاطب وأحذر نفسي وإخواني الدعاة من هذا الخطر الذي بدأ يسري في حياتنا، وبأشكال كثيرة وفي أودية متشعبة، قد لا نشعر به، وقد نشعر به، ولكنه من الثقل والتشابك بحيث يصعب التغلب عليه والتخلص منه. وعلامة ذلك أنه لو وازن أحدنا بين هم الدنيا والحيز الذي تشغله من قلبه وتفكيره، وبين هم الآخرة، وهم هذا الدين لوجد أن البون شاسع والفرق كبير، ولوجد أن الدعوة وأمر هذا الدين طهر على اللسان والأعمال الظاهرة، أما القلوب؛ فلم يشغل منها إلا القليل، وأما الهم الأكبر فهو لهذه الدنيا ومتاعها الزائل؛ كل حسب اهتمامه وواديه الذي ذهب فيه من وديانها وشعابها التي ذكر الله عزوجل أهمها في سورة آل عمران بقوله:   (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ                                    وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ))

[آل عمران:14]

     إن مرض إيثار العاجلة على الآخرة يكاد أن يطم على حياة كثير منا؛ حيث نجد أن الكثرة الكاثرة في حقل الدعوة إلى الله عز وجل تحصر انتماءها إلى الدعوة في إلقاء خطبة، أو موعظة، أو حضور جلسة، أو درس أسبوعي أو شهري ثم ينصرف من ذلك بقلبه وقالبه إلى أعمال الدنيا، والتمتع بملذاتها، ومساكنها، ومراكبها، ويتوسع في ذلك بشكل يوحي إلى المتأمل فيمن هذه حاله أنه سيخلد في هذه الدنيا، وأن ليس له ما يشغل ذهنه إلا متاعها الزائل.

أما أن نسهم في دفع الغالي والنفيس في سـبيل الدعـوة إلى الله عز

وجل ومرضاته، والجهاد في سبيله، فأحسب أن هذا الصنف من الدعاة قليـل في هذا العصر، وصدق الرسـول e: (( إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)) ([269]).

ولا يفهم من هذا الكلام الامتناع عما أحل الله من الطيبات أو الامتناع عن التجارة،وطلب الرزق، بل كل ذلك محمود ما دامت التجارة لا تطغى على الدعوة، وما دام الداعية يستفيد من ذلك كله في دعوته، والتقديم لآخرته . أما أن تطغى التجارة، والدنيا بشكل عام على الدعوة،

والاهتمامات العالية، ويبدأ الداعية يعيش حياة التجار في ترف، وتنعم ورفاه، فهذا هو المذموم، وهذا هو الذي بدأ ينتشر في حياتنا اليوم، وهنا بداية الانزلاق، وبالذات إذا كان الداعي رأساً وموجهاً في حقل الدعوة إلى الله عز وجل.

فلنتصور داعية وموجهاً يقود دعوة، ويعتبر موجهاً لها، ثم هـو في

نفس الوقت نراه من تجار الدنيا، يخالط أهلها، ويشغل جسمه في النهار، وفكره في الليل بهذه الدنيا ومتاعها الزائل؛ إنه لا يمكن تصور ذلك أبداً، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

وقـل مثل ذلك، في الداعية الموظف الذي أخذت عليه وظيفته كل

وقته؛ عملاً رسمياً في نصف النهار الأول، ثم إضافياً في آخره، فأين ومتى وقت الدعوة والعمل في سبيل الله عز وجل؟ اللهم إلا ما تبقى من الوقت في الليل، حيث يأتي وهو كال الذهن، متعب الجسد، ويعزي نفسه بذلك، ثم يدور الوقت هكذا، وينصرم العمر القصير. والهم الأكبر هو متاع الدنيا وزخرفها الفاني. والله المستعان.

وقد يغالط بعض الدعاة نفسه، ويلبس على غيره في أنه يريد من التوسع في الدنيا نفع الدعوة، والبذل في سبيل الله عز وجل، والله أعلم بالسرائر، فكم رأينا من هؤلاء من توغلوا في الدنيا، فأخذتهم بأمواجها، وركنوا إليها ووضع الشيطان لهم في كل واد من أوديتها شغلاً وهماً، فتشعب الفكر والذهن فيها، وتولد من المال المكتسب استثمارات جديدة، وتوسـع صاحبنا في المباحات، والإسراف في المآكل والمشارب والمراكب

والمساكن، فلم يعد يرى في دروس العلم، ولا في لقاءت الخير، وإنما أصبح جلساؤه تجار الدنيا والراكنين إليه. ولذا كان من الأولى بمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها، وبخاصة في زماننا اليوم أن يتخفف منها قدر المستطاع، وأن يرضى منها بالكفاف لأن هناك تناسباً طردياً اليوم بين التكثر من أمور الدنيا، وبين كثرة الوقوع في الشبهات والشهوات، إلا أن يكون عملاً استثمارياً لدعم الدعوة ومجالاتها؛ فإن العمل في هذا المجال من العبادة والدعوة إذ لابد من المال للدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى.

7- قسوة القلب وعدم رقته وخشوعه:

يكاد هذ المرض أن يعم كثيراً منا في هذه الأزمة المتأخرة، ويندر أن يوجد شخص لا يشكو من هذه الآفة، وأسباب قسوة القلوب معلومة لا تحتاج إلى تفصيل، د ائماً نحن بحاجة إلى العزيمة في ترك هذه الأسباب ويكفي من هذه الأسباب ما أشرت إليه في الفقرة السابقة من حب الدنيا وامتلاء القلب بشهواتها، فكيف يمكن لقلب هذه حاله قد تفرق في شعاب الدنيا وأوديتها أن يخشع أو يرق أو يتدبر، فإذا أضيف إلى ذلك الذنوب والمعاصي استحكم تحجر القلب، ولم ير إلا خشوعاً ظاهراً في الجوارح أثناء الصلاة، أوقراءة القرآن، أو في سماع خطبة أوموعظة.وكان بعض السلف يسمون مثل هذا الخشوع خشوع النفاق.وقد فرق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق بقوله: " والفرق بين خشوع الإيمان وخشـوع النفاق أن خشـوع الإيمان هو خشوع القلب بالتعظيم

 

والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل، والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح. وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً والقلب غير خاشع.

وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ الله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق: قال: أن يرى الجسد خاشعاً، والقلب غير خاشع.

فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر وأشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حشي به، وخمدت الجوارح، وتوقر القلب، وأطمأن إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتاً له.

وأما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عن تكلف إسكان الجوارح تصنعاً ومراءاة، ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات وإرادات، فهو يتخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة" ([270]).

8- ضعف محبة الله عز وجل والحب فيه:

عن أبي أمامة عن رسول الله e أنه قال: (( من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان)) ([271]) .

وما أقل أهل هذه البضاعة اليوم، حيث صار حب أكثر الناس وبغضهم قائماً على الدنيا ومصالحها، وأصبحنا نجد من يحب لأجلها، ويعادي لأجلها، ويعطي ويمنع لأجلها، وهذا خلل عظيم في محبة الله عز وجل التي هي أصل العبادة ولبها. وقد سرى هذا الداء حتى وصل إلى بعض المنتسبين للدعوة والذين جعلوا حبهم، وبغضهم طائفياً حزبياً، بحيث يحبون من كان معهم في طائفتهم، وينقص هذا الحب أو ينعدم لمن ليس منهم. وقد أجاد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وأفاد حين قال: "فالحب في الله هو من كمال الإيمان. والحب مع الله هو عين الشرك. والفرق بينهما أن المحب في الحب تابع لمحبة الله، فإذا تمكنت محبته من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يحبه الله، فإذا أحب ما أحبه ربه ووليه كان ذلك الحب له وفيه، كما يحب رسله وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم، ويبغض من يبغضهم لكونه تعالى يبغضهم.

وعلامة هذا الحب والبغض في الله أنه لا ينقلب بغضه لبغيض الله حباً لإحسانه إليه وخدمته له وقضاء حوائجه، ولا ينقلب حبه لحبيب الله بغضاً إذا وصل إليه من جهته ما يكرهه ويؤلمه إما خطأ، وإما عمداً مطيعاً لله فيه، أو متأولاً أو مجتهداً أو باغياً نازعاً تائباً.

والدين كله يدور على أربع قواعد: حب وبغض. ويترتب عليهما فعل وترك،فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، بحيث إذا أحب أحب لله، وإذا أبغض أبغض لله، وإذا فعل فعل لله، وإذا ترك ترك لله، وما نقص  من أصنافه هذه الأربعة نقص من إيمانه ودينه بحسبه.

وهذا بخلاف الحب مع الله فهو نوعان: يقدح في أصل التوحيد وهو شرك، ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله ولا يخرج من ا لإسلام.

(فالأول) كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم قالى تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة:165]، وهؤلاء المشركون يحبون أوثانهم وأصنامهم وآلهتهم مع الله، كما يحبون الله، فهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والعبادة والدعاء. وهذه المحبة هي محض الشرك الذي لا يغفره الله. ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد وشدة بغضها وبغض أهلها ومعاداتهم ومحاربتهم، وبذلك أرسل الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه وخلق النار لأهل هذه المحبة الشركية، وخلق الجنة لمن حارب أهلها وعاداهم فيه وفي مرضاته، فكل من عبد شيئاً من لدن عرشه إلى قرار أرضه، فقد اتخذ من دون الله إلهاً وولياً، وأشرك به كائناً ذلك المعبود ما كان، ولا بد أن يتبرأ منه أحوج ما كان إليه.

(والنوع الثاني) محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة، والا"نعام والحرث، فيحبها محبة شهوة، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء، فهذه المحبة ثلاثة أنواع، فإن أحبها لله توصلاً بها إليه واستعانة على مرضاته وطاعته أثيب عليها وكانت من قسم الحب لله توصلاً بها إليه، ويلتد بالتمتع بها. وهذا حال أكمل الخلق الذي حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكانت محبته لهما عوناً له على محبة الله وتبليغ رسالته والقيام بأمره.

وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، بل نالها بحكم الميل الطبيعي كانت من قسم المباحات، ولم يعاقب على ذلك ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه.

وإن كانت هي مقصوده ومراده وسعيه في تحصيلها والظفر بها وقدمها على ما يحبه الله ويرضاه منه كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه.

فالأولى : محبة السابقي ن، والثانية : محبة المقتصدين والثالثه : محبة

الظالمين.

فتأمل هذا الموضع، ومافيه من الجمع والفرق، فإنه معترك النفس الأمارة والمطمئنة والمهدي من هداه الله "([272]).

ومما يقدح في صدق محبة الله عز وجل والمحبة فيه ما نراه اليوم من نعرات جاهليه يتعصب أهلها لبني قومهم أو وطنهم أو قبيلتهم على حساب الدين والأخلاق، حيث نرى من الناس من يفضل أبناء وطنه أو قبيلته على غيرهم ولو كان غيرهم أتقى وأعبد لله تعالى من بني جنسه، وهذا قدح في صدق محبة الله تعالى والحب فيه.

*       *       *

وأكتفي بهذه الأمثلة للمخالفات القلبية والآثام الباطنة، والتي سقتها على سبيل المثال لا على الحصر، لأنبه نفسي وإخواني على أن من طريق

 

أهل الاستقامة المحافظه على ثغر القلب الذي هو سيد الأعضاء وتنقيته من هذه الآثام وغيرها وحراسته من دخول الشيطان إليه فإنه كما أخبر الرسول e عنه بأنه إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، ولما كان القلب إنما يصل إليه الخير أو الشر من ثغرين ومنفذين أساسين هما السمع والبصر، فلا جرم تكرر ذكر امتنان الله عز وجل على عباده بهذه النعم الثلاثة: الفؤاد، والسمع، والبصر فقال تعالى: (( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)) [الملك:23]،وقال تعالى:      (( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [النحل:78]، ثم حذر سبحانه عباده من التفريط في هذه النعم وأنهم سيسألون عنها، قال تعالى: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الاسراء:36]

    يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في معنى الآية: "فيه وجهان من التفسير. الأول: أن معنى الآية: أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه!؟ ولم نظرت إلى مالا يحل لك النظر إليه!؟ ولم عزمت على مالم يحل لك العزم عليه؟ ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: (ولتسألن عما كنتم تعملون )، وقوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون )، ونحو ذلك من الآيات.

والوجه الثاني- أن الجوارح هي التي تسألى عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل.

قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة، فإنه يقع تكذيبه

من جوارحه، وتلك غاية الخزي كما قال: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون )، وقوله: (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون).

قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأولى أظهر عندي، وهو قول الجمهور. وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر، لأن قوله تعالى: (( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))  يفيد تعليل النهي في قوله: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) ، بالسؤال عن الجوارح المذكورة، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيمان والتنبيه: أن "إن " المكسورة من حروف التعليل. وإيضاحه: أن المعنى إنته عما لا يحل لك لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا تستعمل نعمه في معصيته " أهـ([273]) .

ولما كان قوله تعالى: ((وَلا تَقْفُ)) : متوجه إلى اللسان. وأن السمع، والبصر، والفؤاد،كل أولئك سيسأل العبد عنها وعما اقترفته هذه الجوارح من المعاصي فحسن في الصفحات القادمة أن نتعرف على مخالفات وآثام

 

هذه الجوارح وبخاصة ما يكثر منها في زماننا اليوم. وقد سبق الكلام أولاً عن المخالفات القلبية فيبقى الكلام عن المخالفات التي مصدرها البصر والمخالفات الصادرة عن السمع، والمخالفات الصادرة عن اللسان.

 

 

 

 

 

 

ثانياً: مخالفات البصر:

يصور الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تسلط الشيطان على ثغر العين ويحكي وصية الشيطان لجنوده بذلك بقوله: " فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره اعتباراً، بل اجعلوا نظره تفرجاً واستحساناً وتلهياً، فإن استرق نظره عبرة، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة والاستحسان والشهوة، فإنها أقرب إليه وأعلق بنفسه، وأخف عليه، ودونكم ثغر العين، فإنه منه تنالون بغيتكم؛ فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته، وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة؛ فلا تهملوا أمر هذا الثغر، وأفسدوه بحسب استطاعتكم... " ([274]) أهـ.

ومن أخطر آثام البصر- والتي حصل فيها التهاون في هذه الأزمنة- مايلي:

(1) إطلاق البصر إلى ما حرم الله عز وجل بالنظر إلى النساء الأجنبيات، أو إلى المردان من الغلمان.

 

 

قال الله تعالى: (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ))

[النور:30-31]

ولقد حصل تساهل كبير في هذا الأمر، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تبرجت فيها المرأة بشكل لم يسبق له نظير، وأصبحت المرأة ومفاتنها       تعرض بصور متعددة، وتولى الإعلام الفاجر بشتى مجالاته المقروء          والمشاهد كبر هذه المفاسد والفتن. ولم يسلم في هذا الزمان من فتن النظر إلى الأجنبيات وإلى صورهن إلا من رحم الله عز وجل. وبخاصة بعد       ظهور القنوات الفضائية وشبكات (الإنترنت)، التي أقبل عليها كثير من الناس، ومنهم بعض أهل الخير الذين يريد ون تقديم الخير من خلالها، فلا يلبث المتعامل مع هذه الأجهزة ومع مرور الوقت إلا أن يألف مناظر النساء، وشيئا فشيئا حتى يكون الأمر معتاداً، بل إن الإنفراد بهذه الأجهزة على هذه الحال، كمن يخلو بالمرأة الأجنبية، حيث يكون الشيطان ثالثهما، فكما تغري الخلوة بالمرأة بالفجور بها، فإن الخلوة بهذه الأجهزة تغري باقتحام المواقع التي فيها النساء الفاجرات من باب الفضول تارة، وتارة يبرر له الشيطان ذلك باستبانة سبيل المجرمين ورصد المواقع المفسدة!! فلا يلبث هذا المسكين أن يقع في شباك الشيطان، ولا يستطيع الصبر عن هذه المناظر، ولا يعلم إلا الله عز وجل مدى ما يترتب على ذلك من الفساد وضعف الإيمان والاستقامة. وهذا أمر حاصل فلقد سمعت أن بعض أهل

الخير صارت زوجاتهم يلاحظن عليهم هذا التحول، وما يصاحبه من ضعف في الاستقامة والسلوك بعامة.

عن جرير بن عبد الله قال: (( سألت رسول الله eعن النظرة الفجاءة قال: اصرف نظرك)) ([275]) ، قال ابن الجوزي: وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب، ولا يتأمل بها المحاسن، ولا يقع التلذذ بها، فمن استدامها مقدار حضور الذهن كانت الثانية في الإثم "([276]) . وقد تساهل الكثير منا بإطلاق بصره حيث يرى أنها من الصغائر، أو أنه ينظر بدون شهوة!! وهذا من تزيين الشيطان حتى يلقيه في حبائله. أو ما علمنا أن الزنا مبدؤه من النظر، قال الإمام المحقق ابن القيم في الداء والدواء: "والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد مالم يمنع مانع. وفي هذا قيل: الصبر على غض الطرف أيسر من الصبر على ألم بعده، وقا ل ا لشا عر:

كل الحوادث مبداها مــن النظر       ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها         فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والعبــد مادام ذاعين يـقلبها        في أعين الغيد موقوف على خطر

 

يســر ناظره ما ضر خاطره          لا مرحباً بسرور عاد بالضرر([277])

(2) النظر في كتب الكفر والإلحاد والبدع، والفسق والمجون.

وهذا إيضاً يعد من آثام البصر، ومخالفة لطريق أهل الاستقامة، حيث كانوا ينهون أشد النهي من النظر فيها للقراءة المجردة، لما تحتوبه من الشبهات، والكفريات، والاستهزاء بالدين وأهله؛ فكل هذا لا يجوز النظر فيه إلا لعالم متمكن مقصوده الرد على باطلها والتحذير منها. ويلحق بذلك النظر إلى مواقع أهل البدع والإلحاد في القنوات أو في شبكة (الإنترنت). وقل مثل ذلك في النظر في كتب الجنس والمجون والخلاعة، والتي تثير الغرائز وتهيج الشهوات، وتؤدي إلى الوقوع في الفساد والفاحشة، وما أدى إلى الحرام فهو حرام. ومع وضوح خطرها وآثارها السيئة، فإنا نجد في زماننا اليوم من هو مغرم بجمعها والقراءة فيها، مع عدم القدرة على تفنيدها، والرد عليها، بل إن الحاصل هو التأثر بشكل أو بآخر ببعض ما فيها مما يكون له الأثر السيىء على العقيدة أو السلوك والأخلاق. وحجة من يفعل ذلك هو ضرورة الإطلاع على الفكر المعادي، وفتح حرية القراءة والتفكير في هذا الزمان الذي لا تستطاع فيه العزلة وتغميض العينين!!

والعينان نعمة عظمية مـن نعم الله عز وجل ينبغي أن لا تصرف إلا

 

فيما ينفع صاحبها في الآخرة، فكيف إذ صرفت فيما لا ينفع بل فيمايضر.

(3) النظر إلى المنكرات دون قدرة على تغييرها.

وهذه أيضاً من مخالفات النظر، إذ قد يرى الإنسان منكراً من المنكرات، ويبقى ينظر إليه ويحضر في مكانه مع عدم قدرته على التغيير، وهذا منكر إذ لا يجوز إطلاق البصر إلى معاصي الله تعالى دون تغيير وإنما المتعين في هذه الحالة تغيير المنكر، أو صرف النظر عنه وهجر مكانه. وهذه المخالفة يكثر وقوعها في هذه الأزمنة التي تكثر فيه الاحتفالات البدعية بل الشركية، أو المهرجانات المملوءة باللعب والغناء والمجون، وقد يكون فيها من السحر والشعوذة ما يجذب الناس إليها، فكل هذا مما ينبغي صرف البصر عنه إلا لمغير له. وتكثر هذه المخالفات في أسفار الناس  وسيا حا تهم.

(4) الإكثار من النظر إلى متاع الدنيا وزخرفها والفتنة بمد البصر إلى ترف المساكن والمآكل والمراكب، والإهتمام بذلك والولوع بالنظر إليه. وهذا وإن كان في ذاته ليس بمحرم، إلا أن إدامة النظر إلى أحوال أهل الترف يصرف عن الآخرة، وقد يوقع الناظر فيها في المحرم، أو تكليف نفسه بما لا تطيق مسايرة لأهل الدنيا.

قال الله تعال لنبيه e: (( وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) [طـه:131]

(5) النظر إلى الناس نضرة شزر وحقد وتعالي.

ويتأكد حرمة هذه النظرة مع الوالدين الذين يجب أن يكون النظر إليهما نظرة ود ورحمة وتواضع وإنكسار. قال الله تعالى: (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً))

[الاسراء:24]

     (6) ومن مخالفات النظر: غمز العين للسخرية واللمز، أو غمزهما للفساد والفاحشة كما يفعله أهل المجون والغزل.

(7) ومن مخالفات النظر: نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى المرأة سواء كان ذلك إلى العورة المغلظة أو التي دونها، ويلحق بذلك نظر الطبيب أو الطبيبة إلى عورة المريض التي لا ضرورة إلى النظر إليها، وهذا يحصل كثيراً في المستشفيات وأثناء العمليات فليتنبه الطبيب المسلم إلى ذلك.

(8) النظر إلى عورات البيوت: وقد جاء التغليظ في ذلك في قوله e: (( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه)) [278] (1)، ويلحق بذلك الاطلاع على رسائلهم وكتاباتهم الخاصة التي لا يرضون باطلاع غيرهم عليها.

 

 

 

 

 

ثالثاً: مخالفات السمع.

يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى واصفاً تحريض الشيطان لجنوده في قيامهم على ثغر الإذن بأن الشيطان يقول لجنوده: (... ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا ألا تدخلوا منه إلا الباطل؛ فإنه خفيف على النفس، تستحليه وتستحسنه، وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب، وأمزجوه بما تهوى النفس مزجاً. وألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاء إليها فزجوه بأخواتها، وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره، وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله (e)، أو كلام النصحاء. فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء، فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به. إما بإدخال ضده عليه، وإما بتهويل ذلك وتعظيمه، وأن هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه، وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك. وإما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس، وأعز عليهم وأغرب عندهم، وزبونه القابلون له أكثر. وأما الحق فهو مهجور، وقائله معرض نفسه للعداوة. والرابح بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك؛ فتدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه، وتخرجون له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه "([279]) أهـ.

وإن منفذ الأذن ليعد المنفذ الخطير للخير والشر إلى قلب العبد. وإن أخطر ما يدخل من هذا المنفذ من المخالفات والآثام هو سماع ما حرم الله عز جل من المسموعات، وهي كثيرة ومتنوعة، ومداخل الشيطان منها متعددة، وبخاصة في زماننا اليوم الذي أحدث فيه المفسدون ما أحدثوا من المسموعات المحرمة والتي قل من يسلم منها وينجو. ومن أشهر هذه المحرمات المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم ما يلي:

ا- سماع الغناء المحرم الذي يؤجج الشهوة في النفس ويؤزها إلى الفواحش ويسكرها سكرا أشد من سكرة الخمرة وفعلها.

والغناء المحرم هو ما كان أداؤه بإحدى الوسيلتين التاليتين أو كلاههما.

الأولى: بأدوات المعارف والموسيقى كالطبل والعود والمزمار... إلخ. فسماع شيء من هذه المعازت حرام ولو لم يصاحبه أي شعر ولا كلام والدليل قوله e: (( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازفء ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة يقولون: ارجع إلينا غداً... الحديث)) ([280]) .

وقوله e: ((صوتان ملعونان؛ صوت مزمار عند نعمة، وصوت ويل عند مصيبة))([281]) .

ولم يستثن من هذه المعازف إلا "الدف " للنساء فقط في الأعراس والعيد. وهناك من الناس من يتوسع في مناسبات الأعراس بالزيادة على الدف، كالطبل وأدوات المعازف الأخرى، وهذا لا يجوز ولو كان بين النساء، لأن الشارع لم يأذن إلا بالدف لهن وهو الطبل المفتوح من أحد جهاته، كما أن الإذن للنساء مشروط بأن لا يكون فيما يقال مع الدف كلام محرم يثير الشهوات أو يثير الشحناء. وأن لا يكون بحضور النساء أو قريب منهن من يسمع أصواتهن من الرجال الأجانب.

الثاني: أداء بعض الأبيات الشعرية المتضمنة للمجون ووصف النساء والعشق أو لمز بعض الناس والسخرية بهم بصوت فيه نغمة. فهذا أيضا من الغناء المحرم، ولو لم يصاحبه أي آلة عزف وطرب.

وهذا أيضاً مما يتساهل فيه بعض الناس، ويظنون أنه بخلو الإنشاد من أدوات المعازف، فإن الحرمة ترتفع، ويقولون حينئذ ما يريدون وهذا غلط فاحش.

إن سماع الشعر أو أداءه بصوت منغم يجوز إذا خلا من أدوات المعازف، وكان الشعر مباحاً، أو فيه تحريض على الجهاد والخير والبر كما كان الصحابة يرتجزون أثناء حفر الخندق بأبيات منها:

نحن الذين بايعوا محمدا             على الجهاد ما بقينا أبدا

وكما كان للنبي e حادياً يحدو الإبل بصوت منغم تنشط فيه الإبل ويقطع به الطريق.

أما أن يأتي آت في هذا الزمان الخطير- الذي تنوعت فيه المعـازف

وسهل وصول سماعها للناس في البر والبحر والجو وتنافس المفسدون في تنويع أغانيهم ومعازفهم- فيقول بإباحة هذا النوع من الغنا فهذه زلة عظيمة عليه أن يتوب منها، وبخاصة إذا كان له تأثير في الناس، فهل يتحمل أوزارهم يوم القيامة، وقد كان سبباً في جرأتهم على هذه المفاسد، حيث وافق هوى في النفوس وميلاً إلى الشهوات، وغفلة عن الدار الآخرة. قال الله تعالى (( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)) [النحل:25]

     ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن أنواع السماع، وأن سماع الغنا من السماع المذموم المسكر للعقول فيقول :

"فأما المسموع فعلى ثلاثة أضرب:

أحدها: مسموع يحبه الله ويرضاه، وأمر به عباده، وأثنى على أهله ورضي عنهم به.

الثاني: مسموع يبغضه ويكرهه، ونهى عنه، ومدح المعرضين عنه.

الثالث: مسمع مباح مأذون فيه، لا يحبه ولا يبغضه، ولا مدح صاحبه ولا ذمه؛ فحكمه حكم سائر المباحات: من المناظر، والمشام، والمطعومات، والملبوسات المباحة "([282]) .

ثم فصل في السماع المذموم الذي يبغضه الله فقال: "القسم الثاني من السماع : ما يبغضه الله ويكرهه، ويمدح المعرض عنه ؛ وهو سماع كل ما

يضر العبد في قلبه ودينه، كسماع الباطل كله "([283]) .

ثم ذكر من السماع الباطل المحرم: سماع الغنا، وشرع يرد على شبه المبيحين له في كلام طويل منه قوله: "... وأما قولكم "لم يقم دليل على تحريم السماع " فيقال لك: أي السماعات تعني؟ وأي المسموعات تريد؟ فالسماعات، والمسموعات فيها المحرم، والمكروه، والمباح، والواجب، والمستحب؟ فعين نوعاً يقع الكلام فيه نفياً وإثباتاً. فإن قلت: سماع القصائد، قيل لك: أي القصائد تعني؟ ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه، وهجى به أعداؤه؛ فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها، وهي التي سمعها رسول الله e وأصحابه، وأثاب عليها، وحرض حساناً عليها، وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني. فقالوا: تلك قصائد، وسماعنا قصائد. فنعم إذن. والسنة كلام، والبدعة كلام، والتسبيح كلام، والغيبة كلام، والدعاء كلام، والقذف كلام، ولكن هل سمع رسول الله e وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع([284]) . وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعضها؟

ونظير هذا : ما غرهم من استحسانه e الصوت الحسن بالقرآن ،

وآدنه له وإذنه فيه ومحبة الله له.

فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم، بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد، وذكر القد والنهد والخصر، ووصف العيون وفعلها، والشعر الأسود، ومحاسن الشباب، وتوريد الخدود، وذكر الوصل والصد، والتجني والهجران، والعتاب والاستعطاف، والاشتياف، والقلق والفراق، وما جرى هذا المجرى مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر، بما لا نسبة بينهما. وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لا يستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين، سليباً حريباً، أسيراً قتيلاً؟

وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع؟ وهل يظن بحكيم

أن يحرم سكراً لمفسدة فيه معلومة. ويبيح سكراً مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب؟ حاشا أحكم الحاكمين.

فإن نازعوا في سكر السماع، وتأثيره في العقول والأرواح: خرجوا

عن الذوق والحس، وظهرت مكابرة القوم، فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته، ويبيح له ما فيه أعظم السقم؟ والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقيم الأرواح بسكر الشراب، وسقمها بسكر السماع. وكلامنا مع واجد لا فاقد، فهو المقصود بالخطاب...

... والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة: ثلاث قواعد. من

أهم قواعد الإيمان والسلوك. فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار.

 

القاعدة ا لأولى:

أن الذوق والحال والوجد: هل هو حاكم أو محكوم عليه، فيحكم عليه بحاكم آخر، ويتحاكم إليه؟

فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة. حيث جعلوه حاكماً فتحاكمو إليه فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد، وجعلوه محكاً للحق والباطل. فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص، وحكموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد. فعظم الأمر، وتفاقم الفساد والشر، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم...

القاعدة الثانية:

إنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال، أوحال من الأحوال، أو ذوق من الأذواق. هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق أو باطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين. وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه، وتعرض عليه، وتوزن به، فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول، وما أبطله ورده فهو الباطل المردود، ومن لم تبني على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله فليس على شيء من الدين، وإن وإن. وإنما معه خدع وغرور(( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [النور:39]

القاعدة الثالثة :

إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء: هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته؛ فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشرع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي.

ولا سيما إذا كان طريقاً مفضياً إلى ما يغضب الله ورسوله موصلاً إليه عن قرب، وهو رقية له ورائد وبزيد. فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر؛ فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات. ثم يبيح ما هو أعظم منه ستوقاً للنفوس إلى الحرام بكثير؟ فإن الغناء- كما قال ابن مسعود هو "رقية الزنا" وقد شاهد الناس: أنه ما عاناه صبي إلا وفسد، ولا امرأة إلا وبغت، لا شاب إلا وإلا، ولا شيخ إلا وإلا، والعيان من ذلك يغني عن البرهان، ولا سيما إذا جمع هيئة تحدو النفوس أعظم خذو إلى المعصية والفجور، بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لأهله، ومن المكان والإمكان، والعشراء والإخوان وآلات المعازف،: من التراع، والذف، والأوتار والعيدان. وكان القؤال شادنا شجى الصوت، لطيف الشمائل من المردان أو النسوان. وكان القول في العشق والوصال، والصد والهجران.

ودارت كؤوس الهوى بينهم             فلست ترى فيهم صاحيا

 

فكل على قدر مشـروبــه        وكل أجـاب الهوى الداعيا

فمالوا سكارى، ولاسكر من         تنـاول أم الهــوى خاليا

وجــاز على القوم ساقيهم         ولم يؤثـروا غـيره سـاقيا

فمرق منهم قلـوباً  غـدت         لباسـا عليه يرى ضـافيـا

فلـم يستفيقـوا  إلى أن أتى        إليهم منـادي اللقـا داعـيا

أجيبوا. فكل امــرئ منكم       على حـاله ربـه لاقـــيا

هنـالك تعلم مـن  حمـأة        شـربت مع القوم، أم صافيا؟

وبالله لابـد قبـل اللقــا        ستعـلم ذا إن تـك واعـيا

ولابـدتصحـو  ، فإما هنا       وإما هناك، فكن راضيا([285]) " أهـ.

2- سماع اللغو والباطل من القول من غير إنكار ولا رد.

وما أكثر اللغو والأقوال الباطلة التي يسمعها كثير منا من غير إنكار،

بل قد يصاحبها الانبساط والمشاركة، ومن ذلك ما يلي:

* سماع الخنا والقصص الغرامية ووصف النساء وأحاديثهن، وقد يكون من ذلك أحاديث الجماع وكناياته، وهذا كثير بين الناس.

 

 

 

 

قال الله تعالى: (( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون:3]

       وقال تعالى: (( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)) [القصص:55].

* سماع القصص التي تتعلق بأهل الدين بعامة كأئمة المساجد والمؤذنين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وذلك بغرض التندر إضحاك الناس سواء كان ما يقال عنهم صحيحاً أو كذباً، ومن ذلك أيضا ما يقرأ عنهم أو ينقل من الكتب التي تكتب في النوادر، فيقرأ على الناس ويسمعونه من غير إنكار، أما الكلام في معين، فهذا من الغيبة التي سيأتي الكلام عنها في فقرة قادمه. إن شاء الله تعالى.

*سماع الفاحش من القول الذي تبثه المسلسلات الإذاعية أو التلفزيونية، والمتضمن لأصوات النساء المتخضعات بالقول مع الرجال الأجانب وما فيه من الغزل والغرام والفاحش من القول.

* سماع الشبهات والأفكار المنحرفة سواء كانت على هيئة حوارات،

أو محاضرات، أو منتديات، أو تمثيليات.. إلخ. من غير إنكار ولا رد. وكل هذا ينبغي للمسلم أن يحمي سمعه عنه لكيلا يتشرب القلب ببعض هذه الشبهات، ولكي يحفظ المسلم وقته وعمره من أن يضيع فيما لا ينفعه في الآخرة.

أما من كانت لديه القدرة على رد الشبهات وتفنيد الباطل وفضحه للناس ؛ فإن الأمر حينئذ يختلف ويصبح في سماع الباطل مصلحـة لمعرفة

 

من وراءه والرد عليه وفضحه للناس وحمايتهم من خطره وشبهاته.

وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من حضور المجالس التي يخاض فيها بالباطل فقال: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68]

      وقد جعل الله عز وجل المشارك في مجالس الباطل دون إنكار لما فيها

من الأقوال الباطلة من ضمن أهل الباطل وذلك في قوله تعالى: (( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ)) [النساء: 140]،. وإن مما يؤسف له اليوم تلك المواقف المتميعة من بعض الدعاة تجاه الأقوال المبتدعة والأفكار المنحرفة، حيث مكنوا لأهل البدع بأن يقولوا باطلهم في مجلاتهم، ومواقعهم الإسلامية في شبكة (الإنترنت) أو في بيوتهم، ومنتدياتهم، وألقوا سمعهم إليهم بحجة الحرية الفكرية والنقاش الحر!! وفي هذا مخالفة لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله e، ومنهج السلف الصالح .

أما المخالفة للقرآن الكررم فكما مر بنا في آية الأنعام وآية النساء من النهي عن مجالسة الخائضين في الباطل، إلا أن يبين باطلهم وينكر عليهم، في حالة عدم القدرة على منعهم. أما أن تفتح لهم أبواب المجلات والمواقع والبيوت فهذا منكر قد نهى الله عز وجل عنه أشد النهي.

 

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى في سورة الأنعام: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ))  "المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، رالقدح فيه وفي أهله. فأمر الله رسوله أصلاً، وأمته تبعاً، إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور. فإن كان مصلحة، كان مأموراً به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.

ثم قال: (( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )) أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة: ((  فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) " يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور، عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على إزالته.

هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن

كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار. فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه- فهذا ليس عليه حرج ولا إثم ، ولهذا قال : (( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:69]، أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى"([286]) أهـ.

ويقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "والصواب

من القول في الآية أنها عامة وأن المخاطب بها أولاً بالذات سيدنا الرسول e وكل من كان معه من المؤمنين، فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها صحيح. والمعنى العام الجامع المخاطب به كل مؤمن في كل زمن: "وإذا رأيت " أيها المؤمن "الذين يخوضون في آياتنا" المنزلة من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين، "فأعرض عنهم " أي: انصرف عنهم وأرهم عرض ظهرك، بدلاً من القعود معهم، أو الإقبال عليهم بوجهك، "حتى يخوضوا في حديث غيره " أي غير ذلك الحديث الذي موضوعه الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من قبل الكفار، أو تأويلها بالباطل من قبل أهل الأهواء، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء، وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء، فإذا خاضوا في غيره فلا بأس بالقعود معهم. وقيل أن الضمير في "غيره " للقرآن لأنه هو المراد بالآيات فأعيد الضمير عليها بحسب المعنى.

وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه

أنه إقرار لهم على خوضهم، وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه. والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره

 

إلا منافق مراء أو كافر مجاهر. وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ويويدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين. ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع، لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته، مالا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم به وطعنهم فيها، كما لايقعد مختاراً مع المجادلين فيها المتأولين لها، وإنما يتصور قعود المؤمن مع الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها، كشدة الضعف، ولا سيما إذا كان في دار الحرب. ولم تكن مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات. ويدخل في أهل الأهواء المقلدون الجامدون الذين يحاولون تطبيق آيات الله وسنن رسوله على آراء مقلديهم بالتكلف، أو يردونها ويحرمون العلم بها بدعوى احتمال النسخ أو وجود معارض آخر... "([287]) .

أما ما ورد في السنة من النهي عن سماع الباطل، والخوض في آيات

الله عز وجل، فكما روى اللالكائي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي e فقال بعضهم : ألم يقل

الله كذا وكذا قال: فسمعهم رسول الله e فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: (( بهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض. إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا. فانظروا الذي امرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه)) ([288]) .

فهذا نبي الله e غضب أشد الغضب وأمرهم بالكف، ولم يفتح

لهم باب الحوار والمناظرة بحجة حرية الرأي والفكر!! لأنه e رحيم بأمته يخاف عليهم مما يكون سبباً في زيغهم وانحرافهم.

وأما ما جاء عن السلف من التشديد على أهل البدع وعدم السماع منهم، أو إعطائهم المجال لطرح أفكارهم وآرائهم؛ فالروايات في ذلك كثيرة ومن أشهرها: موقف عمر بن الخطاب من صبيغ بن عسل: فقد روى اللالكائي بسنده قال: أخبرنا أحمد بن على بن العلاء قال: ثنا أبو الأشعث، قال: ثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار، أن رجلاً من بني تميم يقال له اصبيغ بن عسل قدم المدينة وكانت عنده كتب فجعل يسأل عن متشابه القرآن فبلغ ذلك عمر فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين فما زال يضربه حتى شجه وجعل الدم يسيل عن وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي "([289]) .

فهذا هو فعل عمر مع الخائضين في الباطل المتبعين للشبهات، حيث لم يمكنهم من قول الباطل بحجة النقاش الحر وحرية التفكير!!

وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم([290]) .

وكان ابن طاووس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال: فجعل يتكلم قال: فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه قال: وقال لابنه: أي بني أدخل اصبعيك في أذنيك واشدد لا تسمع من كلامه شيئا قال معمر: يعني أن القلب ضعيف.

وأختم هذه المواقف بكتاب أرسله سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز

إلى الشيخ العلامة محب الدين الخطيب- رحمهما الله- ينبهه فيه سماحته حول ملحوظة وردت في مقال نشر في المجلة التي كان يصدرها محب الدين الخطيب.

فإليك نصها: (من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الاخ المكرم العلامة الشـيخ محب الدين الخطـيب رئيـس تحرير مجلة الأزهر

 

 

الغراء ([291])  وفقه الله آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في مجلتكم الغراء عدد ربيع ثاني سنة 76 صفحة 354 للشيخ محمد الطنينحي مدير عام الوعظ والإرشاد للجمهورية المصرية؛ حيث يقول في آخرها ما نصه " قد علمت أن الإيمان عند جمهور المحققين هو التصديق بما جاء به النبي e وهذا التصديق هو مناط الأحكام الأخروية عند أكثرهم، لأنه هو المقصود من غير حاجة إلى إقرار أو غيره؛ فمن صدق بقلبه، ولم يقر بلسانه، ولم يعمل بجوارحه كان مؤمناً شرعاً عند الله تعالى ومقره الجنة إن شاء الله " انتهى.

فاستغربت صدور هذا الكلام، ونشره في مجلتكم الغراء الحافلة بالمقالات العلمية والأدبية النافعة من جهتين:

إحداهما: صدوره من شخصية كبيرة تمثل الوعظ والإرشاد في بلاد واسعة الأرجاء كثيرة السكان.

والجهة الثانية: نشره في مجلتكم وسكوتكم عن التعليق عليه، وهو كلام- كما لا يخفى- فيه تفريط وإفراط؛ تفريط في جانب الدين،  ودعــوة إلى الانسلاخ من شرائعه، وعدم التقيد بأحكامه، وإفراط في

 

 

الإرجاء يظن صاحبه أنه على هدى، ويزعم أنه بمجرد التصديق قد بلغ الذروة في الإيمان، حتى قال بعضهم: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر بناء على هذا الأصل الفاسد، وهو أن الإيمان مجرد التصديق وأنه لا يتفاضل!

ولا شك أن هذا خلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة.

وقد كتبت في رد هذا الباطل كلمة مختصرة تصلكم بطيه، فأرجو نشرها في مجلتكم، وأرجو أن تلاحظوا ما ينشر في المجلة من المقالات التي يخشى من نشرها هدم الإسلام؛ فتريح الناس من شرها والرد عليها لأمرين:

أحدهما: أن نشر الباطل من غير تعليق عليه نوع من ترويجه والدعوة

إليه.

والثاني: أنه قد يسمع الباطل من لايسمع الرد عليه فتغتر به، ويتبع قائله، وربما سمعها جميعاً فعشق الباطل وتمكن من قلبه، ولم يقو الرد على إزالة ذلك من قلبه؛ فيبقى الناشر للباطل شريكاً لقائله في إثم من ضل به.

عصمني الله وإياكم وسائر إخواننا من أسباب الضلال والإضلال، وجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وليكن على بال فضيلتكم ما ثبت في الصحيح عن النبي e أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل

 

 

 

أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)([292])  والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)([293]) .

وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الشأن كثيرة ومعروفة.

فهل بعد كتاب الله عز وجل وسنة رسوله e، ومواقف سلفنا الصالح من كلام أو اجتهاد لمجتهد يرى فتح الباب لأهل الأهواء ليقولوا باطلهم بحرية ثم يرد عليهم بعد ذلك من شاء؟!

وياليت أن الأمر اقتصر عندهم على سماع الباطل من مواقع أهل الفساد. إذن لكان الخطب أهون. ولكن المصيبة أن يفتح بعض الإسلاميين صحف ومجلاتهم، وموا قعهم، وبيوتهم ومنتدياتهم، ويدعون أهل الأهواء إليها ضيوفا مكرمين. يتصدرون المجالس، والصفحات، ليقولوا فيها باطلهم، ويعطون من الوقت والكتابة مالا يعطى لأهل الحق وأتباع السلف!!

إن هذا الأمر خطير ينبغي الإقلاع عنه حتى لا يحمل فاعله وزر نفسه، ووزر من يضلهم بأقوال المبطلين بحجة النقاش الحر وحرية التفكير زعموا!!

 

 

3- سماع الغيبة والنميمة والبهتان دون إنكار.

وهذه الآفة من أخطر آفات السمع وأشدها انتشاراً، والقليل من عباد

الله عز وجل من ينجو منها.

وإن إلقاء السمع لهذه الآفات، من غير إنكار لها أو ذب عن عرض المسلم يعد مشاركة من السامع للمتكلم. والخطير في هذا الأمر أن المتكلم بهذه المحرمات أو المستمع لها قد يبرر لنفسه ذلك بحجة الإصلاح تارة، والتحذير من الشر تارة، والتوجع لحال المغتاب والرثاء لحاله تارة أخرى.

وقد ثبت عن النبي e أنه قال: (( ما من امرئ يخذل امرئ مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته. ومامن امرئ ينصر امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)) ([294]) .

ورأى عمر بن عتبة مولاه مع رجل وهو يقع في آخر فقال له: ويلك:

نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه نفسك عن القول به، فالمستمع شريك القائل. إنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولوردت

 

 

 

كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها، كما شقي بها قائلها"([295])  وإذا لم يمكن الرد عن عرض المسلم والإنكار على المغتاب والنمام والمستهزئ بالناس؛ فلا يجوز البقاء في مجلس تفشو فيه هذه الآفات.

وقد يكون سماع هذه الآفات مشافهة أو في مذياع أو شريط أو نحوهما، فالواجب تجنب سماع ذلك كله. وإن السعيد لمن جنب الفتن.

4- سماع الفاحش من الأقوال في سب الناس وشتمهم ولعنهم، وبخاصة فيما يجري بينهم من الخصومات والمظالم. فالواجب على المسلم تجنب المجالس التي ينتشر فيها الشتم والسب واللعن، ولو كان أهلها راضين ويمزحون بذلك، لأن الله عز وجل لا يرضى بها، ولا يحب الفاحش ولا المتفحش. وإذا ابتلي المسلم بمثل هذه المجالس فيجب عليه الإنكار والنصح، وإلا وجب عليه مغادرتها حماية لسمعه وقلبه.

5- سماع أسرار الناس والتجسس عليها، سواء كان ذلك عن طريق الإصغاء للمتحدثين وهم لا يشعرون من وراء حجاب، أو بالهاتف أو غير ذلك. وكل ذلك مما حرم الله عز جل سماعه قال الله تعالى: (( وَلا تَجَسَّسُوا)) [الحجرات:12]، وقال e : ((... ومن استمع إلى حديث قوم يكرهونه صب في أذنيه الآنك ([296]) يوم القيامة)) ([297]) .

 

 

 

 

 

 

 

رابعاً: مخالفات اللسان أو "آفات اللسان "

 

جارحة اللسان جارحة خطيرة. إذ هي المترجمة عما في القلب، وهي الثغر الأعظم الذي منها يصدر الخير أو الشر، والحق أو الباطل، ومايقال هنا عن اللسان ينطبق تماماً على ما يكتب بالقلم لأن القلم لسان.

وآفات اللسان ومخالفاته كثيرة ومتنوعة، ولها في القلوب المريضة حلاوة، ولها بواعث من الهوى والنفس، وقد قال رسول الله e: (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) ([298]) وفي حديث معاذ في آخره: ((.. كف عليك هذا)) فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: (ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟)) ([299]) .

 

 

 

وكما مــر بنا في ثغر الأذن والعين، بأن الشيطان يسلط ذريته على

هذين الثغرين. وقد مربناتصوير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إجلا ب    الشيطان على هذين الثغرين فيما سبق، وهو هنا يذكر وصية الشيطان لأوليائه في  قيامهم على ثغر اللسان قائلاً: "ثم يقول- أي الشيطان- قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع. ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهم ظفرتم:

أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

والثاني: السكوت عن الحق: فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: "المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس "؟

فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم، وأكبهم

منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من

 

هذا الثغر؟ وأوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها، والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها" أهـ([300]) .

وقبل تعداد بعض هذه الآفات أنقل شيئا من أقوال السلف، وأحوالهم تدل على خوفهم وحذرهم من ألسنتهم. ومن ذلك.

* عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر دخل على أبي بكر وهو          يجبذ لسـانه، فقـال عمر: مه غفر الله لك، فقال أبو بكر: هذا أوردني

ا لموارد([301]) .

* وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان[302] (3).

* وعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني، قال: لا تتكلم. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، قال: زدني. قال: لا تغضب قال  إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسسك لسانك ويدك. قال: زدني قال : لا تلابس الناس . قال : لا يستطيع من عاش في الناس أن لا

 

 

يلابسهم. قال: فإن لا بستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة([303]) .

* وقيل للفضيل بن عياض: ما الزهد؟ قال: القنوع، قيل: ما الورع؟

قال: اجتناب المحارم. قيل: ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض. قيل: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق. وقال: أشد الورع في اللسان.

قال الذهبي: هكذا هو، فقد ترى الرجل ورعاً في مأكله وملبسه ومعاملته، وإذا تحدث يدخل عليه الداخل من حديثه، فإما أن يتحرى الصدق، فلا يكمل الصدق، وإما أن يصدق، فينمق حديثه ليمدح على الفصاحة، وإما أن يظهر أحسن ما عنده ليعظم، هوإما أن يسكت في موضع الكلام، ليثنى عليه. ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة([304]) .

 

* وعن عباية بن كليب قالى: سمعت ابن السماك يقول: سبعك بين لحييك تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى أن نبشهم أخذ الخرق عنهم. إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟ ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً

لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك. أما سمعت: ارحم أخاك، واحمد الذي عافاك؟([305]) .

* وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى النه ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.

قال الذهبي: صدق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول : منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقل أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث. حتى إنه قال: إذا قلت فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه. وهذا معنى قوله: لا يحاسبنى الله أني اغتبت أحداً. وهذا هو والله غاية الورع([306]) .

* وقال يونس بن عبيد ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله[307] (3).

* وقال يحيى بن أبي كثير: ما صلح منطق رجل إلا عـرفت ذلك

في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر           عمله[308] (4).

 

 

وآفات اللسان ومخالفاته كثيرة أنقل منها ما ذكره ابن قدامة رحمه الله تعالى في مختصر منهاج القاصدين وذلك بشيء من الاختصار. يقول رحمه الله تعالى:

الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني.

واعلم أن من عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعني لأنه من ترك ذكر الله تعالى واشتغل فيما لا يعني، كان كمن قدر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها مدرة، وهذا خسران العمر.

وفي الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)) ([309]) .

وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ من حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيته،

ولا أتكلم بما لا يعنيني...

... الآفة الثانية: الخوض في الباطل.

وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق.

وأنواع الباطل كثيرة([310]) . وعـن أبي هريــرة ، عن النبي صلى الله

 

 

عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) ([311]) .

وقريب من ذلك الجدال والمراء وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع.

فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب، فإن قبل

منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان الأمر معلقاً بالدين، فأما إذا كان في أمور الدنيا، فلا وجه للمجادلة فيه، وعلاج هذه الآفة بكسر الكبر الباعث على إظهار الفضل، وأعظم من المراء الخصومة، فإنه أمر زائد على المراء. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) ([312])  وهذه الخصومة نعني بها الخصومة بالباطل أو بغير علم، فأما من له حق فالأولى أن يصدف عن الخصومة مهما أمكن   لأنها، توغر الصدر، وتهيج الغضب، وتورث الحقد، وتخرج إلى تناول العرض([313]) .

الآفة الثالثة: التقعر في الكلام. وذلك يكون بالتشدق، وتكلف السجع.

 

وعن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون)) ([314]) .

ولا يدخل في كراهة السجع والتصنع ألفاظ الخطيب، والتذكير من غير إفراط، ولا إغراب، لأن المقصود من ذلك تحريك القلوب، وتشويقها، ورشاقة اللفظ ونحو ذلك.

الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء، ونحو ذلك، فإنه مذموم منهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم. وفي الحديث: (( إياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش والتفحشط)) ([315]) ...

وفي حديث آخر: (( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) [316] (3).

واعلم: أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها.

 

 

ومن الآفات: الغناء.

وقد سبق فيه كلام في غير هذا الموضع.

ا لآفة الخامسة: المزاح.

أما اليسير منه، فلا ينهى عنه إذا كان صدقاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، فإنه قال لرجل: (( يا ذا الأذنين)) ([317]) ، وقال لآخر: (( إنا حاملوك على ولد الناقة)) ([318]) ، وقال للعجوز: (( إنه لا يدخل الجنة عجوز)) ([319]) ثم قرأ: (( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً)) [الواقعة:35-36]

      .. فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشياء:

أحدها: كونه حقاً.

والثاني: كونه مع النساء والصبيان، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء

ا لرجال.

 

 

 

والثالث : كونه ناداً ، فلا ينبغي أن يحتج به من يريد الـدوام عليه،

فإن حكم النادر ليس كحكم الدائم، ولو أن إنساناً دار مع الحبشة ليلاً ونهاراً ينظر إلى لعبهم، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف لعائشة وأذن لها أن تنظر إلى الحبشة، لكان غالطاً، لندور ذلك؛ فالإفراط في المزاح والمداومة عليه منهي عنه، لأنه يسقط الوقار، ويوجب الضغائن والأحقاد، وأما اليسير كما تقدم، من نحو نوع مزاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فيه انبساطاً وطيب نفس.

الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء.

ومعنى السخرية: الاحتقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وكله ممنوع منه في الشرع، ورد النهي عنه في الكتاب والسنة.

الآفة السابعة : افشاء السر ، وإخلاف الوعد ، والكذب في القول

واليمين.

وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته، وفي الحرب، فإن ذلك يباح.

وضابطه أن كل مقصود محمود لايمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فيه مباح إن كان ذلك المقصود مباحا ، وإن كان المقصود واجباً ، فهو

 

 

واجب([320]) ، فينبغى ان يحترز عن الكذب مهما أمكن.

وتباح المعاريض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن في المعاريض مندوحة عن الكذب)) ([321]) ، وإنما تصلح المعاريض عند الحاجة إليها، فأما مع غير الحاجة فمكروهة لأنها تشبه الكذب.

الآفة الثامنة: الغيبة.

وقد ورد الكتاب العزيز بالنهي عنها، وشبه صاحبها بآكل الميتة.

وفي الحديث: (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليك حرام)) [322] (3).

وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) ([323]) .

... وقال علي بن الحسين : إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس، والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة مشهورة.

ومعنى الغيبة: أن تذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقضا في بدنه، كالعمش، والعور، والحول، والقرع، والطول، والقصر، ونحو ذلك.

أو في نسبه، كقولك: أبوه نبطي، أو هندي، أو فاسق، أو خسيس، ونحو ذلك.

أو في خلقه كقولك، هو سيء الخلق، بخيل، متكبر، ونحو ذلك.

أو في ثوبه ، كقولك : هو طويل الذيل ، واســع الكم ، وسخ           الثياب.

والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الغيبة قال: (( ذكرك أخاك بما يكره). قالى أرأيت إن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال (إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) ([324]) .

 

 

واعلم: أن كل ما يفهم منه مقصود الذم، فهو داخل في الغيبة، سواء كان بكلام أو بغيره، كالغمز، والإشارة، والكتابة بالقلم، فإن القلم أحد اللسانين.

وأقبح أنواع الغيبة، غيبة المتزهدين المرائين، مثل أن يذكر عندهم إنسان فيقولون: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان، والتبذل في طلب الحطام، أو يقولون: نعوذ بالله من قلة الحياء، أو نسأل الله العافية، فإنهم يجمعون بين ذم المذكور ومدح أنفسهم.

وربما قال أحدهم عند ذكر إنسان: ذاك المسكين قد بلي بآفة عظيمة، تاب الله علينا وعليه، فهو يظهر الدعاء ويخفي قصده " أهـ([325]).

ومن الآفات التي لم ترد في كلام ابن قدامة السابق:

الآفة التاسعة: النميمة

وهي نقل الكلام بين الناس للإفساد ، وإيغار صدورهم على بعض.

وما أكثر من يتعاطاها اليوم، محاولاً تبرير ذلك بالنصيحة، أو التحذير        من الشر وأهله، أو غير ذلك من التلبيس والمغالطات. مع معرفة ما   يترتب على القول بها من عذاب الله تعالى وسخطه، ومن ذلك           حديث الرجلين الذين مر بقبريهما النبي e وهما يعذبان فقال : (( أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول واما الآخر فكان لا يمشي بالنميمة بين الناس )) ([326]) .

ومن أشد وأشنع أنواع النمائم نقل حديث الناس إلى الظلمة وإيغار صدورهم على أهل الخير ليلحقوا بهم الأذى .

فعن همام بن الحارث قال : مر رجل على حذيفة بن اليمان فقيل له : إن هذا يبلغ الأمراء الحديث عن الناس فقال حذيفة : سمعت رسول الله e يقول : (( لا يدخل الجنة قتات )) ([327]) ..

قال أبو عيسى ( الترمذي ) : قال سفيان : والقتات : النمام(2) .

الآفة العاشرة : قذف المحصنين والمحصنات .

وقد عدها الرسول e من الموبقات السبع التي ورد ذكرها في الحديث الصحيح : (( اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات )) ([328]) .

 

وسواء كان القذف صريحاً أو ترديد للشائعات ، والتهم الباطلة ، دونما تثبت وبرهان،فإن ذلك يعد ظلماً وبهتاناً.هذا وإن كان القذف يطلق

 

على المقذوف بالفاحشة، إلا أن قذف البريء بأي تهمة تقدح في عدالته وتجرحه عند الناس يعد من القذف المحرم كاتهامه بالسرقة والاختلاس، أو أكل الأمول بالباطل ونحو ذلك.

ومنشأ هذه الآفة اللسانية قد يكون حسداً وحقداً على المقذوف، فتنشر الإشاعة الكاذبة عنه لإنقاص قدره بين الناس، وتشويه سمعته، وقد يكون منشؤها عدم التثبت، والحديث بكل ما تسمع من الأقوال. وقد قال رسول الله e: (( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) ([329]) .

الآفة الحادية عشر: الكلام بما يخالف ما في القلب.

وهذه الآفة من أخص صفات المنافقين عياذاً بالله من النفاق، حيث وصفهم الله عز وجل بقوله: (( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)) [آل عمران:167]

ولو بحث الواحد منا عن نفسه لوجد شيئاً من ذلك بين مقل  ومكثر، وهي تكثر غالباً عند المتحدثين للناس، كالخطباء والوعاظ والمعلمين في حلق العلم والتربية، حيث يظهر المتحدث من الكلام  والوعظ والتوجيه والحرقة على الإسلام ما يظن السامع أن هذا هو    الذي في باطنه وقلبه، بينما قد يكون هذا الحديث باللسان فقط، دون تمكنه من القلب وتأثره به.

 

ولذلك علامات وقرائن يعرفها الإنسان من نفسه ويعرفها المحتكون به

من الناس.

ويلحق بهذه الآفة: صاحب الوجهين الذي يلقى هؤلاء بوجه ولسان، ويلقى غيرهم بوجه آخر ولسان آخر. وصاحب هذا الوصف من أشد الناس. فقد قال رسول الله e: ((... وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) ([330])  .

الآفة الثانية عشر: أكل أموال الناس بالباطل عن طريق اللسان.

وهذا يكثر في البيوع المحرمة، كأن يصف السلعة بغير ما فيها، أو يبيع على بيع أخيه أو يزيد في سعر السلعة وهو لا يريد شراءها وهو النجش، أو يكذب في ذكر سعر شرائه للسلعة.

أو كما يكثر ذلك عند المتسولين الذين يبتزون أموال الناس بكلام باطل كذب يصفون به أحوالهم، ليكسبوا عواطف الناس، فيتصدقون عليهم، وهم يجدون ما يقيهم عن المسألة. كما يلحق بذلك قطع حقوق الناس باللسان ظلماً وعدواناً.

الآفة الثالثة عشرة: مدح الفساق والظلمة والثناء عليهم.

لقد جاء النهي عن مدح الناس في وجوههم بعامة، ولكن يشتد النهي

إذا كان ذلك للظلمة والفساق وهذه الآفة شعبة من شعب النفاق. وقد

 

ظهرت بكثرة في هذه الأزمنة حتى طال شررها بعض المنتسبين للعلم والدعوة، وأصبحنا نسمع أو نقرأ كلاماً في مدح الظالمين والفساق شعراً أو نثراً.

ولا يخفى ما في هذه الآفة من الإثم الشديد على المتكلم بها، فوق ما فيها من تحمل آثام الناس الذين يضللون بتزيين صورة الظلمة والفساق في عيونهم. وأخطر ما في هذه الآفة أنها تضعف عقيدة الولاء والبراء في القلوب، وتنبت النفاق فيها.

الأفة الرابعة عشرة: التناجي بين إثنين دون الثالث.

وقد ورد في النهي عن ذلك الحديث المشهور عن رسول الله e، فعن ابن مسعود أن رسول الله e قال: (( إذا كنتم ثلاثة فلايتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه)) ([331]) .

وذلك لأن في ذلك إحزاناً للمسلم المتناجى دونه. والنجوى من الشيطان، وكذلك الحال لو تناجى أربعة دون الخامس أو خمسة دون السادس، وهكذا. كما يلحق بذلك التحدث بين اثنين بلغة لا يفهمها الثالث ولو كان الحديث بصورة علنية لوجود علة النهي في ذلك.

الآفة الخامسة عشرة: التحدث باللغة الأعجمية لغير حاجة.

اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ، ولغة أحــاديث الرسول e،

 

والأصل في المسلم أن يتحدث بلغة القرآن الكريم، ولغة أحاديث الرسول e، إلا إذا لم يكن في مقدوره ذلك.

أما أن يتكلم كثير من الناس اليوم لغة الأعاجم وبخاصة اللغة الإنجليزية، مع أن لسانهم عربي فهذا منكر وانهزامية ومشابهة للكفار، إلا أن تكون هناك حاجة في دعوة أو مخاطبة لمن لايعلم العربية، أو لقضاء حاجة أو منفعة، أو معرفة لحال الكفار وكيدهم، أو التجسس عليهم ونحو ذلك، فهذا شأن آخر.

والملاحظ اليوم أن كثيرا ممن تعلموا لغة الأعاجم وأتقنوها صاروا يتحدثون بها لغير حاجة، بل يتحدثون بها بينهم كما هو الحاصل بين الأطباء اليوم.

وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مسألة التحدث

بلغة الأعاجم لغير حاجة فقال: "وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية- التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن- حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم.

ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر،        ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية،         وأهل المغرب، ولغة أهلها بربرية: عودوا أهل هذه البلاد العربية، حتى

 

غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديماً.

ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب، وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف. بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب "([332]) .

وقال في موطن آخر: "فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية، أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين.

وقد قدمنا عن عمر وعلي ماذكره.

وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف، حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن ابن بريدة قال: قال عمر: "ما تكلم الرجل الفارسية إلا خب، ولا خب([333]) إلانقصت مروءته " ([334]) .

 

 

الآفة السادسة عشرة: القول بلا علم ولا عدل.

يقول الله تعالى: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الاسراء: 36] ويقول في الآية الأخرى: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا )) [الأنعام:152]

ففي الآية الأولى تحريم القول بلا علم وفي الثانية تحريم القول بلا عدل. والناس إزاء هذين القيدين الغليظين للقول أربعة أقسام:

الأول: من كان قوله بالعلم والعدل. وهؤلاء الكمل من الناس، وقليل ماهم، وهم الذين لا يتكلمون إلا بعد العلم والتثبت مما يقولونه، ثم إنهم بعد التثبت يعدلون في أقوالهم، ولا يجورون فيها بزيادة أو نقصان، أو ميل مع هوى وعصبية.

الثاني: من تكلم بعلم ولكن بدون عدل وهذا مذموم. لأن عدم العدل قد يدفعه إلى كتمان العلم، أو لبسه بالباطل، أو وضعه في غير محله ومناطه، أو تأويله وتحريفه.

الثالث: من تكلم بعدل، لكن بلا علم وتثبت؛ فهذا أتي من جهله وتلقفه للأخبار دون تثبت مما يقال ويسمع، لكن لديه من التقوى ما يمنعه من الظلم والميل مع هواه. وهذا أيضا مذموم، لأنه قد يقول أو ينقل كلاماً مكذوباً، أو يكون قد زيد فيه ونقص، ثم هو لم يتثبت من ذلك وتكلم بلاعلم.

الرابع: من تكلم بلا علم ولا عدل وهو أشر الأقسام وأمقتها عند الله عزوجل .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "... والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي e: (( القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة)) ([335]) ([336]) أهـ.

وأكثر الشائعات والتهم الباطلة التي توجه للأفراد والجماعات إنما يكون منشؤها هذه الآفة الخطيرة من آفات اللسان: إما القول بلا علم ولا تثبت، أو القول بلا عدل ولاخوف من الله عز وجل. وأخطر من القول على الناس بلا علم ولا عدل، القول على الله عز وجل بلا علم ولا عدل.

قال الله عز وجل: (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [لأعراف:33]

       فمن قال على الله ما لا يعلم، أو أفتى في دينه بغير علم، فقد تكلم بلا علم. أما إن كان يعلم مراد الله عز وجل، لكنه أخفاه أو كتمه أو لبسه بالباطل، أو أوله ليتوافق مع هواه فقد قال على الله عز وجل بلاعدل.

وسواء كان القول بلا علم، أو كان بعلم ولكنه بلا عدل، فإن هذا مما حرمه الله عز وجل ومقت أهله، بل جعله في هذه الآية أشد من الشرك، لأن الشرك بالله عز وجل إما أن يكون منشؤه الجهل، والقول على الله تعالى بلا علم، وإما أن يكون الهوى والتكبر على الحق بعد معرفته.

الآفة السابعة عشرة: الوقوع في بعض الألفاظ المنهي عنها وذلك مثل:

قول: ما شاء الله وشئت، والفهم اغفر لي إن شئت، ولو لا الله وأنت... وقول: خبثت نفسي. وقول: هلك الناس. وقول: يا خيبة الدهر.

وغير ذلك من الألفاظ المنهي عنها، وهي كثيرة جداً، ومنتشرة بين الناس ومن أراد الاستزادة من معرفة ذلك فليرجع إلى كتاب: (معجم النواهي اللفظية) للشيخ بكر أبو زيد حفظه الله تعالى.

 

 

*             *              *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مخالفات أخرى في السلوك الفردي

ا- مخالفات في الهدي الظاهر:

والمقصود بالهدي الظاهر، ما يظهر على المسلم في سمته وهديه الظاهر، مما يميزه عن غيره من الكفار، أو الفساق المخالفين لهدي الرسول e وسمته ودله

وإن مما يؤسف له أن يوجد اليوم من ينظر إلى هذه الأمور بمنظار التهاون، وأنها من القشور الذي ينبغي تجاوزها، والإهتمام باللب. ولا يخفى ما في هذه النظرة من غلط وانحراف، إذ ليس في الدين قشر ولباب، بل كله من الله عز وجل، وبالتالي يجب الاستسلام له سبحانه في الصغير والكبير، وأن يقوم في القلب تعظيم شعائر الله عز وجل وحر ما ته.

قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) [البقرة:208]([337])

. وقد سبق القول بأن تقسيم الدين إلى قشر ولباب هو من بدع من يسمون أنفسيهم اليوم بالعقلانيين أو العصرانيين([338]) وقد تأثر بهم من تأثر ممن وجدوا في هذه الشبهة متكأ لهم في الميل مع أهوائهم وشهواتهم.

 

 

 

ومن أشهر المخالفات في الهدي الظاهر ما يلي:

* عدم الأخذ بالهدي الظاهر من سنن الفطرة كإعفاء اللحية وقص

ا لشا رب.

قال e: (( عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء)) ([339])  فقد ذكر الرسول e في هذا الحديث أن إعفاء اللحية وقص الشارب، وتقليم الأظافر من السنن التي تدعوا إليها الفطرة السوية، ومع ذلك نجد التهاون الشديد في الأخذ بها، والاقتداء بالرسول e فيها، مع أن هناك نصوصاً أخرى غير حديث سنن الفطرة تأمر بإعفاء اللحية وإرخائها، وقص الشارب، أو حفه أمراً مكرراً ومؤكداً، من ذلك قوله e:  (( أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)) ([340])،وفي رواية: (( خالفوا المشركين،وفروا اللحى وأحفو الشوارب)) (2) فهل بعد هذه النصوص من حجة لمحتج في حلق اللحية أو بعضها، أو الاكتفاء بخيط رفيع من الشعر الخفيف، أو تقصيرها بما يشبه حلقها!!؟ ومع وضوح هذه الأدلة وصراحتها، إلا أنه مع ذلك يوجد من يجادل فيها، ويعارضها ببعض الشبهات التي لا تنهض لمواجهتها، ولو قام هذا المتساهل مع نفسه قومة لله عز وجل، ثم تفكر في هذه الأدلة بتجرد،لما كان أمامه إلا

الإذعان والتسليم، ولكنه الهوى والشهوة ومسايرة الواقع!!([341]) .

* إسبال الثياب وجر الإزار للرجال.

والوقوع في هذه المخالفة، مع ما جاء فيها من التغليظ والوعيد يكاد

أن لا يسلم منه اليوم إلا القلة القليلة من الناس، ويكفينا في ذلك الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر أن رسول اللهe  قال: (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) قال: فقرأها رسول الله e ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: (( المسبل والمنان، والمنفق سلعته بالحلف ا لكاذب)) ([342]) .

والإسبال يشمل جميع أنواع الثياب من قميص وإزار وسراويل، وعباءة فكل ما نزل من هذه الثياب تحت الكعب فهو من الإسبال المحرم.  * تقليد الكفار في الهدي الظاهر.

ومظاهر ذلك كثيرة، منها ما سبق ذكره من حلق اللحى وتوفير الشوارب، ومن ذلك أنواع الألبسة التي غزت المسلمين وضربت أطنابها فيهم. ومن أشهرها لبس البنطلون، وتوابعه من شـد الحزام في وسطـه

 

 

 

والتضييق على لابسه من غير حاجة أو ضرورة لذلك، وكذلك لبس ربطة العنق التي تكاد تخنق صاحبها لولا التقليد الأعمى.

ومع ما في هذه الألبسة من تشبه بالكفار ففيها محاذير شرعية أخرى، وذلك في كونها ضيقة. الأمر الذي يؤدي في الغالب إلى تحجيم أعضاء الجسم، بل تحجيم العورة وتحديدها، وبخاصة عند الركوع والسجود في الصلاة، ومع ما في ذلك من المحاذير الشرعية إلا أنها تكاد تعم أكثر المسلمين بما في ذلك بعض الدعاة، وطلبة العلم، وبخاصة عند السفر إلى بلاد الكفر والفساد.

ولقد ظهر اليوم بين أبناء المسلمين لباس غريب هو من شعار الكفار

ألا وهو القبعة التي توضع على الرأس، وما تحمل فوقها من الشعارات التي تمثل بعض نوادي الكفر ومنتجاته، أما لباس المرأة وتقليدها للكافرات فيه فسنؤجل الحديث عنه عند الحديث عن المخالفات التي تتعلق بالمرأة بشكل عام.

ومن ذلك أيضاً التشبه بهم في هديهم الظاهر في مساكنهم ومآكلهم ومشاربهم وطريقة أكلهم وشربهم وأثاثهم.. إلخ. وسنؤجل الحديث عن هذه المخالفات عند الحديث عن المخالفات التي تكون في محيط البيوت وا لأسر.

ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى خطورة التشبه بالكفار

في هديهم الظاهر، وأن ذلك ليس من القشور فيقول: (فالمشابهة والمشاكلة

 

في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي...

... والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافاً، وإن

بعد المكان والزمان...

والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما

أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس وا لتجربة... "([343]) .

* عبوس الوجه وتقطيب الجبين.

المؤمن هين لين يألف ويؤلف. ومن حسن السمت في الهدي الظاهر طلاقة الوجه وانطلاقة أساريره. فقد كان هذا من هديه e وفعله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (( تبسمك في وجه أخيك صدقة)) ([344]) .

وقال أيضاً: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)([345]) .

إذن فمن المخالفات في الهدي الظاهر عبوس الوجه، وإلاكفهرار في

 

 

وجوه الناس، وعدم التبسم. وقد أورد الذهبي في ترجمة يحي يبن حماد أن محمد بن النعمان بن عبد السلام قال فيه: لم أر أعبد من يحى بن حماد، وأظنه لم يضحك. ثم علق الذهبي على هذا القول بقوله: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:

أحدهما : يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله ، وحزناً على

نفسه المسكينة.

والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً، كما أن من أكثر الضحك استخف به. ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر سنه في الشيوخ.

وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله... وقال جرير :

"ما رآني رسول الله e إلا تبسم "([346]) . فهذا هو خلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكاء بالليل بساماً بالنهار"([347]) .

2 - التساهل في صلاة الجماعة:

إن مما يلاحظ اليوم على بعضنا من المنتسبين إلى الدعوة التساهل في أداء الصــلاة جماعة في المسجد، وبخاصة صلاة الفجر، إما ترك لذلك

 

 

 

بالكلية، والاكتفاء بالصلاة في البيت، أو بالتأخير عنها في أول وقتها وفوات تكبيرة الإحرام، أو بعض الصلاة والاستمرار على ذلك. حتى أن الناظر في الصفوف الأخيرة والتي تقضي بعد سلام الإمام ليرى أن فيها عدداً ليس بالقليل من الملتحين الذين ظاهرهم الاستقامة.

وفي هذه الفقرة لن أتطرق إلى مناقشة الذين يرون أن صلاة الجماعة

في المسجد سنة، لأن الأدلة في وجوب صلاة الجماعة واضحة وصريحة، ويكفي أن يقوم الواحد منا قومة لله عز وجل متجرداً من الهوى، ويفكر في هذه الأدلة، ليرى وضوحها ودلالتها الصريحه على مقت من يتأخر عن صلاة الجماعة، وأن ذلك من خصال المنافقين. وأكتفي من هذه الأدلة بحديث عن رسول الله e وأثر عن ابن مسعود يتكلم على لسان الصحابة .

أما الحديث: فعن أبي هريرة أن رسول الله e فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: (( لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم. ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها يعني صلاة العشاء))([348]) .

وأما أثر ابن مسعود فهو يدل على ما فهمه الصحابة من النصوص على وجوب أداء الصلاة جماعة في المساجد، وأن التأخر عنها

من خصال المنافقين.

فعن عبد الله بن مسعود قال: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم e سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة. ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" ([349]) فهل بقي بعد هذه النصوص الصريحة عذر لمعتذر في التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد اللهم إلا أن يكون الهوى وحب الراحة والكسل!!

3- الأثرة والشح والإفراط في حب الذات.

إن حب النفس، والسعي في مصالحها أمر فطري ولا ضير في ذلك،

أما إذا تعدى العدل في ذلك وتحول الأمر إلى الشح، والأثرة والأنانية، ولو على حساب الآخرين ومصالحهم، وحقوقهم فان هذا مما يمقت صاحبه عند الله عز وجل وعند الناس.

وقد مدح الله عز وجل الأنصار بقوله: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:9]، وحذر النبي e من صفة الشح بقوله:   (( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح. أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) ([350]).

ومن علامة الأثرة وحب الذات عدم الإهتمام بشئون المسلمين وحوائجهم، والحرص على مصلحة النفس فقط، ولا يهم بعد ذلك ما أصاب الآخرين في دينهم أو دنياهم ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الصنف من الناس بقوله:"... وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه... " ([351]) .

والأثرة والشح لا يقتصران على المال فقط وإنما يشملان أموراً كثيرة منها

 

- الشح بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه.

- الشح بالنفس فلا يبذلها في سبيل الله عز وجل. بل يقدم راحتها ورفاهيتها على الدعوة إلى الله عز وجل، أو قضاء حوائج الناس.

- الشح بنفع البدن، فلا يبذله لنفع الناس كحمل المتاع وإعانة الرجل

في دابته، وإماطة الأذى عن الناس.

- الشح بالعلم لمن آتاه الله علماً، فلا يعلمه الناس. وإن علمهم فبنتف متفرقة لا يحصل منها نفع في الغالب.

- الشح بالرياسة والمنصب، حيث يقدمه على قول الحق، أو يشح على الناس بمنصبه فلا يقضي حوائجهم من خلال رئاسته.

- الشح بالخلق الطيب والانبساط إلى الناس، فلا نرى منه إلا العبوس والغلطة والفظاظة وعدم الاحتمال والعفو.

4 - السفر إلى بلاد الكفر والفسق من غير حاجة ولا ضرورة.

إن الواجب على المسلم أن يفر بدينه من الفتن لا أن يفر إلى الفتن، ولقد انتشر في هذه الأزمنة السفر إلى البلاد التي ينتشر فيها الكفر والفسوق والفواحش من غير حاجة. وقد تعدى هذا الأمر العامة إلى بعض المنتسبين للعلم والدعوة. ولا يخفى على اللبيب ما في هذا الصنيع من الفتنة على الدين والأخلاق. ومما يزيد الأمر خطورة اصطحاب بعضهم أهله وأولاده إلى هذه الفتن . ومـن الأمور الخطيرة التي تنجم عن هذه

 

 

الأسفار وقوع الكثير ممن رق دينهم في فاحشة الزنا وشرب الخمر وغيرها. والحريص منهم على دينه صار يتكئ على الفتوى القائلة بجواز الزواج بنية الطلاق فأصبح يتزوج في الشهر أو في الأسبوع عدة زيجات وهذا تحايل على شرع الله عز وجل ووقوع في زواج المتعة المحرم بشبهة هذه الفتوى التي لم يحقق المناط فيها، ولم يرد المفتي بها هذا اللون من الزواج، وهذا كله بسبب السفر إلى مواطن الفتن. ولقد ضبط الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى جواز السفر إلى بلاد الكفر والفساد بثلاثة شروط متى ما تخلف واحد منها لم يجز السفر.

الشرط الأول: أن يكون هناك حاجة أو ضرورة.

الشرط الثاني: أن يكون لدى المسافر تقوى تمنعه من الوقوع في

ا لشهوات.

الشرط الثالث: أن يكون لديه علم يدفع به الشبهات.

5 - التفريط في حقوق الصحبة والأخوة والجوار.

حقوق المسلم على أخيه المسلم كثيرة منها ما ذكره الرسول eبقوله:   (( حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) ([352]) .

 

وإن مما يلاحظ اليوم هو تفريطنا في هذه الحقوق، وتساهلنا فيها، وما

ذاك إلا من الإنهماك الشديد في الدنيا واللهث وراءها إلى درجة أن لا يجد المسلم الوقت الذي يوفي فيه حقوق إخوانه المسلمين وجيرانه، وإن وجد الوقت حصل التثاقل والكسل والتسسويف في أداء هذه الحقوق.

* ومن الحقوق المضاعة اليوم عند كثير من المسلمين المناصحة إذ قد يرى المسلم على أخيه المسلم عيباً، أو مخالفة شرعية، فلا يناصحه فيها، بل يجامله، ويثقل الشيطان ذلك عليه بحجة داحضة.

وليت أن الأمر وقف عند ترك المناصحة؛ بل قد تعداه إلى ذكر هذه العيوب والمثالب عند الآخرين، فترك الطريق الشرعي وهو المناصحة مع صاحب الشأن، وأخذ بالمناجاة المحرمة والغيبة المنهي عنها.

* وحقوق الصحبة والأخوة والجوار كثيرة أدناها سلامة القلب من الغش والحقد والحسد للمسلمين، وكف الأذى عنهم، وأعلاها إيثارهم على النفس، ولو كان بالنفس حاجة وخصاصة لهذا المؤثر به.

* ومن الحقوق الواجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم نصرته حين يظلم

أو يظلم، وذلك بأن يدافع عنه قدر الاستطاعة حين يظلم ويرد عنه الظلم الواقع على نفسه أو عرضه أو ماله، كما ينصره عندما تطلم بمنعه عن الظلم ومناصحته بترك ظلم الناس. وهذا معنى قوله e: (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)([353]) ، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً. أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره)) ([354]) .

- ومن مفسدات الأخوة التهاجر والتقاطع بين الإخوان لأجل دنيا فانية حقيرة، فكم سمعنا عن هجر دام عدة أشهر أو سنوات بين أخوين مسلمين قد يكونان من طلاب العلم، أو الدعاة إلى الله عز وجل، ولا ندري أنسوا تلك الأحاديث الصريحة في تحريم الهجر والقطيعة بين المسلمين أم تناسوها؟! ومن ذلك قوله e: (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ با لسلام)) ([355]) .

وقوله e: (( تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا)) ([356]) ، وعن أبي خراش حدرد بن أبي حدرد الأسلمي ويقال- السلمي- أنه سمع النبي e يقول: (( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) ([357]) .

* ومن حقوق الإخوان والجيران تفقد أحوالهم وحاجاتهم ومواساتهم

في مصائبهم والفرح لفرحهم والحزن لحزنهم وكف الأذى عنهم. قال

e : (( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) ([358]) .

6- التفريط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص أهل الاستقامه- أهل السنة والجماعة- وفي تركه مخالفة لمنهجهم وطريقتهم. وإن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صمام الأمان بإذن الله تعالى للبيوت والمجتمعات، والأمم . وقد جاء الأمر بهذه الشعيرة العظيمة والتحذير من تركها في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسوله e. فقد قال تعالى:       (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [آل عمران:104]، وقال تعالى: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) [المائدة:78]

وقال e : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،

فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) ([359]) وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر   أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) ([360]) .

وإن المتأمل في أحوالنا اليوم يجد التقصير في القيام بهذه الشعيرة العظيمة، والكثير منا قد يرى المنكر أو يسمعه وباستطاعته أن يغيره بلسانه أو بيده ثم لا يغير ويكتفي بالإنكار القلبي، ومن مظاهر هذا التقصير ما يلي:

- الأب في بيته هو سيد الجميع في داخل بيته، وليس فوقه سلطة في

بيته يخافها ويرهبها، فكم من المنكرات يراها ويسمعها فلا يغيرها بيده وفي مقدوره ذلك ولا حتى بلسانه؟!

- كم يرى كثير منا منكرات في الأسواق، والمحلات التجارية ترفع وتبرز مثل المجلات الخليعة، والدخان وغيرهما، ثم يدخل الواحد منا هذه المحلات ويخرج ولا ينكر شيئاً من ذلك؟!

- وكم منا من يحضر بعض المجالس، والاجتماعات العامة فيكون فيها أجهزة اللهو والموسيقى ثم لا ينكر ذلك، أو ينكره إنكاراً سريعاً ثم يبقى في المجلس ولو لم يتغير المنكر.

- وكم منا من يحضر مجالس الخوض بالباطل واللغو ثم هو لا ينكر، بل قد يشارك في الجدال والمراء، أو قد ينكر ويبقى في هذه المجالس ولو استمر الخوض واللغو الباطل فيها.

- وكم منا من يرى جيرانه الذين لا يصلون في المسجد أو يمر باللاهين في الأسواق في وقت الصلاة، ثم لايأمرهم ولا ينهاهم.

- وكم منا من يـخالط المرابين، ومن يتعاملون المعامــلات المالية

 

المحرمة، ثم لا يناصحهم ولا ينكر عليهم.

- وكم منا من يخالط الظلمة أصحاب السلطان، ثم هو يضاحكهم ويمازحهم ولا ينكر عليهم ظلمهم وفسقهم.

- و كم، وكم.

7 - تصوير ذوات الأرواح واقتناؤها من غير ضرورة.

جاء في النهي عن تصوير ذوات الأرواح نصوص صحيحة صريحة لا

تدع مجالاً للتأويل، ومع ذلك تساهل الكثير منا في هذه الأزمنة في هذا النوع من المحرمات، حتى لم يبق بيت وبر ولا مدر إلا دخلته إلا من رحم الله عز وجل، ومن هذه الأدلة:

قوله e : (( إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) ([361]) .

قوله e : (( إن الذين يضعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ماخلقتم)) ([362]) .

وعن أبي الهياج حيان بن حصين قال: قال لي علي بن أبي طالب : " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله e ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفا إلا سويته " ([363]) .

 

 

*وعن عائشة قالت: قدم رسول الله e من سفر وقد   سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله e تلون وجهه وقال: (( يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله))، قالت: فقطعناه، فجعلنا منه وسادة أو وسادتين "[364] (1).

*وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله e يقول: (( كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم))، قال ابن عباس: فإن كنت لا بد فاعلاً، فاصنع الشجر ومالاروح فيه([365]) .

وأكتفي بهذه الأدلة الصحيحة الصريحة في تحريم التصوير واقتنائها لأناصح نفسي وإخواني المسلمين في الوقوف مع حدود الله عز وجل وعدم تعديها، وأن لا نستسلم لضغوط الواقع، وعموم البلوى بهذه المحرمات لنبحث عن عذر أو شبهة تبيح لنا الوقوع في هذه المحرمات المغلظة، بحجة الضرورة تارة، والحاجة تارة أخرى. ولا أقصد أن هذه القواعد غير معتبرة ولكن أعني أن الضرورة والحاجة لها ضوابطهما. والذي يقدرها هم الراسخون في العلم، وليس غوغاء الناس وعامتهم([366]) ، ولا أصحاب الأهواء من أنصاف العلماء؟!،

كما أناصح إخواني الذين اجتهدوا في إصدار مجلات هادفة للمرأة

 

والشباب والأطفال ثم ملأوها بالصور الشمسية بحجة أن بعض العلماء قد أباحها؛ أقول لهم: ياليتكم وقفتم مع فتاوى العلماء المبيحين للصور الشمسية بضوابطها [367](1)، لكنكم تجاوزتم ذلك إلى تلك الصور المصورة باليد، والتي قال بتحريمها جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهكذا التنازل لا يقف عند الخطوة الأولى إلى الوراء، بل يتلوها خطوات أخرى، وهكذا خطوات الشيطان فالنتق الله ولا نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ولا نلوث أهدافنا الطيبة بما حرم الله تعالى.

القسم الثاني: المخالفات المتعلقة بالبيوت والأسر

وما أكثر تلك المخالفات التي تعج بها أكثر بيوت المسلمين وأسرهم، وبخاصة في هذه الأزمنة التي انفتح الناس فيها على عادات الكفار وأنماط حياتهم، وامتلأت البيوت بوسائل الإعلام بشتى صورها المقروء والمسموع والمرئي، مما كان له أكبر الأثر في فشو المنكرات في بيوت المسلمين، وتأثرهم بما يقرأون، أو يسمعون أو يشاهدون. والمسؤول الأول عن هذه المخالفات أولياء أمور الأسر الذين انشغل كثير منهم عن أسرته بالدنيا. وقد يكون ولي الأمر في البيت محافظاً، ويكره أن يكون في بيته وأسرته ما يسخط الله عز وجل، لكن ضغط الواقع- وخاصة ما يأتي من جانب النسـاء الموصوفــات بضعف العقل والدين- يجعله يستسلم، ويجاري

 

الواقع، ولا يستطيع مقاومة ضغط المرأة أو ضغط أولاده. وقد حذرنا الله عز وجل من فتنة الأولاد والنساء، وأن منهم من يكون عدواً وشؤماً. قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )) [التغابن:14]، وحذرنا رسول الله e من فتنة النساء بقوله: (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجل من النساء)) ([368]) .

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى محذراً من طاعة النساء

في حضور أعياد الكفار: "... لكن يحال الأهل على عيد الله ورسوله، ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم. وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي الصحيحين عن أسامة

بن زيد قال قال رسول الله e: (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ([369]) . وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء. وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة  قال: قال رسول الله e: (( لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة)) ([370]) .

وروى أيضاً: (( هلكت الرجال حين أطاعت النساء))([371]) ، وقد قال

e لأمهـات المؤمين لما راجعنه فى تقديم أبي بكر (( إنكن صواحب يوسف)) ([372]) يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب، كما قال في الحديث الآخر: (( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن)) ([373]) ولما أنشده أعشى باهلة أبياته التي يقول فيها:

"...................                وهن شر غالب لمن غلب "

جعل النبي e يرددها ويقول: (( وهن شر غالب لمن غلب)) ([374]) ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال: (( وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)) [الانبياء:90]، وقال بعض العلماء: ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في إصلاح زوجه له " ([375]) .

ومن أخطر المخالفات التي تعج بها البيوت والأسر ما يلي.

ا- إدخال وسائل الإعلام المفسدة، كالمجلات الخليعة، والتلفاز، وأشرطة الغناء، وأشرطة الفيديو السيئة، والأطباق الفضائية، وشبكة الإنترنت، وبعض برامج الأطفال التي يتخللها صور محرمة.

والكلام في تحريم هذه الوسائل لا يحتاج إلى مزيد شرح وأدلة فهو

مـن الوضـوح، بحيث لا يقدر أحد على رده، إلا أن يكون مكابراً

 

 

ومعانداً، و إلا فمن ذا الذي يشك في تحريم ظهور امرأة قد بدا كثير من عورتها المحرمة كالوجه والشعر والساقين والعضدين بل أكثر من ذلك!! من ذا الذي يتجرأ على الله عز وجل ويقول إن ظهور مثل هذه المناظر على غلاف مجلة أو شاشة تلفاز أو فيديو أو نحو ذلك ومشاهدتها إن ذلك حلال وجائز ولا يسخط الله عز وجل!!؟

إن الذين يدخلون هذه الوسائل، أو يرضون بإدخالها إلى بيوتهم، إنهم بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم، ويتحملون مسؤولية عظيمة وتبعة خطيرة من جراء ذلك، فليتقوا الله عز وجل ما داموا في زمن المهلة قبل أن يفاجأهم الموت ثم لا تطوى صحيفة سيئاتهم بعد موتهم بل تبقى مفتوحة يسجل فيها على هذا الميت المسكين وزر هذه الوسائل ومن تأثر به بعد موته من دون أن ينقص من أوزارهم شيئاً. قال تعالى: (( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [النحل:25]، ثم ألا يدري هذا الظالم لنفسه أنه غاش لأهله وأولاده وظالم لهم، وقد جاء الوعيد الشديد لمن مات وهو غاش لرعيته حيث يقول الرسول e: (( ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ([376]) . وفي رواية: (( فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة)) (1).

وقد يقول قائل: إني أراقب هذه الوسائل، ولا أسمح بظهور ماحرم

الله فيها ، واستفيد من الجوانب الجادة كالأخبار ، والبرامج العلمية ، ونحو ذلك . وهذه حجة إبليسية يدخل بها الشيطان على بعض الطيبين ، ثم لا يلبث الأمر حتى يغفل الرقيب ، أو يمل أو يقل وجوده في البيت ، ثم يلقي الحبل على الغارب ، ويصبح البيت مأوىً لمزامير الشيطان ومكائه وتصديته وخيله ورجله ، ثم لا تسل بعد ذلك عن الخراب العظيم الذي يحصل للبنين والبنات والزوجة وسائر من هم تحت رعايته . والتجارب شاهدة بذلك ، ولا يماري فيها إلا أعشى البصر والبصيرة .

إن محبة الأولاد والزوجات تقتضي وقايتهم من عذاب الله عز وجل بمنع أسباب ذلك عنهم ، أما أن يسهل لهم الأسباب التي ينالون بها سخط الله وعقوبته ، فهذا والله هو البغض والغش لهم وللنفس . قال الله عز وجل (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) التحريم:6] .

2 ـ إهمال تربية الأهل والأولاد .

وهذه المخالفة متعلقة بما قبلها وذلك لما في إدخال وسائل الإعلام المفسدة من الأثر السيء في تربية الأهل والأولاد ، وهناك صور أخرى لإهمال تربية أفراد الأسرة منها :

1 ـ عدم تفقيههم في دين الله عز وجل. وعلى رأس ذلك علم التوحيد ، ومعرفة ما يضاده ، وعلم الأحكام العينية ، وأمرهم بالعبادات الواجبة ، وحثهم على مكـارم الأخـلاق . وهذا الإهمال موجـود في كثير من

بيوت المسلمين حيث يوجد من البنين والبنات والزوجات من قد يجهل حقيقة التوحيد، وما يضاده من الشرك، وقد يجهل صفة الوضوء الصحيح، وصفة الصلاة الصحيحة، وأحكام الصيام وقد يجهل بعض المحرمات.

2- ومنها: ترك الأولاد بلا رعاية ولا مراقبة، وترك الحبل على الغارب يمشون مع من شاءوا، ويخالطون من شاءوا. والمرأة تذهب كيف شاءت وإلى أي مكان شاءت. والبنت تكلم بالهاتف من شاءت، وهكذا حتى تظهر الثمار السيئة لهذا الإهمال، وحينئذ لا ينفع الندم والتحسر.

3- فقد الأولاد والأهل للقدوة الحسنة في البيت، حيث لا يرون في

ولي أمرهم القدوة في مكارم الأخلاق، والخوف من الله عز وجل، والمسارعة إلى الطاعات في وقتها، والابتعاد عن سيء الأخلاق، كالكذب والكلام الفاحش، وإخلاف الوعد، والظلم والعدوان، وغير ذلك مما يدفع الرعية إلى الاقتداء بالراعي في هذه الصفات السيئة، فيكون أسوة سيئة لها أثرها الكبير في تربيتهم وحياتهم.

4- وقد يكون ولي الأمر صالحاً وقدوة طيبة، لكن أهله لا يرونه إلا قليلاً لانشغاله خارج البيت أكثر الوقت، فلا يتسنى له الجلوس معهم ليعلم حالهم ويروا فيه الصفات الطيبة التي يقتدون به فيها، وقد يكون انشغاله خارج البيت في الدعوة والتعليم، لكن تعليم ودعوة الأقربين ووقايتهم من عذاب النار أولى من غيرهم. والموفق من وفقه الله عز وجل  جمع بين الأمرين.

 

5- تخلي بعض الأمهات عن حضانة أطفالهن وتربيتهم، وإحالتهم

إلى الحاضنات والمربيات الأجنبيات.

3- كثرة الخدم والسائقين في البيوت دون ضوابط شرعية.

وهذه من الفتن التي تعج بها كثير من بيوت المسلمين اليوم، حتى أصبحت عند كثير من الناس من الأصول التي لا يقوم بناء الأسرة إلا بها. ولا جدال في أن بعض الأسر قد تكون محتاجة لخادم أو سائق، ولكن التقليد والمفاخرة ومسايرة الواقع جعلت كثيراً من الناس يستقدم الخادمة أو السائق دون أدنى حاجة. وإنما هو ضغوط النساء والولدان ومسايرة الواقع.

ثم إن الذين هم في حاجة إلى الخدم والسائقين لا يراعون الضوابط الشرعية في وجود الخادمة الأجنبية، أو السائق الأجنبي في بيوتهم. ومن هذه الضوابط التي أهملت في كثير من البيوت ما يلي:

أ- كون الخادمة أو السائق مسلمين. لأن الكافر لا يؤمن على البيوت وأسرارها، كما لا يؤمن شره وبوائقه، ولا يؤمن بث معتقداته بين أفراد الأسرة، ومع ذلك فكم من الخدم والسائقين من ملل الكفر تمتلأ بهم بيوت الكثير من المسلمين اليوم.

ب- وإذا كانوا مسلمين فكثير من البيوت تعاملهم وكأنهم مما ملكت اليمين، وليسوا أجانب، فتجد الخادمة تختلط في البيت بأهله من الرجال

 

 

ولا تحتجب عنهم، وقد تحصل الخلوة المحرمة بها([377]) . وكذلك السائق قد لا يحتجب عنه أهل البيت، وقد يخلو بالمحارم في السيارة، أو غيرها من الأماكن، وكل ذلك محرم لا يجوز. والأدلة واضحة لا تحتاج إلى ذكر وتفصيل. وقد يلتزم رب الأسرة بالضوابط الشرعية، ولكن ما إن تكثر المطالب والحاجات في داخل البيت وخارجه إلا ويبدأ التنازل شيئاً فشيئاً، ثم إنه قد يغيب رب الأسرة عن البيت، فيكون الأمر للنساء والأولاد وحينئذ تكون المخالفات والتنازلات الكبيرة.

جـ- استقدام الخادمة مع محرم لها. ولا يخفى ما في إهمال هذا الشرط من المخالفه الشرعية. ولقد نهى الشرع الحكيم عن سفر المرأة مسافة يوم وليلة دون محرم([378]) ، والشارع لا ينهى عن شيء إلا وفيه مفسدة، وسفر المرأة دون محرم، ووجودها في بلد غريب دون محرم كل ذلك يعرضها للفساد والجرأة عليها فوجود المحرم مع المرأة ضروري لها ليدافع عنها ويذب عن عرضه، وإن كان زوجاً فهي تعفه ويعفها.

ء- عدم إهمال الخدم المستقدمين دون توعية لهم بعقيدة الإسلام وأحكامه ، ولكن الواقع أننا نجد خدماً يعيشون ولعدة سنوات في أكثر

 

بيوت المسلمين، ويعودون إلى بلدانهم كما جاءوا.

ومن مظاهر الإهمال أيضا وبخاصة للخادمات، أنهن لا يؤمرن بالحشمة بل يكن في البيت كالإماء، كما لا يتحفظ في خروجهن من البيت لشراء شيء من السوق أو بعث حاجة إلى الجيران بل يخرجن سافرات وكأنهن من الإماء!!

هـ- عدم تكليف الخدم أو السائقين بأكثر من طاقتهم، أو بأعمال لم يتفق معهم عليها في العقد. فكم من الخدم والسائقين الذين يعانون من المعاملة السيئة من أهل المنزل، أو تكليفهم بأعمال شاقة، أو تأخير رواتبهم ومستحقاتهم عن وقتها. وكل هذا من الظلم البين.

4- إقتناء صور ذوات الأرواح

إن فتنة اقتناء صور ذوات الأرواح قد عمت وطمت في هذه الأزمنة حتى لم يبق بيت وبر ولا مدر إلا دخلته، ولكن بين مقل ومكثر. وقد سبق بيان الأدلة الصريحة في تحريم التصوير، والصور([379]) . ولو أن الإقتناء اقتصر على ما تدعوا الضرورة أو الحاجة إلى اقتنائه([380]) - كما في العملات أو الهويات، أو الجوازات- لكان الأمر أهون. وقد يكون لذلك وجـه،

 

 

 

ولكن الواقع أن البيوت قد امتلأت من صور ذوات الأرواح التي لا تدعو إليها ضرورة ولا حاجة، وكأننا قد نسينا أو تناسينا قوله e: (( لا تدخل الملائكة بيئا فيه كلب ولا صورة)) ([381]) متفق عليه.

وقد تكون هذه الصور لنساء متبرجات كما في بعض المجلات، وبعض العلب للمواد التجميلية أو الغذائية، أو أدوات النظافة وغيرها، وتبقى دون طمس أو إهانة.

وقد تكون صوراً لبعض الفسقه والماجنين ممن يسمون بالفنانين تطبع على بعض ملبوسات الأطفال أو الكبار. أما ما يحتاجه الأطفال من غذاء أو لباس أو منظفات فحدث ولا حرج.

ومن الأشياء التي تكثر في البيوت اليوم الصحف والجرائد المليئة بالصور وتبقى أياماً دون طمس، أو إتلاف لها، مع أنه لا حاجة ولا ضروة إليها، ويمكن الإطلاع عليها خارج البيت لو دعت الحاجة إلى ذلك.

وقد تصل الحال في بعض البيوت إلى تعليق الصور، أو نصبها على المكاتب، أو كونها في ستائر معلقه، أو حفظها للذكرى، وفي هذا زيادة في الإثم لوجود التعظيم والحب والإجلال.

وقد تجاوز الأمر الصور إلى وجود التماثيل لذوات الأرواح كما هو

 

الحال في لعب الأطفال التي فيها المضاهات الشديدة لخلق الله عز وجل، بل منها ما يصدر منه صوتاً كصوت الطفل ويحرك عينيه أو يديه كما يفعل الأطفال، ومع ذلك قد تساهل الكثير فيها. وبعضهم يستدل بخيل عائشة الذي كانت تلعب بها في صغرها!! الفارق بين الصورتين كبير فلا تقاس هذه الدمى والتماثيل المضاهية لخلق الله عز وجل على خيل عائشة والتي هي أشبه بأعواد متقاطعة وكيس مملوء بالقطن ليس فيه أدنى مضاهاة.

والحاصل: أن هذه المنكرات قد استشرت في البيوت، حتى صارت مألوفة غير مستنكرة، بل أصبح المنكر لها غريباً بين الناس، ومصادماً للواقع!!

ولا أبالغ إذا قلت إن الشقاق الذي يحصل في كثير من البيوت وكثرة الأوهام والأمراض النفسية، إنما نشأت برحيل الملائكة عن البيوت التي حلت فيها الصور، ومزامير الشيطان، وغيرها من المنكرات وتفردت الشياطين فيها لأن الشياطين لا تحل في محل فيه الملائكة.

5- إهمال حقوق الوالدين وصلة الأرحام.

إن بر الوالدين وصلة الأرحام من الواجبات العظيمة التي جاء التأكيد عليها في الكتاب والسنة تأكيداً عظيماً، بل إن حقوق الوالدين والإحسان إليهما تأتي دائماً بعد الأمر بعبادة الله عز وجل. وقد جاء التأكيد على ذلك في القرآن الكريم في أكثر من آية، اكتفي منها بقوله تعالى: (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الاسراء:23]، وجاء الوعيد

لقاطعي الأرحام في قوله تعالى. (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) [محمد:21-23]

وفي السنة عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي e أي العمل أحب إلى الله تعالى قال: (( الصلاة على وقتها )قلت ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) قلت ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)) ([382])  متفق عليه.

وقوله e: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) ([383]) متفق عليه.

والأدلة من السنة على وجوب بر الوالدين وصلة الأرحام كثيرة جداً، وليس المقصود هنا حصر هذه الأدلة، فهي معروفة عند كثير من المسلمين، وإنما المقصود التنبيه إلى أنه مع تظافر هذه الأدلة والعلم بها، إلا أن منا من يهمل هذه الحقوق ويفرط فيها.

ومن مظاهر ذلك أن ترى داعية يتحمل المتاعب والسهر  والسفر في الدعوة إلى الله عز وجل وهو على خير في ذلك إن شاء الله تعالى، لكن هذا الجهـد والبذل ليس لوالديه وأقاربه فيه نصيب؛ بل إنه قد يتضجر ويتبرم من خدمة والديه، ولو قام بها لوجد لذلك ثقلاً كبيراً!! فلماذا لا

 

يجد هذا الثقل في أعبائه الدعوية خارج البيت على كثرتها وشدتها، ثم هو يجد الثقل عندما يطلب منه أحد والديه أوكلاهما منه خدمة؟ مع أن خدمة الوالدين وطاعتهم واجبة، والدعوة قد تكون في حقه فرض كفاية. والجواب والله أعلم وجود علة خفية تشوب نيته في دعوته وبذله فيها، وإلا لو خلصت من الشوائب، وكان همه إرضاء الله عز وجل في أعماله كلها، لوجد نشاطاً في خدمة والديه، لأن الإحسان للوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأرضاها له. ويصف ابن القيم رحمه الله تعالى علامة هذا فى النفس فيقول: (وعلامه هذا أنه إذا عرض عليها طاعه دون

ذلك ، وأيسر منه ، وأتم مصلحة : لم يؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته ، كما حكى عن بعض الصالحين من الصوفية قال : حججت كذا وكذا حجة على التجريد ، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوباً بحظي ، وذلك : أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء ، فثقل ذلك على نفسي ، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها ، إذ لو كانت فانية([384]) لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع "  أهـ.([385])

وما قيل سابقاً في التقصير في حق الوالدين يقال : أيضاً في إهمال حقوق الأقارب وصلة الأرحام ، حيث ضعفت كثيراً في هذه الأزمنة . وقد يكون كثير من الأقارب في مدينة واحدة ، ثم هم لا يتزاورون ولا يتفقد بعضهم بعضاً ، بل إن الأمرقد يصل ببعض الأقارب إلى الهجران ، وقد

مر بنا الوعيد الشديد لمن هجر أخاه المسلم فوق ثلاث لأجل الدنيا وحظ النفس، وهو بين الأرحام أشد وأغلظ.

وقد بلغ الأمر في بعض بلدان المسلمين أن تفككت عرى الأسرة فيها، وانشغل الإبن عن أمه وأبيه، والأخ عن أخيه وأخته، فضلاً عن عمه وعمته وخاله وخالته؛ فالكل مشغول. وساعد في ذلك توسع المدن واللهث وراء الدنيا، وانهماك الناس في الأعمال اليومية، ومن أسباب ذلك تقليد الغرب الكافر في أنماط حياته.

يقول الأستاذ الشبانة وفقه الله تعالى: "لقد تفككت عرى الأسرة المسلمة في معظم بلاد المسلمين نتيجة للسقوط في حمأة التقليد للغرب الكافر، والانسياق الأعمى وراء كل نحلة ترد منه أو يسبق إليها، ثم نلحق به في تطبيقها، ولقد سبقت الأسرة الغربية إلى التفكك، بل إلى الانهيار الكامل والانعدام التام، فلم تعد هناك أسرة بالمعنى المفهوم بقدر ما بقي نوع من الارتباط المعرض للانفصام في أية لحظة بين رجل وامرأة لا يلتقيان في مقر إقامتهما إلا ساعة أو بعض ساعة من ليل أو نهار، وقد لا يلتقيان أبداً أوقاتاً طويلة أو قصيرة، فلكل منهما ما يغنيه عن صاحبه.

ولقد كثرت حالات الطلاق كثرة تلفت نظر اللبيب، بل لقد بدأ الآلاف من النساء والرجال يعزفون عن الزواج أصلاً لاختلال نظرتهم إلى المقاصد المطلوبة من ورائه؛ حيث قصروها على اللذة الحسية فحسب، وحينئذ وجد الواحد والواحدة منهم أن إنفاق العمر في ارتباط ملزم من أجل هذا المتاع الحسي أمر غير صحيح ما دام أنه سيجد في كل لحظة

حضناً جديداً، وستجد هي كذلك، فلم الارتباط بواحد أو واحدة؟!"([386]).

ويقول في موطن آخر:"... ومن أعظم قيمنا الإسلامية التواصل الأسري الذي بدأ يحل محله التفكك رويداً رويداً، ومع التفكك الأسري بدأ تفكك المجتمع وتحلله إلى وحدات صغيره وأجزاء متناثره هي المساكن. لقد كان مجتمعنا مترابطاً متقارباً، فأصبح مجتمع مدننا الكبرى مجتمعاً متباعداً متفككاً مقطع الأوصال... " ([387]) .

6 - التوسع الكبير في المباحات والتشبه بالكفار في الأخذ بها والإسراف فيها

يشهد واقعنا المعاصر توسعاً شديداً في الأخذ بالمباحات من كثير من الناس، وذلك في مساكنهم ومآكلهم ومراكبهم ولباسهم... إلخ، وصاروا يتفاخرون ويتباهون بذلك، وأصبح بعضهم يقلد بعضا حتى آل الأمر- وتحت مسايرة الواقع- ببعض الفقراء إلى أن يحملوا أنفسهم من الديون الكبيرة لأجل المباهاة ومسايرة الناس. ولا يخفي ما في ذلك من ظلم النفس وتحميلها مالم تحتمل.

أما الأغنياء الذين في مقدورهم التوسع في الأخذ بالمباحات دون اللجوء إلى الاستدانة، فالأصل في ذلك الإباحة إذا كان مصدر المال حلالاً وإنفاقه في حلال؛ ولكن يبق أن التوسع الكبير في المباحات وإشــغال

 

التفكير بها وكيفيه توفيرها، وصيانتها والمحافظة عليها.. إلخ كل هذا مما يأخذ من الوقت والتفكير حيزاً كبيراً كان الأفضل توجيهه إلى ما ينفع في الآخرة، فالعمر قصير، ومتاع الدنيا قليل وزائل.

وشيء آخر يتعلق بالتوسع في المباحات، ألا وهو أن بين الحرام والحلال منطقه محايدة ينبغي الحذر من الوقوع فيها، ألا وهي المتشابهات، وهي حمى المحارم. ومن وقع فيها يوشك أن يقع في الحرام، والذي يتوسع في المباحات يوشك أن يقع فيها لأن النفس لاترضى بالقليل؛ بل كلما حصل لها شي تاقت إلى ما هو أكثر منه، حتى إذا ظهر لها بعض المباحات التي لا تقدر عليها بالحلال، فإنها تبحث عن ما يوصلها إلى هذا المباح ولو بالحرام.

وشيء ثالث يتعلق بهذا الأمر. ألا وهو أن أكثر المباحات التي توسع

فيها بعض الناس اليوم، إنما نشأت من محاكاة الغرب في مساكنهم ومآكلهم وطريقة أكلهم، وغيرها سواء كان ذلك ممن سافر إلى ديارهم وخالطهم، أو رأى ذلك في وسائل الإعلام، أو أحتك بمن تأثر بهم. ولا يخفى أن التشبه بالكفار وتقليدهم في أنماط حياتهم أمر قد حذر منه الشرع، وبين أن الكفار إنما همهم وحياتهم هي هذه الدنيا ومتاعها الزائل بخلاف المسلم الذي يعرف لماذا جاء، وإلى أين سيصير، ويعلم أن هذه الدنيا إنما هي وسيلة إلى الآخرة أما أن ينعكس الأمر، وتصبح غاية فليس هذا شأن المسلم الموفق. قال تعالى عن الكفار:  (( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)) [الاحقاف:20]، وقال سبحانه: (( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) [الشعراء:205-207]

        ومن أسباب التقليد الأعمى للكفار: الترف والغنى. يقول الشبانة حفظه الله: "وهذا التقليد الأعمى مقارن للترف، بل هو إحدى نتائجه الحتمية المريرة، فبمنطق القرآن لم يتشبث بهذا التقليد الأعمى مفتخراً به إلا مترفوا كل قرية أرسل الله إليها رسولاً.

... قال الله تعالى: (( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)) [الزخرف:22-23] ، فكأن مفهوم الآية أن غير المترفين أكمل عقولاً، وأقل تقليداً، ولذلك حارب الإسلام الترف.. وحذر منه معتبرا إياه مرضا فتاكاً وداءً خطيراً يقضي على كيان الأمة، وسوساً ينخر في عظامها" ([388]) .

وتحدث في موطن آخر عن تقليد الكفار في بعض أنماط حياتهم المترفة فقال: "... وتنازلنا أيضاً عن طابعنا الإسلامي في العمارة والبناء وسعينا إلى تقليدهم في أشـكال مبـانيهم ونـظام عمرانهم وتصميم بيـوتهم

ومساكنهم، رغم ارتباط أشكال البناء بدين كل وعاداته وتقاليده؛ فتصميم بيوتنا- معاشر المسلمين- يراعى فيه فصل الرجال عن النساء منذ وضع مخطط البناء ولبنته الأولى، بينما لا يراعون هم شيئاً من ذلك. ومع ذلك قلدناهم بشغف في تصاميمهم. ولم لا، وقد قلدناهم قبل ذلك في إلغاء الفصل بين الرجال والنساء نفسه والأخذ بمبدأ الاختلاط بعدما أخذوا به؛ مما لم يعد معه حاجة إلى مراعاة الفصل بين الجنسين عند بناء المساكن أو تشييد أي مرفق آخر.

وقلد المهزومون "سادتهم " في المأكل والمشرب- وهو مما يستوي فيه الرجال والنساء-، فقلدوهم في أنواعه وطريقة إعداده، ثم قلدوهم في طريقة أكله...

... كما قلدوهم في الاعتناء بالأطعمة وتكثيرها وتنويعها وتعديد أشكالها وألوانها، فجعلوها غاية في ذاتها، وهي في الأصل وسيلة للبقاء والعيش ليس غير، وأصبح الأكل والشرب "على الطريقة الغربية" مثار فخر عند كثير من أبناء هذه الأمة، فغزت الأكلات الغربية من أمريكية وفرنسية وبريطانية وألمانية وإيطالية أسواق المسلمين و "فنادقهم"         وبيوتهم، وإن شئت فألق نظرة تأمل على أسماء تلك الأطعمة المستوردة تر عجباً"([389]) .

ومما يلفت الانتباه في هذه السنوات الأخيرة كثرة محلات الأكل من

 

مطاعم ومطابخ ومحلات الوجبات الخفيفة، بعضها أجنبي والآخر محلي، وكلها على كثرتها تعمل، والناس عليها أفواج إثر أفواج، وهذا يدل على أن كثيراً من الأسر أصبح يعتمد في أكله على هذه المحلات، وعطل بذلك دور الزوجة والبنت والأخت في بيوتهن. وهذا بلا شك له مردود سيء على الأسرة والمجتمع. وسببه ذلك الترف الذي أصاب كثيراً من الناس وذلك الاسترخاء والكسل. وسبب آخر هو عمل المرأة خارج منزلها، وانشغالها عن مهمات البيت، وتوفير السكن الصالح للزوج والأولاد، وهذا ما سيكون الحديث عنه في الفقرات القادمة إن شاء الله تعالى.

والحاصل أن الترف والإسراف والتوسع في المباحات هو من صفات أهل الدنيا الذين لا غاية لهم إلا المتعة، وإشباع الشهوات. أما المسلم الذي يدرك غايته ونهايته، فهو يعد ويمهد لنفسه ليتهنى ويتمتع المتاع الحقيقي السرمدي في جنات النعيم. وأنصح بذلك نفسي وإخواني الدعاة بصفة خاصة، والذين هم قدوات الناس، وهم الذين يحذرون الناس من فتنة الدنيا ومتاعها الزائل. فهل يليق بداعية هذه مهمته أن يرى الناس فيه خلاف ما يدعو إليه؟! قال الله تعالى عن النبي الصالح شعيب عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه..(( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ )) [هود:88]

7- السفر بالأسرة من زوجة وأولاد إلى بلاد الكفر والفسق والمجون

من غير ضرورة ولا حاجة، وإنما للفرجة والسياحة، ولا يخفى ما في         ذلك من الآثار السيئة المدمرة للعقائد والأخلاق، فوق ما فيه من إسراف

وتبذير للأموال، وما فيه من التصوير المحرم للنساء وظهور صورهن أمام الأجانب من موظفي المطارات والجوازات وغيرهم من غير ضرورة إلى ذلك. والأشد من ذلك تساهل كثير من الأسر عند إقامتهم في تلك البلاد بترك النساء لحجابهن وإختلاطهن بالرجال، والذهاب إلى أماكن الفساد المختلطة من مسارح وملاهٍ محرمة، والمسؤول الأول هو رب الأسرة الظالم لنفسه وأهله وأولاده بإلقائهم في أتون الفتنة مستجيباً في ذلك لرغبة الزوجة والأولاد الذين تسيرهم العواطف والعقول الضعيفة، فيستجيب الأب المسكين بدافع الحب لهم فيقع في ماحرم الله عز وجل، مقدماً حب الأولاد على حب الله تعالى ومراده، وهذا نوع عبودية وإن كانت دون المحبة الشركية.

ويصف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أثر تعلق الرجل بزوجته ومحبته لها المحبة الشديدة فيقول: "فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيراً لها تتحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في          الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنه تحكم فيه حينئذ حكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لايستطيع الخلاص منه... "([390]) .

*    *    *

 

القسم الثالث: المخالفات المتعلقة بالمرأة في نفسها ومجتمعها

 

المرأة هي جزء من الأسرة لا يتجزأ. والكلام عن المخالفات التي تتعلق بالأسرة، والمذكورة فيما سبق، كان بالإمكان أن ندرج تحتها المخالفات المتعلقة بالمرأة لولا كثرة هذه المخالفات، وتنوعها وتنوع أسبابها. ولذلك آثرت إفراد ما يتعلق بالمرأة من المخالفات في مبحث مستقل. فأقول وبالله التوفيق:

لو أردنا أن نختصر جل المخالفات التي تتعلق بالمرأة المسلمة اليوم في كلمة واحدة لقلنا إنها "التقليد".

نعم إن مشكلة أكثر نساء المسلمين اليوم، وما وقعن فيه من المخالفات

إنما نشأ معظمه من التقليد للغرب الكافر، وذلك بعد الانفتاح الشديد عليه من خلال السفر إلى بلدانه المختلفة، أو من خلال وسائل الدعاية والإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة. وساهم في الإجلاب عليهن قوم من بني جلدتنا بهرتهم حضارة الغرب المنتنة، فأجلبوا بخيلهم ورجلهم على المرأة المسلمة يطالبونها بنزع الحجاب والعمل خارج البيت، وأن تأخذ حريتها تماماً مثل الرجل، تصاحب من تشاء، وتذهب كما تشاء وتقود سيارتها بنفسها إلى أي مكان تشاء!!.. وانبرى زمرة من التجار النفعيين يوفرون لها الفاضح من اللباس والأزياء ومواد التجميل والأصباغ وغيرها.

والمرأة بطبيعة خلقتها ناقصة عقل، وتسيرها عواطفها، فكان من جراء ذلك تأثر الكثير منهن بهذا الغزو والإجلاب، وصار بعض النساء يقلدن

بعضاً. ولم يسلم من بلاء التقليد إلا من رحم الله من النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله. و- ما هن.

ومن الأسباب التي ساعدت في ظهور مظاهر هذا التقليد والتشبه بالكافرات: ضعف قوامة الرجل على أهله وفي أسرته. إذ لو كان الرجل يشعر بقوامته ومسؤوليته لقاوم هذا الغزو، ولم يستسلم له، ولكن لما ضعفت هذه القوامة، وتسلط النساء، استسلم الرجال، وسايرو واقعهم إلا من رحم الله من الرجال الأتقياء الذين أحسوا بأنهم مسؤولون عن رعيتهم، فقبضوا على دينهم قبض الجمر وصادموا الواقع الفاسد، وأرضوا ربهم وإن سخط عليهم الناس وإن كانوا أقرب قريب.

ومن أهم المخالفات التي سرت في أوساط كثير من النساء ما يلي:

ا- المخالفات الشرعية في اللباس:

لقد صان الإسلام المرأة المسلمة عن كل ما يخدش عفتها وحياءها وعرضها، وحفظها من كل ما يعرضها للأذى والفتنة من شياطين الجن والإنس. قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) [الأحزاب:59]

       ولقد نعم المسلمات طيلة تاريخهن الطويل بهذا الحفظ وهذه العفة والصيانة، فلم يؤذين ولم يؤذين غيرهن من الرجال. وكان النساء طيلة هذا التاريخ يلتزمن باللباس الشرعي الذي فرضه الله عز وجل عليهن، إلا

 

ما شذ منهن من الإماء أو البغايا . واستمر هذا الإلتزام إلى أن جاء الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين وجاء بجيوشه وأفكاره وأخلاقه المفسدة للأخضر واليابس ، وبدأت المرأة المسلمة تنفتح على الغرب وتقلد الكافرات في لباسها ، وكان هذا يتم بعجلة بطيئة ، إلى أن جاء الانفتاح الشامل وبعجلة متسارعة في العقود الأخيرة بسبب وسائل الإعلام الخبيثة التي اجتاحت بيوت المسلمين في كل مكان ، وأجلبت على المرأة المسلمة بمجلاتها ومسلسلاتها وندواتها وأغانيها .. إلخ ، فظهر التأثر السريع والكبير فتخلى كثير من المسلمات عن اللباس الشرعي الذي أراده الله لهن صيانه وإكراماً لهن .

والمخالفات التي طرأت على لباس المرأة المسلمة اليوم هي واحدة أو أكثر من المخالفات التالية :

أ ـ عدم استيعابه جميع البدن .

ب ـ كونه زينة في نفسه .

جـ ـ كونه رقيقاً يشف .

ء ـ كونه ضيقاً غير فضفاض .

هـ ـ مشابهته للباس الرجال .

و ـ مشابهته للباس الكافرات .

ز ـ مشابهته لباس شهرة .

 

 

ح ـ تبخيره وتطييبه ([391]) .

هذه مجمل المخالفات التي نهى الشرع عنها في لباس المرأة. بعضها منهي عنه لذاته كالذي فيه تشبه بالكافرات أو الرجل. وكلها منهي عنه أمام الأجانب- وبعضها منهي عنه أمام المحارم ما عدا الزوج، ككونه رقيقاً يشف، أو ضيقاً غير فضفاض، أو أنه لم يستوعب ما كان فيه فتنة من بدن المرأة.

وبعد هذا الإجمال نأتي إلى تفصيل هذه المخالفات وذكر أدلتها:

أ) مخالفة عدم استيعابه جميع بدن المرأة:

والدليل قوله تعالى: (( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ)) [النور:31]، ففي هذه الآية دليل على وجوب ستر الزينة كلها وعدم إظهار شيء منها للأجانب إلا ما ظهر بغير قصد منهن.

قال الإمام ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للاجانب إلا ما لا يمكن اخفاؤه؛ قال ابن مسعود: "الرداء والثياب " ([392]) .

أمـا من السنة فالأدلة متظافرة على وجوب ستر جميع البدن ومن

 

أقواها وأشهرها ما كان عليه حجاب أمهات المؤمنين بما في ذلك الوجه والكفين وليس المقام مقام تفصيل هذه الأدلة أو النقاش مع من يرى جواز إبداء الوجه والكفين للأجانب؛ فلقد كتب في ذلك الرسائل والكتب الكثيرة من أشهرها كتاب "عودة الحجاب ج 3" لأخينا الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله فلقد أجاد وأفاد في إثبات وجوب ستر الوجه والكفين عن الأجانب وذلك بالأدلة الصريحة الصحيحة فليرجع إليه. ومادمنا بصدد الحديث عن هذه المخالفة فإني أرى لزاماً ذكر بعض التنبيهات المهمة حول مسألة سفور الوجه من عدمه ينبغي لمن يبحث في هذه المسألة أو يفتي فيها أن يعيها:

التنبيه الأول: إن هناك فرقاً في تناول قضية حجاب المرأة وهل يجب ستر الوجه والكفين أم لا؟ بين أن يكون هذا الاختلاف بين العلماء المخلصين المتجردين في طلب الحق، وتحري الأدلة الصحيحة. فهؤلاء مأجورون إن شاء الله تعالى. من أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، وفرق بين هؤلاء وبين من يسيره هواه وضغط الواقع ومسايرة الناس فيميل مع القول الذي يهواه وليس لأنه تحرى فوجده الحق. وفي ذلك قول صاحب عودة الحجاب حفظه الله تعالى: "وهناك فرق بين تلك الفتاوى المحلولة العقال المبنية على التجري لا على التحري والتي يصدرها قوم لاخلاق لهم من الصحفيين ومن أسموهم المفكرين تعج منهم الحقوق إلى الله عججاً وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً. يفرقون من تغطية الوجه لا لأن البحث العلمي المجرد أداهم إلى أنه مكروه أو جائز أو

بدعة كما يرجفون، ولكن لأنه يشمئز منه متبوعوهم من كفار الشرق والغرب. فاللهم باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب "[393] (1).

وهناك أناس من بني جلدتنا ممن يشنعون على تغطية المرأة لوجهها وكفيها لا يقصدون الوقوف عند سفور الوجه فحسب، بل إنهم يريدون من كشف المرأة لوجهها أن تكون الخطوة الأولى، أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنه بالطلقة الأولى، لتكشف المرأة المسلمة عن شعرها ونحرها وغير ذلك من أجزاء جسمها، لتحاكي المرأة الغربية وتخالط الرجل وتكون حرة في نفسها... إلخ هذه النوايا الخبيثة. فحري بمن يبحث عن الحق في مسألة كشف وجه المرأة أو ستره أن لا يغيب عن ذهنه مقاصد القوم فإن الوعي بهذه المخططات له أثر في الإفتاء في حجاب المرأة المسلمة في هذا الزمان، وبخاصته إذا كان المجتمع لا يزال معظم النساء فيه يحافظن على ستر الوجه.

التنبيه الثاني: إن من جوز من العلماء كشف الوجه للمرأة بعد البحث المتجرد في الأدلة ليجمعون ويؤكدون على أن الأفضل في حق المرأة ستر وجهها وكفيها عن الأجانب. وفرق بين هذا الموقف وبين موقف أهل الأهواء الذين يسخرون من تغطية الوجه ويطالبون بكشفه وكأنه واجب وخلافه محرم وتزمت.

وهنا أمر آخر وهو أن من أباح كشف الوجه قيده بإنتفاء الفتنة. أما

إذا وجدت الفتنة، أو غلب على الظن وجودها،، فإن العلماء يجمعون على وجوب تغطيته. وأي فتنة أشد مما نحن فيه معشر المسلمين في هذا    الزمان.

وأمر ثالث، ظهر من تتبع بعض أهل العلم لواقع المسلمين في تاريخهم الطويل، والذي يبين أن الخلاف في تغطية وجه المرأة أو ظهوره كان نظرياً ذهنياً، أما في الواقع فقد نقل بعض أهل العلم أن تغطية الوجه كان هو السائد بين المسلمات الحرائر طيلة تاريخ المسلمين.

يعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على حديث (( لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)) ([394]) بقوله: "وهذا يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن "([395]) ، ويؤكد هذا أيضاً بعض الروايات التي تذكر أن ستر الوجه والكفين لم يكن خاصاً بأمهات المؤمنين ، ومن ذلك ما ورد عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام " ([396]) .

فهذا يـدل على أن حجاب الوجه لم يكن خاصاً بنساء النبي e

 

وإنما كان لنساء المسلمين عامة وأنه كان هو السائد بين الحرائر.

وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجه والنساء يخرجن منتقبات "([397]) .

التنبيه الثالث: لو أن الذين ينادون اليوم بكشف وجه المرأة وكفيها أمام الأجانب كانوا في مجتمع يعج بالسفور والتعري الفاضح الذي يظهر أجزاء مغلظة من جسم المرأة، ويطالبون بتغطية ما سوى الوجه والكفين- لو أنهم كذلك- لأحسنا الظن بهم وقلنا: لعلهم يقصدون ارتكاب أهون المفسدتين والتدرج بالنساء إلى الحجاب الشرعي والحشمة والحياء، وعدم تنفيرهن، وذلك أن المرأة التي تكشف وجهها وكفيها فقط في مجتمع متعر ومتفسخ هي بلا شك أحسن حالاً وديناً من تلك التي نزعت ثوب الحياء وكشفت عن ما سوى ذلك من جسدها. أما وأن المنادين بكشف الوجه هم في مجتمع لا يعرف نساؤه إلا الحجاب الكامل والبعد عن الرجال، فإن هذا مما يثير العجب وعلامات الاستفهام على القوم. فماذا عليهم لو بقيت نساؤهم ونساء المسلمين على هذه الحشمة والعفة والحياء؟!!

ونعود الآن وبعد هذا الاستطراد إلى المخالفة الأولى في لباس المرأة وهو عدم استيعاب اللباس لجميع جسدها. فمن صور هذه المخالفة أيضا: الاكتفاء بتغطية الوجه فقط وإظهار الكفين والساعدين وانحسار الثوب عن القدمين. والكفان مثل الوجه، أما الساعدان والقدمان فيجب تغطيتهما

إجماعاً، ومع ذلك تتساهل بعض المسلمات في ذلك. وممن تقع عليه المسؤولية في هذا الأمر ولي أمر المرأة حيث يجب عليه أمر أهله بالستر الكامل أمام الأجانب، ويجب عليه تفقد نسائه، ونصحهن وعدم الغفلة عنهن، كما يجب عليه تربيتهن على الخوف من الله عز وجل والاستسلام لأحكامه والتعبد لله عز وجل بهذه الأحكام، وأن لا يكون أمره لهن أمراً مجرداً يجعلهن يلتزمن به خوفاً من المخلوق، لا خوفاً من الله عز وجل، وذلك لأن الأمر المجرد يجعلهن يأخذن هذه الأحكام عادة وتقليداً وخوفاً ممن حولهن فقط، بدليل أن بعض هؤلاء النسوة ما إن تغادر مجتمعها إلى المجتمعات المتفسخة حتى تلقي حجابها جانباً. بل إن بعضهن ليلقينه فور ركوب الطائرة المقلعة من بلادها، فعلى أي شيء يدل هذا !!؟

قال الله تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) [الأحزاب:36]، قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "... فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ههنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65]، وفي الحديث:  (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: (( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) ، كقوله تعالى: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور: 63]([398]) ".

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً: "... فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومن تخير بعد ذلك. فقد ضل ضلالاً بعيداً" ([399]) ، وقال في موطن آخر: "فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان. وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين على أن من استبانت له سنة رسول الله eلم يكن له أن يدعها لقول أحد.. "[400] (3).

مسأله مهمة: ما هي حدود كشف المرأة لزينتها أمام الرجال المحارم

وأمام النساء؟

يقول الله عز وجل : (( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ )) [النور:31]

وهذه مسألة مهمة حصل فيها الخلط والإضطراب. فأما ما يتعلق بكشف المرأة أمام زوجها فإنه واضح وبين فلها أنه ترى منه ويرى منها كل شيء.

أما ما يتعلق ببقية المحارم كالأب والإبن والأخ وابن الأخ وابن الأخت، والنساء ونحوهم، فإن هذا مما تساهل فيه الناس اليوم، وأبدت بعض النساء فيه من العورات أمام هؤلاء المحارم ما لا يجوز إبداؤه إلا للزوج فقط. وقد انتشر اليوم في الحفلات النسائية وقصور الأفراح بين النساء ألبسة فاضحة تبدي من العورات مالا يجوز ابداؤه إلا للأزواج حيث تعري المرأة كثيراً من أجزاء جسمها عدا ما بين السرة والركبة. وحجتهن في ذلك أنهن بين النساء. فما هو تحرير هذه المسألة والجواب عنها؟

وأنقل في الجواب على هذه المسألة البيان الشافي الذي أصدرته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول هذه المسألة المنكرة. ونص البيان ما يلي:

" الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فقد كانت نساء المؤمنين في صدر الإسلام قدبلغن الغاية في الطهر والعفة، والحياء والحشمة ببركة الإيمان بالله ورسوله واتباع القرآن والسنة وكانت النساء في ذلك العهد يلبسن الثياب الساترة،ولا يعرف منهن التكشف والتبذل عند اجتماعهن ببعضهن أوبمحارمهن،وعلى هذه السنة

القويمة جرى عمل نساء الأمة- ولله الحمد- قرناً بعد قرن إلى عهد قريب فدخل في كثير من النساء ما دخل من فساد في اللباس والأخلاق لأسباب عديدة ليس هذا موضع بسطها.

ونظراً لكثرة الاستفتاءات الواردة إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حدود نظر المرأة إلى المرأة وما يلزمها من اللباس، فإن اللجنة تبين لعموم نساء المسلمين: أنه يجب على المرأة أن تتخلق بخلق الحياء الذي جعله النبي e من الإيمان وشعبة من شعبه، ومن الحياء المأثور به شرعاً وعرفاً تستر المرأة واحتشامها، وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتنة ومواضع الريبة.

وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت وحال المهنة كما قال تعالى:    (( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ )) ، الآية. وإذاً كان هذا هو نص القرآن وهو ما دلت عليه السنة فإنه هو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول e ونساء الصحابة ومن اتبعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا.وماجرت العادة بكشفه للمذكورين في الآية الكريمة هو: ما ظهر من المرأة غالباً في البيت وحال المهنة، ويشق عليها التحرز منه، كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في التكشف،فعلاوة على أنه لم يدل على جوازه دليل من كتاب أوسنة،هو أيضا طريق لفتنة المرأة والإفتتان بهامن بنات جنسها وهذا موجود بينهن،

وفيه أيضا قدوة سيئة لغيرهن من النساء، كما أن في ذلك تشبهاً بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن وقد ثبت عن النبي e أنه قال: (( من تشبه بقوم فهو منهم)) ([401]) ، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي e رأى عليه ثوبين معصفرين فقال: (( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها)) ([402]) . وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي e قال: (( صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) ([403]) ومعنى "كاسيات عاريات ": هو أن تكتسي المرأة مالا يسترها؛ فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تلبس الثوب الرقيق الذي يشف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع جسمها، أو الثوب القصير الذي لا يستر بعض أعضائها.

فالمتعين على نساء المسلمين التزام الهدي الذي كان عليه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة ومن أتبعهن بإحسان من نساء هذه الأمة، والحرص على التستر والاحتشام فذلك أبعد عن أسباب الفتنة، وصيانة للنفس عما تثيره دواعي الهوى الموقع في الفواحش.

كما يجب على نساء المسلمين الحذر من الوقوع فيما حرمه الله ورسوله

من الألبسة التي فيها تشبه بالكفارات والعاهرات طاعة لله ورسوله ورجاء لثواب الله وخوفاً من عقابه.

كمايجب على كل مسلم أن يتقي الله فيمن تحت ولايته من النساء

فلا يتركهن يلبسن ما حرمه الله ورسوله من الألبسة الخليعة والكاشفة والفاتنة وليعلم أنه راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة.

نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يهدينا سواء السبيل إنه سميع قريب مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه "([404]) .

وأنقل للفائدة فيما يلي بعض أقوال أهل العلم تأييداً لما جاء في بيان اللجنة المذكور: "نقل ابن عبد البر بسنده إلى سفيان في المرأة تخرج ثديها من كمها ترضع صبيها بين يدي ذي محرم منها فكرهه([405]) ... وقال أبو بكر الأثرم: سألت أبا عبد الله- يعني أحمد بن حنبل رحمه الله- عن الرجل ينظر إلى شعر أم امرأته أو امرأة ابنه أو امرأة أبيه؟ فقال: هذا في القرآن (( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْآبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ )) وكذا وكذا.. الآية،قلت:ينظر إلى ساق امرأة أبيه أو إبنه

 

 

 

فقال ما أحب أن يرى ذلك من أخته وأمه، فكيف بغيرهما؟ "([406]) .

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (... وكذلك المرأة مع المرأة وكذلك محارم المرأة، مثل ابن زوجها وابنه وابن أخيها وابن أختها ومملوكها- عند من يجعله محرماً- متى كان يخاف عليه الفتنة أو عليها توجه الاحتجاب بل وجب " ([407]) .

أما العبارة المشهورة في أن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبه

فلم أجد عليها دليلاً من أقوال أهل العلم المعتبرين وقد ورد في ذلك حديث ضعيف لايعتد به([408]) .

وعلى تقدير صحة العبارة فقد وجهها بعض أهل العلم فيما يبدو من المرأة أمام نسائها في عمل المهنة، أو الإرضاع من غير قصد، أما أن تعمد المرأة إلى خياطة لباسها على هيئة تبدي فيه معظم جسدها أمام النساء حيث يجتمع فيه العري، ولباس الشهرة، وتقليد الكافرات؛ فهذا مما نقطع بأن العلماء قاطبة يتبرأون منه. فهل بقي بعد هذا البيان حجة لمن يجوز للمرأة أو لوليها التسامح في مثل هذه الملابس شبه العارية بحجة أنها بين النساء !!؟

وهـل يجوز للمرأة أو لوليها التسامح في حضور الحفلات التي تعج

 

بهذه المنكرات؟ اللهم لا إلا لمن تنكر وتغير.

ب- كونه زينة في نفسه:

والزينة تشمل الثياب الظاهرة والجلباب إذا كانت مزينة بزينة تلفت نظر الرجال إليها، وهذا من التبرج الذي نهى الله عنه في قوله سبحانه: (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) [الأحزاب:33}.

قال في فتح البيان: "التبرج أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجال " ([409]) .

ويقول الذهبي رحمه الله تعالى: "من الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطييبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر الحريريه والأقبية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة... " ([410]) أهـ.

رحم الله الإمام الذهبي فكأنه يصف ألبسة المرأة في زماننا اليوم حيث صار الجلباب أو ما يسمى بالعباءة زينة في نفسه، فهناك العباءة الفرنسية، والعمانية وغيرها، وهناك تفنن في أنواع النقاب بحيث صار زينة في  نفسه.

 

والحاصل أن اللباس إذا كان لباس شهرة وزينة في نفسه، ويلفت أنظار الرجال، فإنه يحرم على المرأة لبسه ولو كان سابغاً. ويدخل في ذلك ما أحدثه النساء اليوم من اشكال مختلفة للنقاب، فهو وإن ستر أكثر الوجه فإنه زينة في نفسه ويزيد في فتنة الرجال بهن.

جـ - كونه رقيقاً يشف ما تحته:

إذا كان الجلباب يشف ما تحته من جسم المرأة، فإنه لا يتحقق الستر به فضلاً على أنه يزيد المرأة فتنة وزينة. قال e: (( سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت. ألعنوهن فإنهن ملعونات)) ([411]) قال ابن عبد البر: " أراد النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة[412] (2).

د- كونه ضيقاً غير فضفاض:

إن الغرض من لباس المرأة سترها وإبعاد الفتنة بها وعنها، فإذا لبست الثوب الضيق الذي يحجم أعضاءها، لم ترتفع الفتنة لعدم ستره لصفة البشرة لوناً أو حجماً. وهذا موجب أن يكون فضفاضاً واسعاً. وما أكثر هذه المخالفات في لباس المرأة اليوم حيث تجد المرأة بحكم تقليدها وضعف

 

عقلها وجهلها أحياناً تحيط جسدها بلباس متناهٍ في الضيق إلى حد أنها لا تستطيع المشي فيه إلا بصعوبة، كما تشعر بضغطه على جسدها وصدرها إلى حد الضيق والألم؛ لكنه التقليد ومتابعة الموضة، وشعور بعض النساء بالنقص الذي يوارينه بالمخالفة ولفت الأنظار ولو كن لا يردنه ولا يسترحن للبسه!! نعوذ بالله من التقليد الأعمى.

هـ- مشابهته للباس الرجال:

وذلك لما روى أبو هريرة أنه قال: (( لعن رسول الله e الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل )) ([413]) .

وعن ابن أبي مليكة قال: قيل لعائشة : إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت      (( لعن رسول الله الرجلة من النساء))  ([414]) .

وبما أن لباس الرجل يختلف من مكان لآخر حسب أعراف الناس في اللباس؛ فإن مشابهة النساء للرجال في اللباس تختلف من مكان إلى آخر، فالمكان الذي لباس الرجال فيه المعاطف والسراويل أو البنطلونات لا يجوز للمرأة أن تلبسه في هذا المكان. والمكان الذي فيه لباس الرجل الإزار والرداء لا يجوز للمرأة أن تلبس مثله في هذا المكان. والمكان الذي يلبس

 

فيه الرجال العمامة والكوفية لا يجوز للنساء أن يلبسنه في هذا المكان ولا يعني القول بأن الفارق بين الرجال والنساء في اللباس هو عرف هذا المكان أو ما اعتاده الرجال والنساء- لا يعني هذا- أن يلبس الرجال أو النساء ما يشتهونه ويعتادونه وإنما المقصود: العرف المنضبط بشرع الله عز وجل والإلتزام بالشروط الشرعية في لباس الرجل والمرأة.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "... فلو كان اللباس الفارق  بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم؛ لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر علي الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية، لأن ذلك كان عادة لأؤلئك، وليس الضابط في ذلك لباساً معيناً، من جهة نص النبي e أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده... فالمرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك لدفع البرد لم تنه عن ذلك. فلو قال قائل: لم يكن النساء يلبسن الفراء؟ قلنا فإن ذلك يتعلق بالحاجة؛ فالبلاد الباردة تحتاج إلى غلظ الكسوة، وكونها مدفئة، وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة...         وأصل هذا أن تعلم أن الشرع له مقصودان: أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء. الثاني: احتجاب النساء. فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل الاختلاف، وقد تقدم فساد ذلك... وكذلك         أيضا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن             وبين الرجال، بل الفرق أيضا مقصود، حتى لو قدر أن الصنفين          اشتركوا فيما يستر ويحجب بحيث تشتبه لباس الصنفين لنهو عن         ذلك ... والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها

من التبرج والبروز ومشابهة الرجل ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل، وتطلب أن تعلو على الرجل كما يعلو الرجل على النساء... " ([415]) .

و- التشبه بلباس الكافرات:

لقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة فى النهي عن التشبه بالكفار في أحوالهم، رهيئاتهم، وشعائرهم. وجاء الأمر بمخالفة المشركين واليهود والنصارى والمجوس في هديهم الظاهر من اللباس والأكل، والهيئة العامة والعادات وغيرها. وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذه الأدلة في كتابه النافع المفيد (اقتضاء الصراط الممستقيم)، فليرجع إليها هناك، فإن المقام هنا ليس مقام تفصيل. وذكر رحمه الله تعالى بعض الحكم في مخالفة الكفار، ومن ذلك قوله فى بعض الحكم من مخالفتهم في الهدي الظاهر: "... منها أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا          أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابسى ثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخـلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك إلا أن يمنعه مانع... ومنها أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز

 

ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين "([416]) .

ولقد بلغ تقليد المسلمات اليوم للكافرات مبلغاً كبيراً وشنيعاً، وبخاصة

بعد انفتاح المرأة المسلمه على أزياء الكافرات، ولباسهن وعاداتهن، من خلال مجلات الأزياء، ووسائل الدعاية في وسائل الإعلام المرئية، والتي ينشر فيها من الألبسة الفاضحة العارية ما ينكره أصحاب الفطر السوية، فضلاً عن أهل الدين والخلق، ومع ذلك وقع في هذا التقليد كثير من المسلمات اللاتي ضعفت عقولهن ورق دينهن، ولم يجدن إلا أشباه رجال لم يشعروا بمسؤوليتهم ولا قوامتهم، فأهملوا رعيتهم، وخانوا أماناتهم، وتحملوا وزرهم ووزر من ضل بسبب إهمالهم وتفريطهم من غير أن ينقص من أوزار المقلدين شيئاً.

ومما يدل على أن كثيراً من المسلمات إنما يدفعهن التقليد الأعمى في ازيائهن ولباسهن أنك تجد المرأة المقلدة قد ألزمت نفسها بزي معين لا يحمل من الجمال شيئا؛ بل إن نفس المقلدة تكرهه وتعلم أنه يشوهها وقد يضيق عليها الخناق في جسدها، ولكنها الموضة الجديدة والتقليد الأعمى الذي يعمي البصائر، ويستعبد النفوس ويلغي الشخصية. ألا ما أتعس حياة المقلد: "إن المقلد يلغي بتقليده لغيره وجوده، ويقضي على كيانه، ويغمض عينيه ليرى بعيون الآخرين وأذنيه ليسمع بآذانهم، ويوقف حركة عقله وتفكيره ليفكر بعقولهم ... ولو أردنا الاختصار لقلنا : إنه يسـحق

نفسه ليكون جزءاً من الآخرين وتكملة لهم. هذا في التقليد ككل، فكيف إذا كان التقليد في الضار دون النافع، والخبيث دون الطيب، والفاسد دون الصالح. إنه حينئذ لا يكون إلغاء للشخصية فحسب، ولكنه يكون قتلاً للإنسانية في الإنسان، وتحطيفاً لمبدأ تكريمه الإلهي، ونزولاً إلي دركات العجماوات التي يقود قطيعها واحد منها، فيسقط القطيع كله متتابعاً إن سقط ذلك الواحد... "[417] (1).

ويصف سيد قطب رحمه الله تعالى ما تواجهه المقلدات واللاهثات وراء بيوت الأزياء من العنت والمشقة والإرهاق فيقول: "... هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً.. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وكلافتهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم. ومع ذلك لا يمكلون إلا الخضوع لها.. أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء.. الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف... إلى آخر هذا الاسترقاق المذل.. من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء. وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذي يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!.. ولكنهم لا يقفون بالسـلاح الظاهر

والجند المكشوف، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها، ويؤصلونها بنظريات وثقافات؛ ويطلقونها تضغط على الناس في صورة (عرف اجتماعي). فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي مالم تتمثل في أنظمة حكم، وأوضاع مجتمع، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه! " ([418])  .

ويصف الأستاذ الشبانة حفظه الله تعالى بعضاً من جوانب تقليد المرأة المسلمة للكافرات فيقول: "وقد قلدت المرأة المسلمة المرأة الغربية الكافرة في أشياء كثيرة: قلدتها في السفور وانتهاك حرمة الحجاب، مستجيبة في انهزام ظاهر لدعوة الداعين إلى ذلك وتزيين المزينين وتضليل المضللين، من الغزاة ومن بني جلدتها من المهزومين الوالغين في حب الغزاة وتقليد الغزاة والتلقي عن الغزاة...

وقلدتها كذلك في التبرج والإسراف في استعمال الزينة بمختلف أشكالها وأنواع أدواتها، وذهبت بعيداً في العناية بذلك والاهتمام به حتى نسيت قيمتها وجوهرها وتذكرت "شكلها" فقط؛ فراحت تصوغه كما يريد لها المفسدون في الأرض، وتلطخ وجهها بالمساحيق ما بين أحمر وأخضر وأسود، فلم تعد امرأة بقدر ما أصبحت لوحة تشكيلية اختلطت فيها ا لألوان...

 

وقلدتها مرة أخرى في اللباس- وما اللباس؟ ليس أعظم شأناً من السفور والتبرج. فراحت تتابع "السيدة الغربية" في أمر لباسها حذو القذة بالقذة: إن لبست قصيراً لبست قصيراً، وإن لبست طويلاً لبست طويلاً، وإن لبست ضيقاً لبست مثلها، وإن لبست واسعاً فضفاضاً لبست كذلك، وراحت في تقليدها في أمر اللباس إلى أبعد من ذلك؛ فجعلت- كما جعلت تلك- للصباح لباساً معيناً، وللظهيرة لباساً محدداً، وللمساء لباساً آخر غيرهما، وللسهرة ما يختلف عنها جميعاً، ولبست الغربية        الحذاء ذا "الكعب العالي " فلبسته هي... وهي في ذلك كله إنما تلاحق "الموضة" التي تمر بالغرب، ثم يتلقفها الشرق فتسري في نسائه سريان النار في الهشيم " ([419]) .

ز- كونه لباس شهرة:

وذلك لقوله e : (( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً))([420])  وهذا عام للرجال والنساء.

ولباس الشهرة هو كل ثوب قصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثوب نفيساً يلبسه تفاخراً بالدنيا وزينتها أوخسيساً يلبسه إظهاراً للزهد وا لرياء (3).

 

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: "قال ابن الأثير: الشهرة ظهور الشيء، والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر" ([421]) ، وقال أيضاً: "وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف. لأن التحريم يدور مع الاشتهار والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع " ([422]) .

وما أكثر البسة الشهرة اليوم بين النساء، وذلك لما ينتشر بينهن ويتفاخرن به من أنواع اللباس وألوانه. فهذه تفتخر وتريد أن تشتهر بين النساء بلباسها الذي يبلغ قيمته الآلاف من الريالات، والأخرى تريد أن تشتهر بلباسها الذي اشترته من البلد الغربي الفلاني، ويندر وجود مثله بين النساء، وثالثه تلبس لباسًا يظهر كثيراً من أجزاء جسمها وبألوان صارخة حتى تتميز بين النساء وتشتهر به، وغير هذا وغيره عياذاً بالله تعالى. فكل هذا من لباس الشهرة الذي جاء تحريمه على لسان الرسول e.

ح- كونه مبخراً ومطيباً يشم رائحته الأجانب.

وذلك لقوله e : (( أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل)) ([423]) .

 

وقوله e : (( وإذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً )) ([424]) ، ولقوله e : (( أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) ([425])

فكل هذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على حرمة تطيب المرأة لنفسها وثيابها إذا كانت ستمر بقوم اجانب ، ولا تخفى الحكمة من هذا التحريم ألا وهي أن الطيب يحرك داعي الشهوة عند الرجل . والله أعلم .

2 ـ خروج المرأة من بيتها من غير حاجة واختلاطها بالرجال

إن من تكريم الإسلام للمرأة المسلمة أن جعل إسكانها والنفقة عليها مضمونين لها في كنف أبيها أو زوجها ، أو ابنها ، وأعفاها من العمل خارج بيتها لتنفق على نفسها ، وذلك لتتفرغ لمهمتها الشريفة في بيتها . والأصل في لزوم المرأة بيتها قوله تعالى : (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [الأحزاب: 33] ، وهذا الخطاب وإن كان لنساء النبي e الطاهرات المطهرات ، فإنه من باب أولى لمن دونهن . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وعلى الذين يقولون بخصوصيته لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن يقولوا بأن جميع الأوامر في هذه الآية من عدم التبرج تبرج الجاهلية ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة خاص بنساء النبي e ، ولا يدخل فيه عموم نساء الأمة ، وهذا لا يقوله عاقل فضلاً عن أن يقوله منتسب للعلم أو الدعوة .

ولقد قص الله عز وجل علينا قصة قدوم موسى عليه الصلاة والسلام

إلى ماء مدين لنأخذ منها العبرة، وليس لمجرد التسلي بالقصص قال تعالى: (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) [يوسف: 111]، ومن العبر العظيمة المتعلقة بمسألتنا في هذه القصة ما يلي:

أ- في قول الله تعالى: (( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)) [القصص:23]، والعبرة من هذه الآية أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ورد ماء مدين وجد من دون الناس امرأتين منعزلتين عن الناس تذودان غنمهما عن الإختلاط بغنم الناس وذلك لما تربيا عليه من أبيهما الصالح باحتراز المرأة في خروجها من أن تختلط بالرجال.

2- وفي قول الله تعالى: (( قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)) ، والعبرة من هذه الآية أن موسى عليه الصلاة والسلام سألهما عن سر ابتعادهما عن الرعاء الرجال، فأخبرتاه أنهما لا تسقيان حتى يذهب الرعاء صيانة لأنفسهما من الإختلاط. ثم ذكرتا سريعاً سبب خروجهما، وأنهما ما خرجتا إلا من ضرورة؛ فأبوهما شيخ كبير لا يستطيع الرعي والسقيا.

3- وفي قول الله تعالى: (( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)) [القصص:26]، والعبرةمن هذا القول أن المرأة لما رأت قوة موسى وأمانته عليه السلام، وكانت كارهة للخروج ومزاحمة

الرجال رأت أن في استئجاره فرصة لبقائهما في منزلهما، لأن خروجهما

كان طارئاً ولضرورة. هذا هو شرع الله عز وجل وسنة عباده المرسلين.

وبعد هذا كله نقول للمرأة الذي ضاق بها بيتها رنقول للمنادين والناعقين لها بالخروج. ما ذا تريدون من وراء إخراج المرأة من سكنها وسترها؟

إن كنتم تريدون أن تعمل لكي ينمو اقتصاد البلد، ولكي لا يبقى نصف المجتمع معطلاً بزعمكم، فنقول لكم: إن بقاء المرأة في بيتها ليس تعطيلاً لنصف المجتمع عن العمل، فو الله إن عملها في بيتها وفي توفير السكن لزوجها وتربية أولادها لمن أعظم الأعمال وأشرفها، وهو العمل الذي يتناسب مع فطرتها وتكوينها الجسمي والعقلي، والله سبحانه أعلم وأحكم حيث أمرها بالقرار في بيتها فهل أنتم أعلم أم الله؟!!

ثم إن قولكم بأن عملها يساهم في تنمية اقتصاد البلد؛ فيا سبحان الله وهل وظفت جميع طاقات الرجال من شباب وكهول في التنمية حتى بقي فائض من الأعمال تريدون ملأه بالنساء!؟ إنكم تعلمون والكل يعلم أنه ما من بلد من بلدان المسلمين اليوم إلا ويشكو من البطالة وعدم وجود فرص العمل لعشرات الآلاف من الرجال الشباب، فابدأوا بالرجال أولاً فإذا بقي فائض فعندئذ يمكن لكم القول بقولكم.

وإن كنتم تريدون المرأة المضطرة للعمل خارج منزلها لعدم وجود من ينفق عليها؟ فهذا له جواب آخر وهو أن الضرورة لها ضوابطها وأحكامها

وشروطها والضرورة تقدر بقدرها، ثم ستكون هذه الشريحة من النساء قليلة لأن الله عز وجل أوجب على ولي المرأة من أب أو زوج أو ابن أن ينفق عليها، ولا يضطرها للعمل لتنفق على نفسها، إلا عند عجزه أو وفاته. ثم كيف تجعلون مسائل الأعيان وأحكام الضرورة وسائل تهدمون بها الأصل الكلي وهو بقاء المرأة في بيتها تزاول مهمتها التي شرفها الله بها من تربية أولاده وتوفير السكن النفسي والعضوي لزوجها قال تعالى: (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)) [الروم:21]، إن هدم الأصول الكلية بالمسائل الجزئية وقضايا الأعيان من صنيع أهل البدع ومآخذهم في الاستدلال، هذا ما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى بقوله: "ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية، لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملاً فهي في محل التوقف، وإن اقتضت عملاً فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم، وتتأول الجزئيات حتى ترجع إلى الكليات، فمن عكس الأمر حاول شططاً ودخل في حكم الذم... فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة، وشأن متبعي الشبهات أخذ دليل ما- أي دليل كان- عفواً وأخذاً أولياً، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً، فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به "ومن أصدق من الله حديثا" ([426])  ".

وإن كنتم تريدون أن تعمل في ما يناسبها من الأعمال التي لا يصلح

أن تقوم بها إلا المرأة كتدريس النساء وتطبيبهن ونحو ذلك فنقول: نعم ولكن بضوابطه وشروطه الشرعية ومن أهمها.

ا- أن لا يكون في عملها هذا تعطيل لمهنتها الأساسية في بيتها، كالتفريط في حقوق الزوج وغياب الهدف من الزواج وهو السكن أو التفريط في تربية الأولاد، وإحالة حضانتهم والعناية بهم إلى الخادمات والحاضنات الأجنبيات.

2- أن يكون خروج المرأة من بيتها بالحشمة والستر ومراعاة الشروط السابق ذكرها في لباس المرأة.

3- ابتعادها عن الاختلاط بالرجال أو الكلام اللين معهم سواء مشافهة

أو بالهاتف.

4- أن يكون خروجها عن حاجة تدعو إليها.

إنه متى ماروعيت هذه الضوابط وأسست المدارس والمستشفيات على تقوى من الله ورضوان جاز للمرأة المسلمة العمل فيها.

والسؤال هنا: هل هذه الضوابط ممكنة في هذا الزمان؟! إنني أشك في ذلك وذلك لما يلي:

* كم وكم رأينا وسمعنا من الشكاوى المرة لبعض الأزواج من ضياع حقوقه، وفقده للسكن في بيته، ونشوز امرأته عليه، وضياع الأولاد وفقدهم لعاطفة الأمومه، وذلك لما خرجت المرأة من بيتها معظم اليوم

 

وعطلت بذلك واجباتها .

* كم وكم من النساء اللاتي لا يلتزمن باللباس الشرعي عند خروجهن من البيت، بل أنهن يتفاخرن بينهن بالجديد من اللباس الفاضح الذي تعرضه بيوت الأزياء الكافره في مجلاتهم ودعاياتهم، وفي الأجهزة المرئية.

وأما مسألة الاختلاط بالرجل، أو الخلوة به أو الكلام اللين والخضوع

في القول معه، فلا يخفى على أحد وضع التعليم المختلط والمستشفيات المختلطة في أكثر بلدان المسلمين، وما تعج به من المحاذير والمفاسد. فكيف يرضى مسلم لموليته، أو ترضى مسلمة لنفسها أن تخالط الرجل أو تخضع بالقول معه أو تخلو به. وقد نهانا الله عز وجل عن ذلك في كتابه ونهانا رسول الله e في سنته.

قال الله عز وجل: (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً.وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) [الأحزاب32-33]، وقال الرسول e: (( لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي حرم)) ([427]) وقال أيضاً: (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))([428]) .

* وكم من الشكاوى والاشفتاءات لأهل العلم من بعض النساء اللاتي يعملن في أجــواء مختلطة يذكرن فيها من المخالفات والتحرشات من

 

الرجل وبخاصة فى المستشفيات، هذا إذا كانت المرأة لا يزال فيها بقية من خير ودين، أما رقيقات الدين فالله أعلم بحالهن.

إن المرأة التي تعيش في هذه الأجواء الفاسدة بحجة تقديم الخدمة لأخواتها المسلمات حتى لا تحتاج إلى الطبيب الرجل، وذلك بوجود الطبيبة المسلمة. إن مثل هذه كمثل الشمعة التي تضيء لغيرها وتحرف نفسها.

والقصد من ذكر هذه الضوابط الإشارة إلى أن عمل المرأة ولو في ما يناسبها من العلم لا يخلو من محاذير شرعية في زماننا اليوم إلا من التزم  من النساء بهذه الضوبط وهن قليل نسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا القليل([429]) .

وبقي احتمال آخر من مقاصد القوم في إخراج المرأة المسلمة من بيتها وهو مالم يفصحوا عنه، ولو أفصحوا عنه لأراحونا من عناء الرد عليهم، ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يظهره على فلتات ألسنتهم وفي لحن القول منهم. وهذا المقصد الخطير هو جر المرأة المسلمة لتخرج من بيتها الذي وجدت فيه العفاف والستر قروناً طويله إلى أن تحاكي المرأة الغربية فتهجر

بيتها وتخالط الرجل في العلم ويستمتع المفسدون والمنافقون بهذا الخروج ويوظفونه في مخططاتهم الخبيثه.

يقول الأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله تعالى: (وفي الوقت الذي يتجرع فيه الغرب آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها، كان بعض كتابنا ومفكرينا ينادون بأن نأخذ في ذلك الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزاً عنيفاً أفقده استقراره واتزانه، وعرض سلامته وكيانه لأشد الأخطار. ولقد يبدو للدارس المتأمل أن المرأة لا توضع الآن حيث تدعو الحاجة- صحيحة كانت أو مزعومة- إلى أن توضع، ولكنها توضع لإثبات وجودها في كل مكان ولإقحامها على كل ما كان العقل والعرف ينادي بعدم صلاحيتها له. فليس المقصود بتوظيفها في هذه الأيام سد حاجة موجودة، ولكن المقصود هو مخالفة عرف راسخ، وتحطيم قاعدة قائمة مقررة، وإقامة عرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذوق، وخلق المبررات والمقومات التي تجعل انسلاخنا من إسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا أمراً واقعاً، كما تجعل دخولنا في دين الغرب، ومذاهب الغرب وفسق الغرب أمراً واقعاً كذلك "([430]) ).

ويعلق الأستاذ الشبانة على هذا الكلام بقوله: "فانظر- رعاك الله- مقدار الخطر الذي يهدد حياة المسلمين من جراء هذا الأمر الذي يبدو في ظاهره بسيطاً مهملاً، وهو إخراج المرأة المسلمة من بيتها وتوظيفها بجانب

 

الرجل. إنه خطر ما حق مدمر...

... إن ما يدعو إليه المنهزمون من بني جلدتنا في الديار الإسلامية قديماً وحديثاً من خروج المرأة من بيتها، وطرحها حجابها، واختلاطها بالرجل في كل مكان، ومشاركتها إياه في الوظيفة العامة- سعي نحو تدمير المرأة نفسها وتدمير الرجل كذلك، بل وتدمير المجتمع كله ومن ثم الأمة في مجموعها.

إن ذلك خطر كبير، وشر مستطير، وما أكثر ما كتب وما قيل عن ذلك، بياناً وتحذيراً ولفتاً لأنظار أولئك المنهزمين الببغائيين إلى الآثار المدمرة لذلك كله في المرأة الغربية والرجل الغربي والأسرة الغربية والمجتمع الغربي بل والأمة الغربية عامة.

ولفتاً لأنظارهم كذلك إلى الصيحات المتتالية والصرخات المتعاقبة التي يطلقها بين الحين والحين رجال غربيون ونساء غربيات، ممن اكتووا واكتوين بنار المكر اليهودي المقيت والتدبير الشيطاني الخبيث.

ألم يقل رئيس وزراء فرنسا عقب هزيمة بلاده الساحقة من قبل ألمانيا خلال أسبوع واحد: "إن فرنسا هزمها الانحلال قبل الاحتلال "؟!

وألم تقل "مارلين مونرو" الممثلة الأمريكية التي طبقت شهرتها  الآفاق، والتي انتحرت فجأة في لحظة إحساس مرير بالتعاسة كأنثى طبيعية وكأم- ألم تقل في الرسالة التي وجهتها إلى فتاة تطلب نصيحتها: "احذري المجد. احذري كل من يخدعك بالأضواء. إني أتعس امرأة على

 

هذه الأرض، لم أستطع أن أكون أماً، لقد كنت أفضل البيت والحياة العائلية الشريفة على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة الزوجية الطاهرة التي هي رمز سعادة الأنثى بل الإنسانية. لقد ظلمني كل الناس، وجعل العمل في السينما مني سلعة رخيصة مهما نلت من السمعة والشهرة الزائفة،.

فهل بعد هذا التحذير- من امرأة كانت يوماً سيدة "هوليود"، الأولى، والتي كانت النساء تنظرإليها على أنها أسعد امرأة في العالم- من تحذير؟! فهل من مدكر؟!

وفي جريدة "استيرن ميل " نشرت كاتبة إنجليزية مقالاً يقطر حسرة وأسى قالت فيه بالحرف الواحد: "إنني أتمنى أن تسير بلادنا على نظام الإسلام، ولأن يشتغل بناتنا خوادم في البيوت، أو كالخوادم خير لهن وأخف بلاء من اشتغالهن في المصانع والمعامل التي تذهب بجمال أنوثتهن ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفة والطهر؟ إذ الخادم والرقيق يتنعمان بأسعد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء، فما بالنا لا نسعى لجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعية من شئون البيت والزوج والولد، وتدع أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها؟!...

... إني لا أرى كلاماً من أنثى تعيش المأساة وتتكلم بمنتهي الصراحة أكثر صـراحة وواقعية مـن هذا الكلام ؟ فهل يتعظ "مهزومونا" وهل

 

يذكرون؟! وهل يعتبرون؟!" ([431])  .

3- تصوير المرأة وظهورها في البطاقات وغيرها

سبق الحديث عن صور ذوات الأرواح وبيان الأدلة الصحيحة الواردة بتحريمها فليرجع إلى ذلك. ولكن الجديد هنا هو تصوير المرأة التي هي عورة، ويجب أن تصان عن أعين الأجانب، فزاد الأمر حرمة، واجتمع النهي عن التصوير بعامة مع تصوير المرأة وظهور صورتها للأجانب في شكل بطاقة أو جواز أو غير ذلك، مع ما في ذلك من شعور المرأة باستقلاليتها عن وليها وضعف قوامته عليها. وإن هذه المخالفة أثر من آثار خروج المرأة من بيتها وعملها في الخارج كما يعمل الرجل، فعاد الأمر إلى المخالفة الأولى وهو خروجها من بيتها للعمل فلما استقر ذلك الأمر وأصبح مألوفاً جاءت الخطوة التالية- وهكذا خطوات الفساد- وهي أنه لا بد للمرأة من هوية وصورة تعرف بها، حتى لا تضيع حقوق النساء وأموالهن بسبب التزوير والإدعاءات الكاذبة، فأصبحت الصورة ضرورية لحماية الحقوق والتعرف على أصحابها- هكذا زعموا([432])- وهو كلام ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. لأن المنادين ببطاقة المرأة

وظهور صورتها فيها هم الذين نادوا بخروجها للعمل دون قيد ولا شرط وقد سبق مناقشتهم في ذلك وفضح أمرهم.

فلما خرجت النساء وكثر وجودهن في الأعمال انتقلوا إلى الخطوة الثانية وهي تصويرها ولم يذكروا ذلك في بداية الأمر، حتى إذا ألف الناس الخطوة الأولى انتقلوا إلى هذه الخطوة. إذن فهذه المناداة بتصوير المرأة في البطاقة تأسس على غير التقوى. وما بني على باطل. فهو باطل ومما يدل على أن صورة المرأة وظهورها في بطاقة أو غيرها مطلوب بذاته أن بعض الغيورين من المختصين بمعرفة إثبات الشخصية قد اقترحوا طريقة أدق في اثبات الشخيصة كالبصمات مثلاً فلم يجد هذا الاقتراح آذاناً صاغية، فليحذر إخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات من هذه المخالفات والله حسبنا ونعم الوكيل.

وقد يقول بعض الطيبين: إن بطاقة المرأة مثل جواز السفر الذي تظهر فيه صورتها، فنقول إن الحالين واحدة والحكم عليهما واحد إلا في حالات الضروة التي لا يستطيع المسلم سدها إلا بالوقوع في هذا المحذور بعد التأكد من شروط الضرورة وضوابطها، فحينئذ يجوز للمضطر الوقوع في المحذور ويبقى الحكم على أصله لا يهدم بهذه الاستثناءات الطارئة، ويبقى تحديد الحالات والأشخاص الذين يقعون تحت مفهوم الضرورة عائداً إلى أهل العلم الراسخين وليس إلى أهواء الناس أو المسايرين لهم من أنصاف العلماء.

وقد يقول قائل إن الأمر أصبح مألوفاً ومعتاداً في جميع البلدان ولا بد

منه لأنه من متطلبات الحياة المعاصرة فلا فائدة من هذا الكلام لأنه سباحة ضد التيار. وللجواب على هذه الانهزامية نقول ما قاله الله عز وجل في كتابه الكر!م: (( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأعراف:164]، ثم لا ننسى أن الجنة محفوفة بالمكاره وأن أيامنا هذه هي أيام الصبر والقبض على الجمر.

فليحرص المسلم على نفسه وأهله في تجنيبهم هذه المنكرات، وليحث المسلمون على مقاطعتها ولو فاتهم ما فاتهم من الدنيا بسببها فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه.

وأختم الحديث عن ما يتعلق بالمرأة ببيان من اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية تحذر فيه من تلك الدعوات المحمومة لإخراج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال وتصوير وجهها في بطاقات تتناولها الأيدي. وفيما يلي بيان اللجنة:

"الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:

فمما لا يخفى على كل مسلم بصير بدينه ما تعيشه المرأة المسلمة تحت ظلال الإسلام- وفي هذه البلاد خصوصاً- من كرامة وحشمة وعمل لائق بها، ونيل لحقوقها الشرعية التي أوجبها الله لها، خلافاً لما كانت تعيشه في الجاهلية، وتعيشه الآن في بعض المجتمعات المخالفة لآداب

الإسلام من تسيب وضياع وظلم. وهذه نعمة نشكر الله عليها، ويجب علينا المحافظة عليها، إلا أن هناك فئات من الناس ممن تلوثت ثقافتهم بأفكار الغرب لا يرضيهم هذا الوضع المشرف الذي تعيشه المرأة في بلادنا من حياء، وستر، وصيانة، ويريدون أن تكون مثل المرأة في البلاد الكافرة والبلاد العلمانية، فصاروا يكتبون في الصحف، ويطالبون باسم المرأة بأشياءتتلخص في:

ا- هتك الحجاب الذي أمرها الله به في قوله: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)) [الأحزاب:59]، وقوله تعالى: (( سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)) [الأحزاب:53]، وبقوله تعالى: (( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ)) [النور:31]، الآية، وقول عائشة في قصة تخلفها عن الركب ومرور صفوان بن المعطل عليها وتخميرها لوجهها لما أحست به قالت: وكان قد رآني قبل الحجاب، وقولها: "كنا مع النبي e ونحن محرمات فإذا مر بنا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه "، إلى غير ذلك مما يدل على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة من الكتاب والسنة، ويريد هؤلاء منها أن تخالف كتاب ربها وسنة نبيها، وتصبح سافرة يتمتع بالنظر إليها كل طامع وكل من في قلبه مرض.

2- ويطالبون بأن تمكن المرأة من قيادة السيارة، رغم ما يترتب على ذلك من مفاسد، وما يعرضها له من مخاطر لا تخفى على ذي بصير.

3- ويطالبون بتصوير وجه المرأة ووضع صورتها في بطاقة خاصة بها تتداولها الأيدي، ويطمع فيها كل من في قلبه مرض، ولا شك أن ذلك وسيلة إلى كشف الحجاب.

4- ويطالبون باختلاط المرأة والرجال، وأن تتولى الأعمال التي هى من اختصاص الرجال وأن تترك عملها اللائق بها والمتلائم مع فطرتها وحشمتها، ويزعمون أن في اقتصارها على العمل اللائق بها تعطيلاً لها. ولا شك أن ذلك خلاف الواقع، فإن توليتها عملاً لا يليق بها هو تعطيلها في الحقيقة، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة من منع الاختلاط بين الرجال والنساء، ومنع خلو المرأة بالرجل الذي لا تحل له، ومنع سفر المرأة بدون محرم، لما يترتب على هذه الأمور من المحاذير التي لا تحمد عقباها. ولقد منع الإسلام الاختلاط بين الرجال والنساء حتى في مواطن العبادة، فجعل موقف النساء في الصلاة خلف الرجال، ورغب في صلاة المرأة في بيتها، فقال النبي e : (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن))([433]) ، كل ذلك من أجل المحافظة على كرامة المرأة وإبعادها عن أسباب الفتنة،.

فالواجب على المسلمين أن يحافظوا على كرامة نسائهم، وأن لا يلتفتوا إلى تلك الدعايات المضللة، وأن يعتبروا بما وصـلت إليه المرأة في

 

المجتمعات التي قبلت مثل تلك الدعايات، وانخدعت بها، من عواقب وخيمة، فالسعيد من وعظ بغيره، كما يجب على ولاة الأمور في هذه البلاد أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء ويمنعوا من نشر أفكارهم السيئة، حماية للمجتمع من آثارها السيئة وعواقبها الوخيمة، فقد قال e : (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))([434]) ، وقال عليه الصلاة والسلام:  (( واستوصوا بالنساء خيراً))([435]) ، ومن الخير المحافظة على كرامتهن وعفتهن وإبعادهن عن أسباب الفتنة.

وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

نائب الرئيس                                  الرئيس

عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ          عبد العزيز بن عبد الله بن باز

 

عضو                    عضو                     عضو

عبد الله بن عبد الرحمن الغديان     بكر بن عبد الله أبوزيد       صالح بن فوزان الفوزان

 

القسم الرابع: المخالفات المتعلقة بالمال والاقتصاد

 

المقصود بالمال والاقتصاد هنا هو كل ما يتموله الإنسان وينميه ويحوزه

إلى نفسه من متاع الحياة الدنيا، سواء كان ذلك المال نقداً كالذهب والفضة وما ينوب عنها من العملات الورقيه، أو كان عيناً كامتلاك البيوت والحروث والحيوان، وأنواع التجارات والبضائع.

قال الله تعالى: (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) [آل عمران:14]

  وقد زين الله عز وجل حب المال وتملكه إلى النفوس، وجعله فتنة واختباراً للناس. ولا يلام العبد على حب المال، ولكن يلام إذا أداه ذلك إلى كسب المال من طريق حرام أو صرفه في طريق حرام، أو أشغل صاحبه عن الآخرة والاستعداد لها، أو أداه ذلك إلى التكبر على الخلق، أو أداه إلى ترك حق الله فيه وهو الزكاة.

ولقد حذرنا الله عز وجل من فتنة الأموال في أكثر من آية منها.

قوله تعالى: (( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التغابن:15] ، وقوله عز وجل: (( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)) [الكهف:46]، وقوله تعالى:     (( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) [الحديد:20]، وقوله سبحانه: (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) [التكاثر:1-2]، وقوله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) [المنافقون:9]

وأما الأحاديث في التحذير من فتنة المال فكثيرة منها:

قوله e: ((  والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط علكيم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم. فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) ([436]) .

وقوله e: (( ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال) من الحلال أم من الحرام)) ([437]) .

وقوله e: (( كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله عز وجل قال: " أوغير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون ثم تتدابرون))([438]) .

 

 

ولقد أنفتح المال في هذا الزمان على الناس انفتاحاً عظيماً، وتنوعت مصادره ومصارفه تنوعاً لم يسبق له نظير، وفشت فيه التجارة فشواً هائلاً، وتقاربت فيه أسواق الدنيا حتى إن الرجل ليبيع ويشتري من الأسواق العالمية شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً وهو في بيته عن طريق شبكة "الإنترنت "، وقد جاء عن النبي e أن هذا الفشو والتقارب يكون في آخر الزمان عند قرب قيام الساعة وذلك في قوله: (( إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم)) ([439]) ، وقوله e: (( لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب ويتقارب الأسواق ويتقارب الزمان ويكثر الهرج، قيل وما الهرج؟ قال: القتل))([440])، وقد أدى هذا الانفتاح الهائل إلى تنازلات ومخالفات شرعية كثيرة وكبيرة وقع فيها أكثر الناس إلا من رحم الله تعالى من عباده الصالحين الذين تعاملوا مع هذه الأموال بحذر فلم يركنوا إليها ولم ينسوا يوم الحساب الذي قال فيه النبي e: (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما انفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)) ([441]) .

وانطلاقاً من هذا الحديث الشريف يمكن تقسيم المخالفات التي تحصل اليوم في عالم المال والإقتصاد إلى قسمين كبيرين:

الأول: مخالفات شرعية في اكتسابه.

الثاني: مخالفات شرعية في إنفاقه.

ويندرج تحت كل قسم صور وأمثلة كثيرة وذلك حسب التفصيل التالي:

أولاً: من صور المخالفات الشرعية في اكتساب المال:

أ- أكل الربا: قال e: (( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه شاهديه وقال: هم سواء)) ([442])  .

وهو على نوعين:

ا- ربا الفضل: وهو بيع مكيل بمكيل من جنسه، أو موزون بموزون

من جنسه متفاضلاً.

2 - ربا النسيئة: وهو بيع موزون بموزون من جنسه أو من غير جنسه، أو مكيل بمكيل من جنسه أو من غير جنسه إلى أجل.

وليس المقام هنا مقام تفصيل، ولكن أود الإشارة إلى ما هو شـائع

 

 

 

اليوم من أكل الربا باسم الفوائد الربوية. وهو أن يقترض فرد أو مؤسسة من فرد أو مؤسسة أخرى شريطة أن يعيد المقترض المال إلى المقرض بعد مدة معلومة بنسبة زائدة على أصل المال المقترض، وإذا لم يوف في المدة المتفق عليها ضوعفت النسبة وصار الربا أضعافاً مضاعفة وهذا هو الربا الشائع اليوم في البنوك والمصارف التجارية إلا من رحم الله، حيث تعطي البنوك المودعين عندها- وهم في الحقيقة مقرضون للبنوك وليسوا مودعين - فتعطيهم البنوك فوائد ربوية عن كل سنة تمر على هذه الأموال عندهم، والبنوك بدورها تأخذ فوائد على ما تقرضه للأفراد، أو ما تودعه في البنوك العالمية الكبيرة. فالمال عند البنوك قائم على الربا آخذة ومعطية، وهذا النوع من الربا قد جمع بين ربا الفضل وربا النسيئة.

ومع بيان حرمة الربا فإن كثيراً من المسلمين اليوم قد وقعوا فيه إما بإيداع أموالهم في بنوك الربا وأخذ الفوائد عليها، وإما بدخولهم مساهمين في هذه البنوك الربوية، وإما بالمساهمة في شركات كبيرة يعلم علم اليقين أنها تودع جزءاً من رأس مالها في البنوك الربوية، ثم تأخذ الفوائد الربوية لتوزعها على المساهمين على أنها أرباح استثمارية.

كما يلحق بالمال الحرام المال المكتسب من العمل في هذه البنوك الربوية وبخاصة كتابة العقود والشهادة عليها، وهناك من أفتى من أهل العلم بحرمة العمل في هذه البنوك مهما كان نوع العمل ولو كان في حراستها، أو مقسمات الهاتف فيها، أو غير ذلك من الأعمال التي تعزز صروح الربا وتحميها.

وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل ينطبق على كاتب الحسابات في بنك أجنبي حديث (( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) ([443])؟ فأجابت: "البنوك الأجنبية تتعامل بالربا مع من تقرضه، ومع من يودع فيها نقوداً ومع غيرهم، ولا بد لمن عمل فيها كاتباً للحسابات أن يتولى حساب المعاملات الربوية، ويقيد في الدفاتر ما على كل طرف من أطراف المعاملات وماله، ويتحدد بذلك المدين من الدائن، وعلى ذلك ينطبق الحديث المذكور على كاتب الحساب في البنوك الأجنبية وما في حكمها من المصارف " ([444]) .

ثم سأل السائل سؤالاً ثانٍ: هل العمل في البنوك حرام وما يتقاضاه الموظف فيها حرام؟

فأجابت اللجنة: "مما تقدم في الجواب عن السؤال الأول يتبين أن العمل في البنوك التي تتعامل بالربا محرم؛لأن الموظف فيها إما كاتب حساب الربويات، أو متسلم النقود التي يتعامل فيها بالربا، أو مسلم لها، أو حاملها أو ناقل أوراقها، من مكتب إلى آخر، أو مكان آخر أو مساعد هؤلاء على أعمالهم بقضاء مصالحهم في البنك ونحوه فهم في عمل محرم بطريق مباشر أو غير مباشر وما يتقاضاه المكلف بذلك على القيام بعمل محرم من الأجر حرام)([445])  .

ب- التحايل على أكل الربا:

ومن التحايلات المشهورة في أكل الربا ما يسمى "بيع العينة" وهي التي ورد ذكرها في قوله e: (( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) ([446]) .

والعينة: أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه منه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر يدفعه نقداً.

إذن فالعينة في حقيقتها من ربا النسيئة، ولكن صاحبها تحايل في ذلك بإدخال سلعة من ثوب أو طعام أو نحوهما ليضفي الشرعية على فعله وأنه لم يرتكب محظوراً، والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، ويعلم ما في القلوب، ولا تنطلي عليه الحيل، وإثم المتحايل على الحرام بحيلة لاستحلاله أعظم من الوقوع في الحرام نفسه مع اعتقاد تحريمه.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "... فليصنع أرباب الحيل

ما شاءوا، وليسلكوا أية طريق سلكوا؛ فإنهم لا يخرجون بذلك عن بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة، فليدخلوا محفل الربا أو يخرجوه فليس    هـو المقصود، والمقصود معلوم، والله لا يخاع ولا تروج عليه الحيل ولا

تلبس عليه الأمور" ([447])  .

ويتحدث في موطن آخر عن بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت بحيلة والفرق بين ذلك وبين أكلهم الربا فيقول: "ولم يعاقب أولئك- أي أكلة الربا- بالمسخ كما عوقب به من استحل الحرام  بالحيلة؛ لأن هؤلاء لما كانوا أعظم جرماً كانت عقوبتهم أعظم، فإنهم بمنزلة المنافقين يفعلون ما يفعلون، ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم، بخلاف من أكل الربا وأموال الناس بالباطل والصيد المحرم عالماً بتحريمه.

فإنه يقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وخشيته لله واستغفاره وتوبته يوماً ما، واعترافه بأنه مذنب عاصي وانكسار قلبه من ذل المعصية، وازدراؤه على نفسه ورجاؤه لمغفرة ربه له، وعد نفسه من المذنبين الخاطئين.

وهذا كله إيمان يفضي بصاحبه إلى خير، بخلاف الماكر المخاع المحتال على قلب دين الله؛ ولهذا حذر النبي e أمته من ارتكاب الحيل فقال: (( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))([448]) ، وقد أخبر الله تعالى أنه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.

 

 

فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تكع فيه الرجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السرائر، وتظهر فيه الضمائر، ويصير الباطل فيه ظاهراً، والسر علانية، والمستور مكشوفاً، والمجهول معروفاً، ويحصل ويبدو ما في الصدور، كما يبعثر ويخرج ما في القبور، وتجري أحكام الرب تعالى هنالك على القصود والنيات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات. يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه، وما فيها من البر والصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر وا لاحتيال " ([449])  .

ب- البيوع المحرمة:

أصل البيع مباح لقوله تعالى: (( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)) [البقرة: 275]، ويخرج من البيع المباح بيع المحرمات، والبيوع القائمة على الجهالة أو الغرر أو التدليس والغش والخداع، أو التي فيها إضرار بالمسلمين أو التي تؤول إلى محرم؛ وما أكثر البيوع المحرمة في زماننا اليوم والتي كثر فيها الخداع والجهالة والاشتباه. ومن أشهر هذه البيوع المحرمة ما يلي:

ا- بيوع الغرر والجهالة: وهي البيوع التي تتم على سلعة مجهولة لم تعرف صفتها، أو لم تحدد بعينها، أو لم يحدد ثمنها، ومن أمثلة ذلك ما جاء عن النبي e: (( أنه نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر)) ([450]) وذلك أن يرمي بحصاة على مجموعة من السلع فالتي تقع عليها الحصاة تكون قيمتها بكذا. وعلة التحريم هنا هو الغرر وجهالة المبيع فقد تقع الحصاة على مبيع زهيد وقد تقع على سلعة غالية.

2- ويقاس على ذلك أي عقد قام على الغرر أو الجهالة كعقود التأمين

على الحياة أو الممتلكات أو غير ذلك، حيث أن العقد يقوم على أن يدفع من يريد تأمين ممتلكاته مبلغاً شهرياً أو سنوياً لإحدى شركات التأمين على أن تقوم الأخيرة بالنفقات اللازمة لإصلاح ما يتلف من ممتلكات الطرف المؤمن فيما لو حصل لها تلف، أو عطل، أو حصل للحياة خطر بمرض أو موت أو غير ذلك. ولا يخفى ما في ذلك من الغرر والجهالة على كلا الطرفين، فقد تدفع الجهة المؤمنة مبالغ لعدة سنوات، ولا يحصل لها شيء من التلف؛ وفي هذا ضرر عليها. وقد يحصل لها تلف كبير، كحريق أو غرق أو موت أو غير ذلك بينما لم يدفع إلا قسطاً يسيراً من التأمين فيكون الضرر على شركة التأمين، حيث تتحمل مبالغ طائله، وهي لم تستلم إلا قسطاً واحداً.

3- ويلحق بذلك الاتفاقات التي يبرمها طرفان دون تحديد لقيمة البيع

أو الأجرة، أو دون معرفة لماهية وصفة البضاعة أو العمل المتفق عليه، ولا يخفى ما في ذلك من الغرر المؤدي إلى الاختلاف، والخصومات، والترافع إلى المحاكم والقضاة. وما أكثر هذه الخصومات اليوم وسببها عدم التزام أحكام الله عز وجل وحدوده التي جاءت رحمة للعباد وحفاظاً على مصالحهم ولكن أكثر الناس لا يفقهون.

4- كما يمكن أن يلحق بذلك ما يحصل من اتفاقات في بيع أو شراكة

أو غير ذلك من الاتفاقات دون كتابة لبنود الإتفاق، والاكتفاء بالثقة بين الطرفين، وما أتفقا عليه من كلام شفوي غير مكتوب، وفي هذا مخالفة لكتاب الله عز وجل الذي أمر بكتابة الدين درأ للخلاف كما قال تعالى في آخر آية الدين بعد أن أمر بالكتابة والإشهاد: (( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا)) [البقرة:282].

وكم زخرت المحاكم، وعجت بأصوات المتخاصمين الذين كانوا من

قبل متوادين، وكل ذلك بسبب فرط الثقة بينهم، والتي جعلتهم لا يكتبون ما اتفقوا عليه، فلما اختلفوا لم يجدوا شيئاً مكتوباً يتحاكمون إليه، ويكون بينة على الإدعاء، فانقلب الود والإخاء إلى خصومة وبغضاء.

5- البيوع القائمة على الغش والخداع:

وهي كثيرة وبخاصة في زماننا اليوم حيث انفتاح الدنيا، وتعدد التجارات ومصادرها وشبهاتها ومن أشهر هذه البيوع.

* بيع النجش: وهو قائم على خداع المشتري. حيث يتواطأ مع البائع

 

طرف أو أكثر فيزيدوا في السلعة وهم لا يريدون شراءها حتى يورطوا ويخدعوا المشتري، فيزيد هو على سومهم حتى ينتهي إليه البيع بثمن لا تستحقه السلعة المعروضة للمزايدة وقد قال e: (( ولا تناجشوا)) ([451]) .

* بيع المسلم على بيع أخيه أو شرائه على شرائه كقوله لمن اشترى

شيئاً بعشرة أنا أعطيك مثله بتسعة، أو قوله لم باع شيئاً بتسعة أنا أشتريه منك بعشرة، لقوله e: (( ولايبع بعضكم على بيع بعض)) ([452])  .

* الغش في السلعة المباعة بأن يكون فيها عيب ثم يستر عن المشتري

ولا يذكر له ومن ذلك التدليس، كبيع الشاة المصراة التي يجمع حليبها في ضرعها عدة أيام ثم تباع على المشتري على أن حليبها ليوم واحد أو بعض يوم.

* الإفراط في مدح السلعة وإحاطتها بدعاية كاذبة حتى يندفع المشتري لشرائها انخداعاً بالدعايات المسموعة والمرئية، وهذا يكثر في زماننا اليوم حيث يدفع الناس دفعاً شديداً لشراء ما قد لا يرغبون في شرائه بفعل الدعايات المخادعة وغير الصادقة. قال رسول الله e: (( من غشنا فليس منا)) (1).

 

 

 

6- ومن البيوع المحرمة: بيع كل ما حرمه الله عز وجل من المحرمات لذاته أو لغيره، كأجهزة الفساد والمجلات الخليعة والقصص الماجنة، ومن ذلك بيع بعض المباحات التي يغلب على الظن استخدامها في الحرام، كبيع العنب لمن يغلب على الظن استخدامه في صنع الخمر، وبيع السلاح أيام الفتنة، أو لأهل الحرب، أو قطاع الطريق. وهذا يندرج تحت قاعدة سد الذرائع، ويلحق بذلك تأجير البيوت أو المحلات على من يستخدمها في بيع محرم كبيع أجهزة ومجلات الفساد، أو أشرطة الأغاني وأفلام الفيديو الخليعة، أو تأجيرها لأصحاب البنوك الربوية أو تأجيرها على من يغلب على الظن استخدامها في الاجتماع على الفساد والفجور أو على الشبهات ونشر الأفكار المنحرفة، أو تأجيرها لتصوير ذوات الأرواح وتعليقها.

7- وضع بعض المحلات جوائز نقدية أو عينية يشجعون بها الناس ويدفعونهم إلى الشراء من هذه المحلات دون رغبة منهم في الشراء. وقد لا يشتري أحدهم إلا مرة واحدة وبمبلغ زهيد فيفوز هو بالجائزة الكبيرة وقد يشتري آخر مشتريات كبيرة ولا يحصل على الفوز. ولا يخفى ما في ذلك من الغرر والجهالة التي هي أقرب إلى القمار والميسر. وقد أفتى في حرمة هذا العمل بعض أهل العلم منهم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ([453])  .

ء- ومن المخالفات في كسب المال أكل أموال الناس بغير حق:

وهو من أكل المال بالباطل الذي نهى الله عز وجل عنه بقوله : (( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة:188]

        قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "... عن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل  الحرام "([454])  .

ومن ذلك "الرشوة" وقد لعن رسول الله e آخذها ومعطيها فعن عبد الله بن عمرو قال: (( لعن رسول الله e الراشي والمرتشي )) ([455]) ، قال الشارح في تحفة الأحوذي: "الراشي هو دافع الرشوة               والمرتشي آخذها. زاد في حديث ثوبان (( والرائش)) يعني الذي يمشي بينهما. قال ابن الأثير في النهاية: الرشوة والرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة وأصله من الرشا الذي يتوصل به إلى الماء. فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل. والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا أو يستنقص لهذا... وفي المرقاة شرح المشكاة قيل: الرشوة

ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل. أما إذا أعطي ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلماً فلا بأس به. وكذا الآخذ إذا أخذ ليسعى في إصابة صاحب الحق فلا بأس به. لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحقيه ودفع الظلم عن المظلوم واجب عليهم فلا يجوز لهم الأخذ عليه " ([456])   .

وما أكثر المرتشين في زماننا اليوم وبخاصة ما يكون في عقود المناقصات والتي يرشي فيها صاحب البضاعة أو المقاولة الموظف المسؤول عن المناقصات حتى يرسيها عليه. وكذلك ما يكون في الأراضي والعقارات الكبيرة التي تباع أو تؤجر بمبالغ باهظة لا يوقع العقد مع الجهة الشارية أو المستأجرة للعقار إلا بدفع رشوة للوسيط أو الموظف المختص تؤخذ من قيمة العقار المباع أو المؤجر. والمصيبة في الأمر أن هذه الرشاوي تؤخذ ولا يتخفى أصحابها بها بل يحاولون إضفاء الشرعية عليها والتحايل على أخذها باسم السمسرة أو أتعاب السعي فيها، أو غير ذلك من الحيل الباطلة التي لا تخفى على علام الغيوب.

هـ- ومن المصادر المحرمة لكسب المال: الإتجار بالأعمال المحرمة التي

تجر الفساد والخراب للناس. أفراداً كانوا أو جماعات. ومثالاً لذلك ما يلي:

* الاتجار ببيع البضائع المحرمة كبيع الدخان وما شابهه من الخبائث.

*بيع الأجهزة التي تستخدم في الإفساد الفكري والخلقي كبيع أجهزة التلفاز والأطباق الفضائية ومستلزماتها.

*بيع المجلات الخليعة التي تظهر فيها صور النساء الخليعات والأزياء الفاضحة وما يتخللها من القصص الماجنة التي تثير الشهوات وتشيع الفاحشة بين الناس.

*بيع الكتب التي تدعو إلى الأفكار المنحرفة والبدع المضلة، والتي يشحنها مؤلفوها بسيل من الشبهات والمناظرات الباطلة.

* بيع كتب العشق والغرام والغزل الهابط التي تدعو إلى الرذيلة ومقارفة الآثام.

* الاتجار ببيع الملابس النسائية الفاضحة التي تفتح باب التبرج والسفور وإلقاء جلباب الحياء والستر والعفاف.

* الاتجار ببيع الصور المحرمة وتصوير ذوات الأرواح والإعانة على إبرازها وتعليقها على الجدران والمكاتب بأشكال مختلفة وألوان متنوعة.

* الاتجار بفتح مكاتب سياحية من شأنها توفير الفرصة لكثير من الناس وبخاصة الشباب في السفر إلى ديار الكفر والرذيلة وتعريفهم بالأماكن السياحية الفاسدة في تلك الديار.

* المساهمة بالمال مع شركات معروفة بتعاملاتها المحرمة في كسب المال. كوضع أموال الشركة في البنوك الربوية وأخذ الفوائد الربوية عليها،

 

 

أو أن الشركة تتجر في بيع وسراء بضائع محرمة كالذي ذكر آنفا.

* ومن المكاسـب المحرمة للمال تأجير العقار على من سيستخدمه في

بيع الحرام أو المعاملات المحرمة كالتأجير على البنوك الربوية أو على من يبيع الدخان وأجهزة الفساد وغير ذلك مما ذكر آنفا أو لم يذكر.

ومن خطورة الاتجار بالبيوع المحرمة أن المال المكتسب منها مال سحت. وقد قال الرسول e: (( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) ([457])  وصاحب المال ومن هم تحت ولايته ونفقته- إذ أقروا ذلك- داخلون تحت هذا الوعيد عافانا الله من ذلك. ومن خطورته كذلك أن البضاعة المحرمة التي يتجر بها غالباً ما يتعدى إفسادها إلى من يشتريها ويقتنيها، وفي هذه الحالة يكون على بائعها وزره ووزر من اشتراها واكتوى بفسادها من غير أن ينقص من أوزار المشترين شيئاً.

و- ومن المكاسب المحرمة أكل مال الأجير أو بخسه بعض حقه أو عدم وفائه له في وقته. كل ذلك من أكل المال بالباطل ومن الإضرار بحقوق الغير وكما جاء في الحديث: (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فأستوفى منه ولم يعطه أجره)) ([458])  .

 

ز- ومن مخالفات المال التضييق على المعسر البين إعساره وإيذاؤه وعدم

إنظاره إلى الميسرة كما قال الله عز وجل: (( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىمَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة:280]

ح- ومما يتعلق بكسب المال من المخالفات: عدم اتقان الأجير عمله عند من استأجره، إما بالغش في العمل أو التقصير فيه أو التأخير في ساعات العمل إذا كانت الأجرة بساعات معلومة في اليوم.

ط- ومن المصادر المشبوهة في كسب المال الاستشراف لأموال السلاطين الملوثه. ولا يخفى آثار ذلك في نفس الآخذ من مداهنة للظلمة، وسكوت عن قول الحق، وغير ذلك من المحاذير التي من أجلها أوصى السلف رحمهم الله تعالى باعتزال السلاطين ورفض أعطياتهم قال أبو سليمان الخطابي: بعث بعض العمال إلى أبي عمر الزاهد صاحب أبي العباس رسولاً يقول له: أخبرني بمقدار ما يمر لك في النفقة في سنة حتى أجريه لك؟ فقال للرسول: قل له عافاك الله: أنا في جراية من إذا سخط علي لم يسقط جرايتي ([459])  .

ي: ومن المخالفات المتعلقة بكسب المال: أكل مال اليتيم، أو التصرف في ملك الغير بدون إذنه أو أكل مال القريب بغير حق كمن يأخذ من مال زوجته بغير إذنها أو بإجبارها على الرضا بالضغط عليها بالطلاق أو الإضرار أو غير ذلك من الضغوط إن لم تعطه من مالها ما يريد.

ثانياً: المخالفات الشرعية في إنفاقه.

* ومن آفات المال وآثامه البخل به ومنعه عن مستحقيه، كالبخل بإخراج الزكاة الواجبة على المال وإعطائها للفقراء أو التحايل على إخراجها، وكالبخل بالنفقات الواجبة نحو الزوجات والأولاد والآباء وا لأمهات.

*ومن المخالفات التي تتعلق بإنفاق المال الإسراف في إنفاقه والتبذير

في الترف والمتعة الزائدة والمخيلة والفخر، في الوقت الذي يوجد فيه من فقراء المسلمين من لا يجد ضرورياته من المأكل والملبس والمسكن.

وقد يكون هذا المسرف والمبذر عليه من ديون الناس مالم يوفها لهم بسبب توسعه في المباحات. وهنا يصل الإسراف إلى المنطقة الحرام إذ أن أداء حقوق الناس مقدم على الكماليات والتوسع في المباحات.

* ومن المخالفات الشرعية في إنفاق المال إنفاقه في شراء ما حرم الله

عز وجل من المطعومات أو الملبوسات أو غيرها، أو إنفاقه في السفر المحرم أو اللهو المحرم أو في كل ما من شأنه نشر الفساد بين الناس أو إعطاؤه لمن يستعين به على معصية الله عز وجل.

* ومن مخاطر المال: التكبر على الناس والتعالي عليهم والغرور بالنفس والإعجاب بها وبمقدرتها على التكسب ونسيان نعمة الله عز وجل وفضله وأنه هو صاحب الفضل والأول ولو شاء سبحانه لم يجعل فلاناً غنياً وفلاناً فقيراً ولكنها حكمته البالغة وقدرته النافذة، يبسط الرزق لمن

 

يشاء ويقدر على من يشاء، ويذل من يشاء ويعز من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

قال تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)) [الأنعام:165]،.

* ومن المخالفات المالية تمكين السفهاء من الصبيان والنساء بإعطائهم الأموال التي يصرفونها في مساخط الله عز وجل، أو يبذرونها هنا وهناك من غير وازع ولا عقل.

* ومن المخالفات في إنفاق المال استثماره في دول الكفر والفساد وإيداعه في بنوكهم مما يكون له الأثر في دعم اقتصاد الكفار وقوته، في الوقت الذي فيه من بلدان المسلمين من هو أحوج ما يكون لاستثمارات الأموال المسلمة لسد حاجات المسلمين ومعاناتهم في بلدانهم.

 

*      *      *

 

 

الفصل الرابع

ذكربعض الأسباب المعينة على لزوم الاستقامة والثبات على دين الله تعالى

 

لما كانت الأسباب المؤدية إلى مخالفة طريق أهل الاستقامة لا تخرج

عن كونها شبهات أو شهوات- كما مر بنا في مبحث سابق- فإن الأسباب المعينة على الاستقامة والثبات تكون بما يضاد وينفي الشبهة أو الشهوة اللتين هما أصلا الانحراف. وعلى هذا فإنه يمكن تقسيم الأسباب المعينة على الثبات ولزوم الاستقامة إلى قسمين كبيرين هما:

ا- الأسباب المعينة على كشف الشبهات ودفعها.

2- الأسباب المعينة على إزالة الشهوات وردها.

وتحت كل قسم من هذين القسمين عدة وسائل وأسباب تساعد في

تحقيقه واكتماله:

وقبل الدخول في تفصيل كل قسم وما يندرج تحته من الأسباب يجب التنبيه إلى الوسيلة العظيمة التي يقي الله سبحانه وتعالى بها العبد من الشبهات والشهوات ألا وهي:

دعاء الله عز وجل والتضرع إليه وسؤاله هداية الصراط المستقيم والثبات عليه والاسـتعاذة بـه من فتنة الشبهات والشهوات، فإنه وحده المثبت

 

 

والهادي والموفق إلى طريق الاستقامة، وهو وحده الذي يملك التوفيق والإعانة حيث أنه لا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى.

قال الله عز وجل: (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)) [ابراهيم:27] .

فمن سأل ربه سبحانه الهداية والتثبيت بصدق وإخلاص أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه. وعلامة الصدق أن يعلم الله سبحانه ذلك من قلبه ويظهر على أفعاله وعزيمته بأخذه بالأسباب المعينة على ذلك أما أن يدعو ربه بلسانه وحاله تنافي ذلك بأن يفرط في أسباب الاستقامة بل يرتكب ويصر على ما يحرفه ويبعده عنها فهذا لا يعد صادقاً في دعائه.

ومن أنفع الأدعية وأجمعها ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول e بخاصة في جوف الليل حيث يستفتح به صلاته وهو قوله e: (( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) ([460]) وقوله: (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ([461]) .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والمعول في ذلك كلـه على

حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول: معلم الرسول والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم "([462]) .

أما الأسباب التي يؤخذ بها مع الدعاء فهي على قسمين:

القسم الأول: الأسباب التي تدفع الشبهات أو ترفعها بعد وقوعها: ومن ذلك ما يلي:

ا- البصيرة في الدين والعلم بالشريعة المستمدة من الكتاب والسنة بفهم الصحابة ، وذلك لأن من أسباب الانحراف عن طريق الاستقامة الجهل بالدين وشرائعه ومقاصده فترى المنحرف عن الشريعة يحسب أنه على الحق لجهله بالحلال والحرام، أو لتقليده ومسايرته لمن يبرر المخالفة بشبهة أو تأويل أوغير ذلك. فإذا وجد العلم بالشرع، والحلال والحرام، والبدعة والسنة، فإن الانحراف بسبب الجهل أو الشبهة سيندفع إن كان صاحبه متجرداً للحق متبعاً له بعد بيانه، أما إن كان ذا هوىً وشهوة فقد لا يكون العلم بالشرع علاجاً مفيداً، إذ قد يعلم العبد المخالفة ويرتكبها عن ضعف وشهوة وعناد.

وإذا كان الشخص لا يستطيع البحث بنفسه والقراءة في كتب العلم لأميته أو انشغاله، فليتفقه في دين الله تعالى عن طريق أهل العلم والـذكر

الذين يجمعون بين العلم والورع، ومعرفة الواقع، وليسألهم عما أشكل عليه في أمر دينه ودنياه، وليتجنب المنتسبين إلى العلم الذين يكتمون الحق ويسيرون مع أهواء الناس، ويتلمسون الرخص والآراء الشاذة المخالفة للنصوص الشرعية، وما عليه سواد أهل السنة والجماعة.

والعلم بالشرع هو الذي يورث العمل به، والاستقامة عليه، وهو الذي يورث الميزان الثابت الذي توزن به الآراء والأخلاق والمواقف. والمقصود بهذا الميزان: ميزان أهل السنة والجماعة: أهل الاستقامة الذي هو الحق والوسط بين الغلو والجفا والذي من حكم به أصاب ومن وزن به عدل.

ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى يوصون طلابهم بطلب العلم، ويرون فيه العصمة- لمن وفقه الله تعالى- من فتنة الشبهات ودفع وساوس شياطين الإنس والجن. فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم قال: "قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فولع بي الشيطان في ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام. وكيف خلقه الله تعالى؟ ونحو هذا فشكوت ذلك إلى شيخ فقال لي: ابن وهب قلت: نعم، قال: أطلب العلم. فكان سبب طلبي العلم "([463]) .

ومن الفقه بالشرع الفقه بمقاصده وقواعده الفقهية لأن الجهل بهذه القواعد أو الغفلة عنها يوقع في الانحــراف والشطحات من يفتي للناس

دون مراعاة لمآلات الفتوى، والتي هي مرتبطة بقاعدة سد الذرائع، أو من يفتي بالضرورة والمصالح دون الإلمام بضوابط الضرورة والمصلحة. والحاصل أن البصيرة في الدين ومقاصد الشريعة تقي بإذن الله تعالى من مخالفة الاستقامة وأهلها إذا وجد الإخلاص والتجرد عن الهوى.

2- التؤدة وا لأناة وعدم العجلة.

إن العجلة والتسرع وترك التؤدة والأناة في الأمور لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات إلى القلوب، وبالتالي يقع الانحراف ومخالفة طريق أهل الاستقامة سواء في المعتقد أو العمل، بينما لو حصل التأني وعدم التسرع في قبول ما يطرح من أفكار، لكان في ذلك فرصة لمزيد من البحث والمشورة وعرض كل ما يطرح على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله e وفهم الصحابة . وقد مدح الرسول e التؤدة في الأمور بقوله: (( التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) ([464]) .

ومن ذلك عدم التسرع والعجلة في إفتاء الناس قبل معرفة حكم الله

عز وجل، ومعرفة الواقعة التي يستفتون عنها من جميع جوانبها وما يترتب عليها.

ومن ذلك عدم التسرع في إفتاء الناس في قضايا لم تقع بعد، لأن الواقعة تختلف في وصفها قبل وقوعهـا عنها بعد وقوعها، وقد يكون فيه

 

من الملابسات والأحوال مالا تظهر إلا بعد الوقوع.

 

فعن عامر الشعبي قال: سئل عمار عن مسألة فقال: كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم "([465])  .

وعن معاذ بن جبل رفعه إلى النبي e قال: "قال: لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال وفق، أو قال: سدد. وإنكم إن استعجلتم بالبلية قبل نزولها ذهب بكم السبل ها هنا، وها هنا)([466]) .

وإن من فوائد الأناة وعدم العجلة أن يكون هناك فرصة لمشاورة أهل العلم والعقل والتجربة.

ومن فوائد التؤدة وعدم التسرع وبخاصة لأهل العلم والفتوى أيام الفتن أن يكون لديهم وقت ليسبروا فيه حال المستفتين ومقصدهم من سؤالهم، فقد يظهر بعد التأني والتفكر أن منهم من يزخرف سؤاله ويظهره في قالب يستل به الفتيا التي يريد. وهذا مكر منه وخداع. فإذا تسرع المفتي وأفتى أمثال هؤلاء فإنه بذلك قد يضل ويضل وهو لا يشعر.

 

 

 

3- مصاحبة أهل العلم الصادقين وتجنب أهل الشبهات والبدع:

وهذا مما يتقى به الشبهات التي هي من أسباب الانحراف والجنوح عن طريق أهل الاستقامة، لأن في مصاحبة أهل العلم الذين يجمعون صحة العلم وحسن القصد عاصماً بإذن الله تعالى من الشبهات ورافعاً لها إذا وجدت، لأن الشبهات لا تنتشر إلا في بيئات الجهل وقلة العلم. كما أن في مجانبة مجالس أهل الأهواء والبدع والشبهات وعدم السماع لهم حماية بإذن الله تعالى من المزالق والمخالفات، لأن في مجالسهم تثار الشبهات ويكثر الجدال والمراء فتعلق بقلوب السامعين لها شبهاتهم، ويصعب التخلص منها بعد ذلك. ولذلك شدد السلف رحمهم الله تعالى في ذلك ونهوا عن مناظرة أهل الأهواء والشبهات، وعن حضور مجالسهم أو السماع منهم. وقد نقلت طائفة من هذه الأقوال في مبحث أسباب الانحراف فليرجع إلى ذلك.

واذا كان هذا موقف السلف من أهل الشبهات وتشديدهم في النهي

عن حضور مجالسهم أو قراءة كتبهم، فكيف بمن يفتح لهم اليوم مجلته أو قناته أو موقعه في شبكة المعلومات ليبث شبهاته بحجة حرية الفكر والنقاش وفتح المجال لطرح الأفكار والرد عليها؟!

إني لأحسب أن في هذا مخالفة شديدة لمنهج السلف وباباً من أبواب نشر الأفكار المنحرفة، ويخشى على من يفتح منبره لأهل الأهواء والبدع أن يتحمل وزره ووزر من تتسبب هذه الأفكار في تضليله.

 

ويلحق بمصاحبة أهل العلم والاستقامة مصاحبة كتبهم ومقالاتهم وسماع أشرطتهم المسجلة. وفي مقابل ذلك هجر كتب أهل الأهواء والبدع والتنفير منها ومن سماع أشرطتهم إلا للمتمكن من أهل العلم الذين يقرأون أو يسمعون لأهل البدع بغرض الرد على شبههم وبيان ضلالاتهم.

4- التواصي بالحق والدعوة إليه:

وهذا من أعظم ما تدفع به الشبهات التي تحرف الناس عن طريق الاستقامة وبخاصة في عصور الغربة وانتشار الفتن. فكلما وجد في زمان أو مكان دعاة إلى الحق يوصي بعضهم بعضاً بلزومه وينشرونه بين الناس كلما قلت البدع والشبهات، والعكس بالعكس فعندما تضعف الدعوة إلى المنهج الحق ويقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الأهواء والشبهات حينها تفشو وينشأ من جراء ذلك التضليل والتلبيس والانحراف الذي يقوم به أهل الباطل حيث يزخرفون كلامهم لضعاف العلم والعقول من الناس فيصغون إليه، ويرضون به، ويحسبونه حقا لما كسوه من زخرف القول غر ور اً.

ويلحق بالتواصي بالحق: المناصحة بين الدعاة وطلبة العلم بعضهم مع بعض لأنه قد يتأثر أحد الدعاة بشبهة ما ويتعلق بها، فإذا وجدت المناصحة والمناظرة الصادقة في إزالة الشبهة فإنها تزول بإذن الله تعالى، أما إذا رأى أحدنا على أخيه موقفاً أو سلوكاً مشيناً سببه شبهة ثم تركه وجامله فإن هذا من أسباب رسوخ الانحرافات وانتشارها.

5- لزوم الجماعة ونبذ الفرقة:

إن لزوم جماعة المسلمين الملتزمة بما كان عليه الرسول e وأصحابه لمن أعظم الأسباب في الوقاية من الانحراف، والمقصود بالجماعة هنا جماعة العقيدة والمنهج الحق، مع لزوم جماعة المسلمين التي لها إمام موافق للشرع، فإذا تحقق هذان الوصفان وجب الالتزام بهما جميعاً، والمفارق لهما أو لأحدهما مفارق للجماعة ومعرض نفسه للشبهات والانحرافات. أما إذا لم يوجد الإمام الشرعي. فيبقى لزوم الجماعة بالمعنى العلمي العقدي هو الأصل ولا يمكن أن يخلو منه زمان.

ولو تتبعنا نشوء الفتن والانحرافات في التاريخ الإسلامي لرأيناها إنما نمت وترعرعت في أرض الفرقة والاختلاف. وقد وصى الرسول e بلزوم الجماعة قال: ((... عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن)) ([467]) .

وفي عصور الغربة والفتن كعصرنا اليوم لا يكفي مجرد الانتماء العلمي لأهل الاستقامة، بل لا بد من العيش الجماعي والتواصي بالحق معهم. وعدم الانفراد أو العزلة عنهم لأن شياطين الإنس والجن يكونون مع الواحد، وهم مع الأثنين أبعد كما جاء في الحديث الآنف الذكر.

القسم الثاني: الأسباب المعينة على اتقاء الشهوات، وإزالتها.

كما سبق وأن ذكرت بأن الانحراف قد يكون بسبب الجهل أو الشبهة وهذا دواؤه في الوسائل السابقة التي تدفع بها الشبهات. ولكن قد يكون الواقع في المخالفة لم يؤت من شبهة أو جهل بالحكم، بل إنه يعلم بالمخالفة ومع ذلك تلبس بها عن عمد، وذلك لضعف التقوى، وسيطرة الشهوة التي ضعفت النفس عن مقاومتها. وقد تصل الحال بصاحب الشهوة إلى أن يبحث لهفوته وضعفه وشهوته عن شبهة شرعية يبرر ويؤصل بها ضعفه ويغالط بها.

وفي هذه الفقرة سأتطرق إلى ذكر بعض الوسائل التي تدفع بها الانحرافات الناشئة من الشهوة والهوى. ومنها ما يلي:

ا- الزهد في الدنيا وتذكر الموت والرغبة في الآخرة:

إن الركون إلى الدنيا وطول الأمل فيها ونسيان الآخرة هو الباب الواسع الذي تدخل منه الشهوات إلى القلوب. وهو الذي يجعل العبد يقدم على المخالفات مع علمه بحرمتها وما يترتب عليها من العقاب، وذلك لغفلة القلب عن الآخرة وما فيها من الحساب والعذاب، ولسكرته بالدنيا التي لا تجعله يفكر في معاده وآخرته.

إن قصر الأمل، وإنشاء هم الآخرة وإعمال الفكر فيها، وتذكر الموت وما بعده، وخوف الوقوف بين يدي الله تعالى، كل ذلك من شـأنه أن

 

 

يخفف أو يقطع حب الدنيا والركون إليها. وبالتالي يسيطر العبد على شهوته ولا يتعدى حدود الله تعالى. كما أن يقينه باطلاع الله تعالى على ما في قلبه وأنه سيعرض يوم القيامة لا تخفى منه خافية، كل هذا يمنعه من التلبيس والمغالطة وتغطية شهوته بشبه شرعيه يتحايل فيها على حرمات الله تعالى ليؤصل ضعفه وتقصيره.

وأنقل فيما يلي كلاماً نافعاً للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يرشد فيه

إلى الطريق التي يحصل بها قصر الأمل والاستعداد ليوم المعاد.

يقول رحمه الله تعالى: "فأما قصر الأمل: فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة. وهو من أنفع الأمور للقلب. فإنه يبعثه على معافصة الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مر السحاب، ومبادرة طي صحائف الأعمال، ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء ويحثه على قضاء جهاز سفره، وتدارك الفارط، ويزهده في الدنيا، ويرغبه في الآخرة. فيقوم بقلبه- إذا داوم مطالعة قصر الأمل- شاهد من شواهد اليقين، يريه فناء الدنيا، وسرعة انقضائها، وقلة ما بقي منها، وأنه قد ترحلت مدبرة، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وأنها لم يبق منها إلا كما بقي من يوم صارت شمسه على رءوس الجبال، ويرى بقاء الآخر ودوامها، وأنها قد ترحلت مقبلة، وقد جاء أشراطها وعلاماتها، وأنه من لقائها كمسافر خرج صاحبه يتلقاه، فكل منهما يسير إلى الآخر، فيوشك أن يلتقيا سريعاً.

 

ويكفي في قصر الأمل قوله تعالى: (( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) [الشعراء:205-207] ، وقوله تعالى: (( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ )) [يونس: 45]، وقوله تعالى: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)) [النازعـات:46]"([468]) .

وقال أيضاً: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:

النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها،

وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.

النظر الثاني: في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها، وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا فهي كما قال سبحانه: (( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) [الأعلى:17]

، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة ومضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضى الزهد فيه " ([469]) .

ومما ينبغي الحذر منه مجالسة أهل الدنيا الغافلين عن الآخرة فإن في مجالستهم ركوناً إلى الدنيا وتنافساً فيها وغفلة عن الآخرة وما فيها.

2- كثرة العبادة والعمل الصالح وذكر الله عز وجل.

وعد الله سبحانه عباده الذي يتقربون إليه بفعل ما يؤمرون به وترك ما ينهون عنه بالتثبيت والاستقامة على الصراط المستقيم، قال الله تعالى: (( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً )) [النساء:66-68]

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت وأصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده. فكل ما كان أثبتا قولاً وأحسن فعلاً كان أعظم تثبيتاً.

قال تعالى: (( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً))  فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق وا لصدق " ([470]) أ هـ.

وكما جاء ذلك في الحديث القدسي الصحيح والذي فيه: ((... وما

تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه... الحديث)) ([471]) .

فمن هذا الحديث يتبين أثر الأعمال الصالحة من الفرائض والنوافل في

حفظ الله عز وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه، وذلك بحفظ جوارحه، فلا تمتد إلى ما يسخط الله تعالى، ومن أفضل الأعمال الصالحة الدعوة إلى الله عز وجل  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى. ولا يخفى ما لهذه الأعمال الصالحة الجليلة من حفظ الدين والنفوس والعقول والأموال والأعراض، وما فيها من مدافعة الباطل وأهل الشبهات والشهوات الذين هم أصل الانحراف ومادته.

ومن أعظم الأعمال الصالحة المحبوبة إلى الله عز وجل ذكر الله تعالى

في اليوم والليلة، والثناء عليه وتحميده وتسبيحه واستغفاره. وفي كل ذلك أكبر العون من الله تعالى لعبده وحفظه له من الزيغ والانحراف، كما في الحديث القدسي: (( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في  نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم... الحديث)) ([472])  .

3- مجالسة الصالحين والمباعدة من المفسدين، وأهل الشهوات.

لا جدال في أن للجليس أثراً كبيراً في التأثير على من يجالسه سواء

في الخير أو في الشر. ولذلك فمن أكبر الأسباب التي تدفع بها الشهوات وما تؤدي إليه من الانحرافات: الجلساء الصالحون الذين تعمر مجالسهم بذكر الله تعالى وبالكلام الطيب، والقدوات الصالحة التي تؤثر في من يجالسها، كما أن فيها التواصي بالحق والمعروف والتحذير من الفساد والمفسدين. وإن مجالس الصالحين ومنتدياتهم وتجمعاتهم لتعد من المحاضن التربوية التي تحمي أهلها بإذن الله تعالى من الشهوات والوقوع في المفاسد التي عمت وطمت في هذا الزمان الذي انتشرت فيه وسائل الفساد ومغريات الشر بصورة لم يسبق لها مثيل. ويكفينا في بيان أثر الجليس الصالح والجليس السوء قوله e: (( إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة))([473]) .

ومن أنفع المجالس وأصلحها مجالس أهل العلم الأتقياء الورعين لأنه بالعلم الذي لديهم تحرق الشبهات، وبالتقوى والورع الذي عندهم تحرق الشهوات، وترى فيهم القدوة في خوفهم من الله تعالى، وتعظيم أوامره ونواهيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4- التربية الجادة داخل الأسر وفي دور التعليم:

الأسرة هي لبنة المجتمع؛ فبصلاح الأسر تصلح المجتمعات وبالتالي يسد الباب على أهل الشهوات، وبفسادها تفسد المجتمعات ويجد الذي يتبعون الشهوات فيها مرتعاً خصباً لفسادهم وشرورهم.

ومسؤولية الأسرة تقع على ربها وولي أمرها فإن هو اتقى الله عز وجل وحمى أهله وأولاده من وسائل الفساد المدمرة- من تلفاز ومجلة وقصة ماجنة وغيرها وأقام مكان ذلك نشر الخير وتعليم القرآن والإكثار من المواعظ والإرشاد. إن هو فعل ذلك فإنه يكون قد أدى الأمانة في رعيته وكان له أجره وأجر من صلح من أهله بسببه. وإن هو ضيع الأمانة وفتح المجال لوسائل الشهوات وأصحاب الشهوات ليعيثوا في بيته فساداً، فالويل له إن لم يتب ويتدارك نفسه لأنه بذلك يتحمل وزره ووزر من تسبب في إضلاله ويدخل تحت طائلة الوعيد الشديد الذي قال فيه الرسول e: (( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ([474]) .

وقد أفردت تربية الأسرة بوسيلة مستقلة مع أنها تدخل في وسيلة الدعوة والأمر والنهي، وذلك لأن المتأمل في كثير من منكرات البيوت يرى أن من أسباب وجودها ضغوط الواقع والتقليد الأعمى. ولذلك قد يكون

 

رب الأسرة أو ربة البيت فيهما صلاح وخير ولا يريدان وسائل الفساد في بيتهما، لكن ضغط الأولاد والأقارب ومسايرة الواقع قد لا يتماسك بعض من فيهم خير أمام هذه الضغوط فيستسلم للواقع ويخضع لفتنة الأولاد والأزواج والجيران. لذا كانت تربية أفراد الأسرة من أكبر العون لرب الأسرة على الاستقامة.

وكما أن مهمة التربية وتحصين النشء ضد الشهوات من مهمة أرباب الأسر، فهي أيضاً من مهمة المربين والمعلمين في المدارس والمعاهد حيث أن لهم دوراً كبيراً في توجيه طلابهم إلى الخير وتنفيرهم من الشر، وتحذيرهم من الفساد وأهله. ويتم ذلك بصور كثيرة منها الموعظة المباشرة، والقدوة الحسنة للمعلم أمام طلابه، والبرامج المختلفة داخل المدرسة وخارجها. وكل ذلك يعد محضناً مهماً من محاضن التربية والتزكية.

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإشاعته في المجتمعات:

وهذا من أكبر الوسائل التي تدفع بها الشهوات ويقضى على أوكارها

أو يخفف من شرها ويعاقب مرتكبوها. وقد سبق ذكر هذه الوسيلة في وسائل دفع الشبهات الآنفة الذكر في فقرة التواصي بالحق، وأكررها هنا لأنها أيضاً من أعظم الوسائل التي تدفع بها الشهوات.

 

 

*     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

 

في ختام هذا البحث أحمد الله عز وجل على توفيقه وامتنانه على إتمام هذا الموضوع المهم فلولاه سبحانه ما اهتدينا ولاتصدقنا ولا صلينا، فأسأله سبحانه أن يهدينا إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه.

وفي هذه الخاتمة أود تسجيل النقاط التالية:

(1) قد جرت عادة المؤلفين أن يذكروا ملخصاً سريعاً لمباحث الكتاب

في خاتمته. وقد سيرت على هذه العادة في أغلب الرسائل السابقة، ولكني هذه المرة أعتذر للقارئ الكر يم عن هذا العمل وذلك لطول الكتاب وكثرة مباحثه وما يتفرع عنها. ولعل في فهرس الموضوعات القادم في آخر الكتاب إشارة ولو سريعة إلى الفصول والمباحث التي تضمنها، فقد تعين المطلع عليها على أخذ فكرة عامة عن موضوع الكتاب وفكرته.

(2) قد يقول قائل بعد قراءته للكتاب: لقد فهمت من تعريف الإستقامة في أود الكتاب أنها لزوم طريق أهل الاستقامة وهو ما كان عليه الرسول e وأصحابه من غير تفريط ولا غلو وافراط، ومع ذلك لم نجد أن الكتاب تحدث إلا عن جانب التفريط والتقصير أما ما يتعلق بالإفراط والغلو والطغيان فلم تتطرق له مباحث الكتاب مع أنه مخالف لطريق أهل الاستقامة.

 

والجواب على ذلك أن أكثر المخالفين اليوم إنما خالفوا طريق الاستقامة بتقصيرهم وتفريطهم في حقل الواجبات وترك المحرمات، ويتضح هذا من الأمثلة الكثيرة التي تضمنها الكتاب. وصحيح أن الغلو خطره شديد، لكن أهله قلة بين الناس. وشيء آخر وهو أن أهله قد يكونون من المفارقين لأهل السنة والجماعة كالخوارج وغلاة الصوفية وغيرهم وهؤلاء لم يكونوا ممن أردتهم في هذا الكتاب. إذ أن التركيز في هذا البحث إنما كان موجهاً إلى المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، وما ظهر عليهم من مخالفات عقدية، أو سلوكية لكنها لم تخرجهم عن دائرة أهل السنة.

ثم إني لو ذهبت أتابع كل مخالفة وبدعة لتضاعف الكتاب وخرج عن هدفه الرئيس، ولعل الله عز وجل أن يعين على كتابة أخرى عن مسألة الغلو ووجودها عند بعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة.

(3) ما ذكرته في هذا البحث من أمور تخالف طريق أهل الاستقامة

هو ما لاحظته على نفسي وعلى بعض المنتسبين لأهل السنة، وبخاصة طلبة العلم والدعاة منهم، ولم يكن المقصود في هذا البحث استقصاء جميع المخالفات فهذا متعذر، ولم يكن المقصود به أهل القبلة وإنما أهل السنة، ولذلك لم أتطرق لانحرافات الفرق وأهل البدع، وإن ورد ذكر بعضها في هذا البحث فإنما ورد على سبيل ذكر من تأثر من أهل السنة بشيء من هذه الأهواء مع بقائه في دائرة أهل السنة.

ثم إني لا أقصــد بهذه المخالفات تلك التي يلم بهـا العبد ثم يتوب

إلى الله عز وجل ويتركها فهذه كما ذكــرت في أثناء البحث لا يسلم

منها أحد: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)) [الأعراف:201]، فالمتقون يلم بهم الشيطان أحياناً، وإنما قصدت بذلك تلك المخالفات التي ضربت بأطنابها في حياة كثير من المسلمين وأصروا عليها وضعفوا عن مقاومتها فأصبحت جزءاً من حياتهم وكيا نهم

(4) من منطلق التناصح الواجب بين المسلمين، ومن منطلق التواصي بالحق الذي هو من صفات أهل الاستقامة، أوجه في خاتمة هذا البحث نصائح سريعة أخص بها نفسي، ثم أوجهها إلى إخواني المسلمين الذين تأثروا بشكل أو بآخر ببعض الأفكار والأخلاق المخالفة لطريق أهل

ا لاستقامة:

النصيحة الأولى: إلى الذين استسلموا للواقع الفاسد وضعفوا عن مقاومته في نفوسهم وأهليهم، فانصبغت حياتهم وحياة أسرهم في بيوتهم بصبغة الفساد، وتقليد الكفار الذي يسخطه الله عز وجل ويمقت أهله، أقول لهم:

اتقوا الله عز وجل وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله فيسألكم بماذا أجبتم محمد بن عبد الله e ؟فماذا عساكم قائلين؟ احذروا أن تكونوا ممن وصفهم الله عز وجل في آية القصص بقوله سبحانه: (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ . فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ))            [القصص:65-66] ، أحذروا أن تكونوا ممن يلتمس رضى الناس- من

ولد وزوجة وقريب وغيرهم- في سخط الله تعالى، فإن الرسول e قال:   (( من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) ([475])  .

احذروا أن تقولوا: نحن نساير الواقع!! فإن هذا القول أقبح من الفعل، ولا ينفعكم عند الله عز وجل لأنه سبحانه خلق عباده للابتلاء، وليرى من يصبر على أحكامه الشرعية والقدرية ممن لا يصبر ولا ينقاد.

وعصرنا اليوم هو عصر الصبر والقبض على الجمر، ثم إن مسايرة الواقع هو من صفات المهزومين والمخذولين وأصحاب الهمم الدنيئة. إن المسلم الحق هو الذي يصادم واقعه الفاسد ويسعى لإصلاحه، فالمطلوب من العبد المسملم أن يؤثر في واقعه ويغيره لا أن يسايره ويتأثر به. إن الحيوانات العجماوات لا تساير الواقع الذي يضر بها وبأولادها، بل إنها لتصادم كل واقع يجلب لها الفساد، حتى أن الدجاجة الضعيفة لو دخل عليها عدو ليعتدي على صغارها فإنها لا تستسلم لهذا الأمر الواقع بل تصادمه وتنفش ريشها الضعيف لمقاومة المعتدي المصادم لها.

النصيحة الثانية: إلى الذين يسعون لإصلاح الأمة وتجديد أمر دينها وإقامة حكم الله تعالى في الأرض بشيء من التنازلات.

إحذروا ألاعيب الطغاة من الكفار والمنافقين، فتاريخهم في القديم والحديث معروف ومفضوح، فهم يراوحون في حربهم بين الترغيب والترهيب، وذلك لزعزعة الدعاة الصادقين عن مبادئهم وثوابتهم العقدية الناصعة، والتي أساسها وصلبها عقيدة الولاء والبراء، وإذا اهتز هذا الأساس فعلى الدعوة وأهلها السلام.

فاحذروا يا دعاة الإسلام من هذه الألاعيب، ولا تيئسوا من نصر الله

عز وجل إذا رأيتم الحرب الشرسة على الإسلام وأهله فهذه سنة الله عز وجل في أنبيائه وأوليائه. احذروا أن يضغط عليكم الواقع الأليم وإرهاب الكفار والمنافقين على شباب الدعوة، فتستسلموا أو تتنازلوا ولو شيئاً يسيرا عن مبادئكم وثوابتكم، فإن التنازل ولو كان يسيراً يتلوه تنازلات أخرى كثيرة ما دام أن باب التنازلات قد فتح.

واحذروا في المقابل من ملامس الأفعى التي يظهرها المنافقون لترغيب الدعاة في مشاركات مسمومة وتحالفات مشبوهة ظاهرها فيها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، لأن الطغاة إنما يسعون لمصالحهم ومصالح مبادئهم الكفرية، فإذا أحسوا بحاجتهم إلى بعض الدعاة لتحقيق هذه المصالح دعوهم وفتحوا لهم بعض المجالات الدعوية وخاطبوهم بمنطق الوطنية ووحدة الصف أمام العدو المشترك، فينخدع بعض الدعاة بهذا القول المزخرف وتبدأ المشاركة ويسكت الدعاة عن بيان الحق وفضح الكفر الذي يمارسه الطغاة، وبذلك يقدم الدعاة إلى الطغاة خدمة كبيرة شعروا بذلك أم لم يشعروا. ثم إذاحقق الطاغوت مصالحه منهم وأحرقهم

وأسقطهم بهذه المشاركات أمام المسلمين وشباب الدعوة لهم بعد ذلك ظهر المجن. ولا ينفع بعد ذلك الندم واستدراك الفوائت.

فيادعاة الإسلام: إن استعجال نصر الله عز وجل، والخروج بالدعوة

من محنتها لا يكون بالرضوخ لضغوط الواقع والتنازل عن الثوابت، إنما يكون بالبحث عن أسباب تأخره فنقلع عنها، وأسباب حصوله فنعض عليها ولا نستبطئ الطريق، ولا يحرفنا عن طريق الدعوة المحمدية شيء، وسواء كان هذا الشيء إرهاباً وشدة من أعداء الدين، أو كان ترغيباً ومكاسب موهومة للدعوة. إن الحل في الخروج من الضغوط الشديدة وتحقيق نصر دين الله تعالى، إنما يكون بمعالجة الأخطاء والرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسيرة رسوله الكريم e، نستلهم منها السنن الربانية في التغيير ونقتدي بمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة، وكيف نصرهم الله عز وجل ومكن لهم في الأرض([476]) .

النصيحة الثالثة: إلى الذين أكرمهم الله تعالى بالعلم بالشرع والفقه

في الدين: اتقو الله عز وجل في علمكم فأنتم مختبرون فيه، فبينوا الحق للناس ولا تكتموه، ولا تلبسوه بالباطل فتضيلوا وتصلوا، واتقو الله عز وجل فيما تفتون الناس به فإنكم توقعون عن رب العالمين، وإن الله عز وجل سائلكم عن ماذا أجبتم الرسول e. واحذروا أهواء المستفتين ومكرهم ؛فإن منهم من يصوغ فتواه بصورة يريد منها أن يستل من المفتي

الجواب الذي يوافق هواه، حتى يوظفه في مخططه الإفسادي. ففكروا كثيراً في مآلات الفتوى التي تفتون الناس بها، وبخاصة إذا كانت تتعلق بقضايا الأمة ونوازلها؛ فإن اعتبار المآلات في الفتوى له أثر كبير في البحث فيها. وإن إغفال المآل يترتب عليه مفاسد عظيمة إذ قد تستغل الفتوى في تمرير الفساد والمنكرات. ولو فكر المفتي في هذه المآلات لتغيرت فتواه، فالعالم الفقيه هو الذي يسأل المستفتي: ماذا أردت؟ ونصف الفقيه هو من يسأله: ماذا قلت؟

أيها المفتون: أفتوا الناس بما تعلمون أنه الراجح الصحيح الموافق للكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، واجتنبوا الافتاء بالشاذ أو المرجوح أو المهجور من أقوال العلماء، ولا تلتفتوا إلى أهواء الناس، أو قول من يقول: يسروا على الناس في الفتوى ولو بالمرجوح من الأقوال.

إن عالم الملة يفتي بالراجح من الدليل، وعالم العامة يفتي بما تهواه العامة، وعالم السلطة يفتي بما يهواه السلطان. فكونوا من علماء الملة لا من علماء العامة ولا السلطة. وإن الناس في هذا الزمان محتاجون إلى من يشدهم إلى الدين وأحكامه لا إلى من يزيدهم إنفلاتاً وترخصاً فتنبهوا لعظم مسؤوليتكم.

النصيحة الرابعة: إلى الذين تأثروا بشكل أو بآخر بمن يسمون أنفسهم بالعقلانيين أو العصرانيين.

ماذا أعجبكم في هذه المدرسة المضطربة؟ أ أعجبكم فيهم استهانتهم بالأثر وتضخيمهم دور العقل؟

أم أعجبكم فيهم تقليدهم للغرب وافتتانهم بالحياة الغربية ومحاولة جر المجتمعات المسلمة لتحاكيها؟

أم أعجبكم فيهم هجومهم الشرس على كل من رفع شعار السلف الصالح ونادى بالتمسك بهديهم وعقيدتهم وأخلاقهم؟ بل إن هجومهم قد تعدى إلى أصحاب محمد e الذين هم أبر الأمة قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأعلمهم باللغة ومقاصد الشرع، فقدحوا في عدالتهم وفهمهم ومكانتهم؟

أم أعجبكم فيهم تلك الروح الانهزامية أمام ضغوط الواقع فلم يكن لديهم من الإيمان ما يصمدوا به على عقيدتهم وأخلاقهم فنادوا بالتطوير في أصول! الدين وفروعه ومراجعة الثوابت الإسلامية فقد لا يكون ثابتاً اليوم ما كان ثابتاً بالأمس.

إنه والله لا شيء فيهم يعجب ويغري المسلم الصادق حتى يتأثر ببعض أطروحاتهم، فإنهم خلف لسلفهم من المعتزلة المغرورين بعقولهم. وإذ الأمر كذلك فالواجب على دعاة الإسلام الصادقين، أن ينهجوا مع أهل هذه المدرسة الاعتزالية الجديدة ما نهجه السلف الصالح مع المعتزلة في التحذير منهم، ومناظرتهم وتفنيد آرائهم وأفكارهم، لا أن نروجها أو نفتح لها منابرنا الإعلامية ليقولوا باطلهم بحجة النقاش الحر وحرية الفكر!!

إننا أيها الإخوان لفي زمان أحوج ما نكون فيه من أي زمان آخر إلى دعوة الناس بالرجوع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح في المعتقد والسلوك،

 

 

نتمسك به، ونعض عليه بالنواجذ، وذلك لكثرة الأهواء والأفكار والبدع المعاصرة التي سخرت لها وسائل الإعلام المعاصرة، والاتصالات السريعة في بث سمومها، ونشر ضلالاتها، فليس من الحكمة الهوادة معها أو المساهمة في فتح المجال لهم وتمكينهم من قول الباطل فإنهم لا ينقصهم الوسائل المختلفة لبث أفكارهم حتى يأتي من يأتي من أهل السنة ليفتح هو الآخر منبره لينشروا باطلهم فيه.

فاتقوا الله يا إخواننا، وراجعوا مواقفكم وزنوها بميزان الكتاب والسنة ومواقف السلف الصالح ترشدوا وتفلحوا، وأعدوا الجواب لسؤال الله عز وجل لكم يوم القيامة (ماذا أجبتم المرسلين؟).

النصيحة الخامسة: إلى المرأة المسلمة في هذا الزمان. كان الله في عونك أيتها المسلمة المعاصرة، فلقد أجلب المفسدون عليك من كل حدب وصوب بخيلهم ورجهلم، وذلك ليضلوك عن سبيل الله عز وجل ويجروك إلى الفساد جراً عنيفاً لتكوني ألعوبة ومتعة بأيديهم، وليصرفوك عن عبادة الله عز وجل، وعن مهمتك التي شرفك الله بها من تربية الأجيال وتوفير السكن لزوجك وأبنائك؛ فاحذري يا فتاة الإسلام ويا مربية الأجيال من هذه الألاعيب واستعيني بالله عز وجل في مقاومة هذا الفساد العظيم، وخذي بأسباب الثبات المذكورة في الفصل الأخير من هذا الكتاب واقبضي على دينك قبض الجمر، ولا تستسلمي للضغوط، واعلمي أن العاقبة للمتقين، وأن من يصبر يصبره الله، ومن جاهد في سبيل الله بصدق ثبته الله وعصمه من الفتن .

 

قال الله عز وجل: (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69]، ولا شك أن الضغوط شديدة، ولكن إن هي إلا صبر ساعة على دين الله تعالى فتحمد العاقبة ويهنأ العيش في جتاتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ وإلا فالعقبى سخط الله تعالى وعذابه، وحينها لا ينفع ندم ولا عذر ولا استعتاب ولا ينفع قول المقلدين من أهل النار: (( رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ )) [الأعراف:38]

(5) أنبه في هذه الفقرة إلى أن الاستقامة الحقة لا يكفي لتحقيقها أن يكون العبد مستقيماً في نفسه فحسب، بل لابد لكمالها أن يجاهد العبد ويسعى لتحقيق الاستقامة في واقع الناس ومجتمعاتهم. هذا وإن كان تحقيقها بهذه الصورة صعباً ويحتاج إلى مجاهدة ومحاسبة ويقظة مستمرة، إلا أن الأمة لاتخلو بحمد الله من المستقيمين على أمر الله تعالى علماً وعملاً وحالاً ودعوة وصبراً وجهاداً، وهم المذكورون في سورة العصر، الفائزون الناجون من الخسران، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم ويمن علينا بصفاتهم.

قال تعالى: (( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:1-3]،. فهذه صفات الكمل من أهل الاستقامة.

وهم المذكورون في قوله e : (( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا

يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) ([477]) ففي هذا الحديث صفات أهل الاستقامه الذين جمعوا بين الاستقامة على أمر الله في أنفسهم، وجاهدوا في سبيل الله تعالى لإقامة الحق في واقع الناس. ولما كان القيام بأمر الله تعالى في النفس وفي واقع الناس أمراً شديداً تحتاج الإستقامة عليه إلى صبر وتحمل ومجاهدة للنفس والأعداء، جاءت الإشارة في الحديث إلى أن من صفات هذه الطائفة أنها لا تلتفت إلى الأعداء المخالفين وما يضعونه من عراقيل، وضغوط شديدة على أهل الحق، كما أنها لا تلتفت إلى تخذيل المخذلين من ضعاف الإيمان، ولا يضرهم شيء من ذلك، بل يستعينون بالله تعالى، ويمضون في طريقهم لا يضرهم المخالف ولا المخذل. وهؤلاء هم الموعودون بنصر الله تعالى وبالتمكين لهم في الأرض، وبرضوانه وجنته في الآخرة.

والحاصل: أن أهل هذه الطائفة هم أهل الاستقامة الحقة ولا يخلو منهم زمان، وهم موجودون في هذه الأمة والحمد لله، وعلى المسلم الصادق اللحوق بهم ومجاهدة النفس بالتحلي بصفاتهم، والالتحام معهم لإقامة دين الله عز وجل وحكمه في الأرض. ومهما تكالب عليهم الأعداء المخالفون لهم، ومهما كثر من حولهم المخذلون، ومهما اشتدت عليهم الخطوب والضغوط فهم صـامدون، ممتثلون لأمـر الله تعالى في

أنفسهم، قابضون على الجمر، ساعون لإقامة شرع الله عز وجل في الأرض، لا يخالجهم شك ولا ريب في وعد الله لهم بالنصر والتمكين، لا يستعجلون، ولا يصيبهم إحباط ولا يأس ولا تغيير ولا تبديل حينما يتأخر نصر الله تعالى عليهم، بل يراجعون أنفسهم وطريقهم، فلعل التأخير كان لخلل في النفوس أو المنهج، فإذا اطمئنوا إلى سلامة المنهج فإنهم يوقنون بأن الشدة إن هي إلا سنة الله تعالى لعباده المؤمنين في التمحيص والتمييز الذي يعقبه النصر والتمكين.

قال الله عز وجل: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [النور:55]

وقال تعالى: (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) [الصف:9]، وقال الرسولe: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر)) ([478]) .

وهنا نصيحة أخيرة أتوجه بها في خاتمة البحث لإخواني القابضين على الجمر المستقيمين على أمر الله تعالى الساعين لنصرة دينه لأقول لهم:

هنيئاً لكم ما أنتم عليه، فأنتم صفوة الناس، وأولياء الله ولا أحد أحسن منكم قولاً ولا عملاً ولا غاية (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33]، وأنتم صمام الأمان لمجتمعاتكم وأمتكم، لأنكم تقومون بما قام به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فلا تستوحشوا الطريق ولا تشعروا بأنكم قلة وضعفاء فأنتم أقوياء بإيمانكم وأنتم الأكثرون إذا تذكرتم أنكم ضمن قافلة شريفة عظيمة تنتسب إليها ملائكة الرحمن الذين لا يحصون عدداً، وأنبياء الله عز وجل، والصالحون من عباده، بل والكون كله هو رفيق المؤمنين لأنه مسبح عابد لربه تعالى. ولم ينفرد عن هذه العبودية الشرعية إلا الكافر الظالم لنفسه فماذا يساوي بالنسبة لبقية العوالم المستسلمة لربها عز وجل. إنه لا يساوي شيئاوإنما هو نشاز عن الطريق اللاحب الواسع الذي هو طريق الله عز وجل وسبيله قال تعالى:     (( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) [غافر:4].

واصبروا على طاعة الله عز وجل وترك معاصيه ولا يهولنكم ضغط الواقع وشدته. ولا تيأسوا من إصلاح الناس وإقامة دين الله في الأرض، فإن العاقبة للمتقين الصابرين، مهما أجلب أعداء الدين وتكالبوا على حربه، ومهما كثر المنافقون والمخذلون فإن العاقبة لأهل الاستقامة الذين ثبتوا على دين الله عز وجل ولم يضعفوا ولم يهنوا ولم يستكينوا. ومهما كانت قوة الحرب المشبوبة على الإسلام فإنها "لاتفقدنا الثقة المطلقة في أن المستقبل لهذا الدين. لقد صمد الإسلام في حياته المديدة لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية التي توجه اليوم إلى طلائـع البعث

الإسلامي في كل مكان. إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإسلامي في الشرق من هجمات التتار، كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار لم يكونوا من جنس العرب، ... ولكنهم صمدوا في وجه المهاجمين حمية للإسلام لأنهم كانوا  مسلمين. صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية من الإمام المسلم "ابن تيمية".

ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية.. وهو كردي لاعربي... وكان الإسلام في ضميره هو الذي كافح الصليبيين؛ كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز. والملك الناصر: هو الذي كافح التتار المتبربرين. والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً، يكافح الغزاة؛ ويستعلي عليهم، ولا يحني رأسه لهم لأنهم أعداؤه "الصليبيون "، وبقيت روح المقاومة في الجزائر حتى أذكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس فأضاءت شعلتها من جديد. وهذه الحقيقة التي يحاول أن يطمسها المغفلون والمضللون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم "صليبيون ". إنهم على يقين أن الإسلام باستعلاء روحه على أعدائه هو الذي وقف في طريقهم في الجزائر، ومن ثم أعلنوها حرباً على المسلمين لاعلى العرب، ولا على الجزائريين...

لقد كافح الإسلام- وهو أعزل- لأن عنصر القوة كامن في طبيعته، كامـن في بسـاطته ووضوحه وشموله وملائمته للفطرة البشرية وتلبيته

لحاجاتها الحقيقية، كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد، وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين.. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين. ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة، لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الإستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون، ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه، والخداع، والتضليل..، لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد.

... هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل. ولكن الذي

لا شك فيه- على الرغم من ذلك كله- هو أن المستقبل لهذا الدين.   فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا النهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه- أراد أعداؤه ذلك أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر - أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني عنه طويلاً... فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا.. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك بسبب ما نراه من  حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل

مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية، إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات.

... أمراً واحداً يجب أن يكون في حسابنا: إن أمامنا كفاحاً مريراً

شاقاً طويلاً لاستنقاذ الفطرة من الركام... كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له

استعداداً طويلاً، يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين، نرتفع

إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله، وفي حقيقة معرفتنا بالله، فإننا لن نؤمن

به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة. ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله،

فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة. ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا، ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.. ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية، وحاجاتها الحقيقية المتجدده، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي... وهذا كفاح مرير، وكفاح طويل، ولكنه كفاح بصير وكفاح أصيل، والله معنا (( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [يوسف:21] ([479]) أهـ.

 

وفي الختام...

فهذا ما يسره الله عز وجل من الكتابة في هذا الموضوع الهام. فما

كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وما كان فيه من حق وصواب فالمان به هو الله سبحانه فله الحمد وله الشكر.

"فيا أيها القارئ له. لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه. لك ثمرته وعليه تبعته، فما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله، ولا تلتفت إلى قائله. بل انظر إلى ما قال لا إلى من قال... وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم

يأل جهد الإصابة. ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال "([480]) .

نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمته وأن يوفقنا لأداء حقه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يرزقنا الاستقامة على ذلك، وأن يجعل مقصدي في هذا البحث وفي غيره خالصاً لوجهه الكريم، ونصيحة لعباده. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد e  والمستقيمين على أمرك.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك سميع الدعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

الموضوع                                                         الصفحة

المقدمة.................................................        5

دوافع الكتابة في الموضوع 00000000000000000000       10

فصول ومباحث الكتاب ...000000000000000000         17

الفصل الاول

ذكربعض الآيات والأحاديث والآثارالتي تأمربا لاستقامة                   19

المبحث الأول: ذكر بعض الآيات الواردة في ذلك........                   19

المبحث الثاني: ذكر بعض! الأحاديث الواردة في ذلك........               53

المبحث الثالث: ذكر بعض الآثار الواردة في ذلك..........                 57

الفصل الثانى :

ذكرالأسباب المؤدية إلى ضعف الاستقامة                      65

المبحث الأول: الأسباب التي توقع في الشبهات.............                   65

أولاً: ضعف العلم الشرعي........................                           65

ثانياً: تكالب أعداء الدين وضغوطهم على الدعاة........                     66

ثالثاً: ردود الأفعال التي توقع أصحابها في الطرف المقابل..                    69

 

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                  الصفحة

رابعاً: مجالسة أهل الأهواء والشبهات..............                         69

خامساً: إهمال الأخذ بقاعدة سد الذرائع وقلة الفقه بالواقع.                 77

المبحث الثاني: الأسباب التي توقع في الشهوات..........                 78

أولاً: انفتاح مجالات الإفساد على الناس............                       78

ثانياً: الطمع في الدنيا وإغراءاتها وشهواتها............                      80

ثالثاً: الحقد والحسد..........................                             81

رابعاً: التعصب المذموم.......................                             82

خامساً: مخالطة أصحاب الشهوات................                        82

سادساً: الهزيمة النفسية................                                     84

خطوات الشيطان في إغواء بني آدم...................                     86

الفصل الثالث :

ذكربعض المطاهرالمعاصرة فى مخالفة طريق أهل الاستقامة            93

المبحث الأول: ذكر بعض مظاهر المخالفة في مجال الفكر

وا لعقيد ة...................................................         94

المظهر الأول: ضعف عقيدة الولاء والبراء وأمثلة ذلك....... ....         94

المثال الأول: سكوت بعض الدعاة عن مظاهر الشرك الأكبر

في العبادة والنسك.............................................         96

 

 

 

 

 

 

الموضوع                                                               الصفحة

المثال الثاني: سكوت بعض الدعاة عن مظاهر الشـرك الأكبر

في الحكم والتحاكم...........................................        97

المثال الثالث: التهوين من شرك الحكم والتحاكم والنظر إلى أنه

معصية من المعاصي مالم يكن جحودا أو استحلالاً...............        102

المثال الرابع: الثناء على الطواغيت وأهل الباطل وتحسينهم في

أعين الناس ومداهنتهم.........................................        109

شبهة الاحتجاج بالمداراة على مداهنة أهل الباطل والرد عليها.            110

المثال الخامس: مد الجسور مع الأنظمة الطاغوتية والأحزاب

الكافرة بحجة درء الشر عن الدعاة ومراعاة للواقع....... .......          119

الرد على هذه التنازلات......................................          123

المثال السادس: الدخول في المجالس البرلمانيةالأنظمة

ا لطا غوتية...................................................          129

المثال السابع: ضعف الشعور بالعداوة للكفار من اليهود

والنصارى والزنادقة الباطنيين...................................          136

المثال الثامن: التشبه بالكفار في عاداتهم وتقاليدهم...............          141

المثال التاسع: الحزبية المقيتة....................................          143

المظهر الثاني: من مظاهر المخالفة في العقيدة: القدح في عدالة

أصحاب نبينا محمدe .......................................          145

 

 

 

الموضوع                                                                الصفحة

الأدلة من كتاب الله عز وجل على فضل الصحابة وعدالتهم 000       146

ما نقل عن بعض أئمة السلف في عدالة الصحابة وحسن فهمهم.        149

شبهة ومناقشتها..............................................       154

المظهر الثالث: مخالفة أهل الاستقامة في نظرتهم إلى العقل

وموقفه من النصوص 000000000000000000000000       164

أولاً: بيان فهم السلف الصالح لموقف العقل من الكتاب والسنة 0       165

المعلم الرئيسي في هذا الفهم أن لا تعارض بين العقل والنقل. 00        165

أسباب توهم التعارض بين النقل والعقل ووجوه دفعه 0000000      168

وسطية أهل السنة في نظرتهم للعقل. 0000000000000000       170

وسطية أهل السنة في نظرتهم للثوابت والمتغيرات................        171

ثانياً: نظرة العصرانين ومن يسمون أنفسهم بالعقلانيين إلى العقل ...   186

أصناف العقلانيين ومن تأثر بهم 0000000000000000            187

ذكر بعض معالم المدرسة العقلية وسمات أهلها. 000000000        190

السمة الأولى: تقديسهم للعقل وتقديمه على النقل الصحيح 00         190

السمه الثانية: ادعاء التجديد والتطوير والعصرانية 00000000        194

السمة الثالثة: سوء الخلق والإرهاب الفكري مع المخالف 000         195

السمة الرابعة: بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب  00000000      197

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                    الصفحة

السمة الخامسة: اصطناع الشبهات والتهم الباطلة..................      199

السمة السادسة: كثرة طرحهم لمصطلح الواقعية ومجاراة

الوا قع........................................................ .      203

السمة السابعة: الاعتقاد قبل الاستدلال والحكم قبل المداولة.......        207

المبحث الثاني: المخالفات المتعلقة بالفتاوى الشرعية والاستدلال على الأحكام.......................................................       215

وقفات مهمه في شأن الفتوى وإصدار الأحكام....................       216

الوقفة الأولى: خوف السلف الشديد من إفتاء الناس...........        217

الوقف الثانية: الحذر من الميل مع الهوى في الفتوى.............       222

الوقفة الثالثة: الحذر من مكر المستفتين وخداعهم..............       224

الوقفة الرابعة: أهمية تفصيل الجواب في المسألة التي تحتمل

عدة صور......................................................       225

الوقفة الخامسة: حاجة المفتي إلى توفيق ربه سبحانه وضرورة

التضرع لله تعالى وسؤاله الهداية  00000000000000000000      226

الوقفة السادسة: الحذر مما يكدر الإخلاص لله تعالى في افتاء

الناس ..........................................................       227

الوقفة السابعة: الانتباه الشديد لقاعدة سد الذريعة في

الفتوى.........................................................       229

 

 

 

 

الموضوع                                                                  الصفحة

أمثلة معاصرة تبين أثر الحكم في حالة اعتبار المآلات وعدم

اعتبارها  235

المثال الأول: بعض الأحكام المتعلقة بالمرأة .....................           235

المثال الثاني: أحكام الصلح والتطبيع مع الكفار.................           238

المثال الثالث: خروج بعض الدعاة في وسائل الإعلام 239

الوقفة الثامنة: شبهات والرد عليها............................          251

الشبهة الأولى: شبهة التيسير على الناس فيما تعم به البلوى.            252

ضوابط الأخذ بقاعدة عموم البلوى.......................           254

الشبهة الثانية: اختيار الأيسر من أقوال العلماء عند الأختلاف

الشبهة الثالثة: الاحتجاج بالضرورة........................         260

ضوابط الأخذ بالضرورة.....................................          269

الشبهة الرابعة: الأخذ بالمصالح المرسلة.........................          272

الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة............................         275

ضوابط الأخذ بالمصلحة المرسلة...............................         278

الشبهة الخامسة: الاحتجاج بقاعدة تغير الفتوى بتغير الأحوال

والزمان والمكان............................................          286 .

أمثلة شرعية على تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال

والعوائد ..................................................           292

المبحث الثالث: بعض المخالفات في السلوك والمعاملات.....           296

القسم الأول: المخالفات المتعلقة بالسلوك الفردي..........           297

أولاً: المخالفات القلبية الباطنة..............................           298

ا- ضعف التوكل على الله عز وجل........................           298

2- إرادة الدنيا بعمل الآخرة..............................           300

3- الخواطر الرديئة والأماني الباطلة........................           310

4- الحسد وكراهية الخير للناس............................           316

5- الكبر والتعالي على الناس والعجب بالنفس...............          319

6- حب الدنيا وركون القلب إليها.........................          321

7- قسوة القلب وعدم رقته وخشوعه ......................          325

8- ضعف محبة الله عز وجل والحب فيه ....................          326

ثانيا: مخالفات البصر ......................................         332

1- النظر إلى ماحرم الله عز وجل من النساء الأجنبيات..          332

2- النظر في كتب الكفر والإلحاد والبدع والفسوق والمجون        335

3- النظر إلى المنكرات دون قدرة على تغييرها........             336

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                    الصفحة

4- الإكثار من النظر إلى متاع الدنيا وزخرفها.................      336

5- النظر إلى الناس نظرة شزر وتعالي.........................     337

6- غمز العين للسخرية أو للفساد والفاحشة...................     337

7- نظر الرجل إلى عورة الرجل أو المرأة إلى المرأة...............     337

8- النظر إلى عوارت البيوت...................................    337

ثالثاً: مخالفات السمع.........................................   338

ا- سماع الغنا......................................................   339

2- سماع اللغو والباطل من القول من غير إنكار......................   346

3- سماع الغيبة والنميمة والبهتان دون إنكار.........................   357

4- سماع الفاحش من القول في سب الناس ولعنهم...................   358

5- سماع أسرار الناس والتجسس عليها..............................   358

رابعاً: مخالفات اللسان..............................................  359

ا- الكلام فيما لا يعني...............................................  364

2 الخوض في الباطل ................................................  364

3- التقعر والتشدق في الكلام .......................................  365

4- الفحش والسب والبذاء ........................................    366

5- الغنا...........................................................   367

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                  الصفحة

6- كثرة المزاح...................................................     367

7- السخرية والاستهزاء ..........................................     368

8- إفشاد السر وإخلاف الوعد والكذب ..........................     368

9- الغيبة........................................................     369

10- النميمة.....................................................    371

ا ا- قذف المحصنات والمحصنين.....................................    372

2 ا- الكلام بما يخالف ما في القلب.................................    373

13- أكل أموال الناس بالباطل عن طريق اللسان.....................   374

4 ا- مدح الفساق والظلمة والثناء عليهم............................   374

5 ا- التناجي بين اثنين دون الثالث..................................   375

6 ا- التحدث بلغة الأعاجم لغير حاجة................................  375

17- القول بلا علم ولا عدل.........................................  378

18- التكلم ببعض الألفاظ المنهي عنها................................. 380

مخالفات أخرى في السلوك الفردي...................................... 381

ا- مخالفات في الهدي الظاهر............................................ 381

2- التساهل في صلاة الجماعة.......................................... 386

3- الأثرة والشح والإفراط في حب الذات .............................. 388

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                  الصفحة

4- السفر إلى بلاد الكفر والفسوق من غير حاجة....................   390

5- التفريط في حقوق الصحبة والأخوة والجوار......................    391

6- التفريط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...............    394

7- تصوير ذوات الأرواح واقتناؤها...........................   396

القسم الثاني: المخالفات المتعلقة بالبيوت والأسر....................    398      ا- إدخال وسائل الإعلام المفسدة إلى البيوت.........................      400

2- إهمال تربية الأولاد.............................................      402

3- كثرة الخدم والسائقين دون ضوابط شرعية.......................      404

4- اقتناء صور ذوات الأرواح......................................     406

5- إهمال حقوق الوالدين وصلة الأرحام.............................     408

6- الولع الكبير في المباحات والتشبه بالكفار في عاداتهم................    412

7- السفر بالأسرة إلى بلاد الكفر والفسق من غير حاجة ...............   416

القسم الثالث: المخالفات المتعلقة بالمرأة في نفسها ومجتمعها......  418

ا- المخالفات الشرعية في لباسها..............................  419

تنبيهات مهمة حول حجاب المرأة المسلمة......................   422

مسألة مهمة حول حدود كشف المرأة زينتها أمام محارمها ......    427

2- خروج المرأة من بيتها من غير حاجه واختلاطها بالرجال.....    443

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                 الصفحة

3- تصوير المرأة وظهورها في البطاقات وغيرها....................    453

القسم الرابع: المخالفات المتعلقة بالمال والاقتصاد.................   459

ا- مخالفات شرعية في اكتسابه...................................   462

أ- أكل الربا.....................................................     462

ب- التحايل على أكله............................................     465

جـ- البيوع المحرمة.................................................   467

ء- أكل أموال الناس بغير حق كالرشوة وغيرها......................      472

هـ- الاتجار بالبضائع المحرمة........................................     473

و- بخس الأجير حقه وعدم وفائه له...............................       475

ز- التضييق على المعسر وإيذائه وعدم إنظاره.........................     476

ح- عدم إتقان الأجير عمله عند من استأجره........................     476

ط- الاستشراف لأموال السلاطين...................................    476

ي- أكل مال اليتيم............ ....................................     476

2- المخالفات الشرعية في إنفاقه...................................     477

أ- البخل بالمال وعدم اخراج زكاته أو التحايل على منعها............     477

الإسراف والتبذير في انفاقه................. ....................     477

جـ- شراء ما حرم الله عز وجل من المطعومات أو                      477

 

 

 

 

 

الموضو ع                                                                 الصفحة

الملبوسات أو الملهيات وغيرها ....................................        477

ء- الطغيان والتكبر على الناس والتعالي عليهم .......................      477

هـ- تمكين السفهاء من الأموال ليفسدوا فيها. .....................      478

و- استثمار المال في دول الكفر أو ايداعه في بنوكهم ................      478

الفصل الرابع :

ذكربعض الأسباب المعينة على لزوم الاستقامة

القسم الأول: الأسباب المعينة على كشف الشبهات ودفعها............ 479

ا- دعاء الله عز وجل وسؤاله الثبات والاستقامه......................... 479

2- البصيرة في الدين والعلم بالشريعة...................................  481

3- التؤدة والأناة وعدم العجلة.........................................  483

4- مصاحبة أهل العلم الصادقين وتجنب أهل الشبهات

والبدع ...........................................................      485

5- التواصي بالحق والدعوة إليه....................................       486

6- لزوم الجماعة ونبذ الفرقة..........................................   487

القسم الثاني: الأسباب المعينة على اتقاء الشهوات وإزالتها...     488

ا- الزهد في الدنيا وتذكر الموت والرغبة في الآخرة.............     488

2- كثرة العبادة والعمل الصالح وذكر الله عز وجل............     491

 

 

 

 

 

 

الموضوع                                                                    الصفحة

3- مجالسة الصالحين والمباعدة من المفسدين وأهل

ا لشهوات ..................................................         493

4- التربية الجادة داخل الأسر ودور التعليم....................         494

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..................          495

الخاتمة: وفيها نصائح سريعة لبعض الفئات التي ورد ذكرهم في

الكتاب..................................................            497

النصيحة الأولى: إلى الذين استسلموا للفساد وسايروا الواقع......       499

النصيحة الثانية: إلى بعض الدعاة الذين يرون تقديم بعض

التنازلات بقصد الإصلاح....................................          500

النصيحة الثالثة: إلى أهل العلم والفتوى......................           502

النصيحة الرابعة: إلى الذين تأثروا بمن يسمون أنفسهم بالعقلانيين ...   503

النصيحة الخامسة: إلى المرأة المسلمة التي تعاني من ضغط الواقع ......    505

نصيحة أخيرة: إلى القابضين على الجمر المستقيمين على أمر الله

تعالى........................................................        508

الفهرس......................................................        515

 

 

*               *             *



 ( [1] ) البخاري كتاب الإيمان (6617) (6628).

( [2] ) ابن ماجه (199) وصححه الا"لباني في صحيح سنن ابن ماجه ( 165 ) .

( [3] ) مسلم (2654).

 

 ( [4] ) قال صاحب بدائع التفسير لم أقف عليه في الصحيحين لكنه عند أحمد 2/ 368، والترمذي  4/ 596 ، وقال حسن صحيح.

( [5] )  بدائع التفسير 3 / 17 .

( [6] )  الجواب الكافي : ص 167 .

 (1) مسلم في الإيمان باب أن الدين النصيحه، حديث رقم (95).

 

(1) البخاري في الإيمان باب قول النبي e الدين النصيحه رقم (57).

(2) البخاري في الإيمان باب من الإيمان أن يحب لا!خيه ما يحب لنفسه (13).

(1) تحفة الا!حوذي (2361) 6/ 539، وقال الترمذي حديث غريب. وقال الأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول: له شواهد يرتقي بها 10/ 4.

 (2) المصدر نفسه.

 

 

 (1) أبو داود في الملاحم (4341) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة

 

 (1) أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفق) 3/ 633، وصححه الألباني في السلسلة 267/3.

 (2)أخرجه أحمد (2/177، 222)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650) .

 (3) الاعتصام للشاطبي 1/ 46، ت: سليم الهلالي.

 

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية (112) من سورة هود.

 

 (1)مسلم (1337) في الحج باب فرض الحج مرة في العمر.

 (2) التحرير والتنوير 6/ 175.

 

 (1) مسلم في الإيمان باب جامع أوصاف الإسلام 1/ 065 (38).

 (2) ابن ماجة في الطهارة باب المحافظة على الوضوء1/ 1 0 1 رقم (277، 278) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة برقم (224).

 (3) مدارج السالكين 2/ 104- 106 ت البغدادي (باختصار).

 

 (1) رواه أبو داود في الا!دب باب بر الوالدين (5142) وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1101).

 (2) رواه البخاري في الصوم باب من مات وعليه صوم، ومسلم رقم (1147).

 (3) مدارج السالكين 1/ 142- 143 ط. الفقي.

 

 (1) مجموع الفتاوى 7/ 266- 267 (باختصار).

 

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية (208، 209) من سورة البقرة (باختصار).

 

 (1) في ظلال القرآن 1/ 206، 211 (باختصار) ط. الشروق.

 

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية (115) من سورة النساء (باختصار).

 

 (1) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 318 ورواه أحمد وصححه شاكر برقم (4142)

 (2) تفسير ابن كثير عند الآية 153 من سورة الأنعام (باختصار).

 

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية (2، 3) من سورة الأعراف.

 (1) بدائع التفسير 2/ 191، 192.

 (1) في ظلال القرآن 3/ 1254- 1259 باختصار.

 

(1) الإعتصام 1/ 78، 79 (باختصار) ت: سليم الهلالي.

 (1) تفسير الطبري 15/ 129- 131 (باختصار).

وقوله e : ( لاتكلني إلى نفسي طرفة عين) جاء أيضا في قولهe: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)؛ صححه الحاكم ووافقه الذهبي 1/ 545، وصححه الا"لباني في صحيح الترغيب وا لترهيب! 654).

 (1) هذا الكلام لا يسلم بإطلاق لان الدين بالجملة فيه فاضل ومفضول، ولكن قد يكون مقصود سيد قطب رحمه الله تعالى تلك الثوابت العقدية التي يجب أن تنطلق منها الدعوة الإسلامية.

 

 (1) في ظلال القرآن 4/ 2245.

 (2) مفتاح دارالسعادة 2 / 51.

 

 (1) طريق الهجرتين ص: 52 ط. دار الحديث.

 (2) شرح قصيدة ابن القيم 373/2.

 

 (1) إعلام الموقعين 4/ 295 ط مكتبة ابن تيمية.

 

 (1) طريق الهجرتين ص: 283.

 (2) تفسير السعدي عند الآية (65، 66) من سورة القصص.

 

 (1) البخاري، كتاب الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور5/ 132.

 (2) مسلم في الفضائل باب شفقته eعلى أمته 7/ 63 ورواه البخاري من طريق أخرى الرقائق باب الانتهاء عن المعاصي.

(3)تفسير بن كثير عند الآية (63) من سورة النور.

 

 (1) تفسير السعدي 4/ 448.

 

 (1)تفسير السعدي 4/ 479، 480.

 (2) بدائع التفسير 4/ 147.

 

 (1)في ظلال القرآن 3229/6.

 

 (2) تفسير القرطبي 18/ 0 23، 231 (باختصار).

 

 (1) يعني (با لمدا هنة) هنا: المد ارا ة.

 (2) التبيان في أقسام القرآن ص 147.

 

 (1) مجموع الفتاوى 16/ 63- 66 باختصار.

 (2) يقصد التوفيق بين الإسلام والجاهلية.

 

 (1) في ظلال القرآن 6/ 3658، 3659.

 

 (1) مسلم في الإيمان باب جامع أوصاف الإسلام رقم (62) (1/ 65).

 

 (1) بهجة قلوب الأبرارص 13.

 (2) رواه بطوله اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 75، وحسنه البغوي في شرح السنة (102)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 58/1.

 (3) مالك في الموطأ في القدر باب النهي عن القول بالقدر بلاغاً وقال الأرناؤوط في جامع الأصول277/1:"لكن يشهد له حديث ابن عباس عند الحاكم93/1بسند حسن فيتقوى به ".

 

 (1) البخاري في الصحيح (6482) (7283)، مسلم (2283).

 (2) رواه أحمد من عدة طرق في المسند 1/ 435، والطبري في التفسير 88/8، والحاكم وصححه 318/2، وحسنه الألباني في حاشية المشكاة 1/ 59.

 (3) الترمذي (2663)، وقال حسن صحيح، وحسنه البغوي في شرح السنة                          ( 101 ) .

 

 (1) مسلم (3/ 373 نووي).

 (2) حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير ( 1/186).

 (3) البخا ري (79)، ومسلم (2282 ) .

 

 (1) أبو داود في الملاحم (4341)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 494 ) .

 (2) أخرجه ابن عبد البر في جاميع بيان العلم وفضله 97/2.

 (3) الاعتصام للشاطبي 1 / 107 ت: الهلالي.

 

 (1) المصدر السابق1 / 107

 (2) المصدر السابق 1 / 108

 (3) المصدر السابق 1 / 110

 (1) رواه الآجري في الشريعة ص 47 (مختصرا) ورواه أبو داودح (4611)، وعبد الرزاق في المصنف ح (20750).

 (2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/ 97.

 

(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكاني 1/ 101.

(2) المصدر السابق 1/ 103.

(3) رواه الآجري في الشريعة 1/ 48، 65، وذكره الخطيب في الفقيه والمتفقه 1/ 73.

 

 (1) الاعتصام للشاطبي 117/1 ت: الهلالي.

 (2) اعلام الموقعين 4/ 192- 194 ط. مكتبة ابن تيمية.

 

 

 (1) إعلام الموقعين 4/ 192- 194 ط. مكتبة ابن تيمية.

 

 (1) الاعتصام للشاطبي 1/ 140.

 (2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 98/1. (3) الاعتصام للشاطبي 116/1.

 (3 ) الاعتصام للشاطبي 1 / 116 .

 (4) المصدر السابق 1/ 135.

 (5) المصدر السابق 1/ 112.

 

 (1) المصدر السابق 1/ 115.

 

 (1) مجلة السنة: العدد الثاني ص 99-101.

 

 (1) تقدم تخريجه ص 31.

 

 (1) الإعتصام للشاطبي ت. سليم الهلالي: 1/ 281- 320 (باختصار شديد) وهو في الكتاب بعنوان: الباب الرابع: في مأخذ أهل البدع بالاستدلال. وهو باب نافع اختصرته هنا واقتصرت منه على الحاجة ولا يغني هذا عن قراءته كاملأ.

 (2) وهذا التحذير لمن لم يتمكن العلم الصحيح من قلبه ويخشى عليه من التأثر بشبهات القوم أو أن عنده علم ولكنه يخشى على نفسه من الشبهات أما من تمكن من العلم بطريق أهل الاستقامه وأراد مناظرة أهل البدع لتفنيد شبهاتهم وبيان ضلالهم للناس فهذا متعين كما قام بذلك بعض أئمة السلف.

 

 (1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 137/1.

 (2) المصدر السابق 1/ 138.

 (3) المصدر السابق 1/ 150.

 (4) المصدر السابق 1/ 151.

 

 (1) شرح أصول اعتقاد أهل السئنة للالكائي 1/ 152.

 (1) أعلام الموقعين 4/ 286.

 

 (1) رواه أحمد 2/ 371، 0 44، وصححه الألباني في الصحيحة (1272).

 

 (1) عزاه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد والطبراني والبيهقي، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح وقال ابن حجر: سنده حسن (فيض القدير 128/3)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (2686).

 

 (1) ا لبخا ري (6306).

 (2) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في الإرواء (413).

 (3) الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي 1/416 .

 

 (1) مدارج السالكين 1/ 237- 1 24 ت البغدادي.

 

 (1) الدور السنية 2/ 119، 120.

 

 (1) انظر الصفحة الأخيرة من كتاب نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية د. صلاح الصاوي، ولا يغني هذا الاختصار عن قراءة الكتاب فهو نافع في بابه جدا، كما أنصح لمن أراد الوقوف على مزيد من الأدلة في إثبات كفر المبدلين لشرع الله سبحانه بالرجوع إلى كتاب (الحكم بغير ما أنزل الله) د. عبد الرحمن المحمود حفظه الله تعالى.

 

(1) قد يقول قائل إن الصورتين السـابقتين لا علاقه لهما بضعف الولاء والبراء أو قوته وانما

     لهما علاقة بالإنكـار ومراتبه . وأقول إن السكوت المطبق على ظهور الشرك الأكبر في

     مجتمع ما من غير إنكار لهذا المنكر يدل على ضعف عقيدة الولاء والبراء، إذ أن من لوازم

    هذه العقيدة إعــلان البراءة من الشرك الأكبر، إلالمن يخشى على نفسه التلف فيجوز له

     الاقتصار على الإنكار القلبي. أما أن يترك بيان الشرك لمجرد طلب السلامة فليس هذا من

     منهج الأنبياء.

 

 (1) مجموع الفتاوى35/388 .

 (2) البداية والنهاية 13/ 128.

 

 (1) أحكام أهل الذمة 1/ 259.

 

 (1) تحكيم القوانين ص: 6- 7.

 

(1) هذه الصورة في حقيقتها ليست تبديلا لشرع الله تعالى وانما هي: كذب على الله عز   

     وجل، ومجرد الكذب على الله عز وجل كفر في حد ذاته.

 

 (1) نقلأ عن مجلة الدعوة السعودية: العدد 17490 تاريخ 4/ 4/ 421 ا هـ ص 9).

 

 (1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268.

 

 (1) التكشير: إظهار الأسنان تبسماً أو غضباً والمراد هنا: إنا لنبتسم في وجوه أقوام مداراة لهم.

 (2) فتح الباري 10/ 544 ط (دار الريان).

 

 (1) المصدر السابق 10/ 545 (مختصرا).

 (2) المصدر السابق 10/ 469 (باختصار).

 (3) الروح ص 231.

 

(1) انظر محنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى في ســير أعـلام النبـلاء 11/332 والبداية

     والنهاية 10/ 346.

 

 (1) طريق الدعوة في ظلال القرآن: ص 94- 96.

 

 (1) مجلة المنار الجديد: العدد العاشرص 48.

 

 (1) المصدر السابق ص ا 5، 52.

 (2) نفس المصدر: ص 53.

 (1) مجلة السنة العدد 67 صى 107- 111 باختصار.

 

 (1) وقد اكد هذا المعنى الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره حيث قال عند تفسير هذه الآية: (قال السدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يتصرف فيها كيف يشاء،.

 

 (1) برنامج الشريعة والحياة، حلقة بعنوان: "غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية، تاريخ12/ 10/ 97 م في قناة الجزيرة.

 

 (1) غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ص 68 الطبعة الرابعة 1405.

 (2) الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم ص 70.

 

(1) انظر لمعرفة تفاصيل هذه الأصول الكفرية كتاب: فكرة التقريب بين السـنة والشـيعة،     

     وكتاب أصـول الطائفة الأثني عشـرية للدكتور: ناصر القفاري وكذلك كتب الشيخ

     إحســان إلهي رحمه الله تعالى: الشيعة والسنة، والشيعة والقرآن، والشيعة وأهل البيت،  

     وغيرها.

 

(1) انظر لمعرفة حقيقة حزب الله وظروف نشأته ومن وراءه، وحقيقه صـراعه مع اليهود:  

     كتاب (حزب الله: رؤية مغايرة) للأستاذ عبد المنعم شفيق، وما نشر في مجلة السنة في

     عددها 97، 98 عن حزب الله.

 

 (1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 223، مكتبة الرياض الحديثة (باختصار).

 

 (1) مجموع الفتاوى 11/ 92.

 

 (1) والنصيحة هنا موجهة إلى بعض إخواننا من أبناء السنة الذين انطلت عليهم بعض شبهات القوم عن أصحاب النبي  e، أما الرافضة الباطنيون فأمرهم مفضوح وباطلهم مدفوع والحمد لله رب العالمين.

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية (29) من سورة الفتح.

 

 (1) البخا ري (3397)، ومسلم (0 1 6 4).

 (2) أعلام الموقعين 1/ 32 ط. مكتبة ابن تيمية.

 

 (1) انطر هذه النقولات في فضلهم ووجوب اتباعهم في أعلام الموقعين ج 4/155- 198.

 

 (1) المصدر السابق 1/ 119- 121 (باختصار).

 

(1) أعلام الموقعين: 4/ 187- 190 (باختصار)، ورحم الله ابن القيم فكأنه يسمع اليوم من يقول عن الصحابة : (نحن رجال وهم رجال).

 

[139] (1) مسلم ح ( 3022 ) كتاب التفسير .

 (1) انظر تفاصيل القصة في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/ 702.

 (2) أعلام الموقعين 1/ 49.

 

 (1) انظر أعلام الموقعين 4/ 87 1 وكذلك 1/ 87 1 (بتصرف).

 

 (1) الإعتصام 308/1- 311 ت. سليم الهلالي.

 

 (1) الموافقات 1/ 87.

 

(2) انظر كتاب منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل المئنة والجماعة 2/ 352- 356 بتصرف واختصار.

 

 (1) خصائص التصور الإسلامي ص 22.

 (2) شرح قصيدة ابن القيم 2/ 95.

 

 (1) درء تعارض العقل والنقل 147/1.

 

 (1) انظر منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة 2/ 361- 365 باختصار وتصرف.

 

 (1) انظر: العقلانية هداية أم غوايه ص 25.

 (2) انظر: العقلانية هداية أم غواية، ص 44 (بتصرف).

 

 (1) خصائص التصور الإسلامي: ص 85- 93 باختصار وتصرف يسيرين.

 

 (1) الثوابت والمتغيرات ص 35- 37 (باختصار) د. صلاح الصاوي.

 (2) ولا يعني هذا عدم الانكار على المخالف للدليل الصحيح بل ينكر عليه ويبين له الحق لكن لا يعادي أو يفارق.

وتبقى المسألة التي ظهر فيها الحكم بدليله ثابتة وملزمة لمن علمها ولا يحل له تركها إلى ما يعلم بطلانه.

 

 (1) خصائص التصور الإسلامي ص 102، 103.

 

 (1) خصائص التصور الإسلامي: ص 107، 108 ( باختصار يسير ) .

(2) انظر: العقلانية هداية أم غواية ص 10.

 

 (1) العقلانية هداية أم غواية ص 11، 12 باختصار وتصرف يسيرين.

 

 (1) سيتم رد مثل هذه الشبهات في فصل قادم إن شاء الله تعالى.

 

 (1) الاعتصام (باختصار) ص 294- 300، ت: سليم الهلالي.

 

 (1) مدارج السالكين ا/ ص 5، 6.

 (2) فقه السيرة للغزالي ص 13، وهذا الكتاب قد خرج أحاديثه الشيخ الألباني رحم الله الشيخين. ومع ما في الكتاب من هنات فإن فيه نفغا كبيرا وفوائد متنوعة.

 

(1)عن كتاب العقلانية هداية أم غواية 82، 83.

 

 (1) المصدر السابق ص 84.

(2) الاعتصام للشاطبي 1/ 295، ت: سليم الهلالي.

 

 (1) نقلاً عن: العقلانية هداية أم غواية، باختصار وتصرف.

 

 (1) عن كتاب العقلانية هداية أم غواية (باختصارص 107- 110 ".

 

 (1) كقاعدة الضرورات، والمشقة تجلب التيسير، وقاعدة عموم البلوى... إلخ.

 

 (1) معالم في الطريق ص 151- 159 باختصار.

 

 (1) مجموع الفتاوى 13/ 358.

 

 (1) انظر العقلانية غواية أم هداية (بتصرف واختصار) ص 116 وما بعدها.

 

 (1) مدارج السالكين 2/ 69- 71 ط. الفقي.

 

 (1) مدار! السالكين 2/ 4 33- 335 طيعة الفقي.

 

 (1) في أدب المفتي ص 74.

 (2) وانظر الفقيه والمتفقه 2/ 168.

 

 (1) وانظر الطبقات لابن سعد 6/ 110.

 (2) وانظر الفقيه والمتفقه 2/ 198.

(3) وانظر جامع بيان العلم 2/ 164.

 (4) وانظر الفقيه والمتفقه (2/ 173).

(5) وانظر: جامع بيان العلم (2/ 54).

 

 (1) وانظر: جامع بيان العلم (53/2).

 (2) وانظر الحلية (3/ 323).

 (3) وانظر: الفقيه والمتفقه (2/ 174- 175).

 

 (1) كل النقولات السابقة جاءت في أدب المفتي لابن الصلاح ص 74.

 (2) صفة الصفوة(1/ 56).

 (3) الفقيه والمتفقه (2/ 356).

 (4) الفقيه والمتفقه!2/ 362).

 

 (1) الفقيه والمتفقه (2/ 365).

 (2) صفة الصفوة (2/ 89).

 (3) الفقيه والمتفقه (2/ 356).

 (4) الفقيه والمتفقه (2/ 353).

 

 (1) ترتيب المدارك (1/ 144).

 (2) الفقيه والمتفقه (2/ 349).

 

(1) أعلام الموقعين 4/ 259.

 

 (1) أعلام الموقعين (4/ 229).

 (2) المصدر السابق (4/ 187).

(3) إعلام الموقعين (4/ 255- 256).

 (1) مسلم في صلاة المسافرين (770) 1/ 534.

(2) أعلام الموقعين (4/ 256).

 (1) المصدر السابق (4/ 172).

 

(1) في أدب المفتي (ص ا 11).

 

 (1) أعلام الموقعين (3/ 179).

 

 (1) هذه سبعة أوجه من ضمن تسعة وتسعين وجهاً ذكرها الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين (3/ 83 1- 8 0 2).

 (2) نفس المصدر (3/ 208).

 

 (1) الموافقات 1/ 140 ت: دراز.

 

 (1) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 353.

 

 (1) مجلة البيان. العدد (174) ص (101- 104).

 

 (1) انظر: عموم البلوى دراسة نظرية تطبيقية للأستاذ مسلم بن حمد الدوسري ص 61، 62 باختصار وتصرف.

 

 (1) هذا المثال: محل نظر حيث يرى بعض الفقهاء أن الرخصة هنا عامة جمعا للكلمة وحذراً من الافتراق والله أعلم.

 (1) عموم البلوى دراسة نظرية تطبيقية ص 338 وما بعدها باختصار وتصرف.

 

 (1) عموم البلوى: دراسة نظرية تطبيقية تأليف: مسلم بن محمد الدوسري ص 436- 439 (باختصار).

 (1) البتع: نوع من أنواع النبيذ.

 

 (1) انظر للرد على حديث: (إن اختلاف أمتي رحمة) كتاب: (اتمام المنة والنعمة في ذم أختلاف الأمه، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسين ال الشيخ.

ت: الوليد بن فريان ص 31.

 

 (1) ا لموا فقات 2/ 102- 104.

 

 (1) مدارج السالكين 3/ 288.

(1) يقصد قول ابن عباس ومن تبعه من المكيين في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلاً ومنعوه نسيئة فقط لقوله e : ( لا ربا إلا في نسيئة ) .

 (2) يقصد قول العراقيين في النبيذ . وأكثر علماء البصرة في أن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين .. ( بداية المجتهد لابن رشد1/471 ) .

 (3) يقصد الحيل عند الأحناف . انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ـ الحنفي ـ صلى الله عليه وسلم 406 ـ 416 وبعضهم اختار لفظ " المخارج " بدلاً من " الحيل " . وانظر كلام ابن القيم في الحيل في اعلام الموقعين . 

 (1) القحبة بفتح القاف وتسكين الحاء ، جمعها قحاب ، من قحب العير والكلب قحباً إذا سعل . والقحبة العجوز التي يأخذها السعال . وهنا المرأة التي أعدت نفسها للزنا وسميت بذلك لأنها في الجاهلية كانت تجلس في خيمة وتؤذن طلابها بالدخول عليها بالسعال .

 (2) اليراع كما في لسان العرب لابن منظور : القَصب واحده يراعة ، أو القصبة التي ينفخ فيها الراعي ( 6 / 4955 ) .

 (3) الطنبور : آلة موسيقية ذات وتر ، وهي كلمة فارسية معربة . 

 (4) الحبقة : الضرطة . ويقصد بذلك القائلين بأنه لا يلزم الخروج من الصلاة بالتسليم وإنما لو أحدث في التشهد الأخير ولو بضرطة خرج من الصلاة ، وصلاته صحيحة .

 (1) مدارج السالكين: بتحقيق البغدادي 2/ 58، 59، والتعليق في الهامش هو للمحقق البغدادي: 2/ 58، 59.

 

 (1) نظرية الضرورة الشرعية ص 6.

 (2) نظرية الضرورة الشرعية ص 67، 68.

(1) نظرية الضرورة الشرعية ص 69- 72 باختصار وتصرف يسير

 (1) الموا فقات 4/ 145.

 

 (1) انظر لمزيد من البيان الاعتصام 2/ 611، 612 ت- سليم الهلالي.

 

 (1) انظر الاعتصام 2/ 627، وما بعدها بتصرف واختصار.

 

 (1) الموافقات 3/ 42- 44 نشر: دار الفكر تعليق محمد حسنين مخلوف.

 

 (1) المصلحة الضرورية: هي التي تكون الأمة بمجموعها أو آحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لو فاتت لآلت حال الأمة إلى الفساد أو التلف في أحد الضروريات الخمس الدين، النفس، العقل، المال، النسل (العرض).

والمصلحة الحاجية: وهي ما تكون الأمة محتاجة إليه لانتظام أمورها بدون حرج ولا ضيق بحيث لو لم تراع لما فسد نظام حياة الأمة ولكن الحياة تسير بحرج وضيق.

 

 (1) انظر لمزيد من البيان حول ضوابط المصلحة الشرعية كتاب: ضوابط المصلحة للبوطي.

 

 (1) أورده الألباني في الصحيحة بلفظ: (أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) رقم    (1582).

 

 (1) روا. أحمد في المسند 4/ 105 وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (187).

 (2) اقتضاء الصراط المستقيم. ت: ناصر العقل من ص 101- 105 باختصار.

 (1) ضوابط المصلحة للبوطي ص 282- 285 باختصار وتصرف يسيرين.

 

 (1) الموافقات 2/ 97 1، 98 1 (ط. دار الفكر).

 (1) أعلام الموقعين 3/ 54، 66 تحقيق: عبد الرحمن الوكيل نشر مكتبة ابن تيمية.

 

 (1) أعلام المرقعين 3/ 67، 68، 72 (باختصار).

 

 (1) مدارج السالكين 2/ 125 (باختصار).

 

 (1) واقعنا المعاصرص 486 (باختصار).

 

 (1) رواه الإمام أحمد وغيره وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (27) ص 89.

 (2) صحيح الترغيب والترهيب (1 2) ص 87، 88.

 (3) تفسير ابن كثير عند الآية 15، 16 من سورة هود.

 

 (1) البخاري في الجهاد باب الحراسة في الغزو (2887).

 (2) الدرر السنية 0 1/ 98، 99.

 

 (1) عزاه الألباني إلى أبي داود في مراسيله وضعفه في صحيح الجامع (5241).

 

 (1) مجموع الفتاوى (26/ 29، 30).

 

 (1) سير أعلام النبلاء6/ 383، وقال الذهبي: إسناده صحيح.

 (2) صفة الصفوة 3/ 360.

 

 (1) رواه أحمد في مسنده 5/ 315، والنسائي 6/ 24، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (2941) (2942).

 (2) سير أعلام النبلاء7/ 152، 153.

 (3) صفة الصفوة 4/ 122.

 

 (1) يعني فانية في مراد الله وعبادته.

 (2) مدراج السا لكين 2/ 98، 99.

 

 (1) المصدر السابق: 1/ 439 باختصار.

 

(1) أبو داود في الأدب باب في رب الوسوسة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود

    (4263) (4264)، كما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة

    (132).

 

 (1) الفوائدص 170- 172 (باختصار يسير).

 (2) الروح ص 4، 5 ط. دار إحياء العلوم ت: محمد سكر.

 

 (1) مدارج السالكين 2 / 71 .

 (1) الروح ص 542.

 

 (1) رواه مسلم. كتاب صلاة المسافرين، باب فضل القيام بالقرآن يعلمه (6/ 97) شرح النووي.

 (2) الروح لابن القيم ص 532- 534 (باختصار).

 

 (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب تحرم الكبر وبيانه (91).

 (1) الروح ص 499، 500 (باختصار).

(2) مدارج السالكين 1/ 299.

(1) الروح ص 497.

 

 (1) البخاري (3158) في كتاب الجزية باب الجزية والموادعة، ومسلم (3274).

 

(1) البخاري في الرقائق (6498)، ومسلم في فضائل الصحابة 2547.

 

(1) الروح لابن القيم ص 493، 494.

(2) أخرجه أبو داود (4681)، وصححه الا"لباني في السلسلة الصحيحة (0 38).

 

(1) الروح ص 537- 539.

 

 (1) أضواء البيان 3/ 536.

 

 (1) الجواب الكافي ص 135 ت: حسين عبد الحميد.

 (1) مسلم برقم (2159) في الآداب، باب نظرة الفجأة.

(2) غذاء الألباب 1/ 84.

 

 (1) غذاء الا"لباب 1/ 84، 85، 86 باختصار.

 

 (1) البخاري في الديات، باب من اطلع في بيت قوم...، ورواه مسلم (2158).

 (1) الجواب الكافي ص 136.

 

 (1) رواه البخاري تعليفا (5590)، ووصله الطبراني 1/ 167، والبيهقي 10/221

 (2) حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (428)، وقال: قال الهيثمي في المجمع 3/ 13: رواه البزار. ورجاله ثقات.

 

 (1) مدارج السالكين 1/ 482، ط. الفقي.

 

 (1)  المصدر السابق ص 486.

 (2) فصل ابن القيم رحمه الله ذلك في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.

 

 (1) مدارج السالكين 1/ 493- 497 (مختصرا)

 (1) تفسير السعدي 2/ 33.

 (1) تفسير المنار 7/ 506، 507.

 

 (1) شرح أصول اعتقاد أهل السثنة 1/ 129، وقال المحقق: سنده حسن.

 (2) شرح أصول اعتقاد أهل السئنة 4/ 703، وقال المحقق: هذه القصة رواها المؤلف-

من طريقين.

الأولى: رواية السائب عزاها ابن حجر إلى (ابن الأنباري)، وصحح اسنادها. الإصابه 5/ 169

الثانية: رواية ابن يسار ورواها الدارمي في السنن (146).

 (1) المصدر السابق نفسه.

 

 (1) لعلها مجلة: الزهراء التي كان يصدرها الشيخ محب الدين الخطيب.

 

 (1) رواه مسلم (2674).

 (2) جوانب من سيرة الامام عبد العزيز بن بازص 467- 469.

 (1) مسند أحمد 4/ 30، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5690).

 

 (1) مختصر منهاج القاصدين: ص 171.

 

 (1) الآنك: الرصاص المذاب.

 (2) مسند أحمد (3383) 373/5، وقال المحقق إسناده صحيح على شرط ا لبخاري.

 (3) البخاري في الرقاق باب حفظ اللسان (6474)، والترمذي في الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان.

 (4) جزء من حديث معاذ الطويل. أخرجه الترمذي (2619)، وأحمد 5/ 231، وابن ماجه (3973)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (13 4).

 

 (1) الجواب الكافي ص 137.

 (2) الآداب الشرعية 1/ 71

(3) الآداب الشرعية 1/ 72

 

 (1) صفة الصفوة 549/1.

 (2) سير أعلام النبلاء8/ 434.

 (1) صفة الصفوة 3/ 176.

 (2) سير أعلام النبلاء12/ 439.

 (3) الصمت لابن أبي الدنيا ص 60.

 (4) 1 لحلية 3/ 68.

 (1) رواه الترمذي في الزهد باب رقم 11 وقال حديث غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1886).

 (2) ومنها تبنى أقوال أهل الأهواء والبدع وأقوال النفاق وأهله ونشرها بين الناس.

 

 (1) البخاري كتاب الرقاق باب حفظ اللسان رقم (6477).

 (2) البخاري في الا!حكام باب الا"لد الخصم، ومسلم برقم (2668).

 (3) إلا إذا كان السكوت يؤدي إلى ذهاب الحق أو لبسه بالباطل أو تضليل الناس بعدم معرفتهم للحق، ففي مثل هذه الأحوال يجب قول الحق والخصومة فيه ورد الباطل عنه .

 

 (1) أورده الألباني في السلسلة الصحيحه (792) وعزاه للترمذي 1/ 363.

 (2) أبو داود (89 0 4) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (885) .

 (3) الترمذي في البر، باب ما جاء في اللعنة وصححه الالباني في صحيح سنن الترمذي برقم  (1610).

 

 (1) أبو داود (5002)، والترمذي في البر والصلة باب ما جاء في المزاح، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4182).

 (2) البخاري في الادب المفرد (268)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 1369/3.

 (3) الترمذي في الشماثل ص 197، قال محققه: حسن، وحسنه الألباني في غاية المرام     (ص 215).

 

 (1) كأن يأتي ظالم متسلط يسأل عن رجل ليقتله ظلماً وهذا الرجل مختف في بيت من بيوت أحد المسلمين فحينئذ يجوز الكذب بل يجب أن يرد على السائل الظالم بأنه ليس موجودا حفاظا على الدم المعصوم.

 (2) البخاري في الادب المفرد (885) وضعفه الالباني في ضعيف الجامع الصغير برقم          (1904)، وقد جاء بلفظ آخر موقوفا على عمر : "أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب " وصحح هذا الأثر الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد برقم (680).

 (3) البخاري في الحج باب الخطبة أيام منى، ومسلم برقم (1679).

 (1) الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في تعظيم المؤمن وصححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذي (1655).

 (2) الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في الغيبة وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1578).

 (1) مختصر منهاج القاصدين 165- 170 (باختصار).

 

 (1) البخاري في الأدب باب الغيبة رقم ( 6025 ) .

 (2) الترمذي كتاب البر والصلة باب ما جاء في النمام وصححه الألباني في السلسة الصحيحة ( 1034 ) .

 (3) البخاري 5/294 ، ومسلم ( 89 ) .

 (1) مسلم في المقدمة 8/1، وأبو داود في الأدب باب في التشديد في الكذب ( 4992 ) .

 

 (1)  البخاري (6058)، ومسلم (2526).

 

 (1) 1 لبخاري (6290)، ومسلم (2184).

 

 (1) إقتضاء الصراط المستقيم 526/1 ت: د. ناصر العقل.

 (2) خب: أي وقع في الخداع أو الخيانة.

 (3) المصدر السابق 1/ 522.

 

 (1) رواه أبو داود في الأقضية (3573)، وابن ماجه في الأحكام (5 1 23)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3051)

 (2) مجموع الفتاوى (16/ 96).

 

 (1) انظر تفسير هذه الآية في أول البحث ص: 25.

 (2) انظر صلى الله عليه وسلم :197 من هذا البحث .

 

 (1) مسلم في الطهارة باب خصال الفطرة .

 (2) البخاري ( 5892) ، (5893) .

 (1) انظر كتاب أدلة تحريم حلق اللحية للشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله تعالى.

 

 (2) رواه مسلم (107).

 (1) اقتضاء الصراط المستقيم 547/1- 549 باختصارت: العقل.

 (2) البخاري في الا!دب المفرد (891) فضل الله الصمد، والترمذي في البر باب ما جاء في صنائع المعروف وحسنه.

 (3) مسلم في البر والصلة باب استحباب طلاقة الوجه (2626).

 

 (1) البخاري في الجهاد (3035)، ومسلم (2475).

 (2) سير أعلام النبلاء10/ 140، 141.

 

 (1) صحيح مسلم كتاب المساجد باب فضل صلاة الجماعة والتشديد في التخلف عنها: (153/5 النووي).

 

 (1) صحيح مسلم كتاب الى، جد باب فضل صلاة الجماعة والتشديد فى التخلف عنها         (5/ 116 لنو وي).

 

 (1) أبو داود في الزكاة باب في الشح (1698) وصحح إسناده الأرناؤوط في جامع الأصول 1/ 608.

 (2) أعلام الموقعين 2/ 177 ط دار الجيل.

 (1) رواه مسلم (2162).

 

 (1) رواه البخاري (12/ 289 الفتح).

 (1) رواه البخاري (12/ 289 الفتح).

 (2) 1 لبخا ري (10/ 413)، مسلم (560).

 (3) رواه مسلم (2565).

 (4) رواه أبو داود (4915).

 (1) رواه مسلم (46) .

 (2) رواه مسلم (49)، وأبو داود (1140).

 (3) رواه الترمذي وحسنه (2170).

 (1) 1 لبخا ري 0 1/ 321، 322، مسلم (9 0 1 2).

 (2) 1 لبخا ري 0 1/ 323، مسلم (8 0 1 2).

 (3) مسلم (969)، أبو داود (3218).

 

 (1) 1 لبخا ري 10/ 325، مسلم (92).

 (2) البخاري 4/ 3445، مسلم (0 211).

 (3) انظر إلى هذه الضوابط والشروط في مبحث الضرورة ص 269.

 

 (1) أقول: هذا تنزلاً وإلا فالراجح أن التحريم يعم جميع الصور دون تفريق، وهذا ما أفتى به شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى.

 (1) 1 لبخا ري (96 0 5)، ومسلم (0 274).

 (2) 1 لبخا ري (96 0 5)، ومسلم (0 274).

 (3) البخاري (99 70)، وفتح الباري 13/ 53.

 (4) أحمد في المسند 5/ 45، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير (9596)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6097).

 (1) 1 لبخا ري (3384) (3385).

 (2) ا لبخا ري (4 0 3)، و مسلم (79).

 (3) أ حمد 202/2.

 (4) اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 6- 8.

 (1) البخاري 13/ 112، ومسلم 3/ 1460.

 

 (1) كما أن هناك محذور آخر من وجود الخادمات الكافرات وهو عدم احتجاب كثير عن المسلمات عنهن وهذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم في قوله تعالى (أو نسائهن ) أي المسلمات وأما الكافرة فيحتجب عنها.

 (2) لقوله e: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم)، رواه البخاري: 2/ 468، ومسلم: (1339).

 (1) 1 نظر: ص 396.

 (2) والذي يقدر الحاجة والضرورة هم الراسخون في العلم وليس أهواء الناس وشهو ا تهم.

 

 (1) 1 لبخاري 0 1/ 328، مسلم (6 0 26).

 

 (1) 1 لبخا ري 10/ 336، مسلم (85).

(2) 1 لبخاري 0 1/ 373، مسلم (47).

 (1) أي فانية في مراد الله عز وجل.

 (2) مدارج السالكين 2/ 99 وقد سبق هذا النقل، وكررته هنا للمناسبه.

 (1) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية ص 163، 164.

 (2) المصدر نفسه ص 149.

 (1) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية (136- 137) بتصرف يسير.

 (1) نفس المصدر (140، 144) باختصار.

 (1) العبودية لابن تيمية ص 38.

 

 (1) إنظر: كتاب (جلباب المرأة المسلمة) للشيخ الألباني رحمه الله تعالى ص 37

 (2) تفسير ابن كثير عند الآية (31) من سورة النور.

 

 (1) عودة الحجاب 3/ 437.

 

 (1) البخاري 4/ 42، وا لنسائي 2/ 9، 10.

 (2) تفسير سورة النور: ص 65.

 (3) الحاكم 1/ 454، وقال صحيح على شرط الشيخ ووافقه الذهبي.

 (1) إحياء علوم الدين 729/4.

 

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية (36) من آية الأحزاب.

(2) بدائع التفسير 3/ 425.

 (3) نفس المصدر 3/ 427.

 (1) أبو داود (4031) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3401).

(2) مسلم (2128).

 (3) مسلم (2077).

 (1) بيان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم (21302) وتاريخ 25/1/1421.

 (2) التمهيد 16/ 231.

 (1) المصدر نفسه 16/ 234.

 (2) مجموع الفتاوى 37715.

 (3) انظر ضعيف الجامع الصغير 59/4.

 (1) فتح البيان لصديق خان 7/ 274.

 (2) الكبائر للذهبي ص (131).

 

 (1) رواه الطبراني في المعجم الصغيرص 232، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة        (1326).

 (2) ذكره السيوطي في تنوير الحوالك 3/ 103.

 

 (1) أبو داود 2/ 182، والحاكم 4/ 194، وقال: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي وقال الا"لباني: وهو كما قالا انظر جلباب المرأة المسلمة للألباني ص141

 (2) أبو داود 2/ 184، وصححه الألباني بشواهده في جلباب المرأة المسلمة: ص146 .

 

 (1) عن كتاب جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني ص (152- 159) باختصار شديد.

 

 (1) اقتضاء الصراط المستقيم 93/1، 94 ت: د. ناصر العقل.

 

 (1) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية ص 136.

 (1) في ظلال القرآن 3/ 1219.

 

 (1) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية ص 138، 139 باختصار.

 (2) أبو داود 2/ 172، ابن ماجه 2/ 278، وحسنة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه رقم (2906).

 

 (1) انظر جلباب المرأة المسلمة: ص 213.

 (2) نيل الأوطار 2/ 94.

 (3) رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3233).

 

 (1) صحيح الجامع الصغير ( 501 ) .

 ( مسلم برقم ( 441 ) .

 (1) الاعتصام للشاطبي 1/ 305، 312.

 

 (1) البخاري في الحج (3006)، ومسلم برقم (1341).

 (2) الترمذي في الرضاع باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات.

 (1) ومن العجائب أن ترى امرأة من بيت محافظ قد تهالكت على الخروج من البيت للعمل، لا لحاجة بل لذات العمل، وقد يكون العمل في منطقة نائية عن مدينتها فتسافر إلى مقر عملها بلا محرم، أو تقيم في بلد عملها بدون محرم، أو تضطر والدها المسن أو زوجها المشغول ليقيم معها. ألا ما أتعس هذه الحياة فوالله ما وجد فيها أهلها السكن ولا العيش الرغيد.

 

 (1) عن كتاب حصوننا مهددة من داخلهاص 114.

 (1) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية 162- 166 باختصار.

 (2) سبق أن ذكرنا في ضوابط الضرورة أن تكون الضرورة ملجئة وأن لا تكون هناك وسيلة أخرى مباحة لدفع الضرورة، وبهذا يبطل ادعاؤهم بأن تصوير المرأة في البطاقة ضرورة لأن هناك وسيلة مباحة تحقق المطلوب وبشكل أدق وهي البصمات فهل يجور حينئذ اللجوء إلى التصوير المحرم. مع وجود الوسيلة المباحة التي تؤدي غرض الصورة وبشكل أدق.

 

 (1)أبو داود (566 ، 567 ، 568 )، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (576).

 

 (1) سبق تخريجه.

 (2) البخاري في النكاح باب المداراة مع النساء، مسلم (1468).

 

 (1) 1 لبخا ري (6425)، و مسلم (2961).

 (1) البخاري في البيوع (2083).

 (2) مسلم في الزهد (2962).

 

 (1) مسند الإمام أحمد 1/ 407، 408، وقال شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح           5/ 383.

 (2) المسند 2/ 519، وقال محقق المسند أحمد هاشم في ط. المعارف إسناده صحيح.

 (3) الترمذي كتاب صفة القيامة باب (1) في القيامة وقال: حسن صحيح (وانظر السلسلة الصحيحة 2/ 666).

 (1) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب (190) رقم (1598).

 

 (1) سبق تخريجه ص 462.

 (2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء13/ 344، 345.

 (3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء13/ 344، 345.

 (1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب البيوع باب (56) في النهي عن العينة (3462) واللفظ له ورواه أحمد بألفاظ مقاربة 2/ 28، 42، وصححه الا"لباني بمجموع طرقه. انظر (السلسلة الصحيحة( ا 1) 1/ 15).

 

 (1) أعلام الموقعين 3/ 405.

 (2) أورده ابن كثير في التفسير وجود اسناده 3/ 492 ط. دار الشعب (1/ 15).

 

 (1) أعلام الموقعين (3/ 213- 214).

 

 (1) رواه مسلم برقم (1513) في البيوع.

 

 (1) رواه البخاري في الأدب باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ورواه مسلم 25631).

 (2) رواه مسلم رقم (101) في كتاب الإيمان.

 

 (1) انظر ذلك في كتاب فتاوى إسلامية. جمع محمد المنسد 2/ 365، 366.

 

 (1) تفسير ابن كثير عند الآية 188 من سورة البقرة.

 (2) رواه الترمذي( 1353) في كتاب الأحكام باب ما جاء في الراشي والمرتشي (تحفة الأحوذي 4/ 565)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

 

 (1) تحفة الأحوذي 4/ 565، 566.

 

 (1) صححه الألباني في صحيح الجامع (4519)، وعزاه إلى أحمد والدارمي.

 (2) البخاري كتاب البيوع (2227).

 

 (1) العزلة للخطابي ص 95.

 

 (1) رواه مسلم في صلاة المسافرين (770).

 (2) الترمذي في القدر باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، وقال الترمذي حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2792).

 

 (1) أعلام الموقعين 4/ 258.

 

 (1) سير أعلام النبلاء10/ 31.

 

 (1) أبو داود في الأدب (4810)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1794 ) .

 

 (1) المطالب العالية 3/ 106.

 (2) المصدر نفسه 3/ 106، وقال البوصيري: رواه اسحاق بإسناد حسن لابن أبي شيبة.

 

 (1) جزء من حديث رواه الترمذي في الفق وصححه الألباني في صحيح سنن ا لترمذي       (1758).

 

 (1) مدارج السالكين 1/ 449.

(2) الفوائدص 177.

 (1) بدائع التفسير 17/1.

 

 (1) البخاري كتاب الرقاق (6502).

 (2) البخاري كتاب التوحيد (5 0 74)، مسلم كتاب الذكر (2675).

 

 (1) البخاري في البيوع باب في العطاء وبيع المسك، ومسلم (2628) في البر باب استحباب مجالسة الصالحين.

 (1) البخاري (7151) بلفظ مقارب، مسلم (142) واللفظ له.

 

 (1) الترمذي في الزهد باب (49) وصححه الألباني في صحيح الجامع ((77 0 6)، وفي صحيح سنن الترمذي (1967).

 

 (1) سبق تفصيل هذه الأسباب في عدة رسائل سابقة منها رسالة: "متى نصر الله،، ورسالة: "فبهداهم اقتده "، ومقالة"أصول النصر والتمكين " في كتاب منارات في الطريق فليرجع إليها.

 (1) رواه البخاري في الاعتصام باب قول النبي e: (لا تزال طائفة من أمتي...) ورواه في التوحيد (7460)، ومسلم برقم (037 1).

 

 (1) رواه ابن حبان في صحيحه (1631)، وصححه الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة 7/1.

 (1) المستقبل لهذا الدين لسيد قطب رحمه الله تعالى ص 130- 140.

 

 (1) عن خاتمة مدارج السالكين لابن القيم 3/ 522.

                                                                 ضحى الثلاثاء

                                                      الموافق: 17/ 11/ 1422 هـ

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...