Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج7وج8.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

ج7وج8.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي
تسل عن كل شيءٍ بالحياة فقد ... يهون بعد بقاء الجوهر العرض
يعوض الله مالاً أنت متلفه ... وما عن النفس إن أتلفتها عوض
وقال:
قالوا اقناعة عز والكفاف غنىً ... والذل والعار حرص المرء والطمع
صدقتم من رضاه سد جوعته ... إن لم يصبه فماذا منه يقتنع؟
وقال:
إن لم تكن تجزع من دم ... عي إذا فاض فصنه
أو تكن مجدت يوماً ... سيداً يعفو فكنه
أنا لا أصبر عمن ... لا يجوز الصبر عنه
كل ذنبٍ في الهوى يغ ... فر لي ما لم أخنه
وقال يرثي أخاه أحمد بن عبد الله بن يوسف:
غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحيٍ من بعد ميتٍ بقاء
لا لبيد بأربدٍ مات حزناً ... وسلت صخراً الفتى الخنساء
مثل ما في التراب يبلى الفتى فال ... حزن يبلي من بعده والبكاء
غير أن الأموات زالوا وأبقوا ... غصصاً لا يسيغها الأحياء
إنما نحن بين ظفرٍ ونابٍ ... من خطوبٍ أسودهن ضراء
وتتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو بما نسر نساء
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي تغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دبيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء
راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساء
ليت شعري حلماً تمر بنا الأي ... يام أم ليس تعقل الأشياء
من فسادٍ يجنيه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
قبح الله لذةً لشقانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... ر فإيجادنا علينا بلاء
وقليلاً ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الأسى وفيم العناء؟
ولقد أيد الإله عقولاً ... حجة العود عندها الإبداء
غير دعوى قومٍ على الميت شيئاً ... أنكرته الجلود والأعضاء
وإذا كان في العيان خلاف ... كيف في الغيب يستبين الخفاء؟
ما دهانا من يوم أحمد إلا ... ظلمات وما استبان ضياء
يا أخي عاد بعدك الماء سماً ... وسموماً ذاك النسيم الرخاء
والدموع الغزار عادت من الأن ... فاس ناراً تثيرها الصعداء
وأعد الحياة غدراً ولو كا ... نت حياةً يرضى بها الأعداء
أين تلك الخلال والحزم أين ال ... عزم أين السناء أين البهاء؟
كيف أودى النعيم من ذلك الظل ... ل وشيكاً وزال ذاك الغناء؟
أين ما كنت تنتضي من لسانٍ ... في مقامٍ ما للمواضي انتضاء؟
كيف أرجو شفاء ما بي؟ وما بي ... دون سكناي في ثراك شفاء
أين ذاك الرواء والمنطق الجز ... ل وأين الحياء أين الإباء؟
إن محا حسنك التراب فما للد ... دمع يوماً من صحن خدي انمحاء
أو تبن لم يبن قديم ودادي ... أو تمت لم يمت عليك الثناء
شطر نفسي دفنت والشطر باقٍ ... يتمنى ومن مناه الفناء
إن تكن قدمته أيدي المنايا ... فإلى السابقين تمضي البطاء
يدرك الموت كل حيٍ ولو أخ ... فته عنه في برجها الجوزاء
ليت شعري وللبلا كل مخلو ... قٍ بماذا تميز الأنبياء؟
موت ذي الحكمة المفضل بالنط ... ق وذي العجمة البهيم سواء
لا غوى لفقده تبسم الأر ... ض ولا للتقي تبكي السماء
كم مصابيح أوجهٍ أطفأتها ... تحت أطباق تربها البيداء

كم بدورٍ وشموسٍ وكم أط ... واد مجدٍ أمست عليها العفاء
كم محا عزة الكواكب غيم ... ثم أخفت ضياءها الأنواء
إنما الناس قادم إثر ماضٍ ... بدء قومٍ للآخرين انتهاء
وقال:
قالوا وقد مات محبوب فجعت به ... وفي الصبا وأرادوا عنه سلواني
ثانيه في الحسن موجود فقلت لهم ... من أين لي في الهوى الثاني صباً ثاني
وقال:
ولو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كل من يعطي المنى بمسدد
لقلت لأيامٍ مضين ألا ارجعي ... وقلت لأيامٍ أتين ألا ابعدي
الحسين بع عبد الله بن رواحةابن إبراهيم بن عبد الله بن رواحة أبو عليٍ الأنصاري الحموي، الأديب الفقيه الشاعر المجيد، ولد بحماة ونشأ بها، ورحل إلى دمشق فأقام بها مدةً واشتغل بالفقه، وسمع الحديث من الحافظ أبي القاسم بن عساكر ومن عمه وآخرين.
ورحل إلى مصر فسمع بها وبالإسكندرية. ثم عاد إلى دمشق فشهد واقعة مرج عكا فقتل فيها شهيداً يوم الأربعاء من شعبان سنة خمسٍ وثمانين وخمسمائةٍ. وله من قصيدةٍ مهنئاً بها الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب بعيد النحر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةٍ، وكان السلطان مخيماً بمرج فاقوس:
لقد خبر التجارب منه حزم ... وقلب دهره ظهراً لبطن
فساق إلى الفرنج الخيل براً ... وأدركهم على بحرٍ بسفن
وقد جلب الجواري بالجواري ... يمدن بكل قدٍ مرجحن
يزيدهم اجتماع الشمل بؤساً ... فمرنان ينوح على مرن
زهت إسكندرية يوم سيقوا ... ودمياط إلى المينا بغبن
يرون خياله كالطيف يسري ... فلو هجعوا أتاهم بعد وهن
أبادهم تخوفه فأمسى ... مناهم لو يبيتهم بأمن
تملك جيشاً شرقاً وغرباً ... فصاروا بين مملوكٍ ورهن
أقام بآل أيوبٍ رباطاً ... رأت منه الفرنجة ضيق سجن
رجا أقصى الملوك السلم منهم ... ولم ير جهده في الحرب يغني
فألقى السلم بعد الحرب كرهاً ... ولم ير من مناه سوى التمني
وقال يرثي الحافظ أبا القاسم بن عساكر، وأنشدها بجامع دمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائةٍ:
ذرا السعي في نيل العلا والفضائل ... مضى من إليه كان شد الرواحل
فقولا لساري البرق إني معينه ... بنار أسىً أو سحب دمعٍ هواطل
وتمزيق جلباب العزاء لفقده ... بزفرة باكٍ أو بحسرة ثاكل
فأعلن به للركب واستوقف السرى ... لقصاده من قبل طي المراحل
وقل غاب بدر التم عن أنجم الدجى ... وأشرق منهم بعده كل آفل
وما كان إلا البحر غار ومن يرد ... سواحله لم يلق غير الجداول
وهبكم رويتم علمه من رواته ... فليس عوالي صحبه بنوازل
فقد فاتكم نور الهدى بوفاته ... ونور التقى منه ونجح الوسائل
وما حظ من قد غره نصل صارمٍ ... رجا نصره من غمده والحمائل
ليبك عليه من رآه ومن حوى ... هداه بأيامٍ لديه قلائل
ويقض أسىً من فاته الفضل عاجلاً ... برؤيته والفوز في كل عاجل
أسفت لإرجائي قدوم أعزةٍ ... عليه وتسويفٍ إلى عام قابل
ولو أنهم فازوا بإدراك مثله ... لأزروا على سن الصبا بالأمائل
فيا لمصائبٍ عم سنة أحمدٍ ... وأحرم منها كل راوٍ وناقل
خلا الشام من خيرٍ خلت كل بلدةٍ ... بها من نظيرٍ للإمام مماثل
وأصبح بعد الحافظ العلم شاغراً ... بلا حافظٍ يهذي به كل باقل
وكم من نبيهٍ ضل مذ مات جاهه ... وقدم لما أن مضى كل خامل
خلت سنة المختار من ذب ناصرٍ ... فأيسر ما لاقته بدعة جاهل

نمى للإمام الشافعي مقالةً ... فأصبح يثني عنه كل مجادل
وأيد قول الأشعري بسنةٍ ... فكانت عليه من أدل الدلائل
وكم قد أبان الحق في كل محفلٍ ... فأورى بما يروي ظماء المحافل
وسد من التجسيم باب ضلالةٍ ... ورد من التشبيه شبهة باطل
وإن يك قد أودى فكم من أسنةٍ ... مركبةٍ من قوله في عوامل
وإن مال قوم واستمالوا رعاعهم ... بإضلالهم عنه فلست بماثل
أرى الأجر في نوحي عليه ولا أرى ... سوى الإثم في نوح البواكي الثواكل
وليس الذي يبكي إماماً لدينه ... كباكٍ لدنياه على فقد راحل
فيا قلب واصله بأعظم رحمةٍ ... ويا عين فاسقيه بأغزر وابل
وحيي ثراه الدهر أهنى تحيةٍ ... مكررةٍ عند الضحى والأصائل
أعني على نوحي عليه فإنه ... قريب ثواءٍ في الثرى والجنادل
ولو لم يكن بالدمع سيل لحبه ... لضن على لحدٍ به كل باخل
مضى من حديث المصطفى كان شاغلاً ... له باجتهادٍ فيه عن كل شاغل
لقد شمل الإسلام فيه رزية ... وكان له بالنصح أفضل شامل
وفضل بين السالفين اطلاعه ... عليهم فذب النقص عن كل فاضل
وأصبح في نقد الرجال مميزاً ... بغير نظيرٍ في الورى ومساجل
وأكمل تاريخاً لجلق جامعاً ... لمن جلها من كل شهمٍ وكامل
فأزرى بتاريخ الخطيب وقد عدا ... بخطيته في الكتب أخطب قائل
ومنها:
طوى الموت منه العلم والزهد والنهي ... وكسب المعالي واجتناب الرذائل
وأفجع فيه العالمين بمقدمٍ ... صبورٍ على حرب الضلال حلاحل
وكان غيوراً ذب عن دين أحمدٍ ... وأدفع عنه من شجاعٍ مقاتل
وأحرم منه الدين أشرف صائنٍ ... له ولدفع الزيغ أعظم صائل
ولم أر نقص الأرض يوماً كنقصها ... بموت إمامٍ عالمٍ ذي فضائل
أبا القاسم الأيام قسمة حاكمٍ ... قضى بالفنا فينا قضية عادل
بماذا أعزي المسلمين ولا أرى ... عزاءً سوى من قد مضى من أفاضل
عليك سلام الله ما انتفع الورى ... بعلمك واستعلى على المتطاول
وقال:
إن كان يحلو لديك قتلي ... فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب
وقال:
لاموا عليك وما دروا ... أن الهوى سبب السعادة
إن كان وصل فالمنى ... أو كان هجر فالشهادة
وعكسه فقال:
يا قلب دع عنك الهوى قسراً ... ما أنت منه حامد أمرا
أضعت دنياك بهجرانه ... إن نلت وصلاً ضاعت الأخرى
وقال:
وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق
الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمدالأستاذ مؤيد الدين أبو إسماعيل الأصبهاني المعروف بالطغرائي نسبته إلى من يكتب الطغراء، وهي الطرة التي تكتب ف أعلى المناشير فوق البسملة بالقلم الجلي تتضمن اسم الملك وألقابه، وهي كلمة أعجمية محرفة من الطرة، كان آيةً في الكتابة والشعر، خبيراً بصناعة الكيمياء، له فيها تصانيف أضاع الناس بمزاولتها أموالاً لا تحصى، وخدم السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان، وكان منشيء السلطام محمدٍ مدة ملكه متولي ديوان الطغراء، وصاحب ديوان الإنشاء. تشرفت به الدولة السلجوقية، وتشوقت إليه المملكة الأيوبية، وتنقل في المناصب والمراتب، وتولى الاستيفاء وترشح للوزارة، ولم يكن في الدولتين السلجوقية والإمامية من يماثله في الإنشاء سوى أمين الملك أبي نصرٍ العتبي. وله في العربية والعلوم قدر راسخ، وله البلاغة والمعجزة في النظم والنثر.

قال الإمام محمد بن الهيثم الأصفهاني: كشف الأستاذ أبو إسماعيل بذكائه سر الكيمياء، وفك رموزها واستخرج كنوزها، وله فيها تصانيف منها: جامع الأسرار وكتاب تراكيب الأنوار، وكتاب حقائق الاستشهادات وكتاب ذات الفوائد، وكتاب الرد على ابن سينا في إبطال الكيمياء، ومصابيح الحكمة، وكتاب مفاتيح الرحمة. وله ديوان شعرٍ وغير ذلك. ولد سنة ثلاثٍ وخمسين وأربعمائةٍ، وقتل في الوقعة التي كانت بين السلطان مسعود بن محمودٍ وأخيه السلطان محمودٍ سنة خمس عشرة وخمسمائةٍ، وقد جاوز الستين، وروي أنه لما عزم السلطان محمود على قتل الطغرائي أمر به أن يشد إلى شجرة وأن يقف تجاهه جماعة بالسهام، وأن يقف إنسان خلف الشجرة يكتب ما يقول. وقال لأصحاب السهام لا ترموه حتى أشير إليكم، فوقفوا والسهام مفوقة لرميه فأنشد الطغرائي في تلك الحالة:
وقد أقول لمن يسدد سهمه ... نحوي وأطراف المنية شرع
والموت في لحظات أحور طرفه ... دوني وقلبي دونه يتقطع
بالله فتش عن فؤادي هل يرى ... فيه لغير هوى الأحبة موضع
أهون به لو لم يكن في طيه ... عهد الحبيب وسره المستودع
فرق له وأمر بإطلاقه، ثم إن الوزير أغراه بقتله بعد حينٍ فقتله. ومن شعر مؤيد الدين الطغرائي قصيدته التي تداولها الرواة وتناقلتها الألسن المعروفة بلامية العجم، وقد رأيت أن أوردها بتمامها إعجاباً بها قال:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناءٍ عن الأهل صفر الكف منفرد ... كالسيف عري متناه عن الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرا العسالة الذبل
وضج من لغبٍ نضوى وعج لما ... يلقى ركابي ولج الركب في عذلي
أريد بسطة كفٍ أستعين بها ... على قضاء حقوقٍ للعلا قبلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الجد بالقفل
وذي شطاطٍ كصدر الرمح معتقلٍ ... لمثله غير هيابٍ ولا وكل
حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل
طردت سرح الكرى عن ورد مقلته ... والليل أغرى سوام النوم بالمقل
والركب ميل على الأكوار من طربٍ ... صاحٍ وآخر من خمر الهوى ثمل
فقلت أدعوك للجلى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل
تنام عيني وعين النجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم تحل
فهل تعين على غيٍ هممت به ... والغي يزجر أحياناً عن الفشل
إني أريد طروق الحي من إضيمٍ ... وقد حماه رماة من بني ثعل
يحمون بالبيض والسمر اللدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل
فسر بنا في ذمام الليل معتسفاً ... فنفخة الطيب تهدينا إلى الحلل
فالحب حيث العدا والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل
نؤم ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبنٍ ومن بخل
تبيت نار الهوى منهن في كبدٍ ... حرى ونار القرى منهم على القلل
يقتلن أنضاء حبٍ لا حراك به ... ويحتوين كرام الخيل والإبل
يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلةٍ من غدير الخمر والعسل
لعل إلمامةً بالجزع ثانيةً ... يدب منها نسيم البرء في عللي
لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقةٍ من نبال الأعين النجل

ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الأستار والكلل
ولا أخل بغزلانٍ تغازلني ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
ودع غمار العلا للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل
يرضى الذليل بخفض العيش مسكنةً ... والعز تحت رسيم الأينق الذلل
فادرأ بها في نحور البيد جافلةً ... معارضاتٍ مثاني اللجم بالجدل
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في التنقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منىً ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً ... والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصه ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لم أرض بالعيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل؟
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذلي
وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
ما كنت أؤثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذ أمشي على مهل
هذا جزاء امرئٍ لأقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فاصبرلها غير محتال ولا ضجرٍ ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شراً وكن منها على وجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل
إن كان ينجع شيءٍ في ثباتهم ... على العهود فسبق السيف للعذل
يا وارداً سؤر عيشٍ كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصة الوشل؟
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ترجو البقاء بدارٍ لا ثبات لها ... فهل سمعت بظلٍ غير منتقل؟
ويا خبيراً على الأسرار مطلعاً ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وقال يسلي معين الملك فضل الله في نكبته ويحضه على الصبر:
تصدى وللحي المنيع ... غزال أحم المقلتين كحيل
تصدى وأمر البين قد جد جده ... وزمت جمال واستقل حمول
وفي الصدر من نار الصبابة جاحم ... وفي الخد من ماء الجفون مسيل
غزال له مرعى من القلب مخصب ... وظل صفيق الجانبين ظليل
تناصف فيه الحسن أما قوامه ... فشطب وأما خصره فنحيل
قريب من الرائين يطمع قربه ... وليس إليه للمحب سبيل
إذا سار لحظ المرء في وجناته ... تضاءل عند الطرف وهو كليل
ولما استقل الحي وانصدعت به ... نوىً عن وداع الظاعنين عجول

تراءى لنا وجه من الخد نير ... وضاءت علينا نضرة وقبول
فصبراً معين الملك إن عن حادث ... فعاقبة الصبر الجميل جميل
ولا تيأسن من صنع ربك إنه ... ضمين بأن الله سوف يديل
فإن الليالي إذ يزول نعيمها ... تبشر أن النائبات تزول
ألم تر أن الشمس بعد كسوفها ... لها منظر يغشي العيون صقيل
وأن الهلال النضو يغمر بعدما ... بدا وهو شخت الجانبين ضئيل
ولا تحسبن السيف يقصر كلما ... تعاوده بعد المضاء كلول
ولا تحسبن الدوح يقلع كلما ... يمر به نفح الصبا فيميل
فقد يعطف الدهر الأبي عنانه ... فيشفي عليل أو يبل غليل
ويرتاش مقصوص الجناحين بعدما ... تساقط ريش واستطار نسيل
ويستأنف الغصن السليب نضارةً ... فيورق ما لم يعتوره ذبول
وللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللحظ من بعد الذهاب قفول
وبعض الرزايا يوجب الشكر وقعها ... عليك وأحداث الزمان شكول
ولا غرو إن أخنت عليك فإنما ... يصادم بالخطب الجليل جليل
وأي قناةٍ لم ترنح كعوبها ... وأي حسامٍ لم يصبه فلول؟
أسأت إلى الأيام حتى وترتها ... فعندك أضغان بها وذحول
وصارفتها فيما أرادت صروفها ... ولولاك كانت تنتحي وتصول
وما أنت السيف يسكن غمده ... ليردى به يوم النزال قتيل
أمالك بالصديق يوسف أسوة ... فتحمل وطء الدهر وهو ثقيل؟
وما غض منك الحبس والذكر سائر ... طليق له في الخافقين زميل
فلا تذعنن للخطب آدك ثقله ... فمثلك للأمر العظيم حمول
ولا تجزعن للكبل مسك وقعه ... فإن خلاخيل الرجال كبول
وصنع الليالي ما عدتك سهامها ... وإن أجحفت بالعالمين جميل
وإن امرأً تعدو الحوادث عرضه ... ويأسى لما يأخذنه لبخيل
وقال:
أما العلوم فقد ظفرت ببغيتي ... منها فما أحتاج أن أتعلما
وعرفت أسرار الخليقة كلها ... علماً أنار لي البهيم المظلما
وورثت هرمس سرحكمته الذي ... ما زال ظناً ف الغيوب مرجما
وملكت مفتاح الكنوز بحكمةٍ ... كشفت لي السر الخفي المبهما
لولا التقية كنت أظهر معجزاً ... من حكمتي تشفي القلوب من العمى
أهوى التكرم والتظاهر بالذي ... علمته والعقل ينهي عنهما
وأريد لا ألقى غبياً موسراً ... في العالمين ولا لبيباً معدما
والناس إما جاهل أو ظالم ... فمتى أطيق تكرما وتكلما؟
وقال:
أيكية صدحت شجواً على فننٍ ... فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إنساً ولا فجعت ... فذكرتني أوطاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة ... أضحت تجدد وجد الموثق العاني
تشبهت بي في وجدٍ وفي طربٍ ... هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر ... من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربة البانة الغناء تحضنها ... خضراء تلتف أغصاناً بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ... ناءٍ عن الهل ممنيٍ بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب ... وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوان
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ... مني الليالي ولا تدرين ما شاني
كلي إلى السحب إسعادي فإن لها ... دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني
وقال:
أقول لنضوي وهي من شجني خلو ... حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو

تعالى أقاسمك الهموم لتعلمي ... بأنك مما تشتكي كبدي خلو
تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي ... وما يستوي الريف العراقي والبدو
هناك هبوب الريح مثلك لاعب ... ومثلي ماء المزن مورده صفو
ومحجوبةٍ لو هبت الريح أرقلت ... إليها المهارى بالعوالي ولم يلووا
صوت إليها وهي ممنوعة الحمى ... فحتام؟ أصبو نحو من لا له نحو
هوىً ليس يسلى القرب عنه ولا النوى ... وشجو قديم ليس يشبهه شجو
فأسر ولا فك ووجد ولا أسىً ... وسقم ولا برء وسكر ولا صحو
عناء معن وهو عندي راحة ... وسم زعاف طعمه في فمي حلو
ولولا الهوى ما شاقني لمع بارقٍ ... ولا هدني شجو ولا هزني شدو
وقال:
خبروها أني مرضت فقالت ... أضنىً طارفاً شكا أم تليدا؟
وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خفيةٍ وهي تشكو ... رقبة الحي والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت علي عطفاً وجيداً
ثم قالت لتربها وهي تبكي ... ويح هذا الشباب غضا جديدا
زورة ما شفت عليلاً ولكن ... زيدت جمرة الفؤاد وقودا
وتولت بحسرة البين تخفي ... زفراتٍ أبين إلا صعودا
وقال:
أنظر ترى الجنة في وجهه ... لا ريب في ذاك ولا شك
أما ترى فيه الرحيق الذي ... ختامه من خاله مسك
الحسين بن علي بن الحسنابن محمد بن يوسف بن بحر بن بهرام بن المرزبان بن ماهان بن باذام بن ساسان بن الحرون من ولد بهرام جور ملك فارس، أبو القاسم المعروف بالوزير المغربي الأديب اللغوي الكاتب الشاعر، ولد فجر يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة، سنة سبعين وثلاثمائةٍ. وحفظ القرآن وعدة كتبٍ في النحو واللغة وكثيراً من الشعر، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة، ولم يبلغ العمر أربعة عشر ربيعاً، وكان حسن الخط سريع البديهة في النظم والنثر. ولما قتل الحاكم العبيدي أباه وعمه وأخويه هرب من مصر، فلما بلغ الرملة استجار بصاحبها حسان بن الحسن بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي ومدحه فأجاره، وسكن جأشه وأزال خوفه ووحشته، فأقام عنده مدةً في خلالها نيته على الحاكم صاحب مصر، ثم رحل عنه متوجهاً إلى الحجاز مجتازاً بالبلقاء من أعمال دمشق، فلما وصل إلى مكة أطمع صاحبها بالحاكم ومملكة الديار المصرية، وجد في ذلك حتى أقلق الحاكم وخاف على ملكه، فاضطر إلى إرضاء ابن الجراح صاحب الرملة واستمالته ببذل الأموال، حيث بايع صاحب مكة أبا الفتوح الحسن بن جعفرٍ بالخلافة، فلما استمال الحاكم ابن الجراح هرب أبو الفتوح إلى مكة، وهرب الوزير أبو القاسم إلى العراق، وقصد فخر الملك أبا غالب بن خلفٍ الوزير فأقام عنده بواسط مكرماً بعد أن رفع عنه طلب القادر بالله له، حيث اتهم أنه ورد لإفساد الدولة العباسية، فلما توفي فخر الملك مقتولاً عاد الوزير المغربي إلى بغداد، ثم شخص إلى الموصل فاتفق وفاة أبي الحسن كاتب قرواش بن هانئ بني عقيلٍ، فتولى الكتابة مكانه ووزر لقرواشٍ، ثم وزر بعد حينٍ لمشرف الدولة بن بويه مكان مؤيد المكل أبي عليٍ، ثم فارق مشرف الدولة وعاد إلى خدمة مخدومه الأول قرواشٍ، ثم تجدد للقادر سوء رأيٍ فيه، ففارق قرواشاً متوجهاً إلى ديار بكرٍ، فوزر فيها لسلطانها أحمد بن مروان، وأقام عنده إلى أن توفي في ثالث عشر من شهر رمضان سنة ثماني عشرة وأربعامائةٍ، وكانت وفاته بميافارقين، وحمل بوصيةٍ منه إلى الكوفة ودفن بها في تربةٍ مجاورةٍ لمشهد عليٍ - رضي الله عنه - واوصى أن يكتب على قبره:
كنت في سفرة الغواية والجه ... ل مقيماً فخان مني قدوم
تبت من كل مأتم فعسى يم ... حى بهذا الحديث ذاك القديم
بعد خمسٍ وأربعين لقد ما ... طلت إلا أن الغريم كريم

وللوزير أبي القاسم رواية عن الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة، حكى عنه بسنده إلى المدائني أنه قال: كان رجل بالمدينة من بني سليمٍ يقال له جعدة، كان يتحدث إليه النساء بظهر المدينة فيأخذ المرأة فيعقلها إلى الحيطان ويثبت العقال، فإذا أرادت أن تثب سقطت وتكشفت، فبلغ ذلك قوماً في بعض المغازي فكتب رجل منهم إلى عمر - رضي الله عنه - بهذه الأبيات:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فداً لك من أخي ثقةٍ إزاري
قلائصنا هداك الله إناشغلنا عنكم زمن الحصار
لئن قلص تركن معقلاتٍ ... قفا سلعٍ بمختلف البحار
يعقلهن جعدة من سليمٍ ... وبئس معقل الذود الطوار
يعقلهن لأبيض شيظمي ... معر يبتغي بسط العرار
فلما قرأ عمر الأبيات قال: علي بجعدة من سليمٍ فأتوه به، فكان سعيد يقول: إني لفي الأغيلمة إذا جروا جعدة إلى عمر، فلما رآه قال: أشهد أنك شيظمي كما وصفت، فضربه مائةً ونفاه إلى عمان. ومن شعر الوزير المغربي:
خف الله واستدفع سطاه وسخطه ... وسائله فيما تسأل الله تعطه
فما تقبض الأيلم في نيل حاجةٍ ... بنان فتىً أبدى إلى الله بسطه
زكن بالذي قد خط باللوح راضياً ... فلا مهرب ممما قضاه وخطه
وإن مع الرزق اشتراط التماسه ... وقد يتعدى إن تعديت شرطه
ولو شاء ألقى في فم الطير قوته ... ولكنه أوحى إلى الطير لقطه
إذ ما احتملت العبء فانظر قبيل أن ... تنوء به ألا تروم محطه
وأفضل أخلاق الفتى العلم والحجا ... إذا ما صروف الدهر أخلقن مرطه
فما رفع الدهر امرأً عن محله ... بغير التقى والعلم إلا وحطه
وقال:
حلقوا شعره ليكسوه قبحاً ... غيرةً منهم عليه وشحا
كان صبحاً عليه ليل بهيم ... فنحرا ليله وأبقوه صبحا
وقال:
لي كلما ابتسم النهار تعلة ... بمحدثٍ ما شاء قلبي شأنه
فإذا الدجى وافى وأقبل جنحه ... فهناك يدري الهم أين مكانه؟
وقال:
إذا ما الأمور اضطربن اعتلى ... سفيه يضام العلا باعتلائه
كذا الماء إن حركته يد ... طفا عكر راسب في إنائه
وقال:
أرى الناس في الدنيا كراعٍ تنكرت ... مراعيه حتى ليس فيهن مرتع
فماء بلا مرعىً ومرعً بغير ماء ... وحيث ترى ماءً ومرعىً فمسبع
وقال:
سأعرض كل منزلةٍ ... تعرض دونها العطب
فإن أسلم رجعت وقد ... ظفرت وأنجح الطلب
وإن أعطب فلا عجب ... لكل منيةٍ سبب
وقال:
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلةً ... أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذاً منحتكما مني مهذبةً ... حذواً على حذو ما واليت من حسن
وقال:
أقول لها والعيس تحدج للسرى ... عدي لفقدي ما استطعت من الصبر
سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفعٍ وتحسب من عمري
وقال:
الدهر سهل وصعب ... والعيش مر وعذب
فاكسب بمالك حمداً ... فليس كالحمد كسب
وما يدوم سرور ... فاغنم وقلبك رطب
وقال:
من بعد ملكي ومتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة ما ملكت تخير
ردوا الفؤاد كما عهدتم للحشا ... ولطرفي الساهي الكرى ثم اهجروا
وقال:
لا تشاور من ليس يصفيك وداً ... إنه غير سالكٍ بك قصداً
واستشر في الأمور كل لبيبٍ ... ليس يأتوك في النصيحة جهدا
وقال:
تأمل من أهواه صفرة خاتمي ... فقال بلطفٍ لم تجنبت أحمره؟
فقلت: لعمري كان أحمر لونه ... ولكن سقامي حل فيه فغيره
وقال:

إني أبثك من حديث ... ي و الحديث له شجون
فارقت موضع مرقدي ... ليلاً ففارقني السكون
قل لي فأول ليلةٍ ... في القبر كيف ترى أكون؟
الحسين بن عبد الله بن أحمدابن عبد الجبار الأمير أبو الفتح المعروف بابن أبي حصينة المعري، الأديب الشاعر، توفي بسروج في منتصف شعبان سنة سبعٍ وخمسين وأربعمائةٍ وكان سبب تقدمه ونواله الإمارة: أن الأمير تاج الدولة بن مرداسٍ إلى حضرة المستنصر العبيدي رسولاً سنة سبعٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، فمدح المستنصر بقصيدةٍ قال فيها:
ظهر الهدى وتجمل الإسلام ... وابن الرسول خليفة وإمام
مستنصر بالله ليس يفوته ... طلب ولا يعتاص عنه مرام
حاط العباد وبات يسهر عينه ... وعيون سكان البلاد نيام
قصر الإمام أبي تميمٍ كعبة ... ويمينه ركن لها ومقام
لولا بنو الزهراء ما عرف التقى ... فينا ولا تبع الهدى الأقوام
يا آل أحمد ثبتت أقدامكم ... وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سواءً، أنتم ... للذين أرواح وهم أجسام
يا آل طه حبكم وولاؤكم ... فرض وإن عذل اللحاة ولاموا
وهي طويلة. ثم مدحه سنة خمسين وأربعمائةٍ، فوعده بالإمارة، وأنجز له وعده سنة إحدى وخمسين، فتسلم سجل الإمارة من بين يدي الخليفة في ربيعٍ الآخر من السنة، فمدحه بقصيدةٍ منها:
أما الإمام فقد وفى بمقالةٍ ... صلى الإله على الإمام وآله
لذنا بجانبه فعم بفضله ... وببذله وبصفوه وجماله
لا خلق أكرم من معدٍ شيمةً ... محمودة في قوله وفعاله
فاقصد أمير المؤمنين فما ترى ... بؤساً وأنت مظلل بظلاله
زاد الإمام على البحور بفضله ... وعلى البدور بحسنه وجماله
وعلا سرير الملك من آل الهدى ... من لاتمر الفاحشات بباله
النصر والتأييد في أعلامه ... ومكارم الأخلاقفي سرباله
مستنصر بالله ضاق زمانه ... عن شبهه ونظيره ومثاله
وكان الذي سعى في تأميره وكتب له سجل الإمارة أبو عليٍ صدقة بن إسماعيل بن فهدٍ الكاتب، فمدحه الأمير أبو الفتح بقصيدةٍ منها:
قد كان صبري عيل في طلب العلا ... حتى استندت إلى ابن إسماعيلا
فظفرت بالخطر الجليل ولم يزل ... يحوي الجليل من استعان جليلا
لولا الوزير أبو عليٍ لم أجد ... أبداً إلى الشرف العلي سبيلا
إن كان ريب الدهر قبح ما مضى ... عندي فقد صار القبيح جميلا
وأجل ما فعل الرجال صلاتهم ... للراغبين العز والتبجيلا
اليوم أدركت الذي أنا طالب ... والأمس كان طلابه تعليلا
وقال يمدح أسد الدولة عطية بن صالح بن مرداسٍ:
سرى الطيف هندٍ والمطي بنا تسري ... فأخفى دجى ليلٍ وأبدى سنا فجر
خليلي فكاني من الهم واركبا ... فجاج البوادي الغبر في النوب الغمر
إلى ملكٍ من عامرٍ لو تمثلت ... مناقبه أغنت عن الأنجم الزهر
إذا نحن أثنينا عليه تلفتت ... إلينا المطايا مصغياتٍ إلى الشكر
وفوق سرير الملك من آل صالحٍ ... فتىً ولدته أمه ليلة القدر
فتىً وجهه أبهى من البدر منظراً ... وأخلاقه أشهى من الماء والخمر
أبا صالحٍ أشكو إليك نوائباً ... عدتني كما يشكو النبات إلى القطر
لتنظر نحوي نظرةً إن نظرتها ... إلى الصخر فجرت العيون من الصخر
وفي الدار خلفي صبية قد تركتهم ... يطلون إطلال الفراخ من الوكر
جنيت على روحي بروحي جنايةً ... فأثقلت ظهري بالذي خف من ظهري

فهب هبةً يبقى عليك ثناؤها ... بقاء النجوم الطالعات التي تسري
قال المير أسامة بن منقذٍ: فلما فرغ من إنشاده أحضر الأمير أسد الدولة القاضي والشهود، وأشهد على نفسه بتمليك الأمير أبي الفتح بن أبي حصينة ضيعةً من ضياعه لها ارتفاق كبير، وأجازه فأحسن جائزته فأثرى وتمول، ولما ملك محمود بن نصر بن صالح بن مرداسٍ حلب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائةٍ، مدحه بقصيدة منها:
كفي ملامك فالتبريح يكفيني ... أو جربي بعض ما ألقى ولوميني
برمل يبرين أصبتم فهل علمت ... رمال يبرين أن الشوق يبريني
أهوى الحسان وخوف الله يردعني ... عن الهوى والعيون النجل تغويني
ما بال أسماء تلويني مواعدها ... أكل ذات جمالٍ ذات تلوين؟
كان الشباب إلى هندٍ يقربني ... وشاب رأسي فصار اليوم يقصيني
يا هند إن سواد الرأس يصلح للد ... دنيا وإن بياض الرأس للدين
لست امرءاً غيبة الأحرار من شيمي ... ولا النميمة من طبعي ولا ديني
دعني وحيداً أعاني العيش منفرداً ... فبعض معرفتي بالناس تكفيني
ما ضرني ودفاع الله يعصمني ... من بات يهدمني فالله يبنيني
وما أبالي وصرف الدهر يسخطني ... وسيب نعماك يا ابن الصيد يرضيني
أبا سلامة عش واسلم حليف علاً ... وسؤددٍ بشعاع الشمس مقرون
أشنا عداكم وأهوى أن أدين لكم ... فللعدى دينهم فيكم ولي ديني
فلما أتم إنشادها قال له تمنَّ، قال: أتمنى أن أكون أميراً، فجعله أميراً يجلس مع الأمير، ويخاطب بالأمير وقربه، وقد تقدم أن الإمارة وجهت إليه سنة إحدى وخمسين من ديوان المستنصر بمصر، ولا منافاة بين الروايتين، إذ يمون توجيه الإمارة إليه من الأمير محمود بن نصرٍ تالياً لتوجيهها إليه من جانب المستنصر ومؤكداً مؤيداً له، ووهبه صاحب حلب محمود أيضاً مكاناً بحلب تجاه حمام الواساني فجعله داراً وزخرفها، فلما تم بناؤها نقش على دائرة الذرابزين فيها:
دار بنيناها وعشنا بها ... في دعةٍ من آل مرداس
قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من باس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليحسن الناس إلى الناس
ولما تكامل البناء عمل دعوةً حضرها الأمير محمود بن نصرٍ، فلما رأى حسن الدار وقرأ الأبيات المتقدمة قال: يا أبا الفتح كم صرفت على بناء الدار؟ قال: يا مولاي هذا الرجل تولى عمارتها. ولا أدري كم صرف عليها؟ فسأل المعمار فقال: غرم عليها ألفا دينارٍ مصريةٍ، فأمر بإحضار ألفي دينارٍ وثوبٍ أطلسٍ وعمامةٍ مذهبةٍ وحصانٍ بطوقٍ مذهبٍ وسرفسارٍ ذهبٍ فسلمها إلى ابن أبي حصينة وقال له:
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليحسن الناس إلى الناس
وحضر بعد أيامٍ رجل من أهل المعرة يقال له الزقوم من رعاع الناس وأسافلهم، فطلب رزق جنديٍ فأعطى ذلك وجعل من أجناد المعرة، فقال أحمد بن محمدٍ المعروف بابن الزويدة المعري في ذلك:
أهل المعرة تحت أقبح خطةٍ ... وبهم أناخ الخطب وهو جسيم
لم يكفهم تأمير ابن حصينةٍ ... حتى تجند بعده الزقوم
يا قوم قد سئمت لذاك نفوسنا ... يا قوم أين الترك أين الروم؟
فشاعت الأبيات وسمعها الأمير أبو الفتح، فذهب إلى بيت ابن الزويدة فلما دخل عليه قال له ابن الزويدة: الآن والله كان عندي الزقوم وقال لي: والله ما بي من الهجو ما بي من أنك قرنتني بابن أبي حصينة، فقال له ابن حصينة: قبحك الله وهذا وهذا هجو ثانٍ وقال يمدح قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب نصيبين:
أبت عبراته إلا انهمالاً ... عشية أزمع الحي ارتحالا
أجدك كلما هموا بنأيٍ ... ترقرق ماء عينك ثم سالا
تقاضينا مواعد أم عمروٍ ... فضنت أن تنيل وأن تنالا
وسار خيالها الساري إلينا ... فلو علمت لعاقبت الخيالا
ومنها:
إذا بلغت ركائبنا قريشاً ... فقد بلغت بنا الماء الزلالا

فتىً لو مد نحو الجو باعاً ... وهم بأن ينال الشهب نالا
إذا انتسب ابن بدرانٍ وجدنا ... مناسبه الملية لا تعالى
تتيه بها إذا ذكرت معد ... وتكسب كل قيسيٍ جمالا
أيا علن الهدى نجوى محبٍ ... يحبكم اعتقاداُ لا انتحالا
مننت فلم تجشمني عناءً ... وجدت فلم تكلفني سؤالا
إذا عدم الزمان مسيبياً ... أتاح الله للدنيا وبالا
وهي طويلة اكتفينا منها بما ذكرناه.
وقال يرثي زعيم الدولة أبا كاملٍ بركة بن المقلد بن المسيب. وتوفي بتكريت سنة ثلاثٍ وأربعين وأربعمائةٍ:
من عظيم البلاء موت العظيم ... ليتني مت قبل موت الزعيم
يا جفوني سحي دماً أو فحمي ... صحن خدي بعبرةٍ كالحميم
بعد خرقٍ من الملوك كريمٍ ... ما زمان أودى به بكريم
جعفري النصاب من صفوة الصف ... وة في الفخر والصميم الصميم
يا أبا كاملٍ برغمي أن يشقي ... ك سكنى التراب بعد النعيم
أو تبيت القصور خاليةً من ... ك ومن وجهك الوضيء الوسيم
وانقراض الكرام من شيم الده ... ر ومن عادة الزمان اللئيم
قد بكت حسرةً عليه المذاكي ... وشكت فقده بنات الرسيم
وهي قصيدة طويلة، وقال يرثي أبا العلاء المعري:
العلم بعد أبي العلاء مضيع ... والأرض خالية الجوانب بلقع
أودى وقد ملأ البلاد غرائباً ... تسري كما تسري النجوم الطلع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى ... أن الثرى فيه الكواكب تودع
جبل ظننت وقد تزعزع ركنه ... أن الجبال الراسيات تزعز
وعجبت أن تسع المعرة قبره ... ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع
لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثرت فيه فكيف الأدمع؟
تتصرم الدنيا ويأتي بعده ... أمم وأنت بمثله لا تسمع
لا تجمع المال العتيد وجد به ... من قبل تركك كل شيءٍ تجمع
وإن استطعت فسر بسيرة أحمدٍ ... تأمن خديعة من يضر ويخدع
رفض الحياة ومات قبل مماته ... متطوعاً بأبز ما يتطوع
عين تسهد للعفافوللتقى ... أبداً وقلب للمهيمن يخشع
شيم تجمله فهن لمجده ... تاج ولكن بالثناء يرصع
جادت ثراك أبا العلاء غمامة ... كندى يديك ومزنة لا تقلع
ما ضيع الباكي عليك دموعه ... إن البكاء على سواك مضيع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى ... للعلم باباً بعد بابك يقرع
مات النهى وتعطلت أسبابه ... وقضى العلا والعلم بعدك أجمع
وقال يرثي أبا يعلى حمزة بن الحسين بن العباس الحسيني الدمشقي، وكان يوم وفاته بدمشق:
هوى الشرف العالي بموت أبي يعلى ... ولا غرو أن جلت رزية من جلى
سيصلى بنار الحزن من كان آمناً ... به أنه في الحشر بالنار لا يصلى
تحلت به الدنيا فحل به الردى ... فعطلها من ذلك الحلي من حلى
فقدناه فقد الغيث أقلع وبله ... عن الأرض لما أنفدت ذلك الوبلا
لقد فل منه الدهر حد مهندٍ ... تركنا به كل حدٍ له فلا
فلست أبالي بعده أي عابرٍ ... من الناس أملى الله مدته أم لا
تقل دموعي والهموم كثيرة ... كذاك دخان النار إن كثرت قلا
وآنف أن أبكي عليك بعبرةٍ ... إذا لم يكن غرباً من الدمع أو سجلا
وقال يرثي معتمد الدولة قرواش بن المقلد بن المسيب العقيلي صاحب الموصل، توفى مسجوناً بقلعة الجراحية. وقيل: قتله ابن أخيه قريش في مستهل رجبٍ سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى:

أمثل قرواشٍ يذوق الردى ... يا صاح ما أوقح وجه الحمام
حاشا لذاك الوجه أن يعرف ال ... بؤس وأن يحثى عليه الرغام
وللجبين الصلت أن يسلب ال ... بهجة أو يعدم حسن الوسام
يا أسف الناس على ماجدٍ ... مات فقال الناس مات الكرام
غير بعيدٍ يا بعيد الندى ... ولا ذميم يا وفي الذمام
زلت فلا القصر بهي ولا ... بابك معمور كثير الزحام
ولا الخيام البيض منصوبة ... بوركت يا ناصب تلك الخيام
قبحاً لدنيا حطمت أهلها ... وآخذتهم باكتساب الحطام
تأخذ ما تعطي فما بالنا ... نكثر فيما لا يدوم الخصام
يا قبر قرواشٍ سقيت اليا ... ولا تعدتك غوادي الغمام
قضى ولم أقض على إثره ... إني لمن ترك الوفا ذو احتشام
أنظم شعراً والجوى شاغلي ... يا عجباً كيق استقام الكلام
ولما وصل أرمانوس ملك الروم إلى حلب سنة إحدى وعشرين وأربعمائةٍ، ومعه ملك الروس وملك البلغار والألمان و البلجيكوالخزر والأرمن في ستمائة ألفس من الفرنج، قاتلهم شبل الدولة نصربن صالحٍ صاحب حلب. فهزمهم وتبعهم إلى عزازٍ وأسر جماعةً من أولاد ملوكهم، وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمةً، فقال ابن أبي حصينة في ذلك وأنشدها شبل الدولة بظاهر قنسرين:
ديار الحي مقفرة يباب ... كأن رسوم دمنتها كتاب
نأت عنها الرباب وبات يهمي ... عليها بعد ساكنها الرباب
تعاتبني أمامة في التصابي ... وكيف به وقد فات الشباب؟
نضا مني الصبا ونضوت منه ... كما ينضو من الكف الخضاب
زمنها:
إلى نصرٍ وأي فتىً كنصرٍ ... إذا حلت بمغناه الركاب
أمنتهك الفرنج غداة ظلت ... حطاماً فيهم السمر الصلاب؟
جنودك لا يحيط بهن وصف ... وجودك لا يحصله حساب
وذكرك كله ذكر جميل ... وفعلك كله فعل عجاب
وأرمانوس كان أشد بأساً ... وحل به على يدك العذاب
أتاك يجر بحراً من حديدٍ ... له في كل ناحيةٍ عتاب
إذا سارت كتائبه بأرضٍ ... تزلزلت الأباطح والهضاب
فعاد وقد سلبت الملك عنه ... كما سلبت عن الميت الثياب
فما أدناه من خيرٍ مجيء ... ولا أقصاه عن شرٍ ذهاب
فلا تسمع لطنطنة الأعادي ... فإنهم إذا طنوا ذباب
ولا ترفع لمن عاداك رأساً ... فإن الليث تنبحه الكلاب
وقال:
أشد من فاقة الزمان ... مقام حرٍ على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحرٍ ... فمن مكانٍ إلى مكان
وقال:
بكت على غداة البين حين رأت ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت
فدمعي ذوب ياقوتٍ على ذهبٍ ... ودمعها ذوب درٍ فوق ياقوت
وقال:
لا تخدعنك بعد طول تجاربٍ ... دنيا تغر بوصلها وستقطع
أحلام نومٍ أو كظلٍ زائلٍ ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وقال يمدح ثابت بن شمال بن صالح بن مرداسٍ:
لو أن داراً أخبرت عن ناسها ... لسألترامة عن ظباء كناسها
بل كيف تخبر دمنة ما عندها ... علم بوحشتها ولا إيناسها؟
ممحوة العرصات يشملها البلى ... عن ساحبات المرط فوق دهاسها
ومنها:
وزمان لهوٍ بالمعرة مونقٍ ... بشياتها وبجانبي هرماسها
أيام قلت لذي المودة اسقني ... من خندريس حناكها أو حاسها
حمراء تغنينا بساطع لونها ... في الليلة الظلماء عن نبراسها
وكأنما حبب المزاج إذا طفا ... در ترصع في جوانب طاسها
رقت فما أدرى زجاجها ... في جسمها أم جسمها في كأسها؟؟

وكأنما زرجونة جاءت بها ... سقيت مذاب التبر عند غراسها
فأتت مشعشعةً كجذوة قابسٍ ... راعت أكف القوم عند مساسها
لله أيام الصبا ونعيمها ... وزمان جدتها ولين مراسها
مالي تعيب البيض بيض مفارقي ... وسبيلها تصبو إلى أجناسها
نور الصباح إذا الدجنة أظلمت ... أبهى وأحسن من دجى أغلاسها
إن الهوى دنس النفوس فليتني ... طهرت هذي النفس من أدناسها
ومطامع الدنيا ولا أرى ... شيئاً أعز لمهجةٍ من ياسها
من عف لم يذمم ومن تبع الخنا ... لم تخله التبعات من أوكاسها
زين خصالك بالسماح ولا ترد ... دنيا تراك وأنت بعض خساسها
ومتى رأيت يد امرئٍ ممدودةً ... تبغي مؤاساة الكريم فواسها
خير الأكف السابقات بجودها ... كف تجود عليك في إفلاسها
ومنها في المدح:
أما نزار فكلها لكريمة ... لكن أكرمها بنو مرداسها
وقال:
إذا المرء لم يرض ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوماً ويبكي سنه
وقال:
الدهر خداعة خلوب ... وصفوه بالقذى مشوب
فلا تغرنك الليالي ... فبرقها خلب كذوب
وأكثر الناس فاعتزلهم ... قوالب مالها قلوب
الحسين بن عبد الرحيم بن الوليدابن عثمان بن جعفرٍ، أبو عبد الله الكلابي المعروف بابن الزلازل من بني جعفر بن كلابٍ اللغوي الأديب الكاتب الشاعر. أخذ عن أبي القاسم الزجاجي وأبي بكرٍ الخرائطي وغيرهما. توفي سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمائةٍ.
وله مصنفات منها: كتاب أنواع الأسجاع، ابتدأ بتأليفه في دمشق سنة ثلاثٍ وأربعين وثلاثمائةٍ، وروى فيه عن شيوخه وغيرهم، وهو كتاب ممتع أجاد وضعه وتأليفه.
ومن شعر ابن أبي الزلازل:
لقد عرفتك الحادثات نفوسها ... وقد أدبت إن كان ينفعك الأدب
ولو طلب الإنسان من صرف دهره ... دوام الذي يخشى لأعياه ما طلب
وقال:
فتىً لرغيفه قرط وشنف ... وإكليلان من خزرٍ وشزر
إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
وقال مهنئاً بعض الأمراء بالعيد:
عيد يمنٍ مؤكد بأمان ... من تصاريف طارق الحدثان
جعل الله عيد عامك هذا ... خير عيدٍ وذاك خير التهاني
ثم لا زلت من زمانك في صف ... وٍ ومن شرب صرفه في أمان
آخذاً ذمةً من الدهر لا تخ ... فر معقودةً بأوفى ضمان
نافذ الأمر عالي القدر محمو ... د المساعي مؤيد السلطان
وقال:
ثمانية قام الوجود بها فهل ... ترى من محيصٍ للورى عن ثمانيه؟
سرور وحزن واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثم سقم وعافيه
بهن انقضت أعمار أولاد آدمٍ ... فهل من رأى أحوالهم متساويه؟
الحسين بن عبد السلامأبو عبد الله المصري المعروف بالجمل، الشاعر المشهور، كان شاعراً مفلقاً مدح الخلفاء والأمراء. توفي في ربيع الآخر سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين. قدم دمشق وافداً على أحمد بن المدبر، وكان أحمد يقصده الشعراء، فمن مدحه بشعرٍ جيدٍ أجزل صلته، ومن مدحه بشعرٍ رديءٍ وجه به مع خادمٍ له إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلي مائة ركعةٍ ثم يصرفه. فدخل عليه الجمل وأنشده:
أردنا في أبي حسنٍ مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقالوا أكرم الثقلين طراً ... ومن جدواه دجلة والفرات
وقالوا يقبل الشعراء لكن ... أجل صلات مادحه الصلاة
فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي؟ إنما الشأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصلاة هي الصلات

وروى الجمل عن بشر بن بكرٍ عن الأوزاعي أنه قال: كان قوم كسالى ينامون تحت شجرة كمثرى يقولون: إن سقط في أفواهنا شيء أكلنا وإلا فلا، فسقطت كمثراة إلى جانب أحدهم، فقال له الذي يليه: ضعها في فمي. قال: لو استطعت أن أضعها في فمك وضعتها في فمي. قال ابن يونس في تاريخ مصر: كان الجمل شرهاً في الطعام دنئ النفس وسخ الثوب هجاءً، ولد قبل سنة سبعين ومائةٍ، وعلت سنه، ومدح المأمون بمصر لما ورد إليها لجوب البيمارستان، ومدح الأمراء مثل عبد الله بن طاهرٍ وغيرهم، وتوفي في ربيعٍ الآخر سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، ومن شعر الجمل أيضاً:
إذا أظمأتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعاً وريا
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
أبيا لنائل ذي ثروةٍ ... تراه بما في يديه أبيا
فإن إراقة ماء الحيا ... ة دون إراقة ماء المحيا
الحسين بن عقيل بن محمدابن عبد المنعمبن هاشمٍ البزار الواسطي القرشي. كان أديباً شاعراً وله عناية بالحديث، روى عنه الخطيب البغدادي، والحافظ أبو القاسم بن عساكر. توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائةٍ، ومن شعره:
لقد كمل الرحمن شخصك في الورى ... فلا شاب شيئاً من كمالك بالنقص
ومن جمع الآفاق في العين قادر ... على جمع أشتات الفضائل في شخص
وقال:
ولما حدا البين المشت بشملنا ... ولم يبق إلا أن تثار الأيانق
ولم نستطع عند الوداع تصبراً ... وقد غالنا دمع عن الوجد ناطق
وقفنا لوديعٍ فكادت نفوسنا ... لأجسادنا قبل الوداع تفارق
فباكٍ لما يلقاه من فقد إلفه ... وشاكٍ له قلب به الوجد عالق
وقال:
أقلي النهار إذا أضاء صباحه ... وأظل أنتنظر الظلام الدامسا
فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكاً ... والليل يرثي لي فيدبر عابسا
وقال:
على لام العذار رأيت خالاً ... كنقطة عنبرٍ بالمسك أفرط
فقلت لصاحبي هذا عجيب ... متى قالوا بأن اللام تنقط؟
الحسين بن علي بن أحمدابن عبد الواحد بن بكر بن شبيبٍ النصيبي النديم، نديم المستنجد بالله، ولد سنة خمسمائةٍ، وتوفي سنة ثمانين وخمسمائةٍ، كان أديباً كاتباً شاعراً له اليد الطولى في حل الألغاز العويصة، تفاوض أبو منصورٍ محمد بن سليمان بن قتلمش وأبو غالب بن الحصين في سرعة خاطر ابن شبيبٍ وتقدمه في حل الألغاز، فعمل ابن قتلمش أبياتاً على صورة الألغاز، ولم يلغز فيها بشيءٍ وأسلاها إلى ابن شبيبٍ يمتحنانه بها وهي:
وما شيءٍ له في الرأس رجل ... وموضع وجهه منه قفاه؟
إذا أغمضت عينك أبصرته ... وإن فتحت عينك لا تراه
ونظم أيضاً:
وجارٍ وهو تيار ... ضعيف العقل خوار
بلا لحمٍ ولا ريشٍ ... وهو في الرمز طيار
بطبعٍ باردٍ جداً ... ولكن كله نار
فكتب ابن شبيبٍ على الأول: هو طيف الخيال، وكتب على الثاني: هو الزئبق. فجاء أبو غالبٍ وأبو منصورٍ إليه وقالا: هب اللغز الأول طيف الخيال، والبيت الثاني يساعدك على ما قلت، فكيف تعمل بالبيت الأول؟ فقال: لأن المنام يفسر بالعكس، لأن من بكى يفسر بكاؤه بالضحك والسرور، ومن مات يفسر موته بطول العمر.
وأما اللغز الثاني: فغن أصحاب صناعة الكيمياء يرمزون للزئبق بالطيار والفرار والآبق وما أشبه ذلك، لأنه يناسب صفته، وأما برده فظاهر، ولإفراط برده ثقل جسمه وجرمه، وكله نار لسرعة حركته وتشكله في افتراقه والتئامه، وعلى كل حالٍ ففي ذلك تسامح يجوز في مثل هذه الصور الباطلة إذا طبقت على الحقيقة.
ودخل ابن شبيبٍ يوماً على الخليفة المستنجد بالله فقال الخليفة: أإبن شبيبٍ؟ فقال: عبدك يا أمير المؤمنين، فأعجبه هذا التصحيف منه. ومن شعر ابن شبيبٍ في المستنجد:
أنت الإمام الذي يحكي بسيرته ... من ناب بعد رسول الله أو خلفا
أصبحت لب بني العباس كلهم ... إن عددت بحروف الجمل الخلفا
فإن جمل حروف لب اثنان وثلاثون، والمستنجد هو الثاني والثلاثون من الخلفاء. ومن شعره أيضاً:

ومحترسٍ من نفسه خوف زلةٍ ... تكون عليه حجةً هي ما هيا
يصون عن الفحشاء نفساً كريمةً ... أبت شرفاً إلا العلا والمعاليا
صبور على ريب الزمان وصرفه ... كتوم لأسرار الفؤاد مداريا
له همة تعلو على كل همةٍ ... كما قد علا البدر النجوم الدراريا
وقال:
أغصان وردٍ زينت درر الندى ... أجيادها بمخانقٍ وعقود
فتوهجت كمسارجٍ وتأرجت ... كنوافجٍ وتدبجت كبرود
وتبلجت ككواكبٍ وتبرجت ... ككواعبٍ وتضرجت كخدود
وقال:
تبوح بسرك ضيقاً به ... وتبغي لسرك من يكتم
وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لاتخاف هو الأحزم
وإن ذاع سرك من صاحبٍ ... فأنت وإن لمته ألوم
الحسين بن علي بن محمدابن ممويه أبو عبد الله المعروف بابن قمٍ الزبيدي اليمني، ولد سنة ثلاثين وخمسمائةٍ، وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائةٍ، كان أديباً كاتباً شاعراً من أفاضل اليمن المبرزين في النظم والنثر والكتابة، ومن شعره:
أأحبابنا من بالقطيعة أغراكم ... وعن مستهام في المحبة ألهاكم
صددتم وأنتم تعلمون بأننا ... لغير التجني والصدود وددناكم
كشفت لكم سري على ثقةٍ بكم ... فصرت بذاك السر من بعض أسراكم
جعلناكم للنائبات ذخيرة ... فحين طلبناكم لها ما وجدناكم
قطعتم وصلناكم نسيتم ذكرناكم ... عققتم بررناكم أضعتم حفظناكم
وفي النفس سر لا تبوح بذكره ... ولو تلفت وجداً إلى يوم لقياكم
فإن تجمع الأيام بيني وبينكم ... غفرت خطاياكم لحرمة رؤياكم
وقال:
خير ما ورث الرجال بنيهم ... أدب صالح وحسن ثناه
ذاك خير من الدنانير والأو ... راق في يوم شدةٍ ورخاء
تلك تفنى والدين والأدب الص ... صالح لا يفنيان حتى اللقاء
ولابن قمٍ رسالة كتب بها إلى أبي حمير سبأ بن أبي السعود أحمد بن المظفر بن عليٍ الصليحي اليماني بعد انفصاله عن اليمن، ورواها الحافظ أبو طاهرٍ السلفي سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ وهي:

كتب عبد حضرة السلطان الأجل مولاي ربيع المجدبين، وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقيب ذوي الرشد والمناقب، - أطال الله بقاءه، وأدام علوه و ارتقاءه، ما قدمت العارية للمستعير، ولزمت الياء للتصغير، - وجعل رتبته في الأولية عالية المقام كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر في البنية فإنه مقدم في النية، ولا زالت حضرته من الحادثات حمىً، وللوفود مزدحماً وملتزماً، حتى يكون في العلا بمنزلة حرف الاستعلا وهو من حروف اللين في حصونٍ، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوه كالألف حالها يختلف، تسقط في صلة الكلام ولاسيما مع اللام، فإنه - أدام الله علوه - أحسن من إلى ابتداءً، ونشر علي من فضله رداءً، أراد أن يخفى وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل الكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل، يهدي إليه سلاماً ما الروض ضاحكه النوض، غرس وحرس وسقي ووقي وغيب وصيب، فأخذ من كل نوء بنصيبٍ، زهاه الزهر، وسقاه النهر، جاور الأضا، فحسن وأضا، رتع فيه الشحرور ومرح العصفور، فنظر إلى أقاحيه تفتر في نواحيه وإلى البهار، يضاحك شمس النهار، فجعل فجعل يلثم من ورده خدوداً، ويضم من أغصانه قدوداً، ويقتبس النار من الجلنار ويلتمس العقيق من الشقيق، فتثنى ثملاً، وغنى خفيفاً ورملاً، بأطيب من نفحته المسكية، وأعطر من رائحته الذكية، وإني وإن أهديته في كل أوانٍ، من أداء ما يجب غير وانٍ، أعد نفسي السكيت في السبق لتقصيري لما علي من الحق، أثرت فعثرت، وجهدت فما سعدت، فأنا بحمد الله بخنوعٍ وقنوعٍ، وجنابٍ عن غين العين ممنوعٍ، فارقت المثول ولا أزال، ولزمت الخمول والاعتزال، سعيي سعي الجاهد، وعيشي عيش الزاهد، ببلدٍ الأديب فيه غريب، والأريب مريب، إن تكلم استثقل، وإن سكت استقلل، منزله كبيوت العناكب، ومعيشته كعجالة الراكب، فهو كما قال أبو تمامٍ:
أرض الفلاحة لو أتاها جرول ... أعني الحطيئة لاغتدى حراثا
ما جئتها من أي بابٍ جئتها ... إلا حسبت بيوتها أجداثا
تصدا بها الأفهام بعد صقالها ... وترد ذكران العقول إناثا
أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيها وطلقت السرور ثلاثا
وأما حال عبده بعد فراقه في الجلد. فما حال أم تسعةٍ من الولد ذكورٍ، كأنهم عقبان وصقور، كنوا في وكور، اخترم منهم ثمانية، وهي على التاسع حانية، نادى النذير: العربان في البادية للعادية يا للعادية، فلما سمعت الداعي، ورأت الخيل وهي سراع، جعلت تنادي ولدها الأناة الأناة، وهو ينادي العياة العياة:
بطل كأن ثيابه في سرحةٍ ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
فحين رأته يختال في غصون الزرد المصون. أنشأت تقول:
نشدت أضبطاً يميل ... بين طرفاء وغيل
لباسه من نسج دا ... ود كضحضاح يسيل
فعرض له في البادية أسد هصور. كأن ذرعه مسد مضفور:
فتطاعنا وتوافقت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنع
فلما سمعت صياح الرعيل، برزت من الخدر بصبرٍ قد عيل. فسألت عن الواحد. فقيل لها لحده اللاحد.
فكرت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا
عبثن به فلم يتركن إلا ... أديماً قد تمزق أو كراعا
بأشد من عبدك تأسفاً. ولا أعظم كمداً ولا تلهفاً، وإنه ليعنف نفسه دائماً، ويقول لها لائماً، لو فطنت لقطنت. ولو عقلت لما انتقلت. ولو قنعت لرجعت وما هجعت.
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا
وما تركوا أوطانهم عن ملالةٍ ... ولكن حذاراً من شملتي الأعاديا
أيها السيد: أمن العدل والإنصاف. ومحاسن الشيم والأوصاف. إكرام المهان. وإذلال جواد الرهان يشبع في ساجوره كلب الزبل ويسغب في خيسه أبو الشبل:
إذا حل ذو نقصٍ مكانة فاضلٍ ... وأصبح رب الجاه غير وجيه
فإن حياة الحر غير شهيةٍ ... إليه وطعم الموت غير كريه

أقول لنفسي الدنية هبي طال نومك، واستيقظي لا عز قومك، أرضيت بالعطاء المنزور؟ وقنعت بالمواعيد الزور، يقظةً فإن الجد قد هجع، ونجعةً فمن أجدب انتجع. أعجزت في الأدباء عن خلق الحرباء؟ ولي لسان كالرشاء. تنسم أعلى السماء. ناط همته بالشمس، مع نعدها عن اللمس، أنف من ضيق الوجار، ففرخ في الأشجار، فهو كالخطيب على الغصن الرطيب.
وإن صريح الرأي والحزم لمرئٍ ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا
وقد أصحب عبده هذه الأسطر شعراً يقصر فيه عن واجب الحمد، وإن بنيت قافيته على المد، وما يعد نفسه إلا كمهدي جلد السبتي الأسمر إلى الديباج الأحمر. أين ذو الحباب من ثغور الأحباب؟. وأين السراب من الشراب؟. والركي البكي من الواد ذي المواد. أتطلب الفصاحة من الغنم؟ والصباحة من المغتم؟ غلط من رأى الآل في القي فشبهه بهلهال الدبيقي. هيهات مناسج الرياط. تسبق تنيس ودمياط. ولا أقول كما قال القائل:
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
بل أضع نفسي في أقل المواضع، وأقول لمولاي قول الخاضع:
فأسبل عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدماً مخازي عوراتي
وها هي هذه:
فيك برحت بالعذول إباء ... وعصيت اللوام والنصحاء
فانثنى العاذلون أخيب مني ... يوم أزمعتم الرحيل رخاء
من مجيري من فاتر اللحظ ألمي ... جمع النار خده والماء؟
فيه لليل والنهار صفات ... فلهذا سر القلوب وساء
لازم شيمة الخلاف فإن لذ ... ت قسا أو دنوت منه تناءى
يا غريب الصفات حق لمن كا ... ن غريباً أن يرحم الغرباء
من صدودٍ ولوعتي وتجني ... ه وإشماته بي الأعداء
وإذا ما كتمت ما بي من وج ... دٍ أذاعته مقلتاي بكاء
كعطايا سبأ بن أحمد يخفي ... ها فترداد شهرةً ونماء
نرتجيه بهذه المدح الجو ... د وإن لم نمدحه جاد ابتداء
ألمعي يكاد ينبيك عما ... كان في الغيب فطنةً وذكاء
وإذا أخلف السماء بأرضٍ ... أخلفت راحتاه ذاك السماء
بندىً يخجل الغيوث انهمالاً ... وجدىً ينهل الرماح الظماء
ما أبالي إذ أحسن الدهر فيه ... أحسن الدهر للورى أم أساء
أيها المجدب الضريك انتجعه ... فعطاياه تسبق الأنواء
تلق منه المهذب الماجد الند ... ب الكريم السميذع الأباء
راحة في الندى تنيل نضاراً ... وحسام في الروع يهمي دماء
يا أبا حميرٍ دعوتك للده ... ر فكنت امرأً يجيب الدعاء
فأبى البخل أن يكون أماماً ... وأبى الجود أن يكون وراء
أنا أشكو إليك جور زمانٍ ... دأبه أن يعاند الأدباء
أهملتني صروفه وكأني ... ألف الوصل ألغيت إلغاء
إن سطا أرهب الضراغم في الآ ... جام أو جاد بخل الكرماء
شيم من أبيه أحمد لا ين ... فك عنها تتبعاً واقتفاء
قد تعاطى في المجد شأوك قوم ... عجزوا واحتملت فيه العناء
شرفاً شامخاً ومجداً منيفاً ... حميرياً وغيرةً قعساء
مال عني بما أؤمل فيه ... كلما قلت سوف يأسو أساء
رهن بيتٍ لو استقر به البر ... بوع لم يرضه له نافقاء
نفضتني نفض المرجم حتى ... خلتني في فم الزامن نداء
منعتني من التصرف منع ال ... تعلل التسع صرفها الأسماء
يا أبا حميرٍ وحرمة إحسا ... نك عندي ما كان حبي رياء
ما ظننت الزمان يبعدني عن ... ،ك إلى أن أفارق الأحياء
غير أني فدتك نفسي من السو ... ء وإن قلت أن تكون فداء

ضاع سعيي وخبت خابت أعا ... ديك ومن يبتغي لك الأسواء
واحتملت الزمان والنقص وال ... إبعاد والذل والعنا والجفاء
وتجملت واضطربت فما أب ... قى على عودي الزمان لحاء
أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرةً صماء؟
ولو أني لم أعتمد دون غيري ... لتأسيت أن أموت وفاء
غير أن التصريح ليس بخافٍ ... عند من كان يفهم الإيماء
غير أني متنٍ عليك وما لم ... ت على ما لقيت إلا القضاء
وسيأتيك في البعاد وفي القر ... ب مديح يستوقف الشعراء
فبشكرٍ رحلت عنك وألقا ... ك به إن قضى الإله لقاء
ليس يبقى في الدهر غير ثناءٍ ... فاكتسب ما استطعت ذاك الثناء
وقال:
تشكي المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لنفسي لذة الحب كلها ... فلم يدرها قبلي محب ولا بعدي
وقال:
هدايا الناس بعضهم لبعضٍ ... تولد في قلوبهم الموده
وتزرع في النفوس هوىً وحباً ... لصرف الدهر والحدثان عده
وتصطاد القلوب بلا شراكٍ ... وتسعد حظ صاحبها وجده
الحسين بن محمد بن عبد الوهابابن محمد نب الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبد الله ابن الوزير سليمان بن وهبٍ الحارثي البكري الدباس المعروف بالبارع البغدادي، كان لغوياً نحوياً مقرئاً قرأ القرآن على أبي علي بن البناء وغيره، وأقرأ خلقاً كثيراً. وسمع القاضي أبي يعلى الموصلي وغيره وروى عنه الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وكان حسن المعرفة بصنوف الآداب فاضلاً، وله مصنفات حسان في القراءات وغيرها، وله ديوان شعرٍ جيدٍ. وهو من بيت الوزارة، فإن جده القاسم بن عبيد الله كان وزير المعتضد والمكتفي بعده، وعبيد الله بن القاسم كان وزير المعتضد أيضاً قبل ابنه القاسم. وكان بين البارع وابن الهبارية الأديب الشاعر مداعبات، فإنهما كانا رفيقين منذ نشأا، وأضر البارع في آخر حياته، وسمع منه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وأبو عبد الله الحسيني بن علي بن مهجلٍ الضرير الباقدرائي، وقرأ عليه بالروايات أبو جعفرٍ عبد الله بن أحمد بن جعفرٍ الواسطي المقرئ الضرير وغيره. وكان مولده سنة ثلاثٍ وأربعين وأربعمائةٍ ببغداد، وتوفي صبيحة يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
لم لا أهيم إلى الرياض وحسنها ... وأظل منها تحت ظلٍ ضافي؟
والزهر حياني بثغرٍ باسمٍ ... والباء وافاني بقلبٍ صافي
وقال:
يوم من الزمهرير مقرور ... عليه ثوب الضباب مزرور
كأنما حشو جوه إبر ... وأرضه فرشها قوارير
وشمسه حرة مخدرة ... ليس لها من ضبابه نور
وحج البارع بن الدباس، فلما رجع من الحج ذهب إليه الشريف أبو يعلى بن الهبارية مرةً فلم يجده، فكتب إليه بقصيدةٍ طويلةٍ يعاتبه بها مطلعها:
يابن ودي وأين مني ابن ودي ... غيرت طبعه الرياسة بعدي؟
وفيها مداعبة بلغت حد السخف، فأجابه البارع بقصيدةٍ طويلةٍ أيضاً مطلعها:
وصلت وقعة الشريف أبي يع ... لى فحلت محل لقياه عندي
فتلقيتها بأهلاً وسهلاً ... ثم ألصقتها بعيني وخدي
وفضضت الختام عنها فما ظن ... نك بالصاب إذ يشاب بشهد
بين حلوٍ من العتاب ومرٍ ... هو أولى به وهزلٍ وجد
وتجنى علي من غير جرمٍ ... بملامٍ يكاد يحرق جلدي
يدعي أنني احتجبت وقد زا ... ر مراراً حاشاه من قبح رد
دعك من ذمك الرياسة والحج ... ج وقل لي بغير حلٍ وعقد
فبماذا علمت بالله أني ... قد تنكرت أو تغير عهدي؟
من تراني أعامل أم وزير ... لأميرٍ أم قائد جيش جند؟

أنا ذاك الخل الخليع الذي تع ... رف أرضي ولو بخبزٍ ودردي
وإذا صح لي نديم فذاك ال ... يوم عيدي وصاحب الدست عبدي
أتراني لو كنت في النار مع ها ... مان أنساك أو بجنة خلد؟
أو لو أتى عصبت بالتاج أسلو ... ك ولو كنت غائباً عن رشدي
أنا أضعاف ما عهدت على العه ... د وإن كنت لا تكافي بود
وفي القصيدة أبيات تتضمن سخفاً فاحشاً ضربنا عن ذكرها صفحاً. ومنها:
أم لأني قنعت من سائر النا ... س بفردٍ بين الأكارم فرد
صان وجهي عن اللئام وأولا ... ني جميلاً منه إلى غير حد
أم لأني قنعت حتى لقد صر ... ت بقنعي نسيج دهري ووحدي
أم لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية أين الكرام قل لي لأكدي؟
وقال:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال أيضاً:
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه
أنهي إليه حالي الذي ... يا ليتني مت ولم أنهه
فلم ينلني أبداً رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه
والدهر إذ مات مماريده ... قد مد أيديه إلى بلهه
وقال:
تنازعني النفس أعلى مقامٍ ... ولست من العجز لا أنشط
ولكن بقدر علو المكان ... يكون هبوط الذي يسقط
الحسين بن محمد بن جعفر
ابن محمد بن الحسين الرافقي المعروف بالخالع، أحد كبار النحاة، كان إماماً في النحو واللغة والأدب، وله شعر. توفي سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، أخذ عن أبي عليٍ الفارسي وأبي الحسن السيرافي وغيرهما. ويقال إنه من ذرية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وله من التصانيف: كتاب الأودية والجبال والرمال، وكتاب الأمثال، وكتاب تخيلات العرب، وشرح شعر أبي تمامٍ، وكتاب صناعة الشعر وغير ذلك. ومن شعره:
رأيت العقل لم يكن انتهاباً ... ولم يقسم على قدر السنينا
فلو أن السنين تقسمته ... خوى الآباء أنصبة البنينا
وقال:
خطرت فقلت لها مقالة مغرمٍ ... ماذا عليك من السلا؟ فسلمي
قالت بمن تعنى؟ فحبك بين ... من سقم جسمك قلت بالمتكلم
فتبسمت فبكيت قالت لا ترع ... فلعل مثل هواك بالمتبسم
قلت اتفقنا في الهوى فزيارةً ... أو موعداً قبل الزيارة قدمي
فتضاحكت عجياً وقالت يا فتىً ... لو لم أدعك تنام بي لم تحلم
وقال:
أما لظلام ليلي من صباحٍ ... أما للنجم فيه من براح
كأن الأفق سد فليس يرجى ... به نهج إلى كل النواحي
كأن الشمس قد مسخت نجوماً ... تسير مسير روادٍ طلاح
كأن الصبح مهجور طريد ... كأن الليل مات صريع راح
كأن بنات نعشٍ متن حزناً ... كأن النسر مكسور الجناح
وقال:
لا تعبسن بوجه عافٍ سائلٍ ... خير المواهب أن ترى مسؤولاً
لا تجبهن بالرد وجه مؤملٍ ... فبقاء عزك أن ترى مأمولا
يلقى الكريم فيستدل ببشره ... ويرى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك لا محالة صائر ... خبراٍ فكن خبراً يروق جميلا
الحسين بن محمد

ابن الحسين بن حيٍ التجيبي القرطبي. كان أديباً فاضلاً عالماً بالهندسة والهيئة، كلفاً بصناعة التعديل، أخذ علم العدد والهندسة والهيئة عن أبي عبد الله محمد بن عمر بن محمدٍ المعروف بابن برغوثٍ الرياضي الفلكي المتوفى سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ. ولحق بمصر بعد أن نالته بالأندلس وفي طريقه بالبحر محن شديدة، ثم رحل من القاهرة إلى اليمن واتصل بأميرها الصليحي القائم بالدعوة للمنتصر بالله معد بن الظاهر عليٍ، فحظي عنده وبعثه رسولاً إلى أمير المؤمنين القائم بأمر الله الخليفة العباسي في هيئةٍ فخمةٍ، فنال إقبالاً ودنيا عريضةً. وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد إليها سنة ستٍ وخمسين وأربعمائةٍ. وله من التصانيف: زيج مختصر على طريقة السند هند وغير ذلك. ومن شعره:
تأمل. صورة العدد ... فمن ينظر إليه هدى
كما الأعداد راجعة ... وإن كثرت إلى الأحد
كذاك الخلق مرجعهم ... لربٍ واحدٍ صمد
وقال:
تحفظ من لسانك فهو عضو ... أشد عليك من وقع السنان
فلا والله ما في الخلق خلق ... أحق بطول سجنٍ من لسان
وقال:
ورأيت السماء كالبحر إلا ... أن ما سطه من الدر طافي
فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك صافي
وقال:
ودعته حيث لا تودعه ... وحي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي العيون له ... ضيق مجالٍ وفي القلوب سعه
وقال:
إذا ما كثرت عى صاحب ... وقد كان يدنيك من نفسه
فلا بد من مللٍ واقعٍ ... يغير ما كان من أنسه
الحسين بن محمدأبو عليٍ السهواجي أديب شاعر لبيب مشهوروسهواجمن قرى مصر، صنف كتاب القوافي، وتوفي بمصر سنة أربعمائةٍ - رحمه الله تعالى - ، ومن شعره:
وقد كنت أخشى الحب لو كان نافعي ... من الحب أن أخشاه قبل وقوعه
كما حذر الإنسان من نوم عينيه ... ونام ولم يشعر أوان هجوعه
وقال:
كرام المساعي في اكتساب محامدٍ ... وأهدى إلى طرق المعالي من القطا
وأبوابهم معمورة بعفاتهم ... وأيديهم لا تستريح من العطا
ومن شعره أيضاً:
وهتوفٍ أيكيةٍ ذات شجوٍ ... سجعت ثم رجعت ترجيعا
ذكرت إلفها فحنت إليه ... فبكينا من الفراق جميعا
ومنه أيضاً:
قوم كرام إذا سلوا سيوفهم ... في الروع لم يغمدوها في سوى المهج
إذا دجا الخطب أو ضاقت مذاهبه ... وجدت عندهم ما شئت من فرج
وقال:
شخوص الفتى عن منزل الضيم واجب ... وإن كان فيه أهله والأقارب
وللحر أهل إن نأى عنه أهله ... وجانب عزٍ إن نأى عنه جانب
ومن يرض دار الضيم داراً لنفسه ... فذلك في دعوى التوكل كاذب
وقال:
توخ من الطرق أوساطها ... وعد عن الجانب المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه
الحسين بن محمدٍ أبو الفرج
النجوي المعروف بالمستور، كان نحوياً لغوياً أديباً شاعراً. توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائةٍ، ومن شعره:
أمسى يحن لوجهه قمر الدجا ... وغدا يلين للحنه الجلمود
فإذا بداف كأنما هو يوسف ... وإذا شدا فكأنه داود
وقال:
فكأنما الشمس المنيرة إذ بدت ... والبدر يجنح للغروب وما غرب
متحاربان لذا مجن صاغه ... من فضةٍ ولذا مجن ممن ذهب
وله مزدوجة أنشدها بعض الدمشقيين سنة خمسٍ وثمانين وثلاثمائةٍ:
الحب بحر زاخر ... راكبه مخاطر
جنوده المحاجر ... والحدق السواحر
ركبته على غرر ... وخطرٍ على خطر
في واضحٍ يحكي القمر ... وكان حتفي في النظر
حلفته لما بدا ... كغصنٍ غب ندى
ريان بالحسن ارتدى ... وبالبها تفردا

بحق بيت المقدس ... والبلد المقدس
وبالتي لم تدنس ... لا تك منك مؤيسي
بحق قدس مريم ... وبطرس المعظم
بعادلٍ لم يظلم ... رق لصبٍ مغرم
بالدير بالرهبان ... بحرمة القربان
ببولصٍ ذي الشان ... كن حسن الإحسان
بالطور بالزبور ... بساكن القبور
بشاهدٍ مشهور ... إعطف على المهجور
بحرمة المسيح ... وبالفتى الذبيح
بالفصح بالتسبيح ... أبق علي روحي
بليلة الميلاد ... وحرمة الأعياد
ولابسي السواد ... إجعل رضاك زادي
وهي طويلة اكتفينا منها بهذا المقدار. ومن شعره أيضاً:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة ... فصحوت واستبدلت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراكبٍ ... عرف المجل فيات دون المنزل
الحسين بن مطير بن مكملٍ
الأسدي مولى بني أسد بن خزيمة، وكان جده مكمل عبداً فعتق وقيل كوتب. وابن مطيرٍ من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، فصيح متقدم في الرجز والقصيد يعد من فحول المحدثين، يشبه كلامه كلام الأعراب وأهل البادية، وفد على الأمير معن بن زائدة الشيباني لما ولي اليمن، فلما دخل عليه أنشده:
أتيتك إذ لم يبق غيرك جابر ... ولا واهب يعطي اللها والرغائبا
فقال له: يا أخا بني ليس أسدٍ هذا بمدحٍ، إنما المدح قول نهار بن توسعة في مسمع بن مالكٍ:
قلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن يهلك السراة البحور
فغدا إليه بأرجوزةٍ يمدحه بها فاستحسنها وأجزل صلته. وحدث جعفر بن منصورٍ قال: حدثني أبي قال: حج المهدي فنزل زبالة فدخل الحسين بن مطيرٍ الأسدي عليه فقال:
أضحت يمينك من جودٍ مصورةً ... لا بل يمينك منها صورة الجود
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقةً ... ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي كذبت، قال ولم يا امير المؤمنين؟ قال: هل تركت في شعرك موضعاً لأحدٍ بعد قولك في معنٍ بن زائدة:
ألما على معنٍ وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ أنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطت للمكارم وضجعا
ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان من البر والبحر مترعا؟
بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وما كان إلا الجود صورة وجهه ... فعاش ربيعاً ثم ولى وودعا
وكنت لدار الجود يا معن عامراً ... وقد أصبحت قفراً من الجود بلقعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
تمنى أناس شأوه من ضلالهم ... فأضحوا على الأّذقان صرعى وظلما
تعز أبا العباس عنه ولا يكن ... جزاؤك من معنٍ بأن تتضعضعا
أبى ذكر معنٍ أن يميت فعاله ... وإن كان قد لاقى حماماً ومصرعها
فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما أبقى أبوك وما سعى
فقال: يا أمير المؤمنين إنما معن حسنة من حسناتك، وفعلة من فعلاتك، فأمر لع بألف دينارٍ ثم قال: سل حاجتك فقال:
بيضاء تسحب من قيامٍ فرعها ... وتغيب فيه وهو جعد أسحم
فكأنها منه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم
قال: خذ بيدها لجاريةٍ كانت على رأسه فأولدها مطير بن الحسين بن مطيرٍ.
وقال الرياشي: حدثني أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً كان بالمدينة من قريشٍ، وعنده ابن مطيرٍ، وإذا بمطرٍ جودٍ، فقال له الوالي: صف لي هذا المطر، قال: دعني أشرف عليه، فأشرف عليه ثم نزل فقال:
كثرت لكثرة قطره أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء
وله رباب هيدب لدفيفه ... قبل التبعق ديمة وطفاء

وكأن ريقه ولما يحتفل ... ودق السماء عجاجة كدراء
وكأن بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه عرفج وألاء
مستضحك بلوامعٍ مستبصر ... بمدامعٍ لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزنٍ ولا بمسرةٍ ... ضحك يؤلف بيته وبكاء
حيران متبع صباه تقوده ... وجنوبه كنف له ووعاء
غدق ينتج في الأباطح فرقاً ... تلد السيول وما لها أسلاء
غر محجلة دوالج ضمنت ... حمل اللقاح وكلها عذراء
سحم فهن إذا كظمن سواجم ... سود وهن إذا ضحكن وضاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء
وقال ابن دريدٍ: أنشدنا أبو حاتمٍ السجستاني، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه للحسين بن مطيرٍ الأسدي، وقال عبد الرحمن قال عمي: لو كان شعر العرب هكذا ما أثم منشده:
ألا حبذا البيت الذي أنت هاجره ... وأنت بتلماحٍ من الطرف ناظره
لإنك من بيتٍ لعيني معجبٍ ... وأملح في عيني من البيت عامره
أصد حياء أن يلم بي الهوى ... وفيك المنى لولا عدو أحذره
وفيك حبيب النفس لو تستطيعه ... لمات الهوى والشوق حين تجاوره
فإن آته لم أنج إلا بظنةٍ ... وإن يأته غيري تنط بي جزائره
وكان حبيب النفس للقلب واتراً ... وكيف يحب القلب من هو واتره
فإن يكن الأعداء أحموا كلامه ... علينا فلن يحمى علينا مناظره
أحبك يا سلمى على غير ريبةٍ ... ولا بأس في حبٍ تعف سرائره
ويا عاذلي لولا نفاسة حبها ... عليك لما باليت أنك خائره
بنفسي من لا بد أني هاجره ... وما أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم ... ببغضي إلا ما تجن ضمائره
أحبك حباً لن أعنف بعده ... محباً ولكني إذا ليم عاذره
لقد مات فبلي أول الحب فانقضى ... ولو مت أضحى الحب قد مات آخره
كلامك يا سلمى وإن قل نافعي ... فلا تحسبي أني وإن قل حاقره
ألا ل أبالي أي حيٍ تحملوا ... إذا أثمد البرقاء لم يخل حاضره
وحدث المرزباني عن الأخفش قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي لحسين بن مطيرٍ الأسدي:
لقد كنت جلداً قبل أن توقد النوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خمودها
ولو ترتكت نار الهوى لتصرمت ... ولكن شوقاً كل يومٍ وقودها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها
فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد تولاها بشوقٍ يعيدها
بمرتجة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف قيودها
وصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها
مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
يمنينا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طل يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بتزبانٍ طويل عقودها
وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
هل الله عافٍ عن ذنوبٍ تسلفت ... أم الله إن لم يعف عنها معيدها؟
وقال:
رأت رجلاً أودى بوافر لحمه ... طلاب المعالي واكتساب المكارم
خفيف الحشا ضرباً كأن ثيابه ... على قاطعٍ من جوهر الهند صارم
فقلت لها لا تعجبن فإنني ... أرى سمن الفتيان إحدى المشائم
وأنشد له ابن قتيبة:
يضعفني حلمي وكثرة جهلهم ... علي وأني لا أصول بجاهل
دفعتكم عني وما دفع راحةٍ ... بشيءٍ إذا لم تستعن بالأنامل
وأنشد له المبرد:

ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح؟
أباها على الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح؟
الحسين بن هبة الله ضياء الدينأبو علي بن زاهرٍ الموصلي الملقب بدهن الخصا، أحد نحاة العصر، تصدر لإقراء العربية في بلده، وتقدم عند صاحب الموصل، ثم تغير عليه فرحل إلى الملك الناصر صلاح الدين، ثم وفد على ابنه في حلب فقربه ورتب لع معلوماً على إقراء العربية، وكان أديباً شاعراً متفنناً لقيته بحلب وبها مات سنة ثمانٍ وستمائةٍ. ومن شعره:
مرضت ولي جيرة كلهم ... عن الرشد في صحبتي حائد
فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد
وقال:
يبتهج الناس بأعيادهم ... لأجل ذبحٍ أو لإفطار
وإنما عظم سروري بها ... للثم من أهوى بلا عار
أرقبها حولاً إلى قابلٍ ... لأنها غاية أوطاري
وقال:
وإني وإن أخرت عنكم زيارتي ... لعذرٍ فإني في المودة أول
فما الود تكيري الزيارة دائماً ... ولكن على ما في القلوب المعول
الحسين بن هداب بن محمدابن ثابت الديري الأصل، نسبة إلى الدير، قرية من قرى النعمانية، ويعرف بالنوري، والنورية قرية من قرى الحلة السيفية من سيف الفرات، نزل بها أبو عبد الله الضرير. توفي يوم الأربعاء ثاني عشر رجب سنة اثنتين وستين وخمسمائةٍ، كان نحوياً لغوياً مقراً فقيهاً شاعراً متفنناً، قرأ بالروايات على أبي العز محمد بن الحسين بن بندارٍ الواسطي، وأبي بكرٍ محمد بن الحسين بن عليٍ المزرفي. سكن بغداد منعكفاً على نشر العلم والإقراء، فكان يقرئ النحو واللغة والقراءات، وكان يحفظ عدة دواوين من شعر العرب، وكان كثير الإفادة والعبادة، عفيفاً ديناً، وله شعر جيد منه:
فيك يا أغلوطة الفكر ... تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عينٍ ولا أثر
وقال:
بأبي رئم تبلج لي ... عن رضىً في طيه غضب
وأراني صبح طلعته ... بظلام الصدغ ينتقب
وسقى بالكأس مترعةً ... صهباء مثل الشمس تلتهب
فهي شمس في يدي قمرٍ ... وكلا عقديهما الشهب
ولها من ذاتها طرب ... ولهذا يرقص الجبب
وقال:
قال لي من رأى صباح مشيبي ... عن شمال من لمتي ويمين؟
أي شيءٍ هذا فقلت مجيباً ... ليل شكٍ محاه صبح يقين
الحسين بن الوليد بن نصرٍ

أبو القاسم المعروف بابن العريف، النحوي الأديب الشاعر، له شرح كتاب الجمل في النحو للزجاج، وكتاب الرد على أبي جعفرٍ النحاس في كتابه الكافي، وغير ذلك، وكان مقدماً في العربية إماماً فيها، عارفاً بصنوف الآداب، أخذ العربية عن ابن القوطية وغيره، ورحل إلى المشرق فأقام بمصر مدةً طويلةً، وسمع فيها من الحافظ بن رشيقٍ، وأبي طاهرٍ الذهلي وغيرهما، ثم عاد إلى الأندلس فاختاره المنصور محمد بن أبي عامرٍ صاحب الأندلس مؤدباً لأولاده، وكان يحضر مجالسه، ومناظرته مع أبي العلاء صاعدٍ اللغوي البغدادي مشهورة، فمن ذلك أن المنصور جلس يوماً وعنده أعيان مملكته من أهل العلم، كالزبيدي صاحب الطبقات، والعاصمي وابن العريف صاحب الترجمة وغيرهم فقال لهم المنصور: هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم، وأحب أن يمتحن، فوجه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد غص بالعلماء والأشراف، خجل صاعد واحتشم، فأدناه المنصور ورفع محله، وأقبل عليه وسأله عن أبي سعيدٍ السيرافي، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب فلم يحضره جوابها، واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ؟ فقال: حفظ الغريب. قال: فما وزن أولق؟ فضحك صاعد وقال: أمثلي يسأل عن هذا، إنما يسأل عنه صبيان المكتب. قال الزبيدي: قد سألناك ولا نشك أنك تجهله، فتغير لونه فقال: وزنه أفعل. فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ورواية الأخبار وفك المعمى وعلم الموسيقى. قال فناظره ابن العريف - صاحب الترجمة - فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعراً شاهداً وأتى بحكايةٍ تناسبها، فأعجب المنصور فقربه وقدمه، وكان يوماً بمجلس المنصور أيضاً فأحضرت إليه وردةً في غير أوانها لم يكمل فتح وراقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً:
أتتك أبا عامرٍ وردة ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها رأسها
فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً فحسده وجرى إلى مناقضته، وقال للمنصور هذاالبيتان لغيره، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين لنفسه بمصر وهما عندي على ظهر كتابٍ بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدرٍ، وكان أحسن أهل زمانه بديهةً فوصف له ما جرى، فقال ابن بدرٍ هذهالأبيات ودس فيها بيتي صاعدٍ:
غدوت إلى قصر عباسةٍ ... وقد جدل النوم حراسها
فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صدع السكر أناسها
فقالت أسرت على هجعةٍ ... فقلت بلى فرمت كاسها
ومدت يديها إلى وردةٍ ... يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها رأسها
وقالت خف الله لا تفضح ... ن في ابنة عمك عباسها
فوليت عنها على خجلةٍ ... وما خنت ناسي ولا ناسها
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتابٍ بخطٍ مصريٍ ومدادٍ أشقر ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه وقال للحاضرين غداً أمتحنه،فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ولم يبق في موضعٍ لي عليه سلطان. فلما أصبح أرسل إليه فأحضر وحضر جميع الندماء والجلساء فدخل بهم إلى مجلسٍ قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير ووضع على السقائف لعب من ياسمينٍ في شكل الجواري وتحت السقائف بركة ماءٍ قد ألقى فيها اللآلئ مثل الحصباء وفي البركة حية تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى، لأنه قد زعم هؤلاء القوم أن كل ما تأتي به دعوى، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملكٍ قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، فقال له صاعد على البديهة:
أبا عامرٍ هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف
يسوق إليك الدهر كل غريبةٍ ... وأعجب ما يلقها عندك واصف
وشائع نورٍ صاغها هامر الحي ... على حافتيها عبقر ورفارف

ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي وصائف
كمثل الظباء المستكنة كنساً ... تظللها بالياسمين السقائف
وأعجب منها أنهن نواظر ... إلى بركةٍ ضمت إليها الطرائف
حصاها اللآلئ سابح في عبابها ... من الرقش مسموم الثعابين زواحف
ترى ما تراه العين في جنباتها ... من الوحش حتى بينهن السلاحف
فاستغربوا له تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته نت تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذف بمجاذيف من ذهبٍ لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت إلا أنك أغفلت ذكر السفينة والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادة في سفينةٍ ... مكللة تصبو إليها الهواتف
إذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكانها ما هيجته العواصف
متى كانت الحسناء ربان مركبٍ ... تصرف في يمنى يديه المجاذف
ولم تر عيني في البلاد حديقةً ... تنقلها في الراحتن الوصائف
ولا غرو أن أنشت معاليك روضةً ... وشتها أزاهير الربا والزخارف
فأنت امرؤ لو رمت نقل متالعٍ ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف
إذا قلت قولاً أو بدهت بديهةً ... فكلني له لمجدك واصف
فأمر له المنصور بألف دينارٍ ومائة ثوبٍ، ورتب له في كل شهرٍ ثلاثين ديناراً وألحقه بندمائه. توفي أبو القاسم ابن العريف بطليطلة في رجبٍ سنة تسعين وثلاثمائةٍ.
حرملة بن المنذر بن معد يكربابن حنظلة بن النعمان بن حبة بن سعنة بن الحارث بن ربيعة، ويتصل نسبه بيعرب بن قحطان أبو زبيدٍ الطائي شاعر معمر عاش خمسين ومائة سنة، وعداده في المخضرمين، أدرك الإسلام ولم يسلم ومات نصرانياً.

وكان أبو زبيدٍ طزالاً من الرجال ينتهي إلى ثلاثة عشر شبراً، وكان حسن الصورة فكان إذا دخل مكة دخلها متنكراً لجماله. وكان أبو زبيدٍ يزور الملوك وملوك العجم خاصةً، وكان عالماً بسيرهم، ووفد على الحارث بن أبي شمر الغساني والنعمان بن المنذر. حدثعمارة بن قابوس قال: لقيت أبو زبيدٍ الطائي فقلت له: يا أبا زبيدٍ هل أتيت النعمان بن المنذر؟ قال: إي والله لقد لقد أتيته وجالسته. قلت: فصفه لي فقال: كان أحمر أزرق أبرش قصيراً. فقلت له: أيسرك أنه سمع مقالتك هذه وأن لك حمر النعم؟ قال: لا والله ولا سودها، فقد رأيت ملوك حمير في ملكها، ورأيت ملوك غسان في ملكها، فما رأيت أشد عزاً منه. كان ظهر الكوفة منبت الشقائق فحمى ذلك المكان فنسب إليه، فقيل سقائق النعمان. فجلس ذات يومٍ هناك وجلسنا بين يديه كأن على رؤوسنا الطير، فقام رجل من الناس فقال له: أبيت اللعن، أعطني فإني محتاج، فتأمله طويلاً ثم أمر به فأدني حتى قعد بين يديه، ثم دعا بكنانةٍ فاستخرج منها مشاقص فجعل يجأبها وجهه حتى سمعنا قرع العظام وخضب بالدم، ثم أمر به فنحي. ومكثنا ملياً فنهض رجل آخر فقال له: أبيتاللعن، أعطني فتامله ساعةً ثم قال: أعطوه ألف درهمٍ فأخذها وانصرف، ثم التفت النعمان عن يمينه ويساره وخلفه فقال: ما قولكم في رجلٍ أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة؟ أترون دمه سائلاً حتى يجري في هذا الوادي؟ فقلنا له: أنت - أبيت اللعن - أعلى برأيك فدعا برجلٍ على هذه الصفة فأمر به فذبح ثم قال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: ومن يسألك عن أمرك وما تصنع؟ فقال: أما الأول فإني خرجت مع أبي نتصيد فممرنا به وهو بفناء بابه وبين يديه عس من لبنٍ فتناولته لأشرب منه، فثار إلي فهراق الإناء فملأ وجهي وصدري فأعطيت الله عهداً لئن أمكنني من لأخضبن لحينه وصدره من دم وجهه. وأما الآخر فكانت له عندي يد فكافأته بها. وأما الذي ذبحته فإن عيناً لي بالشام كيب علي: أن جبلة بن الأيهم بعث إليك برجلٍ صفته كذا وكذا ليقتلك، فطلبته فلم أقدر عليه حتى كان اليوم فرأيته بين القوم فأخذته. وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقرب أبا زبيدٍ ويدني مجلسه لمعرفته بسير من أدركهم من ملوك العرب والعجم، فدخل عليه يوماً وعنده المهاجرون والنصار، فتذاكروا مآثر العرب وأخبارها وأشعارها، فالتفت إليه عثمان وقال له: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك، فقد أنبئت أنك تجيد الشعر، فأنشده قصيدته التي أولها:
من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا ... أن الفؤاد إليهم شيق ولع

ووصف فيها الأسد فقال له عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت، والله إني لأحسبك جباناً هداناً. قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظراً وشهدت مشهداً لا يبرح يتجدد في قلبي، ومعذور أنا بذلك يا أمير المؤمنين غير ملومٍ. فقال له عثمان: وأين كان ذلك وأنى؟ فقال: خرجت في صيابةٍ من أشراف العرب وفتيانهم ذوي هيبةٍ وشارةٍ حسنةٍ ترمي بنا المهري بأكسائها والقيروانات على قنو البغال تسوقها العبدان، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروط بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه، وذكت الجوناء والمعزاء، وذاب الصيهب وصر الجندب، وضاف العصفور الضب في وجره وجاوره في جحره. قال قائل: أيها الركب تغوروا بنا في ضوج هذا الوادي، وإذا وادٍ قد بدا لنا كثير الدغل، دائم الغلل، صحراؤه مغنة، وأطياره مرنة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلاتٍ، وأصبنا من فضلات المزاود وأتبعناها الماء البارد. فلما انتصف حر يومنا ذلك، وبينما نحن كذلك إذ صر أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، فوالله ما لبث أن حال، ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الذي يليه واحداً فواحداً، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافرٍ بشكاله، وشاردٍ بعقاله، فعلمنا أنه السبع، ففزع كل منا إلى سيفه فسله من قرابه، ثم وقفنا رزدقاً فأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته كأنه مجنون، أو في وجار مسجون، لطرفه وميض ولصدره شحيط، ولبلعومه غطيط، ولأرساغه قضيض كأنما يخبط هشيماً، أو يطأ رميماً، له هامة كالمجن، وخد كالمسن، وعينان سجروان كأنهما سراجان يتقدان، وقصرة ربلة، ولهزمة رهلة، وكتد معبط، وزند مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن، إلى مخالب كالمحاجن، فضرب بيديه فأرهج، وكشر فأفرج عن أنيابٍ كالمعاول مصقولةٍ غير مفلولةٍ، وفمٍ أشدق كالغار الأخرق، ثم تمطى بيديه وحفز بوركيه حتى صار ظله مثيله، ثم أقعى فاقشعر، ثم أقبل فاكفهر، ثم تجهم فازبأر، فلا وذو بيته في السماء، ما اتقيناه إلا بأخٍ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة، فوقصه فوقصه ثم نفضه نفضةً فقضقض متنيه وجعل يلغ في دمه فذمرت أصحابي، فبعد لأيٍ ما استقدموا فجهجهنا به، فكر مقشعراً بزبرته كأن به نهماً حولياً فاختلج رجلاً أعجر ذا حوايا، فنفضه نفضة تزايلت بها مفاصله، ثم همهم ففرفر وزفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ فأشزر، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من شماله ومن يمينه، فأرعشت الأيدي واصطكلت الأرجل وأطت الأضلاع، وارتجت الأسماع وشخصت العيون، وساءت الظنون، فظنت المنون فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك، فقد أرعبت قلوب المسلمين. وقال يصف الأسد:
فباتوا يدلجون وبات يسري ... بصير بالدجى هادٍ هموس
إلى أن عرسوا وأغب عنهم ... قريباً ما يحس له حسيس
خلا أن العتاق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوس
فلما أن رآهم قد تدانوا ... أتاهم بين رحلهم يريس
فثار الزاجرون فزاد قرباً ... إليهم ثم واجهه ضبيس
بنصل السيف ليس له مجن ... فصد ولم يصادفه جسيس
فيضرب بالشمال إلى حشاه ... وقد نادى وأخلفه النيس
يشتر كالمحملق في عيونٍ ... تقيه الأرض الربيس
فخر السيف واختلجت يداه ... وكان بنفسه وقيت نفوس
وطار القوم شتىً والمطايا ... وغودر في مكرهم الرسيس
وجال كأنه فرس صنيع ... يجر جلاله ذيل شموس
كأن بنحره و بساعديه ... عبيراً بات تعبؤه عروس
فذلك إن تلاقوه تفادوا ... ويحدث عنكم أمر شكيس
وقال ابن الأعرابي: كان لأبي زبيدٍ كلب يقال له الأكدر، وكان له سلاح يلبسه إياه فكان لا يقوم له الأسد، فخرج ليلةً ولم يلبسه سلاحه فلقيه الأسد فقتله، فقال أبو زبيدٍ:
أجال أكدر مشياً لا كعادته ... حتى إذا كان بين البئر والطعن
لاقى لدى ثلل الأطواء داهيةً ... سرت وأكدر تحت الليل في قرن

حفت به شيمة ورهاء تطرده ... حتى تناهى إلى الجولان في سنن
إلى مقابل فتل الساعدين له ... فوق السراة كذفرى الفالج القمن
ريبال غابٍ فلا قحم ولا ضرع ... كالفيل يختطم الفحلين في شطن
وهي قصيدة طويلة، فلامه قومه على كثرة وصفه للأسد وقالوا: قد خفنا أن تسبنا العرب بوصفك له. فقال: لو رأيتم منه ما رأيت، أو لقيتم منه ما لقي أكدر لما لمتموني، ثم أمسك عن وصفه حتى مات. وقال ابن الأعرابي: مان أبو زبيدٍ يقيم أكثر أيامه في أخواله بني تغلب، وكان له غلام يرعى إبله فغزت بهراء وهم من قضاعة بني تغلب، فمروا بغلامه فدفع إليهم إبل أبي زبيدٍ وانطلق معهم يدلهم على عورة القوم ويقاتل معهم، فهزمت تغلب بهراء وقتل الغلام. فقال أبو زبيدٍ في ذلك:
هل كنت في منظرٍ ومستمعٍ ... في نصر بهراء غير ذي فرس
تسعى إلى فتية الأراقم واس ... تعجلت قبل الجمان والقبس
في عارضٍ من جبال بهرائها ال ... ألى مرين الحرون عن درس
فبهرة إذ لقوا حسبتهم ... أحلى وأشهى من بارد الدبس
لا ترة عندهم فتطلبها ... ولا هم نهزة لمختلس
جود كرام إذا هم ندبوا ... غير لئام ضجرٍ ولا خسس
صمت عظام الحلوم إن سكتوا ... من غير عيٍ بهم ولا خرس
تقود أفراسهم نساؤهم ... يزجون أجمالهم مع الغلس
صادقت لما خرجت منطلقاً ... جهم المحيا كباسلٍ شرس
تخال في كفه مثقفةً ... تلمع فيها كشعلة القبس
بكف حران ثائرٍ بدمٍ ... طلاب وترٍ في الموت منغمس
إما تقاذفبك الرماح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس
حمدت أمري ولمت إذ ... أمسك جلز السنان بالنفس
وقد تصليت حر نارهم ... كما تتصلى المقرور من قرس
تذب عنه كف بها رمق ... طيراً عكوفاً كزور العرس
عما قليلٍ علون جثته ... فهن من والغٍ ومنتهس
فلما بلغ شعره بني تغلب بعثوا إليه بدية غلامه وما نهب من إبله. فقال في ذلك:
ألا بلغ بني عمرو رسولاً ... فإني في مودتكم نفيس
فما أنا بالضعيف فتظلموني ... ولا حقي اللفاء ولا خسيس
أفي حقٍ مواساتي أخاكم ... بمالي ثم يظلمني السريس
وحدث ابن الأعرابي قال: كان أبو زبيدٍ الطائي نديماً للوليد بن عقبة والي الكوفة من قبل عثمان، فلما شهدوا عليه بشرب الخمر وعزل عن عمله وخرحمن الكوفة قال أبو زبيدٍ:
من يرى العير لابن أروى على ظه ... ر المرورى حداتهن عجال
مصعداتٍ والبيت بيت أبو وه ... بٍ خلاء تحن فيه الشمال
يغرف الجاهل المضلل أن الد ... دهر فيه النكراء والزلزال
ليت شعري كذاكم العهد أم كا ... نوا أناساً ممن يزول فزالوا؟
بعد ما تعلمين يا أم زيدٍ ... كان فيهم عز لنا وجمال
ووجوه بودنا مشرقات ... ونوال إذا أريد النوال
أصبح البيت قد تبدل بالحي ... ي وجوهاً كأنها الأقتال
كل شيءٍ يختال فيه الرجال ... غير أن ليس للمنايا احتيال
ولعمر الإله لو كان للسي ... ف مصال أو للسان مقال
ما تناسيتك الصفاء ولا الود ... د ولا حال دونك الأشغال
ولحرمت لحمك المتصي ... ضلةً ضل حلمهم ما اقتالوا
قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراباً سوى الحرام حلال
وأبى الظاهر العداوة إلا ... شنآناً وقول ما لا يقال
من رجالٍ تقارضوا منكراتٍ ... لينالوا الذي أرادوا فنالوا
غير ما طالبين ذحلا ولكن ... مال دهر على أناسٍ فمالوا

من يخنك الصفاء أو يتبدل ... أو يزل مثل ما تزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو الد ... د حياتي ختى تزول الجبال
ليس بخل عليك عندي بمالٍ ... أبداً ما أقل نعلاً قبال
ولك النصر باللسان وبالكف ... ف إذا كان لليدين مصال
ولأبي زبيدٍ في مدح الوليد بن عقبة شعر كثير تركناه خوف الإطالة، ومن جيد شعره:
إن نيل الحياة غير سعود ... وضلال تأميل نيل الخلود
علل المرء بالأماني ويضحي ... غرضاً للمنون نصباً لعود
كل يومٍ ترميه منها برشقٍ ... فمصيب أوصال غير بعيد
كل ميتٍ قد اغتفرت فلا وا ... جع من والدٍ ومن مولود
غير أن الجلاح هذا جناحي ... يوم فارقته بأعلى الصعيد
وكان أبو زبيدٍ يحمل في كل أحدٍ إلى البيع مع النصارى، فبينا هو يوم أحدٍ يشرب والنصارى حوله رفع بصره إلى السماء فنظر نظراً طويلاً، ثم رمى الكأس من يده فقال:
إذا جعل المرء الذي كان حازماً ... يحل به حل الحوار ويحمل
فليس له في العيش خير يريده ... وتكفينه ميتاً أعف وأجمل
أتاني رسول الموت يا مرحباً به ... وإني لآتيه أما سوف أفعل
ثم مات فجأةً ودفن هناك.
حفص الأموي مولاهمشاعر من شعراء الدولة الأموية، عاش حتى ادرك دولة بني العباس، ولحق بعبد الله بن عليٍ فاستأمنه، فهو من مخضرمي الدولتين، وكان يختلف إلى كثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة الشاعر يروي عنه شعره، وكان حجاءً لبني هاشمٍ، فطلبه عبد الله بن عليٍ فلم يقدر عليه، ثم جاءه حفص مستأمناً فقال: أنا عائد بالأمير، فقال له: ومن أنت؟ قال: حفص الأموي، فقال: أنت الهجاء لبني هاشمٍ؟ فقال: أنا الذي أقول - أعز الله الأمير - :
وكانت أمية في ملكها ... تجور وتكثر عدوانها
فلما رأى الله أن قد طغت ... ولم يحمل الناس طغيانها
زماها بسفاح آل الرسول ... فجذ بكفيه أعيانها
ولو آمنت قبل وقع العذاب ... لقد يقبل الله إيمانها
فلما أتم الإنشاد، قال له عبد الله بن عليٍ: اجلس، فجلس فتغدى بين يديه، ثم دعا عبد الله خادماً له فساره بشيء ففزع حفص وقال: أيها الأمير، قد تحرمت بك وبطعامك وفي أقل من هذا كانت العرب تهب الدماء. فقال له عبد الله: ليس شيء مما ظننت، فجاء الخادم بخمسمائة دينارٍ فقال: خذها ولا تقطعنا، وأصلح ما شعثت منا. وروى ابن السائب الكلبي أن هشام بن عبد الملك قال يوماً لقوامه على خيله: كم أكثر ما ضمت حلبة من الخيل في الجاهلية والإسلام؟ قالوا: ألف فرسٍ وقيل ألفان، فأمر أن يؤذن بالناس بحلبةٍ تضم أربعة آلاف فرسٍ، فقيل له: يا أمير المؤمنين يحطم بعضها بعضاً فلا يتسع لها طريق، فقال: نطلقها ونتوكل على الله، والله الصانع. فجعل الغاية خمسين ومائتي غلوةٍ، والقصب مائةً، والمقوس ستة أسهمٍ، وقاد إليه الناس من كل أوبٍ، ثم برز هشام إلى دهناء الرصافة قبيل الحلبة بأيامٍ، فأصلح طريقاً واسعاً لا يضيق بها، فأرسلت يوم الحلبة بين يديه وهو ينظر إليها تدور حتى ترجع، وجعل الناس يتراؤونها حتى أقبل الزابد كأنه ريح لا يتعلق به شيء حتى دخل سابقاً وأخذ القصبة، ثم جاءت الخيل بعد ذلك أفذاذاً وأفواجاً، ووثب الرجاز يرتجزون، منهم المادح للزابد، ومنهم المادح لفرسه، ومنهم المادح لخيل قومه، فوثب حفص الأموي مولاهم وقام مرتجزاً يقول:
إن الجواد السابق الإمام ... خليفة الله الرضي الهمام
أنجبه السوابق الكرام ... من منجباتٍ ما لهن ذام
كرائم يجلى بها الظلام ... أم هشامٍ جدها القمقام
وعائش يسمو بها الأقوام ... خلائف من نجلها أعلام
إن هشاماً جده هشام ... مقابل مدابر هضام
جرى به الأخوان والأعمام ... فحل كفحل كلهم قدام
سنوا له السبق وما استقاموا ... حتى استقام حيث استقاموا

وأحرز المجد الذي أقاموا ... أطلق وهو يفع غلام
في حلبةٍ تم لها التمام ... من آل فهرٍ وهم السنام
فبذها سبقاً وما ألاموا ... كذلك الزابد يوم قاموا
أتى ببدء الخيل ما يرام ... مجلياً كأنه حسام
سباق غايات لها ضرام ... لا يقبل العفو ولا يضام
ويل الجياد منهماذا راموا ... سهم تفر دونه السهام
فأعطاه هشام يومئذٍ ثلاثة آلاف درهمٍ، خلع عليه ثلاث حللٍ من جيد وشي اليمن، وحمله على فرسٍ من خيله السوابق، وانصرف معه ينشده الرجز حتى قعد في مجلسه، وأمره بملازمته. فكان أثيراً عنده، وقال حفص أيضاً:
لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا ... وسال غرب دمعه فلخا
وكان أكلاً كله وشخاً ... تحت رواق البيت يخشى الدخا
حفص بن سليمان بن المغيرةأبو عمر بن أبي داود الأسدي الكوفي الفاخري البزاز نسبته لبيع البر، وهو الإمام القارئ راوي عاصم بن أبي النجود، كان ربيب عاصم - ابن زوجته - فأخذ عنه القراءة عرضاً وتلقينا. قال حفص: قال لي عاصم: القراءة التي أقرأتك بها فهي التي قرأتها عرضاً على أبي عبد الرحمن السلمي عن عليس، والتي أقرأتها أبا بكرٍ بن عياشٍ فهي التي كنت أعرضها على زر بن حبيشٍ عن ابن مسعودٍ. ولد حفص سنة تسعين، ونزل بغداد فأقرأ بها وأخذ عنه الناس قراءة عاصمٍ تلاوةً، وجاور بمكة فأقرأ بها أيضاً. قال يحيى بن معينٍ: الرواية الصحيحة من قراءة عاصمٍ رواية حفصٍ، وكان أعلمهم بقراءة عاصمٍ، وكان مرجحاً على شعبة بضبط القراءة، وتوفي حفص بن سليمان سنة ثمانين ومائةٍ.
حفص بن عمر بن عبد العزيزابن صهبان بن عيسى بن صهبان، ويقال صهيب أبو عمر الدوري الأزدي البغداي المقرئ النحوي الضرير نزيل سامراً، راوي الإمامين أبي عمرو والكسائي، إمام القراء وشيخ العراق في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط، رحل في طلب القراءات، وقرأ بالحروف السبعة و بالشواذ وسمع من ذلك شيئاً كثيراً، وقرأ على أبي عمرو بن العلاء والكسائي وروى عنهما، وقرأ العربية على أبي محمدٍ يحيى بن المبارك اليزيدي. قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبلٍ يكتب عن عمر الدوري. وصنف كتاب: ما اتفقت ألفاظه ومعانيه من القرآن، وكتاب أجزاء القرآن وغير ذلك. والدوري نسبته إلى أبو عمر الدوري سنة ستٍ وأربعين ومائتين.
أبو حفصٍ الزكرمي العروضي
الأديب الشاعر، قال الحافظ أبو طاهرٍ السلفي في معجم الشعراء: أنشدني أبو القاسم ذربان ابن عتيق بن تميمٍ الكاتب قال: أنشدني أبو حفصٍ الزكرمي بإفريقية مما له بالأندلس وقد طولب بمكسٍ يتولاه يهودي:
ياأهل دانيةٍ لقد خالفتم ... حكم الشريعة والمروءة فينا
مالي أراكم تأمرون بضد ما ... أمرت ترى نسخ الإله الدينا
كنا نطالب لليهود بجزيةٍ ... وأرى اليهود بجزيةٍ طلبونا
ما إن سمعنا مالكاً أفتى بذا ... كلا ولا من بعده سحنونا
لا هؤلاء ولا الأئمة كلهم ... حاشاهم بالمكس قد أمرونا
أيجوز مثلي أن يمكس عدله ... لو كان يعدل وزنه قاعونا
ولقد رجونا أن ننال بعدلكم ... رفداً يكون على الزمان معينا
فالآن تقنع بالسلامة منكم ... لا تأخذوا منا ولا تعطونا
حفصة بنت الحاج الركونيشاعرة أديبة من أهل غرناطة، مشهورة بالحسب والأدب والجمال والمال. جيدة البديهة رقيقة الشعر أستاذة. وليت تعليم النساء في دار المنصور أمير المؤمنين عبد المؤمن بن عليٍ، وسألها يوماً أن تنشده فقالت ارتجالاً:
يا سيد الناس يا من ... يؤمل الناس رفده
أمننن على بطرسٍ ... يكون للدهر عده
تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده

أشارت بذلك إلى العلامة السلطانية، فإن السلطان كان يكتب بيده في رأس المنشور بخطٍ غليظٍ (الحمد لله وحده) فمن عليها وكتب لها بيده ما طلبت، وتولع بها أمير المؤمنين عبد المؤمن المذكور، وتغير بسببها على أبي جعفرٍ أحمد بن عبد الملك بن سعيدٍ العنسي، وكان عاشقاً لها متصلاً بها يتبادلان رسائل الغرام، ويتجاوبان تجاو بالحمام، وقد أدى ولع عبد المؤمن بها إلى قتل أبي جعفرٍ. ومما كتبته حفصة إلى أبي جعفرٍ:
رأست فما زال العداة بظلمهم ... وحقدهم النامي يقولون لم رأس؟
ومل منكر أن ساد أهل زمانه ... جموح إلى العليا نقي من الدنس؟
وبات معها أبو جعفرٍ في بستانٍ بحوزٍ مؤملٍ، فلما حان وقت الفراق قال:
رعى الله ليلاً لم يرع بمذممٍ ... عشية وارانا بحوز مؤمل
وقد خفقت من نحو نجدٍ أريجة ... إذا نفحت جاءت بريا القرنفل
وغرد قمري على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسروراً بما قد بدا له ... عناقٍ وضمٍ وارتشاف مقبل
فقالت:
لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ... ولا غرد القمري إلا لما وجد
فلا تحسن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمرٍ سوى كيما يكون لنا رصد
وقالت:
سلوا البرق الخفاق والليل ساكن ... أظل بأحبابي يذكرني وهنا
لعمري لقد أهدى لقلبي خفوقه ... وأمطر كالمنهل من مزنه الجفنا
وبلغها أن أبا جعفر بن سعيدٍ علق بجاريةٍ سوداء فأقام معها أياماً فكتبت إليه:
يا أظرف الناس قبل حالٍ ... أوقعه وسطه القدر
عشقت سوداء مثل ليلٍ ... بدائع الحسن قد ستر
لا يظهر البشر في دجاها ... كلا ولا يبصر الخفر
بالله قل لي وأنت أدرى ... بكل من هام في الصور
من الذي حب قبل روضاً ... لا نور فيه ولا زهر؟
فكتب إليها معتذراً:
لا حكم إلا لأمر ناهٍ ... له من الذنب يعتذر
له محيا به حياتي ... أعيذ مجلاه بالسور
كضحوة العيد في ابتهاجٍ ... وطلعة الشمس والقمر
بسعده لم أمل إليه ... إلا طريفاً له خبر
عدمت صبحي فاسود عشقي ... وانعكس الفكر والنظر
إن لم تلح يا نعيم روحي ... فكيف لا تفسد الفكر؟
وكتبت إلى بعض أصحابها:
أزورك أم تزور فإن قلبي ... إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وهل تخشى بأن تظما وتضحى ... إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل ... إباؤك عن بثينة يا جميل
وكان أبو حعفر بن سعيدٍ يوماً في منزله، وقد خلا ببعض أصحابه وجلسائه، فضرب الباب فخرجت جاريته تنظر من بالباب؟ فوجدت امرأةً فقالت لها: ما تريدين؟ فقالت: ادفعي لسيدك هذه البطاقة، فإذا فيها:
زائر قد أتى بجيد غزالٍ ... طامع من محبه بالوصال
بلحاظٍ من سحر بابل صيغت ... ورضابٍ يفوق بنت الدوالي
يفضح الورد ما حوى منه خد ... وكذا الثغر فاضح للآلئ
أتراكم بإذنكم مسعفيه ... أم لكم شاغل من الأشغال
فلما قرأ الرقعة قال: ورب الكعبة ما صاحب هذه الرقعة إلا حفصة، فبادر إلى الباب فلم يجدها فكتب إليها:
أي شغلٍ عن المحب يعوق ... يا صاحباً قد آن منه الشروق؟
صل وواصل فأنت أشهى إلينا ... من لذيذ المنى فكم ذا نشوق؟
لا وحبيك لا يطيب صبوح ... غبت عنه ولا يطيب غبوق
لا وذل الجفا وعز التلاقي ... واجتماعٍ إليه عز الطريق
وقالت:
أغار عليك من عيني وقلبي ... ومنك ومن زمانك والمكان

ولو أني جعلتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني
ماتت حفصة بمراكش سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ.
الحكم بن عبدل بن جبلةابن عمرو بن ثعلب بن عقال بن بلال بن سعد بن حبال بن نصر بن غاضرة، وينتهي نسبه إلى خزيمة بن مدركة، الأسدي الفاخري الكوفي، شاعر مجيد هجاء من شعراء الدولة اللأموية، كان ممن نفاه ابن الزبير من العراق كما نفى منها عمال بني أمية، فقدم دمشق ونال من عبد الملك بن مروان حظوةً فكان يدخل عليه ويسمر عنده، فقال ليلةً لعبد الملك:
يا ليت شعري وليت ربما نفعت ... هل أبصرن بني العوام قد شملوا
بالذل والأسر والتشريد إنهم ... على البرية حتف حيثما نزلوا
أم هل أراك بأكناف العراق وقد ... ذلت لعزك أقوام وقد نكلوا؟
فقال عبد الملك:
إن يمكن الله من قيسٍ ومن جدسٍ ... ومن جذامٍ ويقتل صاحب الحرم
نضرب جماجم أقوامٍ على حنقٍ ... ضرباً ينكل عنا غابر الأمم
ودخل يوماً على عبد الملك فقعد بين السماطينوقال: - أصلح الله الأمير - ، رؤيا رأيتها بالمنام أقصها عليك؟ فقال: هات، فأنشا يقول:
طلعت الشمس بعد غضارةٍ ... في نومةٍ ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك جدت لي بوليدةٍ ... مغنوجةٍ حسنٍ علي قيامها
وببدرةٍ حملت إلي وبغلةٍ ... شهباء ناجيةٍ يصل لجامها
فسألت ربي أن يثيبك جنةً ... يلقاك فيها روحها وسلامها
فقال: كل ما رأيت عندنا إلا البغلة فإنها دهماء فارهة فقال: امرأته طالق إن كان رآها إلا دهماء، ولكنه نسي فأمر عبد الملك أن يحمل إليه كل ما ذكر في شعره. ودخل ابن عبدلٍ على محمدٍ بن حسان بن سعدٍ وكان على خراج الكوفة، فكلمه في رجلٍ من العرب أن يضع عنه ثلاثين درهماً من خراجه، فقال محمد بن حسانٍ: أماتني الله إن كنت أقدر أن أضع من خراج أمير المؤمنين شيئاً، فانصرف ابن عبدلٍ وهو يقول:
دع الثلاثين لا تعرض لصاحبعا ... لا بارك الله في تلك الثلاثينا
لما علا صوته في الدار مبتكراً ... كإشتفانٍ يرى قوماً يدوسونا
أحسن فإنك قد أعطيت مملكةً ... إمارةً صرت فيها اليوم مفتونا
لا يعطك الله خيراً مثلها أبداً ... أقسمت بالله إلا قلت آمينا
ولما لم يضع من خراج الرجل شيئاً، قال ابن عبدلٍ فيه:
رأيت محمداً شرهاً ظلوماً ... وكنت أراه ذا ورعٍ وقصد
يقول أماتني ربي خداعاً ... أمات الله حسان بن سعد
ركبت إليه في رجلٍ أتاني ... كريمٍ يبتغي المعروف عندي
فقلت له وبعض القول نصح ... ومنه ما أسر له وأبدي
توق كرائم البكري إني ... أخاف عليك عاقبة التعدي
فما صادفت في قحطان مثلي ... ولا صادفت مثلك في معد
أقل براعةً وأشد بخلاً ... وألأم عند مسألةٍ وحمد
فقدت محمداً ودخان فيه ... كريح الجعر فوق عطين جلد
فأقسم غير مستنٍ يميناً ... أبا بخرٍ لتتخمن ردى
فلو كنت المهذب من تميمٍ ... لخفت ملامتي ورجوت حمدي
نكهت علي نكهة أخدريٍ ... شتيمٍ أعصل الأنياب ورد
فما يدنو إلى فمه ذئاب ... ولو طليت مشافره بتند
فإن أهديت لي من فيك حتفاً ... فإني كالذي أهديت مهدي
ولولا ما وليت لكنت فسلاً ... لئيم الكسب شأنك شأن عبد
وخطب محمد بن حسانٍ هذا بنتاً لطلبة بن قيس بن عاصمٍ المنقري فقال ابن عبدلٍ:
لعمري ما زوجتها لكفاءةٍ ... ولكنما زوجتها للدراهم
وما كان حسان بن سعدٍ ولا ابنه ... أبو البخر من أكفاء قيس بن عاصم
ولكنه رد الزمان على استه ... وضيع أمر المحصنات الكرائم
له ريقة بخراء تصرع من دنا ... وتنتن خيشوم الضجيع الملازم

خذي ديةً منه تكوني غنيةً ... وروحي إلى باب الأمير فخاصمي
وكان بالكوفة امرأة موسرة لها على الناس ديون كثيرة بالسواد، فأتت الحكم بن عبدلٍ وعرضت له بأنها تتزوجه إذا اقتضى لها ديونها، فقام ابن عبدلٍ بدينها حتى اقتضاه ثم طالبها بالوفاء فكتبت إليه:
سيخيطك الذي حاولت مني ... فقطع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشرٍ ... وكنت تعد ذلك رأس مال
وكان ابن عبدلٍ يأتي ابن بشرٍ بن مروان بالكوفة فيسأله فيقول له: أخمسمائةٍ أحب إليك العام أم ألف في قابلٍ؟ فيقول ألف في قابلٍ، فإذا أتاه من قابلٍ قال له: ألف إليك العام أم ألفان في قابلٍ؟ فيقول ألفان، فلم يزل كذلك حتى مات ابن بشرٍ ولم يعطه شيئاً. فدخل ابن عبدلٍ على عبد الملك بن مروان بعد ما جرى من المرأة، فقال له عبد الملك: ما أحدثت بعدي، قال: خطبت امرأةً من قومي فردت علي ببيتي شعرٍ، قال: وما هما؟ قال: قالت:
سيخيطك الذي حاولت مني
البيتان، فضحك عبد الملك وقال له: - لحاك الله - أذكرت بنفسك، وأمر له بألفي درهمٍ. وعن ابن الكلبي قال: كان الحكم بن عبدلٍ منقطعاً إلى بشر بن مروان وكان يأنس به ويقربه، وأخرجه معه إلى البصرة لما وليها، فرأى منه الحكم جفاءً لشغلٍ عرض عرض له فانقطع عنه شهراً ثم أتاه، فلما دخل عليه قال له بشر: يابن عبدلٍ ما لك انقطعت عنا وقد كنت لنا زواراً، فقال ابن عبدلٍ:
كنت أثني عليك خيراً فلما ... أضمر القلب من نوالك ياسا
كنت ذا منصبٍ قنيت حيائي ... لم أقل غير أن هجرتك باسا
لم أطق ما أردت بي يابن مروا ... ن ستلقى إذا أردت أناسا
يقبلون الخسيس منك ويثنو ... ن ثناء مدخمساً دخماسا
فقال له: لا نسومك الخسي ولا نريد منك ثناءً مدخمساً ووصله وكساه، ولما مات بشر جزع ابن عبدلٍ فقال يرثيه:
أصبحت جم البلابل الصدر ... متعجباً لتصرف الدهر
ما زلت أطلب في البلاد فتىً ... ليكون لي ذخراً من الذخر
ويظل يسعدني وأسعده ... في كل نائبةٍ من الأمر
حتى إذا ظفرت يداي به ... جاء القضاء بحينه جري
إني لفي همٍ يباكرني ... منه وهمٍ طارقٍ يسري
فلأصبرن وما رأيت دوا ... للهم غير عزيمة الصبر
والله ما استعظمت فرقته ... حتى أحاط بفضله خبري
وعن النضر بن شميلٍ قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو فقال: أنشدني أقنع بيتٍ للعرب، فأنشدته قول الحكم بن عبدلٍ:
إني امرؤ لم أزل وذاك من ال ... له أديباً علم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الد ... دار وإن كنت نازعاً طربا
لا أحتوي خلة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الر ... رزق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا
والعبد لا يحسن العطاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا ذهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
ولم أجد عزة الخلائق إل ... لا الدين لما اعتبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنسٍ رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر ... رحل ومن لا يزال مغتربا
وكان الحكم بن عبدلٍ أعرج، فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أعرج أيضاً وكان صاحب شرطته أعرج كذلك فقال:
ألق العصا ودع التعارج والتمس ... عملاً فهذي دولة العرجان
لأميرنا وأمير شرطتنا معاً ... لكليهما يا قومنا رجلان
فإذا يكون أميرنا ووزيرنا ... وأنا فجئ بالرابع الشيطان
وقال في بشر بن مروان:

ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشراً سهل الباب للتي ... يكون لبشرٍ بعدها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما رد طرفه ... حذار الغواشي باب دارٍ ولا ستر
الحكم بن معمر بن قنبرابن جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف بن محارب الخضري شاعر إسلامي، وكان مع تقدمه في الشعر سجاعاً كثير السجع، وكان هجاءً خبيث اللسان، وكان بينه وبين الرماح بن أبرد المعروف بابن ميادة مهاجاة ومواقف كان الغلب في أكثرها على الرماح فتهاجيا زماناً طويلاً، ثم كف ابن ميادة وسلأأله الصلح، فصالحه الحكم. وكان أول ما بدأ الهجاء بينهما أن ابن ميادة مر بالحكم وهو ينشد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في جماعةٍ من الناس قوله:
لمن الديار كأنها لم تعمر ... بين الكناس وبين برق محجر؟
حتى انتهى إلى قوله:
يا صاحبي ألم تشما بارقاً ... نضح الصراد به فهضب المنحر
قد بت أرقبه وبات مصعداً ... نهض المقيد في الدهاس الموقر
فقال له ابن ميادة: ارفع إلى رأسك أيها المنشد، فرفع الحكم رأسه فقال له: من أنت؟ قال: أنا الحكم ابن معمرٍ الخضري، قال:: فوالله ما أنت في بيت حسبٍ ولا في أرومة الشعر، فقال له الحكم: وماذا عبت في شعري؟ قال: عبت أنك أدهست وأوقرت. قال له الحكم: ومن أنت؟ قال: أنا ابن ميادة. قال: ويحك فلم رغبت عن أبيك وانتسب إلى أمك راعية الضأن، وأما إدهاسي وإيقاري، فإني لم آت خيبر لا ممتاراً ولا متحاملاً وما عدوت أن حكيت حالك وحال قومك، فلو سكت عن هذا كان خيراً لك وأبقى عليك، فلم يفترقا إلا عن هجاء.
وقال الحكم يهجو أم جحدرٍ بنت حسانٍ المرية وكانت فضلت ابن ميادة عليه:
ألا عوقبت في قبرها أم جحدرٍ ... ولا لقيت إلا الكلاليب والجمرا
كما حادثت عبداً لئيماً وخلته ... من الزاد إلا حشو رياطته صفرا
فيا ليت شعري هل رأت أم جحدرٍ ... أكنك أو ذاقت مغابنك الشقرا؟
وهل أبصرت أرساغ أبرد أو رأت ... قفا أم رماحٍ إذا ما استقت دفرا
وبالغمر قد صرت لقاحاً وحادثت ... عبيداً فسل عن ذاك نيان والغمرا
ومما قاله الحكم في ابن ميادة:
خليلي عوجا حييا الدار بالجفر ... وقولا لها سقياً لعصرك من عصر
وماذا تحيي من رسومٍ تلاعبت ... بها حرجف تذري بأذيالها الكدر
إذا يبست عيدان قومٍ وجدتنا ... وعيداننا تغشى على الورق الخضر
إذا الناس جاؤوا بالقروم أتيتهم ... بقرمٍ يساوي رأسه غرة البدر
لنا الغور والأنجاد والخيل والقنا ... عليكم وأيام المكارم والفخر
فيامر قد أخزاك في كل موطنٍ ... من اللؤم خلات يزدن على العشر
فمنهن أن العبد حامي ذماركم ... وبئس المحامي العبد عن حوزة الثغر
ومنهن أن لم تمسحوا وجه سابقٍ ... جوادٍ ولم تأتوا حصاناً على طهر
ومنهن أن الميت يدفن منكم ... فيقسو على دفانه وهو في القبر
ومنهن أن الجار يسكن وسطكم ... بريئاً فيرمى بالخيانة والغدر
ومنهن أن عذتم بأرقط كودنٍ ... وبئس المحامي أنت يا ضرط الجفر
ومنهن أن الشيخ يوجد منكم ... يدب إلى الجارت محدودب الظهر
يبيت ضباب الضغن يخشى احتراشها ... وإن هي أمست دونها ساحل البحر
أبو الحكم بن غلندو الإشبيليولد بإشبيلية وبها نشأ، وكان أديباً شاعراً جيد الشعر متفنناً بصناعة الطب، خدم بها المنصور أمير المؤمنين عبد المؤمن بن سعيدٍ فحظي عنده وقدم، وكان أبوه أيضاً في خدمة أبي يعقوب والد المنصور، وكان أبو الحكم حسن الحظ يكتب الخطين الأندلسي والمشرقي، وتوفي بمراكش سنة سبعٍ وثمانين وخمسمائةٍ. ومن شعره:
ماست فأزرت بالغصون الميس ... وأتتك تخطر في غلالة سندس
وتبرجت جنح الظلام كأنها ... شمس تجلت في دياجي الحندس

تختال بين لداتها فتخالها ... بدراً بدا بين الجواري الكنس
أرجت برياها الصبا فتضوعت ... أنفاسها والصبح لم يتنفس
وسرت إلينا في ملاءة سندسٍ بترفلٍ وتدللٍ وتبهنس
وتزلفت والليل مسبل جنحه ... والجو داجٍ من ظلام الحندس
وله:
لئن غبت عن عيني وشط بك النوى ... فأنت بقلبي حاضر وقريب
خيالك في وهمي وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
حكيم بن عياشٍ المعروف بالأعور الكلبي
شاعر مجيد كان منقطعاً إلى بني أمية بدمشق وسكن المزة بها ثم انتقل إلى الكوفة، وكان بينه وبين الكميت بن زيدٍ مفاخرة. وقدم أسامة خال الأعور على معاوية فقال له: اختر لك منزلاً فاختار المزة واقتطع فيها هة وعترته، فقال الأعور:
إذا ذكرت أرض لقومٍ بنعمةٍ ... فبلدة قومي تزدهي وتطيب
بها الدين والإفضال والخير والندى ... فمن ينتجعها للرشاد يصيب
ومن ينتجع أرضاً سواها فإنه ... سيندم يوماً بعدها ويخيب
تأتي بها خالي أسامة منزلاً ... وكان لخير العالمين حبيب
حبيب رسول الله وابن رديفه ... له ألفة معروفة ونصيب
فأسكنها كلباً فأضحت بليدة ... بها منزل رحب الجناب خصيب
فنصف على برٍ فسيحٍ رحابه ... ونصف على بحرٍ أغر يطيب
وكان الأعور يتعصب لليمن على مضر فقال:
ما سرني أن أمي من بني أسدٍ ... وأن ربي نجاني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم ... وأن لي كل يومٍ ألف دينار
وجاء رجل إلى عبد الله بن جعفرٍ فقال له: يابن رسول الله هذا حكيم الكلبي ينشد الناس هجاءكم بالكوفة فقال: هل حفظت منه شيئاً؟ قال: نعم وأنشده:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ ... ولم نر مهدياً على الجذع يصلب
وقستم بعثمانٍ علياً سفاهةً ... وعثمان خير من عليٍ وأطيب
فرفع عبد الله يديه إلى السماء وهما ينتفضان رعدةً فقال: اللهم إن كان كاذباً فسلط عليه كلباً، فخرج حكيم من الكوفة فأدلج فافترسه الأسد فأكله، وأتى البشير عبد الله وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخر لله تعالى ساجداً وقال: الحمد لله الذي صدقنا وعده.
حماد بن عمر بن يونس بن كليبٍ
الكوفي المعروف بحماد عجردٍ مولى بني سوءة بن عامر بن صعصعة، شاعر مجيد من طبقة بشارٍ، وكان بينهما مهاجاة، وهو أحد الحمادين الثلاثة، قال إبراهيم العامري: كان بالكوفة ثلاثة نفرٍ يقال لهم الحمادون: حماد عجردٍ، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، يتنادمون ويتعاشرون معاشرةً جميلةً ويتناشدون الأشعار، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكان يرمون بالزندقة جميعاً، وحماد عجردٍ من مخضرمي الدولتين، نادم الوليد بن يزيد ولم يشتهر إلا في الدولة العباسية، قدم بغداد في أيام المهدي هو ومطيع بن إياسٍ ويحيى بن زيادٍ فاشتهروا بها، وكان حماد ماجناً ظريفاً متهماً في دينه، وكان أحد الأئمة ينتقصه فلما بلغه ذلك كتب إليه:
إن كان نسكك لا يتم بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي حيث شئت لدى الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني وأنا المقيم على المعاصي
أيام تأخذها وتعطى في أباريق الرصاص
وسبب تسميته بعجردٍ أن إعرابياً مر به وهو غلام يلعب مع الصبيان في يومٍ شديد البرد وهو عريان فقال له الأعرابي: تعجردت يا غلام فسمي عجرداً، والمتعجرد: المتعري. وكتب لأبو النضير الجمحي الشاعر إلى حمادٍ يسأله عن حاله في الشراب ومن يعاشر عليه، فكتب إليه حماد:
أبا النضير اسمع كلامي ولا ... تجعل سوى الإنصاف في بالكا
سألت ما حالي وما حال من ... لم يلق إلا عابداً ناسكا؟
يظهر نسكاً ومتى يفترص ... يكن علي عادياً فاتكا
ومرض حماد فعاده أصدقاؤه جميعاً إلا مطيع بن إياسٍ، فكتب إليه حماد:
كفاك عيادتي من كان يرجو ... ثواب الله في صلة المريض
فإن تحدث لك الأيام سقماً ... يحول جريضه دون القريض

يكن طول التأوه منك عندي ... بمنزلة الطنين من البعوض
ومن شعر حماد عجردٍ:
إني أجحبك فاعلمي ... إن لم تكوني تعلمينا
حباً أقل قليله ... كجميع حب العالمينا
وقال:
فأقسمت لو أصبحت في قبضة الهوى ... لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري
ولكن بلائي منك أنك ناصح ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري
وقال في أبي العباس الطوسي:
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعزاقاً وعيدانا
فأنت أكرم من يمشي على قدمٍ ... وأنضر الناس عند المحل أغصانا
لو مج عود على قومٍ عصارته ... لمج عودك فينا المسك والبانا
وكان بين حمادٍ وبشار بن بردٍ ومطيع بن إياسٍ أهاجٍ كثيرة أعرضنا عن ذكرها لما فيها من السخف والمجون وتوفي حماد عجردٍ بالبصرة سنة إحدى وستين ومائةٍ في أصح الروايات.
حماد بن سلمة بن دينارٍ
الإمام أبو سلمة البصري، شيخ أهل البصرة في الحديث والعربية والفقه، أخذ عنه يونس بن حبيبٍ النحوي، وسئل أيما أسن أننت أم حماد؟ فقال: حماد أسن مني، ومنه تعلمت العربية. وكان سيبويه يستملي على حمادٍ فقال حماد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عنه علماً ليس أبا الدرداء). فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء. فقال له حماد: لحنت يا سيبويه، ليس أبا الدرداء. فقال: لا جرم لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً، فطلب النحو ولزم الخليل بن أحمد، وكان أبو عمرو الجرمي يقول: ما رأيت فقيهاً قط أفصح من عبد الوارث إلا حماد بن سلمة. وكان حماد يقول: من لحن في حديثي فقد كذب علي. وكان يمر بالحسن البصري في الجامع فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلم منهم. وكان مع تقدمه في العربية إماماً في الحديث ثقةً، ثبتاً حتى قالوا: إذا رأيت الرجل يقع في حمادٍ فاتهمه على الإسلام.
روى حماد عن ثابتٍ وأبي عمران الجوني وعبد الله بن كثير وابن مليكٍ وخلقٍ. وروى عنه مالك وسفيان وشعبة وابن مهدي وعفان وأمم. وقال عمرو بن سلمة: كتبت عند حماد بن سلمة بضعة عشر ألف حديثٍ. وقال ابن المديني: كان عند يحيى بن الضرير عن حماد عشرة آلاف حديثٍ. وقال يحيى بن معينٍ: هو أعلم الناس بثابتٍ. وقال أحمد بن حنبل: حماد أعلم الناس بحديث خاله حميدٍ الطويل وأثبتهم فيه. وقال أحمد ويحيى: هو ثقة الناس. وقال رجل لعفان: أحدثك عن حمادٍ؟ قال: من حماد ويلك؟ قال: ابن سلمة، قال: هلا هلا قلت أمير المؤمنين. وقال ابن عديٍ: حماد إمام جليل، وهو مفتي أهل البصرة مع سعيد بن أبي عروبة.
وقال إسحاق بن الطباع: قال لي سفيان بن عيينة: العلماء ثلاثة: عالم بالله وبالعلم، وعالم بالله ليس بعالمٍ بالعلم، وعالم بالعلم ليس بعالمٍ بالله. قال ابن الطباع: الأول كحماد بن سلمة، والثاني مثل أبي الحجاج والثلث كأبي يوسف.
وقال ابن المديني: من سمعتموه يتكلم في حمادٍ فاتهموه. واحتج مسلم بحماد بن سلمة في أحاديث عدةٍ في الأصول من حديثه عن ثابتٍ، وأخرج له الأربعة إلا البخاري، فنكت ابن حيان على البخاري، ولم يسمه، حيث احتج بابن دينارٍ وابن عياشٍ وابن أخي الزهري وترك حماداً فقال: لم ينصف من جانب حديث حمادٍ، واحتج بأبي بكر بن عياش وعبد الرحمن بن دينارٍ وابن أخي الزهري. وقالحماد بن زيدٍ: ما كنا نرى أحداً يتعلم بنيةٍ غير حمادٍ، وما نرى اليوم من يعلم بنيةٍ غيره. وقال وهيب: كان حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا، وكان إماماً في العربية فصيحاً مفوهاً، مقرئاً فقيهاً، شديداً على المبتدعة، وله تآليف، ولم يكن له كتاب غير كتاب قيس بن سعدٍ، يعني كان يحفظ علمه. مات حماد في ذي الحجة سنة سبعٍ وستين ومائةٍ، وقيل سنة تسع وستين في خلافة المهدي، ورثاه اليزيدي بأبياتٍ أولها:
يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد
يعني حماد بن سلمة وأبا عمرو بن العلاء.
حماد بن ميسرة بن المبارك

ابن عبيدٍ الديلمي، مولى بني بكر بن وائلٍ، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل، الكوفي المعروف بالرواية. قال المدائني: كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته وعن الهيثم بن عديٍ صاحبه وروايته قال: قال الوليد بن يزيد لحمادٍ الراوية: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعرٍ تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً لقديمٍ ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال: إن هذا لعلم وأبيك كبير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيراً، ولكني أنشدك على كل حرفٍ من حروف المعجم مائة قصيدةٍ كبيرةٍ، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا وأمره يالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلين وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهمٍ.
وروى عن حمادٍ الراوية أنه قال: كنت منقطعاً إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إليه إلى هشامٍ خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سراً، فلما لم أسمع أحد يذكرني أمنت فخرجت وصليت الجمعة في الرصافة، ثم جلست عند باب الفيل، فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت أحذره، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبداً ثم أصير معكما إلى الأمير؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت إليهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه، فرمى إلي كتاباً فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " من عبد الله هشامٍ أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد: فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حمادٍ الراوية من يأتيك به غير مروعٍ ولا متعتعٍ وادفع إليه خمسمائة دينارٍ وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلةً إلى دمشق، فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول، فركبته وسرت اثنتي عشرة ليلةً حتى وافيت باب هشامٍ، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دارٍ قوراء مفروشةٍ بالرخام. وهو في مجلسٍ مفروشٍ بالرخام بين كل رخامتين قضيب ذهبٍ، وهشام جالس على طنفسةٍ حمراء، وعليه ثياب خزٍ حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهبٍ يقلبه بيده فيفوح، فسلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط وفي أذني كل واحدةٍ منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقلت: بخيرٍ يا أمير المؤمنين. قال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: بعثت إليك بسبب بيتٍ خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوماً ... قينة في يمينها إبريق
فقلت: هذا يقوله عدي بن زيدٍ المبادي في قصيدةٍ له، قال: فأنشدنيها فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الب ... ح يقولون لي ألا تستفيق؟
ويلومون فيك يا ابنة عبد الل ... ه و القلب عندكم موهوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق؟
زانها حسنها وفرع عميم ... وأثيث صلت الجبين أنيق
وثنايا مفلجات عذاب ... لا قصار ترى ولا هن روق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقارٍ كعين الد ... ديك صفى سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كالد ... در صغار يثيرها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحابٍ ... لا صرىً آجن و لا مطروق

قال: فطرب هشام ثم قال: أحسنت يا حماد. يا جارية اسقيه، فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي وقال: أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي الثاني، فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، فقال لي هشام: سل حاجتك، قلت: كائنةً ما كانت؟ قال: نعم، قلت: إحدى الجاريتين، فقال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربةً لم أعقل بعدها حتى أصبحت، فإذا بالجاريتين عند رأسي وعدةٍ من الخدم مع كل واحد منهم بدرة، فقال لي أحدهم: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فأصلح بها شأنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت إلى أهلي. قال الهيثم بن عديٍ: ما رأيت رجلاً أعلم بكلام العرب من حمادٍ، وقال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهماً بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب، وقال المفضل الضبي: قد سلط على الشعر من حمادٍ الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايةٍ أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجلٍ، ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالمٍ ناقدٍ وأين ذلك؟. وذكر أبو جعفرٍ أحمد بم محمدٍ النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقةً على الكعبة.
ولحمادٍ أخبار طوال اقتصرنا على ما ذكرناه منها، وكانت ولادته في سنة خمسٍ وتسعين، وتوفي سنة خمسٍ وخمسين ومائةٍ. رثاه ابن كناسة الشاعر بقوله:
لو كان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخي ثقةٍ ... لم يك فس صفو وده كدر
فهكذا يفسد الالزمان ويف ... نى فيه ويدرس الأثر
حماس بن ثاملٍ مولى عثمان بن عفان
شاعر إسلامي من مخضرمي الدولتين أدرك أيام السفاح، وكان يوماً في مجلسه فذكر إسماعيل بن عبد الله القسري بني أمية فذمهم وسبهم، فقال حماس للسفاح: يا أمير المؤمنين، أيسب هذا بني عمك وعمالهم وهو رجل اجتمع والخريت في نسبٍ؟ إن بني أمية لحمك ودمك فكلهم ولا تأكلهم، فقال له: صدقت، وأمسك إسماعيل فلم يحر جواباً. ومن شعر حماسٍ:
الله نجى قلوصي بعد ما علقت ... من الأمير ومن عمرو بن سيار
بحلفةٍ من يمينٍ غير صادقةٍ ... حلفتها ثم لم تلحقن بالنار
إحلف يميناً ما خفت مضلعةً ... وتب إلى غافرٍ للذنب غفار
حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطابالخطابي، من ولد زيدٍ بن الخطاب أبو سليمان البستي، نسبة إلى مدينة بست في بلاد كابل، كان محدثاً فقيهاً أديباً شاعراً لغوياً، أخذ اللغة والأدب عن أبي عمر الراهد، وأبي عليٍ إسماعيل الصفار، وأبي جعفرٍ الزاز وغيرهم من علماء العراق، وتفقه بالقفال الشاشي، وروى عنه الحافظ أبو عبد الله بن البيع المعروف بالحاكم النيسابوري، والحافظ المؤرخ عبد الغفار بن محمدٍ الفارسي صاحب السياق لتاريخ نيسابور، وأبو القاسم عبد الوهاب الخطابي وخلق.
قال الحافظ أبو المظفر السمعاني: كان حجةً صدوقاً رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان وخرج إلى ما وراء النهر. وقال الثعالبي: كان يشبه في عصرنا بأبي عبيدٍ القاسم في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً، إلا أنه كان يقول شعراً حسناً. وكان أبو عبيدٍ مفحماً. ولأبي سليمان كتب من تآليفه أشهرها وأسيرها: كتاب غريب الحديث، و وهو غاية الحسن والبلاغة، وله أعلام السنن في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وكتاب إصلاح غلط المحدثين، وكتاب العزلة، وكتاب شأن الدعاء، وكتاب الشجاج وغير ذلك. ولد في رجبٍ سنة تسع عشرة وثلاثمائةٍ، وتوفي ببلده بست سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، وقيل سنة ستٍ وثمانين، والأول أصح. ومن شعره:
إذا خلوت صفا ذهني وعارضني ... خواطر كطراز البرق في الظلم
وإن توالى صياح الناعقين على ... أذني عرتني منه لكنة العجم
وقال:

لعمرك ما الحياة وإن حرصنا ... عليها غير ريحٍ مستعاره
وما للريح دائمةً هبوب ... ولكن تارةً تجري وتاره
وقال:
وما غمة الإنسان من شقة النوى ... ولكنها والله من عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وقال:
تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستقص قط كريم
ولا تغل في شيءٍ من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال:
قد أولع الناس بالتلاقي ... والمرء صب إلى هواه
وإنما منهم صديقي ... من لا يراني ولا أراه
وقال:
شر السباع الضواري دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشرٍ سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشراً لم يؤذه بشر
وقال:
ما دمت حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليلٍ نديماً للندامات
حمدان بن عبد الرحيم الأثاربيكان طبيباً أديباً شاعراً دائباً في طلب العلم، يحضر مجالس العلماء وأهل الأدب ويصحب من لقيه منهم ويلازمه. مات بعد سنة أربعٍ وخمسين وخمسمائةٍ. ومن شعره:
لا جلق رقن لي معالمها ... ولا أطبتني أنهار بطنان
ولا ازدهتني بمنبجٍ فرص ... راقت لغيري من آل حمدان
لكن زماني بالجزر ذكرني ... طيب زماني وفيه أبكاني
يا حبذا الجزر كم نعمت به ... بين جنانٍ ذوات أفنان
واجتاز بحمدان في بعض السنين الأمير مهند الدولة ابن الخشيني فأنزله في الأثارب وأقام عنده أشهراً، فلما وافى هلال رمضان قال الأمير:
لله من قمرٍ رآني معرضاً ... عنه وإعراضي حذار وشاته
طلع الهلال فقلت أعمل حيلةً ... في قبلةٍ أجني جنى وجناته
فمضى وقال تصدين قمر الهوى ... لترى الهلال رقي إلى درجاته
فأنا وحق هواك أبعد مرتقىً ... منه وتأثيري كتأثيراته
أنا كامل أبداً وذلك ناقص ... فاجهد بوصفي ممعناً وصفاته
حمدة ويقال حمدونةبنت زياد بن تقيٍ من قرية بادي من أعمال وادي آشِ، كان أبوها زياد مؤدباً وكانت أديبةً نبيلةً شاعرةً ذات جمالٍ ومالٍ مع العفاف والصون، إلا أن حب الأدب كان يحملها على مخالظة أهله مع نزاهة موثوقٍ بها، وكانت تلقب بخنساء المغرب وشاعرة الأندلس. وروى عنها أبو القاسم بن البراق قال: أنشدتنا حمدة العوفية لنفسها وقد خرجت متنزهةً بالرملة من نواحي وادي آشٍ، فرأت ذات وجهٍ وسيمٍ أعجبها فقالت:
أباح الدمع أسراري بوادي ... له في الحسن آثار بوادي
فمن نهرٍ يطوف بكل روضٍ ... ومن روضٍ يرف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة إنسٍ ... سبت لبىً وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في أفق السواد
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالسواد
وقد نسب إليها أهل المغرب الأبيات الشهيرة المنسوبة للمنازي الشاعر وهي:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإٍ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حاليةً العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم

أجمع أدباء المشرق على نسبة هذه الأبيات للمنازي وهو أحمد بن يوسف المنازي المتوفي سنة سبعٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، وأنه عرضها على أبي العلاء المعري فجعل المنازي كلما أنشده المصراع الأول من كل بيتٍ سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني كما نظمه المنازي، ونسبها أدباء الأندلس ومؤرخوها إلى حمدة وجزم بذلك طائفة منهم، وفيهم من رواها لها قبل أن يخلق المنازي والله تعالى أعلم. ومن شعر حمدة أيضاً:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارةٍ ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
حمزة بن أسد بن علي بن محمدٍ
أبو يعلى المعروف بابن القلانسي التميمي الأديب الشاعر المؤرخ، كان من أعيان دمشق ومن أفاضلها المبرزين ولي رياسة ديوانها مرتين، وبها توفي سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائةٍ. وله تاريخ للحوادث ابتدأ به من سنة إحدى وأربعين وأربعمائةٍ إلى حين وفاته، وكانت له عناية بالحديث، وله كتب عليها سماعه، ومن شعره:
إياك تقنط عند كل شديدةٍ ... فشدائد الأيام سوف تهون
وانظر أوائل كل أمرٍ حادثٍ ... أبداً فما هو كائن سيكون
وقال أيضاً:
يا من تملك قلبي طرفه فغدا ... معذباً بين أشواقٍ وأشجان
أمنن بوصلٍ لعلي أستجير به ... من سطوة النين في صدٍ وهجران
مالي منيت بممنوعٍ يعذبني ... ولا يزيد فؤادي غير أحزاني
لا برد الله قلبي من تحرقه ... إن شبت حبي له يوماً بسلوان
إذا ترنم قمري على فننٍ ... في ليلةٍ زاد في حزني وأشجاني
وكم أسر غرامي ثم أعلنه ... وليس يخفى بكم سري وإعلاني
لا برد الله شوقي إن نويت لكم ... تغيراً ما بأشكال وألوان
وقال:
يا نفس لا تجزعي من شدةٍ عظمت ... وأيقني من إله الخلق بالفرج
كم شدةٍ عرضت ثم انجلت ومضت ... من بعد تأثيرها في المال والمهج
حمزة بن بيضٍ الحنفي الكوفي
أحد بني بكر بن وائلٍ، شاعر مقدم مجيد من شهراء الدولة الأموية، كان منقطعاً إلى المهلب وولده، ثم انقطع إلى الأمير بلال بن أبي بردة، ووفد على سليمان بن عبد الملك وامتدحه قبل الخلافة فقال:
أتينا سليمان الأمير نزوره ... وكان أمرأً يحبى ويكرم زائره
إذا كنت بالنجوى به متفرداً ... فلا الجود مخليه ولا البخل حاضره
كفى سائليه سؤلهم من ضميره ... عن البخل ناهيه وبالجود آمره؟
ودخل عليه وعنده يزيد بن المهلب فقال:
حاز الخلافة والداك كلاهما ... ما بين سخطة ساخطٍ أو طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثالثاً ... وعلى جبينك نورملكٍ رابع
سريت خوف بني المهلب بعدما ... نظروا السبيل بسم موتٍ ناقع
ليس الذي أولاك ربك منهم ... عند الأله وعندهم بالضائع
فأمر له بخمسين ألف درهمٍ، وقال في سليمان أيضاً:
لم تدر ما لا فلست قائلها ... عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر بتلك ممترياً ... فيها وفي أختها ولم تكد
وهي على أنها الخفيفة أث ... قل حملاً عليك من أحد
لما تعودت من نعم فنعم ... ألذ في فيك من جني الشهد
إلا يكن عاجل تعجله ... لنا لئلا تقول لا فعد
وما تعد في غدٍ يكن غدك ال ... وافد للسائلين خير غد
ودخل على يزيد بن المهلب يوم جمعةٍ وهو يتأهب للمضي إلى المسجد وجاريته تعممه فضحك، فقال له يزيد: مم تضحك؟ قال: من رؤيا رأيتها، إن أذن الأمير قصصتها، قال قل: فأنشأ يقول:
رأيتك في المنام سننت خزاً ... على بنفسجاً وقضيت ديني
فصدق يا هديت اليوم رؤيا ... رأتها في المنام كذا عيني

قال: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفاً، قال: قد أمرنا لك بها ومثلها، ثم قال: يا غلمان فتشوا الخزائن فجيئوه بكل جبة خزٍ بنفسجٍ تجدونها فجاؤوا بثلاثين جبةً، فنظر إليه يلاحظ الجارية فقال: يا جارية عاوني عمك على قبض الجباب، فإذا وصلت إلى منزله فأنت له، فأخذها والجباب وانصرف، وقال في يزيد بن المهلب أيضاً:
ومتى يؤامر نفسه مستخلياً ... في أن تجود لدى السؤال تقول جد؟
أة أن يعود لنا بنفحة نائلٍ ... بعد الكرامة والحباء تقول عد
أو في الزيادة بعد جزل عطائه ... للمستزيد من العفاة تقول زد
أو في الوفود على فقيرٍ موبقٍ ... بخلت أقاربه عليه تقول فد
أو في ورود شريعةٍ محفوفةٍ ... بالمشرفية والرماح تقول رد
ونعم بفيه ألذ حين يقولها ... طعماً من العسل المدوف بماء ورد
ولما خرج زيد بن عليٍ على هشامٍ منع أهل مكة والمدينة أعطياتهم سنةً، فقال حمزة بن بيضٍ في ذلك:
وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ... زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاماً كان حياً يسوسنا ... وكنا كما كنا نرجى ونطمع
ولما ولي أبو لبيدٍ البجلي - ابن أخت خالدٍ القسري - أصبهان، وكان رجلاً متنسكاً خرج حمزة بن بيضٍ في صحبته فقيل له: إن مثل حمزة لا يصحب مثلك، لأنه صاحب كلابٍ ولهوٍ، فبعث إليه ثلاثة آلاف درهمٍ وأمره بالانصراف فقال:
يابن الوليد المرتجى سيبه ... ومن يجلي الحندس الحالكا
سبيل معروفك مني على ... بالٍ فما بالي على بالكا؟
حشو قميصي شاعر مفلق ... والجود أمسى حشو سربالكا
يلومك الناس على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرامكا
إن كنت لا تصحب إلا فتىً ... مثلك لن تؤتى بأمثالكا
إني امرؤ حيث يريد الهوى ... فعد عن جهلي بإسلامكا
قال له أبو لبيدٍ: صدقت وقرب منزلته. وقال النضربن شميلٍ دخلت على المأمون بمرو فقال: يا نضر أنشدني أخلب بيتٍ للعرب، قلت هو قول ابن بيضٍ في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها ... وأي وجهٍ إلا إلأى الحكم؟
متى يقل حاجباً سرادقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلاً ... والآن إذ حل فاعطني سلمي
فقال المأمون: لله درك! فكأنما شق لك عن قلبي. وأودع حمزة عند ناسكٍ ثلاثين ألفاً، ومثلها عند نباذٍ، فأما الناسك فبنى بها داراً وزوج بناته فانفقها وجحدها، وأما النباذ فأدى إليه ماله، فقال في ذلك:
ألا لا يغرك ذو سجدةٍ ... يظل بها دائماً يخدع
كأن بجبهته حبةً ... تسبح طوراً وتسترجع
وما للتقى لزمت وجهه ... ولكن ليغتر مستودع؟
ولا تنفرن من أهل النبيذ ... وإن قيل يشرب لا يقلع
فعندك علم بما قد خبر ... ت إن كان علمي بها ينفع
ثلاثون ألفاً حواها السجود ... فليست إلى أهلها ترجع
بنى الدار من غير أمواله ... فأصبح في بيته يرتع
مهائر من مالهم قد حرم ... ن ظلماً فهم سغب جوع
وأدى أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في رده أطمع
ونزل بقومٍ فأساؤوا لبغلته وطرحوا لبغلته تبناً رديئاً فعافته، فأشرف عليها فشحجت حين رأته فقال:
إحسبيها ليلةً أدلجتها ... فكلي إن شئت تبناً أو ذري
قد أتى مولاك خبز يابس ... فتغدى فتغدي واصبري
ولحمزة بن بيضٍ أخبار حسان مع عبد الملك بن مروان وابنه وآل المهلب يطول ذكرها. توفي سنة ست عشرة ومائةٍ، وقيل عشرين ومائةٍ، والأول أصح.
حمزة بن حبيب بن عمارة

ابن إسماعيل الإمام أبو عمارة التيمي تيم الله ولاءً وقيل نسباً، الكوفي المعروف بالزيات، وقيل له الزيات لأنه كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة: وهو الإمام الحبر شيخ القراء وأحد السبعة الأئمة، ولد سنة ثمانين وأدرك الصحابة بالسن، فيحتمل أن يكون رأى بعضهم. أخذ القراءة عرضاً عن الأعمش والإمام جعفر بن محمدٍ الصادق وابن أبي ليلى، وحمران بن أعين. وروى عن الحكم وعدي ابن ثابت وحبيب بن أبي ثابتٍ وطلحة بن مطرفٍ. وأخذ القراءة عنه إبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، وعلي بن حمزة الكسائي وغيرهم. وروى عنه يحيى ابن آدم، وحسين الجعفي وخلق، وإليه المنتهى في الصدق والورع والتقوى، وإليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصمٍ والأعمش، وكان إماماً حجةً ثقةً ثبتاً رضياً قيماً بكتاب الله، بصيراً بالفرائض، خبيراً بالعربية، حافظاً للحديث، عابداً زاهداً خاشعاً قانتاً لله ورعاً عديم النظير. قال الأعمش يوماً وقد رأى حمزة مقبلاً: (وبشر المحسنين) وقال ابن فضيلٍ: ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة. وعن شعيب بن حربٍ أنه قال: ألا تسألوني عن الدر يعني قراءة حمزة؟ وكان شيخه إذا رآه مقبلاً يقول: هذا حبر القرآن. وقال سفيان الثوري: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وقال له أبو حنيفة: شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما: القرآن والفرائض. وقد وثقه يحيى بن معينٍ وقال: حسن الحديث عن ابن إسحاق يعني ابن أبي ليلى، ووثقه آخرون. وقال النسائي: ليس به بأس. وأما ما ذكر عن أحمد بن حنبلٍ وأبي بكر بن عياشٍ ويزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهديٍ وعبد الله بن إدريس وحماد بن زيدٍ من كراهتهم لقراءة حمزة لما فيها من المد المفرط والسكت واعتبار الهمزة في الوقف والإمالة ونحو ذلك من التكلف، فإن حمزة أيضاً كان يكره ذلك وينهى عنه، وروي أنه كان يقول لمن يفرط في المد والهمز لا تفعل، أما علمت أن ما فوق البياض فهو برص، وما فوق الجعودة فهو قطط، وما فوق القراءة فهو ليس بقراءةٍ. وبعدٍ: فقد انعقد الإجماع على تلقي قراءة حمزة بالقبول والإنكار على من تكلم فيها. توفي حمزة بحلوان مدينته في آخر سأواد العراق سنة ستٍ وخمسين ومائةٍ، وقيل سنة ثمانٍ وخمسين ومائةٍ، وله ست وسبعون سنة.
الجزء الحادي عشر
حمزة بن علي أبو يعلىابن العين زربي نسبةً إلى عين زربي، الأديب الشاعر. قتل في الوقعة التي كسر فيها أتسز بن أوق سنة ستٍ وخمسين وخمسمائةٍ، ومن شعره هذه القصيدة وهي من بحر السلسلة قال:
هل تأمنُ يبقى لك الخليط إذا بان ... للهم فؤاداً وللمدامع أجفان؟
أتطمع في سلوة وجسمك حالٍ ... بالسقم ومن حبهم فؤاده ملآن؟
تبغي أملاً دونهُ حشاشة نفسٍ ... وفي الحشى مني هوى تضاعف أشجان
اعتل لأجفاني القريحة أجفان ... إذ بان ركابٌ من العقيق إلى البان
فالدمع إذا ما استمر فاض نجيعاً ... والحب إذا ما استمر ضاعف أشجان
لله وجوه بدت لنا كبدور ... حسناً وقدودٌ غدت تميس كأغصان
إذا عزموا عزمة الفراق أعاروا ... للقلب هموماً تحل فهي وأحزان
سقياً لزمانٍ مضى ففرق شملاً ... أيام حلا لي العيش والوصال بحلوان
يا ساكنة في الحشا ملكت فؤاداً ... أضحت حرق الوجد فهي تضرم نيران
حتام تمنى الفؤاد منك بوعدٍ؟ ... هل ينقع لمع السراب غلة عطشان؟
حتام أرى راجياً وصال حبيب ... قد أسرف في هجره وأصبح خوان
وقال:
تناسيتم عهد الوفا بعد تذكار ... فأجرى حديثي فيكم دمعي الجاري
وأنكرتموني بعد عرفان صبوني ... فهيجتم وجدي وأضرمتم ناري
وهل دام في الأيام وصلٌ لهاجرٍ ... وود لخوانٍ وعهد لغدار؟
ألا حاكم لي في الغرام يقيلني ... ألا آخذ لي بعد سفك دمي ثاري؟؟
وإني لصبار على ما ينويني ... ولكن على هجرانكم غير صبار
وقال:

يا راكباً عرض الفلاة ألا ... بلغ أحباي الذي تسمع
وقل لهم ما جف لي مدمع ... ولم يطب لي بعد كم مضجع
ولا لقيت الطيف مذ غبتم ... وإنما يلقاه من يهجع
وقال:
ألمال يرفع ما لا يرفع الحسب ... والود يعطف ما لا يعطف النسب
والحلم آفته الجهل المضر به ... والعقل آفته الإعجاب والغضب
حميد بن ثور بن عبد اللهوقيل ابن حزن بن عامر بن أبي ربيعه بن نهيك بي هلال الهلالي، ويتصل نسبه بنزار بن معد أبو المثني أحد المخضرمين من الشعراء، أدرك الجاهلية والإسلام، وقيل إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن مندة لما أسلم حميد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأنشده:
أصبح قلبي من سليمى مقصداً ... إن خطأ منها وإن تعمدا
فحمل الهم كنازاً جلعدا ... ترى العليفي عليه موكدا
وبين نسعيه خدباً ملبداً ... إذا السراب بالفلاة اطردا
ونجد الماء الذي توردا ... تورد السيد أراد المرصدا
حتى أراد ربنا محمدا
وقيل إن حميداً قال الشعر في أيام عمر رضي الله عنه. حدث محمد بن فضالة النحوي قال: عمر بن الخطاب إلى الشعراء ألا يشبب أحد بامرأةٍ، فقال حميد بن ثورٍ:
أبي الله إلا أن سرحة مالكٍ ... على كل أفنان العضاة تروق
فقد ذهبت عرضاً وما فوق طولها ... من السرح إلا عشة وسحوق
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من بعد العشي تذوق
فهل أنا إن عللت نفس بسرحةٍ ... من السرح مسدود علي طريق؟
كنى عن المرأة التي أرادها بالسرحة، والعرب تكنى عن النساء بها. وقال:
لقد أمرت بالبخل أم محمدٍ ... فقلت لها حتى على البخل أجمدا
فإني امرؤ عودت نفسي عادةً ... وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا
أحين بدا في الرأس شيب وأقبلت ... إلى بنو عيلان مثنى وموحدا
رجوت سقاطي واعتلالي ونبوتي ... وراءك عني طالقاً وارحلي غدا
وقال:
فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوةً سنتوب
ليالي سمع الغانيات وطرفها ... إلى وإذ ريحي لهن جنوب
وقال:
لو لم يوكل بالفتى ... إلا السلامة والنعم
وتناوباه لأوشكا ... أن يسلماه إلى الهرم
وقال:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حرٍ مغرمٍ فترنما
بكت مثل ثكلى قد أصيب حميمها ... مخافة بين يترك الحبل أجذما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شافه صوت أعجما
وقال أيضاً لما حظر عمر على الشعراء ذكر النساء:
تجرم أهلوها لأن كنت مشعراً ... جنوناً بها يا طول هذا التجرم
ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسملي
بلى فاسلمي ثمت اسملي ... ثلاث تحياتٍ وإن لم تكلمي
وقال لزوجته:
فاقسم لولا أن حدباً تتابعتْ ... على ولم أبرح بدينٍ مطردا
لزاحمت مكسالاً كأن ثيابها ... تجن غزالاً بالخميلة أغيدا
إذا أنت باكرت المنيئة باكرت ... مداكاً لها من زعفرانٍ وإنمدا
مات حميد بن ثورٍ في خلافة عثمان - رضي الله عنه - .
حميد بن مالكٍ الأرقط
ولقب بالأرقط لآثار كانت بوجهه، وهو شاعر إسلامي مجيد وكان بخيلاً. قال أبو عبيدة: بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان. ومن شعر حميد:
وقد اغتدى والصبح محمر الطرر ... والليل يحدوه تباشير السحر
وفي تواليه نجوم كالشرر ... بسحق الميعة ميال العذر
كأنه يوم الرهان المحتضر ... وقد بدا أول شخص ينتظر
دون أثابي من الخيل زمر ... ضارٍ غدا ينفض صيبان المطر
عن زف ملحاح بعيد المنكدر ... أقنى تظل طيره على حذر

يلذن منه تحت أفنان الشجر ... من صادق الودق طروحٍ بالبصر
بعيد توهيم الوقاع والنظر ... كأنما عيناه في حرفي حجر
بين مآقٍ لم تخرق بالإبر
وقال في وصف أفعى:
منهرت الشدق رقود الضحى ... سارٍ طمور بالدجنات
وتارة تحسبه ميتاً ... من طول إطراق وإخبات
يسبته الصبح وطوراً له ... نفخ ونقب في المغارات
حميد بن مالك بن مغيثابن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذٍ مكين الدولة أبو الغنائم الكناني. ولد بشيزر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وبها نشأ، ثم انتقل إلى دمشق وسكنها وكتب في الجيش وكان يحفظ القرآن، وكان أديباً شاعراً. توفي بحلب في شعبان سنة أربع وسنين وخمسمائة.
ومن شعره:
أدنو بودي وحظي منك يبعدني ... هذا لعمرك عين الغبن والغبن
وإن توخيتني يوماً بلائمةٍ ... رجعت باللوم إبقاءً على الزمن
وحسن ظني موقوف عليك فهل ... عدلت في الظن بي عن رأيك الحسن؟
وقال:
وقهوةٍ كدموع الصب صافيةٍ ... تكاد في الكأس عند الشرب تلتهب
يطفو الحباب عليها وهي راسبة ... كأنه فضة من تحتها ذهب
وقال:
وسلامة أزرى احمرار شعاعها ... بالورد والوجنات والياقوت
جاءت مع الساقي تنير بكأسها ... فكأنها اللاهوت في الناسوت
وقال:
ما بعد جلق للمرتاد منزلة ... ولا كسكانها في الأرض سكان
فكلها لمجال الطرف منتزه ... وكلهم لصروف الدهر أقران
وهم وإن بعدوا مني بنسبتهم ... إذا بلوتهم بالود إخوان
وقال:
وبلدةٍ جمعت من كل مبهجة ... فما يقوت لمرتادٍ بها وطر
بكل مشترفٍ من ربعها أفق ... وكل مشترف من أفقها قمر
حميدة بنت النعمان بن بشيرٍ الأنصاري
شاعرة ابنة شاعرٍ، كانت تحت خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، تزوج بها بدمشق لما قدم علي عبد الملك ابن مروان فقالت فيه:
نكحت المديني إذ جاءني ... فيا لك من نكحةٍ غاليهْ
كهولُ دمشق وشبانها ... أحب إلينا من الجالية
صنان لهم كصنان التيو ... س أعي على المسك والغاليه
فقال يجيبها:
أسنا ضوء نار ضمرة بالقف ... رة أبصرت أم سنا ضوء برق؟!
قاطنات الحجون أشهى إلى قل ... بي من ساكنات دور دمشق
يتضوعن لو تضمخن بالمس ... ك صناناً كأنه ريح مرق
ثم طلقها فخلفه عليها روح بن زنباعٍ فنظر إليها يوماً تنظر إلى قومه جذامٍ وقد اجتمعوا عنده فلامها فقالت: وهل أرى إلا جذاماً، فو الله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام؟ وقالت تهجوه:
بكي الخز من روحٍ وأنكر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف
وقال العبا قد كنت حيناً لباسهم ... وأكسية كردية وقطائف
فقال روح يجيبها:
فإن تبك منا تبك ممن يصونها ... وما صانها إلا اللئام المقارف
وقال لها:
أثني علي بما علمت فإنني ... مثنٍ عليك لبئس حشو المنطق
فقالت:
أثني عليك بأن باعك ضيق ... وبأن أصلك في جذامٍ ملصق
فقال روحٌ:
أثني علي بما علمت فإنني ... مئنٍ عليك بنتن ريح الجورب
باب الخاء
خالد الزبيدي اليمنيشاعر إسلامي مقل. قال أبو عبيدة معمر بن المثني: قدم خالد الزبيدي في جماعة معه من زبيد إلى سنجار ومعه ابنا عمٍ له يقال لأحدهما ضابيء وللآخر عويد، فشربوا يوماً من شراب سنجار فحنوا إلى بلادهم فقال خالد:
أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا ... مصيفاً ولا مشتى ولا متربعاً
ويا جبلي سنجار هلا بكيتما ... لداعي الهوى منا شتيتين أدمعا
فلو جبلا عوجٍ شكونا إليهما ... جرت عبرات منهما أو تصدعا
بكي يوم تل المحلبية ضابيء ... وألهي عويداً بثه قتقنعا

فانبرى له رجل من النمر بن قاسط يقال له دثار أحد بني حيي فقال:
أيا جبلي سنجار هلا دققتما ... بركنيكما أنف الزبيدي أجمعا
لعمرك ما جاءت زبيد لهجرةٍ ... ولكنها كانت أرامل جوعا
تبكي علي أرض الحجاز وقد رأت ... جرائب خمساً في جدال فأربعا
فأجابه خالد يقول:
وسنجار تبكي سوقها كلما رأت ... بها نمرياً ذا كساوين أيفما
إذا نمري طالب الوتر غره ... من الوتر أن يبقى طعاماً فيشبعا
إذا نمري ضاق بيتك فاقره ... مع الكلب زاد الكلب واجرهما معا
أمن أجل مدٍ من شعيرٍ قريته ... بكيت وناحت أمك الحول أجمعا؟
بكى نمري أرغم الله أنفه ... بسنجار حتى تنفذ العين أدمعا
خالد بن صفوان بن عبد اللهابن عمرو بن الأهتم أبو صفوان التميمي المنقري، أحد فصحاء العرب وخطبائهم، كان رواية للأخبار خطيباً مفوهاً بليغاً، وكان يجالس هشام بن عبد الملك وخالداً القسري.
حدث العتبي قال: قال هشام بن عبد الملك لسبه ابن عقال وعنده الفرزدق وجرير والأخطل وهو يومئذٍ أمير: ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا برٍ ولا نفعٍ أيهم أشعر؟ فقال سبة: أما جرير فيغرف من بحرٍ، وأما الفرزدق فينحت من صخرٍ، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر. فقال هشام: ما فسرت لنا شيئاً نحصله. فقال: ما عندي يغر ما قلت. فقال لخالد لن صفوان: صفهم لنا يا بن الأهتم، فقال: أما أعظمهم فخراً وأبعدهم ذكراً وأحسنهم عذراً وأشدهم ميلاً وأقلهم غزلاً وأحلامهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق، وأما أحسنهم نعتاً وأمدحهم بيتاً وأقلهم فوتاً، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل، وأما أغزرهم بحراً وأرقهم شعراً وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير، وكلهم ذكي الفؤاد، رفيع العماء، وارى الزناد. فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين، ولا رأينا في الآخرين. وأشهد أنك أحسنهم وصفاً، وألينهم عطفاً، وأعفهم مقالاً، وأكرمهم فعالاً. فقال خالد: - أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربة وفرج بكم الكربة - ، وأنت والله ما علمت أيها الأمر كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل، بسام عند البذل، حليم عند الطيش، في ذروة قريشٍ، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمس. فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلصك يا بن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعاً.
وعن عمر بن شبه قال: مر خالد بن صفوان بابي نخيلة الشاعر الراجز وقد بني داراً فقال له أبو نخيلة: يا أبا صفوان، كيف ترى داري؟ قال رأيتك سألت فيها إلحافاً، وأنفقت ما جمعت لها إسرافاً، جعلت إحدى يديك سطحاً وملآت الأخرى سلاحاً. فقلت: من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي، ثم ولي وتركه فقيل له: ألا تهجوه؟ فقال: إذن والله يركب بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف ابنتي بما يعيبها.
عن يونس بن حبيب النحوي قال: قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال: لا تقل ذاك، فو الله ما أبي عن عيٍ ولكنه كان يترفع عن الجاء ويراه ضعةً كما يرى تركه مروةً وشرفاً، ثم قال:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال أولو العيوب

حدث شبيب بن شيب عن خالد بن صفوان قال: أوفدني يوسف بن عمر الثقفي إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق فقدمت عليه وقد خرج متبدياً بأهله وقرابته وحشمه وجلسائه وغاشيته، فنزل في أرضٍ قاعٍ صحصح تنائف أفيح في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيعٍ مونقٍ، فهو في أحسن منظر ومخبرٍ وأحسن مستمطر، بصعيدٍ كأن ترابه قطع الكافور، حتى لو أن قطعةً ألقيت فيه لم تترب، وقد ضرب له سرادق من حبر كان صنعه له يوسف بن عمر باليمن، في فسطاط فيه أربعة أفرشةٍ من خزٍ أحمر مثلها مرافقها وعليه دراعه من خزٍ مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلى مثل المستنطق لي، فقلت - أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه، وسوغكها بشكره، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشداً، وعاقبة ما تئول إليه خمداً، وأخلصه لك بالتقى، وكثره لك بالنما، ولا كدر عليك منه ما صفا، ولا خلط سروره بالردى - ، فلقد أصبحت للمسلمين ثقةً ومستراحاً، إليك يفزعون في مظالمهم، وإياك يقصدون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداءك - شيئاً هو أبلغ في قضا حقك وتوقير مجلسك، وما من الله به علي من مجالستك والنظر إلى وجهك، من أن أذكرك نعمة الله عليك فأنبهك على شكرها. وما أجد في ذلك شيئاً هو أبلغ من حديثٍ من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرته. وكان متكئاً فاستوى قاعداً وقال: هات يا بن الأهتم، فقلت يا أمير المؤمنين: إن ملكاً من الملوك قبلك خرج في عامٍ مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير في عامٍ قد بكر وسميه وتتابع وليه، وأخذت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيعٍ مونق في أحسن منظر وأحسن مخبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، وقد كان أعطى فتاء السن مع الكثيرة والغلبة والقهر، فنظر فأبعد النظر، فقال لمن حوله: هل رأيتم مثل ما أنا فيه؟ وهل أعطى أحد مثل ما أعطيت؟ فكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة والمضي على أدب الحق ومناهجه، ولم تخل الأرض من قائم لله بالحجة في عباده، فقال: أيها الملك، إنك سألت عن أمرٍ، أفتأذن لي في الجواب عنه؟ قال نعم: قال: أرأيت هذا الذي أنت فيه؟ أشيءٌ لم تنزل فهي أم شيءٌ صار إليك ميراثاً؟ وهو زائل عنك، وصائر إلى غيرك كما صار إليك ميراثاً من لدن غيرك؟ قال: كذلك هو. قال: فلا أراك إلا أعجبت بشيء يسيرٍ تكون فيه قليلاً، وتغيب عنه طويلاً وتكون غداً بحسابه مرتهناً. قال: ويحك، فأين المهرب وأين المطلب؟؟ قال: فإما أن تقيم في ملكك وتعمل فيه بطاعة ربك على ما ساءك وسرك ومضك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك وتخلع أطمارك وتلبس مسوحك وتعبد ربك في جبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي، فإني مختار أحد الرأيين، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيراً لا يعصى، وإن اخترت خلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفقاً لا يخالف. فلما كان السحر قرع عليه بابه، فإذا قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس المسوح وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، فذلك حيث يقول أخو بني تميمٍ عدي بن زيدٍ العبادي:
أيها الشامت الميعر بالده ... رأأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام بل أنت جاهل مغرور؟
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟
أين كسرى كسرى الملوك أنوشروان أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر الكرام ملوك ال ... روم لم يبق منهم مذكور
وأخو الخضر إذ نباه وإذ دج ... له تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم ... لك وابحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غب ... طه حيٍ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنع ... مة وارثهم هناك قبور
ثم صاروا كأنهم ورق ج ... ف فألوت به الصبا والدبور

قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبلت عمامته، وأمر بنزع أبنيته ونقل قرابته وأهله وحشمه وجلسائه وغاشيته ولزم قصره. فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت بأمير المؤمنين؟ نغصت عليه لذاته وأفسدت مأدبته. فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله عز وجل ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.
وتقدم في ترجمة حميدٍ الأرقط من كلام أبي عبيدة أن خالد بن صفوان مع فضله وجلالته أحد بخلاء العرب الأربعة. وروى أنه أكل يوماً خبزاً وجبناً فرآه أعرابي فسلم عليه، فقال له خالد: هلم إلى الخبز والجبن فانه حمض العرب، وهو يسيغ اللقمة، ويفتق الشهوة، وتطيب عليه الشربة، فانحط الأعرابي فلم يبق شيئاً منهما. فقال خالد: يا جارية زيدينا خبزاً وجبناً، فقالت: ما بقي عندنا منه شيء. فقال خالد: الحمد لله الذي صرف عنا معرته وكفانا مئونته، والله إنه لم علمته ليقدح في السن، ويخشن الحلق، ويربو في المعدة، ويعسر في المخرج، فقال الأعرابي: والله ما رأت قط قرب مدحٍ من ذمٍ أقرب من هذا.
ومن حكم خالد بن صفوان: إن جعلك الأمر أخاً فاجعله سيداً، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة عنه ولا تهاوناً. وقال: ابذل لصديقك مالك، ولمعرفتك بشرك وتحيتك. وللعامة رفدك وحسن محضرك، ولعدوك عدلك، واصنن بدينك وعرضك عن كل أحدٍ. وقال: إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. وقال لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع أهلاً. توفي خالد بن صفوان سنة خمس وثلاثين ومائة.
خالد بن يزيد بن معاويةابن أبي سفيان. الأمير أبو هاشم الأموي: كان من رجالات قريش المتميزين بالفصاحة والسماحة وقوة المارضة، علامة خبيراً بالطب والكيمياء شاعراً. قال الزبير بن مصعب: كان خالد بن يزيد بن معاوية موصوفاً بالعلم حكيماً شاعراً. وقال ابن أبي حاتم: كان خالد من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام. وقيل عنه: قد علم علم العرب والعجم. روى خالد الحديث عن أبيه وعن دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله عنه - وروى عنه الزهري وغيره. وأخرج البيهقي والخطيب البغدادي والعسكري والحافظ بن عساكر عنه عدة أحاديث. وكان إذا لم يجد أحداً يحدثه حدث جواريه، وكان من صالحي القوم، وكان يصوم الجمعة والسبت والأحد. وكان يقول: كنت معنياً بالكتب، وما أنا من العلماء ولا من الجمال. وكان خالد جواداً ممدحاً جاءه رجل فقال له: إني قد قلت فيك بيتين ولست أنشدهما إلا بحكمي، فقال له قل، فقال:
سألت الندى والجود حران أنتما؟ ... فقالا بلى عبدان بين عبيد
فقلت ومن مولاكما فتطاولا علي وقالا خالد بن يزيد

فقال له تحكم. فقال: مائة ألف درهمٍ، فأمر له بها. وكان خالد شجاعاً جريئاً وكان بينه وبين عبد الملك ابن مروان مناظرات، تهدده عبد الملك مرةً بالسطوة والحرمان فقال له: أتهددني ويد الله فوقك مانعة، وعطاؤه دونك مبذول؟ وأجرى أخوه عبد الله بن يزيد الخيل مع الوليد بن عبد الملك فسبقه عبد الله، فدخل الوليد على خيل عبد الله فنقرها ولعب بها فجاء عبد الله إلى أخيه خالدٍ فقال: لقد هممت اليوم بقتل الوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولى عهد المسلمين، قال: إنه لقى خيلي فنفرها وتلاعب بها، فقال له خالد: أنا أكفيكه فدخل خالد على عبد الملك وعنده الوليد وقال له أمير المؤمنين: إن الوليد بن أمير المؤمنين لقي خيل ابن عمه عبد الله فنرها وتلاعب بها فشق ذلك على عبد الله. فقال عبد الملك: إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوا وجعلوا أعزة أهلها أذلةً، وكذلك يفعلون. فقال له خالد: وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً. فقال له عبد الملك: أما والله لنعم المرء عبد الله على لحن فيه. فقال له خالد: أفعلى الوليد تعول مع اللحن. فقال عبد الملك إن يكن الوليد لحاناً فأخوه سليمان. قال خالد: وإن يكن عبد الله لحاناً فأخوه خالد. فقال عبد الملك: مدحت والله نفسك يا خالد. قال: وقبلي والله مدحت نفسك يا أمير المؤمنين، قال: ومتى؟ قال: حين قلت أنا قاتل عمرو بن سعيدٍ، حق والله لمن قتل عمراً أن يفخر بقتله، قال: أما والله لمروان كان أطولنا باعاً، قال: أما إني أرى ثأري في مروان صباح مساء، ولو أشاء أن أديله لأدلته؟ قال ما أجرأك علي يا خالد خلني عنك. قال لا والله، قال الشاعر:
ويجر اللسان من أسلات ال ... حرب ما لا يجر منها البنان
فقال عبد الملك: يا وليد أكرم ابن عمك، فقد رأيت أباه يكرم أباك، وجده يكرم جدك. وقيل لخالد: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أرجى شيءٍ؟ قال: العمل. قيل فما أوحش شيء؟ قال الميت. قيل فما آنس شيء؟ قال الصاحب المؤاتي. وقيل له: ما الدنيا؟ قال ميراث. قيل: فالأيام؟ قال دول.
قيل: فالدهر؟ قال أطباق والموت يكمل سبيله، فليحذر العزيز الذل، والغنى الفقر، فكم عزيزٍ قد ذل، وكم من غنى قد افتقر. وقال: إذا كان الرجل ممارياً لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. ولما لزم بيته قيل له: كيف تركت الناس ولزمت بيتك؟ فقال: هل بقي إلا حاسد نعمةٍ أو شامت بنكبة؟ ومن شعرخالد بن يزيد:
أتعجب أن كنت ذا نعمةٍ ... وأنك فيها شريف مهيب؟
فكم ورد الموت من ناعمٍ ... وحب الحياة إليه عجيب
سقته ذنوباً من أنفاسها ... ويذخر للحى منها ذنوب
وقال في رملة بنت الزبير بن العوام:
أليس يزيد السير في كل ليلة ... وفي كل يومٍ من أحبتنا قربا
أحن إلى بنت الزبير وقد عدت ... بنا العيس خرقاً من تهامة أو نقبا
إذا نزلت أرضاً نحبب أهلها ... إلينا وإن كانت منازلها حربا
وإن نزلت ماء وإن كان قبلها ... مليحاً وجدنا ماءه بارداً عذبا
تجول خلاخيل الناء ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا
أقلوا علي اللوم فيها فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا
أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن حبها أحببت أخوالها كلبا
وقال:
إن سرك الشرف العظيم مع الغنى ... وتكون يوم أشد خوفٍ وائلا
يوم الحساب إذا النفوس تفاضلت ... في الوزن إذ غبط الأخف الأثقلا
فاعمل لما بعد الممات ولا تكن ... عن حظ نفسك في حياتك غافلا
ومما نسبوا إليه من التصانيف في الكيمياء. السر البديع في فك الرمز المنيع، وكتاب الفردوس ورسائل أخرى. توفي خالد بن يزيد سنة تسعين، وقيل سنة خمسٍ وثمانين، وشهده الوليد بن عبد الملك وقال: لتلق بنو أمية الأردية على خالدٍ فلن يتحسروا على مثله أبداً.
خالد بن يزيد

مولى بني المهلب، ويقال له خالويه المكدي، كان أديباً ظريفاً بلغ في البخل والتكدية وكثرة المال المبلغ الذي لم يبلغه أحد، وكان متكلماً بليغاً قاصاً داهياً، وكان أبو سليمان الأعور وأبو سعيدٍ المدائني القاصان من غلمانه، وله أخبار حسان، ومن لطائفه وصيته لابنه عند موته، وفيها لطائف وغرائب قال فيها: إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته، وما لا تأكله إن ضيعته، ولما أورثتك من العرف الصالح وأشهدتك من صواب التدبير، وعودتك من عيش المقتصدين خير لك من هذا المال، وقد دفعت إليك آلةً لحفظ المال عليك بكل حيلةٍ، ثم إن لم يكن لك معين من نفسك فما انتفعت بشيء من ذلك، بل يعود ذلك النهي كله اعتزالاً لك، وذلك المنع تهجيناً لطاعتك، وقد بلغت في البر منقطع العمران، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك إذ رأيتني ألا ترى ذا القرنين، ودع عنك مذاهب ابن شرية فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر، ولو رآني تميم الداري لأخذ عني صفة الروم، ولأنا أهدى من القطا، ومن دعيميص ومن رافعٍ المخش، إني قد بت في القفر مع الغول، وتزوجت السعلاة، وجاوبت الهاتف، ورغت عن الجن إلى الجن، واصطدت الشق وجاورت النسناس، وصحبني الرئي وعرفت خدع الكاهن وتدسيس العراف، وإلى م يذهب الخطاط والعياف، وما يقول أصحاب الأكناف، وعرفت التنجيم والزجر، والطرق والفكر. إن هذا المال لم أجمعه إلا من القص والتكدية ومن احتيال النهار ومكابدة الليل، ولا يجمع مثله أبداً إلا من معاناة ركوب البحر، ومن عمل السلطان أو من كيمياء الذهب والفضة، قد عرفت الأس حق معرفته، وفهمت سر الإكسير على حقيقته، ولولا علمي بضيق صدرك، ولولا أن أكون سبباً لتلف نفسك لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ به قارون ما بلغ، وبه تبنكت خاتون، والله ما يتسع صدرك عندي لسر صديقٍ فكيف ما لا يحتمله عزم ولا يتسع له صدر، وخزن سر الحديث وحبس كنوز الجواهر أهون من خزن العلم، ولو كنت عندي مأموناً على نفسك لأجريت الأرواح في الأجساد، وأنت تبصر ما كنت لا تفهمه بالوصف ولا تحقه بالذكر، ولكني سألقي عليك علم الإدراك وسبك الرخام وصنعة الفسيفساء وأسرار السيوف القلعية وعقاقير السيوف اليمانية وعمل الفرعوني وصنعة التلطيف على وجهه إن أقامني الله من صرعتي هذه، ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين ولا أثق بك وإن كنت لاحقاً بالآباء لأني لم أبالغ في محبتك، إني قد لابست السلاطين والمساكين، وخدمت الخلفاء والمكدين، وخالطت النساك والفتاك، وعمرت السجون كما عمرت مجالس الذكر، وحلبت الدهر أشطره، وصادفت دهراً كثير الأعاجيب، فلولا أني دخلت من كل بابٍ وجريت مع كل ريحٍ في السراء والضراء حتى مثلت لي التجارب عواقب الأمور، وقربتني من غوامض التدبير، لما أمكنني جمع ما أخلفه لك، ولا حفظ ما حبسته عليك، ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه، لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس وإنما حفظته لك من فتنة الأبناء ومن فتنة النساء ومن فتنة الثناء ومن فتنة الرياء ومن أيدي الوكلاء فإنهم الداء العياء. والوصية كلها على هذا النمط وفيها غرائب وهي طويلة تقع في كراسةٍ.
خالد بن زيد الكاتبأبو الهيثم من أهل بغداد، وأصله من خراسان، شاعر مشهور رقيق الشعر. كان من كتاب الجيش ثم ولاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات عملاً ببعض الثغور، فخرج فسمع في طريقه مغنيةً تغني:
من كان ذا شجنٍ بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والشجن
فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه فأفاق مختلطاً ووسوس. وقال قوم: كان يهوى جاريةً لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها فاختلط، وقيل إن السوداء غلبت عليه، وقيل كان خالد مغرماً بالغلمان ينفق عليهم كل ما يستفيد، فهوى غلاماً يقال له عبد الله، وكان أبو تمامٍ الطائي الشاعر يهواه. فقال فيه خالد:
قضيب بانٍ جناه ورد ... تحمله وجنة وخد
لم أثن طرفي إليه إلا ... مات عزاء وعاش وجد
ملك طوع النفوس حتى ... علمه الزهو حين يبدو
واجتع الصد فيه حتى ... ليس لخلقٍ سواه صد
فبلغ ذلك أبا تمامٍ فقال فيه أبياتاً منها:
شعرك هذا كله مفرط ... في برده يا خالد البارد
فعلمها الصبيان فما زالوا يصيحون به يا خالد البارد حتى وسوس:

وهجا أبا تمامٍ في هذه القصة فقال:
يا معشر المرد إني ناصح لكم ... والمرء في القول بين الصدق والكذب
لا ينكحن حبيباً منك كم أحد ... فإن وجعاءه أعدى من الجرب
لا تأمنوا أن تعودوا بعد ثالثةٍ ... فتركبوا عمداً ليست من الخشب
وحدث ابنأبي سلالة الشاعر قال: دخلت بغداد في بعض السنين فينا أنا مار في طريقٍ إذا أنا برجلٍ عليه مبطنه وعلى رأسه قلنسوة سوداء وهو راكب على قصبةٍ والصبيان خلفه يصيحون: يا خالد البارد، فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا وأدخلته بستاناً هناك فجلس واستراح، واشتريت له رطباً فأكل واستنشدته فأنشدني:
قد حاز قلبي فصار يملكه ... فكيف أسلو وكيف أتركه؟؟
رطيب جسمٍ كالماء تحسبه ... يخطر في القلب منه مسكله
يكاد يجري من القميص من الن ... نعمة لولا القميص يمسكه
ومن شعر خالدٍ أيضاً:
كبد شفها غليل التصابي ... بين عتبٍ وجفوةٍ وعذاب
كل يوم تدمي بجرح من الشو ... ق ونوعٍ مجددٍ من عتاب
يا سقيم الجفون أسقمت جسمي ... فاشفني كيف شئت لابك ما بي
إن أكن مذنباً فكن حسن العف ... و أو اجعل سوى للصدود عتابي
وقال:
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي؟
يا مفرداً بالحسن أفردتني ... منك بطول الشوق والحب
إن تك عيني أبصرت فتنةً ... فهل على قلبي من عتب؟
فحسبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي
توفي خالد الكاتب ستة تسعٍ وستين ومائتين ببغداد.
خداش بن بشر بن خالدابن الحارث أبو زيد التيميمي المعروف بالبعيث البصري، وكان خطيباً شاعراً مجيداً، وكان بينه وبين جريرٍ مهاجاة، فلج الهجاء بينهما نحواً من أربعين سنةً ولم يتغلب واحد منها على صاحبه، ولم يتهاج شاعران في العرب في جاهلية ولا إسلام بمثل ما تهاجيا به، وكان الفرزدق يعين البعيث، والبعيث، يعين ابن أم غسان على جريرٍ. فمما قاله البعيث لجرير:
إذا طلع العيوق أول كوكبٍ ... كفى اللؤم عند النازحين جرير
ألست كليباً ثم أمك كلبة ... لها بين أطناب البيوت هرير
ولو عند غسان السليطي عرست ... رغا قرن منها وكاس عقير
أتنسى نساءً باليمامة منكم ... نكحن عبيداً ما لهن مهور؟
وقال له أيضاً:
كليب لئام الناس قد يعلمونها ... وأنت إذا عدت كليب ليئمها
أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير وقد أعيا كليباً قديمها
وقال له أيضاً:
أأن أمرعت معزى عطية وارتعت ... تلاعاً من المروت أحوى جميعها
تعرضت لي حتى صككتك صكةً ... على الوجه يكبو للدين أميمها
أليست كلب ألأم الناس كلهم ... وأنت إذا عدت كليب لئيمها؟
وقال له أيضاً:
أشاركتني في ثعلبٍ قد أكلته ... قلم يبق إلا رأسه وأكارعه
فدونك خصييه وما ضمت استه ... فإنك رمام خبيث مراتعه
وقال جرير له:
ألم تر أني قد رميت ابن فرتني ... بصماء لا يرجو الحياة أميمها
له أم سوء بئس ما قدمت له ... إذا فرط الأحساب عد قديمها
وأهاجيهما ونقائضهما كثيرة اكتفينا بما أوردناه منها. توفي البعيث سنة أربعٍ وثلاثين ومائةٍ بالبصرة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
خرقة بن نباتةابن الزيد، عمرو بن عبد مناة الكلبي. شاعر إسلامي، قدم على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية في دمشق، فجفاه حرب ولم يصله شيء، فهجاه فقال:
كأني ونضوى عند حرب بن خالدٍ ... من الجوع ذئبا قفرةٍ علزان
وباتت علينا جفوة ما نحبها ... وبتنا نقاسي ليلةً كثمان
وقال:
أجيري يا جميل دمي وهزي ... سناناً تطعنين به ونابا
لتعلم عامر الأجواد أنا ... إذا غضبت نبيت لها غضاباً
وقال:

وأرهبنا الخليفة واستمرت ... وجوه الأرض تغتصب اغتصابا
وقتلنا القبائل من عليمٍ ... وبيحنا قنافة والربابا
وقال:
كسع الشتاء بسبعةٍ غبر ... أيام شهلتنا من الشهر
فإذا انقضت أيام شهلته ... صن وصنير مع الوبر
ويأمر وأخيه مؤتمرٍ ... ومعللٍ وبمطفيء الجمر
ذهب الشتاء مولياً عجلاً ... وأتتك واقدة من الحر
وقال:
إلى الله أشكو عبرةً قد أطلت ... ونفساً إذا ما عزها الشوق ذلت
تحن إلى أرض العراق ودونها ... تنائف لو تسري بها الريح ضلت
وقال:
يا عارم بن عقيلٍ كيف كفر كم ... كعباً ومنكم إليه ينتهي الشرف؟
أفنيتم الحر من سعدٍ ببارقةٍ ... يوم الغرابة ما في برقها خلف
مات سنة خمس عشرة ومائةٍ.
الخضر بن مروانابن أحمد بن أبي عبد الله الثعلبي أبو العباس الضرير التوماثي، بضم التاء المثناة وسكون الواو بعدها ميم وألف ثم ثاء مثلثة: بلد من بلاد الجزيرة، التارقي الجزري. ولد بالجزيرة ونشأ بميافارقين، وأصله من توماثا. وكان عالماً بالنحو مقرئاً فاضلاً أديباً عارفاً حسن الشعر كثير المحفوظ، قرأ اللغة على ابن الجواليقي والنحو على ابن الشجري، والفقه على أبي الحسن الأبنوسي، وكان ببغداد، وله محفوظات كثيرة منها: المجمل، وشعر الهذليين، وشعر رؤبة وذي الرمة. لقيته بمرو وسرخس وينسابور في سنة أربعٍ وأربعين وخمسمائةٍ، وسألته عن مولده فقال سنة خمسٍ وخمسمائةٍ، وأنشدني لنفسه:
كتبت وقد أودى بمقلتي البكا ... وقد ذاب من شوقٍ إليك سوادها
فما وردت لي نحوكم من رسالةٍ ... وحقكم إلا وذاك سوداها
وقال أيضاً:
أنت في غمرة النعيم تعون ... لست تدري بأن ذا لا يدوم
كم رأينا من الملوك قديماً ... همدوا فالعظام منهم رميم؟
ما رأينا الزمان أبقى على شخ ... صٍ شقاءً فهل يدوم النعيم؟
والغني عند أهله مستعار ... فحميد به ومنهم ذميم
وقال:
مواعظ الدهر أدبتي ... وإنما يوعظ الأديب
لم يمض بؤس ولا نعيم ... إلا ولى فيهما نصيب
بلغتنا وفاته ببخارى سنة ثمانين وخمسمائة.
الخضر بن هبة الله الطائيابن أبي الهمام الطائي الشاعر البغدادي، دخل مصر وحضر بين يدي أمير المؤمنين الراشد بالله ابن المسترشد بالله، فأنشده على البديهة:
ولما شأوت الحاسدين إلى مدىً ... رفيعٍ تزل العصم دون مرامه
ورفعت الأستار لي دون سيدٍ ... شفى غلتي من بشره وسلامه
سطوت على صرف الزمان ببأسه ... وصلت على كيد العدا بانتقامه
ودخل علي الأمير علي بن صدقة فقال على البديهة أيضاً:
سأسكر ما أوليتني من منائحٍ ... زماني وإن كنت العيي المقصرا
نمتك قروم في الملاحم والندى ... إذا انتسبت كانت أسوداً وأبحرا
فكل كريمٍ غادرته مبخلاً ... وكل قديمٍ غادرته مؤخرا
وقدم الطائي إلى دمشق وامتدح بها واليها محمد بن بورى بن طغتكين، ومدح أبا الفتح نصر الله بن صالحٍ الهاشمي، ودخل عليه يوماً وقد افتصد فقال بديهةً:
لما مددت إليه راحة راحةٍ ... من شأنها الإعطاء والإعدام
وحسرت ردن ملاءةٍ عن ساعدٍ ... لا ساعدت أعداءه الأيام
أكبرت ما فعل الطبيب وهالني ... من فعله التغرير والإقدام
وعجبت كيف جرى الحديد بمفصلٍ ... في مدحه تتفاخر الأوهام
لكن أمرت ولو أشرت بنقمةٍ ... يوماً لذاب بغمده الصمام
يا من له في كل قلبٍ هيبة ... وله بكل رواجبٍ إنعام
أغنيت زين الدين طلاب الندى ... وتباشرت بقدومك الأيتام
مض العراق فراق ظلك عنهم ... وتهنأت بك جلق والشام
فبنو المكارم في البرية كلها ... صنف وأنت مقدم وإمام

ولد الخضر البغدادي سنة تسعٍ وتسعين وأربعمائةٍ ومات سنة أربعٍ وستين وخمسمائةٍ.
خلف بن أحمدالقيرواني الشاعر. قال ابن رشيقٍ في النموذج: شاعر مطبوع بأدب إفريقية ودخل مصر وله شعر معروف جيد. مات بزويله المهدية سنة أربع عشرة وأربعمائةٍ ومن شعره.
هل الدهر يوماً بليلي يجود ... وأيامنا باللوى هل تعود؟
عهود تقضت وعيش مضى ... بنفسي ولله تلك العهود
ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضاً ... فنحن عطاش وأنتم ورود
خلف بن حيانأبو محرزٍ البصري المعروف بالأحمر، مولى أبي بردة بلا لبن أبي موسى الأشعري أعنق بلال أبوية وكانا فرغانيين. قال أبو عبيدة معمر بن المثني: خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة. وقال الأخفش: لم أدرك أحداً أعلم با لشعر من خلفٍ الأحمروالأصمعي.
وقال ابن سلامٍ: أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعرٍ وأصدق لساناً وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبراً أو أنشدنا شعراً ألا نسمعه من صاحبه. وقال شمر: خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حمادٍ الراوية فسمع منه وكان ضنيناً بأدبه. وقال أبو الطيب عبد الواحد اللغوي: كان خلف يضع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يعرف، ثم نسك، وكان يختم القرآن كل ليلةٍ، وبذل له بعض الملوك مالاً عظيماً على أن يتكلم في بيت شعرٍ شكوا فيه فأبى. ولخلفٍ ديوان شعر حمله عنه أبو نواسٍ، وكتاب جبال العرب. توفي في حدود الثمانين ومائةٍ.
حدث الأصمعي قال: حضرنا مأدبةً ومعنا أبو محرز خلف الأحمر وحضرها ابن مناذرٍ الشاعر فقال لخلفٍ الأحمر: يا أبا محرز، إن يكن النابغة وامر القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم، واحكم فيها بالحق، فغضب خلف ثم أخذ صحفةً مملوءةً مرقاً فرمى بها عليه، فقام ابن مناذر مغضباً وأظنه هجاه بعد ذلك.
وحدث ابن سلامٍ قال: قال لي خلف الأحمر: كنت أسمع ببشار بن بردٍ أن أراه، فذكروه لي يوماً وذكروا بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره، فاستنشدتهم شيئاً من شعره فأنشدوني شيئاً لم أحمده فقلت: والله لآتينه ولأطأطئن منه، فأتيته وهو جالس على بابه فرأيته أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة. فقلت: - لعن الله - من يبالي بهذا، فوقفت أتأمله طويلاً فبينا أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً سبك عند الأمير محمد بن سليمان ووضع منك. فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم. فأطرق وجلس الرجل عنده وجلست، وجاء قوم فسلموا عليه فلم يردد عليهم، فجعلوا ينظرون إليه وقد درت أوداجه، فلم يلبث إلا ساعةً حتى أنشدنا بأعلى صوته وأفجمه فقال:
نبئت نائك أمه يغتابني ... عند الأمر وهل علي أمير؟
ناري محرقة وبيتي واسع ... للمعتفين ومجلسي معمور
ولي المهابة في الأحبة والعدا ... وكأنني أسد له تامور
غرثت حليلته وأخطأ صيده ... فله على لقم الطريق زئير
قال: فارتعدت والله فرائصي، واقشعر جلدي، وعظم في عيني جداً حتى قلت في نفسي: الحمد لله الذي أبعدني من شرك. وكان بين خلفي الأحمر وبينأبي محمدٍ اليزيدي مهاجاة، فقال أبو محمدٍ فيه:
زعم الأحمر المقيت لدينا ... والذي أمه تقر بمقته
أنه علم الكسائي نحواً ... فلئن كان ذا كذاك فباسته
وهجا خلف أبا محمدٍ اليزيدي بقصيدة فائيةٍ تداولها الأفواه والأسماع، نسبه فيها إلى اللواطة مطلعها:
إني ومن وسج المطي له ... حدب الذري إرقالها رجف
والمحرمين لصوتهم زجل ... بفناء كعبته إذا هتفوا
مني إليه غير ذي كذبٍ ... ما إن رأى قوم ولا عرفوا
في غابر الناس الذين بقوا ... والفرط الماضين من سلفوا
أحداً كيحى في الطعان اذا اف ... ترش القنا وتضعضع الحجف
في معركٍ يلقى الكمى به ... للوجه منبطحاً وينحرف
وإذا أكب القرن يتبعه ... طعناً دوين صلاه ينخسف
وهي طويلة نحو أربعين بيتاً اكتفينا بهذا المقدار منها؟


الخليل بن أحمدابن عمر بن تميمٍ أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال: الفرهودي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله ابن مالك بن مضر الأزدي البصري، سيد الأدباء في علمه وزهده.
قال السيرافي: كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله. أخذ عن أبي عمرو بن العلا وروى عن أيوب وعاصمٍ الأحول وغيرهما، وأخد عنه الأصمعي، وسيبويه، والنضر بن شميلٍ، وأبو فيد مؤرج السدوسي، وعلي بن نصرٍ الجهضمي وغيرهم، وهو أول من استخرج العروض وضبط اللغة وحصر أشعار العرب، يقال إنه دعا بمكة أن يرزقه الله تعالى علماً لم يسبق به، فرجع وفتح عليه بالعروض وكانت معرفته بالإيقاع هو الذي أحدث له علم العروض، وكان يقول الشعر فينظم البيتين والثلاثة ونحوها.
وكان سفيان النوري يقول: من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد، ويروي عن النضر بن شميلٍ أنه قال: كنا نمثل بين ابن عونٍ والخليل بن أحمد أيهما نقدم في الزهد والعبادة، فلا ندري أيهما نقدم؟ وكان يقول: ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة بعد ابن عونٍ من الخليل بن أحمد. وكان يقول: أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه وهو في خصٍ لا يشعر به، وكان يحج سنةً ويغزو سنةً، وكان من الزهاد المنقطعين إلى الله تعالى، وكان يقول: إن لم تكن هذه الطائفة أولياء الله تعالى فليس لله ولي. وللخليل من التصانيف: كتاب الإيقاع، وكتاب الجمل، وكتاب الشواهد، وكتاب العروض، وكتاب العين في اللغة، ويقال: إنه لليث بن نصر بن سيارٍ عمل الخليل منه قطعةً وأكمله الليث. وله كتاب فائت العين، وكتاب النغم، وكتاب النقط والشكل وغير ذلك. وروى أنه كان يقطع بيتاً من الشعر فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إنأبي قد جن فدخل الناس عليه وهو يقطع البيت فأخبروه بما قال ابنه فقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
ووجه إليه سليمان بن علي وإلى الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل لرسوله سليمان خبزاً يابساً وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ ... وفي غنىً غير أني لست ذا مال
سخى بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدرٍ لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
ومن شعره أيضاً:
وقبلك داوى الطبيب المريض ... فعاش المريض ومات الطبيب
فكن مستعداً لدار الفناء ... فإن الذي هو آتٍ قريب
توفي سنة ستين ومائةٍ وقيل سبعين ومائةٍ، وله أربع وسبعون سنةً.
الخليل بن أحمد بن محمدابن الخليل بن موسى السجزي. كان فقيهاً شاعراً محدثاً رحل في طلب الحديث إلى نيسابور ودمشق. قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور: كان الخليل شيخ أهل الرأي في عصره، وكان من أحسن الناس كلاماً في الوعظ والذكر مع تقدمه في الفقه والأدب، وكان ورد نيسابور قديماً مع محمد بن إسحق بن خزيمة وأقرانه، وسمع بالري والعراق والحجاز، وورد نيسابور محدثاً ومفيداً سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائةٍ، وسكن سجستان ثم انتقل إلى بلخٍ وسكنها، ومن شعره في مدحأبي حنيفة النعمان بن ثابتٍ وصاحبيه والأئمة القراء:
سأجعل لي النعمان في الفقه قدوةً ... وسفيان في نقل الأحاديث سيداً
وفي ترك ما لم يعنني من عقيدةٍ ... سأتبع يعقوب العلا ومحمدا
وأجعل حزبي من قراءة عاصمٍ ... وحمزة بالتحقيق درساً مؤكدا
وأجعل في النحو الكسائي عمدتي ... ومن بعده الفراء ما عشت سرمدا
وإن عدت للحج المبارك مرةً ... جعلت لنفسي كوفة الخير مشهدا
فهذا اعتقادي وهو ديني ومذهبي ... فمن شاء فليبرز ليلقى موحدا
ويلقي لساناً مثل سيفٍ مهندٍ ... يفل إذا لاقي الحسام المهندا
وقال:

إذا ضاق باب الرزق عنك ببلدةٍ ... فثم بلاد رزقها غير ضيق
وإياك والسكني بدار مذلةٍ ... فتسقي بكأس الذلة المتدفق
فما ضاقت الدنيا عليك برحبها ... ولا باب رزق الله عنك بمغلق
وقال:
ليس التطاول رافعاً من جاهلٍ ... وكذا التواضع لا يضر بعاقل
لكن يزاد إذا تواضع رفعةً ... ثم التطاول ماله من حاصل
وقال:
رضيت من الدنيا بقوتٍ يقيمني ... ولا أبتغي من بعده أبداً فضلا
ولست أروم القوت إلا لأنه ... يعين على علمٍ أرد به جهلا
فما هذه الدنيا يكون نعيمها ... لأصغر ما في العلم من نكتةٍ عدلا
وقال:
ألله يجمع بيننا في غبطةٍ ... ويزيل وحشتنا بوشك تلاقٍ
ما طاب لي عيش فديتك بعدما ... ناحت علي حمامة بفراق
إن الإله لقد قضى في خلقه ... ألا يطيب العيش للمشتاق
توفي القاضي السجزي بسمرقند وهو قاضٍ بها سنة ثمانٍ وسبعين وثلاثمائةٍ، وقال أبو بكرٍ الخوارزمي يرثيه:
ولما رأينا الناس حيرى لهدةٍ ... بدت بأساس الدين بعد تأطد
أفضنا دموعاً بالدماء مشوبةً ... وقلنا: لقد مات الخليل بن أحمد
خميس بن عليابن أحمد بن علي بن إبراهيم بن الحسن أبو الكرم الواسطي الحوزي الحافظ النحوي الأديب الشاعر المحدث، حدث عن أبي القاسم عبد العزيز بن علي الأنماطي، وأبي منصورٍ محمدٍ النديم العكبري، وأبي القاسم علي بن أحمد البشري وغيرهم من البغداديين والواسطيين، قال الحافظ أبو طاهرٍ السلفي: كان خميس من حفاظ الحديث المحققين بمعرفة رجاله، ومن أهل الأدب البارع، وله شعر غاية في الجودة، وفي شيوخه كثرة، وقد عقلت عنه فوائد وسألته عن رجالٍ من الرواة فأجاب بما أثبته في جزء ضخم وهو عندي وقد أملي علي نسبه وهو: خميس بن علي ابن أحمد بن علي بن إبراهيم بن الحسن بن سلامويه الحوزي، ومولده سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائة، وكان إتقانه مما يعول عليه. وفي كتاب ابن نقطة مولده سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في شعبان، ومات في شعبان أيضاً بواسط سنة عشرس وخمسمائةٍ. ومن شعره:
تركت مقالات الكلام جميعها ... لمبتدعٍ يدعو بهن إلى الردى
ولازمت أصحاب الحديث لأنهم ... دعاة إلى سبل المكارم والهدى
وهل ترك الإنسان في الدين غايةً ... إذا قال قلدت النبيمحمدا؟
وقال:
من كان يرجو أن يرى ... من ساقطٍ أمراً سنيا
فلقد رجا أن يجتنى ... من عوسجٍ رطباً جنيا
خويلد بن خالدابن محرز بن زبيد بن أسد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن غنم بن سعد بن هذيلٍ الهذلي أو ذؤيبٍ شاعر مجيد مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، قدم المدينة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه. روى عنه أنه قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا بالإحرام فقلت: مه؟ فقالوا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي روايةٍ أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل وقع ذلك إلينا عن رجلٍ من الحي قدم معتماً فأوجس أهل الحي خيفةً وأشعرنا حزناً، فبت بليلةٍ باتت النجوم بها طويلة الأناة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها وأقارع غولها حتى إذ كان دوين السمر وقرب السحر، خفت فهتف هاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام

قال أبو ذؤيبٍ: فوثبت من نومي فزعاً فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعداً الذابح، فتفاءلت به ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض، أو أنه ميت فركبت ناقتي فسرت، فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجزه فعن لي القنفذ قد قبض على صلٍ - يعني حيةً - فهي تلتوي عليه والقنفذ يقضمه حتى أكله، فزجرت ذلك وقلت تلوي الصل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله، ثم أولت أكل القنفذ له غلبة القائم على الأمر. والحديث طويل ذكر فيه حضوره في سقيفة بني ساعدة، ومبايعة أبي بكرٍ - رضي الله عنه - وروى ابن سلامٍ عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: سئل حسان بن ثابتٍ من أشعر الناس؟ قال: أحيا؟ قالوا: حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل، غير مدافعٍ أبو ذؤيبٍ. وقال ابن شبة: تقدم أبو ذؤيبٍ جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنية، ومطلعها:
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتبٍ من يجزع
قالت أميمة ما لجسمك شاحباً ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع؟
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعاً ... إلا أقض عليك ذاك المضجع
فأجبتها أما لجسمي إنه ... أودي بني من البلاد فودعوا
أودي نبي فأعقبوني حسرةً ... بعد السرور وعبرةً ما تقلع
ومنها:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
لابد من تلفٍ مقيمٍ فانتظر ... أبأرض قومك أم بأخرى المضجع؟
ومنها:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع
كم من جميعي الشمل ملتئمي الهوى ... كانوا بعيشٍ ناعمٍ فتصدعوا
وهي نحو سبعين بيتاً أورد ابن رشيقٍ أبياتاً منها في العمدة، وعدها في المطبوع من شعر العرب. ومن شعره ما أنشده له ثعلب:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
فإن أعتذر منها فإني مكذب ... وإن تعتذر يردد علي اعتذارها
وشعرأبي ذؤيب كله على نمطٍ في الجودة وحسن السبك، وتوفي في غزوة إفريقية مع ابن الزبير، وقال وهو يجود بنفسه مخاطباً ابن أخيه أبا عبيدٍ:
أبا عبيدٍ وقع الكتاب ... واقترب الوعيد والحساب
وعند رحلي جملٌ منجاب ... أحمر في حاركه انصباب
ثم قضى نحبه ودلاه ابن الزبير في حفرته.
خيار بن أوفى النهديشاعر إسلامي دخل على معاوية فقال له: ما صنع بك الدهر؟ فقال يا أمير المؤمنين. صدع قناتي، وشيب سوادي، وأفنى لذاتي، وجرأ علي أعدائي، ولقد بقيت زماناً آنس بالأصحاب. وأسبل الثياب. وآلف الأحباب. فبادوا عني، ودنا الموت مني. فقال له أنشدني ما قلت في الخمر والنهي عنها، فقال:
أنهد بن زيدٍ ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوها إنني غير فاعل
فأني وجدت الخمر شيئاً ولم يزل ... أخو الخمر حلالاً شرار المنازل
فكم قد رأينا من فتى ذي جهالةٍ ... صحا بعد أزمان وطول تجاهل
ومن سيدٍ قد قنعته مذلة ... فعاش ذليلاً ضحكةً في المحافل
فلله أقوام تمادوا بشربها ... فأضحوا وهم أحدوثة في القوافل
فقال معاوية: صدقت والله لكم من سيدٍ أدمنها فتركته ضحكةً وأحدوثةً، ومن ذي رغبةٍ فيها قد صحا عنها فصار سيد قومه، والله ما وضع شيء الرجل كما وضعه الشراب، والله لهي الداء العياء. مات خيار النهدي في خلافة يزيد بن معاوية.
باب الدال
داود بن القاضي

أحمدبن أبي داود. كان أديباً شاعراً فاضلاً، وكان صديقاً لمحمد بن بشيرٍ الرياضي الشاعر المشهور، وكان ابن بشيرٍ كثير التردد عليه، ففقد ابن بشيرٍ يوماً أهلوه، وطلبوه فلم يجدوه، وكان مع أصحاب له خرج معهم للنزهة فجاءوا إلى القاضي داود بن أحمد يسألونه عنه، فقال لهم اطلبوه في منزل حسنٍ المغنية، فإن وجدتموه وإلا فهو في حبسأبي شجاعٍ صاحب شرطة خمار التركي. فلما كان بعد أيامٍ جاء ابن بشيرٍ إليه فقال له: إيهٍ أيها القاضي، كيف دللت على أهلي؟ قال: كما بلغك، وقد قلت في ذلك أبياتاً، قال: أو فعلت ذلك أيضاً؟ زدني من برك، هات، أي شيء قلت؟ فأنشده:
ومرسلةٍ توجه كل يومٍ ... إلى وما دعا للصبح داعٍ
تسائلني وقد فقدوه حتى ... أرادوا بعده قسم المتاع
إذا لم تلقه في بيت حسنٍ ... مقيماً للشراب وللسماع
ولم ير في طريق بني سدوسٍ ... يخط الأرض منه بالكراع
يدف حزونها بالوجه طوراً ... وطوراً باليدين وبالذراع
فقد أعياك مطلبه وأمسى ... بلا شكٍ بحبسأبي شجاع
فجعل ابن بشيرٍ يضحك ويقول: أيها القاضي لو غيرك يقول لي هذا لعرف مصيره، ثم يبرح حتى أعطاه داود مائتي درهمٍ وخلع عليه.
داود بن أحمد بن يحيىابن الخضر أبو سليماني الداوودي الضرير الملهمي البغدادي المقريء الأديب. قرأ القرآن بالروايات على أبي الحسن علي بن عساكر البطائحي، وأبي الفضل أحمد بن محمد بن شفيفٍ، وبرع في الأدب وكان مولعاً بشعرأبي العلاء المعري يحفظ منه جملةً صالحةً، ولذلك كان الناس يرمونه بسوء العقيدة، توفي أبو سليمان ببغداد سنة خمس عشرة وستمائة، ومن شعره:
أعلل القلب بذكراكم ... والقلب يأبى غير لقياكم
حللتم قلبي وبنتم فما ... أدناكم كم مني وأقصاكم؟
يا حبذا ريح الصبا إنها ... تروح القلب برياكم
وقال:
إلى الرحمن أشكو ما ألاقى ... غداة غدٍ على هوج النياق
نشدتكم بمن زم المطايا ... أمر بكم أمر من الفراق؟
وهل داء أمر من التنائي ... وهل عيش ألذ من التلاقي؟
داود بن سلممولى بني تميم بن مرة شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، كان يسكن المدينة، وكان يقال له: الآدم لشدة سواده، وكان من أقبح الناس وجهاً وأشدهم بخلاً، طرقه قوم بالعقيق فصاحوا به العشاء والقرى يا بن سلمٍ، فقال لهم: لا عشاء لكم عندي ولا قرىً، قالوا: فأين قولك إذ تقول؟
يا دار هندٍ ألا حييت من دار ... لم أقض منك لباناتي وأوطاري
عودت فيها إذا ما الضيف نبهني ... عقر العشار على يسر وإعسار
قال: لستم من أولئك الذين عنيت.
وقدم داود دمشق فنزل على حرب بن خالد بن يزيد ابن معاوية، فلما دخل داره قام غلمانه إلى متاعه فأدخلوه وحطوا عن راحلته، ثم دخل على حربٍ فأنشده:
فلما دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حرباً لقيت النجاحا
وجدناه يحمده المجتدو ... ن، ويابي على العسر إلا سماحا
يغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النياحا
فأنزله وأكرمه وأجازه بجائزة عظيمةٍ، ثم استأذنه للخروج فأذن له وأعطاه ألف دينار وقال له: لا إذن لك علي متى جئت، فوده وخرج من عنده وغلمانه جلوس فلم يقم إليه منهم أحد، فظن أن حرباً ساخط فرجع فقال له: إنك على موجدةٍ؟ قال: لا وما ذاك؟ فأخبره أن غلمانه لم يعينوه على رحله، فقال له: ارجع إليهم فسلهم، فرجع إليهم فقالوا له: إنا ننزل من جاءنا ولا نخرج من خرج من عندنا. وكان داود منقطعاً إلى قثم بن العباس وفيه يقول:
نجوت من حلٍ ومن رحلةٍ ... يا ناق إن قربتني من قثم
إنك إن بلغتنيه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم
لم يدر ما لا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعم
أصم عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم
توفي داود بن سلمٍ في حدود سنة عشرين ومائةٍ.
داود بن الهيثم

ابن إسحاق بن البهلول بن حسان بن حسان بن سنانٍ أبو سعدٍ التنوخي الأنباري. قال الخطيب البغدادي في تاريخ مدينة السلام: كان نحوياً لغوياً حسن المعرفة بالعروض واستخراج المعمى، فصيحاً كثير الحفظ للنحو واللغة والأدب والأشعار، وله شعر جيد، أخذ عن ابن السكيت وثعلب، وسمع من جده إسحق وابن شبة، وأخذ عنه ابن الأزرق وجماعة، وله كتاب في النحو على مذهب ابن الأزرق وجماعة، وله كتاب في النحو على مذهب الكوفيين، وكتاب خلق الإنسان في اللغة وغير ذلك. مات بالأنبار سنة ست عشرة وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنةً. ومن شعره:
بساتيها للمسك فيها روائح ... وأشجارها للريح فيها ملاعب
كأن هزيز الريح بين غصونها ... ضرائر أضحى بينهن تعاتب
كأن القباب الغر فيها مواكب ... تضيء كما أمست تضيء الكواكب
كأن فتيت المسك بين ترابها ... إذا ما تهادته الصبا والجنائب
ومن تحتها الأنهار تجري مياهها ... ففائضة منها ومنها سواكب
كأن مجاريها سبائك فضةٍ ... تذاب وأسياف تهز قواضب
دعبل بن عليابن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن أنس بن خزيمة. كذا قال أبو الفرج، وقال آخرون: دعبل بن علي بن رزين بن عثمان ابن عبد الله بن بديل بن ورقاء يتصل نسبه بمضر، أبو عليٍ الخزاعي، وعلى هذا الأكثر. شاعر مطبوع مفلق يقال: إن أصله من الكوفة وقيل من قرقيسيا وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر إلى غيرها من البلاد فدخل دمشق ومصر، وكان هجاءً خبيث اللسان لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من الوزراء ولا من أولادهم، ولا ذو نباهةٍ أحسن إليه أو لم يحسن، وكان بينه وبين الكميت بن زيدٍ وأبي سعدٍ المخزومي مناقضات، وكان من مشاهير الشيعة، وقصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر، وأسنى المدائح قصد بها أبا علي بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرةً آلاف درهمٍ وخلع عليه بردةً من ثيابه، فأعطاه بها أهل قمٍ ثلاثين ألف درهم فلم يبعها، فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها فقال لهم: إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم، فدفعوا له ثلاثين ألف درهمٍ فحلف كما واحداً فكان في أكفانه، ويقال: إنه كتب القصيدة في ثوبٍ وأحرم فيه وأوصى بأن يكون في أكفانه، ونسخ هذه القصيدة مختلفة، في بعضها زيادات يظن أنها مصنوعة ألحقها بها أناس من الشيعة، وإنا موردون هنا ما صح منها، قال:
مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ ... ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منىً ... وبالركن والتعريف والجمرات
ديار عليٍ والحسين وجعفرٍ ... وحمزة والسجاد ذي الثفنات
ديار عفاها كل جونٍ مباكر ... ولم تعف للأيام والسنوات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها ... متى عهدها بالصوم والصلوات؟
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى ... أفانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبيإذا اعتزوا ... وهم خر قاداتٍ وخير حماة
وما الناس إلا حاسد ومكذب ... ومضطغن ذو إحنةٍ وترات
إذا ذكروا قتلى بيدرٍ وخيبرٍ ... ويوم حنين أسبلوا العبرات
قبور بكوفاتٍ وأخرى بطيبةٍ ... وأخرى بفخٍ نالها صلواتي
وقبر ببغداد لنفسٍ زكيةٍ ... تضمنها الرحمن في الغرفات
فأما المصمات التي لست بالغاً ... مبالغها مني بكنه صفات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً ... يفرج منها الهم والكربات
نفوس لدى النهرين من أرض كربلا ... معرسهم فيها بشط فرات
تقسمهم ريب الزمان كما ترى ... لهم عمرة مغشية الحجرات
سوى أن منهم بالمدينة عصبةً ... مدى الدهر أنضاء من الأزمات
قليلة زوارٍ سوى بعض زور ... من الضبع والعقبان والرخماتٍ

لهم كل حينٍ نومة بمضاجعٍ ... لهم في نواحي الأرض مختلفات
وقد كان منهم بالحجاز وأهلها ... مغاوير يختارون في السروات
تنكب لاواء السنين جوارهم ... فلا تصطليهم جمرة الجمرات
إذا وردوا خيلاً تشمس بالقنا ... مساعر جمر الموت والغمرات
وإن فخروا يوماً أتوا بمحمدٍ ... وجبريل والفرقان ذي السورات
ملامك في أهل النبيفإنهم ... أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي
تخيرتهم رشداً لأمري فإنهم ... على كل حالٍ خيرة الخيرات
فيا رب زدني من يقيني بصيرةً ... وزد حبهم يا رب في حسناتي
بنفسي أنتم من كهولٍ وفتيةٍ ... لفك عناةٍ أو لحمل ديات
أحب قصي الرحم من أجل حبكم ... وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
وأكتم حبيكم مخافة كاشحٍ ... عنيدٍ لأهل الحق غير موات
لقد حفت الأيام حولي بشرها ... وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألم تر أني من ثلاثين حجةً ... أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً ... وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زيادٍ حفل القصرات
بنات زياد في القصور مصونة ... وآل رسول الله في الفلوات
إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم ... أكفاً عن الأوتار منقبضات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ ... لقطع قلبي إثرهم حسراتي
خروج لا محالة خارج ... يقوم علي اسم الله والبركات
يميز فينا كل حقٍ وباطلٍ ... ويجزي على النعماء والنقمات
سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم ... كفاني ما ألقى من العبرات
فيا نفسس طيبي ثم يا نفس أبشري ... فغير بعيدٍ كل ما هو آت
فإن قرب الرحمن من تلك مدتي ... وأخر من عمري لطول حياتي
شفيت ولم أترك لنفسي رزيةً ... ورويت منهم منصلي وقناتي
أحاول نقل الشمس من مستقرها ... وأسمع أحجاراً من الصلدات
فمن عارفٍ لم ينتفع ومعاندٍ ... يميل مع الأهواء والشبهات
قصاراى منهم أن أموت بغصةٍ ... تردد بين الصدر واللهوات
كأنك بالأضلاع قد ضاق رحبها ... لما ضمنت من شدة الزفرات
ومما يختار من شعر دعبلٍ قصيدته العينية التي رثي بها الحسين عليه السلام قال.
رأس ابن بنت محمدٍ ووصيه ... يا للرجال على قناةٍ ترفع
والمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ ... لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع
كحلت بمنظرك العيون عمايةً ... وأصم نعيك كل أذنٍ تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مضجع ولخط قبرك موضع
ومن مختاراته أيضاً قوله:
خليلي ماذا أرتجي من غد امريءٍ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن أمرأ قد ضن منه بمنطقٍ ... يسد به فقر امرئٍ لضنين
ومن مختار شعره قوله:
أين الشباب وأيةً سلكا؟ ... لا أين يطلب ضل بل هلكا؟؟
لا تعجبي يا سلم من رجلٍ ... ضحك المشيب برأسه فبكى
لا تأخذوا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
ولد عبل كتاب طبقات الشعراء. وديوان شعرٍ. مات سنة ستٍ وأربعين ومائتين.
دعوان بن علي

ابن حماد بن صدقة الجبائي أبو محمدٍ الضرير المقريء، كان من أعيان القراء ببغداد متميزاً بالقراءة، بصيراً بالعربية، حسن الطريقة والسمت. قرأ القرآن بالروايات على أبي طاهرٍ أحمد بن علي بن سوارٍ، وأبي الخطاب علي ابن عبد الرحمن، وأبي القاسم يحيى بن أحمد السبي، وسمع عن الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي، والحسين بن علي بن أحمد بن البسري، وأبي المعالي ثابت بن بندارٍ. وقرأ عليه القرآن خلق كثير، وروى عن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
دكين بن رجاءٍ الفقيمي
راجز مشهور، وفد على الوليد بن عبد الملك وكان الوليد متأهباً لسباق الخيل فقاد دكين فرسه للسباق، فلما رآه الوليد وكان الفرد دميماً قال: أخرجوه من الحلبة، قبح الله هذا، فقال دكين يا أمير المؤمنين: والله مالي مال غيره، فإن لم يسبق خيلك فهو حبيس في سبيل الله. فضحك الوليد وأمر بختمه وأرسلت الخيل فجاء سابقاً فقال دكين:
قد أغتدي والطير في أكنات ... يخدوني الشمأل في الفلاة
والليل لم يحسر عن القناة ... وللندى لم على لماتي
بذي شنيبٍ سابغ الصلعات ... ناتي المعد مشرف القطاة
من قارحٍ وأمنٍ وآت ... ومن رباعٍ ورباعيات
ومن ثنيٍ ومثنيات ... وجذعٍ عبلٍ ومجذعات
بتن على الجبل مسطرات ... حتى إذا انشقت دجى الظلمات
ووضع الخيل على اللبات ... وفرق الغلمان بالوصاة
من كل ذي قرطٍ مقزعات ... أرسلن يعبطن ذرى الصعدات
يسرى دوين الشمس ملخصات ... من قسطلان القاع مسحلات
حتى إذا كن بمهويات ... بالنصف بين الخط والغايات
عضبن أبيه على الشبات ... وسط سنا ضنطٍ ملحمات
مثل السراحين مصليات ... جاء أمام سبق الغايات
منهن من عرض للذمات
وقال يمدح مصعب بن الزبير:
يا ناق خبى بالقيود خببا ... حتى تزوري بالعراق مصعبا
قد علم الأنام إذ ينتخبا ... بيانه ورأيه المجربا
وفي الأمور عقله المؤدبا ... يامرسل الريح الجنوب والصبا
وآذاناً للفلك تجري خببا ... وخالق الاء وشيجاً نسبا
يعيد خلقاً بعد خلقٍ عجبا ... عظماً ولحماً ودماً وعصبا
خالاً وعما وابن عمٍ وأبا ... أعط الميأر مصعباً ما احتسبا
واجعل له من سلسبيلٍ مشربا ... فرعاً يزين المنبر المنصبا
قلباً دهياً ولساناً قصعبا ... هذا وإن قيل له هب وهبا
جوارياً وفضةً وذهبا ... والخيل يعلكن الحديد المنشبا
فوراً تلجلجن أبازيم الشبا ... قد جعل الناس إليه سببا
مات دكين بن رجاء سنة خمسٍ ومائةٍ.
دكين بن سعيدٍ الدارمي
التميمي الراجز، وهو غير دكين بن رجا المتقدم واشتبها على ابن قتيبة في طبقات الشعراء فجعلهما واحداً، ودكين بن سعيد هذا هو الذي كان منقطعاً إلى عمر بن عبد العزيز حين كان والياً بالمدينة يسامزه معأبي عونٍ وسالم بن عبد الله، فلما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة قصده، فلما استأذن عليه قال له الحاجب: إنه في شغل برد المظالم، فترقب خروج عمر للصلاة فلما خرج ناداة فقال:
يا عمر الخيرات والمكارم ... وعمر الدسائع العظائم
إني امرؤ من قطن بن دارم ... أسد حق المسلم المسالم
بيع يمينٍ بالإخاء الدائم ... إذ تنتحى والله غير نائمٍ
ونحن في ظلمة ليلٍ عاتم ... عندأبي عونٍ وعند سالمٍ
فدخل عمر على أمهات أولاده فما زال يجمع من عندهن العشرة والعشرين حتى جمع له ثلاثمائة فأعطاه إياها. مات دكين هذا سنة تسعٍ ومائةٍ.
باب الذال
ذو القرنين بن ناصر الدولة

أبي محمدٍ الحسن بن عبد الله، أبو المطاع بن حمدان التغلي المعروف بوجيه الدولة. كان أديباً فاضلاً شاعراً ولى إمرة دمشق سنة اثنتي عشرة وأربعمائةٍ. ثم عزل ثم وليها سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ، وبقى إلى سنة تسع عشرة وأربعمائةٍ. ومن شعره:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا
أيقنت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا
وقال:
يا غانياً عن خلتى ... أنا عنك إن فكرت أغنى
إن التقاطع والعقو ... ق هما أزالا الملك عنا
وأظن أن لن يتركا ... في الأرض مؤتلفين منا
يفنى الذي وقع التنا ... زع بيننا فيه ونفنى
وقال:
بأبي من هويته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولاص فلما التقينا ... كان تسليمه علي وداعا
وقال:
أفدي الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلغت نجادى للعناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
فإن أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
وقال:
من كان يرضى بذلٍ في ولايته ... خوف الزوال فإني لست بالراضى
قالوا فتركب أحياناً فقلت لهم ... تحت الصليب ولا في موكب القاضي
توفي أبو المطاع بمصر في صفرٍ سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائة.
باب الراء
راشد بن إسحاق بن راشدأبو حليمة الكاتب، كان أديباً كاتباً شاعراً، ذكره ابن المرزبان في طبقات الشعراء وقال: كان أكثر شعره في رثاء متاعه، وإنما كان يقول ذلك لتهمة لحقته من الأمير عبد الله بن طاهرٍ - أيام كتابته له - في خادمٍ لعبد الله، واتصل راشد بالوزير محمد بن عبد الله الزيات، وله معه أخبار حسان.
حدث يحيى بن عبادٍ قال: حج محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون، فلما قدم من الحج كتب إليه راشد الكاتب يقول:
لا تنسى عهدي ولا مودتيه ... واشتق إلى طلعتي ورؤيتيه
فإن تجاوزت ما أقول إلى ال ... عصب فذاك المأمول منك ليه
فأجابه محمد بن عبد الملك.
إنك مني بحيث يطرد الن ... اظر من تحت ماء دمعتيه
ولا ومن زادني تودده ... على صحابي بفضل غيبتيه
ما أحسن الترك والخلاف لما ... تريد مني وماتقول ليه!
يابأبي أنت ما نسيتك في ... يوم دعائي ولا هديتيه
ناجيت بالذكر والدعاء لك الل ... ه لك الله رافعاً يديه
حتى إذا ما ظننت بالملك ال ... قادر أن قد أجاب دعوتيه
قمت إلى وضع النعال وقد ... أقمت عشرين صاحباً معيه
وقلت لي صاحب أريد له ... نعلاً ولو من جلود راحتيه
فانقطع القول عند واحدةٍ ... قال الذي اختارها بشارتيه
فقلت عندي البشارة والش ... شكر وقلا في جنب حاجتيه
ثم تخيرت بعد ذاك من ال ... عصب اليماني بفضل خبرتيه
موشيةً لم أزل ببائعها ... أرغب حتى زها علي بيه
يرفع في سومه وأرغبه ... حتى التقي زهده ورغبتيه
وقد أتاك الذي امرت به ... فاعذر بكثر الإنعام قلتيه
وقال راشد الكاتب وهو يجود بنفسه في مرضه الذي مات فيه بطريق مكة. ولم أقف له على شعرٍ خالٍ من الفحش والمجون غيرها:
أطبقت للنوم جفناً ليس ينطبق ... وبت والدمع في خدي يستبق
لم يسترح من له عين مؤرقة ... وكيف يعرف طعم الراحة الأرق؟
وددت لو تم لي حجي ففزت به ... ما كل ما تشتهيه النفس يتفق
ربيعة بن عامرابن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد الله ابن عدس بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميمٍ، الملقب بمسكينٍ، قال أبو عمرٍ الشيباني: وإنما لقب مسكيناً لقوله:

أنا مسكين لمن أنكرنى ... ولمن يعرفني جد نطق
لا أبيع الناس عرضي إننى ... لو أبيع النسا عرضي لنفق
وقال ابن قتيبة: وسمي المسكين لقوله:
وسميت مسكيناً وكانت لجاجةً ... وإني لمسكين إلى الله راغب
وكان مسكين شاعراً مجيداً سيداً شريفاً، وكان بينه وبين الفرزدق مهاجاةٌ، فدخل بينهما شيوخ بني عبد الله وبني مجاشعس فتكافا، واتقاه الفرزدق خشية أن يستعين عليه بجرير، واتقى مسكين الفرزدق خوفاً من أن يعينه عليه عبد الرحمن بن حسانٍ.
وقال الفرزدق: نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئاً: نجوت من زيادٍ حين طلبنى، ونجوت من ابني رميلة وقد نذرا دمى، وما فاتهما أحد طلباه، ونجوت من مهاجاة مسكينٍ الدارمى، لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبى، لأنه من بحبوحة نسبي وأشراف عشيرتى، فكان جرير حينئذٍ ينتصف مني بيدي ولسانى.
ومن مختارات شعر مسكينٍ الدارمي قوله:
ولست إذا ما سرني الدهر ضاحكاً ... ولا خاشعاً ما عشت من حادث الدهر
ولا جاعلاً عضي لمالي وقايةً ... ولكن أقي عرضي فيحرزه وفرى
أعف لدي عسري وأبدى تجملاً ... ولا خر في من لا يعف لدى العسر
وإني لأستحي إذا كنت معسراً ... صديقي وإخواني بأن يعلموا فقرى
وأقطع إخواني وما حال عهدهم ... حياءً وإعراضاً وما بي من كبر
ومن يفتقر يعلم مكان صديقه ... ومن يحيى لا يعدم بلاء من الدهر
ومن مستحسن شعره:
إتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وهناً فانخرق
أو كصدعٍ في زجاج بينٍ ... أو كفتقٍ وهو يعيى من رتق
وإذا جالسته في مجلسٍ ... أفسد المجلس منه بالخرق
وإذا نهنهته كي يرعوى ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ... فهنا كم وافق الشن الطبق
إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب السوء ما شاء نعق
أو حمار السوء إن اشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق
أو كعبد السوء إن جوعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق
أو كغيرى رفعت من ذيلها ... ثم أرخته ضراراً فانخرق
أيها السائل عما قد مضى ... هل جديد مثل ملبوسٍ خلق
وقدم على معاوية فسأله أن يفرض له فأبى، فخرج من عنده وهو يقول.
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحٍ
وإن ابن عم المر فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقال:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ماضر جاراً لي أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر
أغضى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر
ربيعة بن يحيىابن معاوية بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب المعروف بأعشى بني تغلب، شاعر من شعراء الدولة الأموية، كان نصرانياً وعلى النصرانية مات سنة اثنتين وتسعين، وكان يتردد بين البداوة والحضارة، فإذا حضر سكن الشام، وإذا بدا نزل بنواحي الموصل ودار ربيعة حيث منازل قومه. ومن شعره قوله يمدح بني عبد المدان الحارثيين:
فكعبة نجران حتم علي ... ك حتى تناخى بأبوابها
نزور يزيد وعبد المسيح ... وقيساً همو خير أربابها
يبادرنا الورد والياسم ... ين والمسمعات بأقصابها
وبربطنا دائم معمل ... فأي الثلاثة أزرى بها؟
ولما التقينا على آلةٍ ... ومدت إلى بأسبابها
إذا الخير آتٍ فلوت بهم ... وجروا أسافل هدابها
وقال:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس فيها كوكب شرق ... موزر بعميم النبت مشتمل

يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
ربيعة بن ثابتابن لجإ بن العيزار بن لجأٍ الأسدي أبو ثابتٍ الرقي الشاعر، استقدمه أمير المؤمنين المهدي فمدحه بعدة قصائد مشهورةٍ فأجازه وأجزل صلته، وهو الذي قال في يزيد بن حاتمٍ المهلبي ويزيد بن أسيدٍ السلمى:
لشتان ما ين اليزيدين في الندى ... يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم
يزيد سليمٍ سالم المال والغنى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
وهو الذي يقول في العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قصيدته المشهورة التي لم يسبق إليها إجادةً ومنها:
لو قيل للعباس يا بن محمدٍقل لا وأنت مخلد ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلةً ... إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدةٍ ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولةً ... حتى حللت براحتيك عقالها
فبعت إليه العباس بدينارين فقال:
مدحتك مدحة السيف المحلى ... لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحةً ذهبت ضياعاً ... كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء ... كأني إذ مدحتك قد رثيت
فلما بلغت العباس غضب وتوجه إلى الرشيد فقال: إن ربيعة الرقي قد هجاني فأحضره وهم بقتله: فقال يا أمير المؤمنين: مره بإحضار القصيدة فأحضرها، فلما سمعها استحسنها وقال: والله ما قال أحد في الخلفاء مثلها فكم أثابك؟ قال: دينارين، فغضب الرشيد بن العباس وقال: يا غلام أعط ربيعة ثلاثين ألف درهمٍ وخلعةً واحمله على بغلةٍ. وقال له: بحياتي لا تذكره في شعرك لا تعريضاً ولا تصريحاً. وكان الرشيد قد هم بأن يزوج العباس ابنته ففتر عنه لذلك. توفي ربيعة الرقي سنة ثمانٍ وتسعين ومائةٍ.
رزق الله بن عبد الوهابالتميمي البغدادي. أديب شاعر مجيد لا أعرف من أمره غير هذا، توفي ببغداد سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائةٍ.
ومن شعره:
بأبي حبيب زارني متنكراً ... فبدا الوشاة له فولي معرضا
فكأنني وكأنه وكأنهم ... أمل ونيل حال بينهما القضا
وقال:
شارع دار الرقيق أرقني ... فليت دار الرقيق لم تكن
به فتاة للقلب فاتنة ... أنا فداء لوجهها الحسن
رزين العروضي الشاعرأخذ عن عبد الله بن هارون بن السميدع البصري العروضي مؤدب آل سليمان، وكان عبد الله بن هارون يقول أوزاناً غريبةً من العروض، فنحا رزين نحوه في ذلك، فأتى فيه ببدائع جمةٍ، وكان رزين من أصحاب دعبلٍ الخزاعي الشاع. حدث دعبل أنه نزل هو ورزين بقومٍ من بني مخزومٍ فلم يقروهما ولا أحسنوا ضيافتهما، قال دعبل فقلت فيهم:
عصابة من بني مخزوم بت بهم ... بحيث لا تطمع المسحاة في الطين
ثم قلت لرزين أجز، فقال:
في مضغ أعراضهم من خبزهن عوض ... بني النفاق وأبناء الملاعين
ومن شعر رزينٍ أيضاً:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
تؤدي إليه أن كل ثنيةٍ ... تيممها ترمي غليه بقاتل
وقال:
خير الصديق هو الصدوق مقالةً ... وكذاك شرهم المنون الأكذب
فإذا غدوت له تريد نجازه ... بالوعد راغ كما يروغ الثعلب
توفي رزين العروضي سنة سبعٍ وأربعين ومائتين
رسته بن أبي الأبيض الأصبهانيالضرير الشاعر. ذكره حمزة بن الحسن الأصبهاني في تاريخ أصبهان فقال: كان مليح الشعر أشبه الناس شعراً ببشار بن برد، حمل من أصبهان إلى بغداد وأدخل على زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد وكان دميماً فلما رأته قالت: تسمع بالمعدي خير من أن تراه. فقال رشته: أيتها السيدة، إنما المرء بأصغريه، ثم أنشدها وأخذ جائزتها. وله شعر كثير ومنه قوله:
أيها الإخوة الذين لساني ... من قديم الزمان عنهم كليل
جئتكم للسلام حتى إذا ما ... صحت شهراً كما يصيح الدليل

قيل قد أدخل الخوان عليهم ... قلت مالي إذا إليهم سبيل
وقال:
قد مات كل نبيلٍ ... ومات كل نبيه
وما كل أديبٍ ... وفاضلٍ وفقيه
لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه
مات رستة سنة خمس وسبعين ومائةٍ
رمضان بن رستمابن محمد بن عليبن رستم بن هردوز، فخر الدين ابن الساعاتي الخراساني الأصل الدمشقي، وهو أخو بهاء الدين أبي الحسن علي بن رستم بن الساعاتي الشاعر المشهور، وكان فخر الدين هذا طبيباً فاضلاً أديباً شاعراً. وله معرفة تامة بالمنطق والعلوم الحكمية، وكان يكتب خطا منسوباً في غاية الجودة، وتلقى صناعة الطب عن رضي الدين أبي الحجاج يوسف بن حيدرٍ الرحبي الموجود الآن في دمشق، ولازمه زماناً طويلاً، والعلوم الأدبية عن تاج الدين زيدٍ الكندي، وكان خبيراً بعلم الموسيقى ويحسن الضرب بالعود، لقيته بدمشق وحضرت مجالسه غير مرةٍ، وبلغتنا وفاته سنة ثماني عشرة وستمائةٍ. وله من التصانيف: حواش على القانون لابن سينا، وتكملة كتاب القولنج له، والمختار من الأشعار، وغير ذلك، ومن شعره:
وروضةٍ زاد بالأترج بهجتها ... في صفرة اللون يحكي لون مسكين
عجبت منه فما أدرى أصفرته ... من فرقة الغصن أم من خوف سكين؟؟
وقال:
يحسدني قومي على صنعتي ... لأنني بينهم فارس
سهرت في ليلى واستنعسوا ... لن يستوي الدارس والناعس
وقال:
حسب المحب تلذذ بغرامه ... من كل ما يهوي وما يتحبب
راح المحبة لا تريح بروحها ... من كان في شئ سواها يرغب
الرماح بن أبردأبن ثوبان بن سراقة بن قيس بن سلمى بن ظالم بن جذيمة بن يربوعٍ أو شرحبيل المري المعروف بابن ميادة وهي أمه وكانت صقلبيةً، وكان يزعم أنها فارسية. وهو شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. مات في خلافة المنصور سنة تسعٍ وأربعين ومائةٍ، ومن شعره يفخر بنسب أبيه في العرب ونسب أمه في العجم:
أليس غلام بين كسرى وظالمٍ ... بأكرم من نيطت عليه التمائم؟
لو أن جميع الناس كانوا بتلعةٍ ... وجئت بجدي ظالمٍ وابن ظالم
لظلت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سجوداً على أقدامنا بالجماجم
ومن مختار شعره قصيدته البائية التي مدح بها الوليد ابن يزيد ومطلعها:
هل تعرف الدار بالعلياء غيرها ... سافي الرياح ومستن له طنب
دار لبيضاء مسود مسائحها ... كأنها ظبية ترعى وتنتصب
تحنو لأكحل ألقته بمضيعةٍ ... فقلبها شفقاً من حوله يجب
يا أطيب الناس ريقاً بعد هجعتها ... وأملح الناس عيناً حين تنتقب
ليست تجود بنيلٍ حين أسألها ... ولست عند خلاء اللهو أغتصب
في مرفقيها إذا ما عولجت حجم ... على الضجيج وفي أنيابها شنب
وليلةٍ ذات أهوالٍ كواكبها ... مثل القناديل فيها الزيت واللهب
قد جبتها جوب ذي المقراض ممطرةٍ ... إذا استوى مغفلات البيد والحدب
بعنتريسٍ كأن الدبر يلسعها ... إذا ترنم حادٍ خلفها طرب
إلى الوليد أبي العباس قد عجلت ... ودونه المعط من لبنان والكتب
أعطيتني مائةً صفراً مدامعها ... كالمخل زين أعلى نبته الشرب
يسوقها يافع جعد مفارقه ... مثل الغراب غزاه الصر والحلب
وذا سبيبٍ صهيبياً له عرف ... وهامة ذات فرقٍ نابها صخب
لما أتيتك من نجد وساكنه ... نفحت لي نفحةً طارت بها العرب
إني امرؤ أعتفي الحاجات أطلبها ... كما اعتفي سنق يلقي له العشب
ولا ألح على الخلان أسألهم ... كما يلح بعظم القارب القتب
ولا أخادع ندماني لأخدعه ... عن ماله حين يسترخي به لبب

وأنت وابناك لم يوجد لكم مثل ... ثلاثة كلهم بالتاج معتصب
ألطيبون إذا طابت نفوسهم ... شوس الحواجب والأبصار إن غضبوا
قسني إلى شعراء الناس كلهم ... وادع الرواة إذا ما غب ما اجتلبوا
إني وإن قال أقوام مديحهم ... فأحسنوه وما مانوا وما كذبوا
أجري أمامهم جري امرئٍ فلجٍ ... عنانه حين يجري ليس يضطرب
وقال أيضاً:
لقد سبقتك اليوم عيناك سبقةً ... وأبكاك من عهد الشباب ملاعبه
وتذكار عيشٍ قد مضى ليس راجعاً ... لنا أبداً أو يرجع الدر حالبه
كأن فؤادي في يدٍ خبثت به ... محاذرةً أن يقضب الحبل قاضبه
وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه
فو الله ما أدرى أيغلبني الهوى ... إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطيع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
وشعر ابن ميادة كثير اكتفينا بما ذكرناه منه
رؤبة بن العجاجواسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن أسد بن صخر بن كنيف بن عميرة يتصل نسبة بزيد بن مناة، الراجز المشهور من مخضرمي الدولتين ومن أعراب البصرة. سمع من أبي هريرة - رضي الله عنه - والنسابة البكري، وعداده في التابعين. وروى عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى، والنضر بن شميلٍ وخلف الأحمر وغيرهم. وله رجز مشهور مات في زمن المصور سنة خمسٍ وأربعين ومائةٍ. ومن رجزه:
إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضاها ولا تملق
واعمد لأخرى ذات دلٍ مونق ... لينة المس كمس الخرنق
إذا مضت مثل السياط المشق
ومنه وهو مشهور:
من يك ذا بتٍ فهذا بتى ... مقيظ مصيف مشتى
أخذته من نعجات ست
وله شعر قليل منه:
أيها الشامت المعير الشي ... ب أقلن بالشباب افتخارا
قد لبست الشباب غضا طريفاً ... فوجدت الشباب ثوباً معارا
باب الزاء
زاكي بن كامل بن عليٍ
أبو الفضائل المعروف بالمهذب الهبتي القطيفي الملقب بأسير الهوى. كان أديباً فاضلاً شاعراً رقيق الشعر. مات سنة ستٍ وأربعين وخمسمائةٍ. ومن شعره:
عيناك لحظهما أمضى من القدر ... ومهجتي منهما أضحت على خطر
يا أحسن الناس لولا أنت أبخلهم ... ماذا يضرك لو متعت بالنظر؟
جد بالخيال وإن ضنت يداك به ... فقد حذرت وما وقيت من حذر
يا من تمكن في قلبي الغرام به ... لا تبتلي مقلتي بالدمع والسهر
زود بتوديعةٍ أو وقفةٍ فعسى ... تحيى بها نضو أشواقٍ على سفر
وقال:
أفعال ألحاظه المرضى الصحاح بنا ... أضعاف ما يفعل الصمصامة الذكر
عجبت من جفنة بالضعف منتصراً ... على القلوب ويقوى وهو منكسر
ومن لهيب خدودٍ كلما سقيت ... ماء الشباب بنار الحسن تستعر
إن مج في الشرق من فيه الرضاب ترى ... من عرف رياه أهل الغرب قد سكروا
شهود صدق غرامي فيك أربعة ... الوجد والدمع والأسقام والسهر
وقال:
سيدي ما عنك لي عوض ... طال بي في حبك المرض
كم بلا ذنبٍ تهددني ... فجفوني ليس تغتمض
أبغير الهجر تقتلنى؟ ... لا أبالي، هجرك الغرض
ورضائي في رضاك فقل ... ما تشاء لست أعترض
أنت لي داء أموت به ... كم أداويه وينتقض
زائدة بن نعمة بن نعيمٍ
أبو نعمة التتري المعروف بالمحفحف، كان شاعراً جيد الشعر نقي الألفاظ مختارها، رقيق المعاني، يمدح السادات وأهل البيوتات، لقيته بحلب سنة ثمانين وخمسمائةٍ، وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة، ومن شعره:
أصبح الربع من سمية خالي ... غير هين وناشط وغوال
وثلاث كأنهن حمام ... في رمال وأشعث الرأس بال

هللته الرياح مما توالى ... نسجها بالغدو والآصال
من قبول ومن دبورٍ سنوجٍ ... وجنوبٍ ومن صباً وشمال
يجلب الغيث غير سيب حياه ... برسوم الديار والأطلال
كل نبتٍ من الربيع وزهرٍ ... مثل جيدٍ من العرائس حالي
وكذاك الذي عهدنا لديه ... في ظلال الخيام أو في الحجال
كل براقة الثنايا تراها ... برقيق الغروب عذبٍ زلال
وكأن الغمام من بعد وهنٍ ... مازجته بقرقفٍ جريال
كنت في عينها كمرود كحلٍ ... صرت في عينها كشوك السبال
حيث صار السواد مني بياضاً ... وتبدلت أرذل الإبدال
زبان بن العلاءابن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين بن الحارث ابن جلهمة بن حجر بن خزاعة بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان، الإمام أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري أحد القراء السبعة. واختلف في اسمه على أحدٍ وعشرين قولاً، والصحيح أنه زبان لما روي أن الفرزدق جاء معتذراً إليه من أجل هجوٍ بلغه عنه، فقال له أبو عمروٍ:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
ولد أبو عمروٍ بمكة سنة ثمانٍ أو خمسٍ وستين، ومات بالكوفة سنة أربعٍ وخمسين ومائةٍ، أخذ بمكة: والمدينة والكوفة والبصرة عن شيوخٍ كثيرةٍ منهم أنس بن مالكٍ، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد. وأخذ النحو عن نصر بن عاصمٍ الليثي، وأخذ عنه القراءة عرضاً وسماعاً جماعة كثيرون منهم: عبد الله ابن المبارك واليزيدي، وأخذ عنه النحو الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيبٍ البصري، وأبو محمد اليزيدي، وأخذ عنه الأدب وغيره طائفة منهم: أبو عبيدة معمر ابن المثنى، والأصمعي، ومعاذ بن مسلمٍ النحوي وغيرهم. وروى عنه الحروف سيبويه، وكان أعلم الناس بالعربية والقرآن، وأيام العرب والشعر. وكان يونس بن حبيبٍ يقول: لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شئ كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء، وقال أبو عبيدة: أبو عمروٍ أعلم الناس بالقراءات العربية وأيام العرب والشعر، وكانت دفاتره ملء بيته إلى السقف ثم تنسك فأحرقها، وأما حاله في أهل الحديث فقد وثقه يحيى بن معينٍ وغيره وقالوا: صدوق حدة في القراءة وله أخبار حسان، وروى عنه فوائد كثيرة يطول ذكرها.
الزبير بن كبار بن عبد اللهابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو عبد الله القرشي لأسدي، كان علامةً نسابةً أخبارياً وعلى كتابه في أنساب قريش الاعتماد في معرفة نساب القرشيين، أخذ عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه ابن ماجة وابن أبي الدنيا وغيرهما. وكان ثقةً من أوعية العلم ولا يلتفت لقول أحمد بن علي السلماني فيه: إنه منكر الحديث حدث موسى بن هارون قال: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر فاستأذن عليه الزبير بن بكارٍ، فلما دخل عليه أكرمه وعظمه وقال له: إن باعدت بيننا الأنساب فقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين أمرني أن أدعوك وأقلدك القضاء، فقال له الزبير بن بكارٍ: أبعد ما بلغت هذا السن ورويت أن من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكينٍ أتولى القضاء؟ فقال له: فتلحق بأمير المؤمنين بسر من رأى فقال له: أفعل، فأرم له بعشرة آلاف درهمٍ وعشرة تخوت ثيابٍ وظهرٍ حمله ويحمل ثقله إلى حضرة سر من رأى، فلما أراد الانصراف قال له: إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شياً نرويه عنك ونذكرك به، قال نعم. انصرفت من عمرة المحرم فبينا أنا بأثاية العرج إذ أنا بجماعةٍ مجتمعةٍ فأقبلت إليهم، وإذا برجلٍ كان يقنص الظباء وقد وقع ظبي في حبالته، فذبحه فانتقض في يده فضرب بقرته صدره فنشب القرن فيه فمات، وإذا بفتاةٍ أقبلت كأنها الملهاة. فلما رأت زوجها ميتاً شهقت ثم قالت:
يا خشن لو بطل لكنه أجل ... على الأثاية ما أودى به البطل
يا خشن جمع أحشائي وأقلقها ... وذاك يا خشن لولا غيره جلل
أضحت فتاة بني نهدٍ علانيةً ... وبعلها في أكف القوم محتمل

وكنت راغبةً فيه أضن به ... فحال من دون ظبي الريمة الأجل
ثم شهقت فماتت، فما رأيت أعجب به من الثلاثة: الظبي مذبوح، والرجل جريح ميت، والفتاة ميتة. فلما خرج قال الأمير محمد بن عبد الله: أي شيء أفدنا من الشيخ؟ قالوا: الأمير أعلم، قال: قوله:
أضحت فتاة بني نهدٍ علانية
أي ظاهرةً وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل اليوم. ثم ولى الزبير بن بكارٍ قضاء مكة، ومات بها وهو قاض عليها ليلة الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ستٍ وخمسين ومائتين، وللزبير بن بكار من التصانيف: كتاب أنساب قريشٍ وأخبارها. وكتاب أخبار العرب وأيامها. وكتاب نوادر أخبار النسب. وكتاب الموفقيات في الأخبار، ألفه للموفق بالله، وكتاب مزاح النبي صلى الله عليه وسلم. وكتاب وفود النعمان على كسرى: وكتاب الأوس والخزرج. وكتاب النخل. قال ابن النديم: رأيته بخط ابن السكري، وكتاب نوادر المدنيين: وكتاب الاختلاف. وكتاب العقيق وأخباره. وكتاب إغارة كثير على الشعراء. وأخبار ابن ميادة. وأخبار ابن الدمينة. وأخبار ابن قيس الرقيات. وأخبار أبي دعبلٍ الجمحي. وأخبار أبي السائب. وأخبار الأشعث. وأخبار الأحوص. وأخبار ابن هرمة. وأخبار توبة بن الحمير وليلى الأخيلية وأخبار أمية بن أبي الصلت. وأخبار حاتمٍ. وأخبار حسانٍ، وأخبار جميل، وأخبار عبد الرحمن بن حسان وأخبار العرجي، وأخبار عمر بن أبي ربيعة، وأخبار كثيرٍ، وأخبار المجنون، وأخبار نصيبٍ، وأخبار هدبة ابن الخشرم، وأخبار زيادٍ وغير ذلك.
زند بن الجونالمعروف بأبي دلامة الكوفي، أسود، من موالي بني أسدٍ، أدرك آخر أيام بني أمية، ونبغ في أيام بني العباس، وانقطع إلى السفاح والمنصور والمهدي، ومات في خلافة المهدي سنة إحدى وستين ومائتين. وله مع الخلفاء والأمراء أخبار كثيرة ونوادر جمة، فمن ذلك أنا أبا جعفر المنصور أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال، ودراريع كتب عليها: (فسيكفيكم الله وهو السميع العليم). وأن يعلقوا السيوف في المناطق، فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي، فقال له المنصور: كيف أصبحت يا أبا دلامة؟ قال: بشر حالٍ يا أمير المؤمنين، قال: كيف ذلك ويلك؟ قال: وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه على استه، ونبذ كتاب الله وراء ظهره، وصبغ بالسواد ثيابه، فضحك المنصور ووصله، وأمر بتغيير ذلك الزي، وفي ذلك يقول أبو دلامة:
وكنا نرجى من إمامٍ زيادةً ... فجاد بطولٍ زاده في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهودٍ جللت بالبرانس
وخرج أبو دلامة مع روح بن حاتمٍ المهلبي في بعث لقتال الشراة، فلما نشبت الحرب أمره روح بمبارزة فارس من الشراة يدعو إلى البراز، فقال أبو دلامة:
أني أعوذ بروحٍ أن يقدمني ... إلى البراز فتخزي بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد
قد خالفتك المنايا إن صمدت لها ... وإنها لجميع الخلق بالرصد
إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجةً أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد
فضحك منه روح وأعفاه. ولأبي دلامة شعر كثير كله جيد وفيما أوردناه منه كفاية.
زياد بن سلمىأبن عبد القيس، أبو أمامة العبدي، المعروف بزيادٍ الأعجم، مولى عبد القيس، قيل له الأعجم للكنةٍ كانت فيه. أدرك أبا موسى الأشعري وعثمان بن أبي العاص، وشهد معهما فتح إصطخر. عده ابن سلامٍ في الطبقة السادسة من شعراء الإسلام، وهم الفرزدق بهجاء عبد القيس، فأرسل إليه زياد: لا تعجل حتى أهدي إليك هديةً، فبعث إليه:
فما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحاً أراه في أديم الفرزدق
وما تركوا عظماً يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرق
سأكسر ما أبقوه لي من عظامه ... وأنكت مخ الساق منه وأنتفى
وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فلما بلغ الفرزدق الشعر قال: ما إلى هجاء هؤلاء من سبيلٍ ما عاش هذا العبد.

ودخل زياد على عبد الله بن جعفر فسأله في خمس دياتٍ فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس دياتٍ أخر فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر دياتٍ فأعطاه، فأنشأ يقول:
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مراراً لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
وقال يرثي المغيرة بن المهلب:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
مات المغيرة بعد طول تعرضٍ ... للموت بين أسنةٍ وصفائح
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرفٍ سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح
وهي من أحسن المراثي. توفي زياد في حدود المائة.
زيد بن الحسنابن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير بن الحارث ذي رعينٍ، تاج الدين أبو اليمن الكندي البغدادي ثم الدمشقي النحوي، اللغوي المقرئ المحدث. ولد ببغداد سنة عشرين وخمسمائةٍ. وتوفي بدمشق سنة سبع وتسعين وخمسمائة. قرأ النحو على أبي محمدٍ سبط أبي منصورٍ الخياط، وعلى أبي السعادات هبة الله بن الشجري وابن الخشاب، واللغة على أبي منصورٍ موهوبٍ الجواليقي، ومع الحديث من ابن عبد الباقي وآخرين. قدم دمشق فتقدم فيها وتصدر وازدحم عليه الطلاب، وانتقل من مذهب الحنابلة إلى مذهب الحنفية، فتوغل فيه وأفتى واستوزره فروخ شاه، ثم اتصل بأخيه صاحب حماة. واختص به وقرأ عليه الملك المعظم عيسى العربية، فأقرأه كتاب سيبويه والإيضاح لأبي علي الفارسي، وشرح سيبويه لابن درستويه. وقرأ عليه جماعة القراءة والنحو واللغة. وكتب الخط المنسوب وكانت له خزانة كتب جليلة في جامع بني أمية. وله تعليقات على ديوان المتنبي وأخرى على خطب ابن نبانة وكتاب نتف اللحية من ابن دحية رد فيه على ابن دحية الكلبي في كتابه الذي سماه الصارم الهندي في الرد على الكندي، وكتاب في الفرق بين قول القائل طلقتك إن دخلت الدار وبين إن دخلت الدار طلقتك، ألفه جواباً لسؤالٍ ورد عليه، وله غير ذلك: ومن شعره:
لامني في اختصار كتبي حبيب ... فرقت بينه الليالي وبيني
ليتني قد أطلت لكن عذرى ... فيه أن المداد إنسان عيني
زيد بن الحسنالأحاظي التميمي، أديب شاعر كان بعد الخمسمائة، ومن شعره قوله في سلطان شاحط من بلاد اليمن:
قالوا لنا السلطان في شاحطٍ ... يأتي الزما من موضع الغائط
قلت هل السلطان من فوقه ... قالوا بل السلطان من هابط؟
زيد بن عليابن عبد الله أبو القاسم الفارسي الفسوي، كان علامةً فاضلاً نحوياً لغوياً مشاركاً في عدة علومٍ، أخذ النحو عن أبي الحسين ابن أخت أبي عليٍ الفارسي، وروى عنه الإيضاح لخاله، وقرأ على الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم الكوفي، وأخذ الحديث عن أبي ذرٍ الهروي وغيره، وأقرأ العربية بحلب ودمشق، وله شرح الإيضاح في النحو لأبي عليٍ الفارسي، وشرح الحماسة لأبي تمامٍ وغير ذلك. مات بطرابلس في ذي الحجة سنة سبعٍ وستين وأربعمائة.
باب السين
سالم بن أحمدابن سالمٍ شيخنا أبو المرجي بن أبي الصقر التميمي الحاجب المعروف بالمنتخب، النحوي العروضي البغدادي، كان أديباً فاضلاً نحوياً منفرداً بالعروض، سمع صحيح مسلمٍ من المؤيد الطوسي، وكان محبوباً حسن الأخلاق. قرأت عليه العربية والعروض ببغداد، وله أرجوزة في النحو، وكتاب في العروض، وكتاب في القوافي، وكتاب في صناعة الشعر وغير ذلك. مات ببغداد يوم الأحد خامس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وستمائةٍ.
السائب بن فروخأبو العباس الضرير المكي الشاعر، مولى بني جذيمة ابن عدي بن الديل. سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه عطاء وحبيب بن أبي ثابتٍ وعمرو بن دينار ووثقه أحمد، وروى له البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وكان منحرفاً عن آل أبي طالبٍ مائلاً إلى بني أمية مادحاً لهم، وهو القائل لأبي الطفيل عامر بن واثلة وكان شيعياً:
لعمرك إنني وأبا طفيل ... لمختلفان والله الشهيد

لقد ضلوا بحب أبي تراب ... كما ضلت عن الحق اليهود
وهو القال رثى بني أميةً عند انقضاء دولتهم:
أمست نساء بني أمية أيماً ... وبناتهم بمضيعةٍ أيتام
نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود تنام
خلت المنابر والأسرة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
توفي أبو العباس الأعمى بعد سنة ستٍ وثلاثين ومائةٍ.
سحيم بن حفصٍ
أبو اليقظان الأخباري النسابة. توفي سنة تسعين ومائةٍ، ذكره ابن النديم وذكر له من المصنفات: كتاب أخبار تميمٍ، كتاب حلق تميمٍ بعضها بعضاً، كتاب نسب خندفٍ وأخبارها، كتاب النسب الكثير كتاب النوادر.
سراج بن عبد الملك بن سراجٍ
أبو الحسين بن أبي مروان النحوي اللغوي الأخباري الأديب الشاعر، كان عالم الأندلس في وقته، كان يجتمع إليه مهرة النحاة كابن الأبرش وابن البادش ومن في طبقتهما يتلقون عنه لوقوفه على دقائق النحو ولغات العرب وأشعارها وأخبارها، روى عنه القاضي عياض وابن خيرة وغيرهما. ومن شعره:
بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... في آملٍ شكر المعروف أو كفرا
كالغيث ليس يبالي حينما انكسبت ... منها الغمائم ترباً كان أو حجرا
مات ابن أبي مروان سنة ثمانٍ وخمسمائة.
السري بن أحمد بن السريأبو الحسن الكندي المعروف بالسري الرفاء الموصلي الشاعر المشهور. أسلمه أبوه صبياً للرفائين بالوصل فكان يرفو ويطرز، وكان مع ذلك ينظم الشعر ويجيد فيه. كتب إليه في ذلك الحال صديق له يسأل عن خبره وحاله في حرفته فكتب إليه:
يكفيك من جملة أخباري ... يسري من الحب وإعساري
في سوقةٍ أفضلهم مرتدٍ ... نقصاً ففضلي بينهم عاري
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنةً وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقاً ... كأنه من ثقبها جاري
فلما جاد شعره انتقل من حرفة الرفو إلى حرفة الأدب، واشتغل بالوراقة فكان ينسخ ديوان شعر كشاجم وكان مغري به، وكان يدس فيما يكتبه منه أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه وينفق سوقه، ويشنع بذلك على الخالديين لعداوةٍ كانت بينه وبينهما فكان يدعى عليهما سرقة شعره وشعر غره، فكان فيما يدسه من شعرهما في ديوان كشاجم، يتوخى اثبات مدعاة، ولم يزل السرى في ضنكٍ من العيش إلى أن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة ومدحه وأقام بحضرته فاشتهر وبعد صيته، ونفق سوق شعره عند أمراء بني حمدان ورؤساء الشام والعراق، ولما مات سيف الدولة انتقل السري إلى بغداد ومدح الوزير المهلبي وغيره من الأعيان والصدور فارتفق وارتزق، وحسنت حاله وسار شعره في الآفاق، وللسري تصانيف منها: كتاب الديرة، وكتاب المحب والمحبوب. والمشموم والمشروب وديوان شعرٍ يدخل في مجلدين. وكانت وفاته ببغداد سنة اثنتين وستين وثلاثمائةٍ. ومن مدائحه لسيف الدولة قوله:
أعزمتك الشهاب أم النهار ... وراحتك السحاب أم البحار؟؟
خلقت منيةً ومنىً وتضحى ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلى الدين أو تحمى حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
ومنها:
حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظراً فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقاً ... ولم نر قبله ليثاً يزار
فعشت مخيراً لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
وضيفك للحيا المنهل ضف ... وجارك للربيع الطلق جار
ومن غرر شعره في الغزل قوله.
بلاني الحب فيك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني
أبيت الليل مرتقباً أناجي ... بصدق الوجد كاذبة ذ
فتشهد لي على الأرق الثريا ... ويعلم ما أجن الفرقدان
إذا دنت الخيام به فأهلاً ... بذاك الخيم والخيم الدواني
فبين سجوفها أقمار تمٍ ... وبين عمادها أغصان بان
ومذهبة الخدود بجلنارٍ ... مفضضة الثغور بأقحوان
سقانا الله من رياك ريا ... وحيانا بأوجهك الحسان

ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحى من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحب أحلى في جناني
فيا ولع العواذل خل عنى ... ويا كف الغرام خذي عناني
وقال في الورد:
لو رحبت كأس بذي زورةٍ ... لرحبت بالورد إذ زارها
جاء فخلناها خدوداً بدت ... مضرمةً من خجل نارها
وعطر الدنيا فطابت به ... لا عدمت دنياه عطارها
وقال:
وروضةٍ بات طل الغيث ينسجها ... حتى إذا نسجت أضحى يديجها
إذا تنفس فيه ريح نرجسها ... ناغى جنى خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة نارٍ إذ يؤججها
لا تمزجنها بغير الريق منك وإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقل ما بي من حبيك أن يدي ... إذا دنت من فؤادي كان ينضجها
سعدان بن المباركأبو عثمان الضرير النحوي الراوية مولى عاتكة مولاة المهدي امرأة المعلى بن طريفٍ الذي ينسب إليه نهر المعلى ببغداد. كان من رواة العلم والأدب كوفي المذهب. روى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، وروى عنه محمد بن الحسن بن دينارٍ الهاشمي. وله من المصنفات: كتاب النقائض، وكتاب الأمثال. مات سنة عشرين ومائتين.
سعد بن أحمد بن مكيٍ
النيلي المؤدب الشيعي. كان نحوياً فاضلاً عالماً بالأدب مغالياً في التشيع، له شعر جيد أكثره في مديح أهل البيت، وله غزل رقيق. مات سنة خمسٍ وستين وخمسمائةٍ وقد ناهز المائة. ومن شعره:
قمر أقام قيامتي بقوامه ... لم لا يجود لمهجتي بذمامه؟
ملكته كبدي فأتلف مهجتي ... بجمال بهجته وحسن كلامه
وبمبسمٍ عذبٍ كأن رضابة ... شهد مذاب في عبير مدامه
وبناظرٍ غنجٍ وطرفٍ أحورٍ ... صمى القلوب إذا رمى بسهامه
وكأن خط عذاره في خده ... شمس تجلت وهي تحت لئامه
فالصبح يسفر من ضياء جبينه ... والليل يقبل من أثيث ظلامه
والظبي ليس لحاظه كلحاظه ... والغصن ليس قوامه كقوامه
قمر كأن الحسن يعشق بعضه ... بعضاً فساعده على قسامه
فالحسن من تلقائه وورائه ... ويمينه وشماله وأمامه
ويكاد من ترفٍ لرقة خصره ... ينقد بالأرداف عند قيامه
سعد بن الحسن بن سليمانأبو محمد النوراني الحراني النحوي الأديب الشاعر، كان تاجراً يسافر إلى الشام والعراق ومصر وخراسان، وسكن بغداد مرةً وأخذ فيها عن أبي منصورٍ موهوبٍ الجواليقي وغيره، وكان عارفاً بالنحو جيد النظم والنثر. مات سنة ثمانين وخمسمائةٍ ومن شعره.
ولست كمن أخنى عليه زمانه ... فظل على أحداثه يتعتب
تلذ له الشكوى وإن لم يجد بها ... شفاءً كما يلتذ بالحك أجرب
وقال:
جاءت تسائل عن ليلى فقلت لها ... وصورة الهم تمحو صورة الجذل
ليلى بكفك بأغنى عن سؤالك لي ... إن بنت طال وإن واصلت لم يطل
سعد بن الحسن بن شدادٍ
أبو عثمان المعروف بالناجم، كان أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً، وكان بينه وبين ابن الرومي صحبة ومودة ومخاطبات توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ ومن شعره:
شدو ألد من ابتدا ... ء العين في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفسٍ ونيل رجائها
وقال:
علمي بأنك جاهل ... هو جنة لك من غيابي
والصمت عنك وصرم حب ... لى منك أبلغ من عتابي
وجواب مثلك أن يقا ... بل بالسكوت عن الجواب
ما زلت أعلم عن كلا ... ب الناس فعل أخي اجتناب
وأبيحهم صفح الذنوب ... فكيف عن كلب الكلاب؟
وقال:
لئن كان عن عيني أحمد غائباً ... فما هو عن عين الضمير بغائب
له صورة في القلب لم يقصها النوى ... ولم تتخطفها أكف النوائب

إذا ساءني منه نزوح دياره ... وضاقت علي في نواه مذاهبي
عطفت على شخصٍ له غير نازحٍ ... محلته بين الحشا والترائب
وقال:
قالوا اشتكت وجننتا وجهه ... قلت لهم أحسن ما كان
حمرة ورد الخد أعدتهما ... والصبغ قد ينفذ أحيانا
سعد بن علي بن القاسمابن علي بن القاسم، أبو المعالي الأنصاري الحظيري ثم البغدادي المعروف بالوراق دلال الكتب، كان أديباً فاضلاً شاعراً رقيق الشعر، وله مصنفات منها: زينة الدهر وعصرة أهل العصر في ذكر لطائف شعراء العصر، ذيل به دمية القصر للباخرزي الذي جعله ذيلاً على يتيمة الدهر للثعالبي، وله كتاب لمح الملح، وديوان الشعر توفي ببغداد يوم الاثنين خامس عشر من صفرٍ سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
اشرب على طرب من كف ذي طربٍ ... قد قام في طربٍ يسعى إلى طرب
من خندريسٍ كعين الديك صافيةٍ ... و ما تخيرها كسرى من العنب
فالراح من ذهبٍ والكأس من ذهبٍ ... يا من رأى ذهباً يسقي على ذهب!
وقال:
ومعذرٍ في خده ... ورد وفي فمه مدام
ما لان لي حتى تغ ... شى صبح طلعته ظلام
كالمهر يجمح تحت را ... كبه ويعطفه اللجام
وقال:
وددت من الشوق المبرح أنني ... أعار جناحي طائرٍ فأطير
فما لنعيمٍ لست يه لذاذة ... ولا لسرورٍ لست فيه سرور
وقال.
قل لمن عاب شامةً لحبيبي ... دون فيه دع الملامة فيه
إنما الشامة التي قلت عنها ... فص فيروزجٍ بخاتم فيه
سعد بن محمد بن عليابن الحسن بن سعيد بن مطر بن مالك بن الحارث ابن سنان الأزدي أبو طالبٍ المعروف بالوحيد البغدادي، كان عالماً بالنحو واللغة والعروض بارعاً في الأدب، أخذ عنه أبو غالب بن بشران النجوى وغيره، وله شرح ديوان المتنبي. مات سنة خمسٍ وثمانين وثلاثمائةٍ. ومن شعره:
ليس الأديب أخا الروا ... ية للنوادر والغريب
ولشعر شيخ المحدثي ... ن أبي نواسٍ أو حبيب
بل ذو التفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
وقال:
لو تجلى لي الزمان للاقى ... مسمعيه مني عتاب طويل
إنما نكثر الملامة للده ... ر لأن الكرام فيه قليل
سعد بن محمد بن سعدابن الصيفي التميمي، شهاب الدين أبو الفوارس، المعروف بحيص بيص، الفقيه الأديب الشاعر، كان من أعلم الناس بأخبارالعرب ولغاتهم وأشعارهم، أخذ عنه الحافظ أبو سعدٍ السمعاني وقرأ عليه ديوان شعره وديوان رسائله، وذكره في ذيل مدينة السلام وأثنى عليه، وأخذ الناس عنه علماً وأدباً كثيراً، وكان لا يخاطب أحداً إلا بكلام مغربٍ، وإنما قيل له حيص بيص، لأنه رأى الناس يوماً في أمر شديدٍ، فقال: ما للناس في حيص بيص، فبقي عليه هذا اللقب.
مات ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربعٍ وسبعين وخمسمائةٍ ببغداد، ومن تقعر الحيص بيص في كتابته: ما حدث به بعض أصحابه أنه نقه من مرضٍ فوصف له صاحبه هبة الله البغدادي الطبيب أكل الدراج فمضى غلامه واشترى دراجاً واجتازعلي باب أميرٍ وغلمانه بالعيون، فخطف أحدهم الدراج فأتى الغلام الحيص بيص وأخبره الخبر فقال له: ائتني بدواةٍ وقرطاسٍ فأتاه بهما فكتب إلى ذلك الأمير: لو كان مبتز دراجةٍ فتخاءٍ كاسرٍ وقف بها السغب بين التدويم والتمطر فهي تعقى وتسف وكان بحيث تنقل أخفاف الإبل لوجب الإغذاذ إلى نصرته، فكيف وهو ببحبوحة كرمك والسلام. ثم قال لغلامه: امض بها وأحسن السفارة بإيصالها للأمير، فمضى بها ودفعها للحاجب فدعا الأمير بكاتبه وناوله الرقعة فقرأها ثم فكر ليعبر له عن المعنى فقال له الأمير: ما هو؟ فقال: مضمون الكلام أن غلاماً من غلمان الأمر أخذ دراجاً من غلامه. فقال: اشتر له قفصاً مملوءاً دراجاً واحمله إليه ففعل.

وكتب إلى أمين الدولة ابن التلميذ يطلب منه شياف أبارٍ. أزكنك أيها الطب اللب الآسى النطاسي النفيس النقريس، أرجنت عندك أم خنورٍ، وسكعت عنك أم هوبرٍ، أني مستأخذ أشعر في حنادري رطباً ليس كلب شبوةٍ ولا كنخر المنصحة ولا كنكز الحضب بل كسفع الزخيخ، فأنا من التباشير إلى الغباشير، لا أعرف ابن سميرٍ من ابن جميرٍ، ولا أحس صفوان من همام، بل آونةً أرجحن شاصباً وفينةً أحنبطي مقلولياً وتارةً أعرنزم، وطوراً أسلنقي، كل ذلك مع أخٍ وأخٍ، وتهم قرونتي أن أرفع عقيرتي بعاط عاطٍ إلى هياطٍ، ومياطٍ وهالى أول وأهون، وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا أحيص ولا أليص، ولا أغر ندي ولا أسرندي، فبادرني بشياف الأبار، النافع لعلتي النافع لغلتي.
فلما قرأ أمين الدولة رقعته نهض لوقته وأخذ حفنة شياف أبارٍ، وقال لبعض أصحابه: أوصلها إليه عاجلاً ولا تتكلف قراءة ورقةٍ ثانيةٍ.
ومن شعره يمدح المقتفي لأمر الله:
ماذا أقول إذا الرواة ترنموا ... بفصيح شعري في الإمام العادل
واستحسن الفصحاء شأن قصيدةٍ ... لأجل ممدوحٍ وأفصح قائل
وترنحت أعطافهم فكأنما ... في كل قافيةٍ سلافة بابل
ثم انثنوا غب القريض وصنعه ... يتساءلون عن الندى والنائل
هب يا أمير المؤمنين بأننى ... فس الفصاحة ما جواب السائل؟
ودخل ابن القطان يوماً على الوزير الزينبي وعنده الحيص بيص فقال: قد عملت بيتين هما نسيج وحده، وأنشد:
زار الخيال بخيلاً مثل مرسله ... فما شفاني منه الضم والقبل
ما زارني قط إلا كي يوافيني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل
فقال الوزير للحيص بيص ما: تقول في دعواه؟ هذه فقال: إن أنشدهما ثانيةً سمع لهما ثالثاً، فأنشدهما فقال الحيص بيص:
وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفه حين أعيا اليقظة الحيل؟
وحدث نصر الله بن مجلي قال: رأيت في المنام علي ابن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - فقلت له يا أمير المؤمنين: تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ماتم؟ فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت لا، فقال اسمعا منه. فلما استيقظت بادرت إلى دار الحيص بيص، فخرج إلى فذكرت له الرؤيا فأجهش بالبكاء وحلف بالله أنه ما سمعها منه أحد وأنه نظمها في ليلته هذه ثم أنشدني:
ملكنا فكان العفو منا سجيةً ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا عن الأسرى نعف وتصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح
ومن شعره أيضاً:
ألعين تبدي الذي في قلب صاحبها ... من الشناءة أو حبٍ إذا كانا
إن البغيض له عين تكشفه ... لا تستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
سعد بن هاشم بن سعيدوينتهي نسبه إلى عبد القيس، أبو عثمان الخالدي البصري، كان وأخوه أبو بكرٍ أديبي البصرة وشاعريها في وقتهما، وكان بينهما وبين السري الرفاء الموصلي ما يكون بين المتعاصرين من التغاير والتضاغن، فكان يدعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره ويدس شعرهما في ديوان كشاجم ليثبت مدعاه كما بينا ذلك في ترجمة السري. وقال ابن النديم: قال لي الخالدي وقد تعجبت من كثرة حفظه: أنا أحفظ ألف سفرٍ كل سفرٍ مائة ورقةٍ، وكان هو وأخوه مع ذلك إذا استحسنا شيئاً غصباه صاحبه حياً كان أو ميتاً لا عجزاً منهما عن قول الشعر، ولكن كذا كان طبعهما، وكلام ابن النديم هذا فيه موافقة للسري الرفاء أو مجاراة له والله أعلم. ثم قال ابن النديم: وقد عمل أبو عثمان شعره وشعر أخيه قبل موته، وله تصانيف: منها حماسة شعر المحدثين وغير ذلك. توفي أبو عثمان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائةٍ، ومن شعره:
يا قضيباً يميس تحت هلالٍ ... وهلالاً يرنو يعيني غزال
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنو السنا وبعد المنال
وقال:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... فهوةً تترك الحليم سفيها

لست تدري لرقةٍ وصفاءٍ ... هي في كأسها أم الكأس فيها؟
وقال:
بغداد قد صار خيرها شراً ... صيرها الله مثل سامرا
أطلب وفتش واحرص فلست ترى ... في أهلها حرةً ولا حرا
وقال:
فهاتها كالعروس قانية ال ... خدين في معجزٍ من الحبب
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
فلو ترى الكاس حين تمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نار حواها الزجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في لهب
وقال:
يا راقداً عارياً من ثوب أسقامي ... هب الرقاد لعينٍ جفنها دامي
لا خلص الله قلبي من يدي رشأٍ ... رؤيا رجائي له أضغاث أحلام
وقال:
أما ترى الغيم يا من قلبه قاسى ... كأنه أنا مقياساً بمقياس
قطر كدمعي وبرق مثل نار جوىً ... في القلب مني وريح مثل أنفاسي
سعيد بن الحكمأبو عبد الله بن أبي مريم النسابة: ذكره ابن النديم وقال: له من التصانيف كتاب المآثر. وكتاب النسب. وكتاب نواقل العرب.
سعيد بن أوس بن ثابتابن بشير بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج أبو زيدٍ الأنصاري الخزرجي البصري النحوي اللغوي الإمام الأديب، وإنما غلبت عليه اللغة والغريب والنوادر فانفرد بذلك. أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلامٍ وعمرو بن عبيدٍ وأبو العيناء، وأبو حاتمٍ السجستاني وعمر ابن شبة، ورؤبة بن العجاج وغيرهم، وروى الحديث عن ابن عونٍ وجماعةٍ، وكان ثقةً ثبتاً، قرأ عليه خلف البزار وكان يرمي بالقدر، ولكن دفع ذلك عنه أبو حاتمٍ وقال: هو صدوق، وروى الحسين بن الحسن الرازي عن ابن معين أنه صدوق، ووثقه خزرة وغيره. ولينه ابن حيان لأنه وهم في سند حديث (أسفروا بالفجر)، وروى له أبو داود في سننه والترمذي في جامعه.
وكان سفيان الثوري يقول: قال لي ابن مناذر: أصف لك أصحابك؟ أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيدٍ الأنصاري فأوثقهم، وقال صالح بن محمدٍ: أبو زيدٍ النحوي ثقة.
ويروى عن أبي عبيدة والأصمعي أنهما سئلا عن أبي زيدٍ الأنصاري فقالاً: ما شئت من عفاف وتقوى وإسلامٍ، وكان سيبويه إذا قال سمعت الثقة يريد به أبا زيدٍ الأنصاري، وقال المبرد: كان أبو زيدٍ عالماً بالنحو ولم يكن مثل الخليل وسيبويه، وكان يونس من باب أبي زيدٍ في العلم واللغات، وكان أعلم من أبي زيدٍ بالنحو، وأبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو.
وقال أبو عثمان المازني: كنا عند أبي زيدٍ فجاء الأصمعي وأكب على رأسه يقبلها وجلس وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة. توفي أبو زيد بالبصرة سنة خمس عشرة ومائتين في خلافة المأمون وقد جاوز التسعين. وله من التصانيف: كتاب الإبل والشاء، وكتاب إيمان عثمان، وكتاب بيوتات العرب، وكتاب تجفيف الهزة، وكتاب الجمع والتثنية، وكتاب حيلة ومحالةٍ، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الجود والبخل، وكتاب الأمثال، وكتاب الحلبة، وكتاب التضارب، وكتاب التثليث، وكتاب الغرائز، وكتاب غريب الأسماء، وكتاب الفرق، وكتاب فعلت وأفعلت، وكتاب قراءة أبي عمرٍ، وكتاب القوس والترس، وكتاب اللامات، وكتاب اللغات، وكتاب اللبن، وكتاب المطر، وكتاب المياه، وكتاب المقتضب وكتاب المصادر، وكتاب المكتوم، وكتاب المنطق، وكتاب النبات والشجر، وكتاب النوادر، وكتاب الهمزة، وكتاب الوحوش وغير ذلك.
سعيد بن سعيدٍ
الفارقي أبو القاسم النحوي. أخذ عن الربعي وابن خالويه، وكان بارعاً في العربية أديباً فاضلاً، له تصانيف منها: كتاب تقسيمات العوامل وعللها، وكتاب تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للمبرد وغير ذلك. مات مقتولاً بالقاهرة عند بستان الخندق يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ. ومن شعره:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
ومن يبث والهموم قادحة ... في صدره بالزناد لم ينم
سعيد بن عبد العزيز
ج8. كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد المؤمن بن طيفور أبو سهلٍ النيلي. كان أديباً شاعراً نحوياً فقيهاً طبيباً عالماً بصناعة الطب. وله من التصانيف: اختصار كتاب المسائل لحنينٍ، وتلخيص شرح فصول بقراط لجالينوس مع نكتٍ من شرح أبي بكر الرازي وغير ذلك. مات سنة عشرين وأربعمائةٍ ومن شعره:
يا مفدي العذار والجد والقد ... بنفسي وما أراها كثيرا
ومعيري من سقم عينيه سقماً ... دمت مضنيً به ودمت معيرا
اسقني الراح تشف لوعة قلبٍ ... بات مذ بنت للهموم سميرا
هي في الكأس خمرة فإذا ما ... أفرغت في الحشا استحالت سرورا
سعيد بن الفرجأبو عثمان الرشاشي مولى بني أمية، كان أديباً فاضلاً عالماً باللغة والشعر، وكان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة للعرب، ويضرب المثل بفصاحته، إلا أنه كان كثير التقعر في كلامه، رحل إلى المشرق ودخل بغداد ومصر فأقام بها مدةً. توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين.
سعيد بن المباركابن علي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن نصر ابن عاصم بن عباد بن عاصمٍ، وينتهي نسبه إلى كعب ابن عمروٍ الأنصاري أبو محمدٍ المعروف بابن الدهان النحوي، كان من أعيان النحاة وأفاضل اللغويين، أخذ عن الرماني اللغة والعربية، وسمع الحديث من أبي غالبٍ أحمد بن البناء، وأبي القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين وغيرهما، وأخذ عنه الخطيب التبريزي وجماعته، ولد سنة أربعٍ وتسعين وأربعمائةٍ، بنهر طابقٍ، وتوفي بالموصل ليلة عيد الفطر سنة تسعٍ وستين وخمسمائةٍ، وله تصانيف منها: تفسير القرآن أربع مجلداتٍ، وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في أربعين مجلدةً، وشرح اللمع في العربية لابن جني سماه الغرة، وكتاب الأضداد وإزالة المراء في الغين والراء، وكتاب الدروس في النحو، وكتاب الدروس في العروض، وكتاب الرياضة، وكتاب الضاد والظاء وسماه الغنية، وكتاب المعقود في المقصور والممدود، وتفسير الفاتحة، وتفسير سورة الإخلاص، والفصول في النحو، والمختصر في القوافي، وشرح بيتٍ من شعر الملك الصالح بن رزيك في عشرين كراسةٍ، والنكت والإشارات على ألسنة الحيوانات، وديوان شعرٍ، وديوان رسائل.
وكان مع سعة علمه سقيم الحظ كبير الغلط، وهذا عجيب منه، وخرج من بغداد إلى دمشق فاجتازعلى الموصل وبها وزيرها الجواد المشهور فارتبطه وصدره وغرقت كتبه في بغداد وهو غائب فحملت إليه فبخرها باللادن ليقطع الرائحة الرديئة عنها إلى أن بخرها بنحو ثلاثين رطلاً، فطلع ذلك إلى رأسه وعينه فأحدث له العمى. ومن شعره:
لا تحسبن أن بالكت ... ب مثلنا ستصير
فللدجاجة ريش ... لكنها لا تطير
وقال:
وأخٍ رخصت عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك من يعز وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص
سعيد بن محمد بن جريجٍ
أبو عقالٍ القيرواني الكاتب الأديب. كاتب القاضي سليمان بن عمران قاضي إفريقية. مات سنة تسعٍ وسبعين ومائتين، ومن شعره أبيات رثي بها القاضي سليمان المذكور قال:
عجباً لموضع لحده في قبره ... للعلم والعرفان كيف توسعا؟
رجع الخصوم وخلفوا علم الهدى ... في باب سلمٍ لا يزال ممنعا
أتت المنية من تلبب قاضياً ... خمسين عاماً واثنتين وأربعا
سعيد بن مسعدة

أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط البصري مولى بني مجاشع ابن دارمٍ بطن من تميمٍ. أحد أئمة النحاة من البصريين، أخذ عن سيبويه وهو أعلم من أخذ عنه وكان أخذ عمن أخذ عن سيبويه لأنه أسن منه، ثم أخذ عن سيبويه أيضاً وهو الطريق إلى كتاب سيبوية، فإنه لم يقرأ الكتاب على سيبويه أحد ولم يقرأه سيبويه على أحدٍ، وإنما قرئ على الأخفش بعد موت سيبويه. وكان ممن قرأه عليه أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني، وكان الأخفش يستحسن كتاب سيبويه كل الاستحسان، فتوهم الجرمي والمازني أن الأخفش قد هم أن يدعي الكتاب لنفسه، فتشاوروا في منع الأخفش من ادعائه فقالا نقرؤه عليه، فإذ قرأناه عليه أظهرناه وأشعنا أنه لسيبويه فلا يمكنه أن يدعيه، فأرغبا الأخفش، وبذلا له شيئاً من المال على أن يقرأاه عليه فأجاب وشرعا في القراءة، وأخذا الكتاب عنه وأظهراه للناس. وكان الأخفش يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه علي، وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه. وحكى ثعلب أن الفراء دخل على سعيد بن سالم فقال: قد جاءكم سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا. وحكى الأخفش قال: لما ناظر سيبويه الكسائي ورجع وجه إلى فعرف خبره معه ومضى إلى الأهواز، فوردت بغداد فرأيت مسجد الكسائي فصليت خلفه الغداة، فلما انفتل من صلاته وقعد وبين يديه الفراء والأحمر وابن سعدان، سلمت وسألته عن مائة مسألة فأجاب بجوابات خطأته في جميعها، فأراد أصحابه الوثوب علي فمنعهم ولم يقطعني ما رأيتهم عليه عما كنت فيه، فلما فرغت قال لي: بالله أما أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ قلت نعم، فقام إلي وعانقني وأجلسني إلى جنبه ثم قال: لي أولاد أحب أن يتأدبوا بك، ويتخرجوا عليك، وتكون معي غير مفارقٍ لي فأجبته إلى ذلك، فلما اتصلت الأيام بالاجتماع سألني أن أؤلف له كتاباً في معاني القرآن فألفته، فجعله إمامه وعمل عليه كتاباً في المعاني. وقرأ علي كتاب سيبويه سراً ووهب لي سبعين ديناراً. وكان أبو العباس ثعلب يفضل الأخفش ويقول: هو أوسع الناس علماً.
وقال المبرد: احفظ من أخذ عن سيبويه الأخفش ثم الناشئ ثم قطرب، كان الأخفش أعلم الناس بالكلام وأحذقهم بالجدل. توفي سنة خمس عشرة ومائتين، وقيل سنة إحدى وعشرين. وله من التصانيف: كتاب الأربعة، كتاب الاشتقاق، كتاب الأصوات، كتاب الأوسط في النحو، كتاب تفسير معاني القرآن، كتاب صفات الغنم وألوانها وعلاجها وأسبابها، كتاب العروض، كتاب القوافي، كتاب المسائل الكبير، كتاب المسائل الصغير، كتاب معنى الشعر، كتاب المقاييس، كتاب الملوك، كتاب وقف التمام.
سعيد بن هارنأبو عثمان الاشنانداني، كان نحوياً لغوياً من أئمة اللغة، أخذ عن أبي محمدٍ التوزي، وأخذ عنه أبو بكر ابن دريد.
قال ابن دريدٍ: سألت أبا حاتم السجستاني عن اشتقاق ثادقٍ اسم فرسٍ، فقال لا أدري: وسألت الرياشي فقال: يا معشر الصبيان إنكم تتعمقون بالعلم وقال: سألت أبا عثمان الأشنانداني فقال: هو من ثدق المطر بالسحاب: إذا خرج خروجاً سريعاً نحو الودق.
وحكى ابن دريدٍ أيضاً قال: سألت أبا حاتمٍ السجستاني عن قول الشاعر:
وجفر الفحل فأضحى قد هجف ... واصفر ما اخضر من البقل وجف
فقلت ما هجف؟ فقال لا أدرى، فسألت الاشنانداني فقال: هجف: إذا التحقت خاصرتاه من التعب وغيره. وله من التصانيف: كتاب معاني الشعر يرويه عنه ابن دريدٍ. وكتاب الأبيات وغير ذلك. مات سنة ثمانٍ وثمانين ومائتين. والأشنانداني نسبة إلى أشنان محلة ببغداد وزادوا الدال فيها كما زادوا الهاء في الأشنهي نسبةً إلى أشنا.
سلامة بن عبد الباقي بن سلامةأبو الخير الأنباري المقرئ النحوي الضرير، كان عالماً بالقراءات والعربية وفنون الأدب. قرأ علي ابن طاوسٍ المقرئ، وحدث عنه بجزء هلال الحفار عن طرادٍ الزينبي عن هلالٍ. ثم رحل إلى مصر وسكن بها وتصدر بجامع عمرو بن العاص يقرأ القرآن والنحو، وله مصنفات منها: شرح علي مقامات الحريري. ولد سنة ثلاث وخمسمائةٍ، ومات بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وخمسمائة.
سلامة بن غياض بن أحمد

أبو الخير الكفرطابي النحوي، ذكره صاحبنا ابن النجار في تاريخه فقال: قدم بغداد سنة ستٍ وعشرين وخمسمائةٍ، وكتب عنه أبو محمد بن الخشاب، وقرأ الأدب بمصر على أبي القاسم علي بن جعفر بن القطاع السعدي. وله مصنفات في النحو منها: التذكرة عشر مجلداتٍ، وكتاب ما تلحن فيه العامة في زمانه، ورسالة في الحض على تعليم العربية، مات سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
إقنع لنفسك فالقناعة ملبس ... لا يطمع الأشرار في تخريقه
فلرب مغرورٍ غدا تغريقه ... في حرصه سبباً إلى تغريقه
سلمان بن عبد الله بن محمدٍ
أبو عبد الله بن أبي طالبٍ الحلواني النهرواني، قال صاحبنا ابن النجار: قدم بغداد وقرأ بها النحو على الثمانيني واللغة على ابن الدهان وغيره، وبرع في النحو وكان إماماً فيه وفي اللغة، وسمع الحديث من القاضي أبي الطيب الطبري وغيره، وجال في العراق ونشر بها النحو واستوطن أصبهان، وروى عنه السلفي وصنف تفسير القرآن، وكتاباً في القراءات، والقانون في اللغة عشر مجلدات لم يصنف مثله، وشرح الإيضاح لأبي عليٍ الفارسي، وشرح ديوان المتنبي، والآمالي وغير ذلك. مات في ثاني عشر من صفرٍ سنة ثلاثٍ وتسعين وأربعمائةٍ. وقيل سنة أربعٍ وتسعين وأربعمائةٍ. ومن شعره:
إن خانك الدهر فكن عائداً ... بالبيض والإدلاج والعيس
ولا تكن عبد المنى إنها ... رؤوس أموال المفاليس
وقال:
تقول بنيتي أبتي تقنع ... ولا تطمح إلى الأطماع تعتد
ورض باليأس نفسك فهو أحرى ... وأزين في الورى وعليك أعود
فلو كنت الخليل وسيبويه ... أو الفراء أو كنت المبرد
لما ساويت في حيٍ رغيفاً ... ولا تبتاع بالماء المبرد
سلم بن عمرو بن حمادٍ
مولى بني تيم بن مرة، شاعر مطبوع من شعراء الدولة العباسية، كان منقطعاً إلى البرامكة وكان يلقب بالخاسر، لأن أباه خلف له مالاً فأنفقه على الأدب فقال: له بعض أهله: إنك الخاسر الصفقة فلقب بذلك. ثم مدح الرشيد فأمر له بمائة ألف درهمٍ وقال له: كذب بهذا المال من لقبك بالخاسر، فجاءهم بها وقال: هذا ما أنفقته على الأدب ثم ربحت الأدب، فأنا سلم الرابح لا سلم الخاسر. وقيل في تلقيبه بهذا غير ما ذكر. وكان سلم تلميذاً لبشار بن بردٍ وصديقاً لأبي العتاهية، فلما قال بشار قصيدته التي يقول فيها:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطييبات الفاتك اللهج
قال سلم أبياتاً أدخل فيها معنى هذا البيت:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
فبلغ بيته بشاراً فغضب وقال: سار والله بيت سلمٍ وخمل بيتنا، وكان الأمر كذلك. لهج الناس ببيت سلمٍ ولم ينشد بيت بشارٍ أحد فكان لذلك سبباً للنفور بينهما، فكان سلم بعد ذلك يقدم أبا العتاهية ويقول: هو أشعر الجن والإنس إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلماً:
تعالى الله يا سلم بن عمروٍ ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفواً ... أليس مصير ذلك للزوال؟
فلما بلغ ذلك سلماً غضب على أبي العتاهية وقال: ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق، زعم أني حريص وقد كنز البدر وهو لا يزال يطلب وأنا في ثوبي هذين لا أملك غيرهما ثم كتب إليه:
ما أقبح التزهيد من واعظٍ ... يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد
ورفض الدنيا ولم يلقها ... ولم يكن يسعى ويسترفد
فخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
الرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود
كل يوفي رزقه كاملاً ... من كف عن جهدٍ ومن يجهد
وذكر من اقتدار سلمٍ الخاسر على الشعر أنه اخترع شعراً على حرفٍ واحدٍ ولم يسبق إلى مثل ذلك، لأن أقل شعر العرب على حرفين نحو قول دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأقع
فقال سلم الخاسر لأمير المؤمنين موسى الهادي شعراً على ضربٍ واحدٍ منه:

موسى المطر غيث بكر ... ثم انهمر لما اغتفر
ثم غفر لما قدر ... ثم اقتصر عدل السير
باقي الأثر خير البشر ... قرع مضر بدر بدر
لمن نظر هو الوزر ... لمن حضر والمفتخر
ولما بويع الهادي بالخلافة وهو بجرحان دخل عليه سلم الخاسر وأنشده:
لما أتت خير بني هاشمٍ ... خلافة الله بجرجان
شمر للحزم سرابيله ... برأي لا غمرٍ ولا وان
لم يدخل الشورى على رأيه ... والحزم لا يمضيه رأيان
وقال لهارون الرشيد حين ولي الخلافة:
ياهارون قر الملك في مستقره ... وأشرقت الدنيا وأينع نورها
وليس لأيام المكارم غاية ... تتم بها إلا وأنت أميرها
وقال في يحيى بن خالد بن برمك:
وفتىً خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
وإذا وأى لك موعداً ... كان الفعال مع المقال
لله درك من فتىً ... كافيك من كرم الخلال
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال
سلمة بن عاصمٍ
أبو محمدٍ النحوي، أخذ عن أبي زكريا يحيى الفراء وروى عنه كتبه، وأخذ عن خلفٍ الأحمر وسمع منه كتاب العدد، وأخذ عن سلمة أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وكان يقول: كان سلمة حافظاً لتأدية ما في الكتب والطوال حاذقاً بالعربية، وابن قادمٍ حسن النظر في العلل. ولسلمة من التصانيف: كتاب معاني القرآن، وكتاب المسلوك في العربية، وكتاب غريب الحديث وغير ذلك.
سليمان بن أيوب بن محمدٍ
أبو أيوب المديني. من أهل المدينة المنورة، كان أديباً أخبارياً فاضلاً ذكره ابن النديم وقال: له من المصنفات. أخبار عزة الميلاء، طبقات المغنين، كتاب النغم والإيقاع، كتاب المنادمين، كتاب الاتفاق، كتاب قيان الحجاز، كتاب قيان مكة، أخبار ظرفاء المدينة، أخبار بن عائشة، أخبار حنينٍ الحيرى.
سليمان بن بنينابن خلف بن عوضٍ، تقي الدين الدقيقي المصري النحوي الأديب الفرضي العروضي العلامة، اجتمعت به في عدة مجالس بحضرة القاضي الأكرم وأجازني برواية مصنفاته، وهي: الأحكام الشوافي في أحكام القوافي، أخلاق الكرام وأخلاق اللئام، أعذب العمل في شرح أبيات الجمل، الأفلاك السوائر في انفكاك الدوائر، الأقوال العربية في الأمثال النبوية، آلات الجهاد وأدوات الصافنات الجياد، تحبير الأفكار في تحرير الأشعار، الإعجاز والإيجاز في المعاني والألغاز، البسط في أحكام الخط، بذل الاستطاعة في الكرم والشجاعة، أنوار الأزهار في معاني الأشعار، استنجاز المحامد في إنجاز المواعد، اتفاق المباني وافتراق المعاني، التنبيه على الفرق والتشبيه، الحل الكافي في خلل القوافي، الدرة الأدبية في نصرة العربية، الديم الوابلية في الشيم العادلية، الدرر الفردية في الغرر الطردية، دلائل الأفكار في فضائل الأشعار، الروض الأريض في أوزان القريض، سلوان الجلد عند فقدان الولد، الشامل في فضائل الكامل، فرائد الآداب وقواعد الإعراب، فضائل البذل مع العشر ورذائل البخل مع اليسر، عنوان السلوان، كمال المزية في احتمال الرزية، الكواكب الدرية في المناقب الصدرية، لباب الألباب في شرح الكتاب " كتاب سيبويه " ، منتهى الأدب في منتهى كلام العرب، محض النصائح وفحص القرائح، معادن التبر في محاسن الشعر، مكارم الأخلاق وطيب الأعراق، الوافي في علم القوافي، الوضاح في شرح أبيات الإيضاح.
توفي تقي الدين الدقيقي بالقاهرة سنة ثلاث عشرة وستمائة:
سليمان بن خلف

ابن سعد بن أيوب بن وارث القاضي، أبو الوليد الباجي الفقيه المتكلم المحدث المفسر الأدب الشاعر، أصل آبائه من بطليوس انتقلوا إلى باجة الأندلس. وثم باجة أخرى بإفريقية وأرى بأصبهان، ولد أبو الوليد سنة ثلاثٍ وأربعمائةٍ، وأخذ بالأندلس عن أبي الأصبغ ومحمد بن إسماعيل وأبي محمدٍ مكي بن حموش وأبي شاكر وغيرهم. ورحل سنة ستٍ وعشرين وأربعمائة إلى المشرق فأقام في الحجاز مجاوراً ثلاثة أعوامٍ ملازماً للحافظ أبي ذرٍ المحدث يخدمه ويسمع منه، وحج أربع حججٍ، وسمع هناك من ابن سحنويه وابن محرزٍ والمطوعي، ورحل إلى بغداد فأخذ فيها عن أبي الطب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي والدامغاني وابن عمروسٍ، وأخذ عن الخطيب البغدادي، وأخذ الخطيب عنه، ورحل إلى الشام فأخذ فيها عن السمسار ودخل الموصل فأخذ بها علم الكلام عن السمناني ثم رجع إلى الأندلس فخاز الرياسة فيها وسمع منه خلق كثير منهم الحافظان الصدفي والجياني والمعافري والسبتي والمرسي وغيرهم، وولى القضاء بمواضع من الأندلس، وله مصنفات منها: الاستيفاء شرح الموطإ، والمنتقي مختصر الاستيفاء، والإيماء مختصر المنتقى، والسراج في ترتيب الحجاج، والتعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح، وإحكام الفصول في أحكام الأصول، والتسديد إلى معرفة التوحيد، والمعاني في شرح الموطإ عشرون مجلداً، وكتاب اختلاف الموطآتِ، وتفسير القرآن، والمقتبس في علم مالك بن أنسٍ، والمهذب في اختصار المدونة، وكتاب مسائل الخلاف، والحدود في الأصول، والإشارة في الأصول، وكتاب فرق الفقهاء، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب السنن في الدقائق والزهد، وكتاب النصيحة لولده وغير ذلك. مات بالمرية سنة أربعٍ وتسعين وأربعمائة. ومن شعره:
ما طال عهدي بالديار وإنما ... أنسى معاهدها أسىً وتبلد
لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... رق الصفا بفنائها والجلمد
وله في المعتضد بالله عبادٍ:
عباد استعبد البرايا ... بأنعم فاقت النعائم
مديحه ضمن كل قلب ... حتى تغنت به الحمائم
وقال:
إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكن ضنيناً بها ... فأجعلها في صلاحٍ وطاعة؟
وقال:
ليس عندي شخص النوى لا بعظيم ... فيه غم وفيه كشف غموم
إن فيه اعتناقةً لوداعٍ ... وانتظار اعتناقهٍ لقدوم
وقال رثى ولديه وقد ماتا مقبربين:
رعى الله قبرين استكانا ببلدةٍ ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيبا عن ناظري وتبوءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقر بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب
وأبكى وأبكى ساكنيها لعلني ... سأنجد من صحبٍ وأسعد من سحب
ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحن ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب
سليمان بن عبد اللهأبو عبيد الله بن الفتى، النحوي اللغوي الأديب، نشأ بالري، وحصل ونبغ في المدرسة النظامية ببغداد حين دخلها سنة ثلاثٍ وأربعمائةٍ، فأخذ بها العلوم الأدبية والعربية عن الثمانيني وغيره، ثم رحل إلى أصبهان فاستوطن بها إلى أن مات سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة: ومن شعره:
تذلل لمن إن تذلل له ... رأى ذاك للفضل لا للبله
وجانب صداقة من لم يزل ... على الأصدقاء يرى الفضل له
وقال:
لم أقل للشباب في دعة الل ... ه ولا حفظه غداة استقلا
زائر زارنا أقام قليلاً ... سود الصحف بالذنوب وولى
سليمان بن محمد بن أحمد

أبو موسى المعروف بالحامض البغدادي أحد أئمة النحاة الكوفيين، أخذ عن أبي العباس ثعلبٍ وخلفه في مقامه وتصدر بعده، وروى عنه أبو عمر الزاهد المعروف بغلام ثعلبٍ، وأبو جعفرٍ الأصبهاني برزويه، وقرأ عليه أبو عليٍ النقار كتاب الإدغام للفراء، فقال له أبو عليٍ: أراك يا أبا موسى تلخص البيان تلخيصاً لا أجده في الكتب، فقال: هذا ثمرة صحبة أبي العباس ثعلبٍ أربعين سنةً. وقال أبو الحسن بن هارون: أبو موسى أوحد الناس في البيان والمعرفة بالعربية واللغة والشعر وكان جامعاً بين المذهبين: الكوفي والبصري، وكان يتعصب للكوفيين، وكان شرس الأخلاق ولذا قيل له الحامض، مات في خلافة المقتدر لسبعٍ وقيل لستٍ بقين من ذي الحجة سنة خمسٍ وثلاثمائةٍ، وله من التصانيف: كتاب خلق الإنسان، كتاب السبق والنضال، كتاب المختصر في النحو، كتاب النبات، كتاب الوحوش وغير ذلك.
سليمان بن مسلم بن الوليدالشاعر الضرير، وهو ابن مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور، كان كأبيه شاعراً مجيداً وكان ملازماً لبشار بن بردٍ يأخذ عنه، ولذا كان متهماً دينه: مات سنة تسعٍ وسبعين ومائةٍ، ومن شعره:
إن في ذا الجسم معتبراً ... لمريد العلم ملتمسه
هيكل للروح ينطقه ... عرقه والصوت من نفسه
رب مغروسٍ يعاش به ... عدمته كف مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
وقال:
جلدي عميرة فيه العار والحوب ... والعجز مطرح والفحش مسبوب
وبالعراق نساء كالمها خطف ... بأرخص السوم جذلات مناجيب
وما عميرة من ثدياء حالبةٍ؟ ... كالعاج صفرها الأكتان والطيب
وله:
تبارك الله ما أسخى بنو مطرٍ ... هم كما قيل في بعض الأقاويل
بيض المطابخ لا تشكو ولائدهم ... غسل القدور ولا غسل المنادل
وله شعر غير هذا اكتفينا بهذا المقدار منه.
سليمان بن معبدٍ
أبو داود السنجي المروى المحدث الحافظ النحوي، دخل بغداد فأخذ عن الأصمعي والنضر بن شميلٍ وغيرهما، ورحل إلى مصر والحجاز واليمن. وخرج له مسلم بن الحجاج في صحيحه، وكان ثقة ثبتاً، له معرفة تامة بالعربية واللغة مات في ذي الحجة سنة سبع وخمسين ومائتين: وقيل ثمانٍ وخمسين ومائتين.
سليمان بن موسىبرهان الدين أبو الفضل بن شرف الدين المعروف بالشريف الكحال، المصري، كان أديباً فاضلاً بارعاً في العربية وفنون الأدب، عارفاً بصناعة الكحل، خدم بها الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، وتقدم عنده وحظي لديه ونال عنده منزلةً عاليةً وقبولاً تاماً. وكان بينه وبين القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليٍ البيساني وبين شرف الدين محمد بن نصرٍ المعروف بابن عنين الشاعر المشهور صحبة ومودة ومزاح ومداعبة، فأهدى الشريف الكحال إلى ابن عنين خروفاً وكان مهزولاً، فكتب إليه ابن عنين يداعبه:
أبو الفضل وابن الفضل أنت وأهله ... فغير عجيب أن يكون لك الفضل
آتتني أياديك التي لا أعدها ... لكثرتها لا كفر نعمى ولا جهل
ولكنني أنبيك عنها بطرفةٍ ... تروقك ما وافى لها قبلها مثل
أتاني خروف ما شككت بأنه ... حليف هوىً قد شفه الهجر والعذل
إذا قام في شمس الظهيرة خلته ... خيالاً سرى في ظلمةٍ ما له ظل
فناشدته ما تشتهى؟ قال فتة ... وقاسمته ما شفه؟ قال لي الأكل
فأحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... مسلمةً ما حص أوراقها الفتل
فظل يراعيها بعينٍ ضعيفةٍ ... وينشدها والدمع في العين منهل
أنت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصلٍ حين لا ينفع الوصل
وكتب إليه القاضي الفاضل يداعبه وكان قد كحله:
رجل توكل بي وكحلنى ... فدهيت في عيني وفي عيني
وخشيت تنقل نقط كحلته ... عيني من عينٍ إلى غين
ومن شعر الشريف الكحال:
ومذ رمدت أجفانه لا منى العدا ... على حبه يا ليت عيني لها رقداً

فقلت لهم كفوا فإن لحاظه ... سيوف وشرط السيف أن يحمل الصدا
وقال:
كأن لحظ حبيبي في تناعسه ... وقد رماني بسقمٍ في الهوى وكمد
من المجوس تراه كلما قدحت ... نيران وجنته أومي لها وسجد
توفي الشريف الكحال سنة تسعين وخمسمائةٍ.
سنان بن ثابت بن قرةأبو سعيدٍ، كان أديباً فاضلاً مؤرخاً عارفاً بعلم الهيئة ماهراً بصناعة الطب، كان في خدمة المقتدر ثم القاهر والراضي. قال ابن النديم: إن القاهر بالله أراد سنان ابن ثابت بن قرة على الإسلام فهرب ثم أسلم وخاف القاهر فمضى إلى خراسان ثم عاد، وتوفي ببغداد مسلماً صبيحة يوم الجمعة مستهل ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وله من التصانيف: التاجي في أخبار آل بويه ومفاخر الديلم وأنسابهم ألفه لعضد الدولة بن بويه، رسالة في أخبار آبائه وأجداده وسلفه، إصلاح كتاب إقليدس في الأصول الهندسية. وكتاب تاريخ ملوك الريان، الرسائل السلطانيات والإخوانيات، رسالة في شرح مذهب الصابئة، رسالة في الأشكال ذوات الخطوط المستقيمة التي تقع في الدائرة صنفها لعضد الدولة، إصلاح كتب أبي سهل القوهي، رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر، رسالة في الاستواء، رسالة في النجوم رسالة في سهيلٍ، رسالة في قسمة أيام الجمعة على الكواكب السبعة ألفها لأبي إسحاق الصابي وغير ذلك.
سهل بن محمد بن عثمان بن القاسمأبو حاتم السجستاني البصري، كان إماماً في غريب القرآن واللغة والشعر، أخذ عن أبي زيدٍ الأنصاري الأصمعي وأبي عبيدة وعمر بن كركرة وروح بن عبادة، وقرأ كتاب سيبويه مرتين على الأخفش أبي الحسن سعيد بن مسعدة، وأخذ عنه المبرد وابن دريدٍ وغيرهما. وتوفي على ما حققه ابن دريدٍ سنة خمسٍ وخمسين ومائتين. وله من المصنفات: إعراب القرآن، وكتاب الإدغام، وكتاب القراءات، وكتاب ما تلحن فيه العامة، وكتاب الفصاحة، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الطير، وكتاب الوحوش، وكتاب الهجاء، وكتاب النخلة، وكتاب المقصور والممدود وغير ذلك.
سهل بن هارون بن راهبونأبو محمدٍ الفارسي الأصل الدستميساني، دخل البصرة واتصل بالمأمون فولاه خزانة الحكمة. وكان أديباً كاتباً شاعراً حكيماً شعوبياً، يتعصب للعجم على العرب شديداً في ذلك، وكان مشهوراً بالبخل، وله في ذلك أخبار كثيرة، وله رسالة في مدح البخل أرسلها إلى بني عمه من آل راهبون، وأرسل نسخةً منها إلى الوزير الحسن بن سهلٍ فوقع عليها الوزير: لقد مدحت ما لام الله وحسنت ما قبح، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا ثواب عملك سماع قولك، فما نعطيك شيئاً. وقد أورد هذه الرسالة الجاحظ في كتاب البخلاء، وقد تجنبنا الإطالة بذكرها.
توفي سهل بن هارون سنة خمس عشرة ومائتين، وله من التصانيف: كتاب ثعلة وعفراء، كتاب الهبلية والمخزومي، كتاب النمر والثعلب، كتاب الوامق والعذار، كتاب ندودٍ وودودٍ ولدودٍ، كتاب الضربين، كتاب أسباسيوس في اتحاد الإخوان، كتاب الغزالين، كتاب أدب أسل بن أسلٍ وغير ذلك.
سهم بن إبراهيم الوراقمن شعراء القرن الثاني ومن أدباء القيروان، قال في حصار أبي يزيد مخلدٍ الخارجي لسوسة:
إن الخوارج صدها عن سوسةٍ ... منا طعان السمر والإقدام
وجلاد أسيافٍ تطاير دونها ... في النقع دون المحصنات الهام
باب الشين
شبيب بن شبةالأخباري الأديب الشاعر صاحب خالد بن صفوان الذي تقدمت ترجمته في حرف الخاء، ولهما أخبار ومواقف مشهورة عند الخلفاء والأمراء، وكان بين شبيبٍ وأبي نخيلة الراجز الشاعر صحبة ومودة. حدث الأصمعي قال: رأى أبو نخيلة على شبيبٍ حلةً فأعجبته فسأله إياها فوعده فقال فيه:
يا قوم لا تسودوا شبيباً ... ألخائن ابن الخائن الكذوبا
هل تلد الذئبة إلا ذيبا؟
فلما بلغ ذلك شبيباً بعث إليه بالحلة وكتب إليه:
إذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها
من مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها
مات شبيب بعد المائتين.
شبيب بن يزيد

ابن جمرة بن عوف بن أبي حارثة المعروف بابن البرصاء المرى، والبرصاء أمه واسمها قرصافة بنت الحارث وهو ابن خالة عقيل بن علفة الآتية ترجمته في حرف العين، وهو شاعر مجيد من شعراء الدولة الأموية، وكان بينه وبين أبن خالته عقيلٍ منافرة ومهاجاة، وكان من سادات قومه وأشرافهم، وله أخبار وأشعار كثيرة ذكرها أبو الفرج في كتابه منها:
وإني لسهل الوجه يعرف مجلسي ... إذا أحزن القاذورة المتعيس
يضيء سناجودي لمن يبتغي القرى ... وقد حال دون النار ظلماء حندس
ألين لذي القربي مراراً وتلتوي ... بأعناق أعدائي حبال فتمرس
شداد بن إبراهيم بن حسنٍ
أبو النحيب الملقب بالطاهر الجزري، شاعر من شعراء عضد الدولة بن بويه، ومدح الوزير المهلبي. كان دقيق الشعر لطيف الأسلوب، مات سنة إحدى وأربعمائة ومن شعره:
إذا المرء لم يرض ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوماً ويبكي سنة
ومنه:
أيا جيل التصوف شر جيل ... لقد جئتم بأمرٍ مستحيل
أفي القرآن قال لكم إلهي ... كلوا مثل البهائم وارقصوا لي
وقال:
قلت للقلب ما دهاك أبن لي ... قال لي بائع الفراني فراني
ناظراه فيما جنت ناظراه ... أودعاني أمت بما أودعاني
وقال:
بلاد الله واسعة فضاها ... ورزق الله في الدنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوانٍ ... إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
وقال:
أفسدتم نظري علي فما أرى ... مذ غبتم حسناً إلى أن تقدموا
فدعوا غرامي ليس يمكن أن ترى ... عين الرضا والسخط أحسن منك
شفهفيروز بن شعيب بن عبد السيدأبو الهيجاء الأصبهاني، كان أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً في النظم والنثر، له مقامات أنشأها سنة تسعين وأربعمائةٍ، وأخذ عن أبي جعفرٍ محمد بن أحمد بن مسلمة وغيره، مات سنة ثلاثين وخمسمائة. ومن شعره:
لا أستلذ العيش لم أدأب له ... طلباً وسعياً في الهواجر والغلس
وأرى حراماً أن يواتيني الغنى ... حتى يحاول بالعناء ويلتمس
فاحبس نوالك عن أخيك موفراً ... فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس
وقال:
وسارق بت أشرب من يديه ... مشعشعة بلونٍ كالنجيع
فحمرتها وحمرة وجنتيه ... ونور الكأس في نور الشموع
ضياء حارت الأبصار فيه ... بديع في بديعٍ في بديع
شمر بن حدويهأبو عمرٍ الهروي، كان عالماً فاضلاً ثقة نحوياً لغوياً راويةً للأخبار والأشعار، رحل في شبيبته إلى العراق وأخذ عن ابن الأعرابي والأصمعي وسلمة بن عاصم والفراء وأبي حات السجستاني وأبي زيدٍ الأنصاري وأبي عبيدة والرياشي وغيرهم، ثم رجع إلى خراسان وأخذ عن أصحاب النضر بن شميلٍ والليث، وصنف كتاباً كبيراً رتبه على العجم ابتدأ فيه بحرف الجيم لم يسبق إلى مثله، أودعه تفسير القرآن وغريب الحديث، وكان ضنيناً به فلم ينسخه أحد وخزنه بعد وفاته بعض أقاربه فلم ينتفع به. وقيل: اتصل أبو عمروٍ بيعقوب ابن الليث الأمير فخرج معه إلى نواحي فارس وحمل معه كتاب الجيم فطغى الماء من النهروان على معسكر يعقوب فما غرق من المتاع، ولأبي عمروٍ من التصانيف غير كتاب الجيم: كتاب غريب الحديث كبير جداً، وكتاب السلاح وكتاب الجبال والأودية وغير ذلك. مات سنة خمسٍ وخمسين ومائتين:
شبيان بن عبد الرحمن

أبو معاوية التيميي مولى بني تميمٍ، كان من أكابر القراء والمحدثين والنحاة، كان مقيماً بالكوفة فانتقل عنها إلى بغداد، وأخذ عن الحسن البصري وحدث عنه وعن ابن أبي كثير وحدث عن شبيان الحافظ الثقة عبد الرحمن بن مهديٍ وغيره. سئل ابن عين عن شبيان فوثقه وقال ثقة في كل شئٍ، وسئل عنه أحمد بن حنبلٍ وعن الدستوائي وحرب بن شداد فقال: شيبان أرفع عندي شيبان صاحب كتاب صحيح، وقال ابن عمارٍ: أبو معاوية شيبان النحوي ثقة ثبت. توفي شيبان ببغداد سنة أربعٍ وستين ومائةٍ، وقيل سنة سبعين ومائة، ودفن في مقابر قريشٍ بباب التنين قاله ابن سعدٍ كاتب الواقدي في طبقاته.
شيث بن إبراهيم بن محمدابن حيدرة ضياء الدين المعروف بابن الحاج القناوي القفطي النحوي اللغوي العروضي أبو الحسن، أحد أكابر الأدباء المعاصرين، برع في العربية واللغة وفنون الأدب وتقدم فيها وسمع من الحافظ أبي طاهر السلفي وغيره، وحدث ودرس وكان ذا هيبةٍ ووقارٍ، وله مقامات معروفة ومواقف بين يدي السلاطين والأمراء، وكانوا يحترمونه ويوقرونه، ومن تصانيفه: كتاب الإشارة في تسهيل العبارة، والمعتصر من المختصر، وتهذيب ذهن الواعي في إصلاح الرعية والراعي صنفه للملك الناصر صلاح الدين يوسف، وحز الغلاصم وإفحام المخاصيم، وتعاليق في الفقه على مذهب الإمام مالكٍ، واللؤلؤة المكنونة واليتيمة المصونة وهي قصيدة في الأسماء المذكرة، أبياتها سبعون بيتاً منها:
وصغت الشعر من يفهم ... يخبرني بما يعلم
يخبرني بألفاظ ... من الإعراب ما الدهثم
وما الإقليد والتقلي ... د والتهنيد والأهثم
وما النهاد والأهدا ... م والأسمال والعيهم
وما الألغاد والإخرا ... د والأقراد والأكدم
وما الدقراس والمردا ... س والفداس والأعلم
وما الأوخاص والأدرا ... ص والقراص والأثرم
وما اليعضيد واليعق ... يد والتدمين والأرقم
وما الأنكار والأنكا ... ث والأعلا والقضم
وما الأوغال والأوغا ... د والأوغاب والأقضم
ومضى على هذا النمط إلى أن قال:
ألا فاسمع لألفاظ ... جرت علماً لمن يعلم
فقد أنبأت في شعري ... بألفاظي لمن يفحم
وعارضت السجس ... تاني في قولي ولم أعلم
فضعفت قوافيه ... على المثل الذي نظم
فهذا الشعر لا يدر ... يه إلا عالم همهم
توفي أبو الحسن بن الحاج سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائةٍ وقيل سنة تسع وتسعين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
إجهد لنفسك إن الحرص متعبة ... للقلب والجسم والإيمان يمنعه
فإن رزقك مقسوم سترزقه ... وكل خلقٍ تراه ليس يدفعه
فإن شككت بأن الله يقسمه ... فإن ذلك باب الكفر تقرعه
باب الصاد
صاعد بن الحسن بن عيسىالربعي، الموصلي الأصل البغدادي اللغوي الأديب أبو العلاء، أخذ عن السيرافي وأبي علي الفارسي والخطابي وغيرهم، وكان عارفاً باللغة وفنون الأدب والأخبار، سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة ممتع المجالسة، دخل الأندلس واتصل بالمنصور بن أبي عامر فأكرمه وأفرط في الإحسان إليه والإقبال عليه، ثم استوزره وألف للمنصور كتباً منها: كتاب سماه الفصوص على نحو كتاب النوادر لأبي عليٍ القالي. واتفق لهذا الكتاب حادثة غريبة وهي: أن أبا العلاء لما أتمه دفعه لغلامٍ له يحمله بين يديه وعبر نهر قرطبة فزلت قدم الغلام فسقط في النهر هو والكتاب، فقال في ذلك ابن العريف وكان بينه وبين أبي العلاء شحناء ومناظراتك:
قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيلٍ يغوص
فضحك المنصور والحاضرون فلم يرع ذلك صاعداً وقال على البديهة مجيباً لابن العريف:
عاد إلى معدنه إنما ... توجد في قعر البحار الفصوص

وصنف له أيضاً كتاب الجواس بن قعطل المذحجي مع ابنة عمه عفراء، وهو كتاب لطيف ممتع جداً، انخرم في الفتن التي كانت بالأندلس فسقطت منه أوراق لم توجد بعد، وكان المنصور كثير الشغف بهذا الكتاب حتى رتب له من يقرؤه بحضرته كل ليلةٍ، وصنف له أيضاً كتاب الهجفجف بن غيدفان بن يثربيٍ مع الخنوت بنت محرمة بن أنيفٍ وهو على طراز كتاب أبي السري سهل ابن أبي غالب الخزرجى، ولم يحضر صاعد بعد موت المنصور مجلس أحدٍ ممن ولي الأمر بعده، وإلى ذلك يشير في قصيدته التي قالها للمظفر بن المنصور الذي ولي بعد أبيه وأولها:
إليك حدت ناجية الركاب ... محملةً أماني كالهضاب
وبعث ملوك أهل الشرق طرا ... بواحدها وسيدها اللباب
ومنها يشير إلى مرض لحق بساقه فمنعه من حضور جالسه، وهو وجع ادعاه فقال:
إلى الله الشكية من شكاةٍ ... رمت ساقي فجل بها مصابي
وأقصتني عن الملك المرجى ... وكنت أرم حالي باقترابي
ومنها:
حسبت المنعمين على البرايا ... فألفيت اسمه صدر الحساب
وما قدمته إلا كأني ... أقدم تالياً أم الكتاب
وأنشد هذه القصيدة بين يدي المظفر في عيد الفطر سنة ستٍ وتسعين وثلاثمائة، ولصاعدٍ مع المنصور أخبار ولطائف يطول ذكرها، توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائةٍ.
الجزء الثاني عشر
صالح بن إسحاقأبو عمر الجرمي، فهو مولى لجرم بن زبان، وجرم من قبائل اليمن وقيل هو مولىً لبجيلة بن أنمارٍ، كان عالماً بالعربية واللغة، فقيهاً ورعاً وهو بصري قدم بغداد فأخذ عن يونس بن حبيب العربية، وعن أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وقرأ عليه كتاب سيبويه وأخذ اللغة عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والأصمعي ومن في طبقتهم، وكان رقيقاً لأبي عثمان المازني، وأخذ منه المبرد والمازني وغيرهما، وناظر الفراء، وانتهى إليه علم العربية في وقته، وصنف كتباً كثيرةً منها: مختصره في النحو، كان كما صنف منه باباً صلى ركعتين بالمقام ودعا بأن ينتفع به. وله كتاب التنبيه، وكتاب السير، وكتاب الأبنية، وكتاب العروض وغير ذلك: توفي سنة خمسٍ وعشرين ومائتين في خلافة المعتصم.
صالح بن عبد القدوسابن عبد الله، كان حكيماً أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً كان يجلس للوعظ في مسجد البصرة ويقص عليهم، وله أخبار يطول ذكرها، اتهم بالزندقة فقتله المهدي بيده، ضربه بالسيف فشطره شطرين، وعلق بضعة أيام للناس ثم دفن، وأشهر شعره قصيدته البائية التي مطلعها:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تصرم وتقلب
وكذاك ذكر الغانيات فإنه ... آل ببلقعةٍ وبرق خلب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... واجهد فعمرك مر منه الأطيب
ومنها:
واحذر معاشرة الدنى فإنها ... تعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
يلقاك يحلف إنه بك واثق ... وإذا توارى عنك فهو العقرب
ومن شعره أيضاً:
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً ... كاسفاً باله قليل الرجاء
وقال:
إذا قلت قدر أن قولك عرضة ... لبادرةٍ أو حجة لمخاصم
وإن امرء لم يخش قبل كلامه ال ... جواب فينهي نفسه غير حازم
وقال:
لا أخون الخليل في السر حتى ... ينقل البحر في الغرابيل نقلا
أو تمور الجبال مور سحابٍ ... مثقلاتٍ وعت من الماء حملا
صفوان بن إدريسابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى النجيبي أبو بحرٍ، كان أديباً كاتباً شاعراً سريع الخاطر، أخذ عن أبيه والقاضي ابن إدريس وابن غليون وأبي الوليد، وهو أحد أفاضل الأدباء المعاصرين بالأندلس. وله سنة ستين وخمسمائةٍ، وتوفي بمرسية سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائةٍ ولم يبلغ الأربعين وله تصانيف منها: كتاب زاد المسافر وراحلته، وكتاب العجالة مجلدان يتضمنان طرفاً من نثره ونظمه، وديوان شعرٍ، ومن شعره:
قد كان لي قلباً فلما فارقوا ... سوى جناحاً للغرام وطارا
وجرت سحاب للدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعةً وأوارا

ومن العجائب أن فيض مدامعي ... ماء يمر وفي ضلوعي نارا
وقال في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الأنام
على الذي فتح باب الهدى ... وقال للناس ادخلوها بسلام
بدر الهدى سحب الندى والجدا ... وما عسى أن يتنامى الكلام
تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك لا أرضى بمسك الختام
تخصه منى ولا تنثني ... عن آله الصيد السراة الكرام
وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظةً من كرام
وقال:
أحمي الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أوقد
وقال عنه العذول سالٍ ... قلده الله ما تقلد
وباللوى شادن عليه ... جيد غزال ووجه فرقد
أسكره ريقه بخمرٍ ... حتى انثني قده وعربد
لا تعجبوا لانهزام صبري ... فجيش أجفانه مؤيد
أنا له كالذي تمنى ... عبد نعم عبده وأزيد
له على امتثال أمرٍ ... ولي عليه الجفاء والصد
إن سلمت عينه لقتلي ... صلى فؤادي على محمد
وقال:
يا قمراً مطلعه أضلعي ... له سواد القلب فيها غسق
وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق
ملكتني بدولةٍ من صباً ... وصدتني بشركٍ من حدق
عندي من حبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق
وقال:
يقولون لي لما ركبت بطالتي ... ركوب فتى جم الغواية معتدي
أعندك ما ترجو الخلاص به غداً ... فقلت نعم عندي شفاعة أحمد؟
باب الضاد
الضحاك بن سليمانابن سالم بن دهاية أبو الأزهر المرئي الأوسي منسوب إلى امرئ القيس بن مالكٍ، نزل بغداد وله معرفة بالنحو واللغة، وله شعر جيد. مات سنة سبعٍ وأربعين وخمسمائةٍ. ومن شعره.
ما أنعم الله على عبده ... بنعمةٍ أوفى من المافيه
وكل من عوفي في جسمه ... فإنه في عيشةٍ راضيه
والمال حلو حسن جيد ... على الفتى لكنه عاريه
وأسعد العالم بالمال من ... أعطاه للآخرة الباقية
ما أحسن الدنيا ولكنها ... مع حسنها غدارة فانيه
الضحاك بن مخلدابن مسلم أبو عاصمٍ النبيل لشيباني البصري الحافظ الثبت النحوي اللغوي، كان إماماً في الحديث، سمع من جعفرٍ الصادق وابن جريجٍ والأوزاعي وابن أبي عروبةً. وأخرج له البخاري في صحيحه وأجمعوا على توثيقه. قيل له يحيى بن سعيد يتكلم فيك، فقال: لست بحيٍ ولا ميتٍ إذا لم أذكر، مات أبو عاصم سنة اثنتي عشرة ومائتين.
الضحاك بن مزاحمٍ
أبو القاسم البلخي المفسر المحدث النحوي. كان يؤدب الأطفال فيقال: كان في مكتبه ثلاثة آلاف صبيٍ وكان يطوف عليهم على حمارٍ. لقى الضحاك ابن عباس وأبا هريرة، وأخذ عن سعيد بن جبيرٍ التفسير، وكان عبد الملك بن ميسرة يقول: لم يلق الضحاك ابن عباس وإنما لقي سعيد بن جبيرٍ بالري فأخذ عنه التفسير. وقال شعبة: قلت لمشاشٍ هل سمع الضحاك من ابن عباس؟ قال: ما رآه قط. ووثقه أحمد بن حنبلٍ وابن معينٍ وأبو زرعة، وضعفه يحيى بن سعيدٍ، مات الضحاك سنة خمسٍ ومائةٍ وقيل ستٍ ومائةٍ.
باب الطاء
طالب بن عثمان بن محمدابو أحمد بن أبي غالب الأزدي النحوي البصري. أخذ عن أبي بكر بن الأنباري، وكان بارعاً في العربية عارفاً باللغة وكف بصره في آخر عمره، ولد سنة تسع عشرة وثلاثمائةٍ. توفي في خلافة القادر بالله سنة ستٍ وتسعين وثلاثمائةٍ.
طالب بن محمد بن قشيطأبو أحمد المعروف بابن السراج النحوي. كان عارفاً بالعربية قيماً بها، أخذ عن أبي بكر بن الأنباري. وله مختصر في النحو وكتاب عيون الأخبار وفنون الأشعار. مات سنة إحدى وأربعمائةٍ.
طاهر بن أحمد

ابن بابشاذ بن داود بن سليمان بن إبراهيم أبو الحسن المصري المعروف بابن بابشاذ النحوي اللغوي. ولى متاملاً في ديوان الانشاء بالقاهرة، يتأمل ما يصدر منه من السجلات والرسائل فيصلح ما فيها من خطأ. تزهد في آخر عمره ولزم منارة الجامع بمصر، فخرج في بعض الليالي والنوم في عينيه فسقط من المنارة إلى سطح الجامع فمات، وذلك صبيحة اليوم الرابع من رجبٍ، سنة تسعٍ وستين وأربعمائةٍ، وله من التصانيف، شرح الجمل للزجاجي، وشح النخبة، والتعليق في النحو خمسة عشر مجلداً سماه تلامذته من بعده تعلق الغرفة، والمحتسب في النحو وغير ذلك.
طراد بن علي بن عبد العزيزأبو فراس السلمي الدمشقي المعروف بالبديع. كان نحوياً كاتباً أديباً بارعاً في النظم والنثر. ومن شعره:
قيل لي لم جلست في آخر القو ... م وأنت البديع رب القوافي؟
قلت آثرته لأن المنادي ... ل يرى طرزها على الأطراف
وقال:
يا صاح آنسني دهري وأوحشني ... منهم وأضحكني دهري وأبكاني
قد قلت: أرض بأرضٍ بعد فرقتهم ... فلا تقل لي: جبران بجبرانٍ
وقال:
يا نسيماً هب مسكاً عبقاً ... هذه أنفاس ريا جلقا
كف عني والهوى ما زادني ... برد أنفاسك إلا حرفا
ليت شعري نقضوا أحبابنا ... يا حبيب النفس ذاك الموئقا
يا رياح الشوق سوقي نحوهم ... عارضاً من سحب دمعي غدقا
وانثري عقد دموع طالما ... كان منظوماً بأيام اللقا
وقال:
هكذا في حبكم أستوجب؟ ... كبداً حرى وقلباً يجب
وجزا من سهرت أجفانه ... حجة تمضي وأخرى تعقب؟
زفرات في الحشا محرقة ... وجفون دمعها ينسكب
قاتل الله عذولي مادرى ... أن في الأعين أسداً تثب
لا أرى لي عن حبيبي سلوةً ... فدعوني وغرامي واذهبوا
وقال:
لئن كنت عني في العيان مغيباً ... فما أنت عن سمعي وقلبي بغائب
إذا اشتاقت العينان منك بنظرةٍ ... تمثلت لي في القلب من كل جانب
مات البديع الدمشقي سنة أربع وعشرين وخمسمائةٍ.
طريح بن إسماعيلابن عبيد بن أسيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزي النقفي، وأمه خزاعية بنت عبد الله بن سباعٍ أبو الصلت الشاعر المشهور، نشأ في دولة بني أمية واستنفذ شعره في الوليد بن يزيد، وأدرك دولة بني العباس، ومات في أيام المهدي سنة خمسٍ وستين ومائةٍ، ومن مختار شعره قوله:
ألم تر المرء نصباً للحوادث ما ... تنفك فيه سهام الدهر تنتضل
إن يعجل الموت يحمله على وضحٍ ... لجبٍ موارده مسلوكة ذلل
وإن تمادت به الأيام في عمرٍ ... يخلق كما رث بعد الجدة الحلل
ويستمر إلى أن يستقل به ... ريب المنون ولو طالت به الطيل
والدهر ليس بناجٍ من داوئره ... حي جبان ولا مستاسد بطل
ولا دفين غيابا تٍ له نفق ... تحت التراب ولا حوت ولا وعل
بل كل شئٍ سيبلي الدهر جدته ... حتى يبيد ويبقى الله والعمل
وقال:
وترى المشيب بدا وأقبل زائراً ... بعد الشباب فنازل ومودع
والشيب للحكماء من سفه الصبا ... بدل تنال به الفضيلة مقنع
والشيب زين بني المروءة والحجا ... فيه لهم شرف ومجد يرفع
والبر تصحبه المروءة والتقى ... تبدو بأشيب جسمه متضعضع
أشهى إلي من الشباب مع المنى ... والغي يتبعه القوي المهرع
إن الشباب عمىً لأكثر أهله ... وتعرض لمهالكٍ تتوقع
وقال:
حل المشيب ففرق الرأس مشتعل ... وبان بالكره منا اللهو والغزل
فحل هذا مقيماً لا يريد لنا ... تركاً وهذا الذي نهواه مرتحل
هذا له عندنا نور ورائحة ... كنشر روضٍ سقاه عارض هطل
وجدة وقبول لا يزال له ... من كل خلقٍ هوى أو خلةٍ نفل

والشيب يطوي الفتى حتى معارفه ... نكر ومن كان يهواه به ملل
يبلي بلي البرد فيه بعد قوته ... وهن وبعد تناهى خطوه رمل
طلحة بن محمدٍ
وقل أحمد بن طلحة أبو محمد النعماني، كان فاضلاً عارفاً باللغة والأدب والشعر، ورد بغداد وخراسان وكاتبه الحرير يصاحب المقامات، وكان كثير الحفظ جيد الشعر سريع البديهة. مات سنة عشرين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
إذا نالك الدهر بالحادثات ... فكن رابط الجأش صعب الشكيمه
ولا تهن النفس عند الخطوب ... إذا كان عندك للنفس قيمه
فوالله ما لقى الشامتون ... بأحسن من صبر نفسٍ كريمه
باب الظاء
ظافر بن القاسمابن منصور بن عبد الله بن خلفٍ الجذامي الإسكندري المعروف بالحداد الشاعر الأديب، روى عنه الحافظ السلفي وطائفة من الأعيان، وتوفي بمصر في المحرم سنة تسعٍ وعشرين وخمسمائة ومن شعره:
حكم العيون على القلوب يجوز ... ودواؤها من دائهن عزيز
كم نظرةٍ نالت بطرفٍ ذابلٍ ... ما لا ينال الذابل المهزوز
فحذار من تلك اللواحظ غيرةً ... فالسحر بين جفونها مكنوز
وكتب إلى أبي الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي بعد أن توجه من مصر إلى المهدية يتشوق إليه:
ألا هل لدائي من فراقك إفراق ... هم السم لكن لي لقاؤك درياق
فيا شمس فضلٍ غربت ولضوئها ... على كل قطرٍ بالمشارق إشراق
سقى العهد منك عمر عهده ... بقلبي عهداً لا يضيع وميثاق
يجدده ذكر يطيب كما شدت ... وريقاء كنتها من الأيك أوراق
لك الخلق الجذل الرفيع طرازه ... وأكثر أخلاق الخليقة أخلاق
لقد ضاءلتني يا أبا الصلت مذ نأت ... ديارك عن داري هموم وأشواق
إذا عزني إطفاؤها بمدامعي ... جرت ولها ما بين جفني إحراق
سحائب يحدوها زفير جره ... خلال التراقي والترائب تشهاق
وقد كان لي كنز من الصبر واسع ... ولي منه في صعب النوائب إنفاق
وسيف إذا جردت بعض غراره ... لجيش خطوبٍ صدها منه إرهاق
إلى أن أبان البين أن غراره ... غرور وأن الكنز فقر وإملاق
أخي سيدي مولاي دعوة من صفا ... وليس له من رق ودك إعناق
لئن بعدت ما بيننا شقة النوى ... ومطرد طامي الغوارب خفاق
وبيد إذا كلفتها العيس قصرت ... طلائح أنضاها زميل وإعناق
فعندي لك الود الملازم مثل ما ... يلازم أعناق الحمائم أطواق
وهي طويلة نحو ثلاثين بيتاً، ومن لطائفه وغرر قصائده أيضاً قوله:
لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ماسح وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحب يغزو قلبه ... حتى وهى وتقطعت أفلاذه
لم بق فيه مع الغرام بقية ... إلا رسيس يحتويه جذاذه
من كان يرغب في السلامة فليكن ... أبداً من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه ... نظر يضر بقلبك استلذاذه
يأيها الرشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حب القلوب نفاذه
در يلوح بفيك من نظامه ... خمر به قد جال، من نباذه؟؟
وقناة ذاك القد، كيف تقومت ... وسنان ذاك اللحظ، ما فولاذه؟
هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن ترى أستاذه؟
تالله ما علقت محاسنك امرأ ... إلا وعز على الورى استنفاذه
أغريت حبك بالقلوب فأذعنت ... طوعاً وقد أودى به استحواذه
وهي نحو عشرين بيتاً كلها غرر، ومن مقطعاته قوله في الأقحوان:
أنظر فقد أبدى الأقاحي مبسماً ... يفتر ضحكاً فوق قدٍ أملد
كفصوص درٍ لطفت أجرامه ... وتنظمت من حول شمسة عسجد

وقال في كرسي النسخ و يكتب عليه.
أنظر بعينك في بديع صنائعي ... وعجيب تراكيبي وحكمة صانعي
فكأني كفا محبٍ شبكت ... يوم الفراق أصابعاً بأصابعي
ظالم بن عمروابن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثةً ابن عدي بن الدئل بن بكر بن كنانة الدؤلي أبو الأسود، وفي اسمه ونسبه خلاف، أحد سادات التابعين والمحدثين والفقهاء والشعراء والفرسان والأمراء والأشراف والدهاة والحاضري الجواب والصلع الأشراف والبخر الأشراف، ومن مشاهير البخلاء. والأكثر على أنه أول من وضع العربية ونقط المصحف، روى عن عر وعليٍ وأبي ذرٍ وابن عباس وغيرهم. وعنه أمية ويحيى بن يعمر، وصحبه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وشهد معه صفين، ومات بالطاعون الجارف سنة سبعٍ وستين على الأصح. روى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد بن أبيه وكان يعلم أولاده وقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل. قال: فجاء رجل إلى زيادٍ فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنون! ادعوا لي أبا الأسود، فلما جاءه قال له: ضع للعناس ما كنت نهيتك عنه ففعل. وروى في وضع العربية غير ذلك، ولأبي الأسود أخبار كثيرة مع الخلفاء والأمراء، ولطائف في البخل والإمساك، وقد استقصى أخباره أبو الفرج في كتابه، ومن شعره يعاتب ابنه أبا حربٍ وقد انقطع عن العمل وطلب الرزق:
وما طلب المعيشة بالتمنى ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يوماً يوماً ... تجئ بحمأةٍ وقليل ماء
ولا تقعد على كسل التمني ... تحيل على المقادر والقضاء
فإن مقادر الرحمن تجري ... بأرزاق الرجال من السماء
مقدرةً بقبضٍ أو ببسطٍ ... وعجز المرء أسباب البلاء
وقال:
ألعلم زين وتشريف لصاحبهفاطلب هديت فنون العلم والأدبا
كم سيدٍ بطلٍ آباؤه نجب ... كانوا رؤوساً فأضحى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدبٍ ... نال المعالي بالآداب والرتبا
ألعل ذخر وكنز لا نفاد له ... نعم القرين ونعم الخدن إن صحبا
قد يجمع المال شخص ثم يحرمه ... عما قليلٍ فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبداً ... فلا يحاذر فيه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لا تعدلن به دراً ولا ذهبا
وقال:
فلا تشعرن النفس يأساً فإنما ... يعيش بجدٍ حازم وبليد
ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكل قريبٍ لا ينال بعيد
وقال:
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني طول البلاء إلى الصبر
ووسع صدري للأذى كثرة الأذى ... وكان قديماً قد يضيق به صدري
إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما ... ألاقيه منه طال عتبي على الدهر
وقال:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمرٍ منكر
وبقيت في خلفٍ يزكى بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معود
فطنٍ لكل مصيبةٍ في ماله ... وإذا أصيب بعرضه لم يشعر
باب العين
عالي بن عثمان بن جنىٍ
أبو سعدٍ البغدادي. كان نحوياً أديباً حسن الخط، أخذ عن أبي الفتح بن جنيٍ والوزير عيسى بن علي، وأخذ عنه الأمير أبو نصر بن ماكولا وغيره. مات سنة سبعٍ أو ثمانٍ وخمسين وأربعمائةٍ.
عامر بن عمران بن زيادٍ
أبو عكرمة الضبي السرمدي من أهل سر من رأى، كان نحوياً لغوياً أخبارياً، أخذ عن ابن الأعرابي، وعنه القاسم بن محمد بن بشارٍ الأنباري، وكان أعلم الناس بأشعار العرب وأرواهم لها، وكان في أخلاقه شراسة، وصنف كتاب الخيل، وكتاب الإبل والغنم، مات سنة خمسين ومائتين.
العباس بن الأحنف

ابن الأسود بن طلح، أبو الفضل الحنفي اليمامي، شاعر مجيد رقيق الشعر من شعراء الدولة العباسية، إلا أن كل شعره غزل لا مديح فيه ولا هجاء ولا شيئاً من ضروب الشعر. توفي سنة اثنتين وتسعين ومائةٍ ببغداد، ومن شعره:
لابد للعاشق من وقفةٍ ... تكون بين الصد والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغمٍ
وقال:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أشجاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال:
وإني ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الود إلا عدتم بجميل
وقال:
يا فوز يا منية عباس ... قلبي يفدى قلبك القاسي
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الشوق فآتيكم ... والقلب مملوء من الياس
وقال:
أبكى الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوا فلما قمت منتصباً ... بنقل ما حملوني منهم فعدوا
وشعره كله غاية في الجودة والانسجام والرقة، وله ديوان لطيف يتداوله الناس وفي بعض نسخه اختلاف.
العباس بن الفرجأبو الفضل الرياشي مولى محمد بن سليمان الهاشمي وإنما قيل له الرياشي: لأن أباه كان عند رجلٍ يقال له رياش فبقي عليه نسبه. وكان من كبار النحاة وأهل اللغة، راويةً للشعر أخذ عن الأصمعي، وكان يحفظ كتبه وكتب أبي زيدٍ. وقرأ عليه المازني النحو، وقرأ عليه المازني اللغة. قال المبرد: سمعت المازني يقول: قرأ الرياشي علي كتاب سيبويه فاستفدت منه أكثر مما استفاد منى، يعني أنه أفادني لغته وشعره وأفاده هو النحو. وأخذ عنه أبو العباس المبرد وأبو بكرٍ محمد بن دريدٍ. وكان الرياشي ثقةً فيما يرويه. وله تصانيف منها: كتاب الخيل، وكتاب الإبل، وكتاب ما اختلفت أسماؤه من كلام العرب وغير ذلك. مات مقتولاً في واقعةٍ الزنج بالبصرة في خلافة المعتمد سنة سبعٍ وخمسين ومائتين.
عبد الله بن إبراهيمابن عبد الله بن حكيمٍ أبو حكيمٍ الحبري، بفتح المعجمة وسكون الموحدة. قال القاضي الأكرم - أبقى الله مهجته - في أخبار النحاة: كان متمكناً من علمٍ العربية، ويكتب الخط الحسن. نفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وبرع في الفرائض والحساب، وصنف فيهما، وشرح الحاسمة وديوان الحماسة وديوان البحتري وعدةً دواوين، وسمع الحديث من أبي محمدٍ الجوهري وجماعةٍ، وحدث باليسير. وكان مرضى الطريقة ديناً صدوقاً، روى عنه سبطه أبو الفضل بن ناصرٍ أنه كان يكتب يوماً وهو مستند فوضع القلم من يده وقال: إن هذا موت مهنا طيب ثم مات. وكان ذلك يوم الثلاثاء ثاني عشرين ذي الحجة سنة ست وسبعين وأربعمائة.
عبد الله بن أحمدابن أحمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر أبو محمد ابن الخشاب. قال القاضي الأكرم أيضاً: كان أعلم أهل زمانه بالنحو، حتى يقال: إنه كان في درجة أبي عليٍ الفارسي. وكانت له معرفة بالحديث والتفسير واللغة والنطق والفلسفة والحساب والهندسة، وما من علم من العلوم إلا وكانت له فيه يد حسنة. وقرأ الأدب على أبي منصورٍ موهوبٍ الجواليقي وغيره، والحساب والهندسة على أبي بكر بن عبد الباقي الأنصاري، والفرائض على أبي بكرٍ المرزوقي، وسمع الحديث من أبي الغنائم النرسي وأبي القاسم بن الحصين وأبي العز ابن كادش وجماعةٍ، ولم يزل يقرأ حتى علا على أقرانه، وقرأ العالي والنازل، وكان يكتب خطاً مليحاً، وجمع كتباً كثيرة جداً، وقرأ عليه الناس وانتفعوا به وتخرج به جماعة، وروى كثيراً من الحديث.

سمع منه الحافظ أبو سعد السمعاني وأبو أحمد بن سكينة وأبو محمد بن الأخضر وكان ثقة في الحديث صدوقاً نبيلاً حجة إلا أنه لم يكن في دينه بذاك، وكان بخيلاً متبذلاً في ملبسه وعيشه قليل المبالاة يحفظ ناموس العلم، يلعب بالشطرنج مع العوام على قارعة الطريق، ويقف في الشوارع على حلق المشعبذين واللاعبين بالقرود والدباب، كثير المزاح واللعب طيب الأخلاق، سأله شخص وعنده جماعة من الحنابلة: أعندك كتاب الجبال؟ فقال له: يا أبله أما تراهم حولي، وسأله آخر عن القفا يمد أو يقصر؟ فقال له: يمد ثم يقصر. وقرأ عليه بعض المعلمين قول العجاج:
أطرباً وأنت قنسرى ... وإنا يأتي الصبا الصبي
فقال: وإنما يأتي الصبي الصبي، فقال له ابن الخشاب هذا عندك في المكتب، وأما عندنا فلا، فخجل المعلم وقام. وكان يتعمم بالعمامة فتبقى مدةً على حالها حتى تسود مما يلي رأسه وتتقطع من الوسخ. وترمى عليها الطيور ذرقها. ولم يتزوج قط ولا تسرى، وكان إذا حضر سوق الكتب وأراد شراء كتاب غافل الناس وقطع منه ورقةً وقال: إنه مقطوع ليأخذه بثمن بخسٍ، وإذا استعار من أحدٍ كتاباً وطالبه به قال: دخل بين الكتب فلا أقدر عليه. وصنف شرح الجمل للزجاجي. وشرح اللمع لابن جنيٍ لم يتم. والرد على ابن بابشاذ في شرح الجمل، والرد على الخطيب التبريزي في تهذيب إصلاح المنطق: وشرح مقدمة الوزير ابن هبيرة في النحو. يقال: إنه وصله عليها بألف دينارٍ، والرد على الحريري في مقاماته: توفي عشية يوم الجمعة ثالث رمضان سنة سبعٍ وستين وخمسمائة، ووقف كتبه على أهل العلم. ورأى بعد موته بمدة في النوم على هيئةٍ حسنةٍ فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: ودخلت الجنة؟ قال: نعم إلا أن الله أعرض عنى. قيل: أعرض عنك؟ قال: نعم وعن كثير من العلاء ممن لا يعمل بعلمه. ومن شعره:
لذ خمولي وحلا مره ... إذ ضانني عن كل مخلوق
نفسي معشوقي ولى غيرة ... تمتعني من بذل معشوقي
وقال ملغزاً في كتابٍ:
وذي أوجهٍ لكنه غير بائحٍ ... بسرٍ وذو الوجهين للسر مظهر
تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتفهمها ما دمت بالعين تنظر
وله في شمعةٍ:
صفراء لا من سقم مسها ... كيف وكانت أمها الشافيه
عريانة باطنها مكتس ... فاعجب لها كاسيةً عاريه
وقال:
إذا عن أمر فاستشر فيه صاحباً ... وإن كنت ذا رأىٍ يشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حل في موضع الشهب
عبد الله بن أحمدابن حرب بن خالد أبو هفان المهزني اللغوي الشاعر، أخذ عن الأصمعي وروى عنه يموت بن المزرع، وكان متهتكاً مقتراً ضيق الحال شراباً للنبيذ، وله كتاب أخبار الشعراء، وكتاب صناعة الشعر. مات سنة خمسٍ وتسعين ومائةٍ، ومن شعره في وصف سيفٍ:
فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين
وكأن الفرند والرونق السا ... ثل في صفحتيه ماء معين
ما يبالي من انتضاه لحربٍ ... أشمال سطت به أم يمين؟؟
وقال:
أيا رب قد ركب الأرذلو ... ن ورجلي من رحلتي داميه
فإن كنت حاملنا مثلهم ... وإلا فأرحلني الثانيه
عبد الله بن بري بن عبد الجبارأبو محمد المصري، عرف بابن بريٍ النحوي اللغوي الأديب. قال القاضي الأكرم في أخبار النحاة: شاع ذكره واشتهر ولم يكن في الديار المصرية مثله، قرأ كتاب سيبويه على محمد بن عبد الملك الشنتريني، وتصدر للإقراء بجامع عمرو بن العاص، وكان مع علمه وغزارة فهفمه ذا غفلةٍ، يحكي عنه حكايات عجيبة منها: أنه جعل في كمه عنباً فجعل يعبث به ويحدث شخصاً معه حتى نقط على رجليه فقال:
عبيد الله بن محمد بن أبي بردةأبو محمد القصري، من قصر الزيت بالبصرة، قاضي فارس، نحوي لغوي معتزلي، ذكره أبو الفتح منصور ابن المقدر النحوي المعتزلي، محتجاً به وبأمثاله على أبي بكر الباقلاني لأنه قال: إن الكلابية تقول: إن النظر إذا قرن بإلى لم يحتمل إلا الرؤية، وإن المعتزلة تبطل ذلك بقول الشاعر:
إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغني الموسر

قال: هذا اعتراض باطل، لأن الشاعر قال إليك، والله قال إلى ربها، وأحدهما غير الآخر، لأن أحدهما بالياء والآخر بالألف، قال: من يخاصم المعتزلة الذين هم ذوو اللسن والفصاحة بهذا الكلام لا يكون غبياً بل أنقص حالة من الأغبياء، وقد كان يحضر منهم في زمن أمراء المؤمنين المطيع والطائع والقادر نحو من مائةٍ المجالس، كل منهم أو جمهورهم قد قرأ كتاب سيبويه وإليه انتهى، كعلي ابن عيسى الرماني وأبي سعيد السيرافي، وذكر جماعةً ثم قال: وأبو محمد عبد الله ابن محمد بن أبي بردة القصري من قصر الزيت بالبصرة قاضي فارس، وله الانتصار لسيبويه على أبي العباس في كتاب الغلط، وله مسائل سألها الشيخ أبا عبد الله البصري في إعجاز القرى، وغير ذلك.
عبيد الله بن محم بن أبي محم اليزيديواسم أبي محمد بن المبارك بن المغيرة، وكنية عبيد الله أبو القاسم، يعرف بابن اليزيدي، ذكره الخطيب فقال: مات في سنة أربعٍ وثمانين ومائتين، قال: وسمع محمد بن منصورٍ الطوسي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي، روى عن عمه إبراهيم بن يحيى وأخيه أحمد بن محمد عن جده أبي محمد اليزيدي عن أبي عمرو ابن العلاء حروفه في القرآن. حدث عنه ابن أخيه محمد بن العباس وأحد بن عثمان الآدمي، وكان ثقةً. حدث عبيد الله عن عمه إبراهيم قال: حدثني أبي قال: كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فسأل عن رجلٍ من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فسل عنه، فرجع فقال: تركته يريد أن يموت، قال: فضحك منه بعض القوم وقال: في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟ فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربيةً، إن يريد في معنى يكاد، قال الله تعالى: (جداراً يريد أن ينقض)، أي يكاد، قال: فقال أبو عمروٍ: ولا نزال بخيرٍ ما كان فينا مثلك. قال أبو القاسم الزجاجي: أنشدني أبو عبد الله اليزيدي لعمه عبيد الله بن محمدٍ:
قد ضقت ذرعاً بك مستصلحاً ... وأنت مزور عن الواجب
من لي بأن تعقل؟ حتى ترى ... كم لك في العالم من عائب؟
عبيد الله بن محمدالأزديبن جعفرابن محمد بن عبد الله الأزدي أبو القاسم النحوي. ذكره الخطيب فقال: مات في سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائةٍ في أيام المطيع قال: وحدث عن محمد بن الجهم السمري بكتاب المعاني للفراء عن مسلم بن عيسى الصفار وأبي بكر بن أبي الدنيا، وابن قتيبة. روى عنه المعافي بن زكرياء الحريري، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري وغيرهما. حدثنا عنه ابن رزقويه قال: وسألت أبا يعلى محمد بن الحسن السراج المقرئ عن الأزدي فقال: ضعيف، وقال غير الخطيب: له كتاب الاختلاف، وكتاب النطق.
عبيد الله بن محمد بن جروٍ الأسدي
أبو القاسم النحوي العروضي المعتزلي. ذكره ابن المقدر في المعتزلة من أهل الموصل. قدم بغداد وقرأ على شيوخها، فأخذ علم الأدب عن أبي عليٍ الفارسي وأبي سعيد السيرافي وغيرهما، وكان ذكياً حاذقاً جيد الخط صحيح الضبط صنف كتباً ومات فيما ذكره هلال بن المحسن في يوم الثلاثاء لأربعٍ بقين من رجبٍ سنة سبعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، وكان يقول الشعر فوجدت له في بعض الكتب:
قطعت من السنين مدىً طويلاً ... ولم تعرف عدوك من صديقك
فسرت على الغرور ولست تدرى ... أماء أم سراب في طريقك؟
قرأت في كتاب الموضح في العروض من تصنيف ابن جروٍ أخباراً أوردها عن نفسه فيه ومناظراتٍ جرت له مع الشيوخ في العروض منها: قرأت على شيخنا أبي سعيدٍ - رحمه الله - كتاب الوقف والابتداء عن القراء روايته عن أبي بكر بن مجاهد عن ابن الجهم عنه، فمضى فيه بيت أنشده القراء:
بأبي امرؤ والشام بيني وبينه ... أتتني ببشرى برده ورسائله
فقلت: هذا البيت لا يستقيم، فقال أبو سعيد: كذا أنشده ابن مجاهدٍ عن القراء وهو كما قال: أنشدناه غيره من شيوخنا عن أبي بكر وعن ابن بكيرٍ عن ابن الجه و عن ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى عن سلمة عن القراء هكذا.

فقال أبو سعيد: ما عندك فيه؟ فقلت: رأيت هذا البيت بخط أبي سهلٍ النحوي في هذا الكتاب بأبوي امرؤ وقال: رد الأب إلى أصله، لأنه في الأصل عند الكوفيين أبوعلي فعلٍ مثل نحوٍ وغزوٍ، فقال له أبو سعيد: لا ينبغي أن تلتفت إلى هذا، لأن الرواة والنافلين أجمعوا على أنه مكتوب بأبي، وكذلك لفظوا به، ولكن إصلاحه أن يكون بأبي امرؤ، فيكون بأبي، فعولن وسكن كسرة الباء من أبي لأنه قدره تقدير فخذ، وهذا لعمري تشبيه حسن لأنهم قد أجروا هذا في المنفصل مجرى المتصل فقالوا: اشتر لنا. جعل ترل بمنزلة فخذٍ، وأشد من هذا قراءة حمزة ومكر السيء ولاً جعل سيئاً بمنزلة فخذٍ ثم اسكن كما يقال: فخذ والحركة في السيء حركة إعرابٍ، ففي هذا ضربان من التجوز: جعله المنفصل بمنزلة المتصل، وتشبيهه حركة الإعراب بحركة البناء. وله من التصانيف: كتاب الموضح في العروض: جود في تصنيفه، وكتاب المفصح في القوافي، وكتاب الأمد في علوم القرآن لا أدري هل تم أم لا؟ لأنه قال في كتاب الموضح في العروض: وقد شرعنا في كتاب الأمد في علوم القرآن ثم وجدت في فوائد نقلت عن أبي القاسم المغربي أن كتابه في تفسير القرآن لم يتم، وأنه ذكر في " بسم الله الرحمن الرحيم " مائةً وعشرين وجهاً. قال: ومات قبل الأربعمائة. ذكر الشيخ أبو محمد بن الخشاب في بعض كتبه في معرض كلامٍ: وحكى بعض الأشياخ من أهل صناعة النحو أن عضد الدولة الديلمي التمس من أبي عليٍ الفارسي إماماً صلى به واقترح عليه أن يكون جامعاً إلى العلم بالقراءة العلم بالعربية، فقال: ما أعرف من قد اجتمعت فيه مطلوبات الملك إلا ابن جرو أحد أصحاب أبي عليٍ، وهو أبو القاسم عبيد الله بن جروٍ الأسدي، فقال: ابعثه إلينا، فجاء به وصلى بعضد الدولة. فلما كان الغد وأتى أبو عليٍ وسألك الملك عنه فقال: هو كما وصفت إلا أنه لا يقيم الراء أي يجعلها غيناً كعادة.
البغداديين في الأغلب، فقال البغداديين في الأغلب، فقال أبو علي لابن جروٍ ورآه كما قال عضد الدولة: لم لا تقيم الراء؟ فقال: هي عادة للساني لا أستطيع تغييرها، فقال له أبو عليٍ: ضع ذبابة القلم تحت لسانك لترفعه به وأكثر مع ذلك ترديد اللفظ بالراء، ففعل واستقام له إخراج الراء من مخرجها.
قال: هذا معنى الحكاية التي حكيت لي في هذا. فقلت للشيخ الحاكي لي - رحمه الله - وأنا إذ ذاك حدث: ما أحسن ما تلطف أبو عليٍ في طبه هذا، فما الذي دله على هذه المعالجة؟ ومن أين استنبط هذه المداواة؟ وكيف احتال لهذا البرء؟ فقال: هذا الذي حكى لنا فما عندك فيه، فأجبت بما استحسنه الشيخ وحاضروه فقلت: لا شبهة بأن الغين حرف حلقي لا عمل للسان فيه، والراء حرف من حروف اللسان وله فيه عملن فمن نطق بالغين مكان الراء لم يكن للسان فيه عمل بل هو قار في فجوته، والحرف الحلقي منطوق به مع سكون اللسان واستقراره، فإذا رفعه بطرف القلم أو غيره مما يقوم مقامه في رفعه ولفظ بالحرف جعل له عملاً في الحرف، فبطل أن يكون حلقياً أي غيناً، لأن حروف الحلق لا عمل للسان فيها، وإذا بطل أن يكون غيناً كان راءً وهو الحرف الذي تلفظ بالغين بدلاً منه، فافهمه وداوبه ما جرى هذا المجرى من الحروف، فلو كان واصل بن عطاء الغزال حاذقاً حذق أبي عليٍ - رحمه الله - فداوى رأرأته ولتغته بهذا الدواء لأراحه من تكلفه إخراج الراء من كلامه حتى شاع عنه من إبدال بعض الكلم ما شاع. قال: وقد حكى أن الزجاج أبا إسحاق كان بهذه الصفة أعنى رأراء وذلك فيما قرأته بخط ابن برهانٍ النحوي.
عبيد الله أبو بكر الخياط الأصبهانيذكره حمزة فقال. هو واحد زمانه في علم النحو ورواية الشعر، أتقن كتاب سيبويه صغيراً، ثم كتاب مسائل الأخفش، ثم كتاب حدود الفراء، وهو في الأخبار والأيام وسائر الآداب متقدم على كل من تفرد بفن منها، وله كتابان في النحو أحدهما بسيط والآخر لطيف لم يصنف مثلهما في الزمان، ولما مات أبو بكرٍ الخياط وثته الشعراء، فمن ذلك قول أبي مسلم بن حجا الكوفاني:
سآتي باكياً شط الفرات ... لعيني أستمد مدى حياتي
فأبكي ثم أبكي ثم أبكي ... على من قد توسد جندلات
على قمر الزمان وزين علمٍ ... عبيد الله كنز الفائدات
وله يرثيه:

ودعت بعد أبي بكرٍ ودنياه ... ديوان شعرٍ ونحواً ملك يمناه
طوى الثرى معه كل العلوم فلا ... نشر يرجى له من بعد مثواه
من لي بمثل عبيد الله يوم ثوى ... رهن الحمام وهل في الناس شرواه
ومن كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدثني أبو سريٍ الأصبهاني ابن أخت أبي بكر الخياط الأصبهاني قال: كان أبو بكر خالي يحفظ دواوين العرب، ويقوم عليها قياماً تاماً، ويتصرف في كتاب سيبويه ومسائل الأخفش تصرفاً قوياً، فحدثني أن أبا الفضل بن العميد كان يقرأ عليه كتاب الطبائع لأبي عثمان الجاحظ، فانفق أن كان في بعض الأيام عنده وقد نزع نعله فأخذه كلب زئنى في الدار وأبعده عن موضعه وأراد أبو بكرٍ الطهارة، فقام ولم يره، وطلبه فلم يجده، فتقدم أبو الفضل أن يقدم إليه نعل نفسه فاستسرف ذلك من فعله استسرافاً بلغه فقال: ألام على تعظيم رجل ما قرأت عليه شيئاً من الطبائع إلا عرف ديوان قائله وقرأ القصيدة من أولها حتى ينتهي إليه؟ ولقد كنت وغيري نتهم أبا عثمان الجاحظ فيما يستشهد به من غريب الشعر حتى دلنا على مواضعه، وأنشد القصيدة حتى انتزع منها فمن حفظه، أفما يستحق من هذه الصفة صفته هذه الكرامة اليسيرة في جنب هذه الفضيلة الكبيرة؟ وذكر ابن العميد يوماً أبا بكر الخياط النحوي فقال: أفادني في نقد الشعر ما لم يكن عندي، وذاك أنه جاءني يوماً باختياراتٍ له فكنت أرى المقطوعة بعد المقطوعة لا ندخل في مرتضى الشعر، فأعجب من إيراده لها واختياره إياها، فسألته عنها فقال: لم يقل في معناها غيرها فاخترتها لانفرادها في بابها.
عبيد الله بن محمد بن علي بن شاهمردانأبو محمد، لا أعرف من حاله شيئاً إلا أنني وجدت له كتاباً في اللغة في مجلد سماه حدائق الآداب.
عبيد بن سرية،ابن سارية

ويقال ابن سارية، ويقال ابن شرية الجرهمي ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق وقال: وفد على معاوية وقيل: إنه لم يفد عليه، وأنه لقيه بالحيرة لما توجه معاوية إلى العراق، ثم حدث بإسناد رفعه إلى أبي حاتمٍ السجستاني قال: وعاش عبيد بن سارية الجرهمي ثلاثمائة سنةٍ، وقال بعضهم: مائتين وعشرين سنة إلا أننا نظن أنه عاشها في الجاهلية وأدرك الإسلام فأسلم، وقدم على معاوية بن أبي سفيان فبلغنا أن معاوية قال له: كم أتى عليك؟ قال: مائتان وعشرون سنة، قال: ومن أين علمت ذاك؟ قال: من كتاب الله، قال ومن أي كتاب الله؟ قال: من قول سبحانه: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرةً لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب). فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال أدركت يوماً في إثر يومٍ، وليلةً في إثر ليلةٍ متشابهاً كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قومٍ، يكدحون فيما يبيد عنهم، ولا يعتبرون بما بمضى منهم، حيهم يتلف ومولودهم يخلف، في دهرٍ يصرف، أيامه تقلب بأهلها كتقلبها بدهرها، بينا أخوها في الرخاء إذ صار في البلاء، وبينا هو في الزيادة إذ أدركه النقصان وبينا هو حر إذ أصبح قناً لا يدوم على حالٍ، بين مسرورٍ بمولودٍ، ومحزونٍ بمفقودٍ، فلولا أن الحي يتلف لم يسعهم بلد، ولولا أن المولود يخلف لم يبق أحد. قال معاوية: أخبرني عن المال أيه أحسن في عينيك؟ قال: أحسن المال في عيني وأنفعه غناء وأقله عناء، وأجداده على العامة عين خرارة في أرضٍ خوارةٍ إذا استودعت أدت، وإذا استحليتها درت وأفعمت، تعول ولا تعال. قال معاوية: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها فرس تتبعها فرس، قد ارتبطت منها فرساً: قال معاوية: وأي النعم أحب إليك؟ قال: النعم لغيرك يا أمير المؤمنين. قال لمن؟ قال: لمن فلاها بيده وباشرها بنفسه، قال معاوية: حدثني عن الذهب والفضة، قال: حجران إن أخرجتها نفدا، وإن خزنهما لم يزيدا. قال معاوية: فأخبرني عن قيامك وقعودك، وأكلك وشربك، ونومك وشهوتك للباه. قال: أما قيامي: فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب، وأما أكلي وشربي: فإن جعت كلبت، وإن شبعت بهرت، وأما نومي: فإن حضرت مجلساً حالفني، وإن خلوت أطلبه فارقني، وأنا الباه: فإن بذل لي عجزت، وإن منعته غضبت، قال معاوية: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته. قال: إني نزلت بحيٍ من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجلٍ من عذرة يقال له حريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انتبذت جانباً عن القوم وعيناي تدمعان، ثم تمثلت بأبيات شعر كنت رويتها قبل ذلك:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير؟
قد بحت بالحب ما نخفيه من أحدٍ ... حتى جرت بك أطلاقاً محاضير
تبغي أموراً فما تدري أعالجها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير؟؟
فاستقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأخياء مغتبطاً ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
حتى كان لم يكن إلا تدكره ... والدهر أيتما حالٍ دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
وذاك آخر عهدٍ من أخيك إذا ... ما المرء ضمنه اللحد الخناشير

الواحد خنشير، والجمع الخناشير، ويقال: الخناشرة وهم الذين يتبعون الجنازة. فقال رجل إلى جانبي يسمع ما أقول: يا عبد الله من قائل هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به ما أدرى، إلا أني قد رويتها منذ زمان. قال: قائلها الذي دفناه آنفاً، وإن هذا ذا قرابته أسر الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه. قال: فعجبت لما ذكر في شعره، والذي صار إليه من قوله كأنه كان ينظر إلى موضع قبره. فقلت: إن البلاء موكل بالمنطق. قال المؤلف: وذكر محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست فقال: عبيد بن شرية الجرهمي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، ووفد على معاوية بن أبي سفيان فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه بما أمر به معاوية أن يدون وينسب إلى عبيد بن شرية، ثم عاش عبيد إلى أيام عبد الملك ابن مروان. وله من الكتب: كتاب الأمثال، كتاب الملوك وأخبار الماضين. وقال غير النديم: كان عبيد بن شرية يروى عن الكيس النمري وابنه يزيد بن الكيس، وعن الكسير الجرهي وعبد ودٍ الجرهمي.
عبيد بن مسعدةيعرف بابن أبي الجليد. قال المرزباني: أبو الجليد الفزاري المنظوري الذي اسمه مسعدة، وابنه ابن أبي الجليد نحوي أهل المدينة اسمه عبيد بن مسعدة، وكان أبو الجليد أعرابياً بدوياً علامةً، وكان الضحاك بن عثمان يروى عنه. وأبو الجليد هو القائل ورأى جاريةً سوداء غليظة الجسم:
إن لم يصبني أجلي فاخترم ... أشتر من مالي صناعاً كالصنم
عريضة المعطس خشناء القدم ... تكون أم ولدٍ وتختدم
إذا أبنها جاء بشرٍ لم يلم ... يقتل الناس ولا يوفى الذمم
عناب بن ورقاء لشيبانينقلت من خط أبي سعدٍ السمعاني: أنبأنا إبراهيم بن نبهان الغنوي: حدثنا أبو عبد الله الحميدي: عن أبي العباس أحمد بن عمر العذري بالمغرب، عن أبي البركات محمد بن عبد الواحد الزبيري بالأندلس، عن أبي سعيدٍ السيرافي عن أبي إسحاق الزجاج بالأندلس، عن أبي سعيدٍ السيرافي عن أبي إسحاق الزجاج عن المبرد قال: لما وصل المأمون إلى بغداد وقر بها قال ليحيى بن أكثم: وددت لو أني وجدت رجلاً مثل الأصمعي ممن عرف أخبار العرب وأيامها وأشعارها فيصحبني كما صحب الأصمعي الرشيد. فقال له يحيى: ههنا شيخ يعرف هذه الأخبار يقال له عتاب بن ورقاء من بني شيبان. قال: فابعث لنا فيه مخضر فقال له يحيى: إن أمير المؤمنين يرغب في حضورك مجلسه وفي محادثته. فقال: أنا شيخ كبير ولا طاقة لي، لأنه ذهب مني الأطيبان. فقال له المأمون: لابد من ذلك. فقال الشيخ: فاسمع ما حضرني، فقال اقتضاباً
أبعد ستين أصبو ... والشيب للمرء حرب
شيب وسن وإثم ... أمر لعمرك صعب
يا بن الإمام فهلا ... أيام عودي رطب
وإذ مشيبي قليل ... ومنهل العيش عذب
فالآن لما رأى بي ... عواذلي ما أحبوا
آليت أشرب راحاً ... ما حج لله ركب
فقال المأمون: ينبغي أن تكتب بالذهب وأعفى لشيخ وأمر له بجائزةٍ.
عثمان بن جنيٍ أبو الفتح النحوي
وكان جني أبوه مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصنف في ذلك كتباً أبر بها على المتقدمين، وأعجز المتأخرين، ولم يكن في شيءٍ من علومه أكمل منه في التصريف، ولم يتكلم أحد في التصريف أدق كلاماً منه، ومات لليلتين بقيتا من صفرٍ سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في خلافة القادر، ومولده قبل الثلاثين وثلاثمائةٍ وهو القائل:
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
على أني أقول إلى ... قرومٍ سادةٍ نجب
قياصرة إذا نطقوا ... ارم الدهر في الخطب
أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي

وحدث غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن قال: حدثني أبي قال: كان من كتاب الإنشاء في أيام عضد الدولة وبعدها في أيام صمصام الدولة ابنه كاتب يعرف بأبي الحسين القمي قال: وشاهدته في ديوان الإنشاء يكتب بين يديي جدي أبي إسحاق لما ولاه صمصام الدولة، فاتفق أنه حضر يوماً عند جدي أبي إسحاق أبو الفتح عثمان بن جنيٍ النحوي في الديوان وجلس يتحدث مع جدي تارةً ومعي إذا اشتغل جدي أخرى، وكانت له عادة في حديثه بأن يميل بشفته ويشير بيده، فبقي أبو الحسين القمي شاخصاً ببصره تعجب منه، فقال له ابن جنىٍ: ما بك يا أبا الحسين تحدق إلى النظر، وتكثر من التعجب؟ قال: شيء ظريف، قال: ما هو؟ قال: شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث ويقول ببوزه كذا وبيده كذا بقرد رأيته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة وهو على شاطئ دجلة يفعل مثل ما يفعل مولاي الشيخ، فامتعض أبو الفتح وقال: ما هذا القول يا أبا الحسين - فأعزك الله - ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي أو أمجن فنمجن بي، فلما رآه أبو الحسين قد حرد واستشاط وغضب قال: المعذرة أيها الشيخ وإلى الله تعالى عن أن أشبهك بالقرد، وإنما شبهت القرد بك، فضحك أبو الفتح وقال: ما أحسن ما اعتذرت، وعلم أبو الفتح أنها نادرة تشيع، فكان يتحدث بها هو دائماً.
قال: واجتاز أبو الفتح يوماً وأبو الحسين في الديوان وبين يديه كانون فيه نار والبرد شديد. فقال له أبو الحسين: تعال أيها الشيخ إلى النير، فقال: أعوذ بالله، النير: هو صماد البقر.
وذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر فقال: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ماله، فقد وقع عليها من ثمرات الإعراب ولاسيما في علم الإعراب، ومن تأمل مصنفاته وقف على بعض صفاته، فوربي إنه كشف الغطاء عن شعره وما كنت أعلم أنه ينظم القريض أو يسيغ ذلك الجريض حتى قرأت مرثيةً في المتنبي أولها:
غاض القريض وأذوت نضرة الأدب ... وصوحت بعد رىٍ دوحة الكتب
سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه ... كما تخطف بالخطية السلب
ما زلت تصحب في الجلي إذا انشعبت ... قلباً جميعاً وعزماً غير منشعب
وقد حلبت لعمري الدهر أشطره ... تمطو بهمة لاوانٍ ولا نصب
من للهواجل يحيي ميت أرسمها ... بكل جائلة التصدير والحقب
قباء خوصاء محمودٍ علالتها ... تنبو عريكتها بالحلس والقتب
أم من البيض الظبا توكافهن دم ... أم من لسمر القنا والزغف واليلب
أم للجحافل يذكى جمر جاحمها ... حتى يقربها من جاحم اللهب
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها ... بالنظم والنثر والأمثال والخطب
أم للصواهل محمرا سرابلها ... من بعد ما غربت معروفة الشهب
أم للمناهل والظلماء عاطفة ... يواصل السكر بين الورد والقرب
أم للقساطل تعتم الحزون بها ... أم من لضغم الهزبر الضيغم الحرب
أم للملوك يحليها ويلبسها ... حتى تمايس في أبرارها القشب
باتت وسادى أطراب تؤرقني ... لما غدوت لقى في قبضة الثوب
عمرت خدن المساعي غير مضطهدٍ ... كالنصل لم يدنس يوماً ولم يعب
فاذهب عليك سلام المجد ما قلقت ... خوص الركائب بالأكوار والشعب
وحدث أبو الحسن الطرائفي قال: كان أبو الفتح عثمان بن جنيٍ يحضر بحلب عند المتنبي كثيراً ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه شيئاً من شعره أنفةً وإكباراً لنفسه. وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وسئل المتنبي بشيراز عن قوله:
وكان ابنا عدوٍ كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان
فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضراً لفسره. وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن عليٍ الحصري في كتاب النورين: وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الفتح عثمان ابن جنيٍ النحوي:
غزال غير وحشىٍ ... حكى الوحشى مقلته
رآه الورد يجني الور ... د فاستكساه حلته

وشم بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريحه الصهبا ... ء فاختلسته نكهته
وكان أبو الفتح بن جنيٍ ممتعاً بإحدى عينيه، فلذلك يقول في صديقٍ له:
صدودك عني ولا ذنب لي ... دليل على نيةٍ فاسده
فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحده
ولولا مخافة ألا أراك ... لما كان في تركها فائده
وحدثت أنه صحب أبا عليٍ الفارسي أربعين سنة وكان السبب في صحبته له: أنا أبا عليٍ اجتاز بالموصل فمر بالجامع وأبو الفتح في حلقةٍ يقرئ النحو وهو شاب فسأله أبو علي عن مسألةٍ في التصريف فقصر فيها، فقال له أبو علي: زببت وأنت حصرم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو عليٍ الفارسي فلزمه من يومئذٍ واعتنى بالتصريف فما أحد أعلم منه به ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه. فلما مات أبو عليٍ تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد بأخذ عنه الثمانيني وعبد السلام البصري وأبو الحسن السمسمي. وكان لابن جني من الولد على وعالٍ وعلاء وكلهم أدباء فضلاء قد خرجهم والدهم وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط، وحسني الخط. ومن كتاب سر السرور لأبي الفتح بن جنىٍ:
رأيت محاسن ضحك الربيع ... أطال عليها بكاء السحاب
وقد ضحك الشيب في لمتى ... فلم لا أبكي ربيع الشباب؟
أأشرب في الكأس كلا وحاشا ... لأبصره في صفاء الشراب؟
وأنشد له:
تحبب أو تذرع أو تأبى ... فلا والله لا أزداد حبا
أخذت ببعض حبك كل قلبي ... فإن رمت المزيد فهات قلبا
قرأت بخط أبي علي بن إبراهيم الصابئ: ولأبي نصر بشر بن هارون في ابن جنيٍ النحوي وقد جرى بينه وبينه في معنى شيطان يقال: إنه يظهر بالراية اسمه العدار، وإذا لقى إنساناً وطأه، فقال له ابن جنيٍ: بودك لو لقيك فإنه كان لأمنتيك، فقال أبو نصرٍ:
زعمت أن العدار خدني ... وليس خدناً لي العدار
عفر من الجن أنت أولى ... به وفيه لك افتخار
فالجن جن ونحن إنس ... شتان هذان يا حمار
ونحن من طينةٍ خلقنا ... ما خلق الجن منه نار
العر والعار فيك تما ... والعور التام والعوار

ونقل عن خط أبي الفتح بن جنيٍ خطبة نكاحٍ من أنشأته: الحمد لله فاطر السماء والأرض، ومالك الإبرام والنقض، ذي العزة والعلاء، والعظمة الكبرياء، مبتدع الخلق على غير مثالٍ، والمشهود بحقيقته في كل حالٍ، الذي ملأت حكمته القلوب نوراً، فاستودع علم الأشياء كتاباً مسطوراً، وأشرق في غياهب الشبه خصائص نعوته، واغترقت أرجاء الفكر بسطببة ملكوته، أحمده حمد معترف بجزيل نعمه وأحاظيه، ملتبساً بسني قسمه وأعاطيه. وأؤمن به في السر والعلن، وأستدفع بقدرته ملمات الزمن، وأستعينه على نوازل الأمور، وأدرئه في نحر كل محذور، وأشهد شهادةً تخضع لعلوها السموات وما أظلت، وتعجز عن حملها الأرضون وما أقلت، أنه مالك يوم البعث والمعاد والقائم على كل نفسٍ بالمرصاد، وأن لا معبود سواه، ولا إله إلا هو، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، - وبحل وكرم - ، عبده المنتخب، وحجته على العجم والعرب، ابتعته بالحق إلى أوليائه ضياءً لامعاً، وعلى المراق من أعدائه شهاباً ساطعاً، فابتذل في ذات الله نفسه وجهدها، وانتحى مناهج الرشد وقصدها، مستسهلاً ما يراه الأنام صعباً، ومستخصباً ما يرعونه بينهم جدباً، يغامس أهل الكفر والنفاق، ويمارس البغاة وأولى الشقاق، بقلبٍ غير مذهولٍ، وعزمٍ غير مفلول يستنجز الله صادق وعده، ويسعى في خلود الحق من بعده، إلى أن وطد بوانى الدين وأرساها، وشاد شرف الإسلام وأسماها، فصرم مدته التي أوتيها في طاعة الله موفقاً حميداً، ثم انكفأ إلى خالقه مطمئنا به فقيداً، صلى الله عليه وسلم ما ومض في الظلام برق، أو نبض في الأنام عرق، وعلى الخرة المصطفين من آله، والمقتدين بشرف فعاله، وإن مما أفرط الله تعالى به سابق حكمه، وأجرى بكونه قلم علمه، ليضم بوقوعه متباين الشمل، ويزم به شارد الفرع إلى الأصل، أن فلان بن فلان وهو كما يعلم من حضر من ذوي الستر وصدق المختبر، مشجوح الخليقة، مأمون الطريقة، متمسك بعصام الدين، آخذ بسنة المسلمين، خطب للأمر المحموم، والقدر المحتوم. من فلان بن فلان الظاهر العدالة والإنصاف، أهل البر وحسن الكفالة والكفاف، عقيلته فلانة بنت فلانٍ خيرة نسائها وصفوة آبائها في زكاء منصبها وطيب مركبها، وقد بذل لها من الصداق كذا وكذا، فليشهد على ذلك أهل مجلسنا، (وكفى بالله شهيداً) ثم يقرهما ثم يقال: لاءم الله على التقوى كلمتيكما، وأدام بالحسنى بينكما، وخار لكما فيما قضى. ولا أبتر كما صالح ما كسا وهو حسبنا وكفى.
قرأت بخط الشيخ أبي منصور موهوب بن الخضر، الجواليقي - رحمه الله - أنشدنا الشيخ الإمام أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي قال: أنشدنا عالي بن عثمان بن جنيٍ قال: أنشدنا أبي لنفسه:
وحلو شمائل الأدب ... منيف مراتب الحسب
أخي فخر مفاخره ... عقائل عقلة الأدب
له كلف بما كلفت ... به العلماء م العرب
ببيت يفاتش الأنقا ... ب عن أسرارها الغيب
فمن جددٍ إلى جلدٍ ... إلى صعدٍ إلى صبب
ويسرب في معانيها ... بضيض رواشح الثغب
ويفرع فكره الأبكا ... ر منها من حمى الحجب
فيبردها وكان بها ... وإن خفيت سنا لهب
يغازل من تأملها ... غزال الخرد العرب
يجد بها وتحسبه ... للطف الفكر في لعب
بساطة مذهب سبكت ... عليه ماءة الذهب
ورقة مأخذٍ شهدت ... بغلظة كل منتخب
وطرداً للفروع على ... أصولٍ وطدٍ رتب
إذا ما انحط غائرها ... سما فرعاً على الرتب
قياساً مثل ما وقدت ... بليلٍ برزة الشهب
وألفاظاً مهذبة الحوا ... شي ثرةً السحب
فطوراً من ذرى علمٍ ... وطوراً من ذرى طنب
إذا حازت لنا سلباً ... فعد عن القنا السلب
تركت مساجلي أدبي ... طوال الدهر في تعب
إذا أجروا إلى أمدٍ ... فقل في هافةٍ لغب
وإن راموا مبادهتي ... سبقت وأوطئوا عقبى
وكيف يروم منزلتى ... نزيل خبائث الترب؟

وهل يسمو لقارعتي ... خفيض الخد ذو حدب
وهل ينتاط بي سبباً ... ضعيف مقاعد السبب
أغرة وجه سابقها ... تقاس بشعله الذنب؟
شكرت الله نعمته ... وما أولاه من أرب
زكت عندي صنائعه ... فوفقني وأحسن بي
تخولني وخولني ... ونولني ونوه بي
وأخر من يقادمني ... وأعلاني وأرغم بي
فيا بأبي منائحه ... وقل لهن يا بأبي
ضفون على عطف علاً ... برفلٍ جد منشعب
فإن أصبح بلا نسبٍ ... فعلى في الورى نسبي
على أني أؤول إلى ... قرومٍ سادةٍ نجب
قياصرة إذا نطقوا ... أرم الدهر ذو الخطب
أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي
وإما فاتني نشب ... كفاني ذاك من نشبي
وإن أركب مطا سفرٍ ... مجد الورد والقرب
فإني مخدل خلفاً ... يضاحي الشمس من كثب
إذا لم يبق لي عقب ... أقامت خير ما عقب
موشحةً مرشحةً ... لنل الغاي من كثب
يصم صدى الحسود لها ... ويخرق أطرق الركب
إذا اهتزت كتائبها ... هفت خفاقة العذب
أزول وذكرها باقٍ ... على الأيام والحقب
تناقلها الرواة لها ... على الأجفان من حدب
فيرتع في أزاهرها ... ملوك العجم والعرب
فمن مغن إلى مدنٍ ... إلى مثنٍ إلى طرب
كفاها أن يقول لها ... بها الدولة اقتربي
إلى الله المصير غداً ... وعند الله مطلبي
له ظهري وعتملي ... ومتجهي ومنقلبي
فقل للغامطي نعى ... وما راعيت من قربي
وتثميري وتنشئتى ... ومحتالي ومضطربي
ونهضي عنك أطعن في ... نحور أوابد النوب
ورفعي من رذائلك ال ... لواتي بعضها سببي
ولولا أنت كان أدي ... م مأثرتي بلا ندب
ألها أشرت وأن ... نزت بك بطنة الكلب
وأكرمك الأكابر لي ... وخالطت الأماثل بي
ورفعت الذلاذل عن ... معاطف تائهٍ حرب
وأنسيت الأوائل بال ... أواخر نزقة العجب
وقلت أنا وأين أنا ... ومن مثلي وحسبك بي؟
وقال لي الوزير هنا ... وأدناني ورحب بي
وقدمني ولقبني ... ووسطني وصدر بي
أسأت جوار عارفتي ... فتق بطوارق العقب
وحسبي أن ألم بكب ... ر مثلك جارحاً حسب
ولكن الدواء على ... كراهته شفا الوصب
حدث أبو الحسن الطرائفي ببغداد قال: كان أبو الفتح عثمان بن جنيٍ في حلب يحضر عند المتنبي الكثير، ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه ديوان شعره إكباراً لنفسه عن ذلك وكان المتنبي يعجب بأبي الفتح وذكائه وحذقه، ويقول: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وسئل أبو الطيب بشيراز عن قوله:
وكان ابنا عدوٍ كاثراه ... له يأئي حروف أنيسيان
فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح بن جنيٍ حاضراً فسره. قلت: وتفسيره أن لفظة إنسانٍ خمسة أحرفٍ إذا كانت مكبرةً، فإذا صغر قيل أنيسيان فزاد عدد حروفه وصغر معناه، فيقول للممدوح: إن عدوك الذي له إبنان فيكاثرك بهما كانا زائدين في عدده ناقصين من فضله وفخره، لأنهما ساقطان خسيسان كيائي أنيسيان تزيدان في عدد الحروف وتنقصان من معناه.

قرأت بخط الشيخ أبي منصور بن الجواليقي قال لنا أبو زكرياء: رأيت بخط ابن جنىٍ: أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون اروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: قرأ على أعراب (طيبي لهم وحسن مآبٍ)، فقلت: طوبى، فقال: طيبى، فقلت ثانياً: طوبى، فقال: طيبى، فلما طال علي قلت: طوطو، فقال الأعرابي: طى طى أما ترى إلى هذه النحيزة ما أبقاها وأشد محافظة هذا البدوي عليها، حتى إنه استسكره علي تركها فأبى إلا إخلاداً إليها. ونحو ذلك قال عمرو الكلبي: وقد أنشد بعض أهل الأدب:
بانت نعيمة والدنيا مفرقة ... وحال من دونها غيران مزعوج
فقيل له: لا يقال مزعوج، إنما يقال مزعج فجفا ذلك عليه، وقال يهجو النحويين:
ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافيةً بكراً يكون بها ... بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس متصباً ... وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وخرصوا بين عبد الله من حمقٍ ... وبين زيدٍ فطال الضرب والوجع
كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قومٍ على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحاً لكن فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها ... نار المجوس ولا تبني بها البيع
قال ابن جني: وعلى نحو ذلك، فخضرني قديماً بالموصل أعرابي عقيلي جوني تميمي، يقال له محمد بن العساف الشجري، وقلما رأيت بدوياً أفصح منه، فقلت له يوماً شغفاً بفصاحته، والتذاذاً بمطاولته، وجرياً على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زند فطنته: كيف تقول أكرم أخوك أباك، فقال: كذاك، فقلت له: أفتقول أكرم أخوك أبوك؟ فقال: لا أقول أبوك أبداً. فقلت: فكيف تقول أكرمني أبوك؟ فقال: كذاك، قلت: ألست تزعم أنك لا تقول أبوك أبداً؟ فقال: إيش هذا اختلفت جهتا الكلام، فهل قوله اختلفت جهتا الكلام إلا كقولنا نحن هو الآن فاعل، وكان في الأول مفعولاً، فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تقطع به عبارتهم.
أخبرني أبو عليٍ عن أبي بكرٍ عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ (ولا الليل سابق النهار)، فقلت لك ما أردت؟ قال: أردت سابق النهار، فقلت له: فهلا قلته، فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأفصح، ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء: أحدها أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم. والثاني أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نص أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال: أردت كذا، وهو خلاف ما لفظ به. والثالث أنهم قد ينطقون بالشيء وغيره أقوى منه استلانةً وتخفيفاً، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأعرب.
قال ابن جنىٍ: وسألت الشجري صاحبنا هذا الذي قد مضى ذكره قلت له: كيف يا أبا عبد الله تقول: اليوم كان زيد قائماً، فقال: كذلك، فقلت: فكيف تقول اليوم إن زيداً قائم، فإياها ألبتة، وذلك أن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها، لأنها إنما تأتي أبداً مستقبلة قاطعةً لما قبلها عما بعدها، وما بعدها عما قبلها. قلت له يوماً ولابن عمٍ له يقال له غصن، وكان أصغر منه سناً وألين لساناً، كيف تحقران حمراء؟ فقالا: حميراء قلت: فصفراء، قالا: صفيراء، قلت: فسوداء، قالا: سويداء، واستمررت بها في نحو هذا فلما استويا عليه دسست بين ذلك علباء فقلت: فعلباء فأسرع ابن عمه على طريقته فقال: عليباء، وكان الشجري يقولها معه، فلما هم بفتح الباء استرجع مستنكراً فقال: أه عليبي، وأشم الفتحة دائماً للحركة في الوقف وتلك عادة.

قال ابن جني: فسألته يوماً يا أيا عبد الله، كيف تجمع محرنجماً، وكان غرضي من ذلك أن أعلم ما يقوله، أيكسر فيقول حراجم، أم يصحح فيقول محرنجمات؟؟ فذهب هو مذهباً غير ذين فقال: وإيش فرقه حتى أجمعه وصدق، وذلك أن المحرنجم هو المجتمع يقولها مارا على شكيمته غير محسٍ لما أريده منه، والجماعة معي على غاية الاستغراب لفصاحته، قلت له: فدع هذا، إذا أنت مررت بإبلٍ محر نجمةٍ و أخرى محرنجمة وأخرى محرنجمةٍ تقول مررت بإبل ماذا؟ فقال وقد أحس الموضع: يا هذا هكذا أقول: مررت بإبل محرنجاتٍ وأقام على التصحيح ألبتة استيحاشاً من تكسير ذوات الأربعة لمصاقبها ذوات الخمسة التي لا سبيل إلى تكسيرها، لاسيما إذا كان فيها زيادة، والزيادة قد تعتد في كثير من المواضع اعتداد الأصول، حتى أنها لتلزم لزومها نحو كوكبٍ وحوشبٍ وضيون وهز نيران ودودرى وقرنفل، وهذا وضع يحتاج إلى إصغاء إليه وإرعاء عليه والوقت لتلاحمه وتقارب أجزائه مانع منه، ويعين الله فيما يليه على المعتقد المنوي فيه بقدرته. وسألته يوماً كيف تجع سرحاناً؟ فقال: سراحين، قلت: فدكانا، قال: دكاكين: قلت: فقرطاناً قال: قراطين، قلت: فعثمان قال: عثمانون، قلت: هلا قلت عثامين كما قلت سراحين وقراطين، فأباها البتة وقال: إيش ذا؟ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبداً. استوحش من تكسير العلم إكثاراً له لاسيما وفيه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوز و فيه فعالين نحو سكران وغضبان.
فهرست كتب ابن جنىٍ، كتب ابن جنيٍ إجازة بما صورته: " بسم الله الرحمن الرحيم " : قد أجزت للشيخ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصرٍ - أدام الله عزه - أن يروي عني مصنفاتي وكتبي مما صححه وضبطه عليه أبو أحد عبد السلام بن الحسين البصري - أيد الله عزه - : عنده منها كتابي الموسوم بالخصائص وحجمه ألف ورقةٍ، وكتابي التام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد الحسن ابن الحسين السكري - رحمه الله - وحجمه خمسمائة ورقة بل يزيد على ذلك، وكتابي في سر الصناعة وهو ستمائة ورقةٍ، وكتابي في تفسير تصريف أبي عثمان بكر بن محمد ابن بقية المازني وحجمه خمسمائة ورقةٍ، وكتابي في شرح المقصور والممدود عن يعقوب بن إسحاق السكيت وحجمه أربعمائة ورقةٍ، وكتابي في تعاقب العربية وأطراف به وحجمه مائتا ورقةٍ، وكتابي في تفسير ديوان المتنبي الكبير وهو ألف ورقةٍ ونيف، وكتابي في تفسير معاني هذا الديوان وحجمه مائة ورقةٍ وخمسمون ورقةً، وكتابي اللمع في العربية وإن كان لطيفاً، وكذلك كتابي مختصر التصريف على إجماعه، وكتابي مختصر العروض والقوافي، وكتاب الألفاظ المهموزة، وكتابي في اسم المفعول المعتل العين من الثلاثي على إعرابه في معناه وهو المتقضب، وما بدأت بعمله من كتاب تفسير المذكر والمؤنث ليعقوب أيضاً - أعانه الله - على إتمامه، وكتاب ما خرج عني من تأييد المذكرة عن الشيخ أبي عليٍ - أدام الله عزه - وكتابي في المحاسن في العربية وإن كان ما جرى أزال يدي عنه حتى شذ عنها ومقداره ستمائة ورقةٍ، وكتابي النوادر الممتعة في العربية وحجمه ألف ورقةٍ وقد شذ أيضاً أصله عنى، فإن وقعا كلاهما أو شئ منهما فهو لاحق بما أجزت روايته هنا، وكتاب ما أحضرنيه الخاطر من المسائل المنثورة مما أمللته أو حصل في آخر تعاليقي عن نفسي وغير ذلك مما هذه حاله وصورته، فليرو - أدام الله عزه - ذلك عني أجمع إذا أصبح عنده وأنس بتثقيفه وتسديده، وما صح عنده - أيده الله - من جميع رواياتي مما سمعته من شيوخي - رحمهم الله - وقرأته عليهم بالعراق والموصل والشام وغير هذه البلاد التي أتيتها وأقمت بها مباركاً له فيه منفوعاً به بإذن الله، وكتب عثمان بن جنيٍ بيده حامداً سبحانه في آخر جمادى الآخرة من سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ: والحمد لله حق حمده عوداً على بدء. ومن كتبه ما لم تتضمنه هذه الإجازة: كتاب المحتسب في شرح الشواذ، وكتاب تفسير أرجوزة أبي نواس، وكتاب تفسير العلويات وهي أربع قصائد للشريف الرضى كل واحدةٍ في مجلدٍ، وهي قصيدة رثى بها أبا طاهر إبراهيم ابن نصر الدولة أولها.
ألق الرماح ربيعة بن نزار ... أودى الردى بقريعك المغوار
ومنها قصيدته التي رثى بها الصاحب بن عبادٍ وأولها:

أكذا المنون تقطر الأبطالا ... أكذا الزان يضعضع الأجيالا
وقصيدته التي رثى بها الصابئ أولها:
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا زناد النادي
وكتاب البشرى والظفر صنعه لعضد الدولة ومقداره خمسون ورقةً في تفسير بيتٍ من شعر عضد الدولة.
أهلاً وسهلاً بذي البشرى ونوبتها ... وباشمال سرايانا على الظفر
وكتاب رسالةٍ في مد الأصوات ومقادير المدات كتبها إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري مقدارها ست عشرة ورقةً بخط ولده عالٍ: كتاب المذكر والمؤنث، كتاب المنتصف، كتاب مقدسات أبواب التصريف، وكتاب النقض على ابن وكيعٍ في شعر المتنبي وتخطئته، كتاب المغرب في شرح القوافي، كتاب الفصل بين الكلام الخاص والكلام العام، كتاب الوقف والابتداء كتاب الفرق، كتاب المعاني المجردة، كتاب الفائق، كتاب الخطيب، كتاب الأراجيز، كتاب ذي القد في النحو، وكتاب شرح الفصيح، وكتاب شرح الكافي في القوافي وجد على ظهر نسخةٍ ذكر ناسخها أنه وجده بخط أبي الفتح عثمان بن جنيٍ - رحمه الله - على ظهر نسخة كتاب المحتسب في علل شواذ القراءات.
أخبرني بعض من يعتادني للقراءة علي والأخد قال: رأيتك في منامي جالساً في مجلس لك على حال كذا وبصورة كذا، وذكر من الجلسة والشارة جميلاً، وإذا رجل له رواء ومنظر وظاهر نبلٍ وقدرٍ قد أتاك، فحين رأيته أعظمت مورده وأسرعت القيام له فجلس في مجلسك وقال لك: اجلس، فجلست فقال: كذا شيئاً ذكره، ثم قال لك: أتمم كتاب الشواذ الذي عملته فإنه كتاب يصل إلينا ثم نهض، فلما ولى سألت بعض من كان معه عنه فقال: علي ابن أبي طالب عليه السلام، ذكر هذا الرائي لهذه الرؤيا لي، وقد بقيت من نواحي هذا الكتاب أميكنة تحتاج إلى معاودة نظرٍ وأنا على الفراغ منها. وبعده ملحق في الحاشية بخطه أيضاً، ثم عاودتها فصحت بلطف الله ومشيئته، تمت الحكاية. وقرأت بخط الشيخ أبي الحسن على بن عبد الرحي السلمي: أنشدني الرئيس أبو منصور ابن دلال قال: أنشدنا أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي قال: أنشدني أبو العباس محمد بن الفضل بن محمد القصباني النحوي البصري بها لابن الزملدم الموصلي يهجو أبا الفتح ابن جنىٍ:
يا أبا الفتح قد أتيناك للتد ... ريس والعلم في فنائك رحب
فوجدنا فتاة بينك أنحى ... منك والنحو مؤثر مستحب
قدماها مرفوعة وهي خفض ... قلم الأير فاعل وهو نصب
مذهب خالفت شيوخك فيه ... فهي تصبى به الحليم وتصبو
عثمان بن ربيعة الأندلسيذكره الحميدي فقال: هو مؤلف كتاب طبقات الشعراء بالأندلس، مات قريباً من سنة عشر وثلاثمائةٍ.
عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوانابن داود بن سابق المصري القفطي المعروف بورشٍ المقرئ، وقيل: هو عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو ابن سليمان بن إبراهيم القرشي مولىً لآل الزبير بن العوام وقفط بلد بصعيد مصر وأصله من القيروان، وقيل من ناحية إفريقية والأول أشهر، وأما كنيته فقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو القاسم، وقيل: أبو عمرٍ، وأشهرها أبو سعيدٍ، وقيل: أبو القاسم، وقيل: أبو عمروٍ، وأشهرا أبو سعيد، مات فيما نقلناه من كتاب الحافظ أبي العلاء الهمذاني عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الأعلى الصدفي المصري وأبي علي الحسن بن علي الأهوازي في سنة سبع وتسعين ومائةٍ في أيام المأمون الأهوازي خاصةً ومولده بمصر سنة عشرةٍ ومائةٍ في أيام هشام ابن عبد الملك، وقرأ على نافعٍ في سنة خمسٍ وخمسين ومائة في أيام المنصور، ومات وعمره سبع وثمانون سنة، وأما تلقيبه بورشٍ فقيل: إنما لقب به لأنه كان في حداثة سنة رآساً ثم إنه اشتغل بقراءة القرآن وتعلم العربية، ورحل إلى المدينة فقرأ بها على نافعٍ القرآن، وكان أزرق أبيض اللون قصيراً ذا كدنةٍ، وكان نافع يلقبه بالورشان وهو طائر معروف، لأنه كان على قصره يلبس ثياباً قصاراً فكان إذ مشى بدت رجلاه مع اختلاف ألوانه، وكان نافع يقول له: اقرأ يا ورشان وابن الورشان، ثم خفف فقيل: ورش، ولزمه ذلك حتى صار لا يعرف إلا به، وقيل: إن الورش شيء يصنع من اللبن لقب به لبياضه:

وحدث الحافظ بإسناده ورفعه إلى محمد بن سلمة العثماني قال: قلت لأبي سلمة، أكان بينك وبين ورش مودة؟ قال: نعم؟ قلت: كيف كان يقرأ ورش على نافعٍ؟ قال: قال لي ورش خرجت من مصر إلى المدينة لأقرأ على نافع فإذا هو لا يطاق القراءة عليه من كثرة أبناء المهاجرين والأنصار، وإنما يقرأ ثلاثين آية، فجلست خلف الحلقة فقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع؟ فقال: كبير الجعفريين قال: قلت فكيف لي به؟ وقال: أنا أجيء معك إلى منزله، فقام الرجل معي حتى جاء إلى منزل الجعفري فدق الباب، فخرج إلينا شيخ تام من الرجال، قال: فقلت - أعزك الله - أنا رجل من مصر جئت لأقرأ على نافع فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه، فقال: نعم وكرامةً، وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى منزل نافعٍ، وكان نافع له كنيتان، كان يكنى بأبي رويم وأبي عبد الله، فبأيتهما نودي أجاب، فقال له الجعفري: إن هذا وسلني إليك، جاءك من مصر ليقرأ عليك، ليس معه تجارة ولا جاء لحجٍ إنما جاء للقراءة خاصةً، فقال لصديقه الجعفري: أفلا ترى ما ألقى من ولد المهاجرين والأنصار؟ قال: فقال له صديقه تحتال له، فقال لي نافع: يمكنك أن تبيت في المسجد؟ قال: قلت: نعم، إنما أنا إنسان غريب، قال: فبت في المسجد، فلما كان الفجر تقاطر الناس ثم قالوا: قد جاء نافع، فلما أن قعد قال: ما فعل الغريب؟ قال: قلت هاأنا - رحمك الله - قال: أبت في المسجد؟ قلت: نعم، قال: فأنت أولى بالقراءة، قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت مداداً به، قال: فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأت ثلاثين آية فأشار لي بيده أن اسكت، فقام إليه شاب من الحلقة فقال: يا معلم - أعزك الله - نحن معك وهذا رجل غريب، وإنما رحل للقراءة عليك، وأنت تقرئ ثلاثين آيةً وأنا أحب - أعزك الله - أن نجعل لي فيه نصيباً، فقد وهبت له عشراً وأقتصر أنا على عشرين، وكان ذلك ابن كبير المهاجرين فقال له: نعم وكرامة ثم قال: اقرأ فقرأت عشراً، ثم أومأ إلي بيده بالسكوت فسكت، فقام إليه فتى آخر فقال: يا معلم - أعزك الله - إني أحب أن أهب لهذا الرجل الغريب عشراً وأقتصر على عشرين، فقد تفضل عليه ابن كبير المهاجرين وأنت تعلم أني ابن كبير الأنصار، فأحببت أن يكون له أيضاً مثل ماله من الثواب، قال لي: اقرأ، فلما أن قرأت خمسين آيةً، قعدت حتى لم يبق أحد ممن له قراءة إلا قال لي اقرا، فأقرأ في خمسين، فما زلت أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى قرأت عليه ختمات قيل أن أخرج من المدينة.
عثمان بن سعيد بن عثمان الأندلسيأبو عمرو المقرئ، يعرف بابن الصيرفي، ذكره الحميدي فقال: محدث مكثر، ومقرئ مقدم. سمع بالأندلس محمد بن عبد الله بن أبي زمنينٍ الإلبيري وغيره. ورحل إلى المشرق قبل الأربعمائة فسمع خلفاً، وطلب علم القراءات، وقرأ وسمع الكثير، وعاد إلى الأندلس فتصدر للقراءات، وألف بها تواليف معروفةً، ونظمها في أرجوزةٍ مشهورةٍ، ومات في شوالٍ سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ بدانية من بلاد الأندلس، ومن مذكور شعره:
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما ... جرى على كل من يعزي إلى الأدب
لاشيء أبلغ من ذلٍ يجرعه ... أهل الخساسة أهل الدين والحسب
القائمين بما جاء الرسول به ... والمبغضين لأهل الزيغ والريب
وله كتب منها: كتاب التيسير في القراءات السبع، وكتاب الاقتصاد في القراءات السبع.
عثمان بن سعيد بن عثمان

أبو عمروٍ الداني المقرئ. قرأت في فوائد أحمد بن سلفة المنقولة من الداني بالإسكندرية من خطه ما صورته: قرأت على أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيدٍ المقرئ الداني بالإسكندرية، عن أبي داود سليمان بن نجاح المقرئ المؤيدي قال: كتبت من خط أستاذي أبي عمروٍ عثمان بن سعيد بن عثمان المقرئ بعد سؤالي عن مولده يقول: عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي القرطبي الصيرفي: أخبرني أبي أني ولدت في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائةً، وابتدأت في طلب العلم سنة ستٍ وثمانين، وتوفي أبي في سنة ثلاثٍ وتسعين في جمادى الأولى، فرحلت إلى المشرق في اليوم الثاني من المحرم يوم الأحد في سنة سبعٍ وتسعين ومكثت بالقيروان أربعة أشهرٍ، ولقيت جماعةً وكتبت عنهم، ثم توجهت إلى مصر ودخلتها اليوم الثاني من الفطر من العام المؤرخ، ومكثت بها باقي العام والعام الثاني، وهو عام ثمانية إلى حين خروج الناس إلى مكة، وقرأت بها القرآن، وكتبت الحديث والفقه والقراءات وغير ذلك عن جماعةٍ من المصريين والبغداديين والشاميين وغيرهم، ثم توجهت إلى مكة وحججت وكتبت بها عن أبي العباس أحمد البخاري، وعن أبي الحسن بن فراسٍ ثم انصرفت إلى مصر ومكثت بها شهراً، ثم انصرفت إلى المغرب ومكثت بالقيروان أشهراً، ووصلت إلى الأندلس أول الفتنة بعد قيام البرابر على ابن عبد الجبار بستة أيامٍ في ذي القعدة سنة إحدى وتسعين، ومكثت بقرطبة إلى سنة ثلاث وأربعمائة، وخرجت منها إلى الثغر فسكنت سرقسطة سبعة أعوام، ثم خرجت منها إلى الوطة، ودخلت دانية سنة تسع وأربعمائة، ومضيت منها إلى ميورقة في تلك السنة نفسها فسكنتها ثمانية أعوامٍ، ثم انصرفت إلى دانية سنة سبعة عشر وأربعمائة، وقال أبو داود: وتوفي - رضي الله عنه - يوم الاثنين للنصف من شوالٍ سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ودفن بالمقبرة عند باب إندارة وقد بلغ اثنتين وسبعين سنةً.
عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن محمدأبو عمرو الطرسوسي الكاتب القاضي، كان من الأدباء الفضلاء، رأيت بخطه الكثير من كتب الأدب والشعر وجمع شعر جماعة من أهل عصره، منهم أبو العباس الصقري وأبو العباس الناشئ وغيرهما من شعراء سيف الدولة وابنه شريفٍ، وصنف كتباً منها: كتاب في أخبار الحجاب وكان متقن الخط سريع الكتابة، وولي القضاء بمعرة النعمان، وسمع الحديث الكثير ورواه، فسمع بدمشق أبا عليٍ محمد بن أحمد بن آدم الفزاري وأبا هاشم عبد الجبار ابن عبد الصمد السلمي، وبطرابلس خشيمة بن سليمان وبطرسوس أبا عبد الله محمد بن عيسى التميمي البغدادي المعروف بابن العلاف، وأبا بكر بن محمد بن سعيد ابن الشفق، وأبا الحسن أحمد بن محمد بن سلام الطرسوسي، والقاضيين أبا عران موسى بن القاسم الأشيب، وأبا العباس أحمد بن أبي بكر الطبري المعروف بالقاص، وأبا الفرج ابن أحمد بن القاسم البغدادي الخشاب الحافظ، وجماعة غير هؤلاء كثيرةً. وسمع منه أبو حصين عبد الله بن محسن ابن عبد الله بن حسن بن عمروٍ المعرى، وعبد الرحمن بن محمد بن الحسين الكفرطابي، وأبو علي الأهوازي والقاضي أبو الفضل بن السعدي.
قال أبو القاسم الدمشقي: قرأت على أبي القاسم نصر ابن أحمد بن مقاتل عن سهل بن بشر قال: سمعت القاضي أبا الفضل محمد بن أحمد بن عيسي السعدي يقول: توفي شيخنا أبو الحسين بن جميعٍ في رجبٍ سنة اثنتين وأربعمائة، وتوفي شيخنا عثمان الطرسوسي القاضي بكفر طاب قبله بسنة أو نحوها.
عثمان بن علي بن عمر السرقوسيالنحوي الصقلي أبو عمروٍ. قال السلفي: كان من العلم بمكانٍ، نحوٍ أو لغةٍ، وقرأ القرآن على ابن الفحام وابن بليمة وغيرها. وله تواليف في القراءات والنحو والعروض، وصارت له في جامع مصر حلقة للإقراء وانتفع به، ولا زمني مدة مقامي بمصر، وقرأ علي كثيراً وعلى من كنت أقرا عليه كأبي صادق وابن بركاتٍ والفراء الموصلي وأنشد لنفسه:
إن المشيب من الخطوب خطيب ... ألا هوى بعد الشباب يطيب
أبيات غير جيدةٍ. قال أحمد بن سلفة: كتبت إلى المقرئ أبي عمروٍ عثمان بن علي بن عمر الصقلي الأنصاري بالإسكندرية كتاباً يشتمل على نظم ونثر من جملته:
ما وقعت عيني على مثله ... في فضله الوافي وفي نبله
وليس بدعاً مثل أخلاقه ... منه وممن كان في شكله

فإنه من عنصرٍ طيبٍ ... ويرجع الفرع إلى أصله
فأجاب بهذه الورقة: وقفت على ما تفضلت به حضرته وانتهت إليه من الآداب همته، فمن نثر رأيت العلم مضمونه، والدر مكنونه، والحكمة قرينه. ومن نظم كانت الفصاحة يمينه، وفصل الخطاب عرنينه. وود فصيح الكلام أن يكونه، وأحيا القلوب وكشف لها المحجوب، من كل حكمةٍ لم تكن لتصل إليه لولاه، وسحر بلاغةٍ له منحه إياها الله. فقلت والخاطر لسفري خاطر، وماء مزني بعد شآبيبه قاطر:
توجني مولاي من قوله ... تاجاً علا التيجان من قبله
لأنها تبلى وهذا إذا ... مرت به الأيام لم تبله
فنثره الإكليل في فرعه ... ونظمه الجوهر من أصله
وهو فقيه حافظ في الورى ... مهذب يجري على رسله
كلا وأما إن جرى فالورى ... عذارهم ما كان من سيله
فعلمه يشتق من لفظه ... ولفظه يشتق من فضله
تكاملت أوصافه كلها ... ومثله من كان من مثله
وما أنا إلا كمهدٍ إلى ... بغداد والبصرة من نخله
وأما ما ذكرت - حرسها الله تعالى - من كتاب الهدى لأولي النهى في المشهور من القراءات وما تضمن من الروايات:
فلو تفرغت إلى نقله ... أو كان عندي الأم من شكله
عذري إلى مولاي أني امرؤ ... مسافر والشغل من فعله
لكل من بعضه شاغل ... وبعضه المشغول من كله
وأما ما يتعلق ببيت الأحوص من كلامٍ، وما قلت فيه من نثر ونظامٍ، فأنا آتي إليها، وأتلوه لديها، والله يديم النعمة عليها.
عثمان بن علي بن عمر الخزرجي الصقليأبو عمروٍ النحوي، روى عنه الحافظ، أبو طاهر أحمد ابن محمد بن أحمد السلفي، وأبو محمد بن بريٍ النحوي، وأبو البقى صالح بن عادىٍ العذري الأنماطي المصري نزيل فقط وقال: أنشدني أبو عمروٍ عثمان بن علي الصقلي لنفسه:
هين علها أن ترى الصبا ... يتجرع الأوصاب والكربا
من لم يصد بتكلفٍ قنصاً ... وتعمدٍ للصيد لم يعبا
لا تعتني يا هذه بفتىً ... أخذت جفونك قلبه غصبا
أو ما علمت بأنه رجل ... لما دعاه هواكم لبا؟
وقال في مختصر العمدة وقد ذكر قول الشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلى
وما ناقضه به أبو نواسٍ من قوله:
أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين
فلم أجعلك للغربان نحلاً ... ولا قلت أشرقي بدم الوتين
وذكر غير ذلك من هذا الباب ثم قال: ولي قصيدة أولها:
رحلت فعلمت الفؤاد رحيلا ... وبكت فصيرت الأسيل مسيلا
وحدا بها حادٍ حدا بي للنوى ... لكن منا قاتلاً وقتيلا
وإذا الحبيب أراد قتل محبه ... جعل الفراق إلى الممات سبيلا
أذكر فيها خطابي الناقة، واحترست مما يؤخذ على الشماخ بأخذٍ من مذهب أبي نواسٍ:
وإذا بلغت المرتضى فتسيبى ... إذ ليس يحوجني أسوم رحيلا
والمرتضى يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وله كتاب مختصر في القوافي، رواه عنه السلفي في سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ، وله كتاب مخارج الحروف مختصر أيضاً، وكتاب مختصر العمدة لابن رشيقٍ، وكتاب شرح الإيضاح. وقال عثمان الصقلي في مختصره للعمدة وقد ذكر السرقات فقال لي من قصيدةٍ أولها: نقلتها من خطه، وقد أعلم عليه، وهي علامة لنفسه:
دمع رأى برق الحمى فتحدرا ... وجوى ذكرت له الحمى فتسعرا
لو لم يكن هجر لما عذب الهوى ... أنا أشتهي من هاجري أن يهجرا
بيني وبين الحب نسبة عنصر ... فمتى وصلت وصلت ذاك العنصرا
قال: ثم وجدت للموصلي:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضاً ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
قال: والله در القائل:
بنى الحب على الجوز فلو ... أنصف المحبوب فيه لمسج
ليس يستحسن في دين الهوى ... عاشق يحسن تلفيق الحجج

ومما ذكره الصقلي لنفسسه في هذا الكتاب أيضاً وقد ذكر المواردة قال: وهو ما ادعى في شعر امرئ القيس وطرفة من كونهما لم يفرق بين بيتيهما إلا بالقافية قال امرؤ القيس تجمل، وقال طرفة تجلد. قال الصقلي: وأعجب من ذلك أني صنعت قصيدةً أولها:
يهون عليها أن أبيت متيما ... وأصبح مخزوناً وأضحى مغرما
ومنها:
صلى مدنفاً أو واعديه وأخلفي ... فقد يترجى الآل من شفه الظما
ضمان على عينيك قتلي وإنما ... ضمان على عيني أن تبكيا دما
ليفدك ما أسأرت مني فإنها ... حشاشة صب أزمعت أن تصرما
قال: ثم قرأت بعد ديوان البحتري فوجدت معظم هذه الألفاظ مبددةً فيه قال: فإذا كانت أكثر المعاني يشترك فيها الناس حتى قطع ابن قتيبة أن قوله تعالى: (يريد أن ينقض)، لا يعبر عنه إلا بهذه العبارة ونحوها فغير مستنكرٍ أن يشتركوا وتتفق ألفاظهم في العبارة عنها، ولكن أبى المولدون إلا أنها سرقة. قلت: لو قال في موضع أضحى من البيت الأول أمسى كان أجود ليقابل به أصبح ولو قال في البيت الثاني وقد يشتفي بالآل من شفه الظما كان أحسن في الصنعة وأجود.
عثمان بن عيسى البلطيبن منصور، ابن محمد البلطي أبو الفتح النحوي هكذا ينسبونه، وهو من بلط التي تقارب الموصل، ذكره العماد في كتاب الخريدة فقال: انتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهةً تردد إلى الزبداني للتعليم، فلما فتحت مصر انتقل إليها فحظي بها، ورتب له صلاح الدين يوسف بن أيوب على جامع مصر جارياً يقرئ به النحو والقرآن حتى مات بها لعشرٍ بقين من صفرٍ سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، وهي آخر سني الغلا الشديد بمصر، لأن أولها كان في أواخر سنة ستٍ وأشدها في سنة سبعٍ وأخفها سنة تسعٍ، وبقي البلطي في بيته ميتاً ثلاثة أيام لا يعلم به أحد لاشتغالهم بأنفسهم عنه وعن غيره، وكان يحب الانفراد والوحدة، ولم يكن له من يخبر بوفاته، وكان قد أخذ النحو عن أبي نزارٍ وأبي محمد سعيد بن المبارك بن الدهان.
وقال المؤلف: لم يذكر العماد وفاته، وإنما أخبرني بوفاته وما بعده الشريف أبو جعفرٍ محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم بن عمر بن سليمان بن الحسن ابن ادريس بن يحيى العالي بن علي المعتلي - وهو الخارج بالمغرب، والمستولي على بلاد الأندلس - ابن حمود بن سيمون بن أحمد بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله ابن الحسن بن علي بن أبي طالبٍ عليه السلام.
وأخبرني الشريف المذكور وكان من تلامذته قال: كان البلطي رجلاً طوالاً جسيماً طويل اللحية واسع الجبهة أحمر اللون، يعتم بعمةٍ كبيرةٍ جداً ويتطلس بطيلسان لا على زي المصريين، بل يلقيه على عمامته ويرسله من غير أن يديره على رقبته، وكان يلبس في الصيف المبطنة والثياب الكثيرة، حتى يرى كأنه عدل عظيم، وكان إذا دخل فصل الشتاء اختفى حتى لا يكاد يظهر، وكان يقال له: أنت في الشتاء من حشرات الأرض، وكان إذا دخل الحمام يدخل إلى داخله وعلى رأسه مزدوجة مبطنة بقطنٍ، فإذا حصل عند الحوض الذي فيه الماء الحار كشف رأسه بيده الواحدة وصب على رأسه الماء الحار الشديد الحرارة بيده الأخرى، ثم يغطيه إلى أن يملأ السطل ثم يكشفه ويصب عليه ثم يغطيه يفعل ذلك مراراً، فإذا قيل له في ذلك قال: أخاف من الهواء. قال الإدريسي: هذه كانت حاله في هيئته وسمته، فأما علمه: فكان عالماً إماماً نحوياً لغوياً أخبارياً مؤرخاً شاعراً عروضياً، قلما سئل عن شئ من العلوم الأدبية إلا وأحسن القيام بها، وكان يخلط المذهبين في النحو، وحسن القيام بأصولهما وفروعهما، وكان مع ذلك خليعاً ماجناً شريباً للخمر منهمكاً في اللذات.
قال الشريف الإدريسي: فحدثني الفقيه ابن أبي المالك قال: خرجت إلى بعض المتنزهات بضواحي مصر، فلقيت البلطي مع جماعة من أهل الخلاعة، ومطرب يغنيهم ببعض الملاهي، وهو ثمل يتمايل سكراً، فتقدمت إليه وكانت بيني وبينه مباسطة، تقضي ذلك، فقلت له: يا شيخ، أما آن لك أن ترعوى، وتقلع عن هذه الرذائل مع تقدمك في العلم وفضلك، فنظر إلى شزراً ولم يكترث بقولي، وأنشدني بعد ما نثر يده من يدي شعر أبي نواسٍ:
كفيت الصبي من لا يهش إلى الصبي ... وجمعت منه ما أضاع مضيع
لعمرك ما فرطت في جنب لذةٍ ... ولا قلت للخمار كيف تبيع؟

وحدثني الإدريسي. قال: ومن نوادره ما أخبرني به صاحبنا الفقيه أبو الجود ندى بن عبد الغني الحنفي الأنصاري قال: حضر يوماً عند البلطي بعض المطربين المحسنين فغناه صوتاً أطربه به، فبكى البلطي فبكى المطرب، فقال له البلطي: أما أنا فأبكى من استفزاز الطرب، وأنت ما أبكاك؟ فقال له: تذكرت والدي فإن كان إذا سمع هذا الصوت بكى؟ فقال له البلطي: فأنت والله إذا ابن أخي، وخرج فاشهد على نفسه جماعةً من عدول مصر بأنه ابن أخيه ولا وارث له سواه، ولم يزل يعرف بابن أخي البلطي إلى أن فرق الدهر بينهما، وللبلطي من التصانيف: كتاب العروض الكبير في نحو ثلاثمائة ورقةٍ، كتاب العروض الصغير، كتاب العظات الموقظات، كتاب النير في العربية، كتاب أخبار المتنبيء، كتاب المستزاد على المستجاد من فعلات الأجواد، كتاب علم أشكال الخط، كتاب التصحيف والتحريف، كتاب تعليل المبادات. قال العماد في كتاب الخريدة: وللبلطي موشحة عملها في القاضي الفاضل بديعة مليحة، سلك فيها طريق المغاربة وحافظ فيها على أحرف الغين والضاد والذال والظاء، وصرع التوشيح وهى:
ويلاه من رواغ ... بجوره يقضي
ظبي بني يزداد ... منه الجفا حظي
قد زاد وسواسي ... مذ زاد في التيه
لم يلق في الناس ... ما أنا لاقيه
من قيم قاسي؟ ... بالهجر يغريه
أروم إيناسي ... به ويثنيه
إذا وصال ساغ ... بقربه يرضى
أبعده الأستاذ ... لا حيط بالحفظ
وكل ذا الوجد ... بطول إبراقه
مضرج الخد ... من دم عشاقه
مصارع الأسد ... فى لحظ أحداقه
لو كان ذا ودٍ ... رق لعشاقه
شيطانه الناغ ... علمه بغضي
واستحوذ استحواذ ... بقلبه القظ
دع ذكره واذكر ... خلاصة المجد
الفاضل الأشهر ... بالعلم والزهد
والطاهر المنرر ... والصادق الوعد
وكيثف لا أشكر ... مولى له عندي
نعمى لها إسباغ ... صائنةً عرضي
من كف كاسٍ غاذ ... والدهر ذو عظ
منة مستبقى ... ضاق به ذرعي
قد أفحمت نطقى ... واستنفدت وسعى
وملكت رقى ... مكمل الصنع
دافع عن رزقي ... في موطن الدفع
لما سعى إيتاغ ... دهري في دحضي
أنقذني إنقاذ ... من همه حفظي
ذو المنطق الصائب ... في حومة الفصل
ذكاؤه التاقب ... يجل عن مثل
فهو الفتى الغالب ... كان ذوي النبل
من عمرو والصاحب ... ومن أبو الفضل؟
لا يستوي الأفراغ ... بواحد الأرض
أين من الأزاذ ... نفاية المظ
يا أيها الصدر ... فت الورى وصفا
قد مسني الضر ... والحال ما تخفى
وعبدك الدهر ... يسومني الخسفا
وليس لي عذر ... ما دمت لي كهفا
من صرف دهر طاغ ... أني له أغضى؟
من بك أمسى عاذ ... لم يخشى من بهظ
قد كنت ذا إنفاق ... أيام ميسوري
فعيل لما ضاق ... رزقي تدبيري
والعسر بي حاق ... عقيب تبذيري
يا قاسم الأرزاق ... فارث لتقتيري
لا زلت كهف الباغ ... ودمت في حفظ
أمرك للإنفاذ ... والسعد في لظ
ومن جيد شعر البلطي:
دعوه على ضعفي يجور ويشنط ... فما بيدي حل لذاك ولا ربط
ولا تعتبوه فالعتاب يزيده ... ملالاً وأنى لي اصطبار إذا يسطو
فما الوعظ فيه والعتاب بنافعٍ ... وإن يشرط الإنسان لا ينفع الشرط

ولما تولى معرضاً بجنابة ... وبان لنا منه الإساءة والسخط
بكيت دماً لو كان ينفعني البكا ... ومزقت ثوب الصبر لو نفع العط
تنازعت الآرام والدر والمها ... لها شبهاً والغصن والبدر والسقط
فللرئم منه اللحظ واللون والظلى ... وللدر منه اللفظ والثغر والخط
وللغصن منه القد والبدر وجهه ... وعين المها عين بها أبداً يسطو
وللسقط منه ردفه فإذا مشى ... بدا خلقه كالموج يعلو وينحط
قال العماد الكاتب: وأنشدني البلطي لنفسه:
حكمته ظالماً في مهجتي فسطا ... وكان ذلك جهلاً شبته بخطا
هلا تجنبته والظلم شيمته ... ولا أ سأم به خسفاً ولا شططا
ومن أضل هدى ممن رأى لهباً ... فخاض فيه وألقى نفسه وسطاً؟
ويلاه من تائه أفعاله صلف ... ملون كلما أرضيته سخطا
أبثه ولهاً صدقاً ويكذبني ... وعداً وأقسط عدلاً كلما قسطا
وله في القاضي الفاضل وكان قد أسدى إليه معروفاً من قصيدةٍ:
لله عبد رحيم ... يدعى بعبد الرحيم
على سراطٍ سوي ... من الهدى المستقيم
نسك ابن مريم عيسى ... وهدى موسى الكليم
رأى التهجد أنسا ... في جنح ليلٍ بهيم
مسهد الطرف يتلو ... آي القرآن العظيم
ومن أطبع ما قاله في طبيبٍ وكان ابن عمه:
لي ابن عمٍ حوى الجهالة لل ... حكمة أضحى يطب في البلد
قد اقتفى مذ نشا به ملك ال ... موت فما إن يبقى على أحد
يجس نبض المريض منه يد ... أسلم منها براثن الأسد
يقول لي الناس خله عضداً ... يا ليتني أبقى بلا عضد
ومن شعره في غلامٍ أعرج:
أنا يا مشتكي القزل ... منك في قلبي الشعل
أصبح الجسم ناحلاً ... بك والقلب مشتغل
دلني قد عدمت صب ... ري وضاقت بي الحيل
آن أن تجفو الجفا ... ء وأن تملل الملل
وقال عثمان بن عيسى بن منصورٍ البلطي وسئل أن يعمل على وزن بيتي الحريري اللذين وصفهما فقال:
أسكتا كل نافثٍ، ... وأمنا أن يعززا بثالثٍ
وهو:
سم سمةً نحمد آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
فقال:
محلمة العاقل عن ذي الخنا ... توقظه إن كان في محلمه
مكلمةً الخائض في جهله ... لقلب من يردعه مكلمة
مهدمة العمر لحرٍ إذا ... أصبح بين الناس ذا مهدمة
محرمة الملحف أولى به ... إياك أن ترعى له محرمه
مسلمة يمنعها غاصب ... حقا فأمسى جوره مسلمه
مظلمة يفعلها صامداً ... تلقيه يوم الحشر في مظلمه
أعلمه الحسن فيا ليت من ... أغراه بي أعلمه
من دمه أهدره الحب لا ... غرو إذا حلت به مندمه
أسلمه الحب إلى هلكه ... فإن نجا منه فما أسلمه
أشأمه البين وقد أعرقوا ... أفٍ لهذا البين ما أشأمه
مكتمة الأحزان في أدمعي ... يبدو نضول الشيب من مكتمه
محرمة الدهر أفيقي ففي ... ذرا جمال الدين لي محرمه
مقسمة الأرزاق في كفه ... أبلج زانت وجهه مقسمه
وهي خمسون بيتاً هذا نموذجها، وقال على أمثال أبيات الحريري التي أولها:
آس أرملاً إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
فقال:
إسع لإبقاء سنا ... أنسأ قباً لعسا
النساء: الشرف وقصره ضرورةً. أنسأ: أخر. القب: الضوامر البطون. واللعس: العذبات الأرياق. أي أخر عن محبة هذا الشرف هذه النسوة الموصوفات.
أسخ بمولىً عرد ... درعاه لؤم بخسا
المولى ابن العم
أسدٍ ندى عفٍ فما ... من يعود ندسا
أسد: أعط، والندس: الجميل الأخلاق.

إسمح بصد ناعمٍ ... معاندٍ صبح ما
يقول: إذا كان لك حبيب ناعم حسن وكان كثير الخلاف فلتسمح نفسك به وبالبعد عنه.
أسمر تيمك ايئس ... إياس ميتٍ رمسا
يقول: بلغ من حالك أن تترك الأسمر إذ لو كان غير الأسمر كنت معذوراً كأنه يستقبح السمر، أي ايئس منه إياساً وعده ميتاً في رمسه وسكن تيمك ضرورةً كقوله:
شكونا إليه خراب القرى ... فحرم علينا لحوم البقر
وله أبيات يحسن في قوافيها الرفع والنصب والخفض:
إني امرؤ لايصطبي ... ني الشادن الحسن القوام ما
رفع القوام بالحسن لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل والتقدير الحسن قوامه، كما يقول: مررت بالرجل الحسن وجهه ونصبه على الشبه بالمفعول به، وخفضه بالإضافة:
فارقت شرة عيشتي ... أن فارقتني والعرام ما
رفع العرام لأنه عطف على الضمير في فارقتني، ونصبه عطفاً على شرة، وخفضه عطفاً على عيشتي:
لا أستلذ بقينةٍ ... تشدو لدي ولا غلام ما
رفعة عطفاً على الضمير في تشدو، ونصبه بلاد، وخفضه عطفاً على قينةٍ
ذو الحزن ليس يسره ... طيب الأغاني والمدام ما
رفعه عطفاً على طيب، ونصبه بأن نجعل الواو بمعنى مع، وخفضه عطفاً على الأغاني:
أمسى بدمعٍ سافحٍ ... في الخد منسكبٍ سجام ما
رفع بإضمار هو، ونصبه بإضمار فعلٍ، وجره نعتاً للدمع:
ثم أرى في بثه ... ذلاً وملء لجام ما
ملء فمي لجام مبتدأ وخبر، ونصبه بإضمار أرى، دلت عليه أرى الأولى، وجره بالإضافة:
قدر علي محتم ... من فوق يأتي أو أمام ما
مبني علي الضم، ونصبه بجعله نكرةً ويكون ظرفاً، وجره بالإضافة:
لا يستفيق القلب من ... كمد لاقى أو غرام ما
غرام خبر مبتدأ محذوف، والنصب جعله مفعولا، ليلافي، وخفضه عطفاً على كمدٍ:
كم حاسدين معاندي ... ن عدوا على وكم لئام ما
كم تنصب وتخفض، ورفع كأنه قال: مر وعدا على لئام:
إني أرى العيش الخمو ... ل، وصحبة الأشرار ذام ما
صحبة الأشرار ذام مبتدأ وخبر، ويجوز نصبها عطفاً على ما تقدم:
في غفلةٍ أيقاظهم ... عن سؤددٍ بله النيام ما
بله لفظة معناها دع، ويكون بمعنى كيف، ويرتفع ما بعدها ويكون كالمصدر فيخفض بها، والنصب لأنها بمعنى دع:
رب امرئ عاينته ... لهجاً بسبي مستهام ما
مستهام منصور بعاينته، ورفعه على موضع رب، لأن رب وما يدخل عليه في موضع رفعٍ، وخفضه تبعاً لامرئ:
عين العدو غدوت مض ... سطراً بصحبته أسام ما
أسامي: أفاعل من المساماة، وأسام: أتكلف من قوله: سمته الخسف، وأسام أفاعل من المساماة أيضاً
مالي وللحمق الأتي ... م الجاهل الفدم ألعبان ما
رفعه بإضمار مبدأ، ونصبه بإضمار أعنى:
إن المموه عند قد ... م الناس يعلو والطغاة ما
رفعه عطفاً على موضع إن، ونصبه عطفاً على المملوء، وخفضه عطفاً على قدم:
وأعيش فيهم إذ بلو ... تهم وقد جهلوا الأنام ما
الرفع على البدل من الواو في جهلوا، ويكون فاعلاً في لغة من قال أكلوني البراغيث، ونصبه على البدل من الضمير في بلوتهم، وجره بدلاً من الهاء في فيهم:
حتى متى شكوى أخي الل ... يث الكثيب المستضام ما
رفعه بتقدير أن يشكو المستضام لأن شكوى مصدر وأخي البث في موضع رفع المستضام، ورفع أخي البث على الموضع، ونصبه على أن يكون مشكواً، وخفضه نعتاً للكئيب:
ما من جوىً إلا تض ... منه فؤادي أو سقام ما
رفعه عطفاً على موضع من جوى، وجره على لفظة جوى، ونصبه عطفاً على الضمير في تضمنه:
ليس الحياة شهيةً ... لي في الشقاء ولا مرام ما
رفعه بلا، ونصبه بلا أيضاً، وجره بالعطف على شهيةً بتقدير الباء، كأنه قال بشهيةٍ كما أنشد سيبويه:
مشائم ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها
وكرهت في الدنيا البقا ... ء، وقد تنكد والمقام ما
رفع على الضمير في تنكد، ونصه عطفاً على البقاء، وجره بالقسم:

ما في الورى من مكرم ... لذوي العلوم ولا كرام ما
جره على لفظ مكرمٍ:
إني وددت وقد سئم ... ت العيش لو يدنو حمام ما
رفعه بالفاعل، ونصبه بوددت، وجره بالإضافة. وقال أيضاً أبياتاً حصر فيها قوافيها ومنه أن يزاد فيها:
بأبي من تهتكي فيه صون ... رب وافٍ لغادرٍ فيه خون
بين ذل المحب في طاعة الحب ... ب وعز الحبيب يا قوم بون
أين مضنىً يحكى البهارة لوناً ... من غريرٍ له من الورد لون؟
لي حبيب ساجي اللواحظ أحوى ... مترف زانه جمال وصون
يلبس الوشي والقباطي جون ... فوق جونٍ ولون حالي جون
إن رماني دهري فإن جمال ال ... دين ركني وجوده لي عون
عنده للمسيء صفح وللأس ... رار مستودع وللمال هون
زانه نائل وحلم وعدل ... ووفاء جم ورفق وأون
أنا في ربعه الخصيب مقيم ... لي من جوده لباس وصون
لا أزال الإله عنه نعيماً ... وسروراً ما دام للخق كون
عرب بن محمد بن مصرفابن عريب القرطبي أبو مروان، له سماع بالمشرق على أبي الحسن بن جهضم بمكة، وكان من أهل الأدب والشعر وحسن الإبراد للأخبار، وقتل خطأ على باب داره في ربيعٍ الآخر سنة تسعٍ وأربعمائةٍ، ذكر وفاته ابن حيان.
عزير بن الفضل بن فضالة بن مخراقابن عبد الرحمن بن عبيد الله بن مخراقٍ الهذلي يعرف بابن الأشعث، أخباري راوية لغوي نحوي ذكره محمد بن إسحاق النديم ولم يذكر تاريخ وفاته، وله من الكتب كتاب صفات الجبال والأودية وأسمائها بمكة وما والاها، قال الأزهري في مقدمة كتابه: وله كتاب لغات هذيلٍ.
عسل بن ذكوان العسكريمن أهل عسكر مكرم، ويكنى أبا عليٍ، روى عن المازني والرياشي ودماءٍ، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان في أيام المبرد، ولم يذكر تاريخ وفاته، وله من الكتب: كتاب الجواب المسكت، وكتاب أقسام العربية.
عطاء بن مصعب، الملطقرأت بخط أبي منصور الأزهري في كتاب نظم الجمان، حدثنا أبو جعفر بن محمد بن الفرج الغساني قال: حدثنا أحمد بن عيسى مؤدب ولد إسحاق بن إبراهيم قال: كان أستاذ الأصمعي وأبي عبيدة عطاء الملط رجل من أهل البصرة، وكانوا يعقدون إليه ويتعلمون منه، فبلغه أن الأصمعي اتخذ حلقةً واجتمعت إليه جماعة فغاظة ذلك، فلما انصرف من حلقته استتبع أصحابه فقال: مروا بنا إلى ظاهر البصرة، فخرجنا حتى مررنا بشيخٍ معه أعنز يرعاهن وعليه جبة صوف فقال له: يا قريب، فقال: لبيك قال: ما فعل الأصمعي ابنك؟ فقال: هو عندكم بالبصرة، فقال: هذا أبو الأصمعي لئلا يقول غداً إنه من بني هاشمٍ.
عطاء بن يعقوب بن ناكلٍ

أحد أعيان فضلاء غزنة، وهو من أولاد الثناء، وكان ابن عمه الكوثوال، وهو مستحفظ القلعة، تلقب بهذا وهو بالهندية وإليه مصادر الأمور ومواردها عند غيبة سلطان البلاد. قال صاحب سر السرور: إذا اجتمع الأفاضل في مضمار التفاضل، واتزنوا بمعيار التساجل، كان هذا الشيخ هو الأبعد إحضاراً، والأرجح مقداراً. أقر له بالتقدم رجالات الآفاق، وأذعن له بالترجيح فضلاء خراسان والعراق. حتى أشرق شمساً وهم بين كوكبٍ وشهابٍ، وأعذب بحراً وهم ما بين نهرٍ وسرابٍ، يجلو عليه الفضل نفسه في معرض الإحسان، ويناغيه أهل الفضل بلسان القصور والإذعان، وتشرئب إلى قلائده أجياد الأنام، وتتباهى برسائله مواقع الأقلام. ولم يزل منذ شب إلى أن اشتعل الشيب برأسه، ورسب قذى العمر في آخر كأسه. بين اقتباس يصطاد به وجوش الشوارد، وإقباسٍ ينثر منه لآلئ القلائد، وإبداع صنعةٍ في الشعر ما جمش الأديب بأطرف من بدائعها، واختراع نادرة ما أتحف الفضل بأطرف من روائعها، واختراع نادرة ما أتحف الفضل بأطرف روائعها، وقد سافر كلامه من غزنة إلى العراق، ومن ثم إلى سائر الآفاق. حتى إني حدثت أن ديوان شعره بمصر يشتري بمائتين من الحمر الراقصات على الظفر والمشهور أن ديوان شعره العربي والفارسي يشتري بخراسان بأوفر الأثمان. وكيف لا، ما من سمةٍ من كلماته إلا وحقها أن تملك بالأنفس وتقتنى، وتباع بالأنفس وتشترى. وهذا نموذج من نثره مردف بما وقع عليه الاختيار من شعره: صدر كتاب صدر منه إلى بعض الصدور أطال الله بقاء الشيخ في عزٍ مرفوعٍ كلسم كان وأخواتها إلى فلك الأفلاك، منصوبٍ كلسمٍ إن وذواتها إلى سمك السماك، موصوفٍ بصفة التماء، موصول بصلة البقا، مقصورٍ على قضية المراد، ممدودٍ إلى يوم التناد، معرفٍ به، مضافٍ إليه، مفعولٍ له، موقوفٍ عليه، صحيحٍ سالمٍ من حروف العلة، غير معتلٍ ولا مهموز همز الذلة، يثني ويجمع دائماً جمع السلامة والكثرة، لا جمع التكسير والقلة، ساكن لا تغيره يد الحركة مبنيٍ على اليمن والبركة، مضاعفٍ مكرر على تناوب الأحوال، زائد غير ناقص على تعاقب الأحوال، مبتدأ به خبره الزيادة، فاعلٍ مفعوله الكرامة، مستقبله خير من ماضيه حالاً، وغده أكثر من يومه وأمسه جلالاً، له الإسم المتمكن من إعراب الأماني، والفعل المضارع للسيف اليماني، لازم لربعه لا يتعدى، ولا ينصرف عنه إلى المدى، ولا يدخله الكسر والتنوين أبداً، يقرأ باب التعجب من يراه منصوباً على الحال إلى أعلى ذراه، متحركاً بالدولة، والتمكين، منصرفاً إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعينٍ.
وهذا دعاء دعوت له على لسان النحو، وأنا داعٍ له بكل لسان على هذا النحو، ولولا الاحتراز العظيم من أن يمل الأستاذ الكريم لسردت أفراده سرداً، وجعلت أوراده ورداً، وجمعت أعداده عقداً، ونظمت أبداده عقداً ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.

فصل من كتابٍ: منذ توردت هذه الناحية لم يرد على سحاحة أروي بها كبدي الصادية وأجلو حالي الصادية وأستظهر بها على دهرٍ يقصدني حيثما قصدت، ويضربني أينما ضربت ولم أخلص بعد من ألسنة أبنائه في ذلك الحي حتى ابتليت بأسنة بناته في هذا الفي، وطلت علينا عارضة داجية الجو باكية النوء، وأمطرتنا مطر السوء، بوفاة العينة المسكينة، فتضاعف سقم برح بي فلا يبرح، وترادف ألم ألح علي فلا لحلح وما حال أفق أقل نهاره، وروض ذبلت أهاره، وقلب زال قراره، وخلب زاد أواره، وكثير فارق عزته ثم فقد عزته، والمصيبة في الغربة أقطع، ونك القرح بالقرح أوجع، وأكثر ما جر علي هذه الفادحة تطيري بفلانٍ، فإنه بكر على يوم النوروز متأبطاً طوماراً أطول من يوم الحشر قد أربى ذراعاً على العشر، يضيق عن نطاق النشر، ملأه نظماً ونثراً في مرثية جاريةٍ له قد ماتت منذ خمسين سنةً ذكر فيه غرتها ونعرتها وطرتها ودرتها وعمرتها وخمرتها وسرتها وصرتها فتشفعت إله، وتضرعت بين يديه، وقلت له: أنشدك الله إلا طويته وأدرجته، وأدخلته من حيث أخرجته، فأبى إلا جماحاً في المسجد، وسل مقولاً كالمعول، وجعل يكيل من تلك الأهواس، إذا قرأ سطراً أعاد إلى الراس، وحكى أساطير الأولين، ورفع العويل والأنين، وأرسل المخاط والذنين، كلما قال لفظة سعل، وأخرج من قعر حلقه جعل، وأنا أنزوي كما تنزوي الجلدة في النار، وألتوي كما تلتوي الحية على الأوار، لا يمكنني أن أقرأ، ولا تركني حتى أقرأ، إلى نصف النهار، ولم ينصف بعد الطومار، وقمنا إلى المفروض. ولما انفصلت من ذلك المكان وصل كتاب التحول إلى الموتان، وحمت المسكينة في الحال، ووقعنا في الأوجال، والله نصيري على الزمان والإخوان وحسبي، وقد قل منه ومنهم حظي ونصيبي.
فصل من كتاب: الصحبة نسبة في شرع الكرم والمعرفة عند أهل النهى أوفى الذمم، والأخوة لحمة دانية، والمصافاة قرابة ثانية، ولو كان ما بين ذات البين ما بين القطبين لوجب أن يقطعا عرض السما كالمجرة مواصلةً، ويتصلا اتصال الكواكب مراسلةً، ولكن الأقوام في العقوق سواسية، والقلوب في رعاية الحقوق قاسية، ومن شعره:
أأحلب من دناي جداء ما بها ... على كثرة الإبساس در ولا جدى
وأسبح في بحر السراب ضلالةً ... وأترك صداء وبي حرق الصدى
وله:
قريض تجلى مثل ما ابتسمت أروى ... ترشفت من فيه الرضاب فما أروى
تجلى كأروى في حجال سطوره ... وأنزل من شم الجبال لنا أروى
كغصن الشباب الغض غاض بهاؤه ... وعهد اللوى ألوى به زمن ألوى
إذ الدهر غض ناضر العود ناظر ... إلينا بما يهوى ولم يلق في المهوى
قريض به زادت لقلبي غلة ... وغيري به يروي الغليل إذا يروى
وله:
يا ظبيةً سلت ظبىً من جفنها ... تفرى بها أعناق آساد الورى
ما كنت أدري قبل جفنك أن أج ... فان الظباء تكون أجفان الظبى
وله:
إذا ما نبا حد الأسنة والظبي ... فما نابه في الحادثات بناب
قصف رمح الخط وسط كتائبٍ ... إذا هز رمح الخط وسط كتاب
وله:
وكم حل عقداً للحوادث عقده ... وكم فل ناباً للنوائب نابه
كمخلب ليث الغاب حداً وحدةً ... ومخلب ليث الفضل والعلم غابه
إذا صاد ليث العنكبوت ذبابةً ... فهذا حسام صاد ليثاً ذبابه
وله أيضاً مما أورده ابن عبد الرحيم عن العميد أبي سعدٍ عبد الغفار بن فاخرٍ البستي:
أيامن إن رآه البد ... ر ظل لوجهه يسجد
ويا من غيم نائله ... يجود لنا ولا يرعد
ويا من فضله يدنو ... ولكن وصفه يبعد
أتذكرني إذا أخلو ... ومالي لا أرى الهدهد
وله:
الله حار عصابةٍ ودعتهم ... والدمع يهمى والفؤاد يهيم
قد كان دهري جنةً في ظلهم ... ساروا فأضحى الدهر وهو جحيم
كانوا غيوث سماحةٍ وتكرمٍ ... فاليوم بعدهم الجفون غيوم
رحلوا على رغمي ولكن حبهم ... بين الفؤاد المستهام مقيم

قد خانهم صرف الزمان لأنهم ... كانوا كراماً والزمان لئيم
طلقت لذاتي ثلاثاً بعدهم ... حتى يعود العقد وهو نظيم
الله حيث تحملوا جار لهموالأمن دار والسرور نديم
والعيش غض والمناهل عذبة ... والجو طلق والرياح نسيم
عكرمة مولى ابن عباسيكى أبا عبد الله. سمع عبدالله بن عباسٍ وعائشة وأبا هريرة وعبد الله بن عمر. وروى عنه جماعة من التابعين، منهم الشعبي وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وجابر بن زيدٍ. ومات فيما قرأت بخط الصولي من كتاب البلاذري سنة خمسٍ ومائةٍ، وقيل ستٍ ومائةٍ، وهو ابن ثمانين سنةً قال: وكان موته وموت كثير عزةً في يومٍ واحدٍ فوضعاً جميعاً وصلى عليهما، وكان كثير شيعياً، وعكرمة يرى رأي الخوارج، ذكره الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع في تاريخ نيسابور، وقال بإسناده: كان جوالاً وفاداً على الملوك، أتى خراسان فنزل مرو زماناً، وأتى اليمن ومات بالمدينة، وورد خراسان مع يزيد بن المهلب.
وحدث بإسنادٍ رفعه إلى عبد الله بن أبي روادٍ قال: رأيت عكرمة بنيسابور فقلت له: تركت الحرمين وجئت إلى خراسان؟ قال: جئت أسعى إلى بنياتي.
وحدث بإسناد رفعه إلى أبي خالد بعد المؤمن بن خالدٍ الحنفي قال: رأيت عكرمة يخرج من البيت وقد جاء الثلج فعال: اللهم أرحني من بلدةٍ رزقها في عذابها.
قال الحاكم: وقد حدث عكرمة بالحرمين ومصر واليمن والشام والعراق وخراسان، وحدث بإسناد رفعه إلى يزيد النحوي عن عكرمة قال: قال لي ابن عباسٍ أنطاق فأفت الناس فأنا لك عون. قال: قلت لو أن هذا الناس مثلهم بين لأفتيتهم. قال: انطلق فأفت الناس فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مئونة الناس.
وذكر القاضي أبو بكرٍ محمد بن عمر الجعابي في كتاب الموالي عن ابن الكلبي قال: وعكرمة هلك بالمغرب وكان قد دخل في رأي الحرورية الخوارج فخرج يدعو بالمغرب إلى الحرورية.
حدث أبو عليٍ الأهوازي قال: لما توفي عبد الله بن عباسٍ كان عكرمة عبداً مملوكاً فباعه علي بن عبد الله ابن عباسٍ من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عكرمة علياً فقال له: ما خير لك؟ أتبيع علم أبيك؟ فاستقال خالداً فأقاله وأعتقه، وكان يرى رأي الخوارج، ويميل إلى استماع الغناء، وقيل عنه: إنه كان يكذب على مولاه والله أعلم.
وقال عبدا لله بن الحارث، دخلت على علي بن عبد الله بن عباسٍ - وعكرمة موثق على باب الكثنيف - فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إن هذا يكذب على أبي وقد قال ابن المسيب لمولاه: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباسٍ.
وقال يزيد بن هارون: قدم عكرمة مولى ابن عباسٍ البصرة فأتاه أيوب السختياني وسليمان التميمي ويونس ابن عبيد فبينا هو يحدثهم إذ سمع غناء فقال عكرمة: اسكتوا فنسمع ثم قال: قاتله الله فلقد أجاد، أو قال: ما أجود ما قال: فأما سليمان ويونس فلم يعودا إليه وعاد إليه أيوب، فقال يزيد بن هارون: لقد أحسن أيوب. الرياشي عن الأصمعي عن نافعٍ المدني قال: مات كثير الشاعر وعكرمة في يوم واحدٍ.
قال الرياشي: فحدثنا ابن سلامٍ: أن أكثر الناس كانوا في جنازة كثيرٍ لأن عكرمة كان يرى رأي الخوراج، وتطلبه بعض الولاة فتغيب عند داود بن الحصين حتى مات عنده سنة سبع ومائة في أيام هشام ابن عبد الملك، وهو يومئذ ابن ثمانين سنةً.
وعن أبي عبد الله المقدمي: كان عكرمة مولى بن عباسٍ يكنى أبا عبد الله، وكان لحصين بن أبي الحر العنبري جد عبيد الله بن الحسين العنبري قاضى البصرة فوهبه لابن عباسٍ حين جاء والياً على البصرة بعلي بن أبي طالب عليه السلام.
وقال أبو أحمد الحافظ: عكرمة، ولى ابن عباسٍ أصله بربري من أهل المغرب احتج بحديثه عامة الأئمة القدماء، لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيز الصحاح، وعن عكرمة قال: طلبت العلم أربعين سنة وكنت أفتى بالباب وابن عباسٍ في الدار.
وعن إسماعيل بن أبي خالد: سمعت الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.

وعن زيد بن الحباب: سمعت سفيان النوري يقول بالكوفة: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك، قال علي بن المدائني: لم يكن في موالي ابن عباسٍ أغزر من عكرمة، كان عكرمة من أهل العلم.
وعن هشام بن عبد الله بن عكرمة المخزومي: سمعت ابن أبي ذئبٍ يقول: كان عكرمة مولى ابن عباسٍ ثقةً. وقال المروزي: قلت لأحمد بن حنبلٍ: تحتج بحديث عكرمة؟ فقال: نعم نحتج به. عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معينٍ: فعكرمة أحب إليك عن ابن عباسٍ أو عبيد الله عن عبد الله؟ فقال: كلاهما ولم يختر فقلت: وعكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، فقال: ثقة وثقة ولم يختر، قال عثمان بن سعيد: عبيد الله أجل من عكرمة. قال: وسألته عن عكرمة بن خالدٍ فقال: ثقة. قلت: هو أصح حديثاً أو عكرمة مولى ابن عباس؟ فقال: كلاهما ثقتان، وقال يحيى بن معينٍ: إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وفي حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام. حماد بن زائدٍ: حدثنا عثمان بن مرة: قلت للقاسم إن عكرمة مولى ابن عباسٍ قال: حدثنا ابن عباسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزفت والمقير والدباء والحنثم والحرار فقال: يا بن أخي إن عكرمة كذاب يحدث غدوةً حديثاً يخالفه عشياً. يحيى بن البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافعٍ: اتق الله ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباسٍ، كما أحل الصرف وأسلم ابنه صيرفياً. يزيد بن زنادٍ قال: دخلت على علي بن عبد الله ابن مسعودٍ وعكرمة مقيد على باب الحش، قلت: ما لهذا كذا، قال: إنه يكذب.
علاقة بن كرسمٍ الكلابي
أحد بني عامر بن كلابٍ، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان في أيام يزيد بن معاوية وله علم بالأنساب والأخبار وأحاديث العرب القديمة، وقد أخذ عنه من ذلك شئ كثير، وكان يزيد بن معاوية قد أدخله في سماره. مات ولم يعلم تاريخ وفاته. وله كتاب الأمثال في نحو خمسين ورقةً، قال محمد بن إسحاق: رأيت هذا الكتاب.
علان الوراق الشعوبيأخلي موضع اسم أبيه، ذكره محمد بن إسحاق فقال: أصله من الفرس وكان علامة بالأنساب والمثالب والمنافرات، منقطعاً إلى البرامكة، وينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة مات. قال: وعمل كتاب الميدان في المثالب الذي هتك فيه العرب وأظهر مثالبها، وكان قد عمل كتاباً لم يتمه سماه الحلية انقرض أثره، قال: كذا قال ابن شاهين الأخباري، وله من الكتب: كتاب الميدان في المثالب يحتوي على جميع مثالب العرب ابتدأ ببني هاشم قبيلة بعد قبيلة على الترتيب إلى آخر قبائل اليمن على ترتيب كتاب ابن الكلبي، وله أيضاً كتاب فضائل كنانة كتاب النمر بن قاسطٍ، كتاب نسب تغلب بن وائل، كتاب فضائل ربيعة، كتاب المنافرة، وذكر محمد بن أبي الأزهر: كان في جوارنا بباب الشام فتىً يعرف بالفيرزان وكان يورق في دكان علان الشعوبي وأورد خبراً دل به على أن علاناً كان وراقاً له دكان يبيع فيه الكتب وينسخ، وحدث أبو عبد الله محمد بن عبدوسٍ الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب من تصنيفه قال: كان بعض أصحاب أحمد بن أبي خالد الأحول قد وصف له علاناً الشعوبي الوراق فأمر بإحضاره وبأن يستكتب له، فأقام في داره فدخلها أحمد بن أبي خالد يوماً فقام إليه جميع من فيها غير علان الوراق فإنه لم يقم له؟ فقال أحمد: ما أسوأ أدب هذا الوراق فإنه لم يقم له. فقال أحمد: ما أسوأ أدب هذا الوراق وسمعه علان فقال: كيف أنسب أنا إلى سوء الأدب ومني تتعلم الآداب وأنا معدنها، ولماذا أردت مني القيام لك، ولم آتك مستميحاً لك، ولا راغباً إليك، ولا طالباً منك وإنما رغبت إلي في أن آتيك فأكتب عندك فجئتك لحاجتي إلى ما آخذه من الأجرة، وقد كنت بغير هذا منك أولى، ثم حلف أيماناً مؤكدةً ألا يكتب عد يومه حرفاً في منزل أحدٍ من خلق الله تعالى، وجدت في بعض الكتب قال علان - وكان قبيحاً - : مررت بمخنث يغزل على حائط فقال لي: من أين؟ قلت: من البصرة قال لا إله إلا الله، تيغر كل شئ حتى هذا، كانت القرود تجلب من كمة واليمن والآن تجئ من العراق.

قال المؤلف: هكذا وجدت هذا الخبر قال فيه علان ولم يقل الشعوبي. قال: فإن كان هو فهو المراد، وإن كان غيره فقد مرت بك حكاية ممتعة فاله بها، وإن تحقق عندك أن هو هو فأصلحه مأجوراً مثباً. وذكره المرزباني في المعجم فقال: علان الوراق المعروف بعلانٍ الشعوبي وكان شعوبياً، وله في المثالب كتاب سوء وهو مأموني لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي أولها:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
وفخر فيها بقتل أبيه طاهرٍ محمداً الأمين، فأجابه محمد بن يزيد الحصني بقصيدته التي أولها:
لا يرعك القال والقيل ... كل ما بلغت تحميل
ورد عليه فيها وهجاء هجاءً قبيحاً. قال علان الشعوبي قصيدةً رد فيها على المسلمي وهجاه ومدح عبد الله بن طاهر وفضل العجم على العرب يقول فيها:
أيها اللاطي بحفرته ... في قرار الأرض مجعول
قد تجاللت على دخلٍ ... واستخفتك التهاويل
وأبو العباس غادية ... لعزاليه الأهاليل
تمطر العقيان راحته ... وله بالجود تهطيل
رستمي في ذري شرفٍ ... زانه تاج وإكليل
وعليه من جلالته ... كرم عد وتبجيل
وله لي فخراً مباءته ... في قرار النجم مأهول
ورجالاً شربهم غدق ... هم لما حازوا مباذيل
كسرويات أبوتنا ... غرر زهر مقاويل
العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلاياأبو سعدٍ من أهل الكرخ، أحد الكتاب المعروفين ومن يضرب به المثل في الفصاحة وحسن العبارة، وكان نصرانياً فأسلم في زمان الوزير أبي شجاع وحسن إسلامه. قال الهمذاني: في رابع عشر صفرٍ سنة أربعٍ وثمانين وأربعمائةٍ، خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بلبس الغيار والتزام ما شرطه عليهم عمر بن الخطاب، فهربوا كل مهربٍ وأسلم بعضهم وأسلم أبو غالب بن الأصباغي، وفي ثاني هذا اليوم أسلم الرئيسان أبو سعدٍ العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا صاحب ديوان الإنشاء وابن أخته أبو نصر صاحب الخبر على يدي الخليفة بحيث يريانه ويسمعان كلامه، وكان يتولى ديوان الرسائل منذ أيام القائم بأمر الله، وناب في الوزارة وأضر في آخر عمره، وكان ابتداء خدمته لدار الخلافة القائمية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائةٍ، فخدمها خمساً وستين سنة يزداد في كل يوم من أيامها جاهاً وحظوةً، وناب عن الوزارة عدة نوب مع ذهاب بصره، وكان أبو نصر هبة الله بن الحسن بن أخته يكتب الإنهاءات عنه إذا حضر، وكان كثير الصدقة والخير. ورسائله وأشعاره مدونة يتداول بها ويرغب فيها، أخذ عنه الشيخ أبو منصور موهوب بن الخضر الجواليقي وأنشده عنه:
أحن إلى روض التصابي وأرتاح ... وأمتح من حوض التصافي وأمتاح
واشتاق رئماً كلما رمت صيده ... تصد يدي عنه سيوف وأرماح
غزال إذا ما لاح أو فاح نشره ... تعذب أرواح وتعذب أرواح
بنفسي وإن عزت وأهلي أهلة ... لها غرر في الحسن تبدو وأوضاح
نجوم أعاروا النور للبدر عندما ... أغاروا على سرب الملاحة واجتاحوا
فتنضح الأعذار فيهم إذا بدوا ... ويفتضح اللاحون فيهم إذا لاحوا
وكرخية عذراء يعذر حبها ... ومن زندها في الدهر تقدح أقداح
إذا جليت في الكأس والليل ما انجلى ... تقابل إصباح لديك ومصباح
يطوف بها ساقٍ لسوق جماله ... نفاق لإفساد الهوى فيه إصلاح
به عجمة في اللفظ تغرى بوصله ... وإن كان منه بالقطيعة إفصاح
وغرته صبح وطرته دجىً ... ومبسمة در وريقته راح
أباح دمي مذ بحت في الحب باسمه ... وبالشجو من قبلي المحبون قد باحو
وأوعدني بالسوء ظلماً ولم يكن ... لإشكال ما يفضي إلى الضيم إيضاح
وكيف أخاف الضيم أو أحذر الردى ... وعوني على الأيام أبلج وضاح

وظل نظام الملك للكسر جابر ... وللضر مناع وللنفع مناح
ومن شعره:
يا خليلي خلياني ووجدي ... فملام المحب ما ليس يجدي
ودعاني فقد دعاني إلى الحك ... م غريم الغرام للدين عندي
فعساه يرق إذ ملك ال ... رق بنقدٍ من عدله أو بوعد
ثم من ذا يجير منه إذا جا ... ر ومن لي على تعديه يعدى
ومات العلاء في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وأربعمائةٍ، ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، ودفن في تربة الطائع.
قال أبو الفرج في المنظم: نال أبو سعد بن الموصلايا من الرفعة في الدنيا ما لم ينله أبناء جنسه، فإنه ابتدأ في خدمة دار الخلافة في أيام القائم سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فخدمها خمساً وستين سنةً، وأسلم في سنة أربع وثمانين، وناب عن الوزارة في أيام المقتدي وأيام المستظهر نوباً كثيرةً، وكان كثير الصدفة كريم الفعال حسن الفصاحة، ويدل على فصاحته وغزارة علمه ما كان ينشئه من كتابات الديوان والعهود. وحكى بعض أصحابه قال: شتمت يوماً غلاماً لي فوبخني وقال: أنت قادرعلى تأديب الغلام أو صرفه، فأما الخنا والقذف فإياك والمعاودة له، فإن الطبع يسرق والصاحب يستدل به على المصحوب، وكانت وفاته فجأة. وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: لما عزل المقتدي الوزير أبا شجاع خلع علي الأجل أبي سعد بن الموصلايا وكانت الخلعة دراعةً وعمامة وحمل على فرس بمركب ذهب ووسم بنيابة الوزارة، وخلع على ابن أخته تاج الرؤساء أبي نصرٍ هبة الله صاحب الخبر بن الحسن بن علي جبة وعمامة وحمل على فرسٍ.
ومدح الأديب أبو المظفر الأبيوردي الأجل أبا سعدٍ وقد لقبه الخليفة بأمينا لدولة بقصيدة منها:
وزعزع الصبح سلك النجم فانتثرت ... منه كماً تستطير النار بالشعل
قال: ومن علم السير علم أن الخليفة والملوك لم ينقوا بأحدٍ ثقتهم بأمين الدولة، ولا نصحهم أحد نصحه، وتولى ديوان الإنشاء بعد سنة ثلاثين وأربعمائة، والناظر إذ ذاك عميد الرؤساء أبو طالب بن أيوب، وناب عن الوزارة المقتدرية والمستظهرية، ومن شعره:
يا هند رقي لفتىً مدنف ... يحسن فيه طلب الأجر
يرعى نجوم الليل حتى يرى ... حل عراها بيد الفجر
ضاق نطاق الصبر عن قلبه ... عند اتساع الخرق في الهجر
قال العماد - وقد ذكر هذه الأبيات الثلاثة - قد أرقى هذه الأبيات برقها وحلاوة الاستعارة في معناها مع دفتها وقد ساعده التوفيق في هذا التطبيق، وما كل شاعرٍ يتخلص من هذا المضيق، وهكذا شعر الكتاب يجمع إلى اللطافة ظرافةً، وإلى الحلاوة طلاوةً: وله:
وكأس كساها الحسن ثوب ملاحةٍ ... فحارت ضياء يشبه الحسن والشمسا
أضاءت له كف المدبر وما درى ... وقد دجت الظلماء أصبح أو أمسى
وله:
أقول للائمي في حب ليلى ... وقد ساوى نهار منه ليلا
أقل فما أقلت قط أرض ... محباً جر في الهجران ذيلا
ولو ممن أحب ملأت عينا ... لكنت إلى هواه أشد ميلا
أبو علقمة النحوي النميريوأراه من أهل واسط، حدث أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني قال: أتى أبو علقمة الأعرابي أبا زلازل الحذاء فقال: يا حذاء أحذأ لي هذا النعل، قال: وكيف تريد أن أحذوها؟ فقال: خصر نطقها، وغضف معقبها، وأقب مقدمها وعرج ونية الذؤابة بحزمٍ دون بلوغ الرصاف، وأنحل مخازم خزامها وأوشك في العمل. فقام أبو زلازل فتأبط متاعه، فقال أبو علقمة: إلى أين؟ قال: إلى ابن القية ليفسر لي ما خفي علي من كلامك.

وقال أبو أحمد بن خليفة الجمحي قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: قال أبو علقمة لغلام له: خذ من غريمنا هذا كفيلاً، ومن الكفيل أميناً، ومن الأمين زعيماً، ومن الزعيم عزيماً، فقال الغلام للغريم: مولاي كثير الكلام فمعك شيء؟ فأرضاه وخلاه فلما انصرف قال يا غلام: ما فعل غريمنا؟ قال: سقع قال ويلك ما بقع؟ قال بقع. قال ويلك وما يقع؟ قال استقلع: قال ويلك ما استقلع؟ قال انقلع، قال ويلك لم طولت علي؟ قال منك تعلمت. الهيثم بن عدي. ركب أبو علقمة النميري بغلاً فوقف على أبي عبد الرحمن القرشي فقال: يا أبا علقمة إن لبغلك هذا منظراً، فهل مع حسن هذا المنظر من خيرٍ؟ قال سبحان الله أو ما بلغك خيره؟ قال لا، قال: خرجت عليه مرةً من مصر فقفز بي قفزةً إلى فلسطين. والثانية إلى الأردن. والثالثة إلى دمشق. فقال له أبو عبد الرحمن: تقدم إلى أهلك يدفنوه معك في قبرك، فلعله يقفز بك الصراط.
ذكر أبو بكرٍ محمد بن خلف بن المرزبان في كتاب الثقلاء من تصنيفه: أخبرنا إسحاق بن محمد ابن أبان الكوفي، حدثني بشر بن حجرٍ قال: انقطع إلى أبي علقمة النحوي غلام يخدمه، فأراد أبو علقمة الدخول في بعض حوائجه فقال له: يا غلام أصقعت العتاريف؟ فقال له الغلام: زقفيلم، قال أبو علقمة: وما زقفيلم؟ قال له وما معنى صقعت العتاريف؟ قال: قلت لك أصاحت الديوك؟ قال: وأنا قلت لك لم يصح منها شئ.
قال محمد بن خلفٍ: حدثنا أبو بكرٍ القرشى، حدثني جعفر بن نصيرٍ قال: بينما أبو علقمة النحوي في طريقٍ من طرق البصرة إذ ثار به مرار. وظن من رآه أنه مجنون، واقبل رجل يعض أصل أذنه ويؤذن فيها، فأفاق فنظر إلى الجماعة حوله فقال: ما لكم تكأكأتم على كما تتكأكئون على ذي جنة، افرنقعوا عني. قال: فقال بعضهم لبعض: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية.
قال ابن المرزبان: حدثني عبد الله بن مسلم: دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب فقال له: أمتع الله بك، إني أكلت من لحوم هذه الجوازل فطسأة طسأةً، فأصابني وجع بين الوابلة إلى دأية العنق فلم يزل ينمي حتى خالط الخلب وألمت له الشراسيف فهل عندك دواء؟ قال أعين: خذ حرقفاً وسلقفاً وشرقفاً مزهزقه ورقرقه واغسله بماء روثٍ واشربه بماء الماء. فقال له أعين: لعن الله أقلنا إفهاماً لصاحبه، ويحك، وهل فهمت عنك شيئاً مما قلت؟ قرأت في كتاب النوادر الممتعة جمع ابن جنيٍ عن محمد ابن المرزبان قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن عبد الصمد قال: حدثني محمد بن معاذٍ البصري قال: بينا أبو علقمة النحوي يسير على بغلةٍ إذ نظر إلى عبدين أحدهما حبشي والآخر صقلي، فإذا الحبشي قد ضرب بالصقلي الأرض وأدخل ركبتيه في بطنه، وأصابعه في عينيه، وعض أذنيه، وضربه بعصاً كانت معه فشجه وأسال دمه، فجعل الصقلي يستغيث فلا يغاث، فقال لأبي علقمة: اشهد لي فقال: قدمه إلى الأمير حتى أشهد لك، فمضيا إلى الأمير فقال الصقلي: إذن هذا ضربني وشجني واعتدى علي فجحد الحبشي. فقال الصقلي: هذا يشهد لي، فنزل أبو علقمة عن بغلته وجلس بين يدي الأمير فقال له الأمير: بم تشهد يا أبا علقمة؟ فقال: أصلح الله الأمير، بينا أنا أسير على كودني هذا إذ مررت بهذين العبدين، فرأيت هذا الاسحم قد مال علي هذا الأبقع فمطأه على فدفدٍ، ثم ضغطه برضفتيه في أحشائه حتى ظننت أنه تدمج جوفه، وجعل يلج بشناتره في جحمتيه يكاد يفقأهما، وقبض على صنارتيه بمبرمه، وكان يجذهما جذاً ثم علاه بمنسأةٍ كانت معه فعفجه بها، وهذا أثر الجريال عليه بيننا وأنت أمير عادل، فقال الأمير: والله ما أفهم مما قلت شيئاً، فقال أبو علقمة قد فهمناك إن فهمت، وعلمناك إن علمت، وأديت إليك ما علمت، وما أقدر أن أتكلم بالفارسية، فجعل الأمير يجهد أن يكشف الكلام فلا يفعل حتى ضاق صدره، فقال للصقلي: أعطني خنجراً فأعطاه وهو يظن أنه يريد أن يستفيد له من الحبشي، فكشف الأمير رأسه وقال للصقلي: شجني خمساً وأعفني من شهادة هذا. الصنارتان: الأذنان بلغة سميرٍ. الكودن: الغليظ من الدواب، مطأه: صرعه، والفدفد: الغليظ من الأرض، ورضفتاه: ركبتاه، وشناتره، أصابعه، والجحمتان: العينان لغة يمانية، والمنسأة: العصا، عجفه أي ضربه بها، والجريال الأحمر: فاستعارة للدم.

قال ابن جنىٍ: وأخبرنا عثمان بن محمدٍ، حدثنا محمد ابن القاسم قال: حدثني محمد بن المرزبان وأبو الحسين علي بن محمدٍ المقرئ قال: تبيغ بأبي علقمة الدم وهو في بعض القرى فقال لابنه: جئني بحجامٍ فأتاه به فقال له: لا تعجل حتى أصف لك، ولا تكن كامرئ خالف ما أمر به ومال إلى غيره. اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبة المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك زخزاً، ورصك نهزاً، لا تردن أتياً، ولا تكرهن أبياً. فوضع الحجام محاجمه في قفته وقال: كلامك يقطع الدم، وقام وانصرف.
وفي رواية علي بن إبراهيم قال: فلما سمع الحجام الكلام قال يا قوم: هذا رجل قد ثار به المرار ولا ينبغي أن يخرج دمه في هذا الوقت وانصرف.
قال أبو بكر: العصب: الموضع الذي يجتمع فيه الدم، وتبيغ: هاج، وهو من البغي، أصله تبغي فقدمت الياء وأخرت الغين، كان أبو علقمة النحوي لا يدع الإغراب في كلامه، فقال للطبيب: أجد رسيساً في أسناخي، وأحس وجعاً فيما بين الوابلة إلى الأطرة من دأيات العنق، فقال له الطبيب: خذ خزاناً وسلقفاً وشرقفاً، فزهزقه ورقرقه، واغسله بماء روث واشربه، فقال له أبو علقمة: أعد فإني لم أفهم فقال: أخزى الله أقلنا إفهماماً لصاحبه، وجمش امرأة كان يهواها فقال: يا خريدة قد كنت إخالك عروباً فإذا أنت ثوار مالي أمقك فتسنتيني فقالت يا رقيع ما رأيت أحداً يحب أحداً فيشتمه سواك، وقال لحجامٍ حجمه اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأمر المسح، واستنجل الرشح، وخفف الوطء، وعجل النزع، ولا تكرهن أبياً، ولا تمنعن أتياً، ورأى رجل أبا علقمة على بغلٍ مصريٍ حسنٍ فقال له: إن كان مخبر هذا البغل كمن ظهره فقد كمل، فقال أبو علقمة: والله لقد خرجت عليه من مصر فتنكبت الطريق مخافة السراق وجور السلطان، فبينا أنا أسر في ليلةٍ ظلماء فتماء طخياء مدلهمةٍ حندسٍ داجيةٍ في ضحضحٍ أملس، وإذا جلس نبأةٍ من صوت قعرٍ، أو طيروان صوعٍ، أو نفض سيدٍ، فحاص عن الطريق متنكباً بعزة نفسه وفضل قوته، فبعثته باللجام فعسل، وحركته بالركاب فنسل، وانتعل الطريق يغتاله معتزماً، والتحف الليل لا يهابه مظلماً، فو الله ما شبهته إلا بظبيةٍ نافرةٍ تحفزها فنخاء شاغبة فقال الرجل، يا هذا، ادع الله واسأله أن يحشر هذا البغل معك يوم القيامة، قال ولم؟ قال: ليجيزك الصراط يطفر.
علي بن إبراهيم بن هاشم القميذكره ابن النديم، وذكره أبو جعفر في مصنفي الإمامية وقال: له كتب منها: كتاب التفسير، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب المغازي، وكتاب الشرائع، وكتاب الإسناد، وكتاب المناقب، وكتاب أخبار القرآن ورواياته.
علي بن إبراهيم بن محمد بن إسحاقالكاتب، كان من أهل المعرفة، وله كتاب في نسب بني عقيلٍ جوده، صنفه للأمير أبي حسان المقلد بن المسيب بن رافعٍ العبادي في شهر رمضان سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ.
علي بن إبراهيم بن محمد ادهكيهكذا وجدته بخط عبد السلام مكسور الدال، والمحدثون يفتحونها، وهي نسبة إلى قرية من قرى الري يقال لها دهك. ويكنى أبا القاسم، أحد رواة الأخبار وجماعي الأشعار. وجدت بخط عبد السلام البصري كتاب أشعار بني ربيعة الجوع، وقد قرأه عليه، وكان الدهكي قد قرأ علي أبي الفرج علي بن الحسين الأصبهاني كتاب الأغاني، وقعت لنا إجازة متصلة إليه عنه، وهي ما أخبرنا الشيخ ذو النسبتين بين دحية والحسين عليه السلام، أبو الخطاب عمر بن الحسن المعروف بابن دهية المغربي السبتي بمصر سنة اثنتي عشرة وستمائة إجازة قال: أخبرنا شيخي أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة المرزوي قال: أخبرنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث ويعرف بابن الصفار، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن بشيرٍ، عن أبي الوليد هشام بن عبد الرحمن الصابوني، عن أبي القاسم علي بن إبراهيم الدهكي، عن أبي الفرج الأصبهاني، وقد وقعت لنا بهذا الكتاب إجازة أحسن من هذه. وقد كان أبوه أبو الفرج إبراهيم من أعيان الكتا ب من أهل شيراز، وكان صهراً لأبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وزير بختبار.

قال إبراهيم بن هلال الصابيْ: خلع علي أبي الفرج محمد ابن العباس، للوزارة لثلاثٍ خلون من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائةٍ، وسلم إليه أبو الفضل وجميع أصحابه وأسبابه، فاستصفى أموالهم وجد في مطالبة كتابه وأسبابه على ضروبٍ من رفقٍ وعسفٍ حين حصلوا في يده، وتوفي منهم صهر كان لأبي الفضل من أهل شيراز يقال له أبو الفرج إبراهيم بن محمد الدهسكي، وكان أبو الفضل يدعي عليه أنه اعتمد قتله.
علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحرٍ
القطان القزويني أبو الحسن، أديب فاضل ومحث حافظ، لقى المبرد وثعلباً وابن أبي الدنيا. وهو شيخ أي الحسين أحمد بن فارس القزويني وكتبه محشوة بالرواية عنه، وكان يصفه بالدراية. وذكره أبو يعلى الخليل بن أحمد الخليلي في كتاب الإرشاد في طبقات البلاد فقال: أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر الفقيه. عالم بجميع العلوم والتفسير والنحو واللغة والفقه القديم، لم يكن له نظير ديناً وديانةً وعبادةً، سمع أبا حاتم الرازي، ارتحل إليه ثلاث سنين، ومحمد بن الفرج الأزرق، والحارث بن أبي أسامة، والقاسم بن محمد الدلال، وذكر جماعةً ثم قال: وخلقاً من القزوينيين والرازيين والبغداديين والكوفة ومكة وصنعاء اليمن وهمذان وحلوان ونهاوند.
سمع منه من القدماء أبو الحسين النحوي، والزبير بن عبد الواحد الحافظ، ثم عمر حتى أدركه الأحداث، ولد سنة أربعٍ وخمسين ومائتين، ومات سنة خمسٍ وأربعين وثلاثمائةٍ. سمعت جماعةً من شيوخ قزوين يقولون: لم ير ألو الحسين مثله في القضاء والزهد، أدام الصيام ثلاثين سنة، وكان يفطر على الخبز والملح، وفضائله أكثر من أن تعد، وكان له بنون ثلاثة: محمد أبو إبراهيم، والحسن والحسين، سمعوا أبا علي الطوسي والقدماء، وماتوا ولم يبلغوا الرواية، ولأبي إبراهيم ابنان سمعا جدهما ولم يسمع منهما، وبقي له أسباط ليسوا من أهل العلم، وأما الحسن والحسين فقد انقطع نسلهما، وقرأت في أمالي أين فارسٍ: قال: سمعت أبا الحسن القطان بعد ما علت سنه وضعف يقول: كنت حين خرجت إلى الرحلة أحفظ مائة ألف حديثٍ، وأنا اليوم لا أقوم على حفظ مائة حديثٍ. قال: وسمعته يقول: أصبت ببصري وأظن أني عوفيت بكثرة بكاء أمي أيام فراقي لها في طلب الحديث والعلم.
قال ابن فارس: حدثني أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان رحمه الله بقزوين في مسجدهم يوم الأحد منتصف رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائةٍ. وذكر تمام الإسناد.
علي بن إبراهيم الحوفيبن سعيد بن الحوفي، يوسف الحوفي أصله من قرية تسمى شبرا النخلة من حوف بلبيس من الديار المصرية، أخذ عن أبي بكر محمد بن علي الإدفوي صاحب النحاس، وكان نحوياً قارئاً، مات في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين وأربعمائةٍ، وله من التصانيف: كتاب الموضح في النحو وهو كتاب كبير حسن، وكتاب البرهان في تفسير القرآن، بلغني أنه في ثلاثين مجلداً بخط دقيق:
علي بن أحمد العقيقي العلويذكره أبو جعفرٍ الطوسي في مصنفي الإمامية وقال: له من الكتب: كتاب المدينة، كتاب بين المسجدين، كتاب المسجد، كتاب النسب.
علي بن أحمد بن أبي دجانة المصريأبو الحسن الكاتب الوراق جيد الخط كثير الضبط إلا أنه مع ذلك لا يخلو خلطه من السقط وإن قل، وهو من أهل مصر ومقامه ببغداد وبها كتب ونسخ الكثير وجدت بخطه زحر سور الذنب، وقد كتبه ببغداد سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ.
علي بن أحمد الدريدييكى أبا الحسن، ذكره الزبيدي فقال: أصله من فارس، وكان رواق بن دريدٍ وإليه صارت كتب ابن دريدٍ بعد موته. مات - أخلي موضع وفاته - .
علي بن أحمد المهلبي اللغويأبو الحسن، كان إماماً في النحو واللغة ورواية الأخبار وتفسير الأشعار، أخذ عن أبي إسحاق إبراهيم النجيرمي، وأخذ عنه أبو يعقوب يوسف بن يعقوب النجيرمي وابنه بهزاد وخلق كثير. ومات بمصر في سنة خمس وثمانين وثلاثمائةٍ.

وذكر علي بن حمزة البصري النحوي في كتاب الرد على ابن ولادٍ في المقصور والممدود: أن أبا الحسين المهلبي كان لقيطاً، وكان له اختصاص بالمتلقب بالمعز والعزيز المستوليين على الديار المصرية ومن جلساتهما الخواص، وأدرك دولة كافورٍ الإخشيدى، وله مع أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبيء قصة حدث بها أبو جعفر الجرجاني قال: قال أبو الحسن المهلبي النحوي: وقع بيني وبين المتنبيء في قول العدواني،
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة استقوني
وذلك أن المتنبيء قال: إن الناس يغلطون في هذا البيت، والصواب: أشقوني من شقأت رأسه بالمشقاة وهو المشط، قال المهلبي فقلت له: أخطأت في وجوه: أحدها أنه لم يرو كذلك، والآخر أنه يقال: شقأه بالهمزة، وأيضاً فإني أظنك لا تعرف الخبر فيه، وما كانت العرب تقوله في الهامة: إنها إذا لم يثأر بصاحبها لا تزال تقول اسقونى، فإذا تأثروا به سكن كأنه شرب ذلك الدم، قال: وكان المهلبي من جلساء العزيز وخواصه.
علي بن أحمد بن سلكٍ الفالي
بالفاء، وليس بأبي علي القالي بالقاف، ذلك آخر اسمه إسماعيل له ترجمة في بابه، وكنية هذا أبو الحسن يعرف بالمؤدب من أهل بلدة قالة موضع قريب من أيدج، انتقل إلى البصرة فأقام بها مدةً وسمع بها من عمر ابن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقةً له معرفة بالأدب والشعر، ومات فيما ذكره الخطيب في ذي القعدة سنة ثمانٍ وأربعين وأربعمائة ودفن بمقبرةٍ جامع المنصور، وكان يقول الشعر ومنه:
تصدر للتدريس كل مهوسٍ ... بليدٍ يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلسٍ
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاهما وحتى سامها كل مفلس
وكتب عنه الخطيب، قال أبو زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي أنشدنا أبو الحسن الفالي لنفسه:
لما تبدلت المنازل أوجهاً ... غير الذين عهدت من علمائها
ورأيتها محفوفةً بسوى الألى ... كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
وحدث أبو زكرياء التبريزي قال: رأيت نسخة لكتاب الجمهرة لابن دريدٍ باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير من القاضي أبي بكر بن بديلٍ التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسخت أنا منها نسخةً فوجدت في بعض المجلدات رقعةً بخط الفالي فيها:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... فقد طال شوقي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتفارٍ وصبيةٍ ... صغار عليهم تستهل شئوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ ... مقالة مشوي الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من دربس بهن صنين
فأريت القاضي أبا بكر الرقعة والأبيات فتوجع وقال: لو رأيتها قبل هذا لرددتها عليه، وكان الفالي قد مات.
قال المؤلف: والبيت الأخير من هذه الأبيات تضمين قاله أعرابي فيما ذكره الزبير بن بكارٍ عن يوسف بن عياشٍ قال: ابتاع حمزة بن عبد الله بن الزبير جملاً من أعرابي بخمسين ديناراً ثم نقده ثمنه، فجعل الأعرابي ينظر إلى الجمل ويقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ ... كرائم من ربٍ بهن ضنين
فقال له حمزة: خذ جملك والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير، وله أرجوزة في عدد آي القرآن أولها:
قال علي مذ أتى من قاله ... قصيدةً واضحة المقاله
وأنشد السمعاني في المذيل بإسناد له لأبي الحسن الفالي:
فرجت صبياني ببستانكم ... فأكثروا التصفيق والرقصا
فقلت يا صبيان لا تفرحوا ... فبسرهم في نخلهم يحصى
لو قدم الليث على نخلهم ... لكان من ساعته يحصا
لو أن لي من نخلهم بسرةً ... جعلتها في خاتمي فصا
وأنشد أبو القاسم الدمشقي الحافظ بإسناد له لأبي الحسن الفالي:
رمى رمضان شملنا بالتفرق ... فيا ليته عنا تقضي لنلتقي

لئن سر أهل الأرض طراً قدومه ... فإن سروري بانسلاخ الذي بقى
علي بن أحمد بن سيدة اللغوي الأندلسيأبو الحسن الضرير، وكان أبوه أيضاً ضريراً من أهل الأندلس، هكذا قال الحميدي علي بن أحمد وفي كتاب ابن بشكوال علي ابن إسماعيل وفي كتاب القاضي صاعد الجياني علي بن محمدٍ في نسخة، وفي نسخةٍ علي بن إسماعيل فاعتمدنا على ما ذكره الحميدي لأن كتابه أشهر، مات ابن سيدة بالأندلس سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة عن ستين سنة أو نحوها.
قال القاضي الجياني: كان مع إتقانه لعلم الأدب والعربية متوفراً على علوم الحكمة وألف فيها تأليفاتٍ كثيرة ولم يكن في زمنه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بعلومها وكان حافظاً، وله في اللغة مصنفات: منها كتاب المحكم والمحيط الأعظم رتبه على حروف المعجم اثنا عشر مجلداً، وكتاب المخصص مرتب على الأبواب كغريب المصنف، وكتاب شرح إصلاح المنطق، وكتاب الأنيق في شرح الحماسة عشرة أسفارٍ، وكتاب العلام في اللغة على الأجناس في غاية الإيعاب نحو مائة سفرٍ بدأ بالفلك وختم بالذرة، وكتاب العالم والمتعلم على المسألة والواب، وكتاب الوافي في علم أحكام القوافي، وكتاب شاذ اللغة في خمس مجلداتٍ، وكتاب العويص في شرح إصلاح المنطق، وكتاب شرح كتاب الأخفش وعبر ذلك؟ قال الحميدي وابن بشكوال: روى ابن سيدة عن أبيه وعن صاعد بن الحسن البغدادي. قال الطلمنكي: دخلت مرسية فتشبت بي أهلها ليسمعوا عني غريب المصنف فقلت لهم: انظروا من يقأ لكمن وأمسك كتابي، فأتوني برجلٍ أعمى يعرف بابن سيدة، فقرأه علي من أوله إلى آخره من حفظه فعجبت منه.
وقال الحميدى: كان ابن سيدة منقطعاً إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري، ثم حدثت له نبوة بعد وفاته في أيام إقبال الدولة بن الموفق فهرب منه ثم قال يستعطفه:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمني ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا
ضحيت فهل في برد ظلك نومة ... لذي كيدٍ حرى وذي مقلةٍ وسنا
ونضو زمانٍ طلحته ظباته ... فلا غارباً أبقين منه ولا متنا
غريب نأى أهلوه عنه وشفه ... هواهم فأمسى لا يقر ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محلاء ... عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى
تحيفني دهري فأقبلت شاكياً ... أما دون شكواي لغيرك من بعنا؟
فإن تتأكد في دمي لك نية ... بصدقٍ فإني لا أحب له حقنا
إذا ما غدا من حر سيفك بارداً ... فقدماً غداً من برد نعمائكم سخنا
وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ما عمرت من ندمٍ سنا
ومالي من دهري حياة ألذها ... فتعتدها نعمى علي وتمتنا
إذا ميتة أرضتك منا فهاتها ... حبيب إلينا ما رضيت به عنا
وهي طويلة وقع عنه الرضا مع وصولها إليه فرجع.
علي بن أحمد بن سعيد بن حزن بن غالب

ابن صالح بن خلف بن سفيان بن يزيد الفارسي مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمسٍ القرشي الأندلسي الامام العلامة لكني أبا محمدٍ، مات فيما ذكره صاعد بن أحمد الجياني في كتاب أخبار الحكماء في سلخ شعبان سنة ستٍ وخمسين وأربعمائةٍ، قال: وكتب إلي بخط يده: إنه ولد بعد صلاة الصبح من آخر يوم في شهر رمضان سنة ثلاثٍ وثمانين وثلاثمائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة إلا شهراً، قال: وأصل آبائه من قرية منت ليشم من إقليم الزاوية من عمل أونبة من كورة ليلة من غرب الأندلس، وسكن هو وآباؤه قرطبة ونالوا فهيا جاهاً عريضاً، وكان أبو عمروٍ أحمد بن سعيد بن حزم أحد العلماء من وزراء المنصور محمد بن أبي عامرٍ ووزراء ابن المظفر بعده والمدبرين لدولتيهما، وكان ابنه الفقيه أبو محمد وزيراً لعبد الرحمن المستظهر بالله، ابن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لدين الله ثم لهشام المعتد بالله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، ثم نبذ هذه الطريقة وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن، فعنى بعلم المنطق وألف فيه كتاباً سماه كتاب التقريب لحدود المنطق بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف، واستعمل فيه مثلاً فقيهةً وجوامع شرعيةً، وخالف أرسطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بين السقط، وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة حتى نال منها ما لم ينله أحد قط بالأندلس قبله، وصنف فيها مصنفاتٍ كثيرة العدد شرعية المقصد، معظمها في أصول الفقه وفروعه على مذهبه الذي ينتحله، وطريقه الذي يسلكه، وهو مذهب داود بن علي بن خلفٍ الأصبهاني ومن قال بقوله من أهل الطاهر ونفاة القياس والتعليل.
قال: ولقد أخبرني ابنه الفضل المكنى أبا رافع: أن مبلغ تواليفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المعارض نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقةٍ، وهذا شئ ما علمناه لأحد ممن كان في دولة الإسلام قبله، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفاً، فذكر ما ذكرناه في ترجمة ابن جرير من أن أيام حياته حسبت وحسبت تصانيفه، وكان لكل يوم أربع عشرة ورقةً ثم قال: ولأبي محمد بن حزمٍ بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة، وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة.
ذكر أن ابن حزم اجتمع يوماً مع الفقيه أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب الباجي صاحب كتابي المنتقي والاستغناء وغيرهما من التواليف، وجرت بينهما مناظرة فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: تعذرني فإن أكثر مطالعتي كان على سرج الحراس. قال ابن حزمٍ: وتعذرني أيضاً فإن أكثر مطالعتي كانت على منابر الذهب والفضة، أراد أن الغني أضيع لطلب العلم من الفقر.
قرأت بخط أبي بكر محمد بن طرخان بن يلتكين ابن يحكم قال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد ابن العربي الأندلسي: توفي الشيخ الإمام أبو محمدٍ علي ابن أحمد بن سعيد بن حزمٍ بقريته وهي من غرب الأندلس على خليج البحر الأعظم في شهر جمادى الأولى من سنة سبعٍ وخمسين وأربعمائةٍ، والقرية التي له على بعد نصف فرسخ من أونبة يقال لها متلجتم وهي ملكه ومل سلفن من قبله قال: وقال لي أبو محمد بن العربي: إن أبا محمد بن حزم ولد بقرطبة، وجده سعيد ولد بأونبة ثم انتقل إلى قرطبة وولى فيها الوزارة ثم ابنه على الإمام أقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستاً وعشرين سنة وقال: إني بلغت إلى هذا السن وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات قال:

قال لي الوزير أبو محمد بن العربي: أخرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والخلق فيه فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه يعني الذي رباه بإشارةٍ أن قم فصل تحية المسجد فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذه ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟ وكان قد بلغ حينئذٍ ستة وعشرين عاماً قال: فقمت وركعت وفهمت إذاً إشارة الأستاذ إلى بذلك. قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركةً للأحباء من أقرباء الميت، دخلت المسجد فبادرت بالركوع فقيل لي: اجلس اجلس، ليس هذا وقت صلاةٍ، فانصرفت عن الميت وقد خزيت ولحقني ما هانت علي به نفسي وقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون، فدلني فقصدته من ذلك المشهد وأعلمته بما جرى فيه، وسألت الابتداء بقراءة العلم واسترشدته، فدلني على كتاب الموطإ لمالك بن أنس - رضي الله عنه - فبدأت به عليه قراءةً من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوامٍ، وبدأت بالمناظرة قال: وقال لي الوزير الإمام أبو محمد بن العربي: صحبت الشيخ الإمام أبا محمدٍ على بن حزمٍ سبعة أعوامٍ، وسمعت منه جميع مصنفاته حاشا المجلد الأخير من كتاب الفصل وهو يشتمل على ست مجلداتٍ من الأصل الذي قرأنا منه، فيكون الفائت نحوا لسدس، وقرأنا من كتاب الإيصال أربع مجلداتٍ من كتاب الإمام أبي محمد بن حزمٍ في سنة ستٍ وخمسين وأربعمائةٍ، ولم يفتني من تأليفاته شيء سوى مذكراته من الناقص وما لم أقرأه من كتاب الإيصال. وكان عند الإمام أبي محمد بن حزمٍ كتاب الإيصال في أربع وعشرين مجلداً بخط يده، وكان في غاية الإدماج قال: وقال لي الوزير أبو محمد بن العربي: وربما كان للإمام أبي محمد بن حزمٍ شيء من تواليفه ألفه في غير بلده في المدة التي تجول فيها بشرق الأندلس فلم أسمعه، ولي بجميع مصنفاته ومسموعاته إجازة منه مراتٍ عدةً كثيرةً. آخر ما كان بخط اليجمكي - رحمه الله - وأورد له صاحب المطمح أشعاراً منها:
وذي عدلٍ فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أمن حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل؟؟
فقلت له أسرفت في اللوم فاتئد ... فعندي رد لو أشاء طويل
ألم ترى أني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
وأنشد له:
هل الدهر إلا ما عرفنا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرة ساعةٍ ... تولت كمر الطرف واستخلفت حزنا
إلى تبعاتٍ في المعاد وموقفٍ ... نود لديه أننا لم نكن كنا
حصلنا على هم وإثمٍ وحسرةٍ ... وفات الذي كنا نلذ به سنا
حنين لما ولى وشغل بما أنى ... وغم لما يرجى بعيشك لأنها
كأن الذي كنا نسر بكونه ... إذا حققته النفس لفظ بلا معنى
وله:
ولى نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذٍ يبدو التأسف والكرب
هنالك تدرى أن للبعد قصةً ... وأن كساد العلم آفته القرب
وله:
لا تشمتن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حالٍ بمترك
ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميفعةٍ ... وتارةً قد يرى تاجاً على ملك
وله:
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فروحي عندكم دوماً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنىً ... له سأل المعاينة الكليم
ومن شعر أبي محمد بن حزمٍ:
أنا العلق الذي لا عيب فيه ... سوى بلدي وأني غير طارى
تقر لي العراق ومن يليها ... وأهل الأرض إلا أهل داري
طووا حسداً على أدب وفهمٍ ... وعلمٍ ما يشق له غباري
فمهما طار في الآفاق ذكري ... فما سطع الدخان بغير نار

قال أبو مروان بن حيان: كان أبو محمدٍ حامل فنونٍ من حديثٍ وفقهٍ وجدلٍ ونسبٍ وما يتعلق بأذيال الأدب مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة غير أنه لم يخل فيها من غلطٍ وسقط لجراءته على التسور على الفنون ولا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك وضل في شكول المسالك، وخالف أرسطاطا ليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض، ومال أولاً النظر به في الفقه إلى رأي محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - وناضل عن مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه حتى وسم به ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء وعيب بالشذوذ، ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه وثبت عليه إلى أن مضى لسبيله - رحمه الله - وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه على استرسال في طباعه، وبذلٍ بأسراره، واستنادٍ على العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريضٍ ولا برقه بتدريجٍ، بل يصك معارضه صك الجندل، وينشقه متلقمه إنشاق الخردل، فنفر عنه القلوب، وتوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته، فمالوا على بغضه ورد أقواله، فأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عنا الدنو إليه والأخذ عنه، وطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منطقع أثره بتربة بلده من بادية ليلة، وبها توفي - رحمه الله - سنة ستٍ وخمسين وأربعمائةٍ، وهو في ذلك غير مرتدعٍ: ولا راجعٍ إلى ما أرادوا به، يبث علمه فيمن ينتابه من بادية بلده من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدثهم ويفقههم ويدرسهم، ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف، والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعيرٍ، لم تعد أكثرها عتبة باديته لتزهيد الفقهاء طلاب العلم فيها، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية ومزقت علانيةً لا يزيد مؤلفها في ذلك إلا بصيرةً في نشرها، وجدالاً للمعاندة فيها، إلى أن مضى لسبيله، وأكثر معايبه - زعموا - عند المنصف له جهله بسياسة العلم التي هي أوص من إتقانه، ومخلفه عن ذلك على قوة شيخه عمارة، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسلم من اضطراب رايه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال: فيتفجر منه بحر علمٍ لا تكدره الدلاء، ولا يقصر عنه الرشاء، له على كل ما ذكرنا دلائل مائلة، وأخبار مأثورة، وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم بالشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم وانحرافه عن سواهم من قريش حتى نسب إلى التعصب لغيهم. وقد كان من غرائبه انتماؤه في فارس واتباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبةٍ من الدهر تولى فيها أبوه الوزير المعقل في زمانه، الراجح في ميزانه، أحمد بن سعيد بن حزم لبني أمية أولياء نعمه، لا عن صحة ولايةٍ لهم عليه، فقد عهده الناس حامل الأبوة. مولد الأرومة من عجم ليلة، جده الأدنى حديث الإسلام، ولم يتقدم لسلفه نباهة، فأبوه أحمد - على الحقيقة - هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر براس رابيةٍ، وعمده بالخلال الفاضلة من الرجاحة والمعرفة والدهاء والرجولة والرأي، فاغتدى جرثومة سلفٍ لمن نماهم أغنتهم عن الرسوخ في أول السابقة، فما من شرف إلا مسوق عن خارجيةٍ، ولم يكن غلا كلا ولا حي تخطى على هذا رابيةً ليلة، فارتقى قلعةً إصطخر من أرض فارس، فالله أعلم كيف ترقاها، إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالةٍ، بل وصله بها وسع علمٍ وشجته رحم معقومة، بلها بمستأخر الصلة رحمه الله، فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصفته، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة عز وجهه. ولهذا الشيخ أبي محمدٍ مع يهود لعنهم الله ومع غيرهم من أولى المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة، وأخبار مكتوبة، وله مصنفات في ذلك معروفة، من أشهرا في علم الجدل كتابه المسمى كتاب الفصل بين أهل الآراء والنحل، كتاب الصادع والرد على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على من قال بالتقليد، وله كتاب في شرح حديث الموطاٍ والكلام على مسائله، وله كتاب لجامع في صحيح

الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها واجتلاب أكمل ألفاظها وأصح معانيها، وكتاب التلخيص والتخليص في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب ولا الحديث، وكتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف، وكتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها، وكتاب أخلاق النفس، وكتابه الكبير المعروف بالإيصال إلى فهم كتاب الخصال، وكتاب كشف الإلباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس، إلى تواليف غيرها ورسائل في معانٍ شتى كثيرٍ عددها. باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها واجتلاب أكمل ألفاظها وأصح معانيها، وكتاب التلخيص والتخليص في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب ولا الحديث، وكتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف، وكتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها، وكتاب أخلاق النفس، وكتابه الكبير المعروف بالإيصال إلى فهم كتاب الخصال، وكتاب كشف الإلباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس، إلى تواليف غيرها ورسائل في معانٍ شتى كثيرٍ عددها.
ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:
وإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأةً ... فكم دون ما تبغون لله من ستر
وله:
كأنك بالزوار لي قد تبادروا ... وقيل لهم أودى على بن أحمد
فيا رب محزونٍ هناك وضاحكٍ ... وكم أدمعٍ تذرى وخدٍ مخدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعناً ... عن الأهل محمولاً إلى ضيق ملحد
وأترك ما قد كنت معتبطاً به ... والقى الذي آنست منه بمرصد
فوارا حتى إن كان زادي مقدماً ... ويا نصبي إن كنت لم أتزود
وبالبدائع، هذا الخبر على وعورة ما أوضحنا على كثرة الدافنين لها والطامسين لمحاسنها، وعلى ذلك فليس ببدعٍ فيما أضيع منه، فأزهد الناس في عالمٍ أهله وقبله رزئ العلماء بتزهدهم على من يقصر عنهم، والحسد داء ولا دواء له - آخر كلام ابن حيان - ولأبى محمدٍ قصيدة يخاطب بها قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشيرٍ يفخر فيها بالعلم، ويذكر أصناف ما علم يقول فيها:
أنا الشمس في جو السماء منيرةً ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكرى النهب
ولى نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن نزل الرحمن رحلي فيهم ... فحينئذٍ يبدو التأسف والكرب
فكم قائلٍ أغفلته وهو حاضر ... فأطلب ما عنه يجيء به الكتب
هنالك تدرى أن للعبد غصةً ... وأن كساد العلم آفته القرب
فواعجبا من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنو المرء من دارهم ذنب
وإن مكاناً ضاق عنى لضيق ... على أنه فيح مذاهبه سهب
وإن رجالاً ضيعوني لضيع ... وإن زماناً لم أنل خصبه جدب.
ولكن لي في يوسفٍ خير أسوةٍ ... وليس على من بالنبي ائتسي ذنب
يقول مقال الحق والصدق إننى ... حفيظ عليم ما على صادقٍ عتب
وله مثله:
يقول أخي: شجاك رحيل جسمٍ ... وروحك ماله عنا رحيل
فقلت له: المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل
قال الحميدي وأنشدته قول لأبي نواسٍ:
عرضن للذي تحب بحبٍ ... ثم دعه بروضة إبليس
فقال: أنت في طريق التحقيق فقال:
أبن قول وجه الحق في نفس سامعٍ ... ودعه فنور الحق يسرى ويشرق
سيؤنسه رفقاً وينسى نفاره ... كما نسى القيد الموثق مطلق
علي بن أحمد بن محمد الواحدي

أبو الحسن، أصلهم من ساوة، وهم أولاد التجار، وكانا أخوين على هذا وعبد الرحمن، وكل قد روى العلم وحدث. ذكرهما عبد الغافر بن إسماعيل في السياق قال: مات أبو الحسن على الواحدي سنة ثمانٍ وستين وأربعمائةٍ، ومات أخوه عبد الرحمن سنة سبعٍ وثمانين وأربعمائةٍ، كلاهما بنيسابور.
قال عبد الغافر، فأما أبو الحسن فهو الإمام المصنف المفسر النحوي، أستاذ عصره وواحد دهره، أنفق صباه وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول على الأئمة، وطاق على أعلام الأمة، وتتلمذ لأبي الفضل العروضي الأديب، وقرأ النحو على أبي الحسن الضرير القهندزي، وسافر في طلب الفوائد، ولازم مجالس الثعالبي في تحصيل التفسير، وأدرك الرمادي وأكثر عن أصحاب الأصم وأخذ في التصنيف، فجمع كتاب الوجيز، وكتاب الوسيط، وكتاب البسيط، كل في تفسير القرآن المجيد، وأحسن كل الإحسان في البحث والتنقير، وله كتاب أسباب النزول، وكتاب الدعوات والمحصول، وكتاب المغازي، وكتاب شرح المتنبي، وكتاب الإغراب في الإعراب في النحو، وكتاب تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب نفي التحريف عن القرآن الشريف. وقعد للإفادة والتدريس سنين، وتخرج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرءوا عليه وبلغوا محل الإفادة، وعاش سنين ملحوظاً من النظام وأخيه بعين الإعزاز والإكرام، وكان حقيقياً بكل احترامٍ وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرائه على الأئمة المتقدمين، وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بماضيهم، عفا الله عنا وعنه.
قال عبد الغافر: وأجاز لي جميع مسموعاته ذكره الحسن بن المظفر النيسابوري فقال: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري هو الذي قيل فيه:
قد جمع العالم في واحد ... عالمنا المعروف بالواحدي
قال: ومن غرر شعره
أيا قادماً من طوس أهلاً ومرحباً ... بقيت على الأيام ما هبت الصبا
لعمري لئن أحيا قدومك مدنفاً ... بحبك صبا في هواك معذبا
يظل أسير الوجد نهب صبابةٍ ... ويمسي على جمر الغضا متقلبا
فكم زفرةٍ قد هجتها لو زفرتها ... على سد ذي القرنين أمسى مذوبا
وكم لوعة قاسيت يوم تركتني ... ألاحظ منك البدر حين تغيبا
وعاد النهار الطلق أسود مظلماً ... وعاد سنا الإصباح بعدك غيهبا
وأصبح حسن الصبر عنى ظاعناً ... وحدد نحوي البين ناباً ومخلبا
فأقسم لو أبصرت طرفي باكياً ... لشاهدت دمعاً بالدماء مخضبا
مسالك لهوٍ سدها الوجد والجوى ... وروض سرورٍ عاد بعدك مجدبا
فداؤك روحي يا بن أكرم والدٍ ... ويا من فؤادي غير حببه قد أبي
وأنشد له:
تشوهت الدنيا وأبدت عوارها ... وضاقت علي الأرض بالرحب والسعه
وأظلم في عيني ضياء نهارها ... لتوديع من قد بان عنى بأربعة
فؤادي وعيشي والمسرة والكرى ... فإن عاد عاد الكل والأنس والدعه

وقال أبو الحسن الواحدي في مقدمة البسيط: وأظنني لم آل جهداً في إحكام أصول هذا العلم حسب ما يليق بزمننا هذا وتسعة سنو عمري على قلة أعدادها فقد وفق الله وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه وأخذته من معادنه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي رحمه الله، وكان قد حنق التسعين في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروي عنهم كأبي منصورٍ الأزهري، روي عنه كتاب التهذيب وغيره من الكتب، وأدرك أبا العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي، وأبا نصرٍ ظاهر بن محمدٍ الوزيري، وأبا الحسن الرخجي، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة، وسمع أبا العباس الاسم وروي عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكرٍ الخوارزمي على درسه عند غيبته، وله المنصفات الكبار والاستدراكات على الفحول من العلماء باللغة والنحو، وكنت قد لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها، أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين واللغة حتى عابني شيخي - رحمه الله - يوماً وقال: إنك لم تبق ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي تأتيه البعداء من أقصى البلاد وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار، يعني الأستاذ الإمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعبٍ لم أرم في غرض التفسير من كتب، ثم لم أغب زيارته في يومٍ من الأيام حتى حال بيننا قدر الحمام.
وأما النحو فإني لما كنت في ميمة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية وحقائقها، ولعله تفرس في وتوسم الخير لدي، تجرد لتخريجي وصرف وكده إلى تأديبي ولم يدخر عنى شيئاً من مكنون ما عنده حتى استأثرني بأفلاذه، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريباً من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل، وخضني بكتابه الكبير في علل القراءة المرتبة في كتاب الغاية لابن مهران، ثم ورد علينا الشيخ أبو عمران المغربي المالكي وكان واحد دهره وباقعة عصره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعناه شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدةً في مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده، وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي رحمه الله وقرأت عليه القرآن ختماتٍ كثيرةً لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران، ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما وأخذت من كل واحدٍ منهما حظاً وافراً بعون الله وحسن توفيقه، وقرأت على الأستاذ سعيدٍ مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي، الفسوي عنه، وقرأت عليه لفظي كتاب الزجاج بحق روايته عن ابن مقسمٍ عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير، ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله، وكان خير العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء بل يدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بالكشف والبيان عن تفسير القرآن، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار:
فسار مسير الشمس في كل بلدةٍ ... وهب هبوب الريح في البر والبحر

وأصفقت عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقروا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أن منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته ليستدل بها على أنه كان بحراً لا ينزف، وغمراً لا يسبر، وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزءٍ، منها تفسيره الكبير وكتابه المعنون بالكامل في علم القرآن وغيرهما، ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطأتها طال الخطب ومل الناظر، وقد استخرت الله العظيم في جمع كتا بٍ أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه مشتملٍ على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارةً في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضاً في صنعة الأدب والنحو، مهتدياً بطرق الحجاج قارحاً في سلوك المنهاج، فأما الجذع المرخى من المتقبسين، والريض الكز من المبتدئين، فإنه مع هذا الكتاب كمزاولٍ غلقاً ضاع عنه المفتاح، ومتخبطٍ في ظلماء ليلٍ خانه المصباح:
يحاول فتق غيمٍ وهو يأبى ... كعنينٍ يريد نكاح بكر
ثم قال بعد كلامٍ: إن هذا الكتاب عجالة الوقت، وقبسة العجلان، وتذكرة يستصحبها الرجل حيث حل وارتحل، وإن أنسئ الأجل وأرخى الطول، وأنظرني الليل والنهار، حتى يتلفع بالمشيب العذار، أردفته بكتاب أنضجه بنار الروية، وأردده على رواق الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته، ولطائف ما جمعته، وعلى الله المعول في تيسير ما رمت، وله الحمد كلما قعدت أو قمت.
علي بن أحمد الفنجكرديوفنجكرد قرية من قرى نيسابور على حد الدرب، كان أديباً فاضلاً، ذكره الميداني في خطبة كتاب السامي وأثني عليه، ومات سنة اثنتي عشرة وخمسمائةٍ عن ثمانين سنةً، وذكره البيهقي في الوشاح فقال: الإمام علي بن أحمد الفنجكردي الملقب بشيخ الأفاضل أعجوبة زمانه، وآية أقرانه، وشيخ الصناعة، والممتطي غوارب البراعة. وذكره عبد الغفار الفارسي فقال: علي بن أحمد الفنجكردي الأديب البارع صاحب النظم والنثر الجاريين في سلك السلاسة، قرأ اللغة على يعقوب ابن أحمد الأديب وغيره، وأحكمها وتخرج فيها، وأصابته علة لزمته في آخر عمره، ومات بنيسابور في ثالث عشر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمسمائةٍ. قال البيهقي: وأنشدني لنفسه:
زماننا ذا. زمان سوء ... لا خير فيه ولا صلاحا
هل يبصر المبلسون فيه ... لليل أحزانهم صباحا
وكلهم منه في عناءٍ ... طوبى لمن مات فاستراحا
وله:
ولى الشباب بحسنه وبهائه ... وأتى المشيب بنوره وضيائه
الشيب نور للفتى لكنه ... نور مهيب مؤذن بفنائه
فالهج يذكر الله وارض بحكمه ... لا روح للفقراء دون لقائه
وله:
الحكم لله ما للعبد منقلب ... إلا إليه ولا عن حكمه هرب
والمرء ماعاش في الدنيا أخو محن ... تصيبه الحادثات السود والنوب
فإن يساعده في أثنائها فرج ... تسارعت نحوه في إثره كرب
حتى إذا مل من دنياه فاجأه ... في أرضه كان أو في غيرها المطب
علي بن أحمدالنيسابوريبن محمد بن الغزال النيسابوري أبو الحسن، ذكره عيد الفافر في السياق فقال: مات في شعبان سنة ست عشرة وخمسمائةٍ، ووصفه فقال: الإمام المقرئ الزاهد العامل، من وجوه أئمة القراءة المشهورون بخراسان والعراق، العارف بوجوه القراءات واختلاف الروايات، الإمام في النحو وما يتعلق به من العلل، وإليه الفتوى فيه، عهدناه شاباً كثير الإجتهاد مقبلاً على التحصيل، ملازماً لأستاذه أبي نصرٍ الرامشي المقرئ حتى تخرج به، فزاد عليه في الفقه والورع وقصر اليد عن الدنيا، ولزم طريق العبادة وطريق التصوف والزهد، حتى كان يقصد من البلاد ويستفاد منه، وقلما كان يخرج من بيته إلا في الجنائز، ثم اختل بصره في آخر عمره، ثم أصابه مرض طويل فبقي فيه مدة إلى أن سقطت قوته وضعف، وأدركه قضاء الله عديم النظير فمات. وله تصانيف مفيدة في النحو والقراءات، سمع الحفصي وأحمد بن منصور بن خلفٍ المغربي.
علي بن أحمد بن بكري

وقيل علي بن عمر بن عبد الباقي بن بكريٍ، أبو الحسن خازن دار الكتب بالنظامية، مات في ثامن عشرة من شهر رمضان سنة خمسٍ وسبعين وخمسمائة ودفن في الوردية ولم يعقب، وكان من أهل باب الأزج، له معرفة جيدة بالأدب، قرأ النحو على أبي منصور الجواليقي وغيره، وكان فاضلاً عارفاً حسن الأمر مليح الخط جيد الضبط، قد كتب من كتب الأدب الكثير الذي يفوق الحصر.
علي بن بريدأبو دعامة القيسي أبو الحسن، أحد الكبراء من الأدباء الرواة النبلاء، مات - أخلي موضعه - ، ذكره الأمير أبو نصرٍ فقال: وعلي بن بريدٍ أبو دعامة القيسي صاحب أدبٍ وهو بكنيته مشهور، وله أخبار كثيرة، روى عن أبي نواسٍ وأبي العتاهية، روى عنه ابن أبي طاهرٍ وعون بن محمدٍ الكندي وغيرهما.
علي بن بسامأبو الحسن من أهل الأندلس، له كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة - يعني جزيرة الأندلس - في سبعة أسفار.
علي بن ثروان بن الحسن الكنديأبو الحسن، وهو ابن عم تاج الدين أبي اليمن زيد ابن الحسن الكندي شيخنا، ذكره العماد في الخربدة قال: واصله من الخابور قال: ورأيته بدمشق مشهوداً لفضله بالوفور، مشهوراً بالمعرفة بين الجمهور، موثوقاً بقوله، مصبوحاً مغبوقاً من نور الدين بطوله، وكان أديباً فاضلاً أديباً كاملاً، قد أتقن اللغة وقرأ الأدب على أبي منصورٍ الجواليقي وغيره من معاصريه، وله شعر كثير قال: ولم يقع إلى ما أشد يد الانتقاد عليه، ومات بدمشق بعد سنة خمسٍ وستين وخمسمائةٍ. وكتب على بابه هذين البيتين:
حضر الكندي مغناكم فلم ... يركم من بعد كدٍ وتعب
لو رآكم لتجلى همه ... ونثني عنكم بحسن المنقلب
وله من قصيدة:
هنك الدمع بصوب الهتن ... كل ما أضمرت من سرٍ خفي
يا أخلائي على الخيف أما ... تتقون الله في حث المطي
علي بن جعفرٍ الكاتب
أبو الحسن الفارسي الكاتب النحوي الشاعر، قال الحاكم في كتاب نيسابور: وكان من أعيان الأدباء ومن أهل العلم، علقت عنه من كلامه ولم أعرفه بالرؤية سكن نيسابور. قال الحاكم: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: إن الليم إذا لم يصطنع تجنى، كما أنشدونا لعلي بن الجهم:
وخافوا أن يقال لهم خذلتم ... أخاكم فادعوا قدم الجفاء
قال: سمعت أبا الحسن الكاتب يقول: كتب حميد ابن مهران إلى أبي أيوب الهاشمي يستزيره:
أقيك الردى يا قريع الورى ... ومن حل من هاشمٍ في الذرى
ويفديك من وده في المغيب ... إذا امتحن الود واهي القوى
وصالك يعدل صدق الرجاء ... وصفو المدام وطعم الكرى
فقد تاقت النفس من وامقٍ ... إلى أن يراك فماذا ترى؟
علي بن جعفر بن علي السعدييعرف بابن القطاع الصقلي، وكان مقيماً بالقاهرة من مصر، يعلم ولد الأفضل بن أمير الجيوش بدرٍ الجمالي وزير الملقب بالآمر بالله الذي كان بمصر متغلباً، ومات ابن القطاع سنة أربع عشرة وخمسمائةٍ بمصر، ومولده سنة ثلاثٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، وكان إمام وقته ببلده وبمصر في علم العربية وفنون الأدب. قرأ على أبي بكرٍ محمد بن البر الصقلي.
وكان مما روي عنه كتاب الصحاح لإسماعيل بن حمادٍ الجوهري، ومن طريقة اشتهرت رواية هذا الكتاب في جميع الآفاق، ولابن القطاع عدة تصانيف منها: كتاب الجوهرة الخطيرة في شعراء الجزيرة - يعني جزيرة صقلية - اشتملت على مائة وسبعين شاعراً وعشرين ألف بيتٍ شعر، وكتاب الأسماء في اللغة جمع فيه أبنية الأسماء كلها، وكتاب الأفعال هذب فيه أفعال ابن القوطية وأفعال ابن طريفٍ وغيرهما في ثلاث مجلداتٍ، وله حواشٍ على كتاب الصحاح نفيسة وعليها اعتمد أبو محمد بن بري النحوي المصري فيما تكلم عليه من حواشي الصحاح، وكتاب فرائد الشذور وقلائد النحور في الأشعار، وكتاب العروض والقوافي، وكتاب ذكر تاريخ صقلية، وكتاب أبنية الأسماء والأفعال. ولابن القطاع أشعار ليست على قدر علمه ومن أجودها قوله:
إياك أن تدنو من روضةٍ ... بوجنتيه تنبت الوردا
واحذر على نفسك من قربها ... فإن فيها أسداً وردا
ومنه:
ألا إن قلبي قد تضعضع للهجر ... وقلبي من طول الصدود عل الجمر

تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على دمعةٍ تجري
ومنه:
يا رب قافيةٍ بكرٍ نظمت بها ... في الجيد عقداً بدر المجد قد رصفا
يود سامعها لو كان يسمعها ... بكل أعضائه من حسنها شغفا
الجزء الثالث عشر
علي بن الحسن الأحمر صاحب الكسائيقال الجعابي: قال محمد بن يحيى الصولي: الأحمر أبو الحسن على بن الحسن مؤدب الأمين لم يصر إلى أحد قط من التأديب ما صار إليه. وقال محمد بن داوود: الأحمر اسمه على بن المبارك، ومات الأحمر فيما ذكره الصولي عن أحمد بن فرج قال: سمعت أبا سعيد الطوال يقول: مات الأحمر قبل الفراء بمدة، قال: أحسبه سنة أربع وتسعين ومائة، ومات الفراء سنة مائتين وأربع.
وحدث المرزباني قال: روى عبد الله بن جعفر عن علي بن مهدي الكسروي، عن ابن قادم صاحب الكسائي قال: كان الأحمر صاحب الكسائي رجلا من الجند من رجال النوبة على باب الرشيد، وكان يحب علم العربية ولا يقدر على مجالس الكسائي إلا في أيام غير نوبته، وكان يرصد مصير الكسائي إلى الرشيد ويعرض له في طريقه كل يوم، فإذا أقبل تلقاه وأخذ بركابه ثم أخذ بيده ومائاه إلى أن يبلغ الستر، وساءله في طريقه عن المسألة بعد المسألة، فإذا دخل الكسائي رجع إلى مكانه، فإذا خرج الكسائي من الدار تلقاه من الستر وأخذ بيده وماشاه يسائله حتى يركب ويجاوز المضارب ثم ينصرف إلى الباب، فلم يزل كذلك يتعلم المسألة بعد المسألة حتى قوى وتمكن وكان فطناً حريصاً، فلما أصاب الكسائي الوضح في وجهه وبدنه كره الرشيد ملازمته أولاده، فأمر إن يرتاد لهم من ينوب عنه ممن يرتضى به، وقال: إنك كبرت ونحن نحب إن نودعك ولسنا نقطع عنك جاريك، فجعل يدافع بذلك ويتوقى إن يأتيهم برجل فيغلب على موضعه، إلى إن ضيق عليه الأمر وشدد وقيل له: إن لم تأتنا أنت من أصحابك برجل ارتدنا نحن لهم من يصلح، وكان قد بلغه إن سيبوبه يريد الشخوص إلى بغداد والأخفش، فقلق لذلك ثم عزم على إن يدخل إلى أولاد الرشيد من لا يخشى ناحيته ومن ليس ممن اشتد من أصحابه، فقال للأحمر: هل فيك خير؟ قال: نعم، قال: قد عزمت إن أستخلفك على أولاد الرشيد، فقال الأحمر: لعلي لا أفي بما يحتاجون إليه، فقال الكسائي: إنما يحتاجون في كل يوم إلى مسألتين في النحو واثنتين من معاني الشعر وأحرف من اللغة، وأنا ألقنك في كل يوم قبل إن تأتيهم ذلك فتحفظه وتعلمهم، فقال: نعم.
فلما ألحوا عليه قال: قد وجدت من أرضاه، وإنما أخرت ذلك حتى وجدته وأسماه لهم. فقالوا: إنما اخترت لنا رجلاً من رجال النوبة ولم تأت بأحد متقدم في العلم، فقال: ما أعرف أحداً في أصحابي مثله في الفهم والصيانة، ولست أرضى لكم غيره، فأدخل الأحمر إلى الدار وفرش له البيت الذي فيه بفرشٍ حسنٍ، وكان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدباً إلى أولادهم فجلس أول يوم أمروا بعد قيامه بحمل كل ما في المجلس إلى منزله مع ما يوصل به ويوهب له.
فلما أراد الأحمر الانصراف إلى منزله دعى له بحمالين فحمل معه ذلك كله مع بز كثير، فقال الأحمر: والله ما يسع بيتي هذا، ومالنا إلا غرفة ضيقة في بعض الخانات ليس فيها من تحفظه غيري، وإنما يصلح مثل هذا لمن له دار وأهل. وكل شيء وما يشاكله، فأمر بشراء دار له وجارية وحمل على دابة ووهب له غلام وأقيم له جار ولمن عنده، فجعل يختلف إلى الكسائي كل عشية ويتلقن ما يحتاج إليه أولاد الرشيد ويغدو عليهم فيلقنهم، وكان الكسائي يأتيهم في الشهر مرة أو مرتين فيعرضون عليه بحضرة الرشيد ما علمهم الأحمر ويرضاه، فلم يزل الأحمر كذلك حتى صار نحويا وجلت حاله، وعرف بالأدب حتى قدم على سائر أصحاب الكسائي، ولم يكن قبل ذلك له ذكر ولا يعرف.
وحدث محمد بن الجهم السمري قال: كنا إذا أتينا الأحمر تلقانا الخدم فندخل قصراً من قصور الملوك فيه من فرش الشتاء في وقته ما لم يكن مثله إلا دار أمير المؤمنين، ويدفع إلينا دفاتر الكاغد والجلود قد صقلت، والمحابر المخروطة والأقلام والسكاكين ويخرج إلينا وعليه ثياب الملوك ينفخ منها رائحة المسك والبخور فيلقانا بوجه منطلق وبشر حسن حتى ننصرف. ونصير إلى الفراء فيخرج إلينا معبساً قد اشتمل بكسائه فيجلس لنا على بابه ونجلس في التراب بين يديه فيكون أحلى في قلوبنا من الأحمر وجميل فعله.

وحدث سلمة قال: كان الأحمر قد أملى على الناس شواهد النحو، فأراد الفراء إن يتممها فلم يجتمع له أصحاب الكسائي كما اجتمعوا للأحمر، فقطع ولم يعرض له. قال عبد الله بن جعفر: أخبرنا غير واحد عن سلمة ابن عاصم صاحب الفراء قال: كان بين الفراء والأحمر تباعد وجفاء، فحج الأحمر فمات في طريق مكة فقيل للفراء: إن الأحمر قد نعى إلى أهله فاسترجع وتوجع وترحم عليه وجعل يقول: أما والله لقد علمته صدوقاً سخياً ذكياً عالماً ذا مروءة ومودة - رضي الله عنه - فقيل له: أين هذا مما كنت تقول فيه بالأمس؟ قال: والله ما يمنعني ما كان بيني وبينه إن أقول فيه الحق، وما تعديت فيه قط في قول، ولا تحريت فيه إلا الصدق قبل والآن.
وأنشد إسحاق الموصلي قال: أنشدني الأحمر غلام الكسائي لنفسه:
وفتيان صدق عوا للندى ... وفاض السرور بأرض الطرب
وهي أربعة أبيات قال: وقرأت له أيضاً أبياتاً يسيرة ضعيفة.
وقال أبو محمد اليزيدي يهجو الكسائي والأحمر:
أفسد النحو الكسائ ... ي وثنى ابن غزاله
وأرى الأحمر تيساً ... فاعلفوا التيس النخالة
قال ثعلب: كان الأحمر يحفظ الأربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد، وكان مقدما على الفراء في حياة الكسائي، وله من التصانيف: كتاب التصريف، كتاب تفنن البلغاء.
على بن الحسن الهنائيالمعروف بكراع النمل. منسوب إلى هناءة بن مالك ابن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد أبو الحسن اللغوي مات - أخلى موضعه - . وجدت خطه على المنضد من تصنيفه، وقد كتبه في سنة سبع وثلاثمائة. متقدم العصر في أيام ابن در يد، ذكره محمد ابن إسحاق النديم فقال: هو من أهل مصر وكان كوفيا وأخذ عن البصريين ويعرف بالرواسي قبيلة من الأزد، وكتبه مصر موجودة مرغوب فيها. وقال غيره: له من التصانيف: كتاب المنضد أورد فيه لغةً كثيرةً مستعملةً وحوشيةً، ورتبه على حروف ألف ياء تاء ثاء إلى آخر الحروف، ثم اختصره في كتاب المجرد، ثم اختصره في كتاب المنجد. وله كتاب أمثلة الغريب على أوزان الأفعال فيه غريب اللغة، وكتاب المصحف، وكتاب المنظم.
على بن الحسن بن فضيل بن مروانفارسي الأصل، ذكره محمد بن اسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب الأصنام وما كانت العرب والعجم تعبد من دون الله عز وجل.
على بن الحسن بن عبد الرحمن المقرئذكره محمد بن جعفر التميمي المعروف بابن النجار في تاريخ الكوفة فقال: وانتهى تاريخ قراءة عاصم إلى الطبقة الثامنة، وهو على بن الحسن بن عبد الرحمن المقرئ، وكان شيخاً مباركاً تلقن عليه خلق عظيم، وحدثني أبو الحسن بن سعيد قال: كان يحضر مجلسه فوق ألف نفسٍ في كل يومٍ، وكان السبق من العصر يبيت الناس للدرس، وحفظ خلقاً عظيماً القران، وآخر من شاهدنا منهم أبو العباس محمد بن الحسن بن يونس الهذلي، وكان عجيب المنى لفاظاً بالقران متمكناً من اللسان، وقد قرأ بالسبعة من عدة وجوهٍ، وقرأ بالشواذ أبو الحسين بن أبي بلال البندار، وهو ألف قراءة على بن حسن أحسن تأليفٍ وصنفها أتقن تصنيفٍ. ومن رجال على بن الحسن أبو العباس المعروف بابن المزرفي المخزومي الخراز وكان أحد الأبدال الزهاد، وختم عليه خلق عظيم منهم أبو الحسن السمسماني المعدل.
على بن الحسن يلقب بابن الماشطةالكاتب، يكنى أبا الحسن، ذكره محمد بن إسحاق وقال: يلقب بابن الماشطة ظلماً، كان في أيام المقتدر، وله صناعة في الخراج وتقدم في الحساب، وله من التصانيف: كتاب جواب المعنت، كتاب الخراج لطيف كتاب تعليم نقض المؤامرات.
قال المرزباني: أبوالحسن على بن الحسن بن الماشطة الكاتب، أحد الكتاب المتصرفين في أعمال السلطان العالمين بأمور الكتبة والخراج، ورأيته شيخاً كبيراً بعد العشر والثلاثمائة، وجاوز التسعين وقال:
إذا عمر الإنسان تسعين حجةً ... فأبلغ به عمراً وأجدر به شكرا
لأن رسول الله قد قال معلنا: ... إلا أن ربي واعد مثله غفرا
وقال: وكان قد عزل عن عمل كان إليه وحبس:
قالوا حبست فقلت: الحبس لاعجب ... حبس الكرامة لاحبس الجنايات

حبس العمالة بعد العزل عادتنا ... ريث التتبع أو رفع الجماعات
وله:
إذا ضاق صدري بالحديث أفضته ... إلى الأخ والإخوان كي أجد الرشدا
فإن كتموه كان حزماً مؤيداً ... وإن أظهروه لم أخن لهم عهدا
وقلت اشتركنا في الخطايا بذكره ... فألزمته نفسي لأن لها المبدا
قال أبو علي التنوخى: حدثني أبو الحسن على بن هشام: سمعت على بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة، وهو صاحب الكتاب المعروف بجواب المعنت في الكتابة، وعاش حتى بلغ مائة سنةٍ، وكان قد تقلد مكان أبي في أيام حامدٍ لما غلب على بن عيسى على الأمور قال: سمعت الفضل بن مروان وزير المنتصر بالله بن المتوكل وذكر خبراً وقال في موضع آخر: حدثني أبو الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة وكان يتقلد قديماً العمالات ثم صار من شيوخ الكتاب، وتقلد في أيام حامد بن عباس ديوان بيت المال.
على بن الحسن بن محمد بن يحيىيعرف بعلأن المصري، ذكره أبو بكر الزبيدي في كتابه فقال: كان نحوياً من ذوي النظر والتدقيق في المعاني، وكان قليل الحفظ لأصول النحو، فإذا حفظ الأصل تكلم عليه فأحسن وجود في التعليل ودقق القول ماشاء، مات في شوال سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
على بن الحسن بن حبيب اللغويأبو الحسن الصقلي. ذكره ابن القطاع فقال: أحد رجال اللغة المعدودين والعلماء بها المبرزين وممن تناول الرمى البعيد بقرب فهمٍ، وأوضح المبهمات بنور علمٍ، وكان مضطلعاً بنقد الشعر ومعانيه، ناهضاً بأعباء الغريب ومبانيه، فمن شعره قوله:
أهاب الكأس أشربها وإنى ... لأجرأ من أسامة في النزال
أراوغها مراوغة كأني ... ألاقي عند ذاك شبا العوالي
على بن الحسن بن حسولٍ
أبو القاسم، من كلام ابن حسول رقعة كتبها إلى الصاحب بن عباد يسترضيه في شيءٍ وجده عليه: مولانا الصاحب الأجل كافي الكفاة كالبحر يتدفق، والعارض يتألق، فلا عتب على من لايرويه سيب غواديه إن يستشرف للرائحات الرواعد من طوله، فيشيم بوارقها ويستمطر سحابها، والله تعالى يديم احياء الخلق بصوب حيائه، وديم إنوائه المنهلة من فتوق سمائه. وكان غاية مارجاه خادمه وتمناه إن يسلم على بلايا أحدقت به، ومنايا حدقت إليه، وأجل نازل أمله، وسيفٍ صقيلٍ تلمظ له، وحين كفاه مولانا من ذلك ماكفاه آخذاً بيديه، وباسطا جناح رحمته عليه، طالبته نفسه بتوقيعه العالي، ليتوقى به وقائع الليالي. فتصدق أدام الله تمكينه عليه بتوقيعين في مدة أسبوعين أنقذاه مغموراً، وأنشراه مقبوراً، وقد أبطرته الآن النعمة، ونزت به البطنة، وأطمعته في توقيعٍ ثالثٍ، فطمع وأصدر كتابه هذا وأنتظر، فإن رآى مولاى إن يحقق رجاءه ويستغنم دعاءه ودعاء من وراءه فعل إن شاء الله عز وجل، فوقع الصاحب على ظهرها: سيدي أبو القاسم - أيده الله - ، قدم حرمةً، وأتبع عثرةً، وأظهر أنابةً، فاستحق إقالةً، فعاد حقه طرياً كان لم يخلق، وظنه قوياً كان لم يخفق، ولو حضر لأظهرت مبسم الرضا عليه، بما أصرفه من مزيد البسطة إليه، وإذا قد غبت فأنت لي يد حق ولسان صدق، فنب في ذلك مناباً يمحو آثار السخط كان لم تشهد، ويرخص أخبار العتب كان لم تعهد، هذا وأحسب توقيعي كافياً فيما أمله، ومغنياً فيما أناله أمله إن شاء الله عز وجل.
على بن الحسن القهستاني

أبو بكر العميد، أحد من أشرق بنور الآداب شمسه، وتقدم وإن تأخر زمانه بالفضل يومه وأمسه، وسما بفضل أدبه كل أفاضل جنسه، مشهور في أهل خراسان، مذكور معروف بينهم لايجهل قدره، ولايطمس بدره. وكان قد اتصل في أيام السلطان محمود ابن سيكتكين بولده محمد بن محمود في أيام أبيه لما قلده الخوزستان، وكان يميل إلى علوم الأوائل، ويدمن النظر في الفلسفة، فقدح في دينه ومقت لذلك. وكان كريماً جواداً ممدحاً، ولى الولايات الجليلة. وله أشعار فائقة ورسائل رائقة، وكان كثير المزاح، راغبا في اللهو والمراح، له في ذلك خاطر وقاد، وحكايات متداولة. وقد دونت رسائله، وشاعت فضائله، وكان يدمن المزاح حتى في مجلس نظره، وكان يعاتب على ذلك فلا يدعه لغلبة طبعه عليه. وكان قد تولى العرض فجرى يوما بين يديه في مجلس العرض ذكر المعمى فقال: قد كان عندي البارحة جماعة - سماهم - من أهل الأدب، فألقيت عليهم مثالاً يصعب استخراج مثله، فوقفوا فيه وهو:
مليحة القد والأعطاف قد جعلت ... في الحجر طفلا له رأسان في جسد
قد ضيقت منه أنفاس الخناق بلا ... جرمٍ وتضربه ضرباً بلا حرد
فتسمع الصوت منه حين تضربه ... كأنه خارج من ماضغ الأسد
ثم قال: لقد ساءني والله فلان - لرجل أسماه - إذ لم يفهم هذا القدر. فقال له غلام أمرد من أولاد الكتاب كان يتعلم في ديوانه: قد عرفت - أطال الله - بقاء الشيخ العميد هذا المعمى وهو الطبل: فقال له مبادراً كأنه كان قد أعد له ذلك: عهدي بك تستدخل الأعور، فكيف صرت تستخرج الأعمى؟ فخجل الغلام وضحك الحاضرون.
قال ابن عبد الرحيم: وحدثني أبو الفضل قال: بلغني إن القهستاني أنشد مرة بحضرة السلطان محمد بن محمود بيتاً من المعمى فلم يعرفه هو ولاندماؤه وهو:
دقيقة الساق لاعروق لها ... تدوس رزق الورى بهامتها
فقال له محمد: مانفهم هذا ولانعرف شيئاً يشبهه ففسره. قال: هو مغرفة الباقلأني يغرف بها الماء ويهشم برأسها الخبز والثريد وهو رزق الورى، فاستبرده وثقل عليه عدم فهمه له، وهو لعمري مستبرد حقيقةً. قال: وحدثني إن هذا الرجل كان يتميز على أهل خراسان بحسن الأخلاق والسخاء وكثرة المعروف والعطاء، وكان الشعراء يقصدونه دائماً لما اشتهر من سماحته وفائض مروءته، فأنشده بعض الشعراء قصيدةً باردةً غير مرضيةٍ فغفل عنه وأخر صلته، فكتب بيتين في رقعةٍ وسأل الدواتى إن يتركها في دواته، ففعل وكان البيتان:
أبا بكر هجوتك لالطبعي ... فطبعي عن هجاء الناس ناب
ولكني بلوت الطبع فيه ... فإن السيف يبلى في الكلاب

فوقعت بيد العميد بعد أيام، فلما وقف عليها استحسنها وسأل الدواتي عن الرجل فعرفه إياه فأمر بطلبه، فقيل له إنه سافر، فأرسل خلفه من استعاده من عدة فراسخ، فلما دخل إليه قام له وأكرمه وتلقاه بالإجلال وقال: لوكان مديحك كهجائك لقاسمتك نعمتي، فإني ما سمعت بأحسن من هذين البيتين، ووصله وأحسن جائزته، فاستجرأ الناس عليه وقالوا: إنه لايثيب إلا على الهجاء. قال: وكان أبو بكر القهستاني لهجاً بالغلمان شديد الميل إليهم، وكان لمحمد بن محمود سبعمائة غلامٍ في خيله فعلق العميد أحدهم وأحبه حباً مفرطاً ولم يستجرئ أن يبدى ذلك لما فيه من سوء العاقبة، فاتفق أن عاد الغلمان يوماً من بعض التصيدات فلقيهم العميد في صحن الدار فسلموا عليه وقرب ذلك الغلام منه وكان قد عرف ميله إليه فقرص فخذه، وكان محمد مشرفاً عليهم ينظر إلى ذلك، فنزل واستدعى الخدم وأمرهم بضربه فضربوه ضرباً مسرفاً ثم انفذه إلى العميد وقال له: قد وهبناه منك وصفحنا عن ذنبك، فلو لم يساعدك هذا ألفاً جر على ذلك لما أمكنك فعله، ولكن لاتعد إلى مثل هذا، فاستحيا العميد وقال: هذا أعظم من الضرب والأدب وتأخر عن داره حياءً فانفذ محمد واستدعاه وبسطه حتى زال إنقباضه، وكان محمد لا رأى له في الغلمان ولاميل عنده إليهم، وكان لمعرفته بمحبة العميد لهم لا يزال يهب منه واحداً بعد واحدٍ، وشكا الخدم إلى محمدٍ إن بعض الغلمان الدارية يمكن باقي الغلمان من وطئه ولايمتنع عليهم من الغشيان فقال: أيفعل هذا طبعاً أم يستجعل عليه؟ فقالوا: بل يستجعل عليه، فتقدم بإخراجه وإنفاذه إلى العميد وقال: قولوا له هذا بك أشبه لابنا، فخذه مباركاً لك فيه، وقال أبو بكر العميد في الميمندي وزير محمود:
ولقد سئمت من الوزي ... ر ومن ذويه زائدة
وغسلت من معروفهم ... كلتا يدي بواحدة
وضربتهم عرض الجدا ... ر فليس فيهم فائدة
ومن مشهور قوله:
ومعقرب الأصداغ في ... خديه ورد ينتثر
لاعبته بالكعبتي ... ن مسامحاً حتى قمر
فازداد حسناً وجهه ... لما رأى حسن الظفر
فنعرت نعرة عاشق ... قمر القمر قمر القمر
وله:
ومقرطق في صحن غرة وجهه ... متصرف صرف الجمال وتحته
عاقرته أسكرته قبلته ... جدلته فقحته سرحته
وله من أبيات كان يغني بها في حضرة الأمير محمد بن محمود:
قم يا خليلي فاسقني ... كشعاع خدك من شراب
فلقد يمر العيش من ... قرضاً ولامر السحاب
فانعم بعيشك مااستطع ... ت ولاتضع شرخ الشباب
فلكم أضعت من الشبا ... ب ومااستفدى سوى اكتئاب
قال ابن عبد الرحيم: ثم ورد العميد إلى بغداد في أوائل سني نيفٍ وعشرين وأربعمائةٍ، ومدح أمير المؤمنين القادر بالله والأجل عميد الرؤساء أبا طالب بن أيوب كاتبه، ثم خرج من بغداد، وبلغني الآن في سنة إحدى وثلاثين إنه اتصل بالملوك السلجوقية الغز المتملكين على خراسان وخوارزم والجبل، وإنهم عرضوا عليه الخدم الجليلة فاختار منها ما يظن معه سلامة العاقبة والخلاص من التبعة، ومن قصيدته في القادر:
ولم يرني ذو منةٍ غير خالقي ... وغير أمير المؤمنين ببابه
غنينا بلا دنيا عن الخلق كلهم ... وإن ما الغنى إلا عن الشيء لابه
ومما بلغني من شعره:
رأيت عماراً وليتى لم أره ... حاز لتلك الطلعة المنكرة
لاأحمد الله على خلقه ... فلو أراد الحمد ما صوره
وله يهجو ابن كثير العارض:
فلسنا نرجى الخير من ابن واحدٍ ... فكيف نرجيه من ابن كثير
وله فيه:
وطول بلا طولٍ ... وعرض بلا عرض
وهجاه بأبيات تصحف:
مالي وهذا العارض بن كثيرٍ ... شيخ العميد وماله يشناني
وهو الفؤاد بروحه وأحبه ... ويتيه أين رأيته وراني
ويغض من قدري ويخمل جاهداً ... ذكري ويخفي في الجنان جناني
يريد في الخنان خناني.
على بن الحسن بن الوحشي

النحوي الموصلي أبو الفتح. قال السلفي: أنشدني أبو الفرج هبة الله ابن محمد بن المظفر بن الحداد الكاتب بثغر آمد قال: أنشدني ابن الوحشي النحوي لنفسه:
أبكي على الربع قد أقوى كأني من ... سكانه أو كان مازلت أعمره
لاتلحني في بكائيه فساكنه ... لم ألفه هاجري يوماً فأهجره
على بن الحسن السنخيبن علي بن أبي الطيب، الباخرزي السنخي أبو الحسن، - وقال: أبو الحسن البيهقي كنية الباخرزي أبو القاسم وهو الصحيح - . وباخرز من نواحي نيسابور، ذكره العماد الكاتب في الخريدة فقال: وهو الذي صنف كتاب دمية القصر في شعراء العصر، قال: وطالعت هذا الكتاب بأصفهان في دار الكتاب التي لتاج الملك بجامعها، وبعثني ذلك على تأليف كتابي هذا، - يعني كتابه الذي نقلت هذا منه، وسماه خريدة القصر في شعراء العصر - . قال: ومات في سنة سبع وستين وأربعمائة. قال: قتل في مجلس إنس بباخرز وذهب دمه هدراً قال: وكان واحد دهره في فنه، وساحر زمانه في قريحته وذهنه، صاحب الشعر البديع، والمعنى الرفيع، وأثنى عليه قال: ولقد رأيت أبناء العصر بأصفهان مشغوفين بشعره، متيمين بسحره، وورد إلى بغداد مع الوزير الكندري، وأقام بالبصرة برهة ثم شرع في الكتابة معه مدة، واختلف إلى ديوان الرسائل وتنقلت به الأحوال في المراتب والمنازل، وله ديوان كبير ومما أورده في دمية القصر لنفسه:
ولقد جذبت إلى عقرب صدغها ... فوجدتها جرارة مجرورة
وكشفت ليلة جلوة عن ساقها ... فرأيتها ممكارةً ممكورةً
قال: ومما أنشدت من شعره قوله:
زكاة رؤس الناس في عيد فطرهم ... يقول رسول الله صاع من البر
ورأسك أغلى قيمةً فتصدقي ... بفيك علينا فهو صاع من الدر
وقال في عذار غلام يكتب خطاً مليحاً:
وقد قلت لما فاق خط عذاره ... في الحسن خط يمينه المستملحا
من يكتب الخط المليح لغيره ... فلنفسه لاشك يكتب أملحا
وله:
قالوا التحى ومحا الإله حماله ... وكساه ثوب مذلةً ومحاق
كتب الزمان على محاسن خده ... هذا جزاء معذب العشاق
وله:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نجح الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يدعى الطبيب لكثرة الأوصاب
وله:
يروقك بشراً وهو جذلان مثلما ... تخاف شباه وهو غضبان محنق
كذا السيف في أطرافه الموت كامن ... وفي متنه ضوء يروق ورونق
وله:
قالت وقد ساءلت عنها كل من ... لاقيته من حاضرٍ أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي
وقال يصف الشتاء والبرد:
لبس الشتاء من الجليد جلودا ... فالبس فقد برد الزمان برودا
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لأصحاب الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في أرجائها ... تختار حر النار والسفودا
فإذا رميت بسؤر كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرق لنا عوداً وحرك عوداً
ومن غير كتاب الخريدة مما روى له:
إنسان عيني قط ما يرتوى ... من ماء وجه ملحت عينه
كذلك الإنسان مايرتوى ... من شرب ماء ملحت عينه
قال السمعاني: ولما ورد إلى بغداد مدح القائم بأمر الله بقصيدته التي صدرها ديوانه وهي:
عشنا إلى إن رأينا في الهوى عجبا ... كل الشهور وفي الأمثال عش رجبا
أليس من عجبٍ إنى ضحى ارتحلوا ... أوقدت من ماء دمعي في الحشا لهبا
وإن أجفان عيني أمطرت ورقاً ... وإن ساحة خدى أنبتت ذهبا
وإن تلهب برق من جوانبهم ... توقد الشوق في جنبي والتهبا
قال: فاستهجن البغداديون شعره وقالوا: فيه برودة العجم، فأنتقل إلى الكرخ وسكنها وخالط فضلاءها وسوقتها مدةً وتخلق بأخلاقهم، واقتبس من اصطلاحاتهم ثم أنشأ قصيدته التي أولها:

هبت على صباً تكاد تقول ... إني إليك من الحبيب رسول
سكرى تجشمت الربى لتزورني ... من علتي وهبوبها تعليل
فاستحسنوها وقالوا: تغير شعره ورق طبعه، ومن شعره:
حمل العصا للمبتلى ... بالشيب عنوان البلى
وصف المسافر إنه ... ألقى العصا كي ينزلا
فعلى القياس سبيل من ... حمل العصا إن يرحلا
وذكر أبو الحسن بن أبي القاسم زيد البيهقي في كتاب مشارب التجارب، وأخبار الوزير أبي نصر الكندري - وكندر قرية من أعمال طريثيث - قال: كان الشيخ على بن الحسن الباخرزي شريكه في مجلس الإفادة من الإمام الموفق النيسابوري في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، فجاءه الشيخ على بن الحسن فقال مداعباً:
أقبل من كندر مسيخرة ... للنحس في وجهه علامات
يحضر دور الأمير وهو فتىً ... موضع أمثاله الخرابات
فهو جحيم ودبره سعةً ... كجنة عرضها السموات
قال: وكان أول عمل الكندري حجبة الباب ثم تمكن في أيام السلطان طغرلبك وصار وزيرا محكماً تمكن أيام السلطان طغرلبك وصار وزيراً محكماً فورد عليه الشيخ على بن الحسن وهو ببغداد في صدر الوزارة في ديوان السلطان، فلما رآه الوزير قال له: أنت صاحب أقبل؟ فقال له: نعم، فقال الوزير: مرحباً وأهلاً فإني قد تفاءلت بقولك أقبل، ثم خلع عليه قبل إنشاده وقال له: عد غداً وأنشد، فعاد في اليوم الثاني وأنشد هذه القصيدة:
أقوت معاهدهم بشط الوادى ... فبقيت مقتولاً وشط الوادى
وسكرت من خمر الفراق ورقصت ... عيني الدموع على غناء الحادي
ومنها:
في ليلة من هجره شتوية ... ممدودةٍ مخضوبةٍ بمداد
عقمت بميلاد الصباح وإنها ... في الامتداد كليلة الميلاد
ومنها:
غر الأعادي منه رونق بشره ... وأفادهم برداً على الأكباد
هيهات لايخدعهم إيماضه ... فالغيظ تحت تبسم الأساد
فالبهو منه بالبهاء موشح ... والسرح منه مورق الأعواد
وإذا شياطين الضلال تمردوا ... خلاهم قرناء في الأصفاد
فلما فرغ من إنشاد هذه القصيدة قال عميد الملك لأمراء العرب: لنا مثله في العجم، فهل لكم مثله في العرب؟ ثم أمر له بألف دينار مغربية قال: وكان السلطان طغرلبك قد بعث وزيره الكندري وكيلا في العقد على بنت خوارزمشاه فوقع إرجاف ورفع إلى السلطان إن عميد الملك زوجها من نفسه وخان، وكان من أمرهما ماكان، فتغير رأس السلطان عليه فحلق عميد الملك لحيته وجب مذاكيره حتى سلم من سياسة السلطان، فمدحه الشيخ على بن الحسن بهذا النقصان وما سبقه بهذا المعنى أحد حيث قال:
قالوا محا السلطان عنه بعدكم ... سمة الفحول وكان قرماً صائلا
قلت اسكتوا فالآن زاد فحولةً ... لما اغتدى عن إنثييه عاطلا
فالفحل يأنف إن يسمى بعضه ... إنثى لذلك جذه مستأصلا
ولما قتل السلطان البرسلان الوزير أبا نصر الكندري قال الباخرزي يخاطب السلطان:
وعمك أدناه وأعلى محله ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا
قضى كل مولى منكم حق عبده ... فخوله الدنيا وخولته العقبى
قال المؤلف: وهذا المعنى لطيف ومقصد ظريف، فلله در الشعراء وقرائحهم والأدباء ومنائحهم قال البيهقي: ومن العجائب إن الآت تناسل الكندري مدفونة بخوارزم، ودمه مصبوب بمرو الروذ، وجسده مقبور بقرية كندر من طريثيث، وجمجمته ودماغه مدفونان بنيسابور، وشواته محشوة بالتبن وقد نقلت إلى كرمان فدفنت هناك. وقال على بن الحسن الباخرزي في ذلك:
مفترقاً في الأرض أجزاؤه ... بين قرىً شتى وبلدان
جب خوارزم مذاكيره ... طغرلبك ذاك الملك الفاني
ومص مرو الروذ من جيده ... معصفراً يخضبها قاني
فالشخص في كندر مستبطن ... وراء أرما سٍ وأكفان
ورأسه طار ولهفى على ... مجثمه في خير جثمان
خلوا بنيسابور مضمونه ... وقحفه الخالي بكرمان

والحكم للجبار فيما مضى ... وكل يوم هو في شان
وقال في قصيدة له فائقة يمدح فقيها الشريف ذا المجدين أبا القاسم على بن موسى بن إسحاق بن الحسين بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن على ابن أبي طالب عليهم السلام، نقيب الطالبيين بمرو - وفيها ما يدل على إن كنية الباخرزي أبو القاسم - أولها:
حيالك من تحت ذيل الحبى ... شعاع كحاشية المشرفى
ويقول فيها:
وسقت الركائب حتى أنخن ... بسبط الأنامل سبط النبي
على بن موسى مواسى العفاة ... أبي القاسم السيد الموسوى
ومنها:
نماه الفخار إلى جده ... علىٍ فطار بجدٍ على
ولايتأشب عيص السرى ... إذا هو لم يكن ابن السرى
أبا القاسم ياقسيم السخاء ... إذا جف ضرع الغمام الحبى
وفدت إليك مع الوافدين ... وفود البشارة غب النعي
وزارك منى سمي كي ... فراع حقوق السمي الكني
فهذي القصيدة بكر تصل ... على نحرها حصيات الحلي
جعلت هواك جهازاً لها ... فجاءتك مائسةً كالهدى
سحرت بها ألسن السامرين ... ولم أترك السحر للسامري
ولما نشرت أفاويقها ... طوى الناس ديباجة البحتري
وقرأت بخط أبي سعد لأبي القاسم الباخرزي وكناه أبا الحسن:
يا فالق الصبح من لألأ غرته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا
لاغرو إن أحرقت نار الهوى كبدى ... فالنار حق على من يعبد الوثنا
وأنشد له وكناه أبا القاسم:
كتبت وخطى حاش وجهك شاهد ... بان بناني من أذى السقم مرتعش
ونفسي إن تأمر تعش في سلامة ... فأهد لها منك السلام ومرتعش
على بن الحسن بن علي بن صدقةالوزير ابن الوزير أبو الحسن، لم يستقل بالوزراة إنما ناب عن أبيه، وكان أبوه وزير المسترشد، وكان في أبيه كفاية وشهامة، وهو أول من تولى الوزارة من بين صدقة، وكان أبوه يلقب جلال الدولة، وهو يلقب شرف الدولة، ولما مات جلال الدولة دخل الأقفاصى الشاعر الموصلي إلى قبره وقال وهو يبكى:
نزورك في ثوبي خشوعٍ وذلةٍ ... كانك ترجى في الضريح وترهب
ونلثم ترباً من رفيعٍ محجبٍ ... كما يلثم البيت الرفيع المحجب
وترثى بما قد كنت ممتدحاً به ... فيحزننا منك الذي كان يطرب
ومات جلال الدولة في جمادى الآخرة سنة ثلاث و ثلاثين وخمسمائة. وأما شرف الدولة فقال السمعاني في تاريخه: هو غزير الفضل وافر العقل، له معرفة باللغة، حسن الخط مليحه، دين خير مشغول بالعبادة والعزلة، سمع بقراءتي بمكة والمدينة وبغداد على المشايخ، وسمع أبا القاسم الربعي، كتبت عنه وسألته عن مولده فقال: في محرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. قلت أنا وهو الذي بنى الرباط المعروف برباط الدرجة على دجلة بالجانب الغربي، واعتزل فيه مع جماعة من الفقراء وترك الولايات إلى إن مات، وهو صاحب الخط المليح المنسوب على طريقة على بن هلال بن البواب، ومات في سابع صفرٍ سنة أربعٍ وخمسين وخمسمائةٍ.
على بن الحسن بن عنتر بن ثابتالمعروف بشميمٍ الحلى، أبو الحسن النحوي اللغوي الشاعر، مات في ربيع الأخر سنة إحدى وستمائة. أخبرني به العماد بن الحدوس العدل، وبمنزله مات بالموصل عن سن عالية، وهو من أهل الحلة المزيدية. قدم بغداد وبها تأدب، ثم توجه تلقاء الموصل والشام وديار بكر، وأظنه قرأ على أبي نزار ملك النحاة.

قال مؤلف الكتاب: وكنت قد وردت إلى آمد في شهور سنة أربع وأربعين وخمسمائة، فرأيت أهلها مطبقين على وصف هذا الشيخ، فقصدت إلى مسجد الخضر ودخلت عليه فوجدته شيخا كبيراً قضيف الجسم في حجرة من المسجد، وبين يديه جامدان مملوء كتباً من تصانيفه فحسب، فسلمت عليه وجلست بين يديه، فأقبل على وقال: من أين أنت؟ قلت من بغداد: فهش بي وأقبل يسائلني عنها وأخبره، ثم قلت له: إنما جئت لأقتبس من علوم المولى شيئاً، فقال لي: وأي علم تحب؟ قلت له: أحب علوم الأدب. فقال إن تصانيفي في الأدب كثيرة وذلك إن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم وأشعارهم وبوبوها، وأما أنا فكل ماعندي من نتائج أفكاري، وكنت كلما رأيت الناس مجمعين على استحسان كتاب في نوع من الآداب استعملت فكري وأنشأت من جنسه ما أدحض به المتقدم. فمن ذلك إن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته، وأما أنا فعملت حماسةً من أشعاري وبنات أفكاري، - ثم شنع أبا تمام وشتمه - ، ثم رأيت الناس مجمعين على تفضيل أبي نواس في وصف الخمر، فعملت كتاب الخمريات من شعري، لو عاش أبو نواس لاستحيا إن يذكر شعر نفسه لو سمعها، ورأيت الناس مجمعين على تفضيل خطب ابن نباتة فصنفت كتاب الخطب فليس للناس اليوم اشتغال إلا بخطبي، وجعل يزري على المتقدمين ويصف ويجهل الأوائل ويخاطبهم بالكلب، فعجبت منه وقلت له: فأنشدني شيئاً مما قلت، فابتدأ وقرأ على خطبة كتاب الخمريات فعلق بخاطري من الخطبة قوله: ولما رأيت الحكمي قد أبدع ولم يدع لأحد من أتباعه مطمعاً، وسلك في إفشاء سر الخمرة ماسلك، آثرت إن أجعل لها نصيباً من عنايتي مع ما إنني على علم الله لم ألمم لها بلثم ثغر إثمٍ مذ رضعت ثدي أمٍ. أو كما قال. ثم أنشدني من هذا الكتاب:
امزج بمسبوك اللجين ... ذهباً حكته دموع عيني
لما نعى ناعى الفرا ... ق ببين من أهوى وبيني
كانت ولم يقدر لشي ... ء قبلها إيجاب كون
وأحالها التحريم لم ... ا شبهت بدم الحسين
خفقت لنا شمسان من ... لآلائها في الخافقين
وبدت لنا في كأسها ... من لونها في حلتين
فاعجب هداك الله من ... كون اتفاق الضرتين
في ليلة بدأ السرو ... ر بها يطالبنا بدين
ومضى طليق الراح من ... قد كان مغلول اليدين
ذي زينة الأحياء في الد ... نيا وزينة كل زين
فاستحسنت ذلك، فغضب وقال لي: ويلك ماعندك غير الاستحسان؟ قلت له: فما أصنع يا مولانا، فقال لي: تصنع هكذا؟ ثم قام يرقص ويصفق إلى إن تعب ثم جلس وهو يقول: ما أصنع وقد ابتليت ببهائم لا يفرقون بين الدر و البعر، والياقوت والحجر، فاعتذرت إليه وسألته إن ينشدني شيئاً آخر، فقال لي: قد صنفت كتاباً في التجنيس، سميته أنيس الجليس في التجنيس، في مدح صلاح الدين لما رأيت استحسان الناس لقول البستي فأنا أنشدك منه، ثم أنشدني لنفسه:
ليت من طول بالش ... ام نواه وثوى به
جعل العود إلى الزو ... راء من بعض ثوابه
أترى يوطئني الدهر ... ثرى مسك ترابه
وأرى أي نور عيني ... موطئا لي وترى به
ثم أنشدني لنفسه في وصف ساقٍ:
قل لي فدتك النفس قل لي ... مإذا تريد إذاً بقتلي؟
أأدرت خمراً في كؤو ... سك هذه أم سم صل؟
وأنشدني غير ذلك مما ضاع من أصله، ثم سألته عمن تقدم من العلماء، فلم يحسن الثناء على أحد منهم، فلما ذكرت له المعرى نهرني وقال لي: ويلك كم تسيء الأدب بين يدي، من ذلك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في مجلسي؟ فقلت: يا مولانا ما أراك ترضى عن أحد ممن تقدم.

فقال: كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني؟ قلت: فما فيهم قط أحد بما يرضيك؟ فقال: لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في خطبه، وابن الحريري في مقاما ته فهؤلاء لم يقصروا. قلت له: يا مولانا قد عجبت إذ لم تصنف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي: يابني اعلم إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل. عملت مقاماتٍ مرتين فلم ترضى فغسلتها، وما أعلم إن الله خلقني إلا لأظهر فضل ابن الحريري، ثم سطح في الكلام وقال: ليس في الوجود إلا خالقان: فأحد في السماء وأحد في الأرض، فالذي في السماء هو الله، والذي في الأرض أنا، ثم التفت إلي وقال: هذا كلام لا يحتمله العامة لكونهم لا يفهمونه، أنا لا أقدر على خلق شيء إلا خلق الكلام فأنا أخلقه، ثم ذكر اشتقاق هذه اللفظة، فقلت له: أيا مولانا؟ أنا رجل محدث وإن لم تكن في المحدث جراءة مات بغصته، وأحب أن أسأل مولانا عن شيءٍ إن أذن، فتبسم وقال: ما أراك تسأل إلا عن معضلة هات ما عندك. قلت: لم سميت بالشميمم؟ فشتمني ثم ضحك وقال: اعلم إنني بقيت مدة من عمري - ذكرها هو ونستيها أنا - لا آكل في تلك المدة إلا الطيب فحسب قصداً لتنشيف الرطوبة وحدة الحفظ، وكنت أبقى أياما لايجيئني الغائط، فإذا جاء كان شبه البندقة من الطين وكنت آخذه وأقول لمن انبسط إليه شمه فإنه لا رائحة له، فكثر ذلك حتى لقبت به، أرضيت يا بن الفاعلة.
هذا آخر ما جرى بيني وبينه، ثم أنشدت له من حماسته:
لا تسرحن الطرف في بقر المها ... فمصارع الآجال في الآجال
كم نظرةٍ أردت وما أخذت يد ال ... مصمى لمن قتلت أداة قتال
سنحت وما سمحت بتسليم واق ... لال التحية فعلة المغتال
أضللت قلبي عندهن ورحت إن ... شده بذات الضال ضل ضلالي
ألوى بألوية العقيق على الطلو ... ل مسائلا من لا يجيب سؤالي
تربت يدي في مقصدي من لايدي ... قودي وأولى لي بها أولى لي
يا قاتل الله الدمى كم من دم ... أجرين حلا كان غير حلال
أشلين ذل اليتم في الأشبال ... وفتكن بالأجساد في الأغيال
ونفرن حين نكرن إقبالي ولو ... إني نفرت لكان من إقبالي
لكن أبي رعى ذمام الحب إن ... أولى الوفاء قطيعةً من قالى
وأنشدني تقي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي محمد المعروف بابن الحجاج، وأبو محمد هو الحجاج من شرقي واسط قال: أنشدني أبو الحسن على بن عنتر ابن ثابت الحلوى المعروف بشميم وقد قلت: لا أراك تذم أحداً من أهل العصر فقال لي: ليس لأحدٍ منهم عندي قيمة، فإنه لا يصلح للذم إلا من يصلح للمدح، أما سمعت قولي في الحماسة:
أصخ إنما مدح الفتى وهجاؤه ... لدى الطبن النقريس ذا توءم لذا
فحيث أنتوى ملقى المديح عصا الثوى ... تراح بها من أينها قلص الهجا
ومن ليس أهلاً للمديح ولا الهجا ... فعيناه في عين الرضا ظلمة العمى
ويزرى بضرغام الغريف زئيره ... على ذبخ عنوٍ هر أو أغضفٍ عوى
وأنشدني أيضا له:
قالوا نراك بكل فنٍ عالماً ... فعلام حظك من دناك خسيس؟
فأجبتهم لاتعجبوا وتفهموا ... كم ذاد نهزة ليث خيسٍ خيس
حدثني ابن الحجاج تقي الدين قال: اجتمع جماعة من التجار الواسطيين بالموصل على زيارة شميم وتوافقوا على ألا يتكلموا بين يديه خوفاً من زلل يكون منهم، فلما حصلوا بين يديه قال أحدهم: أدام الله أيامك فالتفت إلي وقال: إيش هؤلاء؟ فإني أرى عمائم كباراً ظننتها على آدميين فسكتوا، فلما قاموا قال له آخر منهم: يا سيدي ادع لنا بشمل الجميع، فغضب وقال: إيش هؤلاء وكيف خلقهم الله؟ ثم حلف بخالقه وقال: لو قدرت على خلقه مثل هؤلاء إنفث من خلق مثلهم. قال المؤلف:

حدثني محمد بن حامد بن محمد بن جبريل بن محمد بن منعة بن مالك الموصلي الفقيه فخر الدين بمرو في سنة خمس عشرة وستمائة، في ربيع الأول منها قال: لما ورد شميم الحلي إلى الموصل بلغني فضله فقصدته لأقتبس من علومه، فدخلت عليه فجرى أمري على ماهو معروف به من قلة الاحتفال بكل أحدٍ، وجرت خطوب ومذاكرات إلى إن قال: ومن العجائب استحسان الناس قول عمرو بن كلثوم:
مشعشعة كان الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها خرينا
- كذا قال تهكماً - إلا قال كما قلت:
وسالت نطاف الراح في الراح فاغتدى الس ... سماح إلى راحاتنا فسخينا
ثم أخرج رقعة من تحت مصلاه وقال لي: ما معنى قولي: قلب شطر أعاديك حظ من كفر أياديك؟ فقلت: أكتبها وأفسرها؟ فقال: اكتب، فكتبتها وقلت نعم: شطر أعاديك: ديك وقلبه: كيد، أردت إن الكيد حظ من كفر أياديك، فقال: أحسنت، وكان ذلك سبب إقباله على بعد ما تقدم من إهماله إياي، وأنشدني أبو حامد المذكور قال: أنشدني أبو الحسن على بن الحسن بن عنتر الحلي لنفسه:
أقيلي عثرة الشاكي أقيلي ... فسولى في سماع نثا رسولى
وإن لم تأذني بفكاك أسري ... فدليني على صبر جميل
حدثني الأمدي الفقيه قال: بلغني إنه لما قدم الحلي إلى الموصل إنثال إليه الناس يزورونه، وأراد نقيب الموصل - وهو ذو الجلالة المشهورة بحيث لا يخفى أمره على أحد - زيارته فقيل له: إنه لا يعبأ بأحد ولا يقوم من مجلسه لزائر أبداً، فجاءه رجل وعرفه ما يجب من احترام النقيب لحسبه ونسبه وعلو منزلته من الملوك، فلم يرد جواباً، وجاءه النقيب ودخل وجرى على عادته من ترك الاحتفال له ولم يقم عن مجلسه، فجلس النقيب ساعةً ثم انصرف مغضباً، فعاتبه ذلك الرجل الذي كان أشار عليه بإكرامه، فلم يرد عليه جواباً، فلما كان من الغد جاءه وفي يد الحلي كسرة خبزٍ يابسةٍ وهو يعض من جنبها ويأكل، فلما دخل الرجل عليه قال له: بسم الله، فقال له: وأي شيء هاهنا حتى آكل؟ فقال له: يا رقيع من يقنع من الدنيا بهذه الكسرة اليابسة لأي معنىً يذل للناس مع غناه عنهم واحتياجهم إليه.
حدثني الفقيه قال: بلغني إن الحلي قدم إلى أسعرت فتسامع به أهلها فقصدوه من كل فجٍ، وكان فيهم رجل شاعر فأنشده الرجل شعراً استجاده الحلي فقال لقائله: إني أرفع هذا الشعر عن طبقتك، فإن كنت في دعواك صادقاً فقل في معناه الآن شيئاً آخر، ففكر ساعة فقال:
وماكل وقت فيه يسمح خاطري ... بنظم قريض يقتضي لفظه معنى
ولم يبح الشرع المبين تيمماً ... بترب وبحر الأرض في ساحةٍ معنا
فقال له الحلي: ويحك اسجد، ويلك اسجد، فإن هذا موضع من مواضع سجدات الشعر، وأنا أعرف الناس بها. ومما سمعته من قلق فيه وهو من إنشاء خطبة له وهي:

الحمد لله فالق قمم حب الحصيد بحسام السحب، صابغ خد الأرض بقاني رشيق يانع العشب، نافخ روح الحياة في صور تصاويرها بسائح القراح العذب، يحي ميت الأرض بإماتة كالح الجدب، لابتسام ثغر نسيم إنفاح الخصب، محيل جسم طبيعة الماء المبارك في أشكال الحب والعنب والزيتون والقضب، جاعلة للأنام والأنعام، ذات الحمل والحلب، محلى جيد الآفلاك بقلائد دراري النجوم الشهب، ومجلى جند الأملاك عن مباشرة التصرف والكسب، وللقيام بالواجب وأصل التسبيح والتقديس للرب، قابل التوبة من المذنب المنيب وغافر الذنب، الواحد المنفرد بوحدانيته عن ملاءمة قسمة أعداد الحساب والضرب، المستغنى بصمديته عن مسيس الحاجى إلى دواعي الأكل والشرب، الشاهد على خلقه بما يفيضون فيه لألا تصاف بعد ولاقرب، المهيمن على سر اجتراح كل جارحة وخاطر خاطر وتقلب قلبٍ، أحمده على مامنح من موضح بيان بما ألب في سويداء لبٍ، وأشكره على ماجلا من مظلم ظلم جهل، وكشف من كثيف ركام كرب، وأشهد إن لاإله الأ الله وحده لاشريك له شهادةً سالمةً من شوائب النفاق والخب، مؤمنةً قائلها يوم الفزع الأكبر من إيحاش الرهب والرعب، وأشهد إن محمدا عبده المحبو بعقد حبا، خاتم الأنبياء من جميع أصحاب الصحف والكتب، وصفية المنتخب لنصر الدين وإقامة دعوى الإسلام بالبيض القضب والجرد القب والأسد الغلب. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سنحت الغزالة بأفق شرقٍ وحجبت بغارب غربٍ، صلاة بفتى تكرارعديدها صم الحصا الصلب، ويبيد أربد الترب. عباد الله: من اختلف عليه الأباد باد، ومن تمكنت يد المنون من عنقه إنقاد، ومن تزود التقوى استفاد خير الزاد، ومن بدأ ببره وعاد للمعاد فاز بالأحماد، (يوم تجد كل نفس ماعملت من خيرٍ محضراً، وما عملت من سوء تود لو إن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد). اللهم نول آمالنا مناها، وكفل أعمالنا تقاها، وخول أطماعنا رضاها، ولاتشرب قلوبنا هوى دنياها، فإن المعاطب في حبها، وشين المعايب مزرٍ بها، فلا تجعل اللهم مهامنا فيها المنى، وآمنا بأمننا من كيد أمنا الدنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، استغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ولوالدي ولمن علمني
أسماء تصانيف الشيخ علي بن الحسن الشميم الحليكتاب النكت المعجمات في شرح المقامات، وكتاب أرى المشتارفي القريض المختار، وكتاب الحماسة من نظمه مجلد، وكتاب مناح المنى في إيضاح الكنى أربع كراريس، وكتاب درة التأميل في عيون المجالس والفصول مجلدان، وكتاب نتائج الإخلاص في الخطب مجلد، وكتاب إنس الجليس في التجليس مجلد، وكتاب أنواع الرقاع في الأسجاع، وكتاب التعازي في المزاري مجلد، وكتاب خطبٍ نسق حروف المعجم كراسان، وكتاب الأماني في التهاني مجلد، وكتاب المفاتيح في الوعظ كراسان، وكتاب معاياة العقل في معاناة النقل مجلد، وكتاب الإشارات المعرية مجلد، وكتاب المرتجلات في المسجلات أربع كراريس، وكتاب المخترع في شرح اللمع مجلد، وكتاب المحتسب في شرح الخطب مجلد، وكتاب المهتصر في شرح المختصر مجلد، وكتاب التحميض في التغميض كراسان، وكتاب بداية الفكر في بدائع النظمم والنثر مجلدان، وكتاب خلق الآدمي كراسان، وكتاب رسائل لزوم مالا يلزم كراسان، وكتاب اللزوم مجلدان، وكتاب لهنة الضيف المصحر في الليل المسحر كراسان، وكتاب متنزه القلوب في التصحيف كراس، وكتاب المنائح في المدائح مجلدان، وكتاب نزهة الراح في صفات الأفراح كراسان، كتاب الخطب المستضيئة، كتاب حرز النافث من عيث العائث، كتاب الخطب الناصرية، كتاب الركوبات مجلدان، كتاب شعر الصبي مجلد، كتاب إلقام الألحام في تفسير الأحلام، كتاب سمط الملك المفضل في مدح المليك الأفضل، كتاب مناقب الحكم في مثالب الأمم مجلدان، كتاب اللماسة في شرح الحماسة، كتاب الفصول الموكبية يشتمل على أربعين فصلاً، وكتاب مجتنى ريحانة الهم في استئناف المدح والذم، كتاب المناجاة.
علي بن الحسن بن عساكر،
الحافظ الدمشقي نقلت من جزء عمله ولده أبو محمد القاسم بن علي في أخبار والده فقال:

هو أبو القاسم على بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله ابن الحسين، أبو القاسم بن أبي محمد بن أبي الحسن بن أبي محمد بن أبي على الشافعي الحافظ، أحد أئمة الحديث المشهورين والعلماء المذكورين، ولد في المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، ومات في الحادي عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وقد بلغ من السن اثنتين وسبعين سنةً وستة أشهرٍ وعشرة أيامٍ، وحضر جنازته بالميدان والصلاة عليه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - .
قال العماد: وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة فدر وسح عند ارتفاع نعشه، فكان السماء بكت عليه بدمع وبله وطشة. وسمعه أخوه سنة خمس وخمسمائة، وسمع هو بنفسه من والداه وأبي محمد الأكفاني وذكر خلقاً من شيوخ دمشق، ورحل إلى العراق في سنة عشرين وخمسمائة، وأقام بها خمس سنين، وسمع ببغداد من أبي القاسم بن الحصين وغيره، وحج في سنة إحدى وعشرين، وسمع بمكة ومنىً والمدينة وبالكوفة وأصبهان القديمة واليهودية ومرو الشاهجان ونيسابور وهراة وسرخس وأبيورد وبطان والري وزنجان، وذكر بلاداً كثيرةً يطول على ذكرها من العراق وخراسان والجزيرة والشام والحجاز. قال: وعدة شيوخه ألف وثلاثمائة شيخٍ، ومن النساء بضع وثمانون امرأةً، وحدث ببغداد ومكة ونيسابور وأصبهان وسمع منه جماعة من الحفاظ ممن هو أسن منه.
وروى عنه أبو سعد بن السمعاني فأكثر، وروى هو عنه.

ولما دخل بغداد سمع الدرس بالنظامية مدة مقامه بها، وعلق مسائل الخلاف على الشيخ أبي سعد اسماعيل بن أبي صالح الكرماني، وأنتفع بصحبة جده أبي الفضل في النحو والعربية، وجمع وصنف، فمن ذلك: كتاب تاريخ مدينة دمشق وأخبارها وأخبار من حلها، أوردها في خمسمائة وسبعين جزءا كم تجزئة الأصل، والنسخة الجديدة ثمانمائة جزءٍ، كتاب الموافقات على شيوخ الأئمة الثقات اثنان وسبعون جزءاً، كتاب الأشراف على معرفة الأطراف ثمانية وأربعون جزءا، كتاب تهذيب المتلمس من عوالي مالك ابن إنس أحد وثلاثون جزءاً، كتاب التالي لحديث مالك العالي تسعة عشر جزءاً، كتاب مجموع الرغائب مما وقع من أحاديث مالك الغرائب عشرة أجزاءٍ، كتاب المعجم لمن سمع منه أو أجاز له اثنا عشر جزءاً، كتاب من سمع منه من النسوان جزء واحد، كتاب معجم أسماء القرى والأمصار التي سمع بها جزء واحد، كتاب مناقب الشبان خمسة عشر جزءاً، كتاب فضل أصحاب الحديث أحد عشر جزءاً، كتاب تبيين كذب المفتري على الأشعري عشرة أجزاء، كتاب المسلسلات عشرة أجزاءٍ، كتاب تشريف يوم الجمعة سبعة أجزاءٍ، كتاب المستفيد في الأحاديث السباعية الأسانيد أربعة أجزاءٍ، كتاب السداسيات جزء واحد، كتاب الأحاديث الخماسيات وأخبار أبي الدنيا جزء واحد، كتاب تقوية المنة على إنشاء دار السنة ثلاثة أجزاءٍ، كتاب الأحاديث المتخيرة في فضائل العشرة، كتاب من وافقت كنيته كنية زوجته أربعة أجزاءٍ، كتاب الأربعين الطوال ثلاثة أجزاءٍ، كتاب أربعين حديثاً عن أربعين شيخا من أربعين مدينةً جزءان، كتاب الأربعين في الجهاد جزء واحد، كتاب الجواهر واللإلئ في الأبدال العوالي ثلاثة أجزاء: كتاب فضل عاشوراء والمحرم ثلاثة أجزاء، كتاب الاعتزاز بالهجرة جزء واحد، كتاب المقالة الفاضحة للرسالة الواضحة جزء واحد، كتاب رفع التخليط عن حديث الأطيط جزء واحد، كتاب الجواب المبسوط لمن ذكر حديث الهبوط جزء واحد، كتاب القول في جملة الأسانيد في حديث المؤيد ثلاثة أجزاء، كتاب طرق حديث عبد الله بن عمر جزء، كتاب من لا يكون مؤتمناً لا يكون مؤذناً جزء واحد، كتاب ذكر البيان عن فضل كتابة القران جزء واحد، كتاب دفع التثريب على من فسر معنى التثويب جزء، كتاب فضل الكرم على أهل الحرم جزء واحد، كتاب الإقتداء بالصادق في حفر الخندق جزء واحد، كتاب الإنذار بحدوث الزلازل ثلاثة أجزاء، كتاب ثواب الصبر على المصاب بالولد جزان، كتاب معنى قول عثمان: ما تعنيت ولا تمنيت جزء، كتاب مسلسل العيدين جزء واحد، كتاب حلول المحنة بحصول الابنة جزء واحد، كتاب ترتيب الصحابة في مسند أحمد جزء واحد، كتاب ترتيب الصحابة في مسند أبي يعلى جزء، كتاب معجم الشيوخ النبلاء جزء واحد، كتاب أخبار أبي عمر الأوزاعي وفضائله جزء، كتاب ما وقع للأوزاعي من العوالي جزء، كتاب أخبار أبي محمد سعد بن عبد العزيز وعواليه جزء، كتاب عوالي حديث سفيان الثوري وخبره أربعة أجزاء، كتاب إجابة السؤال في أحاديث شعبة جزء واحد، كتاب روايات ساكني داريا ستة أجزاءٍ، كتاب من نزل المزه وحدث بها جزء واحد، كتاب أحاديث جماعة من كفر سوسيه جزء واحد، كتاب أحاديث صنعاء الشام جزءان، كتاب أحاديث أبي الأشعث الصنعاني ثلاثة أجزاء، كتاب أحاديث حنش والمطعم وحفص الصنعانيين جزء، وكتاب فضل الربوة والنيرب ومن حدث بها جزء، كتاب حديث أهل قرية الحمريين وقبيبات جزء واحد، كتاب حديث أهل فذايا وبيت أرانس وبيت قوفا جزء، كتاب حديث أهل قرية البلاط جزء، كتاب حديث سلمة أبن على الحسني البلاطي جزءان ومن حديث يسرة بن صفوان وابنه وابن ابنه جزء واحد، ومن حديث سعد ابن عبادة جزء، ومن حديث أهل رندين وجبرين جزء واحد. ومن حديث أهل بيت سواى جزء، ومن حديث رومة ومسرابا والقصر جزء، ومن حديث جماعة من أهل حرستا جزء، ومن حديث أهل كفر بطنا جزء، ومن حديث أهل دقانية وجخراء وعين توما وجديا وطرميس جزء واحد، ومن حديث جماعة من أهل جوبر جزء واحد، ومن حديث جماعة من أهل بيت لهيا جزء واحد، ومن حديث يحيى بن حمزة البتلهى وعواليه جزء، ومجموع من حديث محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي البتهلي جزءان، وفضائل مقام إبراهيم، ومن حديث أهل برزة جزء، ومن حديث أبي بكر بن محمد بن رزق الله المنيني المقرئ جزء، ومجموع من أحاديث جماعة أهل بعلبك جزءان. قال:

وأملي رحمه الله أربعمائة مجلس وثمانية مجالس في فن واحد، وخرج لشيخه أبي غالب بن البنائي أحد عشر مشيخةً، ومشيخةً لشيخه أبي المعالي عبد الله بن أحمد الحلواني الأصولي جزأين، وخرج أربعين حديثاً مساواة الإمام أبي عبد الله القراوي في جزءٍ، ومصافحةً لأبي سعدٍ السمعاني وأربعين حديثاً في جزءٍ، وخرج لشيخه الإمام أبي الحسن السلمي سبعة مجالس وتكلم عليها، وآخر ماصنعه جزء في تكميل الأنصاف والعدل بتعجيل الإسعاف بالعزل، وكتاب فيه ذكر ما وجدت في سماعٍ مما يلتحق بالجزء الرباعي. ووجدت في أصوله علاماتٍ له على مصنفاتٍ عدةٍ منها: كتاب الإبدال ولو تم كان مقداره مائتي جزءٍ أو أكثر، وكتاب فضل الجهاد، ومسند مكحول وأبي حنيفة. وكتاب فضل مكة. وكتاب فضل المدينة. وكتاب فضل البيت المقدس. وكتاب فضل قريشٍ وأهل البيت والأنصار والأشعريين وذم الرافضة. وكتاب كبير في الصفات وأشياء غير ذلك تبلغ عدتها أربعين مصنفاً. ولما أملى رحمه الله في فضائل الصديق رضي الله عنه سبعة مجالس ثم قطعها بإملاء مجالس في ذم اليهود وتخليدهم في النار، جاء إليه صديقنا أبو علي بن رواحة وقال له: رأيت الصديق في النوم وهو راكب على راحلة فقلت: يا خليفة رسول الله قد أملى علينا الحافظ أبو القاسم سبعة مجالس في فضائلك، فأشار إلي بأصابعه الأربع، فقال له والدي: قد بقي عندي مما خرجت ولم أمله أربعة مجالس فأملاها، ثم أملى في كل واحدٍ من الخلفاء أحد عشر مجلساً، وكان رحمه الله مواظباً على صلاة الجمعة ملازماً لقراءة القران، وكان يختم في رمضان والعشر كل يوم ختمة، ولم ير الأ في الاشتغال بعلمٍ وعبادةٍ يحاسب نفسه على كل لحظة، وكنت أسمع والدي يحكي إن أباه رأى في منامه رؤيا ووالدي حمل إنه يولد لك مولود يحيى الله به السنة، ولما قدم إلى بغداد أعجب به البغداديون وقالوا: قدم علينا من دمشق ثلاثة ما رأينا مثلهم: الشيخ يوسف الدمشقي، والصائن أبو الحسين هبة الله بن الحسن، وأخوه أبو القاسم. وحدثني أبي رحمة الله قال: كنت يوما أقرأ على شيخنا أبي الفتح المختار بن عبد الحميد وهو يتحدث مع جماعة بالعجمية فقال: قدم علينا الوزير أبو علي فقلنا: ما رأينا مثله، ثم قدم علينا أبو سعد بن السمعاني فقلنا: ما رأينا مثله، حتى قدم علينا هذا فلم نر مثله، وقال لنا صاحبه الحافظ أبو المواهب الحسن بن هبة الله بن صصري قال: الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد المقري الأديب اللغوي إمام همذان وتلك الديار غير مدافعٍ، أنا أعلم إنه لايساجل الحافظ أبا القاسم في شانه أحد، فلو خالط الناس وما زجهم كما أصنع إذاً لاجتمع عليه المخالف والمؤالف، وقال لي يوماً آخر: أي شيءٍ فتح له؟ وكيف بر الناس له؟ فقلت: هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنةً إلا بالجمع والتصنيف والمطالعة والتسميع حتى في نزهه وخلواته. فقال: الحمد لله، هذا ثمرة العلم، إلا أنا قد فتح لنا مما حصلنا به الدار والكتب وبناء المسجد ما يقرب من اثني عشر ألف دينار، وهذا يدل على قلة حظوظ العلماء في بلادكم. ثم قال لي: ما كنا نسمي الشيخ أبا القاسم ببغداد الأ شعلة نار من توقده وذكائه وحسن إدراكه. قال: وقال لي والدي لم أر بدمشق أفهم للحديث من أبي محمد بن الأكفاني، ولا ببغداد مثل أبي الفضل محمد بن ناصر وأبي عامر العبدري، وكان العبدري أحفظهما، ولم أر بخراسان مثل أبي القاسم الشحامى، ولابأصفهان مثل أبي القاسم التيمى الحافظ، وأبي نصر البوياري فقلت له: ما أخالك إلا أفضل منهما، فسكت، هذا آخر ما نقلت من هذا الجزء الذي ألفه ابنه وتركت منه ما اختصرته. وكان الحافظ أبو القاسم بن عساكر يقول شعراً ليس بالقوى، وسمعه تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي النحوي اللغوي فقال. هذا شعر أضاع فيه صاحبه شيطانه ، فقال السعماني في المذيل: وأنشدني الحافظ أبو القاسم بالمزة من أرض دمشق:
أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا الغزل
تولى شبابي كان لم يكن ... وجاء مشيبي كان لم يزل
فيا ليت شعري فيمن أكون ... وماقدرالله لي في الأزل
قال السمعاني وأنشدني لنفسه ببغداد:
وصاحب خان ما استودعته وأتى ... مالا يليق بأرباب الدياناتش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج15.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي والاخير

  ج15.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي   قال سلمة : سمعت الفراء يقول لرجل: لو حمل إلى أبو عبيدة لضربته عشر بن في كتاب المجاز. وقال التوزي...