Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج5وج6.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

ج5وج6.كتاب معجم الأدباء

  ياقوت الحموي
ولو قبلت أرواحنا عنك فدية ... لجدنا بها عند الفداء وقلت
قال أبو حيان: كان ابن عباد يأتى بالسجع فى أثر كلامه، مع روية طويلة، وأنفاس مديدة، وحشرجة صدر، وانتفاخ منخريه، والتواء شدقيه، وتعويج عنقه، واللعب بشاربه وعنفقته، فلو رأيته يقرر المسائل على هذه الأمثلة العجيبة، والبيان الشافي، لرأيت عجبا من العجائب، وضربا من الغرائب.
وقال لى يوما الشابي وقد خرجنا من مجلس الصاحب: كيف رأيت مولانا الصاحب اليوم مع هذا التغرير، وإظهاره البلاغة الحسنة بين الناس، فقلت: السكوت عن مثله إحدى الحسنيين، وأحرق الحاتين، ولكن نعوذ بالله ممن يوين له الشيطان عمله، ويزخرف له قوله. قال لي: كأنه لم يخلق هذا الرجل إلا غيظا لأكباد الأحرار، وشفاء لسقم الأنذال، - لحى الله دهرا آل بنا إليه - ، وأنزلنا عليه، وأحوجنا إلى مقاساته، وألجأنا إلى مجالسته، وأنشد يقول:
يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالرمد
يمشي على الأرض مجتازا فأحسبه ... من بغض طلعته يمشي على كبدي
لو كان في الأرض جزء من سماجته ... لم يقدم الموت إشفاقا على أحد
قال أبو حيان: قال لي الشابي: أهدي ابن عباد إلى صاحبه وقت وردوهما إلى الأهواز دينارا من ضربه، وزنه ألف مثقال! وكتابته:
وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة ... فأسماؤه مشتقة من صفاته
فإن قيل دينار فقد صدق اسمه ... وإن قيل ألف كان بعض سماته
بديع فلم يطبع على الدهر مثله ... ولا ضربت أضرابه لسراته
وصار إلى شاهانشاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته
تفاءلت أن يبقى سنين كوزنه ... لتستمتع الدنيا بطول حياته
تأنق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته
فقال: أرأيت أكذب منه حيث قال؟. " فلم يطبع على الدهر مثله " ما كان في الدنيا من خدم ملكا بألف دينار، ثم قال: " وكافي كفاته " والله لو كتبت امرأة بمثله إلى زوجها، لكان سمجا قبيحا، فكيف إلى فخر الدولة!! ما أحسن ما كفاه أمر أبي العلاء النصراني حين هزمه بعدد قليل، بعد أن كان في جيش عرمرم ثقيل، ولكن الدنيا حمقاء خرقاء، لا تميل إلا إلى مثلها، لو كتب المطهر أو نصر بن هارون، أو أحد وزراء عضد الدولة إليه بشيء من ذلك، لأحرقه بالنار والنفط، ومن كتاب الروزنامجة: قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذكروني بابن شمعون المتصوف، وكلامه على الناس في مكان الشبلي، فجمعت يوما في المدينة، وعلى طيلسان ومصمته، ووقعت عليه، وقد لبس فوطة قصب، وقعد على كرسي ساج، بوجه حسن، ولفظ عذب، فرأيته يقطع مسائله بهوس يطيله ويسهب فيه، فقلت: لا بد من أن أسأله عما أقطع به، وابتدرت فقلت: يا شيخ، ما تقول في قد سيكونيات العلم، إذا وقعت قبل التوهم، فورد عليه ما لم يسمع به، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب، وأخذ في ضرب من الهذيان، فلما سكت قلت: هذا بعد التوهم، وإنما سألتك قبله إلى أن ضجر، فانصرفت عنه.
قرأت بمصر في نسخة باليتمية للثعالبي، عليها خط يعقوب بن أحمد، بن محمد بالقراءة عليه، يرويها عن مؤلفها الثعالبي، فوجدت فيها زوائد، لا أعرفها فى النسخ المشهورة بأيدي الناس، منها: حدثني عرف بن الحسين، الهمذاني التميمي قال: كنت يوما فى خزانة الخلع للصاحب، فرأيت في ثبت الحسبانات لكاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز، التي صارت فى تلك الشتوة، في خلع العلويين والفقهاء والشعراء، سوى ما صار فيها في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين، قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما، إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية، عليهم الخزوز الملونة الفاخرة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل له: إنه في مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب، وأمر أن يؤخذا ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه، وقال: - أيد الله الصاحب - :
إسمعه ممن قال تزدد به ... عجبا فحسن الورد في أعضائه

فقال: هات يا أبا القاسم، فأنشده أبياتا منها:
سواك يعد الغني ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يحزنا
وأنت ابن عباد المرتجى ... تعد نوالك نيل المنى
وخيرك من باسط كفه ... وممن ثناها قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحما ... وأشكرهم عاجزا ألكنا
أيا من عطاياه تهدى الغنى ... إلى راحتى من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم نخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخز إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة: ان رجلا قال له احملني، فأمر له بفرس وبغلة وحمار وناقة وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غيرها لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بحبة وقميص، وسراويل وعمامة، ومنديل ومطرف، ورداء وجورب، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة، وصيرت تلك الخلع عليه، وسلم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
قال: وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي قال: عهدي بأبي محمد ماثلا بين يدي الصاحب، ينشده قصيدة أولها:
هذا فؤادك نهى بين أهواء ... وذاك رأيك شورى بين آراء
هواك بين العيون النجل مقتسم ... داء لعمرك ما أبلاه من داء
لا تستقر بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخص قريب عزمه ناء
يوما بجزوى ويوما بالعقيق ويوما ... بالعذيب ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحى نجداً وآونة ... شعب العقيق وطورا قصر تيماء
قال: فرأيت الصاحب متقبلا عليه بمجامعه، حسن الإصغاء إلى إنشاده، مستعيدا لأكثر أبياته، مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز له، ما يعجب الحاضرين، فلما بلغ إلى قوله:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري فألقت شعرها طربا ... فألفا بين إصباح وإمساء
زحف عن دسته طربا له، فلما بلغ إلى قوله فى المدح:
لو أن سحبان باراه لأسحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقات أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعة: ... أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك توحيده ألوى بأربعة: ... كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
فجعل يحرك رأسه ويقول: أحسنت أحسنت، فلما أنهى القصيدة، أمر له بجائزة وخلع.
قال الأمير أبو الفضل الميكالي: كتب عامل رقعة إإلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل، فوقع الصاحب تحتها: من كتب لإشغالي لا يصلح لأشغالي.
وحدث هلال بن المحسن: ما رؤى أحد وفي من الإعظام والإكبار بعد موته، ما وفيه الصاحب، فإنه لما جهز ووضع في تابوته، وأخرج على أكتاف حامليه للصلاة عليه، قام الناس بأجمعهم، فقبلوا الأرض بين يديه، وخرقوا عند ذلك ثيابهم، ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء والنحيب عليه جهدهم، وكان يلبس القباء في حياته تخففا بالوزارة، وانتسابا معها إلى الجندية وحدث عن أبي الفتح بن المقدر قال: كان أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر، من وجوه أهل أصبهان، وأعيانهم ورؤسائهم، فحدثني أنه رأى في منامه قائلا يقول له: لو كاثرت الصاحب أبا القاسم بن عباس، مع فضلك وكثرة علمك، وجودة شعرك، فقلت: أفحمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بم أبدأ منها؟ وخفت أن أقصر، وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، قلت قل: فقال: ثوى الجود والكافي معا في حفيرة فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا فقلت: ضجيعين في لحد بباب ذريه فقال: إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه " باب ذريه: المحلة التى فيها تربته، أو ما يستقبلك من أصفهان "

وحدث في كتاب الروزنامجة، وانتهيت إلى أبي سعيد السيرافي، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، حسن التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل، فسلمت عليه، وقعدت إليه، وبعضهم يقرأ الجمهرة، فقرأ: ألمقت، فقلت: إنما هو لمقت، فدافعني الشيخ ساعة، ثم رجع إلى الأصل، فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد وقد استشهد:
رسم دار وقفت فى طلله ... كدت أقضى الغداة من جلله
فقلت: أيها الشيخ، هذا لايجوز، والمصراعان على هذا النشيد، يخرجان من بحرين، لأن: " رسم دار وقفت فى طلله " فاعلاتن مفاعلن فعلن " كدت أقضي الغداة من جلله " مفتعلن مفعلات مفتعلن فذاك من الخفيف، وهذا من المنسرح. فقال: لم لا تقول: الجميع من المنسرح؟ والمصراع الأول مخزوم. فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر، لأنه أوله مستفعلن مفاعلن، هذه مزاحفة عنه، وإذا حذفنا متحركا، بقينا ساكنا، وليس فى كلام العرب ابتداء به، وإنما هو: كدت أقضى الغداة من جلله بخفيف الضاد فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه، وابتدأ فقريء عليه من كتاب المقتضب، باب ما يجزي وما لايجزى، إلى أن ذكر وسحر، وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه، لأنه معدول عن الأول، فقلت: ما علامة العدل فيه؟ فقال: إنا قلنا السحر، ثم قلنا: سحر، فهلمنا أن الثاني معدول عن الأول قلت: لو كان كذلك، لوجب أن تطرد العلة في عتمة، فضجر واحتد، وصاح واربد وادعيت أنه ناقص، والتمس الحاكم، فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر، وقد أنفذت درج كتابى نسختها، وفيها خط أبى عبد الله بن رذامر عين مشايخهم، ورأيت الشيخ بعد ذلك عزيزا فاضلا، متوسعا عالما، فعلقت عليه، وأخذت عنه، وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه، وقرأت صدرا منه، وهناك أبو بكر ابن مقسم، وما فى أصحاب ثعلب أكثر دراية، وما أصح رواية منه، وقد سمعت مجالسه، وفيها غرائب ونكت، ومحاسن وطرف، من بين كلمة نادرة، ومسألة غامضة، وتفسير بيت مشكل، وحل عقد معضل، وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم، ورواياتهم ولغاتهم والقاضى أبو بكر ابن كامل، بقية الدنيا فى علوم شتى، يعرف الفقه والشروط والحديث، وما ليس من حديثنا، ويتوسع فى النحو توسعا مستحسنا، وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة، وفي جودة التصنيف قوة تامة، ومن كبار رواة المبرد وثعلب، والبحتري وأبي العيناء، وغيرهم. وقد سمعت قدرا صالحا مما عنده، وكنت أحب أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق، لما تتابع فى حذقهم من الأوصاف. وذكر أبا زكريا يحيى بن عدي وغيره، ومناظرات جرت هناك يطول شرحها.
وحدث عن أبي نصر بن خواشاذه أنه قال: ما غبطت أحدا على منزلة، كما غبطت الصاحب أبا القاسم بن عباد، فإنا كنا مقيمين بظاهر جرجان، مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية، فدخل الصاحب إلى داره في البلد، آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم، وتحته دابة رهواء، وقد أرسل عنانه، فرأيت وجوه الديلم وأكابرهم، من أولاد الأمراء يعدون بين يديه، كما تعدو الركابية، وكان عضد الدولة: يخاطب شيخا خطابا لا يشرك معه فيه أحدا، إلا أنه كان يقل مكاتبته، وكانت الكتب من عضد الدولة، إنما ترد على لسان كاتبه أبو القاسم، عبد العزيز بن يوسف.
ولما وجدت الشعراء لبضائعها عند ابن عباد نفاقا وسوقا. أهدوا نتائج أفكارهم إلى حضرته، وساقوها نحوه سوقا. فذكر الثعالبي قال: واحتف به من نجوم الأرض، وأفراد العصر، وابناء الفضل، وفرسان الشعر من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم فى الأخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك، مثل ما اجتمع بباب الرشيد، من فحول الشعراء المذكورين، كأبي نواس، وأبى العتاهية، والعتابي، والنمري، ومسلم بن الوليد، وأبي الشيص، وابن أبي حفصة، ومحمد بن مناذر.

وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان، والري، وجرجان، مثل أبي الحسين السلامي، وأبي سعيد الرستمى، وأبى القاسم الزعفرانى، وأبى العباس الضبى، والقاضى الجرجانى وأبى القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن، وأبي هاشم العلوى، وأبي الحسن الجوهري، وبني المنجم، وابن بابك، وابن القاشاني، والبديع الهمذاني، وإسماعيل الشاشي، وأبى العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري، وأبى دلف الخزرجي، وأبى حفص الشهرزوري، وأبي معمر الإسماعيلي، وأبى الفياض الطبري، وغيرهم ممن لم يبلغني ذكره، أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الرضي الموسوي، وأبو إسحاق الصابي، وابن الحجاج، وابن سكرة، وابن نباتة، وغيرهم ممن يطول ذكره.
وكتب أبو حفص الأصفهاني الوراق إلى الصاحب رقعة نسختها: لو لا أن الذكرى - أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل - تنفع المؤمنين، وهزة الصمصام تعين المصلتين لما ذكرت ذاكرا، ولا هززت ماضيا، ولكن الحاجة تستعجل النجح، وتكد الجواد السمح، وحال عبد مولانا في الحنطة متخلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، فلم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى، فوقع على رقعته، أحسنت يا أبا حفص قولا، وسنحسن فعلا، فبشر جرذان دارك بالخصب، وآمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، إن شاء الله تعالى. قال: وحدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي قال: انتحل فلان يعنى بعض المتشاعرين بحضرة الصاحب شعرا له، وبلغه ذلك فقال: أبلغوه عني:
سرقت شعري وغيري ... يضام فيه ويجدع
فسوف أجزيك صفعا ... بكد رأس وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشعر يصفع
قال: فاتخذ الليل جملا وهرب من الري.
وحدث عن عون بن الحسين الهمذانى قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذنت على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس، إلا وانتقل إلى مجلس الحشمة فأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدى، أو مازحنى قط إلا مرة واحدة، فإنه قال لي، بلغنى أنك تقول: إن المذهب مذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهة لانبساطه، وقلت بنا من الجد، ما لانفرغ معه للهزل، ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلى مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها إلى ما يجري مجرى الهزل والمرح. ولما أتت الصاحب البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني، " ولم يكن للصاحب ولد غيرها، وكان قد زوجها من أبي الحسن على بن الحسين الهمذاني، وكان شاعرا أديبا بليغا، وله شعر منه هذان البيتان في دار لبعض الملوك بناها:
دار علت دار الملوك بهمة ... كعلو صاحبها على الأملاك
فكأنها من حسنها وبهائها ... " بنيت قواعدها على الأفلاك "
أنشأ الصاحب يقول:
أحمد الله لبشرى ... أقبلت عند العشي
إذ حباني الله سبطا ... هو سبط للنبي
مرحبا ثمت أهلا ... بغلام هاشمي
نبوي علوي ... حسنى صاحبي
ثم قال:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... قد صار سبط رسول الله لي ولدا
وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري في قصيدة منها:
وكان بعد رسوب الله كافله ... فصار جد بنيه بعد كافله
هلم للخبر المأثور مسنده ... في الطالقان فقرت عين ناقله
فذلك الكنز عباد وقد وضحت ... عنه الإمامة فى أولى مخايله
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة، يملأ الله به الأرض عدلا، كما ملئت جورا. والصاحب من الطالقان من قرى أصفهان، فلما رزق سبطا فاطميا، تأولوا له هذا الخبر، وأنا برئ من العهدة، هذ الذي ذكر الثعالبي، أن طالقان من قرى أصفهان، والصواب ما تقدم.
قال: وعرض على أبو الحسن الشقيقي البلخي، توقيع الصاحب إليه في رقعته: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر، وهذه رسالة كتبها الصاحب إلى أبي على الحسين بن أحمد، في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد.

قال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله ابن أحمد الميكالى يسردها، فزادني جريها على لسانه، وصدورها عن فمه إعجابا بها، وهي: كتابي هذا يا سيدي صدر من " سحنة " ، وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غدا إن شاء الله، إذا مد الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله، ولو لا ذلك لأطلته، كوقوف الحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإن المحتمل له، وسيع الحقوق لدى، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي، كان وافي مع ذلك الشيخ الشهيد، أبي سعيد الشبيبي السعيد - رفع الله منازله - وقتل قاتله، يكت له فآنسنا بفضله، وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان فيها من القربة، لم يرض غير بابي بتلك مشرعاً، وغير جنابي مرتعا، وقطع إلى الطريق الشاق، مؤكدا حقا لا يشق غباره، ولا ينسي على الزمان ذماره، فكتب على جناح هذه النهضة التى بنا لم يستقر نواها، ولم تلق عصاها، فإخراج الحر المبتدئ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي، لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، ويترصد عملا خفيف النقل، ندى الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتسق ذلك ضيفي ذلك ضيفي، وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالا بالعلم يزيده استقلاله. إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا فى الاستقرار، ثم له الخيار، إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء التحق بنا ناشرا ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعنيه على بعض الانتظار، إلى أن يختار له كل الاختيار، فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر، الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى وحده.
وكتب إلى القاضي أبي بشر، الفضل بن محمد الجرجاني، عند وروده باب الري وافدا عليه:
تحدثت الركاب بسير أروي ... إلى بلد حططت به خيامي
فكدت أطير من شوق إليها ... بقادمة كقادمة الحمام
أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله، بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحبا أيها القاضي براحلتك ورحلتك، بل أهلا بك وبكافة أهلك، ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك فحث المطى تزل غلتى برؤياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدا مشرفا، ونتخذه موسما ومعرفا، ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، يترك الصبا في عقال وأسر:
سقى الله دارات مررت بأرضها ... فأذنتك نحوى يا زياد بن عامر
أصائل قرب أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن حر الهواجر
وقال بعض ندماء الصاحب له يوما: أرى مولانا قد أغار فى قوله:
لبسن برود الوشى لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
على المتنبيء في قوله:
لبسن الوشى لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
فقال كما أغار هو في قوله:
ما بال هذي االنجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
على العباس بن الأحنف في قوله:
والنجم فى كبد السماء كأنه ... أغمى تحير ما لديه قائد
وللصاحب أيضا:
يقولون لي كم عهد عينك بالكرى ... فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها
ولو تلتقي عين على غير دمعة ... لصارمتها حتى يقال نفاها
من قول المهلبي الوزير:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على دمعة تجري
وللصاحب أيضا:
ومهفهف حسن الشمائل أهيف ... يروي النفوس بفترتي عينيه
ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي ... فجذبت قلبي من إسار يديه
قالوا: تراجعه فقلت: بديهة ... قولا أقيم مع الروى عليه
والله لا راجعته ولو أنه ... كالبدر أو كالشمس أو كبويه
أخذه من قول ابن المعتز:
والله لا كلمتها ولو انها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي
قال المؤلف: هكذا ذكر الثعالبي، ونسب هذا البيت إلى ابن المعتز، وهو لأبى بكر محمد بن السراج النحوي، وله قصة ظريفة، وهي مذكورة في أخباره من هذا الكتاب.
ومما هجي به الصاحب، قول أبي العلاء الأسدي:

إذت رأيت مسجى في مرقعة ... يأوى المساجد حرا ضره بادي
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت ... به الخطوب إلى لؤم ابن عباد
وقال السلامي:
يا ابن عباد بن عباس ... بن عبد الله حرها
تنكر الجبر وأخرجت ... إلى دنياك كرها
ومر أبو العباس بن الضبي، بباب الصاحب بعد موته، فقال:
أيها الباب لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجاب؟؟
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو الآن فى التراب تراب؟
ولأبي القاسم بن العلاء الأصفهاني، يرثي الصاحب من قصيدة:
ما مت وحدك لكن مات من ولدت ... حواء طرا بل الدنيا بل الدين
هذي نواعي العلا مذ مت نادبة ... من بعد ما ندبتك الخرد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... واستيقظوا بعد ما نان الملاعين
لايعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحل الشياطين
وكتب الصاحب إلى أبي العلاء الأسدي من أجود أبياته:
يقر بعيني أن يلم رسولها ... ببابي ويهدي بالعشي سلامها
ورد يا شيخي - أطال الله بقاءك - رسولك بكتاب سبق الأفكار والظنون، وحسدت عليه القلوب العيون، وترك الواصفين بين قاصر ومقصر، ومثل ليالينا بين اللوى فمحجر بكلام كالورق النضير، تتأوه منه الغصون، وكالنور المنير، أفنانه فنون فصاد فني حليفا للشوق أو رهينا، رحنيا على الحنين وساء قرينا، وكيف لا وقد ألفنا القرب حولا، حولنا رياض الأدب ترف، ودوننا رواحل الفضل تزف نملك رقاب المنطق، ونتنازع أطراف الكلام المنمق، ونقطع الليالى تناشدا وتذاكرا، وتحادثا وتسامرا، إلى أن يخلع الظلام ثيابه، ويحدر المصباح نقابه، هذا دأبنا كان، إلى أن جاوزنا الشباب مراحل. ووردنا من المشيب مناهل. ثم حان الفراق، فنحن حتى اليوم منه في جو كدر، ونجم منكدر يقبضنا عن الموارد العذاب.
ويعرضنا على لواعج العذاب، - والله نسأل - إعادة هاتيك الأحوال، وتلك الأيام الخضراء الظلال، و إن كان الله قد زادنا بعدك مناجح ومنائح وأيادي غوادي وروائح، حتى فتحنا الفتوح، وذللنا الصروح، ورنقنا الفتوق، ونسخنا القرون، وأثرنا الآثار، ووطأنا الرقاب، وطلبنا الثار، واصطنعنا الصنائع، وجعلنا ودائع النعم قطائع، وعقدنا في أعناق الأحرار مننا، أحسبها من سبل الإحسان سننا، إنا قد تحملنا مشاق، مالت على القوة بالضعف، وتحاملت على الأشر بالوهن، ودفعت إلى معالجة خطوب، تعجب الدهر من صبرنا عليها فحار، وجبن الزمان عند شجاعتنا لها فحار، وها أنا أحرج ما كنت إلى أن أرفه، ولا أستكره، وقد رميت بسهم الأربعين، وأرميت على شرف الخمسين، مدفوع الأشغال والأثال، إلى متاعب ومصاعب، لو مني بها ابن ثلاثين قويا أزره، طريا جرضه، لقام عجزه، وقعدت به نفسه، وأظنني كنت قديما قلت:
وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت: دعيني وما قد عرا ... فإن الهموم بقدر الهمم
وما أنا على الراحة آسف، بل على ألا أكون مشغولا بأخرى، أمهد لها وأكدح، وأدأب لنفسى وأنصح، - اللهم وفق وقدر - ، ومهل ويسر، إنك على ما تشاء قدير. والرسالة طويلة كتبت مقدمتها

ذكر محمد ما فعله الصاحب مع القاضي عبد الجبار ابن أحمد، من حسن العناية والتولية والتمويل، فلما مات الصاحب كان يقول: أنا لا أترحم عليه، لأنه لم يظهر توبته، فطعن عليه في ذلك، ونسب إلى قلة الرعاية، فلا جرم أن فخر الدولة، قبض عليه بعد موت الصاحب، وصادره فيما قيل: على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعزله عن قضاء الري، وولى مكانه القاضي أبا الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني، العلامة، صاحب التصانيف والفضائل الجمة، وقد ذكرته أنا في بابه. فقيل: إن عبد الجبار باع ألف طيلسان مصري في مصادرته، وهو شيخ طائفتهم، يزعم أن المسلم يخلد في النار على ربع دينار، وجميع هذا المال من قضاء الظلمة، بل الكفرة عنده وعلى مذهبه، وإنما ذكرت هذا للاعتبار. وقرأت في كتاب هلال بن المحسن، بن إبراهيم الصابيء قال: وكان الصاحب أبو القاسم يراعي من ببغداد، والحرمين من أهل الشرف، وشيوخ الكتاب والشعراء، وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء، بما يحمله إليهم في كل سنة مع الحاج، على مقاديرهم ومنازلهم، وكان يحمل إلى أبى إسحاق إبراهيم بن هلال خمسمائة دينار، وإلى ألف درهم جبلية، مع جعفر بن شعيب، فأذكر وقد راسله بعد وفاة عضد الدولة، بالاستدعاء إلى حضرته بالرى، وبذل له النفقة الواسعة، والمعونة الشاسعة عند شخوصه، والإرغاب والإكثار عند حضوره. فكانت عقله بالذيل الطويل، والظهر الثقيل، تمنعه من ترك موضعه، ومفارقة موطنه، فيما كتبه إليه بالاعتذار عن التأخير:
نكصت على أعقابهن مطالبى ... وتقاعست عن شأوهن مآربي
وتبلدت مني القريحة بعد ما ... كانت نفاذا كالشهاب الثاقب
وبكيت شرخ شبيبتي فدفنتها ... دفن الأعزة في العذار الشائب
ومنها:
فلو أن لى ذاك الجناح لطار بي ... حتى أقبل ظهر كف الصاحب
وأعيش في سقيا سحائبه التي ... ضمنت سعادة كل جد خائب
وأراجع العادات حول قبابه ... حتى السواد من الشباب الذاهب
وأعد من جلساء حضرته التي ... شحنت بكل مسائل ومجارب
فيقول: من ذا سائل عنى له ... متثبت فيقول هذا كاتبي؟
أترى أروم بهمتي ما فوق ذا ... أنى وخدمته أجل مراتبي
ومنها يعتذر
كثرت عوائقي التى تعتاقني ... من غيث راحته الملث الساكب
ولد لهم ولد وبطن ثالث ... هو رابعي وعشيرتي وأقاربي
والسن تسع بعدها خمسون قد ... شامت بوارق يومها المتقارب
فالجسم يضعفعن تجشم راجل ... والحال يقصر عن ترفه راكب
وعلى للسلطان طاعة مالك ... كانت على المملوك ضربة لازب
وتعطلي مع شهرتي كتصرفي ... كل سواء في الحساب الحاسب
وهي طويلة. فلما كانت سنة أربع وثمانين، التي توفي فيها جدي، أحسن بانقضاء مدته، وحضورمنيته، فكتب إلى الصاحب كتابا يسأله فيه، إقرار هذا الرسم المذكور على ولده، وإجراءه لهم من بعده، وقرن الكتاب بقصيدة أولها:
نحذر منك النائبات فتحذر ... وتذكر للخطب الجسيم فيصغر
وتكسي بك الدنيا ثياب جمالها ... فيرجوك معروف ويخشاك منكر
يقول فيها:
أسيدنا إن المنية أعذرت ... إلي بآيات تروع وتذعر
لها نذر قد آذتني بهجمة ... على مورد ما عته للمرء مصدر
وإنى لأستحلي مرارة طعمه ... إذا كنت بالتقديم لي تتأخر
وحق لنفس كان منك معاشها ... إذا غمضت عينا وعينك تنظر
ومن ورث الأولاد بعد وفاته ... حضانك طابت نفسه حين يقبر
تمرد منك الجود حتى تمردت ... مطالبنا والماجد الحر يصبر
أأطلب منك الرفد عمرى كله ... وأطلبه والجنب منى معفر؟
وليست بأولى بدعة لك في الندى ... لها موقف فيه لك الحمد ينشر
وهي طويلة. قال هلال بن المحسن: وأمرني بأن أنفذ ذلك، فأنفذته، وكتبت عن نفسي كتابا في معناه، ووصل ونفذ من يحمل الرسم على العادة، ثم اتفق أن توفي الصاحب في اول سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فوقف، وكانت بين وفاتهما شهور.

قال هلال: وسمعت محدثا يحدث أبا إسحاق، أنه سمع الصاحب يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي، إلا أن أملك العراق، وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا اسحاق الصابيء، ويكتب عني وأغير عليه، فقال جدي: ويغير على وإن أصبت.
قال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: حضر الصاحب أبو القاسم بن عباد دار الوزير المهلي، عند وروده إلى بغداد، مع مؤيد الدولة، فحجب عنه لشغل كان فيه، وجلس طويلا، فلما تأخر الإذن، كتب إلى رقعة لطيفة فيها:
وأترك محجوبا على الباب كالخصي ... ويدخل غيري كالأيور ويخرج
فأقرأتها الوزير المهلبي، فأمر بإدخاله.
قال: وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد، قصد القاضي أبا السائب، عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له، وتحفز تحفزا أراه به ضعف حركته، وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه، وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه، فخجل أبو السائب واعتذر إليه.
وذكر القاضي أبو علي التوخي في كتاب نشوار المحاضرة: حدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن عمرو الشرابي، حاجب أمير المؤمنين المطيع لله، قال: دخلت في حداثتي يوما على أبي السائب القاضي، فتثاقل في القيام لي، وأظهر لي ضعفا عنه للسن، والعلل المتصلة به، قال: فتطول فجذبت يده بيدي، حتى أقمته القيام التام، وقلت له: أعين قاضي القضاة، - أيده الله - على اكمال البر، وتوفية الإخوان حقوقهم؟ قال: وقد كنت عاتبا عليه في اشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأخذ الكلام، فحين رأى الشر في وجهي قال: تتفضل لاستماع كلمتين؟ ثم تقول ما شئت، فقلت له، فقال: روينا عن ابن عباس، - رضي الله عنه - ، في قوله تعالى: " فاصفح الصفح الجميل " قال: عفو بلا تقريع، فأنت رأيت أن تفعل ذلك، فافعل، فاستحييت من الاستقصاء عليه، وانصرفت.
قال المؤلف: والذي عندي، أن الخبر إنما جرى بين هذا والقاضي، وبلغ أمره الصاحب، فانتحله لنفسه، وحكاه في مجلس أنسه، فشاع عنه، وكان الصاحب - رحمه الله - ممن يحب الفخر، وانتحال الفضائل، التي ربما قصر عنها. ومن أشعار الصاحب:
يا خاطرا يخطر في تيهه ... ذكرك موقوف على خاطري
إن لم تكن آثر من ناظري ... عندى فلا متعت بالناظر
وكتب إلى أبي الحسن الطيب:
إنا رجوناك على انبساط ... والجوع قد أثر فى الأخلاط
فإن عسى ملت إلى التباطي ... صفعت بالتعل قفا بقراط
وله:
بعدت فطعم العيش بعدك علقم ... ووجه حياتي مذ تغيبت أرقم
فمالك قد أدغمت في النوى ... وودك في غير الندار مرخم
وقال لما حضرته الوفاة:
وكم شامت بي عند موتي جهالة ... بظلم يسل السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الذل بعدي مات قبل مماتي
وله أيضا:
بدا لنا كالبدر في شروقه ... يشكو غزالا لج في عقوقه
يا عجبي والدهر في طروقه ... من عاشق أحسن من معشوقه
قال أبو بكر الخوارزمي: أنشدنا الصاحب هذه القوافي ليلة وقال: هل تعرفون نظيرا لمعناها فى شعر المحدثين؟ فقلت: لا أعرف إلا قول البحتري:
ومن عجب الدهر أن الأمير ... أصبح أكتب من كاتبه
قال: فقال جودت وأحسنت، هكذا فليكن الحفظ وله ويروق لغيره:
رشأ غدا وجدي عليه كردفه ... وغدا اصطباري في هواه كخصره
وكأن يوم وصاله من وجهه ... وكأن ليلة هجره من شعره
إن ذقت خمرا خلتها من ريقه ... أو رمت مسكا نلته من نشره
وإذا تكبر واستطال بحسنة ... فعذار عارضه يقوم بعذره
وله أيضا:
دب العذار على ميدان وجنته ... حتى إذا كاد أن يسعى به وقفا
كأنه كاتب عز المداد له ... أراد يكتب لاما فابتدا ألفا
وله أيضا:
وخط كأن الله قال لحسنه ... تشبه بمن قد خطك اليوم فائتمر
وهيهات أين الخط من حسن وجهه ... وأين ظلام الليل من صفحة القمر؟؟
وله ايضا:
وشادن قلت له ما اسمكما ... فقال لي بالغنج عباث
فصرت من لثغته ألثغا ... فقلت أين الكاث والطاث

وله يصف الثلج:
هات المدامة يا غلام مصيرا ... نقلي عليها قبلة أو عضة
أو ما ترى كانون ينثر وروده؟ ... وكأنما الدنيا سبائك فضة
وله أيضا:
وصفراء أو حمراء فهي مخيلة ... لرقتها إلا على المتوهم
يشككنا في الكرم أن انتماءه ... إلى الخمر أم هاتا إلى الكرم تنتمي
لك الوصف دون القصف مني فخيمي ... بغير يدي وارضي بما قاله فمى
وكتب إلى أبي الفضل بن شعيب:
يا أبا الفضل لم تأخرت عنا ... فأسأنا بحسن عهدك ظنا؟
كم تمنت نفسي صديقا صدوقا ... فإذا أنت ذلك المتمني
فبعض الشباب لما تثنى ... وبعهد الصبا وإن بان منا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لاتقل للرسول كان وكنا
وله أيضا:
يا بن يعقوب يا نقيب البدور ... كن شفيعي إلى فتى مسرور
قل له إن الجمال زكاة ... فتصدق بها على المهجور
وله يمدح عضد الدولة:
سعود يحار المشترى في طريقها ... ولا تتأتى في حساب المنجم
وكم عالم أحييت من بعد عالم ... على حين صاروا كالهشيم المحطم
فوالله لو لا الله قال لك الورى ... مقال النصارى في المسيح بن مريم
فحامد لو فضت فغاضت على الورى ... لما أبصرت عيناك وجه مذمم
وكلا ولكن لو حظوا بزكاتها ... لما سمعت أذناك ذكر ملوم
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى ... لغيرك لم أحرج ولم أتاثم
وله يهجو:
سبط متوى رقيع سفله ... أبدا يبذل فينا أسفله
إعتز لنا نيكه فى دبره ... فلهذا تلعن المعتزلة
وله في رجل كثير الشرب بطيء السكر: يقال:
لماذا ليس يسكر بعدما ... توالت عليه من نداماه قرقف؟
فقلت:
سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد شيئا فماذا تحيف
وله أيضا:
شرط الشروطي فتى أير ... وما سواه غير مشروط
أبغى من الإبرة لكنه ... يوهم قوما أنه لوطي
وله أيضا:
تصد أميمة لما رأت ... مشيبا على كارضي قد فرش
فقلت لها: الشيب نقش الشباب ... فقالت: ألا ليته ما نقش
وله أيضا:
ولما تناءت بالأحبة دارهم ... وصرنا جميعا من عيان إلى وهم
تمكن مني الشوق غير مسامح ... كمعتر لي قد تمكن من خصم.
الجزء السابع
إسماعيل بن عبد الله بن محمد، بن ميكالأبو العباس المكيالي، وقد ذكر هذا النسب في عدة مواضع، مات ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بنيسابور، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، ودفن بمقبرة باب باب معمر، وكان شيخ خراسان، ووجهها وعينها في عصره، سمع بنيسابور أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبا العباس محمد بن إسحاق السراج، وأبا العباس أحمد بن محمد الماسرجسي، وبكور الأهواز، عبد ابن أحمد بن موسى الجواليقي الحافظ والحسن بن بهار، سمع منه الحفاظ: مثل أبن علي النيسابوري، وأبي الحسين محمد بن الحجاحجي، وأبي عبد الله، ابن البيع الحافظ، وذكره في التاريخ وقال: ولد أبو العباس بنيسابور، فلما قلد أمير المؤمنين المقتدر بالله، أباه عبد الله بن محمد، للأعمال بكور الأهواز، حمل إلى حضرة أبيه، فاستدعى أبا بكر محمد بن الحسن، ابن دريج لتأديبه، فأجيب إليه إيجاباً له، وبعث بأبي بكر الدريدي إليه، فهو كان مؤدبه وكان واحد عصره، وفي عبد الله بن محمد، بن ميكال، وابنه أبي العباس، قال الدريدي قصيدته المشهورة في الدنيا، التي مدحهم بها.
ثم قال الحاكم: سمعت أبا العباس، وقد سئل عن مقصورة الدريدي يقول: أنشدنيها مؤدبي أبو بكر الدريدي، ثم قرأتها عليه مراراً، فسألناه أن ينشدها فقال: أنشدنا أبو بكر بن دريد إما ترى رأسي حاكي لونه إلى أن بلغ إلى الأبيات، التي مدحهم الدريدي فيها، فقال: هذه الأبيات قد ذكرنا فيها، فلو أنشدها بعضكم؟ فقرأها عليه أبو منصور الفقيه، وأقر بها وهي:

إن العراق لم أفارق أهله ... عن شنآن صدني ولا قلى
إلى أن بلغ قوله:
لا زال شكري لها مواصلاً ... دهري أو يعتاقني صرف الفنا
إلى هنا قرئ عليه ثم أنشدنا لفظاً إلى آخرها، وذلك في شهر رمضان، سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
قال الحاكم: سمعت أبا بكر بن محمد ب إبراهيم الجوري الأديب، وهو يحدثنا عن أبي بكر بن دريد، قلت له: أين كتبت عنه؟ ولم تدخل العراق؟ قال: كتبت عنه بفارس لما قدم على عبد الله بن محمد، بن ميكال، لتأديب ولده أبي العباس، فقلت له: أبو العباس إذ ذاك صبي، فقال: لا والله إلا رجل، إمام في الأدب والفروسية، بحيث يشار إليه.
قال: وسمعت أبا عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي يقول: سمعت أبا العباس بن ميكال، يذكر صلة الدريدي في إنشائه المقصورة فيهم. قال الوضاحي فقلت له: وإيش الذي وصل إليه من خاصة الشيخ؟ فقال: لم تصل يدي إذ ذاك، إلا إلى ثلاثمائة دينار، صببها في طبق كاغد، ووضعتها بين يديه.
وروى عنه أبو علي الحافظ في مصنفاته، وأبو الحسين الحجاجي ومشايخنا رضي ا لله عنه.
قال الحاكم: سمعت أبا محمد عبد الله بن إسماعيل يقول: لما توفي أبي عبد الله بن ميكال، أمر أمير المؤمنين، أن أقلد الأعمال التي كان يتقلدها أبي، فأمر لي باللواء والخلعة، وأخرج في ذلك خادماً من خواص الخدم، وكوتبت فيه، فبكيت واستعفيت، والناس يتعجبون من ذلك، وقلت: لي بخراسان معاش أرجع إليه، فلما انصرفت إلى نيسابور، جاءني أبو نصر بن أبي حية غداة جمعة، فقالك ينبغي أن تتأهب للركوب إلى الرئيس أبي عمرو الخفاف، فإن هذا رسم مشايخ البلد معه، ركبت معه إليه فلم يتحرك لي، فخرجت من عنده وأنا أبكي فقال لي أبو نصر: ما الذي أبكاك؟ فقلت: سبحان الله، رددت على المقتدر لواء الولاية بفارس، وخوزستان، وانصرفت إلى نيسابور، حتى أزور أبا عمرو الخفاف، فلم يتحرك لي، فقال لي: لا تغتم بهذا، واعمل إلى الخروج إلى هراة، فإن والي خراسان، أحمد بن إسماعيل بها، وإذا رآك وضربك بالصولجان وعلم محلك، أجلسك على رقاب كل من بنيسابور. فتأهبت وأصلحت هدية له وخرت إلى هراة، فوصلت إلى خدمة لاسلطان، ورضي خدمتي، ودعاني إلى الصولجان، ورضي مقامي، فلما استأذنت للانصراف، عرض على أعمالاً جليلة، فامتنعت عنها، فزودني بجهاز وخلع وكان الأمر على ما ذكره أبو نصر بن أبي حية.
قال: وسمعت أبا عبد الله بن أبي ذهل يقول: قال لي الوزير ابو جعفر، أحمد بن الحسين العتبي، لما أجلسني الأمير الرشيد هذا المجلس، نظرت إلى جميع اهل خراسان، ممن يؤهل للجولس معي في مجلس السلطان، أيده الله، فلم أجد فيهم أجل من أبي العباس بن ميكال، فسألت السلطان استحضاره، فلما حضر امتنع منتقلد العمل: فقلت له: ديوان الرسائل هو مثل قضاء القضاة، أمر منوط بالعلم والعلماء، فتقلد ديوان الرسائل صار جليس في مجلس السلطان، وكان على كره من أبي العباس.
قال: وسمعت أبا يحيى حماد بن الحمادى يقول: لما قلد أبو العباس بن ميكال الديوان، أمر أن يغير زيه من التعمم تحت الحنك والرداء وغير ذلك، فلم يفعل، وراجع السلطان فيه حتى أذن فيه، فكان يجلس في الديوا متطلساً متعمماً تحت الحنكة. قال: وسمعت قاضي اقضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يذكر آثار الميكالية ببغداد، ويصف إنشاء ابن ميكال، فوصف له بعض أحوالهم بخراسان، فقال: آثارهم عندنا بالعراق أكثر منها بخراسان، لأنهم نقالة م عندنا إلى خراسان.
إسماعيل بن ابي ذؤيب السدي الأعورعبد الرحمن، ابن أبي ذؤيب السدي الأعور وقيل: عبد الرحمن بن أبي كريمة، مولى زينب بنت قيس، بن مخزمة، من بني عبد مناف، حجازي الأصل، سكن الكوفة، مات سنة سبع وعشرين ومائة، في أيام بني أمية، في ولاية مروان بن محمد. روى عن أنس ابن مالك، وعبد خير، وأبي صالح، ورأى ابن عمر، وهو السدي الكبير، وكان ثقة مأموناً، روى عنه الثوري وشعبة، وزائدة، وسماك بن حرب، وإسماعيل بن أبي خزيمة، وسليمان التيمي.

وكان ابن أبي خالد إسماعيل يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي، وقال أبو بكر بن مردويه: الحافظ إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، يكنى أبا محمد، صاحب التفسير، إنما سمي السدي، لأنه نزل بالسدة، كان أبوه من كبار أهل أصبهان، أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم سعد بن أبي وقاص، وأبو سعيد الخدري، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس.
وقال غيره: نسب السدي إلى بيع الخمر - يعني المقانع - في سدة الجامع - يعني باب الجامع - وقال الفلكي: إنما سمي السدي، لأنه كان يجلس بالمدينة في موضع يقال له السد. قال يحيى بن سعيد: ما سمعت أحداً يذكر السدي إلا بخير. ومحمد بن مروان بن عبد الله، ابن إسماعيل، بن عبد الرحمن السدي، من أهل الكوفة يروى عن الكلبي صاحب التفسير، وداود بن أبي هند، وهشام بن عروة. روى عنه ابنه علي، ويوسف بن عدي، والعلاء بن عمرو، وأبو إبراهيم الترجماني، وغيرهم. وهو السدي الصغير. وكان يحيى بن معين يقول، السدي الصغير، محمد بن مروان صاحب التفسير، ليس بثقة. وقال البخاري: محمد بن مروان الكوفي، صاحب الكلبي، لا يكتب حديثه ألبتة. وسئل أبو علي صالح جهرة عنه فقال: كان ضعيفاً، وكان يضع الحديث، وكل ضعفه.
وذكر الحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من تصنيفه قال: إسماعيل بن عبد الرحمن الأعور، يعرف بالسدي، صاحب التفسير، كان أبوه عبد الرحنم يكنى أبا كريمة، من عظماء أهل أصبهان، توفي في ولاية مروان، وذكر كما تقدم، وكان عريض اللحية، إذا جلس غطت لحيته صدره قيل: إنه رأى سعد بن أبي وقاص.
وقال أبو نعيم بإسناده: إن السدي قال: هذا التفسير أخذته عن ابن عباس، إن كان صواباً فهو قد قاله: وإن كان خطأً فهو قاله. قال أبو نعيم فيما رفعه إلى السدي: إنه قال: رأيت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عمر. كانوا يرون أنه ليس أحد منهم، على الحال التي فارق عليها محمداً، إلا عبد الله بن عمر.
إسماعيل بن عبد الرحمن، بن أحمدابن إسماعيل، بن إبراهيم، بن عامر، بن عابد، أبو عثمان الصابوي، مات في ثالث محرم سنة تسع وأربعين وأربعمائة قال عبد الغافر: هو الأستاذ الإمام شيخ الإسلام، أبو عثمان الصابوني الخطيب، المفسر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وكان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعاً وحفظاً، ونشراً لمسموعاته وتصنيفاته، وجمعاً وتحريضاً على السماع، وإقامة لمجالس الحديث.
سمع الحديث بنيسابور، من أبي العباس التابوتي، وأبي سعيد اللسمسار، وبهراة من أبي بكر بكر أحمد بن إبراهيم الفرات، وأبي معاذ شاه بن عبد الرحمن، وسمع بالشام والحجاز، ودخل معرة النعمان، فلقي بها أبا العلاء أحمد ابن سليمان، وسمع بالجبال وغيرها من البلاد، وحدث بنيسابور، وخراسان إلى غزنة، وبلاد الهند وجرجان، وآمل وطبرستان، وبالشام، وبيت المقدس، والحجاز.
روى عنه أبو عبد الله القارئ، وأبو صالح المؤذن.
ومن تاريخ دمشق: أن الصابوني وعظ للناس سبعين سنة.
قال: وله شعر منه:
مالي أرى الدهر لا يسخو بذي كرم ... ولا يجود بمعوان ومفضال
ولا أرى أحداً في الناس مشترياً ... حسن الثناء بإنعام وإفضال
صاروا سواسية في لؤمهم شرعاً ... كأنما نسجوا فيه بمنوال
وذكر من فضله كثيراً ثم قال: ومولده ببوشنج للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وذكر وفاته كما تقدم.
إسماعيل بن بنان الخطيبيعلي، بن إسماعيل بن يحيى، ابن بنان الخطيبي أبو محمد، سمع الحارث بن أبي أسامة، والكريمي، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم. وروى عنه الدار قطني، وابن شاهين، وابن زقويه. وكان ثقة فاضلاً نبيلاً، فهما عارفاً بأيام الناس، وأخبار الخلفاء. وصنف تاريخاً كبيراً على ترتيب السنين، وكان عالماً بالأدب، ركيناً عاقلاً، ذا راي يتحرى الصدق. ولد الخطيبي في محرم سنة تسع وتسعين ومائتين، ومات في جمادى الآخرة، سنة خمسين وثلاثمائة، في خلافة المطيع لله.

حدث الخطيب قال: سمعت الأزهري يقول: جاء أبو بكر بن مجاهد، وإسماعيل الخطيبي إلى منزل أبي عبد الصمد الهاشمي، فقدم إسماعيل أبا بكر، فتأخر أبو بكر وقدم إسماعيل، لما استأذن إسماعيل أذن له، فقال له: أدخل ومن أنا معه؟.
وحدث عن الحسن بن رزقويه، عن إسماعيل الخطيبي قال: وجه إلى الراضي بالله ليلة عيد فطر، فحملت إليه راكباً بغلة، فدخلت عليه وهو جالس في الشموع، فقال لي يا إسماعيل: إني عزمات في غدٍ على الصلاة بالناس في المصلى، فما أقول إذا انتهيت في الخطبة إلى الدعاء لنفسي؟ قال: فأطرقت ثم قلت يقول أمير المؤمنين: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)؟ فقال حسبك، ثم أمرني بالانصراف، وأتبعني بخادم، فدفع إلى خريطة فيها أربعمائة دينار، وكانت الدنانير خمسمائة، فأخذ الخادم منها لنفسه مائة أو كما قال.
إسماعيل بن علي الخضيريمن أعمال دجيل، ثم من ناحية نهر تاب، كان فاضلاً متميزاً لسناً، ذا بلاغة وبراعة، وله في ذلك تصانيف معروفة متدولة، إلا أن الخول كان عليه غالباً، قدم بغداد، وقرأ الأدب على أبي محمد إسماعيل ابن أبي منصور، موهوب بن الخضر الجواليقي، وعلى أبي البركات عبد الرحمن، الأنياري، وعلى علي بن عبد الرحيم السلمي بن العصار، وأدرك ابن الخشاب أبا محمد، وأخذ عنه علماً جماً، وقرأ على أبي الغنائم بن حبشي، وكان ورعاً زاهداً تقياً، رحل إلى الموصل، وأقام بها في دار الحديث عدة سنين، ثم اشتاق إلى وطنه، فرجع إلى بغداد، فمات بها في صفر سنة ثلاث وستمائة، وله تصانيف ورسائل مدونة وخطب، وديوان شعر، وكتاب جيد في علم القراءات رأيته.
ومن شعره:
لا عالم يبقى ولا جاهل ... ولا نبيه لا ولا خامل
على سبيل مهيع لاحب ... يودي أخو اليقظة والغافل
إسماعيل بن عيسى، بن العطار أبو إسحاقمن أهل السير، بغدادي، روى عنه الحسن بن علويه، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب المبتدإ.
إسماعيل بن القاسم، بن عيذون، بن هارونابن عيسى بن محمد، بن سليمان، المعروف بالفالي، أبو علي البغدادي، مولى عبد الملك بن مروان، ولد بمنازجرد من ديار بكر، ودخل بغداد سنة ثلاث وثلاثمائة، وأقام بها إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، مات بقرطبة في ربيع الآخر، سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ومولده في سنة ثمانين ومائتين، وفي أيام الحكم المستنصر كانت وفاته، وسمع من أبي القاسم عبد الله بن محمد، بن عبد العزيز البغوي، وأبي سعيد لاحسين بن علي، بن زكريا بن يحيى، بن صالح، بن عاصم، بن زفر العدوي، وأبي بكر بن دريد، وابي بكر بن السراج، وأبي عبد الله نفطويه، وأبي إسحاق الزجاج، وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، وقرأ كتاب سيبويه على ابن درستويه، وسأله عنه حرفاً حرفاً، وأما نسبته: فهو نسوب إلى قالي قلا، بلد من أعملا أرمينية. قال القالي: لما دخلت بغداد، انتسبت إلى قالي قلا، رجا ء أن أنتفع بذلك، لأنها ثغر من ثغور المسلمين، لا يزال بها المرابطون، فلما تأدب ببغداد، ورأى أنه لاحظ له بالعراق، قصد بلاد الغرب، فوافاها في أيام المتلقب بالحكم، المستنصر بالله عبد الرحمن، بن الحكم، بن هشام بن عبد الرحمن، بن معاوية، بن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، بن الحكم، بن أبي العاص، بن أمية، ين عبد شمس، ابن عبد مناف. قالوا: وهذا أول من دعي من هؤلاء بالغرب أمير المؤمنين، إنما كان المتولون قبله يدعو ببني الخلائف. فوفد القالي إلى الغرب، في سنة ثلاثي وثلاثمائة، فأكرمه صاحب الغرب، وأفضل عليه إفضالاً عمه، وانقطع هناك بقية عمره، وهناك أملى كتبه أكثرها عن ظهر قلب، منها كتاب الأمالي، معروف بيد الناس، كثير الفوائد، غاية في معناه.

قال أبو محمد بن حزم: كتاب نوادر أبي علي، مبار لكتاب الكامل، الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً، وكتاب الممدود والمقصور، رتبه على التفعيل، ومخارج الحروف من الحلق، مستقى في بابه، لا يشذ منه شيء في معناه، لم يوضع مثله، كتاب مقاتل الفرسان، كتاب تفسير السبع الطوال، كتاب البارع في اللغة على حرف المعجم، جمع فيه كتب اللغة، يشتمل على ثلاثة آلاف ورقة. قال الزبيدي: ولا نعلم أحداً من المتقدمين ألف مثله.
قرأت بخط أبي بكر محمد بن طرخان، بن الحكم: قال الشيخ الإمام أبومحمد العربي: كتاب البارع لأبي علي القالي، يحتوي على مائة مجلد، لم يصنف مثله في الإحاطة والاستيعاب، إلى كتب كثيرة ارتجلها وأملاها عن ظهر قلب كلها.
قال الحميدي: وممن روى عن القالي أبو بكر محمد ابن الحسين الزبيدي النحوي، صاحب كتاب مختصر العين، وأخبار النحويين، وكان حينئذ إماماً في الأدب، ولكن عرف فضل أبي علي فمال إليه، واختص به استفاد منه، وأقر له.
قال الحميدي: وكان أقام ببغداد خمساً وعشرين سنة، ثم خرج منها قاصداً إلى المغرب، سنة ثمان وعشري وثلاثمائة، ووصل إلى الأندلس، في سنة ثلاثين وثلاثمائة، في أيام عبد الرحمن الناص، وكان ابنه الأمير أبو العاس، الحكم ابن عبد الرحمن، من أحب ملوك الأندلس للعلم، وأكثرهم اشتغالاً به، وحرصاً عليه، فتلقاه بالجميل، وحظي عنده، وقرب منه، وبالغ في إكرامه، ويقال: إنه هو الذي كتب إليه، ورغبه في الوفود عليه، واستوطن قرطبة، ونشر علمه بها.
قال: وكان إماماً في علم العربية، متقدماً فيها، متقناً لها، فاستفاد الناس منه، وعولوا عليه، واتخذوه حجة فيما نقله، وكانت كتبه على غاية التقييد، والضبط والإتقان، وقد ألف في علمه الذي اختص به تآليف مشهورة، تدل على سعة علمه وروايته، وحدث عنه جماعة، منهم أبو محمد عبد الله بن الربيع، بن عبد الله التميمي، ولعله آخر من حدث عنه، وأحمد بن أبان، بن سيد الزبيدي، كما ذكرنا آنفاً. قال: وكان أعلم الناس بنحو البصريين، وأرواهم للشعر مع اللغة.
قال الزبيد: وسألته لم قيل له القالي؟ فقال: لما انحدرنا إلى بغداد، كنا في رفقة فيها أهل قالي قلا، وهي قرية من قرى منازجرد، وكانوا يكرمون لمكانهم من الثغر، فلما دخلت بغداد، نسبت إليهم لكوني معهم، وثبت ذلك علي.
قال الحميدي: وكان الحكم المستنثر قبل ولايته الأمور، وبعد أن صارت إليه، يبعثه على التأليف، وينشطه بواسع العطاء، ويشرح صدره بالإجزال في الإكرام، وكانوا يسمونه بالبغدادي، لكثرة مقامه، ووصوله إليهم منها.
قال السلفي بإسناد له: أخبرنا أبو الحكم، منذر بن سعيد البولطي قال: كتبت إلى أبي علي البغدادي القالي، أستعير منه كتاباً من الغريب وقلت:
بحق رئم مفهف ... وصدغه المتلطف
ابعث إلى بجزء ... من الغريب المصنف
قال: فأجابني وقضى حاجتي،
وحق در تألف ... بفيك أي تألف
ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف
ابن صالح، بن إسماعيلابن صالح، بن عبد الرحمن، الصفار، أبو علي، علامة بالنحو باللغة، مذكور بالثقة والأمانة، صحب المبرد صحبة اشتهر بها وروى عنه، وسمع الكثير، وروى الكبير، أدركه الدار قطني، وقال: هو ثقة، صام أربعة وثمانين رمضان، وكان متعصباً للسنة، مات فيما ذكره الخطيب، سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، ومولده سنة تسع وأربعين ومائتين، ودفن بقرب قبر معروف الكرخي، بينهما عرض الطريق، دون قبر أبي بكر الآدمي، وأبي عمر الزاهد.
قال أبو عبيد، محمد بن عمران المرزباني: أنشدني الصفار لنفسه:
إذا ظرتكم لاقيت أهلاً ومرحباً ... وإن غبت حولاً لا أرى منكم رسلاً
وإن جئت لم أعدم ألا قد جفوتنا ... وقد كنت زواراً فما بالنا نقلى
أفي الحق أن أرضى بذلك منكم ... بل الضيم أن أرضى بذا منكم فعلا
ولكنني أعطي صفاء مودتي ... لمن لا يرى يوماً على له فضلاً
وأستعمل الإنصاف في الناس كلهم ... فلا أصل الجافي ولا أقطع الحبلا
وأخضع لله الذي هو خالقي ... ولن أعطي المخلوق من نفسي الذلا


إسماعيل بن محمد، بن أحمد الوثابيأبو طاهر، من أهل أصبهان، له معرفة تامة بالأدب، وطبع جواد بالشعر، مات في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. قال السمعاني: ومن خطه نقلت: ما رأيت بأصفهان في صنعة الشعر والترسل، أفضل منه، أضر في آخر عمره، وافتقر وظهر الخلل في أحواله، حتى كاد أن يختلط، دخلت عليه داره بأصبهان، وما رأيت أسرع بديهة منه في النظم والنثر. افترحت عليه رسالة فقال لي: خذ القلم واكتب، وأملى علي في الحال بلا ترو ولا تفكر، كأحسن ما يكون، إلا أني سمعت الناس يقولون: إنه يخل بالصلوات المفروضة، والله أعلم بحاله.
وأنشد عنه السمعاني أشعاراً له منها:
أشاعوا فقالوا وقفة ووداع ... وزمت مطايا للرحيل سراع
فقلت: وداع لا أطيق عيانه ... كفاني من البين المشتت سماع
ولم يملك الكتمان قلب ملكته ... وعند النوى سر الكتوم مذاع
وأنشد عنه له:
فو الله لا أنسى مدى الدهر قولها ... ونحن على حد الوداع وقوف
وللنار من تحت الضلوع تلهب ... وللماء من فوق الخدود وكيف
ألا قاتل الله الصورف فإنما ... تفرق بين للصاحبين صروف
وأنشد له عنه أيضاً:
طابت لعمري على الهجرا ذكراها ... كأن نفسي ترى الحرمان ذكراها
تحيا بيأس وتفنيها طماعية ... هل مهجة برد يأس الوصل أحياها؟
قامت لها دون دعوى الحب بينة ... بشاهدين أبانا صدق دعواها
إرسال شكوى وإجراء الدموع معاً ... وإن تحقبت مجراها ومرساها
وأنشد عنه له م قصيدة.
فعج صاح بالعوج الطلاح إلى الحمى ... وزر أثلات القاع طال بها العهد
تعوض عيناُ بعد عين أوانساً ... وأوحش أحشاء تضمنها الوجد
وما ساءني وجد ولا ضرني هوى ... كما ساءني هج تعقبه صد
تبصر خليلي من ثنية بارق ... بريقاً كسقط النار عالجه الزند
يدق وأحياناً يرق ويرتقي ... ويخفى كرأي الغمر إمضاؤه رد
فيقضى بها من ذكر حزوى ليانة ... ويطفى بها م نار وجد بها وقد
وإن كان عهد لاوصل أضحى نسيئة ... فهاك أليل البرق إذ عهده نقد
وشم لي نسيم الريح من أفق الحمى ... فقد عبق الوادي وفاح بهالارند
إسماعيل بن محمد، بن عبدوس الدهانأبو محمد النيسابوري، أنفق ماله على الأدب، وتقدم فيه، وبرع في علم اللغة، والنحو والعروف، وأخذ عن إسماعيل بن حماد الجوهري، فاستكثر منه، وحصل كتابه كتاب الصحاح في اللغة بخطه واتص باالأمير أبي الفضل الميكالي بشعر كثير، ثم أوتي الزهد والإعراض عن الأعراض الدنيا.
وقال لما أزمع الحج والزيارة:
أتيتك راجلاً ووددت أني ... ملكت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير على الماقي ... إلى قبر رسول الله فيه
وله أيضاً:
أيا خير مبعوث إلى خير أمة ... نصحت وبلغت الرسالة ولاوحيا
فلو كان في الإمكان سعى بمقلتي ... إليك رسول الله أفنيتها سعيا
وله أيضاً:
عبد عصى ربه ولكن ... ليس سوى واحد يقول
إن لم يكن فعله جميلاً ... فإنما ظنه جميل
وقال لصديق له:
نصحتك يا أبا إسحاق فاقبل ... فإني ناصح لك ذو صداقه
تعلم ما بدا لك من علوم ... فما الإدبار إلا في الوراقه
قال: وسألني أن أردد شيئاً من أشعاره في الغزل والمديح في كتابي هذا، فانتهيت في ذلك إلى رواية...
إسماعيل بن محمد القمي النحويذكره ابن النديم فقال: له من التصانيف، كتاب الهمز. كتاب العلل.
إسماعيل بن محمد، بن عامر، بن حبيبأبو الوليد الكاتب بإشبيلية فيقال: له ولأبيه قدم في الأدب، وله شعر كثير تقوله بفضل أدبه. وله كتاب في فضل الربيع. مات أبو الوليد ب محمد بن عامر، قريباً من سنة أربعين وأربعمائة بإشبيلية، ومن شعره في الربيع:
أبشر فقد سفر الثرى عن بشره ... وأتاك ينشر ما طوى من نشره

متحصناً من حسنه في معقل ... عقل العيون على رعاية زهره
من بعد ما سحب السحاب ذيوله ... فيه ودر عليه أنفس دره
شهر كأن الحاجب بن محمد ... ألقى عليه مسحة من بشره
إسماعيل بن مجمع الأخباريذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أحد أصحاب السير والأخبار، ومعروف بصحبة الواقدي المختص به، مات سنة سبع وعشرين ومائتين. له من التصنيف: كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ومغازيه، وسراياه.
إسماعيل بن موهوب، بن أحمد، بن محمدابن الخضر، بن الجواليق، يكنى أبا محمد، كان إمام أهل الأدب، بعد أبيه أبي منصور بالعراق، واختص بتأديب ولد الخلفاء، مات في شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وكان مليح الخط، جيد الضبط، يشبه خطه خط والده، وكانت له معرفة حسنة باللغة والأدب، وكانت له حلقة بجامع القصر، يقرئ فيها الأدب كل جمعة. سمع منه ابن الأخضر، وابن حمدون الحسن تاج الدين، وغيرهما. ومولده في شعبان، سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. وكان بينه وبين أخيه إسحاق في المولد سنة ونصف، وفي الوفاة ثلاثة أشهر.
حدثت أن أبا الحسن، جعفر بن محمد، بن فطيرا، ناظر واسط والبصرة، وما بينهما من تلك النواحي، دخل يوماً إلى بعض الوزراء في أيام المستضيئ بالله - سقى الله عهوده صوب الرضوان، - فرأى في مجلسه الذي كان بجلسه، رجلاً لم يعرفه، فهابه وجلس بين يدي الوزير، وكان بان فطير معروفاً بالمزاح والنادرة، فتقدم حتى قال للوزير مساراً: يا مولانا، من هذا الذي قد جلس في مجلسي؟ فقال: هذا لاشيخ الأمام أبو محمد بن الجواليقي. فقال: وأي أرباب المناصب هو؟ قال: ليس هو من أرباب المناصب، هذا هو الإمام الذي يصلي بأمير المؤمنين، صلوات الله عليه وسلامه.
قال: فقام مبادراً وأخذ بيده، وأزاحه عن موضعه، وجلس في منصبه، وقال له: أيها الشيخ، أن ينبغي أن تتشامخ على إمام الوزير ومن دونه، فتجلس فوقهم، لأنك أعلى منهم منزلة، فأما على أنا، وأنا ناظر واسط والبصرة وما بينهما، فلا. قال: فما تمالك أهل المجلس من الضحك أن يمسكوه.
إسماعيل بن المبارك اليزيديبن أبي محمد يحيى، بن المبارك اليزيدي نذكر نسبه وولادته في ترجمة أبيه يحيى، إن شاء الله تعالى وحده، وكان إسماعيل أحد الأدباء الرواة، الفضلاء من ولج أبيه، وكان شاعراً مصنفاً، صنف كتاب طبقات الشعراء، فنقلت من خط عمر بن محمد، بن سيف الكاتب: أنشدنا اليزيدي أبو عبد الله، يعني محمد بن العباس، بن محمد، بن أبي محمد، بعد فراغه من كتاب الوحوش لعم أبيه، إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي:
كلما رابني من الدهر ريب ... فاتكالي عليك يا رب فيه
إن من كان ليس يدري أفي المح ... بوب صنع له أوالمكروه
لحرى بأن يفوض ما يع ... جز عنه إلى الذي يكفيه
الإله البر الذي هو في الرأ ... فة أحنى من أمه وأبيه
قعدت بي الذنوب أستغفر الل ... ه لها مخلصاً وأستعفيه
كم يوالي لنا الكرامة والنع ... مة من فضله وكم نعصيه؟؟
ومن شعره عن المرزباني:
أتت ثمانون فاستمرت ... بالنقص من قوتي وعزمي
فرق جلدي ودق عظمي ... واختل بعد التمام جسمي
ياليت أني صحبت دهري ... صحبة ذي تهمة وحزم
من لم يكن عاملاً بعلم ... رواه لم ينتفع بعلم
وقال يرثي علي بن يحيى المنجم، ومات على في سينة خمس وسبعين وثلاثمائة.
مات السماح ومات الجود والكرم ... إذ ضم شخص علي في الثرى رجم
سقيت من مجدث فابتل ساكنه ... غيثاً ملثا توالي صوبه الديم
عادت لنا بعدك الأيام مظلمة ... وكنت ضوءاً لها تجلى به الظلم
كان لازان فتيا مشرفاً نضراً ... فاليوم أخلقه من بعدك الهرم
قد كنت للخلق في حاجاتهم علماً ... يفرج الهم عنهم ذلك العلم
الأغر أبو الحسنذكره أبو بكر الزبيدي في نحاة مصر، وقال: أخذ عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، ولقيه قوم من أهل الأندلس، وحملوا عنه في سنة سبع وعشرين ومائتين


أمان بن الصمصامة، ابن الطرماح، بن الحكيمابن الحكم، بن نفرن بن قيس، بن جحدر، بن ثعلبة، بن رضا ب مالك، بن أمان، ب عمرو، ابن ربيعت، بن جرول، بن ثعل، بن عمرو، بن الغوث، أبي طئ. والطرماح الشاعر المشهور، ويكنى أمان هذا، أبا مالك. واطرحه با لأغلب، إذ صار إليه الأمر لهجاء جده الطرماح بني تميم. قال أبو الوليد المهدي: أبطأت على أبي مالك وكان مريضاً فكتب إلى:
أبلغ المهدي عن مألكا ... أن دائي قد أصار المخ ريرا
كنت في المرضى مريضاً مطلقاً ... ولقد أصبحت في المرضى أسيراً
فإذا ما مت فانعم سالماً ... وتمل العيش في الدنياكثيرا
وأخذ عنهالمهدي جزءاً من النحو، واللغة، والشعر.
أمية بن عبد العزيز، بن أبي الصلتمن أهل الأندلس، كان أديباً فاضلاً، حكيماً منجماً، مات في سنة تسع وعشري وخمسمائة، في المحرم بالمهدية من بلاد القيروان، وهو صاحب فصاحة بارعة، وعلم بالنحو، والطب. وكان قد ورد إلى مصر في أيام المسمى بالآمر، من ملوك مصر، واتصل بوزيره ومدير دولته، الأفضل شاهنشاه، بن أمير الجيوش بدر، واشتمل عليه رجل من خواص الأفضل، يعرف بمختار، ويلقب بتاج المعالي، وكانت منزلته عند الأفضل عالية، ومكانته بالسعد حالية، فتحسنت حال أمية عنده، وقرب من قلبه، وخدمه بصناعي الطب والنجوم، وأنس تاج المعالي منه بالفضل، الذي لا يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فوصفه بحضرة الأفضل، وأثنى عليه، وذكر ما سمعه من أعيان أهل العلم، وإجماعهم على تقدمه في الفضل وتميزه عن كتاب وقته. وكان كاتب حضرة الأفضل يومئذ، رجل قد حمى هذا الباب، ومنع من أن يمر بمجلسه ذكر أحد م أهل العلم بالأدب، إلا أنه لم يتمكن من معارضة قول تاج المعالي، فأغضى على قذى، وأضمر لأبي الصلت المكروه، وتتابعت من تاج المعالي السقطات، وأفضت إلى تغير الأفضل، والقبض عليه والاعتقال، فوجد حينئذ السبيل إلى أبي الصلت، بما اختلق له من المحال، فحبسه الأفضل في سجن المعونة بمصر، مدة ثلاث سنين وشهر واحد، على ما أخبرني به الثقة عنه، ثم أطلق، فقصد المرتضي أبا طاهر يحيى بن تميم، بن المعز، بن باديس، صاحب القيروان، فحظى عنده، وحسن حاله معه. وقد ذكر ذلك في رسالة لم يذم فيها مصر، ويصف حاله، ويثني على بان باديس، واستشهد فيها بهذه الأبيات في وصف ابن باديس:
فلم أستسغ إلا نداه ولم يكن ... ليعدل عندي ذا الجناب جناب
فما كل إنعام يخف احتماله ... وإن هطلت منه على سحاب
ولكن أجل اصنع ماجل ربه ... ولم يأت باب دونه موحجاب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني وشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا
ومن شعره أيضاً:
لا غرو إن لحقت لهاك مدائحي ... فتدقت نعماك ملء إنائها
يكسى القضيب ولم يحن إبانه ... وتطوق الورقاء قبل غنائها
ومنه يرثي:
قد كنت جارك والأيام ترهبني ... ولست أرهب غير الله من أحد
فنافستني الليالي فيك ظالمة ... وما حسبت الليالي من ذوي الحسد
ولأبي الصلت من التصانيف: كتاب الأدوية المفردة، كتاب تقويم الذهن في المنطق، كتاب الرسالة المصرية، كتاب ديوان شعره كبير، كتاب رسالة عمر في الأسطرلاب، كتاب الديباجة في مفاخر صنهاجة؟ كتاب ديوان رسائل، كتاب الحديثة ف يمختار من أشعار المحدثين، ومن شعر أمية منقولاً من كتاب سر السرور:
حسبي فقد بعدت في الغي أشواطي ... وطال في اللهو إيغالي وإفراطي
أنفقت في اللهو عمري غير متعظ ... وجدت فيه بوفري غيرمحتاط
فكيف أخلص من بحر الذنوب وقد ... غرقت فيه على بعد من الشاطئ
يا رب مالي ما أرجو رضاك به ... إلا اعترافي بأني المذنب الخاطي
ومنه أيضاً:
لله يومي ببركة الحبش ... والصبح بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كطائر في يمي مرتعش
ونحن في روضة مفوة ... دبج بالنور عطفها ووشي

قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش
وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش
فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش
وأسقني بالكبار مترعة ... فهن أشفى لشدة العطش
قال محمد بن محمود: حدثني طلحة أن أبا الصلت، اجتمع في بعض متنزهات مصر، مع وجوه أفاضلها، فمال لصبي صبيح الوجه، عديم الشبه، قد نقط نون صدغه على صفحة خده، فاستو صفوه إياه، فقال:
منفرد بالحس والظرف ... بحت لديه بالذي أخفى
لهفي شكوت وهومن تيهه ... في غفلة عني وعن لهفي
قد عوقبت أجفانه بالضنى ... لأنها أضنت وما تشفى
قد أزهر الورد على خده ... لكنه ممتنع القطف
كأنما الخال به نقطة ... قد قطرت من كحل الطرف
قال: وحدثني أبو عبد الله الشامي، وكان قد درس عليه، واقتبس ما لديه، أن الإفضل كان قد تغير عليه وحبسه بالإسكندرية في دار الكتب الحكيم أرسططاليس، قال: وكنت أختلف إليه إذ ذاك، فدخلت إليه يوماً، فصادفته مطرقاً، فلم يرفع رأسه إلى على العادة، فسألته فل يرد الجواب، ثم قال بعد ساعة: اكتب، وأنشدني:
قد كان لي سبب قد كنت أحسب أن ... أحضى به فإذا دائي من السبب
فما مقلم أظفاري سوى قلمي ... ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
فكتبت وسألته ع ذلك، فقال: إن فلاناً تلميذي، قد طعن في عند الأمير الأفضل، ثم رفع رأسه إلى السماء، واغرورقت عيناه دمعاً، ودعا عليه، فلم يحل الحول حتى استجيب له.
وأنشدني الشيخ سليمان بن الفياض الإسكندراني - وكان ممن درس عليه، واختلف إليه - في صفة فرس:
صفراء إلا حجول مؤخرها ... فهي مدام ورسغها زيد
تعطيك مجهودها فراهتها ... في الحضر والحضر عندها وخد
وأنشدني له يهجو، وما هو من صناعته:
صاف ومولاته وسيده ... حدود شكل القياس مجموعة
فالشيخ فو الاثنين مرتفع ... والست تحت الاثنين موضوعة
والشيخ محمول ذي وحامل ذا ... بحشمة في الجميع مصنوعة
شكل قياس كانت نتيجته ... غريبة في دمشق مطبوعة
وقرأت في الرسالة المصرية، زيادة على البيتين المتقدم ذكرهما قبل:
وكم تمنيت أن ألقى بها أحداً ... يسلى من الهم أو يعدى على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب
باب الباء
برزخ بن محمد، أبو محمد العروضيمولى بجيلة، وقال الصولى: أظنه من موالي كندة، وقال ابن درستويه: ومن علماء الكوفة: برزخ بن محمد العروضي، وهو الذي صنف كتاباً في العروض، نقض فيه العروض - في زعمه - على الخليل، وأبطل الدوائر والألقاب، والعلل التي وضعتها، ونسبها إلى قبائل العرب، وكان كذاباً.
وحدث الصولى: حدث جبلة بن محمد قال: سمعت أبي يقول: كان الناس قد البوا على أبي محمد برزخ ابن محمد العروضي، لكثرة حفظه، فساء ذلك حماداً وجناداً، فدسا إليه من يسقطه، فإذا هو يحدث بالحديث عن رجل فعل شيئاً، ثم يحدث به عن رجل آخر بعد ذلك، ثم يحدث به عن آخر، فتركه الناس حتى كان يجلس وحده. وحدث صعود قال: سمعت سلمة يقول: كاني ونس النحوي يقول: إن لم يكن برزخ أروى الناس، فهو أكذب الناس. قال سلمة: وصدق يونس يقول: إن كان ما أتي به حقاً وإلا فقد كذب، لأنه حدث عن أقوام لا يعرفهم الناس.
وحدث ابن قادم قال: سئل الفراء عن برزخ، فأنشد قول زهير:
أضاعت فلم يغفر لها غفلاتها ... فلاقت بياناً عند آخر معهد
يريد أن الناس اجتنبوه، لشيء استبانوه منه.
وحدث المازني قال: روى برزخ شعراً لامرئ القيس فقال له جناد: عمن رويت هذا؟ قال عني: وحسبك بي، فقال له جناد: من هذا أتيت يا غافل.
وحدث الصولي عن أبي عبد الله، أحمد بن الحسن السكوني قال: كنا نروى لبرزخ أشعاراً منها:
ليس بيني وبين قومي إلا ... أنني فاضل لهم في الذكاء
حسدوني فزخرفوا في قولاً ... تتلقاه ألسن البغضاء

كنت أرجو العلاء فيهم بعلمي ... فأتاني من الرجاء يلائي
شدة قد أفدتها من رخاء ... وانتقاص جنيته من وفاء
وحدث الحارث بن أبي أسامة قال: أنشدني عثمان ابن محمد لأبي حنش، واسمه حضير بن قيس شعراُ، يقوله في برزخ:
أبرزخ قد فقدتك من ثقيل ... فظلك حين يوزن وزن فيل
فماتنفك إنساناً تماري ... جليسك منك في هم طويل
وبالأشعار علمك حين يقضى ... علينا بالسماع المستطيل
يكون كلطم سنور إذا ما ... أثاروه بأكل الرنجبيل
ولبرزخ من التصانيف: كتاب العروض، كتاب بناء الكلام. قال محمد بان إسحاق النديم: رأيته في جلود. وكتاب معاني العروض على حروف المعجم، كتاب النقض على الخليل وتغليظه في العروض، كتاب الأوس في العروض، كتاب تفسير الغريب.
بشر بن يحيى، بن علي القيني النصيبيأبو ضياء من أهل نصيبين، شاعر قليل الشعر، وأديب كثير الأدب، وله من الكتب فيما ذكره محمد ابن إسحاق: كتاب سرقات البحتري م أبي تمام، كتاب الجواهر، كتاب الآداب، كتاب السرقات الكبير لم يتم.
بقي بن مخلد الأندلسي، أبو عبد الرحمنذكره الحميدي وقال:مات بالأندلس، سنة ست وسبعين ومائتين، في قول أبي سعيد بن يونس. وقال الدار قطني: مات سنة ثلاث وسبعي، والأول أصح. قال الحميدي: وبقي من حفاظ المحدثين، وأئمة الدين، والزهاد الصالحين، رحل إلى المشرق، فروى عن الأئمة، وأعلام السنة، منهم الإمام أبو عبد الله، أحمد بن محمد، بن حنبل، وأبو بكر ابن عبد الله، بن محمد، بن أبي شيبة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وخليفة بن خياط، وجماعات أعلام، يزيدون على المائتين، وكتب المصنفات الكبار، والمنثور الكثير، وبالغ في الجمع والرواية، ورجع إلى الأندلس، فملأها علماً جماً، وألف كتباً حساناً، تدل على احتفاله واستكثاره.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: فمن مصنفات بقي ابن مخلد، كتاب تفسير القرآن، وهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه، أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، ولا تصنيف محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث: كتاب مصنفه الكبير، الذي رتبه على أسماء الصحابة، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه، وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وماأعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه، وإتقانه واحتفاله في الحديث، وجودة شيوخه. فإنه روى ع مئاة رجل وأربعة وثمانين رجلاً، ليس فيه عشر ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير، ومنها كتاب في فتاوى الصحابة والتابعين ومن دونهم، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر، بن أبي شيبة وغيره، فصارت تصانيفه قواعد الإسلام، لا نظير لها، وكان بحراً لا يقلد أحداً، وكان خاصاً بأحمد بن حنبل، وجارياً في مضمار البخاري ومسلم. كل هذا من كتاب الحميدي، وإما ذكرته لتصنيفه كتاباً في تفسير القرآن.
وذكر له ترجمة أخرى فقال فيها: ولد بقي بن مخلد الأندلسي في رمضان، سنة إحدى وثمانين، وتوفى ليلة الثلاثاء، لتسع وعشرين لية مضت من جمادى الآخرة، سنة ست وسبعين ومائتين، ودفن في المقبرة المنسوبة إلى بني العباس، وكانت له رحلتان، أقام في إحداهما نحو العشرين عاماً، وفي الثانية نحو الأربعة عشر عاماً، فأخبرني أبي أنه كان يطوف في الأمصار على أهل الحديث، فإذا أتي وقت الحج، أتي إلى مكة فحج، هذا كان فعله كل عام في رحلتيه جميعاً، وكان يلتزم صيام الدهر، فإذا أتي يوم جمعةٍ أفطر وكانت له عبادات كثيرة، من قراءة القرآن، وغيرها من الصلوات، ونشر العلم.

قال: أما مشايخه الذين سمع منهم، فكانوا مائتي رجل، وأربعة وثمانين رجلاً، هكذا ذكر في هذه الترجمة، فما أدري أيهما الصحيح؟ أخبرني أسم بن عبد العزيز، أخبرني أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال: لما وضعت مسندي، أتاني عبيد الله بن يحيى، ومعه أخوه إسحاق، فقالا لي: بلغنا أنك وضعت مسنداً، قدمت فيه أبا مصعب وابن بكير، وأخرت أبانا، فقال بقي: أما تقديمي لأبي مصعب، فإني قدمته لقول رسول الله عليه وسلم: (فقدموا قيش ولا تقدموها). وأما ابن بكير، فإني قدمته لسنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، مع أنه سمع الموطأ من مالك سبع عشرة مرة، ولم يسمعه أبوكما إلا مرة واحدة قال بقي: فخرجا عني، ولم يعودا إلى بعد ذلك، وخرجاإلى حد المداوة.
حدثنا قالسم بن أصبغ قال: خرجت من الأندلس ولم أرو عن بقي شيئاً، فلما دخلتالعراق وغيره من البلدان، سمعت من فضائله وتعظيمه، ما اندمني على ترك الرواية عنه، وقلت: إذا رجعت لزمته حتى أروي جميع ما عنده، فأتانا نعيه ونحن بإطرابلس.
وحدثنا قاسم بن أصبغ قال: سمعت أحمد بن أبي خيثمة يقول: وذكر بقي بن مخلد فقال: ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل احتاج بلد بقي أن يأتي إلى ههنا منه أحد؟ فقلنا له: ولا أنت تحدثنا عن رجال ابن أبي شيبة؟ فقال: ولا أنا.
وذكر بقي أنه أدرك جماعةً من أصحاب سفيان الثوري، فلم يرو عنهم، وروى عن رجلين: عن سفيان الثوري قال: وحدثت عن بقي أنهقال يوماً لطلبته، أنتم تطلبون العم؟ وهكذا يطلب العلم؟ إنما أحدكم إذا لم يكن عليه شغل يقول: أمضى أسمع العلم، إني لأعرف لاجلاً تمضي عليه الأيام في وقت طلبه للعلم، لا يكون له عيش ألام ورق الكرنب الذي يلقيه الناس، وإني لأعرف رجلاً باع سراويله غير مرة في شرى كاغد حتى يسوق الله عليه من حيث يخلفها.
قال الحميدي: أخبرنا أبو القاسم، عبد الكريم ابن هزازن القشيري، في أجازة وصلت إليه، وذكر إسناداً وقال: جاءت امرأة إلى بقي بن مخلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار، فقال: أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرك شفيته قال: ولبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم، مع جماعة من الأساري، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجئ من العمل مع صاحبه، الذي كا يحفظنا، إذ انفتح القيد من رجلي، ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت المرأة، ودعاء الشيخ. قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني، وصاح علي: كسرت القيد؟ فقلت: لا، إلا أنه سقط من رجلي. قال فتحيروا في أمري، ودعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت لهم نعم. فقالوا: وافق داؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله، ولا يمكننا تقييدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسليمين.
بكر بن حبيب السهمي، والد عبد اللهابن بكر، المحدث، ذكره الزبيدي وغيره في النحويين.
أخذ عن ابن أبي إسحاق، وقال ابن أبي إسحاق لبكر بن حبيب: ما ألحن في شيء، قال نفعل؟ فقال له: فخذ على كلمة، قال: هذه واحدة، قل كلمة، وقربت منه سنورة، فقال: لها اخسي، فقال له: أخطأت، إنما هو اخسئ.
وحدث أبو أحمد، الحسين بن عبد الله العسكري في كتاب النصحيف، له عن أبيه، عن عسل بن ذكوان عن الرياشي قال: توفى ابن لبعض المهالبة، فأتاه شبيب ابن شيبة المنقري يعزيه، وعنده بكر بن حبيب السهمي فقال شبيب: بلغنا أن الطفل لا يزال محبنطئاً، على باب الجنة يشفع لأبويه. فقال بكر بن حبيب: إنما هو محبنطياً غير مهموز. فقال له شبيب: أتقول لي هذا؟ وما بين لابتيها أفصح مني. فقال بكر: وهذا خطأ ثان، ما للبصرة وللوب، لعلك غرك قولهم: ما بين لابتي المدينة، يريدنون الحرة.
قال أبو أحمد: والحرة أرض تركبها حجارة سود وهي الللابة، وجمعها لابات، فإذا كسرت فهي اللوب والللاب، وللمدينة لابتان من جانبيها، وليس للبصرة لابة ولا حرة.
قال أبو عبيدة: المحبنطي بغير همزة: هو المنتصب المستبطئ للشيء، والمحبنطيئ بالهمز: العظيم البطن المنتفخ.

وقال أبو عبد الله المرزباني في كتاب المعجم: بكر بن حبيب السهمي من بالهلة، أحد مشايخ المحدثين قال النه عبد الله بن بكر، كان أبي يقول البيتين والثلاثة، وهو القائل:
سير النواعج في بلاج مضلة ... يمسي الدليل بها على ملمال
خير من الطمع الدنئ ومجلس ... بفناء لا طلق ولا مفضال
فاقصد لحاجتك المليك فإنه ... يغنيك عن مترفع مختال
وحدث التاريخي عن أبي خالد، يزيد بن محمد المهلبي، عن البجلي، عن قتب بن بشر قال: كنت مع بكر بن حبيب السهمي بموضع، يقال له قصر زربي، ونحن مشرفون على المربد، إذ مر بنا يونس بن حبيب النحوي، فقال: أمر بكم الأمير؟ قال بكر: نعم، مر بنا عاصباً فوه، فرمى يونس بعنانه على عنق حماره، ثم قال: أف أف. فقال له بكر: انظر حسناً، ثم قال نعم.
وإنما ظن يونس بن حبيب النحوي، أنه قد لحن، وأنه كان يجب أ يوقل عاصباً فاه، فلما تبين أنه أراد عصب الفم صوبه.
قال: ومر بكر بن حبيب بدار فسمع جلبة فقال: ما هذه الجلبة؟ أعرس أم خرس؟ أم إعذار أم توكير؟ فقال له قوم: قد عرفنا العرس، فأخبرنا ما سوى ذاك، قال: الخرس: الطعام على الولادة، و الإعذار: الختان، و التوكير: أن يبني الرجل القبة، ويحدث القدر الجماع، فيقال: وكر لنا طعاماً. قال: والقدر: الجماع الكبيرة.
وقال ثعلب: الوكيرة: مأخوذ من الوكر، وهي الوليمة، التي يصنعها الرجل عند بناء المنزل.
أبو بكر بن عياش،الخياطبن سالم، الكوفي الخياط مولى واصل بن حيان الأسدي الأحدب، واختلف في اسمه، فقيل: اسمه قتيبة، وقيل شعبة، وقيل عبد الله، وقيل محمد، وقيل مطرف، وقيل سالم، وقيل عنترة، وقيل أحمد، وقيل عتيق، وقيل رؤبة، وقيل حماد، وقيل حسين، وقيل قاسم، وقيل لا يعرف له اسم، وأظهر ذلك شعبة ومطرف، قال الهيثم بن عدي: اسم أبي بكر مطرف بن النهشلي ومات ابن عياش في سنة ثلاث وتسعين ومائة، في السنة التي مات فيها الرشيد بن المهدي قبله بشهر، وفيها مات غندر، وعبد الله بن إدريس.
وروى أن اب عياش مات في سنة اثنتين وتسعين، والأول أظهر.
ومولده سنة سبع وتسعين، في أيام سليمان بن عبد الملك، وروى سنة أربع وتسعين، وروى سنة خمس وتسعين، وكان ابن عياش يقول: أنا نصف الإسلام.
وقال الحسين بن فهم: وقد ذكر جماعة لا تعرف أسماؤهم، منهم أبو بكر بن أبي مريم، وأبو بكر ابن أبي سبرة، وأبو بكر بن محمد، بن عمرو، بن حزم، وأبو بكر بن عبد الرحمن،وأبو بكر بن عياش، وأبو بكر بن أبي العرامس. وقال أبو الحسن الأهوازي المقرئ في كتابه: وإنما وقع هذا الاختلاف في اسم أبي بكر،لأنه كان رجلاً مهيباً، فكانوا يهابونه أن يسألوه، فروى كل واحد على ما وقع له قلت: وقد روى المرز باني في كتابه: أن جماعة من أهل العلم، سألوه عن اسمه، واختلفت أقوالهم على ما تقدم، ولولا كراهة الإطالة لذكرته. وكان ابن عياش معظماً عند العلماء وقد لقي الفرزدق، وذا الرمة، وروى عنهما شيئاً من شعرهما.
حدث المرز باني: حدثنا أحمد بن عيسى، عن أحمد بن أبي خيثمة، حدثنا محمد بن يزيد قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن. قال عزوجل: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم)، إلى قوله: (أولئك هم الصادقون)، فهؤلاء سموه خليفة رسول الله، وهؤلاء لا يكذبون.
وحدث المرزباني بإسناده إلى زكريا بن يحيى الطائي قال:سمعت أبا بكر بن عياش يقول: إني أريد أن أتكلم اليوم بكلام، لا يخالفني فيه أحد إلا هجرته ثلاثاً. قالوا: قل يا أبا بكر. قال: ما ولد لآدم عليه السلام، مولود بعد النبيين و المرسلين، أفضل من أبي بكر الصديق. قالوا: صدقت يا أبا بكر، ولا يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام؟ قال: ولا يوشع بن نون، إلا أن يكون نبياً. ثم فسره فقال: قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير هذه الأمة أبو بكر).

قال زكريا بن يحيى: وسمعت ابن عياش يقول: لو أتاني أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - في حاجة، لبدأ بحاجة علي قبل حاجة أبي بكر وعمر، لقرابته من رسول الله، ولأن أخر من السماء إلى الأرض، أحب إلي من أن أقدمه عليهما. وكان يقدم علياً على عثمان، ولا يغلو ولا يقول إلا خيراً. وحدث المرزباني بإسناده عن أبي بكر بن عياش، عن ذر، عن عبد الله قال: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلبه، فوجد قلوب أصحابه، خير القلوب، بعد قلبه فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم، يقاتلون عن دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً، فهو عند الله سيئ قال أبو بكر ابن عياش: وأنا أقول: إنهم رأوا أن يولوا أبا بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدث المرزباني، حدثنا أبو محمد بن مخلد، حدثنا أبو عمر العطاري قال: بعث أبو بكر بن عياش، إلى أبي يوسف الأعشى، فمضيت مع أبي يوسف، ومع عبد الوهاب ابن عمر، والعباس بن عمير، فدخلنا إليه وهو في علية له فقال لأبي يوسف: قد قرأت علي القرآن مرتين. وقد نقلت عني القرآن، فاقرأ علي آخر الأنفال، واقرأ علي من رأس المائة من براءة، واقرأ علي كذا، واقرأ كذا فقال له أبو يوسف: يا أبا بكر، هذا القرآن، والحديث، والفقه، وأكثر الأشياء أفدتها بعد ما كبرت، أو لم تزل فيه مذ كنت؟ ففكر هنيهة ثم قال: بلغت وأنا ابن ست عشرة سنة، فكنت فيما يكون فيه الشبان مما يعرف وينكر سنتي، ثم وعظت فسي وزجرتها، وأقبلت على الخير وقراءة القرآن، فكنت أختلف إلى عاصم في كل يوم، وربما مطرنا ليلاً، فأنزع سراويلي وأخوض الماء إلى حقوي، فقال له أبو يوسف: ومن أين هذا الماء كله؟ قال: كنا إذا مطرنا، جاء ماء الحيرة إلينا، حتى يدخل الكوفة.
وكنت إذا قرأت على عاصم، أتيت الكلبي فسألته عن تفسيره، وأخبرني أبو بكر أن عاصماً أخبره أنه كان يأتي زر بن حبيش، فيقرئه خمس آيات لا يزيد عليها شيئاً، ثم يأتي أبا عبد الرحمن السلمي، فيعرضها عليه، فكانت توافق قراءة زر، قراءة أبي عبد الرحمن، وكان أبو عبد الرحمن، قرأ على علي عليه السلام، وكان زر بن حبيش الشكري العاطردي قرأ على عبد الله بن مسعود القرآن كله، في كل يوم آية واحدة، لا يزيده عليها شيئاً، فإذا كانت آية قصيرة استقلها زر من عبد الله، فيقول عبد الله: خذها، فوالذي نفسي بيده، لهي خير من الدنيا وما فيها، ثم يقول أبو بكر، وصدق والله، ونحن نقول كما قال أبو بكر بن عياش، إذ حدثنا عن عاصم عن زر، عن عبد الله قال: هذا والله الذي لا إله إلا هو حق، كما أنكم عندي جلوس، والله ما كذبت، والله ما كذب عاصم بن أبي النجود، والله ما كذب زر، والله ما كذب عبد الله بن مسعود، وإن هذا لحق كما أنكم عندي جلوس.
وحدث عمن أسنده إلى أحمد بن عبد الله بن يونس قال: ذكر النبيذ عند العباس بن موسى، فقال: إن ابن إدريس يحرمه، فقال أبو بكر بن عياش: إن كان النبيذ حراماً، فالناس كلهم أهل ردة.
وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن عياش: كنت أنا وسفيان الثوري وشريك، نتماشى بين الحيرة والكوفة، فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية، حسن السمت والهيئة، فظننا أن عنده شيئاً من الحديث، وأنه قد أدرك الناس، وكان سفيان أطلبنا للحديث، وأشدنا بحثاً عنه، فتقدم إليه وقال: يا هذا، عندك شيء من الحديث؟ فقال: أما حديث فلا، ولكن عندي عتيق سنتين، فنظرنا فإذا هو خمار. وحدث أبو بكر بن عياش قال: الفرزدق بالكوفة ينعي عمر بن عبد العزيز، - رضي الله عنه - ، فقال:
كم من شريعة عدل قد سننت لهم ... كانت أميتت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف اللاهفين معي ... على العدول التي تغتالها الحفر
وحدث بإسناده عن ابن كناسة قال: حدثني أبو بكر ابن عياش قال: كنت إذ أنا شاب إذا أصابتني مصيبة، تصبرت ورددت البكاء، فكان ذلك يوجعني ويزيدني ألماً، حتى رأيت بالكناسة أعرابياً واقفاً، وقد اجتمع الناس حوله فأنشد:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجهور حزوى وابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل

فسألت عنه، فقيل: ذو الرمة. قال: فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنت أبيك فأجد راحة، فقلت في نفسي: - قاتل الله - الأعرابي، ما كان أبصره وأعلمه!!.
وحدث المرزباني، عن الحسن النحوي، عن محمد بن عثمان، بن أبي شيبة قال: سمعت عمي القاسم بن محمد يقول: حدثني يحيى بن آدم قال: لما قدم هارون الرشيد الكوفة، نزل الحيرة، ثم بعث إلى أبي بكر ابن عياش، فحملناه إليه، وكنت أنا أقتاده بعد ذهاب بصره، فلما انتهينا إلى باب الخليفة، ذهب الحجاب يأخذون أبا بكر مني، فأمسك أبو بكر بيدي وقال: هذا قائدي لا يفارقني، فقالوا: ادخل أنت وقائدك يا أبا بكر، قال يحيى: فدخلت به، وإذا هارون جالس وحده، فلما دنا منه أنذرته، فسلم عليه بالخلافة، فأحسن هارون الرد، فأجلسته حيث أمرت، ثم خرجت فقعدت في مكان أراهما وأسمع كلامهما، قال: فجعلت أنظر إلى هارون يتلمح أبا بكر قال: وكان أبو بكر رجلاً قد كبر، وضعفت رقبته، فاتكأ ذقنه على صدره، فسكت هارون عنه ساعة، ثم قال له: يا أبا بكر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني سائلك عن أمر فأسألك بالله لما صدقتني عنه، قال: إن كان علمه عندي، قال: إنك قد أدركت أمر بني أمية وأمرنا، فأسألك بالله، أيهما كان أقرب إلى الحق؟ قال يحيى: فقلت في نفسي: اللهم وفقه وثبته، قال: فأطال أبو بكر في الجواب، ثم قال له: يا أمير المؤمنين، أما بنو أمية فكانوا أنفع للناس منكم، وأنتم أقوم بالصلاة منهم. قال: فجعل هارون يشير بيده ويقول: إن في الصلاة، إن في الصلاة.
قال: ثم خرج فتبعه الفضل بن الربيع، فقال: يا أبا بكر: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بثلاثين ألفاً، فقال أبو بكر: فما لقائدي؟ فضحك الفضل وقال: لقائدك خمسة آلاف. قال يحيى: فأخذت الخمسة آلاف قبل أن يأخذ أبو بكر الثلاثين.
وحدث بإسناد رفعه إلى أبي بكر بن عياش، قال: دخلت على هارو أمير المؤمنين، فسلمت وجلست، فدخل فتىً من أحسن الناس وجهاً، فسلم وجلس. فقال لي هارون: يا أبا بكر: أتعرف هذا؟ قلت: لا، قال: هذا ابني محمد، ادع الله له، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فاتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمال ذلك الزمان في النار إلا من اتقى، وأدى الأمانة). فانتفض وتغير، وقال يا مسرور: اكتب، ثم سكت ساعة، وقال: يا أبا بكر، ألا تحدثني، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما قال عمر بن الخطاب للهروان؟ قال: وما قال له؟ قلت: قال له ما يمنعك من حب المال؟ وأنت كافر القلب، طويل الأمل، قال: لأني قد علمت أن الذي لي سوف يأتيني، والذي أخلفه بعدي يكون وباله علي. ثم قال يا مسرور: اكتب ويحك. ثم قال: ألك حاجة يا أبا بكر؟ قلت: تردني كما جئت بي، قال: ليست هذه حاجة، سل غيرها، قلت: يا أمير المؤمنين: لي بنات أخت ضعاف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهن بشيء، قال: قدر لهن، قلت: يقول غيري، قال: لا يقول غيرك، قلت: عشرى آلاف، قال: لهن عشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، يا فضل اكتب بها إلى الكوفة، وألا تحبس عليه. ثم قال: اصنرف ولا تنسنا من دعائك.
وحدث بإسناده عن العباس بن بنان قال: كنا عند أبي بكر بن عياش، يقرأ علينا كتاب مغيرة، فغمض عينيه فحركه جهور، وقال له: تنام يا أبا بكر؟ فقال لا، ولك مر ثقيل فغمضت عيني. وحدث أبو هاشم الدلال قال: رأيت أبا بكر بن عياش مهموماً، فقلت له: مالي أراك مهموماً؟ قال: سيف كسرى لا أدري إلى من صار. وقال محمد بن كناسة: يذكر أصحاب أبي بكر بن عياش:
لله مشيخة فجعت بهم ... كانت تزيغ إلى أبي بكر
سرج لقوم يهتدون بها ... وفضائل تنمى ولا تجري
وحدث المدائني قال: كان أبو بكر بن عياش أبرص، وكان رجل من قريش يرمى بشرب الخمر، فقال له أبو بكر ابن عياش يداعبه، زعموا أن نبياً قد بعث بحل الخمر. فقال له القرشي، إذاً لا أومن حتى يبرئ الأكمه والأبرص.
أنشد أبو بكر بن عياش اتلمحدث، ويقال إنهما له:
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويكتم السر إن صافى وإن صرما
ليس الكريم الذي إن زل صاحبه ... أفشى، وقال عليه كل ما علما


بكر بن محمد، بن بقية المازنيأبو عثمان النحوي، وقيل: هو بكر بن محمد، بن عدي، بن حبيب، أحد بني مازن بن شيبان، بن ذهل، ابن ثعلبة، بن عكاية، بن صعب، بن علي، بن بكر، ابن وائل. قال الزبيدي: قال الخشني: المازي مولى بني سدوس، نزل في بني مازن ب شيبان، فنسب إليهم، وهو من أهل البصرة، وهو أستاذ المبرد. روى عن أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأصاري. وروى عنه الفضل ب محمد اليزيدي، والمبرد، وعبد الله بن سعد الوراق، وكان إمامياً يرى رأي ابن ميثم، ويقول بالإرجاء، وكان لا يناظره أحد إلا قطعه، لقدرته على الكلام، وكان المبرد يقول: لم يكن بعد سيبويه أعلم من أبي عثمان بالنحو، وقد ناظر الأخفش في أشياء كثيرة فقطعه، وهو أخذ عن الأخفش.
وقال حمزة: لم يقرأ على الأخفش، إنما قرأ على الجرمي، ثم اختلف إلى الأخفش وقد برع، وكان يناظره ويقدم الأخفش وهو حي، وكان أبو عبيدة يسميه بالمتدرج، والنقار. مات أبو عثمان فيما ذكره الخطيب، في سنة تسع وأربعين ومائتي، أو ثمان وأربعين ومائتين، وذكر ابن واضح: أنه مات سنة ثلاثين ومائتين.
حدث المبرد عن المازني قال: كنت عند أبي عبيدة، فسأله رجل فقال له: كيف تقول عنيت بالأمر؟ قال: كما قلت عنيت بالأمر، قال: فكيف آمر منه؟ قال فغلط، وقال: اعنُ بالأمر، فأومأت إلى الرجل، ليس كما قال: فرآني أبو عبيدة، فأمهلني قليلاً، فقال: ما تصنع عندي؟ قلت: ما يصنع غيري، قال: لست كغيرك، لا تجلس إلي، قلت ولم؟ قال: لأني رأيتك مع إنسان خوزي سرق مني قطيفة، قال: فانصرفت وتحملت عليه بإخواه، فلما جئته قال لي: أدب نفسك أولاً، ثم تعلم الأدب. قال المبرد: الأمر من هذا باللام، لا يجوز غيره، لأك تأمر غير من بحضرتك، كأنه ليفعل هذا. وقال حماد يهجو المازني:
كادني المازني عند أبي العب ... باس والفضل ما علمت كريم
يا شبيه النساء في كل فن ... إن كيد النساء كيد عظيم
جمع المازني خمس خصال ... ليس يقوى بحملهن حليم
هو بالشعر والعروض وبالنح ... و وغمز الأيور طب عليم
ليس ذنبي إليك يا بكر إلا ... أن أيرى عليك ليس يقوم
وكفاني ما قال يوسف في ذا ... إن ربي بكيدكن عليم
وحدث المبرد قال: عزى المازني بعض الهاشميين، ونحن معه فقال:
إني أعزيك لا أني على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
ليس المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
وقد روي عن المبرد: أن يهودياً بذل للمازي مائة دينار، ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك، فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعيلتك؟ فقال: إن في كتاب سيبويه كذا كذا آية من كتاب الله، فكرهت أن أقرئ كتاب الله للذمة، فلم يمض على ذلك مديدة، حتى أرسل الواثق في طلبه، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله. كما حدث أبو الفرج، علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني، بإسناد رفعه إلى أبي عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي، أن مخارقاً غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي:
أظليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم

فلحنه قوم، وصوبه آخرون فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين، فذكرت له، فأمر بحملي وإزاحة عللي. فلما وصلت إليه، قال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: من مازن تميم؟ أم مازن قيس؟ أم مازن ربيعة؟ أم مازن اليمن. قلت: من مازن ربيعة، قال لي با اسمك؟ يريد ما اسمك، وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: اسمي مكر، وفي رواية فقلت: اسمي بكر. فضحك وأعجبه ذلك، وفطن لما قصدت، فإنني لم أجرؤ أن أواجهه بالمكر، فضحك وقال: اجلس فاطبئن، أي فاطمئ، فجلست فسألني عن البيت، فقلت: صوابه إن مصابكم رجلاً، قال: فأين خبر إن؟ قلت: ظلم، وهو الحرف في آخر البيت، والبيت كله متعلق به، لا معنى له حتى يتم بقوله: ظلم، ألا ترى أنه لو قال: أظليم إن مصابكم رجلاً، أهدى السلام تحية، فكأنه لم يفد شيئاً، حتى يقول ظلم، ولو قال أظليم إن مصابكم رجل، أهدى السلام تحية، لما احتاج إلى ظلم ولا كان له معني إلا أن تجعل التحية بالسلام ظلماً، وذلك محال. ويجب حينئذ: أظليم إن مصابكم رجل، أهدى السلام تحية ظلماً، ولا معنى لذلك، ولا هو لو كان له وجه مراد الشاعر. فقال: صدقت، ألك ولد؟ قلت: بنية لا غير قال: فما قالت لك حين ودعتها. قلت: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي حي جد الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى ويقطع منا الرحم
فقال الواثق: كأني بك، وقد قلت لها قول الأعشى أيضاً:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي ... يوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
فقلت: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك، وزدتها قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحهم، فمن كان عالماً ينتفع به، ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة، قطعناهم عنه قال: فامتحنتهم، فما وجدت فيهم طائلاً، وحذروا ناحيتي. فقلت: لابأس على أحد منكم، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ فقلت يفضل بعضهم بعضاً في علوم، ويفضل الباقو في غيرها. وكل يحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً، فكان في نهاية الجهل في خطابه وظره. فقلت: يا أمير المؤمنين، أكثر من تقدم فهم بهذه الصفة، وقد أنشدت فيهم:
إن المعلم لايزال مضعفاً ... ولو ابتنى فوق السماء سماء
من علم الصبيان أضنوا عقله ... مما يلاقي بكرة وعشاء
قال: فقال لي: لله درك، كيف لي بك؟ فقلت يا أمير المؤمنين: إن الغنم لفي قربك، والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكي ألفت الوحدة، وأنست بالافراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضر بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال لي: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقلت: السمع والطاعة، وأمر لي بألف دينار، وفي رواية بخمسمائة دينار وأجرى علي في كل شهر مائة دينار. وزاد الزبيدي قال وكنت بحضرته يوماً، فقلت لابن قادم، أو ابن سعدان، وقد كابرني، كيف تقول نفقتك ديناراً أصلح من درهم؟ فقال: دينار بالرفع. قلت: فكيف تقول: ضربك زيداً يخر لك، فتنصب زيداً، فطالبته بالفرق بينهما فانقطع. وكان ابن السكيت حاضراً فقال الواثق: سله عن مسألة. فقلت له: ما وز نكتل من الفعل فقال: نفعل. فقال الواثق: غلطت. ثم قال لي: فسره، فقلت: ونكتل تقديره نفتعل، وأصله نكتيل، فانقلبت الياء ألفاً لفتحة ما قبلها، فصار لفظها نكتال، فأسكنت اللام للجزم، لأنه جواب الأمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. فقال الواثق: هذا الجواب، لا جوابك يا يعقوب. فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا وبيي وبينك المودة الخاصلة؟ فقلت: والله ما قصدت تخطئتك، ولم أظن أنه يعزب عنك ذلك. ولهذا البيت قصة أخرى في أخبار ابن السكيت.
قال المبرد: سألت المازني عن قول الأعشى:
هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالها بالليل زال زوالها
فقال: نصب النهار على تقدير، هذا الصدود بدا لها النهار، واليوم والليلة. والعرب تقول: زال وأزال: بمعنى، فتقول: زال زوالها.

وحدث الزبيدي قال: قال المازني: وحضرت يوماً عند الواثق وعنده نحاة الكوفة، فقال لي الواثق: يا مازني: هات مسألة، فقلت: ما تقولون في قوله تعالى: (وما كانت أمك بغياً). لم لم يقل بغية، وهي صفة لمؤنث فأجابوا بجوابات غير مرضية. فقال الواثق: هات ما عندك. فقلت: لو كان بغي على تقدير فعيل بمعنى فاعلة، لحقتها الهاء، مثل كريمة وظريفة، وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعولة، نحو: المرأة قتيل وكف خضيب، وبغي ههنا ليس بفعيل، إنما هو فعول، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث، نحو: امرأة شكور، وبئر شظون، إذا كانت بعيدة الرشاء، وتقدير بغي بغوي، قلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء، فصارت ياء ثقيلة: نحو سيد وميت. فاستحسن الجواب.
قال المازني: ثم انصرفت إلى البصرة، فكان الوالي يجري علي المائة دينار في كل شهر، حتى مات الواثق، فقطعت عني. ثم ذكرت للمتوكل فأشخصني، فلما دخلت إليه، رأيت من العدد والسلاح، والأتراك ما راعني، والفتح بن خاقان بين يديه، وخشيت إن سئلت عن مسألة ألا أجيب فيها. فلما مثلت بين يديه وسلمت، قلت: يا أمير المؤمنين، أقول كما قال الأعرابي؟:
لا تقلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غدوا
قال أبو عثمان: فلم يفهم عني ما أردت، واستبردت فأخرجت. والقلو: رفع السير، والدلو: إدناؤه.
ثم دعاني بعد ذلك فقال: أنشدني أحسن مرثية قالت العرب. فأنشدته قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع؟
وقصيدة متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك
وقول كعب الغنوي:
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً
وقصيدة محمد بن مناذر:
كل حي لاقى الحمام فمودي
فكان كلما أنشدته قصيدة يقول: ليست بشيء. ثم قال: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قلت: عبد الصمد ابن المعذل، قال: فأنشدني له، فأنشدته أبياتاً قالها في قاضينا ابن رباح:
أيا قاضية البص ... رة قومي فارقصي قطره
ومري بروشنك ... فماذا البرد والفتره
أراك قد تثيرين ... عجاج القصف يا حره
بتجذيفك خديك ... وتجعيدك للطره
قال: فاستحسنها واستطار لها، وأمر لي بجائزة. قال: فجعلت أتعمل له أن أحفظ أمثالها، فأنشده إذا وصلت إليه، فيصلني.
وكان المازني يفضل الواثق. وللمازني شعر قليل، ذكر منه المرزباني:
شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان
أما النساء فإنهن عواهر ... وأخو الصبا يجري بكل عنان
ولما مات المازني، اجتازت جنازته على أبي الفضل الرياشي فقال متمثلاً:
لا يبعد الله أقواماً رزئتهم ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يوم من بقيتنا ... ولا يئوب إلينا منهم أحد
قال محمد بن إسحاق: وللمازني من الكتب: كتاب في القرآن كبير، كتاب علل النحو صغير، كتاب تفاسير كتاب سيبويه، كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الألف واللام، كتاب التصريف، كتاب العروض، كتاب القوافي، كتاب الديباج في جوامع كتاب سيبويه، قرأت بخط الأزهري منصور، في كتاب نظم الجمان، تصنيف الميداني قال: سئل المازني عن أهل العلم، فقال: أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأهل الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار الظرف كله، والعلم هو الفقه. وتصانيف المازني كلها لطاف، فإنه كان يقول: من أراد أن يصنف كتاباً كبيراً في النحو، بعد كتاب سيبويه فليستح، ويحوي كتاب سيبويه في كنهه عدة كتب.

حدث محمد بن رستم الطبري قال: أنبأنا أبو عثمان المازني قال: كنت عند سعيد بن مسعدة الأخفش، أنا وأبو الفضل الرياشي، فقال الأخفش: إن منذ إذا رفع بها، فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبرها، كقولك: ما رأيته منذ يومان، فإذا خفض بها، كقولك: ما رأيته منذ اليوم فحرف معنى ليس باسم. فقال له الرياشي: فلم لا يكون في الموضعي اسماً؟ فقد نرى الأسماء تخفض وتنصب، كقولك هذا ضارب زيداً غداً، وضارب زيد أمس، فلم لا تكون بهذه المنزلة؟ فلم يأت الأخفش بمقنع. قال أبو عثمان: فقلت له: لا يشبه منذ ما ذكرت، لأنا لم نر الأسماء هكذا تلزم موضعاً، إلا إذا ضارعت حروف المعاني، نحو أين، وكيف، فكذلك منذ هي مضارعة لحروف المعاني، فلزمت موضعاً. واحداً.
قال الطبري: فقال ابن أبي زرعة للمازي: أفرأيت حروف المعاني، تعمل عملين مختلفين متضادين؟ قال نعم، كقولك قام القوم حاشا زيد وحاشا زيداً، وعلى زيد ثوب، وعلا زيد الفرس، فتكون مرة حرفاً، ومرة فعلاً بلفظ واحد.
وحدث المبرد قال: سمعت المازني يقول: معنى قولهم: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. أي إذا صنعت ما لا يستحى من مثله، فاصنع منه ما شئت، وليس على ما يذهب العوام إليه. قلت: وهذا تأويل حسن جداً.
قال أبو القاسم الزجاجي: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: حضرت مجلس أبي عثمان المازني وقد قيل له: لم قلت روايتك عن الأصمعي؟ قال: رميت عنده بالقدر، والميل إلى مذاهب أهل الاعتزال، فجئته يوماً وهو في مجلسه، فقال لي: ما تقول في قول الله عز وجل: (إنا كل شيء خلقناه بقدر). قلت: سيبويه يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية، لاستعمال الفعل المضمر، وأنه ليس ههنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القراء إلا النصب، ونحن نقرؤها كذلك اتباعاً، لأن القراءة سنة. فقال لي: فما الفرق بين الفع والنصب في المعنى؟ فعلمت مراده، فخشيت أن تغرى بي العامة فقلت: الرفع بالابتداء، والنصب بإضمار فعل، وتعاميت عليه.
فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يوماً لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن لابصري، فإني أريد أن أطلق النوار، وأشهده على نفسي. فقالوا له: لا تفعل، فلعل نفسك تتبعها وتندم. فقال: لابد من ذلك، فمضوا معه، فلما وقف على الحس قال له: يا أبا سعيد، تعلمنم أن النوار طالث ثلاثاً، قال: قد سمعت، فتتبعتها نفسه بعد ذلك، وندم وأنشأ يقول:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
ثم قال: والعرب تقول: لو خيرت لاخترت، تحيل على القدر، وينشدون:
هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فلم يخط القدر
ثم أطبق نعليه وقال: نعم القناع للقدري، فأقللت غشيانه بعد ذلك.
قال المبرد: حدثني المازني قال: مررت ببي عقيل، فإذا رجل أسود قصير، أعور أبرص أكشف، قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق معه من ذلك المساد، وهو يغني بأعلى صوته:
فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي ... فمثلك موجود ولن تجدي مثلي
فقلت: صدقت والله، ومتى تجد ويحك مثلك؟ فقال: - بارك الله عليك - واسمع خيراً، ثم اندفع لينشد:
يا ربة المطرف والخلخال ... ما أنت من همي ولا أشغالي
مثلك موجود ومثلي غالي
بندار بن عبد الحميد الكرخي الأصبهانييعرف بابن لرة، ذكره محمد بن إسحاق في الفهرست فقال: أخذ عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وأخذ عنه ابن كيسان.
وقال ابن الأنباري عن ابنه القاسم: كان بندار يحفظ سبعمائة قصيدة، أول كل قصيدة بانت سعاد.
قال المؤلف: وبلغني عن لاشيخ الإمام أبي محمد الخشاب أنه قال: أمعنت التفتيش والتنقير فلم أقع على أكثر من ستي قصيدة، أولها بانت سعاد. وفي كتاب أصبهان: كان بندار بن لرة، متقدماً في علم اللغة ورواية الشعر، وكان مم استوط الكرخ، ثم خرج منها إلى العراق، فظهر هناك فضله، وكان الطوسي صاحب ابن الأعرابي، يوصي أصحابه بالأخذ عن بندار، ويقول: هو أعلم مني ومن غيري، فخذوا عنه.

قال: وحدث أبو بكر بن الأنباري في أماليه ببغداد قال: سمعت أبا العباس الأموي يقول: كان بندار بن لرة الأصبهاني، أحفظ أهل زمانه للشعر، وأعلمهم به. أنشدني عن حفظه ثمانين قصيدة، أول كل قصيدة بانت سعاد.
قال حمزة: وحدثني النوشجان بن عبد المسيح قال: سمعت المبرد يقول: كان سبب غناي بندار بن لرة الأصبهاني، وذلك أني حين فارقت البصرة، وأصعتدت إلى سامراً، وردتها في أيام المتوكل، فآخيت بها بندار بن لرة، وكان واحد زمانه في رواية دواوين شعر العرب، حتى كان لا يشذ عن حفظه، من شعر شعراء الجاهلية والإسلام إلا القليل، وأصح الناس معرفة باللغة، وكان له كل أسبوع دخلة على المتوكل، فجمع بيني وبين النحويين في داره في مجالس، ومرت ليلة، فرفع حديثي إلى الفتح بن خاقان، ثم توصل إلى أن وصفني للمتوكل، فأمر بإحضاري مجلسه.
وكان المتوكل يعجبه الأخبار والأنساب، ويروي صدراً منها، يمتح من يراه بما يقع فيها من غريب اللغة، فلما دنوت من طرف بساطه، استدناني حتى صرت إلى جانب بندار، فأقبل علينا وقال: يا بن لرة، ويا بن يزيد، ما معى هذه الأحرف التي جاءت في هذا الخبر؟ ركبت الدجوجى، وأمامي قبيلة، فنزلت ثم شربت الصباح، فمررت وليس أمامي إلا نجيم، فركضت أمامي النحوص والمسحل والعمردن فقنصت ثم عطفت ورائي إلى قلوب فلم أزل به حتى أذقته الحمام، ثم رجعت ورائي، فلم أزل أمارس الأغضف في قتله، فحمل علي، وحملت عليه حتى خر صريعاً. قال المبرد: فبقيت متحيراً، فبدر بندار وقال: يا أمير المؤمنين، في هذا نظر وروية، فقال: قد أجلتكما بياض يومي، فانصرفا وباكراني غداً، فخرجنا من عنده، فأقبل بندار علي وقال: إن ساعدك الجد ظفرت بهذا الخبر، فاطلب فإني طالبه، فانقلبت إلى منزلي، وقلبت الدفاتر ظهراً لبطن، حتى وقفت على هذا الخبر، في أثناء أخبار الأعراب، فتحفظته، وباكرت بنداراً فأنضهته معي وصحبناه، وبدأت فرويت الخبر، ثم فسرت ألفاظه، فالتفت إلى بندار وقال: ابن يزيد فوق ما وصفتم. ثم قال للغلام: علي بالخازن، فحضر فقال له: اخرج إلى ابن يزيد، وقل للحاجب: يسهل إذنه علي، فصار ذلك أصل مالي. وكان بندار - رحمه الله - أصله وسببه.
قرأت بخط عبد السلام البصري، في كتاب عقلاء المجانين، لأبي بكر بن محمد الأزهري: حدثنا محمد ابن أبي الأزهر قال: كنت يوماً في مجلس بندار بن لرة الكرخي، بحضرة منزله، في درب عبد الرحيم الرزامي بدكان الأبناء، وعنده جماعة من أصحابه، إذ هجم علينا المسجد بردعة الموسوس، ومعه مخلاة فيها دفاتر، وجزازات، وقد تبعه الصبيان، فجلس إلى جانب بندار، وكأن بنداراً فرق منه، فقال له: اطرد ويلك هؤلاء الصبيان عني، فقال لهم: اطردوهم عنه، فوثبت أنا من بين أهل المجلس، فصحت عليهم وطردتهم فجلس ساعة، ثم وثب فنظر هل يرى منهم أحداً، فلما لم يرهم، رجع فجلس ساعة ثم قال: اكتبوا: حدثني محمد ابن عسكر، عن عبد الرزاق، عن معمر قال: سئل الشعبي ما اسم امرأة إبليس؟ فقال: هذا عرس لم أشهد إملاكه. ثم أقبل على بندار، فقال: يا شيخ، ما معنى قول الشاعر؟:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
فقال لا بندار: أجيبوه. فقال: يا مجنون، أسألك ويجيب غيرك! فقال بندار: يقول إنه لما رآها فعلت ما فعلته من سفورها، ولم يكن يعهد منها، علم أنها قد حذرته من بحضرتها، ليحجم عن كلامها، وانبساطه إليها، فضحك ومسح يده على رأس بندار وقال: أحسنت يا كيس، وكان بندار قد قارب في ذلك الوقت تسعين سنة.
بهزاد بن يعقوب، بن خرزادأبي يعقوب، يوسف بن يعقوب، بن خرزاد النجيرمي، راوية نحوي في طبقة أبيه، مات قبل أبيه بما يقارب الثلاثة شهور بمصر، وذلك لسبع خلون من شوال، سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، قال السمعاني في كتاب الأنساب: نجيرم، محلة بالبصرة، إليها ينسب النجيرميون.
باب التاء
تمام بن غالب بن عمرو، يعرف بابن التيانأبو غالب المرسي الأندلسي. بخط بن يحلم، قال سعد الخير: مرسية بلدة حسنة من بلاد الأندلس، كثيرة التين، يجلب منها إلى سائر البلدان، فلعله نسب إليه لبيع التي.

ذكره الحميدي فقال: كا إماماً في اللغة، وثقة في إيرادها، مذكوراً بالديانة والورع، مات بالمرية في جمادى، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وله كتاب تلقيح العين في اللغة، لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً، وله فيه قصة تدل على فضله، وذلك أن الأمير أبا الجيش، مجاهد بن عبد الله العامري، وهو أحد المتغلبين على تلك النواحي، وجه إلى أبي غالب هذا - أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها - ألف دينار أندلسية، على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد. فرد الدنانير ولم يفعل، وقال: والله لو بذل لي ملء الدنيا ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه له خاصة، لكن لكل طالب عامة.
قال الحميدي: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها واعجب لنفس هذا العالم وزاهتها: وقال أبو القاسم، خلف بن عبد الملك، بن بشكوال الأنصاري الأندلس: في كتاب الصلة من تصنيفه، وهو كتاب وصل به كتاب ابن الفرضي في تاريخ الأندلسيين، قال ابن حبان: وله كتاب جامع في اللغة، سماه تلقيح العين، جم الإفادة، وكان بقية شيوخ اللغة الضابطين لحروفها، الحاذقين بمقاييسها وكان ثقة صدوقاً عفيفاً، وذكر وفاته كما تقدم.
توفيق بن محمد، بن الحسين، بن عبيد اللهابن محمد، بن زريق، أبو محمد الإطرابلسي النحوي، كان جده محمد بن زريق، يتولى أمر الثغور من قبل الطائع لله، وانتقل ابنه عبيد الله إلى الشام، وولد توفيق بإطرابلس، وسكن دمشق، وكان أديباً فاضلاً، شاعراً، وكان يتهم بقلة الدين، والميل إلى مذاهب الأوائل، ومن شعره:
وجلنار كأعراف الديوك على ... خصر يميس كأذاب الطواويس
مثل العروس تجلت يوم زينتها ... حمراء تجلى على خضر الملابيس
في مجلس لعبت أيدي السرور به ... لدى عريش يحاكي عرش بلقيس
سقى الحيا أربعاً تحيا النفوس بها ... ما بين مقري إلى باب الفراديس
مات في صفر، سنة عشرة وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
باب الثاء
ثابت بن الحسين، بن شراعةأبو طالب التميمي الأديب، ذكره شيرويه فقال: روى عن ابن سلمة، وابن عيسى وأبي الفضل، محمد ابن عبد الله الرشيدي، ومنصور بن رامش، والريحاني وغيرهم. سمعت منه، وكان صدوقاً. توفي في العشر الأخير من صفر، سنة تسع وستين وأربعمائة.
ثابت بن أبي ثابت، علي بن عبد الله الكوفيقال الزبيدي: كان من أمثل أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام، وقيل: اسم أبي ثابت سعيد.
وقال النديم: قال السكري: اسم أبي ثابت محمد، لغوي، لقي فصحاء الأعراب، وأخذ عنهم، وهو من كبار الكوفيين. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب خلق الإنسان، كتاب الفرق: كتاب الزجر والدعاء، كتاب خلق الفرس، كتاب الوحوش، كتاب مختصر العربية، كتاب العروض.
ثابت بن أبي ثابت، عبد العزيز اللغويالذي له كتاب خلق الإنسان، من علماء اللغة. يروي عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي الحسن علي ابن المغيرة الأثرم، واللحياني، وأبي نصر أحمد بن حاتم، وسلمة بن عاصم التميمي، وأبي عبد الله محمد بن زياد وآخرين، روى عنه أبو الفوارس داود بن محمد، ابن صالح المروزي النحوي، المعروف بصاحب ابن السكيت، وابنه عبد العزيز بن ثابت. واسم أبي ثابت أبيه، عبد العزيز، من أهل العراق، جليل القدر، موثوق به، مقبول القول في اللغة، يعرف بوراق أبي عبيد.
ثابت بن سنان،الصابئ،
بن ثابت، بن قرة، بن مروان الصابئ،أبو الحسن، الطبيب المؤرخ، مات فيما ذكره هلال ابن المحسن، لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكان قد ذكر في تاريخه إلى آخر سنة ستين، ووصل هلال بن المحسن من أول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكان أبو الحسن طبيباً حاذقاً، وأديباً بارعاً، وله كتاب التاريخ، الذي ابتدأ به من أول أيام المقتدر، وله كتاب مفرد في أخبار الشام ومصر، مجلد واحد. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ، يرثي خاله أبا الحس، ثابت بن سنان، ابن ثابت، بن قرة:
أسامع أنت يا من ضمه الجدف ... نشيج باك حزين دمعه يكف
وزفرة من صميم القلب مبعثها ... يكاد منها حجاب الصدر ينكشف

أثابت بن سنان دعوة شهدت ... لربها أنه ذو غلة أسف
ما بال طبك ما يشفي وكنت به ... تشفي العليل إذا ما شفه الدنف
غالتك غول المنايا فاستكنت لها ... وكنت ذائدها والروح تختطف
فارقتني كفراق الكف صاحبها ... أطنها ضارب من زندها نطف
فتت في عضدي يا من غنيت به ... أفت في عضد الباغي وانتصف
ثوى بمغناك في لحد سكنت به ... الدين والعقل والعلياء والشرف
لهفي عليك كريماً في عشيرته ... ممهداً جسمه من عمة ترف
قد أسلموه إلى غبراء يشمله ... فيها التراب فمنها الفرش واللحف
ثابت بن محمد الجرجانيأبو الفتوح، ذكره الحميدي في كتاب الأندلسيين فقال: دخل إلى الأندلس وجال في أقطارها، وبلغ إلى ثغورها، واجتمع بملوكها، وكان إماماً في العربية، متمكناً في علم العرب.
قال ابن بشكوال: قتل في محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، قتله باديس بن حيوس، أمير صنهاجة، لتهمة لحقته عنده، في القيام عليه مع اب عمه بيدر بن جباسة. ومولده سنة خمسين وثلاثمائة. وكان مع تحققه بالأدب. قيماً بعلم المنطق، ودخل بغداد وأقام بها طالباً، وأملى بالأندلس كتاب شرح الجمل للزجاج. روى ببغداد عن اب جني، وعلي بن عيسى الربعي، وعبد السلام بن الحسين البصري، وروى كثيراً من علم الأدب.
وحدث الحميدي عن أبي محمد علي بن أحمد، عن البراء ابن عبد الملك الباجي قال: لما ورد أبو الفتوح الجرجاني الأندلس، كان أول من لقي من ملوكها، الأمير الموفق أبا الجيش مجاهداً العامري، فأكرمه وبالغ في إكرامه، فسأله عن رفيقه، من هذا معك؟ فقال:
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
قال أبو محمد: ثم لقيت بعد ذلك أبا الفتوح، فأخبري عن بعض شيوخه: أن ابن الأعرابي رأى في مجلسه رجلي يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت؟ فقال: من إسبيجاب، وقال للآخر: من أين أنت؟ فقال: من الأندلس، فعجب ابن الأعرابي، فأنشد البيت المقدم، ثم أنشدني تمامها:
نزلت على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحي هجان
فقالت وأرخت حانب الستر دوننا ... لأية أرض أم من الرجلان؟
فقلتُ لها: أما رفيقي فومه ... تميم وأما أسرتي فيماني
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
أبو ثروان العكليأحد بني عكل، وعكل: اسم امرأة حضنت ولد عوف بن وائل، بن قيس، بن عوف، بن عبد مناف، ابن أد، بن طابخة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. وهي أمة لهم، وأمهم بنت ذي اللحية ابن حمير، وكان ثطاً فسمي بضد صفته، وبنو عوف ابن وائل: الحارث، وجشم، وسعد، وعلي، وقيس درج ولا عقب له، فكل من ولده واحد من هؤلاء، كان عكلياً. وكان أبو ثروا أعرابياً بدوياً، تعلم في البادية لدى، ذكره يعقوب بن السكيت، ووجد بخطه، وكان فصيحاً. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب خلق الفرس، كتاب معاني الشعر.
باب الجيم
جبر بن علي، بن عيسى،
ابن الفرج، بن صالح، أبو البركات الربعي الزهيري، ووالده أبو الحسن علي بن عيسى، هو النحوي المشهور، صاحب أبي علي الفارسي، وكان أبو البركات هذا، أحد الأدباء البلغاء الفصحاء.
قال محمد بن عبد الملك الهمذاني، كان ينوب عن الوزراء ببغداد، وله اليد الطولى في الكتابة، وجن في شبيبته، فكان يتعمم بحبل البئر، وادعى النبوة في ذلك الوقت، وعولج حتى برأ. وللبصروي وغيره فيه مدائح. ومات في سنة تسع وأربعي وأربعمائة.
جعفر بن أحمد المروزيأبو العباس، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أحد جماعي ومؤلفي الكتب، في أنواع من العلم، وكتبه كثيرة جداً، وهو أول من ألف كتاباً في المسالك والممالك، ولم يتم. مات بأهواز وحملت كتبه إلى بغداد، وبيعت في طاق الحراني سنة أربع وسبعين ومائتين. فمن كتبه: كتاب المسالك والممالك، كتاب الآداب الكبير، كتاب الآداب الصغير، كتاب الناجم، كتاب تاريخ القرآن لتأييد كتب السلطان، كتاب البلاغة والخطابة.


جعفر بن أحمد، بن عبد الملك، بن مرواناللغوي، أبو مروان الإشبيلي، يعرف بابن الغاسلة، روى عن القاضي أبي بكر بن زرب، وأبي عو ابنه، والمعيطي، والزبيدي، وكان بارعاً في الأدب واللغة، ومعاني الشعر والخبر، ذا حظ من علم السنة. توفي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
جعفر بن أحمد،السراجبن الحسين، بن أحمد، بن جعفر السراج أبو محمد القارئ البغدادي، سمع أبا علي بن شاذان، وأبا القاسم بن شاهين، وأبا محمد الخلال، وأبا الفتح بن شيطا، وأبا الحسي التوزي، وأبا القاسم التنوخي.
قال ابن عساكر: قرأت بخط غيث بن علي الصوري: جعفر بن أحمد بن الحسين، ذو طريقة جميلة، ومحبة للعلم والأدب، وله شعر لابأس به، وخرج له شيخنا الخطيب فوائد، وتكلم عليها في خمسة أجزاء، وكان يسافر إلى مصر وغيرها، وتردد إلى صور عدة دفعات، ثم قطن بها زماناً، وعاد إلى بغداد، وأقام بها إلى أن توفي. كتب عنه ولم يكن به بأس. وله تصانيف: منها مصارع العشاق، كتاب زهد السودان. ونظم أشعاراً كثيرة في الزهد، والفقه، وغير ذلك.
قال الصوري: قال لي: ولدت سنة تسع عشرة وأربعمائة، وسمعت الحديث، ولي خمس سنين. وقرأت بخط أبي المعمر الأنصاري: توفي جعفر السراج، في حادي عشر من صفر، سنة خمسمائة، ودفن بمقبرة باب أبرز، وكان ثقة. وقال السمعاني: مولده سنة سبع عشرة، أو ست عشرة. ومن شعره:
أفلح عبد عصى هواه ... وفاق في دينه وكاسا
ولم يرح مدمناً لخمر ... ينهل طاساً ويعل كاسا
ومن شعره:
يا من إذا ما رضيته حكماً ... جار عليا في حكمه وسطا
قد مدح الله أمة جعلت ... في محكم الذكر أمة وسطا
وقال جعفر بن أحمد السراج نقلاً من كتاب الخريدة:
قضت وطراً من أرض نجد وأمت ... عقيق الحمى مرخىً لها في الأزمة
وخبرها الرواد أن لحاجر ... حياً نورت منه الرياض فحنت
ولاح لها برق من الغور موهناً ... كشعلة نار للطوارق شبت
فميلن بالأعناق عند وميضه ... تراقص في أرسانها واستمرت
وغنى لها الحادي فأذكرها الحمى ... وأيامها فيه وساعات وجرة
وقد شركتني في الحنين ركائبي ... وزدن علينا رة بعد رنة
أقول لركب مجهشين تطوحوا ... وعز بهم ماء ردوا ماء عبرتي
ألا ليت شعري هل تعود رواجعاً ... ليالي لاصبا من بعد ما قد تولت
قرأت بخط الحسن بن جعفر، بن عبد الصمد، بن المتوكل في كتابه: حدثني الشيخ أبو الفضائل بن الخاضبة قال: دخل الشيخ أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ، إلى المسجد المعلق، مقابل دار الخلافة، وكان فيه الشيخ أبو محمد بن السراج ليسلم عليه، فالتقاه الشيخ أبو بكر بالرحب والسعة، وتعانقا، وجلسا يتذاكران، فجاء الشيخ أبو نصر الأصبهاني، فصعد إليهما، وقد كان في الحمام، فكشف رأسه، وقعد يستريح من كرب الحمام، فقال له الشيخ أبو محمد: غط رأسك لا ينالك الهوى، فتتأذى، فقال الشيخ أبو سعد: لعله يجد فيه راحة.
أنبأنا أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر شيخنا - رحمه الله - قال: سمعت أبا الكرم المبارك بن الحسن، ابن الشهرزوري المقرئ يقول: كنت أقرأ على أبي محمد جعفر، بن محمد السراج، وأسمع منه، فضاق صدري منه لحاله، فانقطعت عنه، ثم ندمت وقلت: يفوتني منه بانقطاعي عنه فوائد كثيرة، فقصيدته في مسجده المعلق، الحاذي لباب النوبي، فلما وقع نظره علي، رحب بي وأنشدني لنفسه:
وعدت بأن تزوري بعد شهر ... فزوري قد تقضى الشهر زوري
وموعد بيننا نهر المعلى ... إلى البلد المسمى شهر زور
فأشهر صدك المحتوم حق ... ولكن شهر وصلك شهر زور
ومن شعره:
دع الدمع بالوكف ينكى الخدودا ... فإن الأحبة أضحوا خمودا
دعا بهم هاتف الحادثات ... فبدلهم بالقصور اللحودا
دنت منهم نوب للردى ... فأفنت ضعيفهم والشديدا
دموع يكفكفهن الأسى ... عليهم غزار تروى الصعيدا

دجاهم وصبحهم واحد ... وقد مزق الدود منهم جلودا
وجعل كتاب مصارع العشاق أجزاء، وكتب على كل جزء أبياتاً من قوله، فكان على الجزء الأول:
هذا كتاب مصارع العشاق ... صرعتهم أيدي نوى وفراق
تصنيف من لدغ الفراق فؤاده ... وتطلب الراقي فعز الراقي
وأنشد له السمعاني في المزيد:
حبذا طيف سليمى إذ طوى ... حذر الواشي السري من ذي طوى
وأتى الحي طروقاً وهم ... بين أجزاع زرود فاللوى
بت أشكو ما ألاقيه إلى ... طيفها الطارق من مس الجوى
أشكر الأحلام لما جمعت ... بيننا وهناً على رغم النوى
أيها العاذل دعني والهوى ... ليس مشغول وخال بالسوى
وأنشد له:
حبذا نجد بلاداً لم نجد ... راحة للقلب في أرض سواها
فإذا ما لاح منها بارق ... هاج أشواقي أو هبت صباها
لست أنسى إذ سليمى جارة ... تبذل الود وتصفينا هواها
ثم لما شطت الدار بها ... ورماها البين من حيث رماها
أرسلت طيف كرىً لكنه ... زارنا والعين قد زال كراها
ومن شعره أيضاً:
وقفنا وقد شطت بأحبابنا النوى ... على الدار نبكيها سقي ربعها المز
وزادت دموع الواكفين برسمها ... فلو أرسلت سفن بها جرت السف
ولم يبق صبر يستعان على النوى ... به بعد توديع الخليط ولا جفن
سألنا الصبا لما رأينا غرامنا ... يزيد بسكان الحمى والهوى يدنو
أفيك لحمل الشوق يا ريح موضع ... فقد ضعفت عن حمل أشواقنا البدنُ
جعفر بن إسماعيل، بن القاسم القاليهو ولد أبي علي القالي الذي تقدم ذكره، وأبو علي والده. هو صاحب الأمالي وغيرها من التصانيف المشهورة، وكان جعفر هذا أيضاً، أديباً فاضلاً أريباً، وهو القائل في المنصور محمد بن أبي عامر، أمير الأندلس يمدحه:
وكتيبة للشيب جاءت تبتغي ... قتل الشباب ففر كالمذعور
فكأن هذا جيش كل مثلث ... وكأن تلك كتيبة المنصور
جعفر بن الفضل، بن جعفر،
بن محمد، بن موسى ابن الحسن، بن الفرات، أبو الفضل المعروف بابن حنزابة، وحنزابة اسم أمهم، كانت جارية، وكانت حنزابة حماة المحسن بن الفرات بمصر، وكان وزيراً فاضلاً بارعاً كاملاً، وزر بمصر لأنوجور بن أبي بكر الأخسيد، ثم لأخيه أبي الحسن علي، ثم لكافور إلى أن انقضت دولة الأخشيدية، وإليه رحل أبو الحسن الدارقطني، حتى صنف له ما صنف في مصر. مات في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ومولده سنة ثمان وثلاثمائة.
وفي تاريخ أبي محمد أحمد بن الحسين، بن أحمد، ابن أحمد، بن محمد، بن عبد الرحمن الروذباري: أن ابن حنزابة، مات في ثالث عشر من صفر، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، في أيام الحاكم، وفي سنة تسع وتسعين، قتل الحاكم ابنه أبا الحسين بن جعفر، بن الفضل، بن الفرات، وكان يلقب بسيدوك. وفي سنة خمس وأربعمائة، ولي وزارة الحاكم أبو العباس، الفضل ابن جعفر بن الفضل، بن الفرات ابنه الآخر، وضمن ما لم يعرفه، فقتل بعد خمسة أيام من ولايته.
ويروى لأبي الفضل جعفر هذان البيتان، ولا يعرف له شعر غيره:
من أحمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجر
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر

قال يحيى بن مندة: قدم أبو الفضل بن حنزابة أصفهان، وسمع من عبد الله بن محمد، بن عبد الكريم، ومحمد بن حمزة بن عمارة، والحسن بن محمد الداركي، وسمع ببغداد، من محمد بن هارون الحصري، ومن في طبقته. وهو أحد الحفاظ حسن العقل، كثير السماع، مائل إلى أهل العلم والفضل، نزل مصر، وتقلد الوزارة لأميرها كافور، وكان أبوه وزير المقتدر بالله. وبلغني أنه كان يذكر أنه سمع من عبد الله بن محمد البغوي مجلساً، ولم يك عنده. وكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان عالي الحديث بمصر، وإليه خرج أبو الحسن الدارقطني إلى هناك، لأنه يريد أن يصنف مسنداً، فخرج الدارقطني إليه، وأقام عنده مدة فصنف له المسند، وحصل له من جهته مال كثير.
وروى عنه الدارقطني في كتاب المذبح، قال ابن مندة: سمعت أبا القاسم، إسماعيل بن مسعدة الجرجاني قال: قال حمزة بن يوسف السهمي: سألت أبا الحسن علي ب عمر الحافظ الدارقطي، عن محمد بن محمد، بن سليمان الباغندي، فحكى عن الوزير أبي الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة حكاية، قال الشيخ حمزة: ثم دخلت مصر، وسألت الوزير أبا الفضل جعفر بن الفضل عن الباغندي، وحكيت له ما كنت سمعته من الدارقطني، فقال لي الوزير: لحقت الباغندي محمد بن محمد بن سليمان، وأنا ابن خمس سنين، ولم أكن سمعت منه شيئاً، وكان للوزير الماضي - رحمه الله - حجرتان، إحداهما للباغندي، يجيئه يوماً ويقرأ له، والأخرى لليزيدي.
قال أبو الفضل: سمعت أبي - رحمه الله - يقول: كنت يوماً مع الباغندي في الحجرة، يقرأ لي كتب أبي بكر بن أبي شيبة، فقام الباغندي إلى الطهارة، فمددت يدي إلى جزء معه من حديث أبي بكر، فإذا على ظهره مكتوب مربع ولا باقي محكوك، فرجع الباغندي فرأى الجزء في يدي فتغير وجهه. وسألته وقلت: إيش هذا؟ مربع؟ فتغير إذ ذاك ولم أفطن له، لأني أول من كنت دخلت في كتبة الحديث، ثم سألت عنه، فإذا الكتاب لمحمد بن إبراهيم، بن مربع، سمعه من أبي بكر بن أبي شيبة.
قرأت في تاريخ لابن زولاق الحسن بن إبراهيم، في أخبار سيبويه الموسوس قال: ورأى سيبويه جعفر ابن الفضل ب الفرات بعد موت كافور، وقد ركب في موكب عظيم. فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتابه، ولفق أصحابه، وحشد بين يديه حجابه، وشمم أنفه، وساق العساكر خلفه، أبلغه أن الإسلام طرق؟ أو أن ركن الكعبة سرق؟ فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر، ومدبر الدولة. فقال: يا عجباً، أليس بالأمس نهب الأتراك داره؟ ود كد كوا آثاره، وأظهروا عواره، وهم اليوم يدعونه وزيراً، ثم قد صيروه أميراً. ما عجبي منهم كيف نصبوه، بل عجبي كيف تولى أمر عدوهم ورضوه.
قال الحافظ أبو القاسم: ذكر بعض أهل العلم، وأظنه محمد بن أبي نصر الحميدي: أن الوزير أبا الفضل بن حنزابة حدث بمصر، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، مجالس إملاء خرجها الدارقطني، وعبد الغني ابن سعيد، وكانا كاتبيه ومخرجيه، وكان كثير الحديث، جم السماع، مكرماً لأهل العلم، مطعماً لأهل الحديث، استجلب الدارقطني من بغداد وبر إليه، وخرج له المسند، وقد رأيت عند أبي إسحاق الجباني من الأجزاء التي خرجت له جملة كثيرة جداً، وفي بعضها الموفى ألفاً من مسند كذا، والموفى خمسمائة من مسند كذا، وهكذا هي سائر المسندات. وقد أعطى الدارقطني مالاً كثيراً، وأنفق عليه نفقة واسعة، ولم يزل في أيام عمره يصنع شيئاً من المعروف عظيماً، ويفق نفقات كثيرة على أهل الحرمين، من أصناف الأشراف وغيرهم، إلى أن تم له أن اشترى بالمدينة داراً إلى جانب المسجد، من أقرب الدور إلى القبر، ليس بينها وبين القبر إلا حائط وطريق في المسجد، وأوصى أن يدفن فيها، وقرر عند الأشراف ذلك، فسمحوا له بذلك، وأجابوه إليه. فلما مات حمل تابوته من مصر إلى الحرمين، فخرجت الأشراف من مكة والمدينة لتلقيه والنيابة في حمله، إلى أن حجوا به، وطافوا ووقفوا بعرفة، ثم ردوه إلى المدينة، ودفنوه في الدار التي أعدها لذلك.

قرأت بخط الشريف النسابة، محمد بن أسعد بن علي الجواني المعروف بابن النحوي، كان الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة، يهوى النظر إلى الحشرات من الأفاعي، والحيات والعقارب، وأم أربعة وأربعين، وما يجري هذا المجرى وكان في داره التي تقابل دار الشنتكاني ومسجد ورشٍ. - وكانت للماذرائي قبل ذلك - قاعة لطيفة مرخمة، فيها سلل الحيات، ولها قيم فراش حاو من الحواة، ومعه مستخدمون برسم الخدمة، ونقل السلل وحطها، وكان كل حاو في مصر وأعمالها يصيد له ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر، وكان الوزير يثيبهم في ذلك أوفى الثواب، ويبذل لهم الجزيل حتى يجتهدوا في تحصيلها، وكان له وقت يجلس فيه على دكة مرتفعة، ويدخل المستخدمون والحواة، فيخرجون ما في السلل ويطرحونه في ذلك الرخام، ويحرشون بين الهوام، وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه.
فلما كان ذات يوم، أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب، وكان من أعيان كتاب آبائه ودولته، وكان عزيزاً عنده، وكان يسكن في جوار دار ابن الفرات، يقول له فيها: نشعر الشيخ الجليل، - أدام الله سلامته - ، أنه لما كان البارحة، وعرض علينا الحواة الحشرات، الجاري بها العادات، انساب إلى داره منها الحية البتراء، وذات القرنين الكبرى، والعقربان الكبير وأبو صوفة، وما حصلوا لنا إلا بعد عناء ومشقة، وبجملة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشيخ - وفقه الله تعالى - بالتوقيع إلى حاشيته وصبيته، بصو ما وجد منها، إلى أن ننفذ الحواة لأخذها وردها إلى سللها، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها: أتاني أمر سيدنا الوزير - أدام الله نعمته وحرس مدته - بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك، أن الطلاق يلزمه ثلاثاً إن بات هو أو واحد من أولاده في الدار، والسلام.
أنشدني أبو بكر بن عبد البر القيرواني التميمي، لصالح بن مؤنس المصري، يمدح بعض آل الفرات:
قد مر عيد وعيد ... ما اخضر لي فيه عود
وكيف يخضر عود ... والماء منه بعيد
يا من له عدد المج ... د كلها والعديد
آل الفرات نداهم ... على الفرات يزيد
وأنت فضلك فيهم ... عليك منه شهود
وكل يوم لغيري ... من راحتيك مديد
هل لي إلى الرزق ذنب ... فكان منه صدود
ما الناس إلا شقي ... في دهرنا وسعيد
قال ابن الأكفاني: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن الحسين بن النحاس، حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف ابن نصر من لفظه قال: حضرت عند أبي الحسين المهلبي في داره بالقاهرة فقال لي: كنت منذ أيام حاضراً دار الوزير، يعني أبا الفرج بن كلس، فدخل عليه أبو العباس، الفضل بن أبي الفضل، الوزير ابن حنزابة، وكان قد زوجه ابنته، وأكرمه وأجله، فقال له: يا أبا العباس يا سيدي، ما أنا بأرجل من أبيك، ولا بأعلم ولا بأفضل، وزاد في وصفه وإكرامه، ثم قال: أتدري ما أقعد أباك خلف الباب؟ شيل أنفه، وأخرج يده فعلا بها رأسه، وشال أنفه إلى فوق وقال له: بالله يا أبا العباس لا تشل أنفك، تدري ما الإقبال؟ نشاط وتواضع، تدري ما الإدبار؟ كسل وترافع.
قرأت فيما جمعه أبو علي صالح بن رشد قال: كان أبو الفضل جعفر بن الفضل الوزير، قد خرج إلى بستانه بالمقس فكتب إليه أبو صر بن كشاجم على تفاحة بماء الذهب وأنفذها إليه:
إذا الوزير تخلى ... للنيل في الأوقات
فقد أتاه سمي ... اه جعفر بن الفرات

قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا إسحاق الحبال يقول: لما قصد هؤلاء مصر وزولا قريباً منها، لم يبق أحد من الدولة العباسية، إلا خرج للاستقبال والخدمة، غير الوزير أبي الفضل بن حنزابة فإنه لم يخرج، فلما كان في الليلة التي صبيحتها الدخول، اجتمع إليه مشايخ البلد، وعاتبوه في فعله. وقيل له: إنك تغري بدماء أهل السنة، ويجعلو تأخرك عنهم سبباً للانتقام. قال: الآن أخرج فخرج للسلام، فلما دخل عليه أكرمه وبجله، وأجلسه وفي قلبه شيء، وكان إلى جنبه ابنه وولي عهده، وغفل الوزير عن التسليم عليه، فأراد أن يمتحنه بسبب يكون إلى الوقيعة به. فقال له: حج الشيخ؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وزرت الشيخين؟ فقال: شغلت بالنبي صلى الله عليه وسلم عنهما، كما شغلت بأمير المؤمنين عن ولي عهده، السلام عليك يا ولي عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته. فأعجب من فطنته، وتداركه ما أغفله، وعرض عليه الوزارة فامتنع. فقال: إذا لم تل لنا شغلاً فيجب ألا تخرج عن بلادنا، فإنا لا نستغني أن يكون في دولتنا مثلك، فأقام بها ولم يرجع إلى بغداد.
قال: وسمعت أبا إسحاق الحبال يقول: كان يعمل للوزير أبي الفضل الكاغد بسمرقند، ويحمل إليه إلى مصر في كل سنة، وكان في خزانته عدة من الوراقين، فاستعفى بعضهم، فأمر بأن يحاسب ويصرف، فكمل عليه مائة دينار، فعاد إلى الوراقة، وترك ما كان عزم عليه من الاستعفاء..
قال: وسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال يقول: خرج أبو صر السجزي الحافظ على أكثر من مائة شيخ، لم يبق منهم غيري، وكان قد خرج له عشرين جزءاً في وقت الطلب، وكتبها في كاغد عتيق فسألت الحبال عن الكاغد، فقال: هذا من الكاغد الذي كان يحمل للوزير من سمرقند، وقعت إلي من كتبه قطعة، فكنت إذا رأيت فيها ورقة بيضاء قطعتها إلى أن اجتمع هذا، فكتبت فيه هذه الفوائد.
جعفر بن قدامة، بن زياد الكاتبأبو القاسم، ذكره الخطيب فقال: هو أحد مشايخ الكتاب وعلمائهم، وكان وافر الأدب، حس المعرفة. وله مصنفات في صنعة الكتابة وغيرها، حدث عن أبي العيناء الضرير، وحماد بن إسحاق الموصلي، والمبرد، ومحمد ابن عبد الله بن مالك الخزاعي، ونحوهم. روى عنه أبو الفرج الأصفهاني.
ونقلت من خط أبي سعيد مع بن خلف البستي، مستوفي بيت الزرد والفرش السلطاني الملكشاهي، بتولية نظام الملك قال: قال جعفر بن قدامة الكاتب:
استمع بالله يا ابن ال ... ملك والنجدة مني
يومنا في الحسن والبه ... جة قد جاز التمي
فأزري نفسك الح ... رة أولا فاستزرني
ومن خطه قال: نقلت من خط عبد الرحمن بن عيسى الوزير لجعفر بن قدامة:
كيف يخفى وإن أتاني نهاراً ... كسف الشمس بالجمال البهي
فكلا حالتيه يفضح سري ... وينادي بكل أمر خفي
بأبي أحسن الأنام جميعاً ... تاه عقلي به وحق النبي
وقال أبو محمد عبيد الله بن أبي القاسم، عبد المجيد ابن بشران الأهوازي في تاريخه: مات أبو القاسم جعفر ابن قدامة، بن زياد يوم الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة تسع عشرة وثلاثمائة. قال ابن بشران: وفي سنة عشرة وثلاثمائة، أخرج علي بن عيسى الوزير إلى اليمن منفياً، فقال أبو القاسم، جعفر بن قدامة الكاتب في ذلك:
أصبح الملك واهي الأرجاء ... وأمور الورى بغير استواء
منذ نادت نوى علي بن عيسى ... واستمرت به إلى صنعاء
فوحق الذي يميت ويحيي ... وهو الله مالك الأشياء
لقد اختل بعده كل أمر ... واستبانت كآبة الأعداء
ثم صاروا بعد العداوة والل ... ه جميعاً في صورة الأولياء
يتألون كلهم في علي ... إنه قد خلا من النظراء
ومن شعره أيضاً:
تسمع مت قبلك بعض قولي ... ولا تتسلل مني لواذا
إذا أسقمت بالهجران جسمي ... ومت بغصتي فيكون ماذا؟
ومن كتاب الوزراء لهلال ب المحسن: ولجعفر بن قدامة يمدح ابن الفرات:
يا ابن الفرات ويا كري ... م الخيم محمود الفعال
ضيعت بعدك واطرح ... ت وبان للناس اختلالي

وتغيرت مذ غيرت ... أحوالك الأيام حالي
لهفاً أبا حس على ... أيامك الغر الخوالي
لهفاً عليها إنها ... بليت بأحوال بوالي
قرأت في كتاب المحاضرات لأبي حيان قال: وقلت للعروضي: أراك منخرطاً في سلك ابن قدامة، ومنصباً إليه، ومتوفراً عليه، وكيف يتفق بينكما، وكيف تأتلفان ولا تختلفان. فقال: إعلم أن الزمان وقت الاعتدال، والرجل كما تعرف على غاية البرد والغثاثة، وخساسة الطبع، وأنا كما تعرفني وتثبتني، فاعتدلنا إلى أن يتغير الزمان، ثم نفترق ونختلف ولا نتفق. وأنشأ يقول:
وصاحب أصبح من برده ... كالماء في كانون أو في شباط
ندمائه من ضيق أخلاقه ... كطأنهم في مثل سم الخياط
نادمته يوماً فألفيته ... متصل الصمت قليل النشاط
حتى لقد أوهمني أنه ... بعض التماثيل التي في البساط
جعفر بن محمد، بن أحمد، بن حذارالكاتب أبو القاسم، ذكره الصولي في كتاب أخبار شعراء مصر قال: لم يك بمصر مثله في وقته، كثير الشعر حسن البلاغة عالم، له ديوان شعر، ومكاتبات كثيرة حسنة.
قال: وكان العباس بن أحمد بن طولو، قد خرج على أبيه في نواحي برقة، عند غيبة أبيه بالشام، وتابعه أكثر الناس، ثم غدر به قوم، وخرج عليه آخرون من نواحي القيروان، فظفر به أبوه، وكان جعفر بن حذار وزير العباس وصاحب أمره. قال ابن زولاق مؤرخ مصر: قبض على العباس بنواحي الإسكندرية، وأدخل إلى الفسطاط على قتب على بغل مقيداً، في سنة سبع وستين ومائتين، ونصب لكتابه ومن خرج بهم إلى ما خرج إليه دكة عظيمة رفيعة السمك، في يوم الأربعاء، لا أعرف موقعه من الشهر، وجلس أحمد بن طولو في علو يوازيها، وشرع من ذلك العلو إليها طريقاً، وكان العباس قائماً بين يدي أبيه في خفخاف ملحم وعمامة وخف، وبيده سيف مشهور، فضرب ابن حذار ثلاثمائة سوط، وتقدم إليه البعاس فقطع يديه ورجليه من خلاف، وألقي من الدكة إلى الأرض، وفعل مثل ذلك بالمنتوف وبأبي معشر، واقتصر بغيرهم على ضرب السوط. فلم تمض أيام حتى ماتوا.
وقال لاصولي: مثل أحمد بن طولون بابن حذار لما قتله. يروى أنه تولى قطع يديه ورجليه بيده. ومن شعر ابن حذار إلى صديق له من أبيات:
يا كسروياً في القدي ... م وهاشمياً في الولاء
يا ابن المقفع في البيا ... ن ويا إياساً في الذكاء
يا ناظراً في المشكلا ... ت المعضلات ويا ضيائي
إيهاً، جعلت فداك في ... م طويتني طي الرداء
وتركتني بين الحجا ... ب أعوم في بحر الجفاء
ورغبت عما كنت تر ... غب فيه من لطف الإخاء
من بعد أني كنت عن ... دك وابن أمك بالسواء
فوحق كفك إنها ... كف كأخلاف السماء
لأخلينك والهوى ... ولأصبرن عن اللقاء
ولأشكونك ما استطع ... ت إلى حفاظك والوفاء
ولأصبر على رق ... يك في ذرى درج العلاء
فهناك أجني ما غرس ... ت إليك من ثمر الرجاء
ومن شعره أيضاً:
جاءت بوجه كأنه قمر ... على قوام كأ،ه غصن
ترنو بعين إذا تعاينها ... حسبت أن في جفونها وسن
حتى إذا ما استوت بمجلسها ... وصار فيه من حسنها وثن
غنت فلم يبق في جارحة ... إلا تمنيت أها أذن
ومن شعره أيضاً:
زارني زور ثكلتهم ... وأصيبوا حيثما سلكوا
أكلوا حتى إذا شبعوا ... حملوا الفضل الذي تركوا
جعفر بن محمد،الأخباريبن الأزهر، ابن عيسى الأخباري أحد أصحاب السير، ومن عني بجمع الأخبار والتواريخ. مات سنة تسع وسبعين ومائتين. ومولده سنة مائتين، سمع من ابن الأعرابي وطبقته، وله من الكتب: كتاب التاريخ على السنين، وهو من جيد الكتب، ذكر ذلك محمد بن إسحاق.
جعفر بن محمد، بن خالد، بن ثوابة

أبو الحسين الكاتب، أحد البلغاء الفصحاء، قال أبو علي: حدثني أبو الحسين بن قيراط قال: حدثني أبو الحسن الإيادي الكاتب، صديق الكرخيين، قال أبو محمد عبد الوهاب، بن الحسن، بن عبيد الله، بن سليمان ابن وهب، وعبيد الله بن سليمان، هما الوزيران قال: كان إلى والدي الحسن بن عبيد الله ديوان الرسائل، وديوان المعاون وجملة الدواوين التي كانت إليه في أيام وزارة أبيه للمعتضد فأمر عبيد الله ابنه، أن يستخلف أبا الحسين ابن ثوابة على ديوان الرسائل، وديوان المعاون، فصار كالمتقلد له من قبل الوزير، لكثرة استخدامه له فيه، ثم مات أبي، فأقره جدي الوزير عبد الله على الديوان رياسة، وبقي عليهم يتوارثونه، مرة رياسة ومرة خلافة، إلى أن تسلمه الصابئ أبو إسحاق من ابن ابنه أحمد.
وكتب جعفر بن محمد هذا، رقعة إلى عبيد الله بن سليمان الوزير في نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صرفها إلى عطفك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك، فإنها توخرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت أعطت يسيراً، وإن ارتجعت ارتجعت كثيراً، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا أعددت لإنصافها إلا فضلك، ودفع زمام المسألة وحق الظلامة حق التأميل، وقدم صدق الموالاة والمحبة، والذي يملأ يدي من النصفة، ويسبغ العدل علي، حتى تكون إلي محسناً، وأكون بك للأيام معدياً، أن تخلطني بخواص خدمك، الذين نقلتهم من حال الفراغ إلى الشغل ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني فقد استعديت، وتجيرني فقد عذت بك، وتوسع علي كنفك، فقد أويت إليه، وتشملني بإحسانك، فقد عولت عليه، وتستعمل بدني ولساني فيما يصلحان لخدمتك فيه، فقد درست كتب أسلافك، وهم الأئمة في البيان، واستضأت برأيهم، واقتفيت آثارهم اقتفاء جعلني بين وحشي كلام وأنيسه، ووقفني منه على جادة متوسطة، يرجع غليها الغالي، ويسمو نحوها المقصر، فعلت إن شاء الله تعالى، فكانت هذه الرقعة سبب استخلافه لأبي.
جعفر بن محمد، بن حمدان الموصلي،
أبو القاسم لافقيه الشافعي، ذكره محمد بن إسحاق فقال: هو حسن التأليف، عجيب التصنيف، شاعر أديب فاضل، ناقد للشعر، كثير لارواية، مات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة أربعين ومائتين. له عدة كتب في الفقه على مذهب الشافعي. فأما كتبه في الأدب فهي: كتاب الباهر في أشعار المحدثين، عارض به الروضة للمبرد، كتاب الشعر والشعراء لم يتم، ولو تم لكان غاية في معناه، كتاب السرقات لم يتم أيضاً، وهو كتاب جيد في معناه، كتاب محاس أشعار المحدثين لطيف.
قال أبو عبد الله الخالع: كان أبو القاسم، جعفر بن محمد، بن حمدان الموصلي، ممن عمر طويلاً، وكانت بينه وبين البحتري مراسلة، ورثاه بعد وفاته. ومدح القاسم ابن عبيد الله، وأدرك أبا العباس النامي، وتكاتبا بالشعر.
وقال أبو علي بن أبي الزمزام: كان ابن حمدان كبير المحل من أهل الرياسات بالموصل، ولم يكن بها في وقته من ينظر إليه، ويفضل في العلوم سواه، متقدماً في الفقه، معروفاً به، قوياً في النحو فيما يكتبه، عارفاً بالكلام والجدل مبرزاً فيه، حافظاً لكتب اللغة، راوية للأخبار، بصيراً بالنجوم، عالماً مطلعاً على علوم الأوائل، عالي الطبقة فيها، وكان صديقاً لكل وزراء عصره، مداحاً لهم، آنساً بالمبرد وثعلب وأمثالهما، من علماء الوقت، مفضلاً عندهم، وكانت له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وقفاً على كل طالب للعلم، لا يمنع أحد من دخولها إذا جاءها غريب يطلب الأدب، وإن كان معسراً أعطاه ورقاً وورقاً. تفتح في كل يوم، ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس فيملي عليهم من شعره وشعر غيره ومصنفاته، مثل الباهر وغيره من مصنفاته الحسان، ثم يملي من حفظه من الحكايات المستطابة، وشيئاً من النوادر المؤلفة، وطرفاً من الفقه وما يتعلق به.

وكان جماعة من أهل الموصل حسدوه على محله وجاهه عند الخلفاء والوزراء والعلماء، وكان قد جحد بعض أولاده وزعم أ،ه ليس منه، فعاندوه بسببه، وزعموا أنه نفاه ظلماً، واجتهدوا أن يلحقوه به، فما تم لهم، فاجتمعوا وكتبوا فيه محضراً، وشهدوا عليه فيه بكل قبيح عظيم، ونفوه عن الموصل، فانحدر هارباً منهم إلى مدينة السلام، ومدح المعتضد بقصيدة يشكو فيها ما اله منهم، ويصف ما يحسنه من العلوم، ويستشهد بثعلب والمبرد وغيرهما. أولها:
أجدك ما ينفك طيفك سارياً ... مع الليل مجتاباً إليا الفيافيا
يذكرنا عهد الحمى وزماننا ... بنعمان والأيام تعطي الأمانيا
ليالي مغنى آل ليلى على الحمى ... ونعمان غاد بالأوانس غانيا
وعهد الصبي منهن فينان مورق ... ظليل الضحى من حائط اللهو دانيا
قريب المدى نائي الجوى داني الهوى ... على ما يشاء المستهام مؤاتيا
حلفت بأخياف المخيم من منى ... ومن حل جمعاً والرعان المتاليا
وبالركب يأتمون بطحاء مكة ... على أركب تحكى القسى حوافيا
طواهن طي البيد في غلس الدجى ... ونشر الفيافي والفيافي كما هيا
ولو أني أبثثت ما بي من الجوى ... شماريخ رضوى أو شمام رثى ليا
وإن أطو ما تطوي الجوانح من هوى ... عن الناس تخبرهم بحالي حاليا
أأدخل تحت الضيم والبيد والسرى ... وأيدي المطايا الناعجات عتاديا؟
سأخرج من جلباب كل ملمة ... خروج المعلى والمنيح ورائيا
إذا أنا قابلت الإمام مناجياً ... له بالذي من ريب دهري عنانيا
رميت بآمالي إلى الملك الذي ... أذلت ماسعيه الأسود الضواريا
وما هي إلا روحة وادلاجة ... تنيل الأماني أو تقيم البواكيا
ولي في أمير المؤمنين مدائح ... ملأت بها الآفاق حسن ثنائيا
وأمت بي الآمال لا طالباً جدىً ... ولا شاكياً إنفاض حالي وماليا
ولكنني أشكو عدواً مسلطاً ... على عداني بغيه عن مجاليا
أيا ابن الولاة الوارثين محمدا ... خلافته دون الموالي مواليا
إذا ما اعتزمت الأمر أبرمت فتله ... ولم تك عن إمضائك العزم وانيا
فلا تك للمظلوم ناداك في الدجى ... لغربته والدفع للظلم ناسيا
وهي مائة وخمسون بيتاً، فيها بعد المدح: ما يحسنه من العلوم الدينية والأدبية، ويتبجح بمعرفته إقليدس وأشكاله، وزيادات زادها في أعماله، وله في صفة الليل:
رب ليل كالبحر هولاً وكالده ... ر امتداداً وكالمداد سوادا
خضته والنجوم توقدن حتى ... أطفأ الفجر ذلك الإيقاد
قال ابن عبد الرحيم: ونقلت من خط جعفر بن محمد الموصلي، من قصيدة في أبي سليمان داود ب حمدان:
أعيجي بنا قبل انبتات حبالك ... جمالك إن الشوق شوق جمالك
قفي وقفة تتلو عليك أوامها ... جوانح لا تروى بغير نوالك
فقد طلعت شمس الضحى بأوارها ... على مستظلات بفيئ ظلالك
ومنها:
بأبناء حمدان الذين كأنهم ... مصابيح لاحت في ليال حوالك
لهم نعم لا أستقل بشكرها ... وإن كنت قد سيرته في المسالك
وخلفت فيه من قريض بدائعاً ... ترى خلفاً من كل باق وهالك
وله من قصيدة في القاسم بن عبيد الله:
ما شأن دارك يا ليلى نناجيها ... فما تجيب ولا ترعى لداعيها
إنا عشية عجنا بالمطي بها ... كنا نحييك فيها لا نحييها
لا ترسلي الطيف إن الطرف في شغل ... عن الكرى بدموع بات يجريها
لأضربن بآمالي إلى ملك ... يقل في قدره الدنيا بما فيها
يا بن الوزارة والمأمول بعد لها ... في سائر الأرض دانيها وقاصيها

ما بال ما اجتاب عرض الأرض من مدحي ... إليك يسري مع الركبان ساريها
لم يأتني نبأ عنها ولا خبر ... واليوم كالحول لي مما أراعيها
وله أيضاً:
وما الموت قبل الموت غير أنني ... أرى ضرعاً بالعسر يوماً لذي اليسر
فدع قولهم ليس الثراء من العلا ... فما الفخر إلا أن يقال هو المثري
إذا أنت لم تبل الصديق فلا تكن ... له آمناً فيما يجن من الأمر
فإن سترت حال امرئ لؤم أصله ... أبي اللؤم إلا أن يبين مع الستر
وله أيضاً:
على الخيف من أكناف برقة أطلال ... دوارس عفتها ببرقة أحوال
ومبني خيام من فريق تفرقوا ... أيادي سبا والبين للشمل مغتال
وهن نجوم للنجوم ضرائر ... وهن لأكدار الحنادس إقبال
ألا إن تجوال الظباء سوانحاً ... لمن عالج الوجد المبرح آجال
إلى ابن أبي العباس جاذبنا المنى ... ومن دونه بيد يخب بها الآل
ومازالت الأيام تضحك عنهم ... وتشرق عنهم بالمكارم أفعال
أولئك أرباب العلى وبنو الندى ... وقوال فصل يوم مجد وفعال
هم ورثوه الجود والبذل والندى ... فزاد على ما ورثوه ولم يال
وله يرثي البحتري:
تعولت البدائع والقصيد ... وأودي الشعر مذ أودي الوليد
وأظلم جانب الدنيا وعادت ... وجوه المكرمات وهن سود
فقل للدهر يجهد في الرزايا ... فليس وراء فجعته مزيد
وله من قصيدة:
تمكن حب علوة من فؤادي ... وملك أمر غيي والرشاد
فوالي بين دمعي والمآقي ... وعادى بين جفي والرقاد
وقد طلب السلامة في سليمى ... زماناً والسعادة في سعاد
فلا هاتيك أحمدها وصالاً ... ولا هذي ارتضاها في الوداد
وله أيضاً:
أيها القرم الذي أع ... وزنا فيه النديد
وأعانته على المج ... د مساع وجدود
عجل النجح فإن ال ... مطل بالوعد وعيد
قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: هذا معنى عن لي من قبل أن أقف على هذه الأبيات، وكنت أعجب كيف فات الأوائل لاشتماله على مطابقة التجنيس وحسن المعنى مدة، حتى وقفت على ما ههنا، فعلمت أن أكثر ما ينسب إلى الشعراء من السرقات، إنما هو توارد الخواطر، ووقوع حافر على حافر. وأما أبياتي فهي:
يا سيداً بذ من يمشي على قدم ... علماً وحلماً وآباء وأجدادا
ماذا دعاك إلى وعد تصيره ... بالخلف والمطل والتسويف إيعادا
لا تعجلن بوعد ثم تخلفه ... فيثمر المطل بعد الود أحقادا
فالوعد بزر ولطف القول منبته ... وليس يجدي إذا لم يلق حصادا
جعفر بن موسى، يعرف بابن الحدادأبو الفضل النحوي، كتب الناس عنه شيئاً من اللغة وغريب الحديث، وما كان من كتب أبي عبيدة مما سمعه من أحمد بن يوسف التغلبي، وغير ذلك من ثقات المسلمين وأحبارهم. مات لثلاث خلون من شعبان، سنة تسع وثمانين ومائتين، ودفن بقرب منزله ظهر قنطرة البردان.
جعفر بن هارون، بن النحوي، الدينوريأبو محمد. روى عنه ابن شاذان، في شوال سنة أربع وأربعي وثلاثمائة.
جلد بن جمل الراويةما رأيت أحداً من أهل التصنيف، والرواية والتأليف، ذكره في كتاب ترجمة، إلا أن الإسناد إليه كثير، والرواية عنه ظاهرة شهيرة، وكان فيما تدل عليه الأخبار التي يرويها، علامة بأخبار العرب وأشعارها عارفاً بأيامها وأنسابها.
جناد بن واصل الكوفيأبو محمد، ويقال: أبو واصل، مولى بني عاضدة، من رواة الأخبار والأشعار، لا علم له بالعربية، وكان يصحف ويكسر الشعر، ولا يميز بين الأعاريض المختلفة، فيخلط بعضها ببعض. وهو من علماء الكوفيين القدماء، وكان كثير الحفظ في قياس حماد الراوية.

وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن جعفر: أخبرنا أبو عمرو أحمد بن علي الطوسي عن أبيه قال: ما كانوا يشكون بالكوفة في شعر، ولا يعزب عنهم اسم شاعر، إلا سألوا عنه جناداً، فوجدوه لذلك حافظاً، وبه عارفاً على لحن كان فيه، وكان كثير اللحن جداً، فوق لحن حماد، وربما قال من الشعر البيت والبيتين.
وقال الثوري: اتكل أهل الكوفة على حماد وجناد، ففسدت رواياتهم من رجلين، كانا يرويان لا يدريان، كثرت رواياتهما وقل علمهما. وحدث عبد الله بن جعفر عن جبلة بن محمد الكوفي، عن أبيه قال: مررت بجناد مولى العاضديين وهو ينشد:
إعلم بأن الحق مركبه ... إلا على أهل التقى مستصعب
فاقدر بذرعك في الأمور فإنما ... رزق السلامة من لها يتسبب
فقلت: أبرقت يا جناد؟ قال: وأني ذلك؟ قلت: في هذين البيتين. قال: فلم يستبن ذلك، فتركته وانصرفت.
قال عبد الله: وإنما أنكر عليه أن البيت الأول ينقص من عروضه وتد، والثاني تام فكسره ولم يعلم. والعرب لا تغلط بمثل هذا، وإنما يغلطون بأن يدخلوا عروضين في ضرب واحد من الشعر لتشابههما.. فأما هذا: فالصواب فيه أن يقول:
إعلم بأن الحق مركب ظهره ... إلا على أهل التقى مستصعب
ومعنى قوله أبرقت: خلطت بيتاً مكسوراً ببيت صحيح، فصار كالحبل الأبرق على لوين. والبرقاء من الأرض والحجارة: ذات لونين: سواد وبياض.
جنادة بن محمد بن الحسين الهروي،
أبو أسامة اللغوي النحوي، عظيم القدر، شائع الذكر، عارف باللغة، أخذ عن أبي منصور الأزهري، وروى عن أبي أحمد العسكري وروى عنه كتبه، ثم قدم مصر فأقام بها، إلى أن قتله الحاكم من الملوك المصرية، المنتسبة إلى العلويين، في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. ذكر ذلك أبو محمد أحمد بن الحسين، بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذباري في تاريخه، الذي ألفه في حوادث مصر. وأخذ عنه بمصر أبو سهل الهروي وغيره من أهل مصر وغيرهم، وكان مجلسه بمصر في جامع المقياس، وهو الذي فيه العمود، الذي يعتبرون به زيادة النيل من نقصه.
واتفق في بعض السنين، أن النيل لم يزد زيادة تامة، فقيل للحاكم حينئذ: إن جنادة رجل مشئوم، يقعد في المقياس ويلقي النحو، ويعزم على النيل فلذلك لم يزد. وكان من حدة الحاكم وتهوره، وما عرف من سوء سيرته، لا يتثبت فيما يفعله، ولا يبحث عن صحة ما يبلغه، فأمر من ساعته بقتله، فقتله - رحمه الله - سمعت هذا الحديث في مصر مفاوهة، حكوه عن الأثير بن البيساني، أخي القاضي الفاضل وغيره، واللفظ يزيد يونقص، والله أعلم.
جهم بن خلف المازني الأعرابي،
من مازن تميم، له اتصال في النسب بأبي عمرو بن العلاء المازني المقرئ، وكان جهم راوية، علامة بالغريب والشعر، وكان في عصر خلف الأحمر، والأصمعي، وكانوا ثلاثتهم متقاربين في معرفة الشعر. ولجهم شعر مشهور في الحشرات والجوارح من الطير. وقيل: إن ابن مناذر قال يمدح جهماً:
سميتم آل العلاء لأنكم ... أهل العلاء ومعدن العلم
ولقد بنى آل العلاء لمازن ... بيتاً أحلوه مع النجم
وجههم القائل في رواية المازني يصف الحمامة:
مطوقة كساها الل ... ه طوقاً لم يكن ذهباً
جمود العين مبكاها ... يزيد أخا الهوى نصبا
مفجعة بكت شجواً ... فبت بشجوها وصبا
على غص تميل به ... جنوب مرة وصبا
ترن عليه إما ما ... ل من شوق أو انتصاب
وما فغرت فماً وبكت ... بلا دمع لها انسكبا
قال: لوه يخاطب المفضل الضبي لما قدم البصرة:
أنت كوفي ولا يح ... فظ كوفي صديقا
لم يكن وجهك يا كو ... في للخير خليقا
جودي بن عثمانمولىً لآل يزيد بن طلحة العنبسيين، من أهل مورور من بلاد الغرب، ذكره الحميدي والزبيدي، رحل إلى المشرق، فلقي الكسائي والفراء وغيرهما. وهو أول من أدخل كتاب الكسائي إلى الغرب، وسكن قرطبة بعد قدومه من المشرق، وفي حلقته أنكر على عباس بن ناصح قوله:
يشهد بالإخلاص يؤتيها ... لله فيها وهو نصراني

فلحن حيث لم يشدد ياء النسب. وكان بالحضرة رجل من أصحاب عباس بن ناصح، فساءه ذلك، فقصد عباساً وكان مسكنه بالجزيرة، فلما طلع على عباس قال له: ما أقدمك - أعزك الله - في هذا الأوان؟ قال: أقدمني لحنك. قال له عباس: وأي لحن؟ فأعلمه. فقال له: ألا أنشدهم قول عمران ابن حطان:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
فلما سمع البيت كر راجعاً. فقال له عباس: لو نزلت فأقمت عندنا. فقال: ما بي إلى ذلك من حاجة، ثم قدم قرطبة، واجتمع بجودي وأصحابه، فأعلمهم ما قال ووافقوه.
باب الحاء
حبشي بن محمد، بن شعيب الشيبانيأبو الغنائم النحوي الضرير، من أهل واسط، من ناحية تعرف بالأفشولية. مات في ذي القعدة، سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان قد ورد واسط، وقرأ بها القرآن وشيئاً من النحو، ثم قدم بغداد وأقام بها، وقرأ على ابن الشجري العلوي، واللغة على الشيخ أبي منصور الجواليقي، وسمع منهما ومن قاضي المارستان. وكان عارفاً بالنحو واللغة والعربية، تخرج به جماعة من أهل الأدب، كمصدق بن شبيب، وكان يحسن الثاء عليه ويقول: به تخرجت، لأن الشيخ ابن الخشاب، كان مشغولاً عنا، ويض علينا بعلمه، فكان انعكافنا على حبشي. وكان مع هذا العلم، إذا خرج إلى الطريق بغير قائد لا يهتدي كما يهتدي العميا، حتى سوق الكتب الذي كان يأتيه في كل ليلة عشرين سنة، ولم يكن بعيداً عن منزله.
حبيش بن عبد الرحمن أبو قلابةوقيل: حبيش بن منقذ. كان أحد الرواة الفهمة. وكان بينه وبين الأصمعي مماظة لأجل المذهب، لأن الأصمعي - رحمه الله - كان سنياً حسن الاعتقاد، وكان أبو قلابة شيعياً رافضياً، ولما بلغته وفاة الأصمعي شمت به وقال:
أقول لما جاءني نعيه ... بعداً وسحقاً لك من هالك
يا شر ميت خرجت نفسه ... وشر مدفوع إلى مالك.
وله أيضاً فيه:
لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظماً تبغض النبي وأهل البي ... ت والطيبين والطيبات
وكان أبو قلابة صديقاً لعبد الصمد بن المعذل، وبينهما مجالسة وممازحة، وله معه أخبار.
حدث المرزباني قال: قال أنشدت أبا قلابة قولي فيه:
يا رب إن كان أبو قلابة ... يشتم في خلوته الصحابهْ
فابعث عليه عقرباً دبابهْ ... تلسعه في طرف السبابهْ
واقرن إليه حية منسابهْ ... وابعث على جوخانه سنجابهْ
قال: وابو قلابة ساكت. فلما قلت: وابعث على جوخانه سنجابه، قال: الله الله، ليس مع ذهاب الخير عمل. حدث المبرد في الروضة، حدثني عبد الصمد ابن المعذل قال: جئت أبا قلابة الجرمي، وهو أحد الرواة الفهمة، ومعه الأرجوزة التي نسبت إلى الأصمعي، وهي:
تهزأ مني أخت آل طيسلهْ ... قالت أراه كاللقي لا شيء لهْ
قال: فسألته أن يدفعها إلي، فأبى. فعملت أرجوزتي التي أولها:
تهزأ مني وهي رود طلهْ ... أن رأت الأحناء مقفعلهْ
قالت أرى شيب العذار احتلهْ ... والورد من ماء اليرنا حلهْ
قال: ودفعتها إليه على أنها لبعض الأعراب، وأخذت منه تلك، ثم مضى أبو قلابة إلى الأصمعي يسأله عن غريبها. فقال له: لمن هذه؟ قال: لبعض الأعراب. فقال له: ويحك، هذه لبعض الدجالين دلسها عليك، أما ترى فيها كيت وكيت وكيت؟ قال: فخزي أبو قلابة واستحي.
حبيش بن موسى الضبيصاحب كتاب الأغاني الذي ألفه للمتوكل، وذكر في هذا الكتاب أشياء لم يذكرها غسحاق، ولا عمرو بن نانة، وذكر من أسماء المغنيين والمغنيات في الجاهلية والإسلام كل طريف غريب. وله: كتاب الأغاني على حروف المعجم، وكتاب مجيدات المغنيات.
حسان بن مالك،اللغوي الأندلسي

بن أبي عبيدة، اللغوي الأندلسي كنيته أبو عبدة الوزير، من أئمة اللغة والأدب، وأهل بيت جلالة ووزارة. مات عن سن عالية. قيل: سنة عشرين وثلاثمائة. له كتاب على مثال كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب، الذي ألفه في أيام الرشيد، وسماه كتاب ربيعة وعقيل، وهو من أحسن ما ألف في هذا المعنى، وفيه من أشعاره ثلاثمائة بيت. وذاك أنه دخل على المنصور بن أبي عامر، وبين يديه كتاب السري، وهو معجب به، فخرج من عنده وعمل هذا الكتاب، وفرغ منه تأليفاً ونسخاً، وجاء به في مثل ذلك اليوم من الجمعة الأخرى، وأراه إياه، فسر به ووصله عليه. وكتب أبو عبدة للمستظهر عبد الرحمن ابن هشام، بن عبد الجبار، بن عبد الرحمن التاجر، المسمى بالخلافة أيام الفتنة، وكان استوزره:
إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيان مني مشهد ومغيب
فأصبحت تيمياً وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيب
أشار في هذا لابيت إلى قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يسأذنون وهم شهود
قال ابن خاقان: وكان لأبي عبدة أيام الفتنة حين أدجت الفتنة ليلها، وأزجت إبلها وخيلها. اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض، واضطراب بين الموالي والمواض، كالحية النضناض، ثم اشتهر بعد، وافتر له السعد، وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله:
سقى بلداً أهلي به وأقاربي ... غواد بأثقال الحيا وروائح
وهبت عليهم بالعشي وبالضحى ... نواسم من برد الظلال فوائح
تذكرتهم، والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح
ومما شجاني هاتف فوق أيكة ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح
فقلت: اتئد يكفيك أني نازح ... وأن الذي أهواه عني نازح
ولي صبية مثل الفراخ بقفرة ... مضى حاضناها فاطحتها الطوائح
إذا عصفت ريح أقامت رؤوسها ... فلم تلقها إلا طيور بوارح
الحسن بن إبراهيم بن زولاقأبو محمد، هو الحسن بن إبراهيم، بن الحسين، بن الحسن ابن علي، ب خلف، بن راشد، بن عبد الله، بن سليمان، ابن زولاق المصري الليني، من أعيان علماء أهل مصر، ووجوه أهل العلم فيهم. وله عدة تصانيف في تواريخ المصرية. مات يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، سنة ست وثمانين وثلاثمائة، في أيام المتلقب بالعزيز بالله. وقيل: إنه مات في ذي القعدة، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، في أيام الحاكم، والأول أظهر. وكان لمحبته للتواريخ، والحرص على جمعها وكتبها، كثيراً ما ينشد:
مازلت تكتب في التاريخ مجتهداً ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله من الكتب: كتاب سيرة محمد بن طفج الأخشيد، كتاب سيرة جوهر، كتاب سيرة الماذرائيين، كتاب التاريخ الكبير على السنين، كتاب فضائل مصر، كتاب سيرة كافور، كتاب سيرة المعز، كتاب سيرة العزيز، وغير ذلك. وكان قد سمع الحديث ورواه، فسمع منه عبد الله بن وهبان، بن أيوب، بن صدقة وغيره وحدث ابن زولاق في كتاب سيرة العزيز المتغلب على مصر، المتسب إلى العلويين من تصنيفه، حاكياً عن نفسه قال: لما خلع على الوزير يعقوب بن كلس، وكان يهودياً فأسلم، وكان مكيناً من العزيز، فلما أسلم قلده وزارته، وخلع عليه. قال ابن زولاق: وكنت حاضراً مجلسه، فقلت: أيها الوزير، روى الأعمش عن زيد ابن وهب، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: حدثني الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه). وهذا علو سماوي. فقال الوزير: ليس الأمر كذلك، وإنما أفعالي وتوفيراتي وكفايتي، ونيابتي ونيتي وحرصي، الذي كان يهجى ويعاب. وقد مات قوم ممن كان، وبقي قوم، وكان هذا القول بحضرة القوم الذين حضروا قراءة السجل، الذي خرج من العزيز في ذكر تشريفه. قال ابن زولاق: فأمسكت وقلت: - وفق الله الوزير - ، إنما رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً، وقمت وخرجت وهو ينظر إلي، وانصرف الوزير إلى داره بما حباه العزيز به. قال: فحدثني أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني الزينبي قال: عاتبت الوزير على ما تكلم به وقلت: إنما روى حديثاً صحيحاً بجميع طرقه، وما أراد إلا الخير. فقال لي: خفي عنك، إنما هذا مثل قول المتنبئ:
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
وأجمع الاس على أن ذلك هجو في كافور، لأنه أعلمه أنه تقدم بغير سبب. وابن زولاق هجاني على لسان صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، فما أمكني السكوت. وكان في نفسي شيء، فجعلت كلامه سبباً. قال أبو عبد الله الزينبي: فأشهد أن الوزير لم ينقض يومه، حتى تكلم بمثل كلامي، الذي أوردته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن رجلاً عرض عليه رقعة فقال: كم رقاع، كم حرص هو ذا الرجل، يطوف البلدان، ويتقلب في الدول ويسافر فلا ينجح وآخر يأتيه أمله عفواً، قد فرغ الله من الأرزاق والآجال، والمراتب، ومن الشقاوة والسعادة، ثم التفت إلي وضحك، وقطع كلامه. قال ابن زولاق: وكنت هنأت ابن رشيق بهذه التهنئة، في مجلس عظيم حفل، حي جاءته الخلع من بغداد والتقليد وألبسوه. ورويت له هذا الخبر، فبكى وشكر، وحسدني على ذلك أكثر الحاضرين، وكافأني عليه أحسن مكافأة.
الحسن بن أحمدبابن الحائك الهمداني،
بن يعقوب، يعرف بابن الحائك الهمداني ومن مفاخرها. له: كتاب الإكليل في مفاخر قحطان، وذكر اليمن. وله قصيدة سماها الدامغة في فضل قحطان، أولها:
ألا يا دار لولا تنطقيا ... فإنا سائلوك فخبرينا
وله كتاب جزيرة العرب وأسماء بلادها، وأوديتها ومن يسكنها. وقرأت بخط الأمير عبد الكريم بن علي البيساني، أخي الفاضل عبد الرحيم في فهرست كتبه، وذكر خبراً من كتاب الإكليل في أنساب حمير وأخبارها، تصيف الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، وكان في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
الحسن بن أحمد،الفارسي

بن عبد الغفار، ابن سليمان الفارسي،أبو علي الفارسي لامشهور في العالم اسمه، المعروف تصنيفه ورسمه، أوحد زمانه في علم العربية. كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد. قال أبو الحسن علي ابن عيسى الربعي: هو أبو علي الحسن، بن أحمد، بن عبد الغفار، بن محمد، بن سليمان، بن أبان الفارسي، وأمه سدوسية من سدوس، شيبان من ربيعة الفرس. مات ببغداد، سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، في أيام الطائع لله، عن نيف وتسعين سنة. أخذ النحو عن جماعة من أعيان أهل هذا الشأن، كأبي إسحاق الزجاج، وأبي بكر بن السراج، وأبي بكر مبرمان، وأبي بكر الخياط. وطوف كثيراً في بلاد الشام، ومضى إلى طرابلس، فأقام بحلب مدة، وخدم سيف الدولة بن حمدان، ثم رجع إلى بغداد، فأقام بها إلى أن مات. حدث الخطيب قال: قال التنوخي: ولد أبو علي الفارسي بفسا، وقدم قغداد واستوطها، وعلت منزلته في النحو حتى قال قوم من تلامذته: هو فوق المبرد وأعلم منه. وصنف كتباً عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق، وبرع له غلمان حذاق، مثل عثما بن جني، وعلي بن عيسى الربعي وخدم الملوك ونفق عليهم، وتقدم عند عضد الدولة فكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو، وغلام أبي الحسين الرازي الصوفي في النجوم. وكان متهماً بالاعتزال.
وذكر أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، في كتاب شرح الجمل للزجاجي، في باب التصريف منه: يحكى عن أبي علي الفارسي: أنه حضر يوماً مجلس أبي بكر الخياط، فأقبل أصحابه على أبي بكر يكثرو عليه المسائل، وهو يجيبهم ويقيم عليها الدلائل. فلما أنفدوا أقبل على أكبرهم سناً، وأكبرهم عقلاً، وأوسعهم علماً عند نفسه. فقال له: كيف تبني من سفرجل مثل عنكبوت؟ فأجابه مسرعاً سفرروت. فحي سمعها قام من مجلسه وصفق بيديه، وخرج وهو يقول: سفرروت. فأقبل أبو بكر على أصحابه، وقال: - لا بارك الله فيكم، ولا أحسن جزاءكم - ، خجلاً مما جرى، واستحياء من أبي علي.
ومما يشهد بصفاء ذهنه وخلوص فهمه: أنه سئل - قبل أن ينظر في العروض - عن خرم متفاعلن، فتفكر وانتزع الجواب فيه من النحو فقال: لا يجوز، لأن متفاعلن ينقل إلى مستفعلن إذا أضمر، فلو خرم لتعرض للابتداء بالساكن. إذا الخرم: حذف الحرف الأول من البيت. والإضمار تسكين ثانية. ولما خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه عز الدولة، بختيار بن معز الدولة، دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا؟ فقال له: أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء، - فخار الله للملك في عزيمته، وأنجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده، والظفر تجاهه، والملائكة أنصاره - . ثم أنشده:
ودعته حيث لا تودعه ... نفسي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي الفراد له ... ضيق محل وفي الدموع سعهْ
فقال له عضد الدولة: - بارك الله فيك - فإني واثق بطاعتك، وأتيقن صفاء طويتك، وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:
قالوا له إذ سار أحبابه ... فبدلوه البعد بالقرب
والله ما شطت نوى ظاعن ... سار من العين إلى القلب

فدعا له أبو علي، وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين؟ فأذن فاستملاهما منه. وكان مع عضد الدولة يوماً في الميدان فسأله: بماذا ينتصب الاسم المستثنى، في نحو قام القوم إلا زيداً؟ فقال أبو علي: ينتصب بتقدير أستثني زيداً. فقال له عضد الدولة: لم قدرت أستثي زيداً. فقال له عضد الدولة: لم قدرت أستثني زيداً فنصبت؟ هلا قدرت امتنع زيد. فرفعت، فقال أبو علي: هذا الذي ذكرته جواب ميداني، فإذا رجعت قلت لك الجواب الصحيح. وقد ذكر أبو علي في كتاب الإيضاح: أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا. قالوا: ولما صنف أبو علي كتاب الإيضاح، وحمله إلى عضد الدولة، استقصره عضد الدولة، وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، وإنما يصلح هذا للصبيان. فمضى أبو علي، وصنف التكملة، وحملها إليه. فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ، وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو. وحكى ابن جني عن أبي علي أنه كان يقول: أخطئ في مائة مسألة لغوية، ولا أخطئ في واحدة قياسية. قال أبو الفتح بن جني: قال لي أبو علي الفارسي: قرأ علي علي بن عيسى الرماني كتاب الجمل وكتاب الموجز لابن السراج في حياة ابن السراج. وكان أبو طالب العبدي يقول: لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه، أحد أبصر بالنحو من أبي علي. قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالري، في دار كتبها التي وقفها الصاحب ابن عباد - رحمه الله - وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: - أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه - ، كتابي في قراء الأمصار، الذين بينت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى، المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى أثر سيدنا الصاحب الجليل - أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه - حكاية شيء منه عنهم، أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه: ولأبي علي من التصانيف: كتاب الحجة، كتاب التذكرة، قد ذكرت حاله في ترجمة محمد ابن طوس القصري، كتاب أبيات الإعراب، كتاب الإيضاح الشعري، كتاب الإيضاح النحوي، كتاب مختصر عوامل الإعراب، كتاب المسائل الحلبية، كتاب المسائل البغدادية، كتاب المسائل الشيرازية، كتاب المسائل القصرية، كتاب الأغفال، وهو مسائل أصلحها على الزجاج، كتاب المقصور والممدود، كتاب نقص الهاذور كتاب الترجمة، كتاب المسائل المنثورة، كتاب المسائل الدمشقية، كتاب أبيات المعاني، كتاب التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير، نحو مائة ورقة، كتاب تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)، كتاب المسائل البصرية، كتاب المسائل العسكرية، كتاب المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج، كتاب المسائل المشكلة، كتاب المسائل الكرمانية، ذكر المعري في رسالة الغفران: أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر بن السراج، عمل من الموجز النصف الأول لرجل بزاز، ثم تقدم إلى أبي علي الفارسي بإتمامه. قال: وهذا لا يقال إنه من إنشاء أبي علي، لأن الموضوع في الموجز، هو منقول من كلام ابن السراج في الأصول وفي الجمل، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ، لا أنه ابتدع شيئاً من عنده نقلت من خط الشيخ أبي سعيد مع ب خلف البستي، مستوفي بيتي الزرد والفرس الملكشاهي بتوليته من نظام الملك، من كتاب ألفه بخطه، وكان عالماً فاضلاً حاسباً.

قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد، بن مهرويه في كتابه الذي سماه أجناس الجواهر: كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي - رحمه الله - وكان السلطان رسمل له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين، لتصحيح كتاب التذكرة، لخزانة كافي الكفاة، فكنا إذا قرأنا أوراقاص منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائده ثمار الألباب ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدر المنثور من سقاط فيه، فأجرى يوماً بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه، وفضله على أعيان العلماء في أيامه، فرأيته - رحمه الله - كالمنكر لما كان يورده، وكان فيما ذكر من محاسنه، ونشر من فضائله أن قال: من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي: وما الذي رد عليهم؟ فقال الرجل: أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها وماميها، وأنه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز، إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها، ونعت الجريال وقد سبح على جدله، والظليم وكيف ينفر من ظله؟. وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبق مفصل الإصابة في كل باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجارى القروم البزل من أصحاب البلاغة، فقال له الشيخ أبو علي: وما الذي أنكر على ذي الرمة؟ فقال قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم لأنه كان يجب أن ينونه، فقال: أما هذا فالأصمعي مخطئ فيه، وذو الرمة مصيب، والعجب أن يعقوب ب السكيت قد وقع عليه هذا السهو في عبض ما أنشده. فقلت: إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطإ تفضل به، فأملى علينا: أنشد ابن السكيت لأعرابي من بني أسد:
وقائلة أسيت فقلت جير ... أسى إنني من ذاك إنه
أصابهم الحمى وهم عواف ... وكن عليهم نحساً لعنه
فجئت قبورهم بدءاً ولما ... فناديت القبور فلم يجبنه
وكيف يجيب أصداء وهام ... وأبدان بدرن وما نخرنه
قال يعقوب: قوله جير أي حقاً، وهي مخفوضة غير منوة، فاحتاج إلى التوين: قال أبو علي: هذا سهو منه، لأن هذا يجري منه مجرى الأصوات، وباب الأصوات كلها، والمبنيات بأسرها لا ينون، إلا ما خص منها لعلة الفرقان فيها، بين نكرتها ومعرفتها، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين، فإذا نكرته نونته، ويكون من ذلك أنك تقول في الأمر: صه ومه، تريد السكوت يا فتى، فإذا نكرت قلت: صه ومه، تريد سكوتاً. وكذلك قول الغراب: غاق أي الصوت المعروف من صوته، وقول الغراب غاق، أي صوتاً، وكذلك إيه يا رجل، تريد الحديث، وإيه تريد حديثاً.
وزعم الأصمعي: أن ذا الرمة أخطأ في قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم. وكان يجب أن ينونه ويقول إيه منونة، وهذا من أوابد الأصمعي، فاحتاج إلى التنوين. قال أبو لعي: هذا سهو من غير علم. فقوله جير بغير تنوين، في موضع قوله الحق، وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه، فيكون معناه: قلت حقاً. ولا مدخل للضرورة في ذلك، إنما التنوين للمعنى المذكور، وبالله التوفيق. وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير.
قال يعقوب: قوله: أصابهم الحمى: يريد الحمام. وقوله بدرن: أي طعن في بوادرهم بالموت. والبادرة: النحر. وقوله: فجئت قبورهم بدءاً: أي سيداً، وبدء القوم: سيدهم. وبدء الجزور: خير أنصبائها. وقوله: ولما أي ولم أك سيداً إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم.
قرأت في معجم الشعراء للسلفي: أنشدني أبو جعفر، أحمد بن محمد بن كوثر، المحاربي الغرناطي بديار مصر، قال: أنشدنا أبو الحسن علي أحمد بن خلف النحوي لنفسه بالأندلس، في كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي النحوي:
أضع الكرى لتحفط الإيضاح ... وصل الغدو لفهمه برواح
هو بغية المتعلمين ومن بغى ... حمل الكتاب يلجه بالمفتاح
لأبي علي في الكتاب إمامة ... شهد الرواة لها بفوز قداح
يفضي إلى أسراره بنوافذ ... من علمه بهرت قوى الأمداح
فيخاطب المتعلمين بلفظه ... ويحل مشكله بومضة واحي
مضت العصور فكل نحو ظلمة ... وأتى فكان النحو ضوء صباح

أوصى ذوي الإعراب أن يتذاكروا ... بحروفه في الصحف والألواح
فإذا هم سمعوا النصيحة أنجحوا ... إن النصيحة غبها لنجاح
وكتب الصاحب إلى أبي علي في الحال المقدم ذكرها: كتابي - أطال الله بقاء الشيخ، وأدام جمال العلم والأدب بحراسة مهجته، وتنفيس مهلته - ، وأنا سالم ولله حامد، وإليه في الصلاة على النبي وآله راغب، ولبر الشيخ - أيده الله - بكتابه الوارد شاكر.
فأما أخونا أبو الحسين قريبه - أعزه الله - فقد ألزمي بإخراجه إلى أعظم منة، وأتحفني من قربه بعلق مضنة، لولا أنه قلل المقام، واختصر الأيام. ومن هذا الذي لا يشتاق ذلك المجلس؟ وأنا أحوج من كل حاضريه إليه، وأحق منهم بالمثابرة عليه، ولكن الأمور مقدرة، وبحسب المصالح ميسرة، غير أا ننتسب إليه على البعد وقتبس فوائده عن قرب، وسيشرح هذا الأخ هذه الجملة حق الشرح بإذن الله. والشيخ - أدام الله عزه - يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط دون الخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، ويبسط في حاجاته، فإني أظنني أجدر إخوانه بقضاء مهماته، إن شاء الله تعالى. قد اعتمدت على صاحبي أبي العلاء - أيده الله - لاستساخ التذكرة، وللشيخ - أدام الله عزه - رأيه الموفق في التمكين، من الأصل والإذن بعد النسخ في العرض - بإذن الله تعالى - .
قال حدثني علم الدين، أبو محمد القاسم بن أحمد الأندلسي - أيده الله تعالى - قال: وجدت في مسائل نحوية، ننسب إلى ابن جني قال: لم أسمع لأبي علي شعراً قط، إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، فقال أبو لعي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فإن خاطري لا يواتيني على قوله، مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط شيئاً منه ألبته؟ فقال: ما أعهد لي شعراً إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خل ... ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن المشيب بدا ذميماً ... فصيرت الخضاب له عقابا
فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال. لأني كتبتها عن المفاوهة، ولم أنقل ألفاظها. أخبر أبو الحسن علي بن عمر الفراء، عن أبي الحسين، نصر بن أحمد، بن نوح المقرئ، قال: أنبأا أبو الحسن علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي ببغداد، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد، بن عبد الغفار الفارسي النحوي، قال: جئت إلى أبي بكر السراج لأسمع منه الكتاب. وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر علي في تمامه، فانقطعت عنه لتمكني من الكتاب، فقلت لنفسي بعد مدة: إن سرت إلى فارس، وسئلت عن تمامه، فإن قلت نعم، كذبت، وإن قلت لا، سقطت الرواية والرحلة. ودعتني الضرورة، فحملت إليه رزمة، فلما ابصرني من بعيد أنشد:
وكم تجرعت من غيظ ومن حزن ... إذا تجدد حزن هو الماضي
وكم غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راضي
قرأت بخط الشيخ أبي محمد ب الخشاب: كان شيخنا، يعني أبا منصور موهوب بن الخضر الجواليقي قلما ينبل عنده ممارس للصناعة النحوية، ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية، وما تشتمل عليه من ضروبها، ولا سيما رواية الأشعار العربية، وما يتعلق بمعرفتها من لغة وقصة، ولهذا كان مقدماً لأبي سعيد السيرافي، على أبي علي الفارسي - رحمهما الله - . وأبو علي أبو علي في نحوه. وطريقة أبي سعيد في النحو معلومة. ويقول: أبو سعيد أروى من أبي علي، وأكثر تحققاً بالرواية، وأثرى منه فيها: وقد قال لي غير مرة: لعل أبا علي لم يكن يرى ما يراه أبو سعيد، من معرفة هذه الأخباريات والأنساب، وما جرى في هذا الأسلوب - كبير أمر - .

قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إنه قد حكي عنه، أعني أبا علي أنه كان يقول: لأ أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية، أحب إلي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية. هذا كلامه أو معناه، على أنه كان يقول: قد سمعت الكثير في أول الأمر، وكنت أستحي أن أقول: أثبتوا اسمي. قال الشيخ أبو محمد وكثيراً ما تحصي السقطات على الحذاق من أهل الصناعة النحوية، لتقصيرهم في هذا الباب، فمنه يذهبون، ونم جهته يؤتو. تمام هذا الكلام في أخبار ابن الخشاب.
وقرأت في تاريخ أبي غالب بن مهذب المعري، قال: حدثني الشيخ أبو العلاء، أن أبا علي مضى إلى العراق، وصار له جاه عظيم عند الملك فناخسرو. فوقعت لبعض أهل المعرة حاجة في العراق، احتاج فيها إلى كتاب من القاضي أبي الحسن سليمان، إلى أبي علي. فلما وقف على الكتاب قال: إني قد نسيت الشام وأهله، ولم يعره طرفه.
وذكر شيخنا أبو علي: أن بعض إخوانه سأله بفارس إملاء شيء من ذلك، فأملى عليه صدراً كثيراً، وتقصى القول فيه، وأنه هلك في جملة ما فقده، وأصيب به من كتبه. قال عثمان بن جي - رحمه الله - : وإن وجدت نسخة وأمكن الوقت، عملت بإذن الله كتاباً أذكر فيه جميع المعتلات في كلام العرب، وأميز ذوات الهمزة من ذوات الواو والياء، وأعطي كل جزء منهما حظه من القول، مستقصى - إن شاء الله تعالى - .
وحدثني أيضاً أنه وقع حريق بمدينة السلام، فذهب به جميع علم البصريين قال: وكنت قد كتبت ذلك كله بخطي، وقرأنه على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً ألبتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد ابن الحسن. وسألته عن سلوته وعزائه، فنظر إلي عاجباً ثم قال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت مدة ذاهلاً متحيراً انقضى كلامه في هذا الفصل.
قرأت في المسائل الحلبية، نسخة كتاب كتبه أبو علي إلى سيف الدولة جواباً عن كتاب ورد عليه منه، يرد فيه على ابن خالويه في أشياء أبلغها سيف الدولة عن أبي علي نسخته: قرأ - أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة - عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا، فوجد كثيراً منها شيئاً لم تجر عادة عبده به، ولاسيما مع صاحب الرقعة، إلا أنه يذكر من ذلك ما يدل على قلة تحفظ هذا الرجل فيما يقوله، وهو قوله: ولو بقي عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي، مع علمه بأن ابن هزاذ السيرافي يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم، أفلا أصلح أن أقرأ على من يقرأ عليه الصبيان؟ هذا ما لاخفاء به. كيف وهو قد خلط فيما حكاه عني؟ وأني قلت: إن السيرافي قد قرأ علي ولم أقل هذا. إنما قلت: تعلم مني أو أخذ عني هو وغيره ممن ينظر اليوم في شيء من هذا العل. وليس قول القائل: تعلم مني مثل قرأ علي، لأنه قد يقرأ عليه من لا يتعلم منه وقد يتعلم منه من لا يقرأ عليه. وتعلم ابن بهزاذ مني في أيام محمد بن السري وبعده، لا يخفى على من كان يعرفني ويعرفه، كعلي بن عيسى الوراق، ومحمد بن أحمد اب يونس. ومن كان يطلب هذا الشأن من بي الأزرق الكتاب وغيرهم. وكذلك كثير من الفرس الذين كانوا يرونه يغشاني في صف شويز، كعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، لأنه كان جاري بيت بيت قبل أن يموت الحسن بن جعفر أخوه، فينتقل إلى داره التي ورثها عنه في درب الزعفراني.
وأما قوله إني قلت: إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئاً، فغلط في الحكاية، كيف أستجيز هذا وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة؟. ولكني قلت: إنه لا لقاء له، لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمد بن يزيد، وصادف أحمد بن يحيى وقد صم صمماً شديداً، لا يخرق الكلام معه سمعه، فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يعول فيما كان يؤخذ عنه، على ما يمله دون ما كان يقرأ عليه، وهذا الأمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم. وأما قوله: قد أخطأ البارحة في أكثر ما قاله. فاعتراف بما إن استغفر الله منه كان حسناً، والرقعة طويلة فيها جواب عن مسائل أخذت عليه. كانت النسخة غير مرضية، فتركتها إلى أن يقع ما أرتضيه. وأكثر النسخ بالحلبيات لا توجد هذه الرقعة فيها.

قرأت بخط أبي الفتح عثمان بن جني الذي لا أرتاب به قال: وسألته - يعني أبا علي - فقلت: أقرأت أنت على أبي بكر؟ فقال: نعم قرأته عليه، وقرأه أبو بكر على أبي سعيد يعني السكري. قال: وكان أبو بكر قد كتب من كتب أبي سعيد كثيراً، وكتب أبي زيد. قال: وذاكرته بكتب أبي بكر وقلت: لو عاش لظهر من جهته علم كثير، وكلاماً هذا نحوه فقال: نعم، إلا أنه كان يطول كتبه. وضرب لذلك مثلاً قد ذهب عني، أظنه - بارك الله لأبي يحيى في كتبه - أو شيئاً نحو ذلك.
قال: وفارقت أبا بكر قبل وفاته وهو يشغل بالعلة التي توفي فيها، ورجعت إلى بلاد فارس، ثم عدت وقد توفي. ورأيت في آخر كتابه في معاني الشعر خطي الذي كان يمله علي لأكتبه فيه، فعلمت أنه لم يزد فيه شيئاً. قال: وكان الأصمعي يتهم في تلك الأخبار التي يرويها. فقلت له: كيف هذا؟ وفيه من التورع ما دعاه إلى ترك تفسير القرآن ونحو ذلك. فقال: كان يفعل ذلك رياء وعناداً لأبي عبيدة، لأنه سبقه إلى عمل كتاب في القرآن، فجنح الأصمعي إلى ذلك.
الحسن بن أحمد، أبو محمد الأعرابيالمعروف بالأسود الغندجاني اللغوي النسابة. وغندجان: بلد قليل الماء، لا يخرج منه إلا أديب أو حامل سلاح. وكان الأسود صاحب دنيا وثروة، وكان علامة نسابة عارفاً بأيام العرب وأشعارها، قيماً بمعرفة أحوالها، وكان مستنده فيما يرويه عن محمد بن أحمد أبا الندى، وهذا رجل مجهول لا معرفة لنا به.
وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره بذلك ويقول: ليست شعري، من هذا الأسود الذي قد نصب نفسه للرد على العلماء؟ وتصدى للأخذ على الأئمة القدماء، بماذا نصحح قوله؟ ونبطل قول الأوائل ولا تعويل له فيما يرويه إلا على أبي الندى، ومن أبو الندى في العالم؟ لا شيخ مشهور، ولا ذو علم مذكور. قال المؤلف: ولعمري إن الأمر لكما قال أبو يعلى: هذا رجل يقول: أخطأ ابن الأعرابي في أن هذا الشعر لفلان، إنما هو لفلان بغير حجة واضحة، ولا أدلة لائحة، أكثر من أن يكون ابن الأعرابي قد ذكر من القصيدة أبياتاً يسيرة فينشد هو تمامها، وهذا ما لا يقوم به حجة على أن يكون أعلم من ابن الأعرابي الذي كان يقاوم الأصمعي، وقد أدرك صدراً من العرب الذين عنهم أخذ هذا العلم، ومنهم استمد أولو الفهم. وكان الأسود لا يقنعه أن يرد على أئمة العلم رداً جميلاً، حتى يجعله من باب السخرية والتهكم، وضرب الأمثال والطير. والحكاية عنه مستفاضة في أنه كان يتعاطى تسويد لونه، وأنه كان يدهن بالقطرا، ويقعد في الشمس ليحقق لنفسه التلقيب بالأعرابي، وكان قد رزق في أيامه سعادة، وذاك أنه كان في كنف الوزير العادل أبي منصور بهرام ابن مافنة، وزير الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة، بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه صاحب شيراز، وقد خطب له ببغداد بالسلطنة. فكان الأسود إذا صنف كتاباً جعله باسمه، فكان يفضل عليه إفضالاً جماً، فأثرى من جهته. ومات أبو منصور الوزير في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
وقرأت في بعض تصانيفه: أنه صنف في شهور سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وقرئ عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. وللأسود من التصانيف: كتاب السل والسرقة، كتاب فرجة الأديب في الرد على يوسف ب أبي سعيد السيرافي في شرح أبيات سيبويه، كتاب ضالة الأديب في الرد على ابن الأعرابي في النوادر التي رواها ثعلب، كتاب قيد الأوابد في الرد على ابن السيرافي أيضاً في شرح أبيات إصلاح المنطق، كتاب الرد على النمري في شرح مشكل أبيات الحماسة، كتاب نزهة الأديب في الرد على أبي علي في التذكرة، كتاب الخليل مرتب على حروف المعجم، كتاب في أسماء الأماكن:
الحسن بن أحمد، بن عبد الله، بن البناءأبو علي المقرئ، المحدث الحنبلي. ولد سنة ستوتسعين وثلاثمائة. وقرأ القرآن على أبي الحسن الحمامي وغيره. وسمع الحديث من ابن بشران وغيرهما، وتفقه على القاضي أبي يعلى ب الفراء. ومات في خامس رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وصنف في كل فن حتى بلغت تصانيفه مائة وخمسين مصنفاً. منها: كتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في النحو، رأيته وكان له حلقة بجامع القصر، يفتي فيها ويقرأ الحديث وحلقة بجامع المنصور.

وحدث السمعاني قال: سمعت أبا القاسم بن السمرقندي يقول: كان واحد من أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري، وكان سمع الكثير، وكان ابن البناء يكشط من التسميع بوري ويمد السين، وقد صار الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا قال: كذا قيل إنه كان يفعل. قال أبو الفرج: وهذا القول بعيد من الصحة، فإنه قال: كذا قيل ولم يحك عن علمه بذلك، فلا يثبت هذا. والثاني أن الرجل مكثر لا يحتاج إلى الاستزادة لما يسمع، ومتدين ولا يحسن أن يظن بالمتدين الكذب. والثالث أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبي علي بن البنا، فأين هذا الرجل الذي يقال له: الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري؟ ومن ذكره ومن يعرفه؟ ومعلوم أن من اشتهر سماعه لا يخفى. وقال السمعاني ونقلته من خطه: الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا المقرئ الحافظ أبو علي، أحد الأعيان، والمشار إليهم في الزما، له في علوم القرآ والحديث والفقه والأصول والفروع عدة مصنفات. حكى بعض أصحاب الحديث عنه أنه قال: صنفت خمسمائة مصنف، وكان حلو العبارة.
قال السمعاني: وقرأت بخط الإمام والدي: سمعت أبا جعفر محمد بن أبي علي الهمذاني بها يقول: سمعت أبا علي ابن البنا ببغداد. وقال: ذكرني أبو بكر الخطيب في التاريخ بالصدق أو بالكذب؟ فقالوا: ما ذكرك في التاريخ أصلاً فقال: ليته ذكرني ولو في الكذابين.
قال السمعاني: أنبأنا أبو عثمان العصائدي، أنبأنا أبو علي بن البنا قال: كتب إلي بعض إخواني من أهل الأدب كتاباً وضمنه قول الخليل بن أ؛مد:
إن كنت لست معي فالقلب منك معي ... يراك قلبي وإن غيبت عن بصري
العين تبصر ما تهوى وتفقده ... وباطن القلب لا يخلو من النظر
فكتب إليه أبو علي لنفسه:
إذا غيبت أشباحنا كان بيننا ... رسائل صدق في الضمير تراسل
وأرواحنا في كل شرق ومغرب ... تلاقي بإخلاص الوداد تواصل
وثم أمور لو تحققت بعضها ... لكنت لنا بالعذر فيها تقابل
وكم غائب والصدر منه مسلم ... وكم زائر في القلب منه بلابل
فلا تجزعن يوماً إذا غاب صاحب ... أمين فما غاب الصديق المجامل
الجزء الثامن
الحسن بن أحمد الأستراباذيأبو علي النحوي اللغوي، الأديب الفاضل، حسنة طبرستان، وأوحد ذلك الزمان، وله من التصانيف: كتاب شرح الفصيح. كتاب شرح الحماسة.
الحسن بن أحمد، بن الحسن، بن أحمدابن محمد، بن سهل، بن سلمة، بن عثكل، بن حنبل، بن إسحاق العطار الحافظ أبو العلاء الهمذاني، المقرئ من أهل همذان. مات في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة. وذكره بعض الثقات من أهل العلم، فذكر له مناقب كثيرة، وذكر نسبه وولادته فقال: هو أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن، بن أحمد، ابن محمد، بن سهل، بن سلمة، بن عثكل، بن إسحاق العطار الهمذاني. وكان عثكل من العرب. وأما ولادته: فإنها كانت يوم السبت قبل طلوع الشمس الرابع عشر من ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. بهمذان وذكر من مناقبه قال: سمعته - رحمه الله - يقول: سلمت في صغري إلى رجل معلم. قال: سماه ونسيت اسمه قال: وكنت أحفظ عليه القرآن، فحفظت عليه إلى سورة يوسف، ثم أجرى الله لساني بحفظ الباقي من القرآن دفعة واحدة، من غير تحفظ وتكرار، فضلاً منه جل جلاله. قال: وسار في ليلة واحدة في طلب الحديث من جرباذقان إلى أصفها.
وسمعته يقول: لما حججت كنت أمشي في البادية راجلاً قدام القافلة، أحياناً مع الدليل، وأحياناً أخلف الدليل، حتى عرفني الدليل واستأنس بي ومال إلي، وهو يسير على ناقة له تكاد ترد الريح، وكنت أرى الدليل يتعجب من قوتي على السير، وكان أحياناً يضرب ناقته ويمعن في السير، وكت لا أخلي الناقة تسبقي. فقال لي الدليل يوماً: تقدر أن تسابق ناقتي هذه؟ فقلت: نعم. فضربها وعدوت معها فسبقتها.
قال: وكان كثير الحفظ للعلوم، كثير المجاهدة في تحصيلها، فسمعته يقول - رحمه الله - : حفظت كتاب الجمل في النحو لعبد القاهر الجرجاني، في يوم واحد من الغداة إلى وقت العصر.

قال: وسمعت الشيخ أبا حفص عمر بن الحسين الوشاء المقرئ يقول: سمعت الإمام الحافظ - رحمه الله - يقول: حفظت يوماً ثلاثين ورقة من القراءة. قال: وسمعت الإمام الحافظ أبا بكر محمد بن شيخ الإسلام الحافظ أبي العلاء قال: سمعت الشيخ الصالح إبراهيم المرجي قال: سمعت الشيخ - رحمه الله - يقول: ولو أن أحداً أتاني بحديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغني لملأت فاه ذهباً. قال: وكان الشيخ - رحمه الله - حفظ الجمهرة لأبي بكر بن دريد، وكتاب المجمل لابن فارس، وكتاب النسب للزبير بن بكار.
قال: وبلغي عن الثقة أن الحافظ أبا جعفر - رحمه الله - كان يقول: لو أن الله تعالى يقول لي يوم القيامة: ماذا أتيتني به؟ أقول ربي وسيدي، أتيتك بأبي العلاء العطار. قال: وكان الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد ابن الفضل الجوزي - رحمه الله - ، يملي يوماً في الجامع بأصفهان وعنده جماعة من المحدثين، إذ دخل الشيخ الحافظ أبو العلاء - رحمه الله - من باب الجامع، فلما نظر الحافظ أبو القاسم إليه أمسك عن الإملاء، ونظر إلى أصحابه وقال: أيها القوم: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، وهذا الرجل المقبل من جملتهم، قوموا نسلم عليه، فقاموا واستقبلوه، وسلموا عليه واعتنقوه. قال: وكان يقرأ على الشيخ أبي العز المقرئ القلانسي الواسطي - رحمه الله - ، وكان يفضله على أصحابه، فشق ذلك عليهم، فاجتمع بعضهم يوماً وفيهم الشيخ أبو العلاء - رحمه الله - ، فسألهم الشيخ أبو العز عن اختلاف القراء. في قوله تعالى: (كوكب دري يوقد) وأقاويل الأئمة فيها، فسقط في أيديهم، وتاهوا في شرحها، وما أجابوا بطائل. ثم أقبل الشيخ أبو العز على الشيخ - رحمه الله - وقال: تكلم أنت فيها يا أبا العلاء، فشرع فيها الشيخ وعد فيها بضعة عشر قولاً، وأدى فيها حقاً بأحسن إشارة، وأبلغ عبارة. فلما فرغ، نظر الشيخ أبو العز إلى أصحابه الحاضرين وقال: بهذا أفضله عليكم، لو أمهلتكم مدة لما قدرتم على الذي ذكر هو بديهة من غير عزيمة سابقة، وروية سالفة.
قال: وكان محترماً عند الخلفاء والسلاطين. كتب إليه المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين كتاباً من جملته: وبعد، فإن الأب القديس النفيس، خامس أولي العزم، وسابع السبعة على الحزم، وارث علم الأنبياء، حافظ شرع المصطفى أبا العلاء، ثم ذكر كلاماً واستدعى منه الدعاء. قال: وسمعت ولده أبا محمد عبد الغني ابن الشيخ الحافظ أبي العلاء - رحمه الله - يقول: لما دخل أبي على أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله - رضي الله عنه - بعد استدعاء أمير المؤمنين إياه، كان يأمره خواص الخليفة بتقبيل الأرض في المواضع، وكان يأبى ذلك، فلما أكثروا عليه قال: دعوني، إنما السجود لله تعالى، فكفوا عنه حتى وصل إليه، وسلم بالخلافة عليه، فقام له أمير المؤمنين وأجلسه، ثم كلمه ساعة وسأل نمه الدعاء، فدعا وأذ له في الرجوع فرجع، وكانوا قد أحضروا الخلعة والصلة فاستعفى من ذلك فأعفي، وخرج من بغداد حذراً من فتنة الدنيا وآفاتها.
وحدثني غير واحد، أن السلطان محمداً لما دخل عليه داره، نصحه كثيراً ووعظه، وكان السلطان جالساً بين يديه، مقبلاً عليه بوجهه، مصغياً إلى كلامه فلما قام ليخرج، أمره بتقدمة رجله اليمنى، وأخذه الطريق من الجانب الأيمن.
وسمعت الإمام أبا بشر - رحمه الله - يقول: سمعت عبد الغني بن سرور المقدسي يقول: كنت يوماً في خدمة الحافظ أبي طاهر السلفي بثغر الإسكندرية، تقرأ الحديث، فجرى ذكر الحفاظ إلى أن انتهى الكلام إلى ذكر الحافظ أبي العلاء - رحمه الله - ، فأطرق الحافظ أبو طاهر عند ذكره ساعة، ثم رفع رأسه وقال: قدمه دينه، قدمه دينه.
قال: وسمعت أبا بشر محمد بن محمد، بن محمد ابن منصور المقرئ الخطيب بشيراز، يذكر الحافظ أبا العلاء - رضي الله عنه - ويثني عليه، ثم أنشد يقول:
فسار مسير الشمس في كل موطن ... وهب هبوب الريح في الشرق والغرب

قال: وسمعت الإمام أبا نصر أحمد بن الإمام الحافظ أبي الفرج بن عبد الملك بن الشعار يقول: سمعت الإمام أبا الحسن الحراني يقول: كنت أطوف بالكعبة، فرأيت شيخاً في الطواف، فلما نظرت إليه تفرست فيه الخير والصلاح، فانتظرته حتى قضى طوافه، فدنوت منه، وسلمت عليه فرد علي السلام، فسألته عن الوطن، فسمى لي موطناً بعيداً، ذكره أبو الحسن، ونسيه أبو نصر. قال أبو الحسن: فقلت: أي شيء المقصد بعد بلوغك بيت ربك؟ فقال: مقصدى الحافظ أبو العلاء، فتعجبت في نفسي وقلت: ستظفر إن شاء الله بمقصودك، وتنال مطلوبك، وبكيت حتى غلبي البكاء. فقال لي: ومم بكاؤك؟ فقلت: إن الحافظ أبا العلاء الذي تقصده وتأمل بلوغه، قد كنت مستفيداً منه كذا وكذا سنة، قرأت عليه القرآن ختماً، وسمعت منه الحديث الكثير، فتعجب من قولي وقام إلي، وقبل بين عيني، وهو يفديني بأبيه وأمه، وغاب عني.
قال: وسمعت أبا بشر يقول: لما دخلت على الإمام أبي المبارك المقرئ بشيراز، جعل يذكر شيخ الإسلام الحافظ أبا العلاء الهمذاني - رحمه الله - ويثني عليه. ثم أنشد متمثلاً:
فسار مسير الشمس في كل موطن ... وهب هبوب الريح في الشرق والغرب
قال: رحل إليه رجل من أقصى المغرب، وكان له حظ في كل علم، ومدحه بقصيدة هي من غرر القصائد، وذكر أحواله في سفرته، وما أصابه من التعرب والمشاق. ومن شعره فيه أيضاً:
سعى إليك على قرب ومن بعد ... من كان ذا رغبة في العلم والسند
حتى أناخ بمغناك الكريم وقد ... كلت ركائبه في العنف والسند
لذاك أثرى وما أوعت أنامله ... لكن وعى قلبه ما شاء من مدد
وما أناخ بمغنى غيركم أحد ... إلا ونودي، ما بالربع من أحد
وقد قصدتك من أقصى المغارب لا ... أبغي سواك لوحى الواحد الصمد
وما امتطيت سوى رجلي راحلة ... وقد غنيت عن العيرانة الأجد
وهذه رحلة بكر كشفت لها ... عن ساق ذي عزمات غير متئد
عناية لم تكن قبلي لذي طلب ... وحظوة لم تكن في غابر الأبد
هل كان قبلك حبر أمه رجل؟ ... وسار مدة حول سير مجتهد
أبا العلاء الكل إنك في ... أقصى العراق مقيم منه في بلد
وقد فشا لك ذكر في البلاد كما ... فاحت أزاهر روض للغمام ندى
قال: وسمعت الشيخ - رحمه الله - يقول يوماً لمن حضره: إن خلف أبو العلاء ديناراً أو درهماً بعد موته، فلا تصلوا عليه. وقد كان - رحمه الله - لا يبقى على الذهب والفضة، وكل ما آتاه الله منها يصرفه في اليوم، وينفقه في قضاء الديون ومراعاة الناس، فمات ولم يخلف ديناراً ولا درهماً، حتى بيعت داره وقضى منه دينه. قال: وكان - رحمه الله - شديد التمسك بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسمع باطلاً أو يرى منكراً إلا غضب لله، ولم يصبر على ذلك ولم يداهن فيه. قال: سمعت أبا رشيد راشد بن إسماعيل المعدل يقول: كنت عند الشيخ يوماً فدخل عليه أبو الحسين العبادي الواعظ زائراً، وجلس عنده زماناً وجعل يكلم الشيخ إلى أن جرى في كلامه، وقد عزمت غير مرة على الإتيان إلى الخدمة، لكن منعني كون الكوكب الفلاني في البرج الفلاني، فزجره الشيخ وقال: السنة أولى أن تتبع، فقام العبادي خجلاً وخرج.

وكان من ورعه في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان يترجم الحديث للعامة رعاية منه للصدق، واستدعى منه بهمذان أن يفسر للناس حديثاً واحداً فأجاب، وقعد لذلك، فلما شرع في الكلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في الدولة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر ثم رجع وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدعى منه ثانياً بالكرخ كذلك، فروى حديثاً في فضائل الأعمال وفي بعض ألفاظه (حتى يدخل الجنة)، ففسر لفظة الجنة قبل أن يفسر لفظة (حتى يدخل) كأنه قدم لفظة (الجنة) على لفظة (حتى يدخل) في ترجمته، فاستغفر ورجع، وأتى بها على الوجه المنطوق به في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان - رحمه الله - يتحرج عن القصص والكلام فيه والتنمق والتكلف حذراً من الزيادة والنقصان. ولما قصد السلطان محمد بغداد، وحاصرها وخالف الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين رضي الله عنه. كان الشيخ - رحمه الله - يقرأ صحيح البخاري بهمذان على الشيخ عبد الأول - رحمه الله - على أسلوب. يحضره لسماع الكتاب عامة أهل البلد، من الأمراء والفقهاء والعلماء، والصوفية والعوام، فصرح بالقول قائماً على المنبر، بأن السلطان ومن معه من جنوده خارجة مارقة. ثم قال: لو أن رجلاً من عسكر أمير المؤمنين رمى رجلاً من أصحاب السلطان بسهم، وجاءه آخر من غير الفريقي، فنزع السهم من جراحه، يكون هو أيضاً خارجياً باغياً، وكرر القول في ذلك مراراً. قال: وسئل الشيخ - رحمه الله - عن سبب أكثر اشتغاله بعلم الكتاب والسنة فقال: إني نظرت في ابتداء أمري فرأيت أكثر الناس عن تحصيل هذين العلمين معرضين، وعن دراستهما لاهين، فاشتغلت بهما، وأنفقت عمري في تحصيلها حسبة قال: ورأى - رحمه الله - قلة رغبة الخلق في تحصيل العلم، والرحلة ولقاء الشيوخ، فاتخذ مهداً وعزم على المضي إلى بغداد وأصفهان للرواية، ورفع مناور العلم وإحياء السنة حسبة، فمنعه الضعف والكبر، وأدركته المنية وهو على هذه النية. قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ - رحمه الله - يقول: كنت واقفاً يوماً على باب دار الشيخ أبي العز القلانسي - رحمه الله - في حر شديد أنتظر الإذن، فمر بي إنسان فرآني على تلك الحال واقفاً فقال لي: أيها الرجل، لو أنك تصير إماماً يقرأ عليك، ويقتدى بك، أهكذا كنت تفعل أنت بطلبة العلم ومن يأتيك من الغرباء؟ فذرفت عيناي فقلت: لا إن شاء الله، وأشهدت الله تعالى في نفسي في تلك الحال، على أني لا آخذ على التعليم والإقراء والتحديث أجراً، ولا أبخل بعلمي على أحد، وأبذله حسبة، فكان كما قال، ويقعد لطلبة العلم من أول النهار إلى آخره.
قال: وكان الشيخ - رحمه الله - لا يرى طول هاره إلا كاتباً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مطالعاً له، أو مشتغلاً به، أو مصغياً إلى قراءة القرآن وطلبة العلم. هكذا كان دأبه بالنهار، ويجعل ليلته ثلاثة أثلاث، يكتب في ثلث، ويتفكر في ثلث، وينام في ثلث، وكان كثيراً ما يقول عند انتباهه من النوم: يا كريم يا كريم أكرمنا وكان من كرامته على الاس وإقبال الخلق عليه، وتبركهم به، أنه كان يصعب عليه المرور يوم الجمعة في مضيه ورجوعه، لازدحام الخلق عليه. وكان جماعة من الشبا يتحلقون حواليه، يدفعو عنه زحمة الناس وهو يمر في وسطهم مطرقاً، لا يشتغل بأحد وهو يقول: يا من أظهر الجيمل وستر على القبيح.
قال: سمعت العدل عمر بن محمد يقول: دخلنا على الإمام الحافظ أبي العلاء - رضي الله عنه - وهو يكتب، فقعدنا عنده ساعة، فوضع ما في يده، وقام ليتوضأ فنظرا فيما كتب، فإذا هو قد بيض كل موضع فيه اسم من أسماء الله تعالى، أو ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجبنا من ذلك، فلما رجع سألناه عن ذلك فقال: إني لما كنت أكتب ذلك شككت في الوضوء، فما جوزت أن أكتب بيدي أسماء الله تعالى، أو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا شاك في الوضوء.

وكان الشيخ - رحمه الله - إذا نزل بالناس شدة أو بلاء، يجيء إليه الناس ويسألونه الدعاء فيقول: اللهم إني أخاف على نفسي أكثر مما يخافون على أنفسهم. وكان كثيراً ما يقول: ليتني كنت بقالاً أو حلاجاً، ليتني نجوت من هذا الأمر رأساً برأس، لا علي ولا ليا. قال: وسمعت والدي يحكي عن الإمام عبد الهادي بن علي - رحمة الله عليه - أنه قال: كنت أمشي يوماً مع الشيخ الإمام الحافظ - رحمه الله - في الشتاء في وحل شديد في رجليه مداس خفيف، يكاد يدخل فيها الطي، فقلت له يا أخي: لو لبست مداساً غير هذا يصلح للشتاء فقال: إذا لبست غيرها لهت عيني عن النظر إليها، فربما نظرت إلى منكر أو فاحشة، وفي دوام نظري إليها وحفظي لها عن الوحل، شغل عن ذلك وحفظ للبصر. قال: وكراماته مشهورة بين الناس، منها ما كتب به إلى الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقرئ قال: سمعت الأستاذ بهلة الطحا يقول: حملت أحمال الحنطة من دار الشيخ - رضي الله عنه - لأطحنها لأهله، فلما طحنتها ووضعت بعضها على بعض، قصد بعض من في الطاحونة من المستحقين أن يأخذ شيئاً من ذلك الدقيق، ليخبز منه رغيفاً، فصحت عليه ومنعته من الأخذ، فلما رددت الأحمال إلى دار الشيخ من الغد، تبسم الشيخ في وجهي وقال: ويلك يا بهلة، لم منعت الرجل أن يأخذ قبضات من الدقيق؟ فتحيرت من قوله: وقبلت في الحال رجليه، وتبت على يديه، واستغفرت الله عز وجل عما سلف مني من الذنوب، وصرت معتقداً في كرامات أولياء الله تعالى.
قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن عمر يقول: كنت يوماً في خدمة الشيخ - رضي الله عنه - نأكل الغداء، فدق الباب داق، فقمت وفتحت له الباب. فإذا بالشيخ الصالح مسعود النعال، فاستأذنت له، فدخل وقعد عند الشيخ إلى الطعام. فلما كان بعد ساعة نظر إلى مسعود وقال يا مسعود: لو أن النطفة التي قدر الله عز وجل في سابق علمه، أن يخلق منها خلقاً صبت على الأرض، لظهر من ذلك الخلق. فلما سمع مسعود النعال هذا الكلام انزعج وبكى وصاح. فتعجبنا من تلك الحالة فلما سكن، سألته عن سبب انزعاجه وتواجده من كلام الشيخ. فقال لي: اعلم أني تزوجت امرأة منذ سنين كثيرة، وما رزقت منها ولداً، وأني جئت اليوم لأسأل منه الدعاء، حتى يرزقي الله عز وجل ولداً صالحاً. فقبل سؤالي إياه حدثني بما في قلبي، وأظهر لي سري، وأسمعني ما سمعتم، قال: ثم دعاه الشيخ - رضي الله عنه - ودعا له، وسأل الله عز وجل له الولد، وناوله شيئاً من بقية طعامه وقال: أطعمها أهلك. قال: ثم رأيته بعد ذلك بمدة، فقال لي: قد رزقني الله عز وجل، والحمد لله ابناً وبنتاً ببركة دعاء الشيخ وهمته.
قال: وسمعت الشيخ أبا بكر عبد الغفار. بن محمد بن عبد الغفار، وكان خال ولد الشيخ - رضي الله عنه - يقول لي: هل علمت سبب وفاة أختي، يعني التي كانت حليلة الشيخ - رحمة الله عليهما - قلت: لا. قال: قالت أختي: كان للشيخ في الدار بيت مختص به لا يدخله غيره، وكا يأذن لي في بعض الليالي بدخولي فيه، وفي أكثر الأوقات وأغلب الليالي، يغلق الباب على نفسه ويخلو فيه بنفسه، وأبيت أنا في الدار وحدي، فاشتد ذلك علي، حتى أفلق نهاري، وأسهر ليلي. فبينا أنا متفكرة في بعض تلك الليالي، إذ قلت في نفسي: لم لا أقوم فأرتقي الرواق، وأنظر إليه من كوة البيت لأقف على حاله؟ فقمت وارتقيت الرواق، فقبل بلوغي الكوة رأيت نوراص عظيماً، وضياء ساطعاً من البيت أضاء منه كل شيء، فتقدمت ونظرت في البيت، فرأيت الشيخ جالساً في مكانه، وحوله جماعة يقرءون عليه، وكنت أرى سوادهم، وأسمع حسهم، غير أني لا أرى صورهم. فهالني ذلك، ووقعت مغشياً علي لا أشعر شيئاً، إلا أني رأيت الشيخ واقفاً على رأسي، فأقامني وتلطف بي، وقال لي: ماذا دهاك؟ فقصصت عليه قصتي. فقال لي: كفي عن هذا، ولا تخبري بما رأيت أحداً من الناس، إن كنت تريدين رضاي. فقبلت منه ذلك، وكتمت سره حتى أمرضني، وحملت مريضة إلى دار أبي.
قال الإمام أبو عبد الله: وقال لي الشيخ أبو بكر، واشتد عندا مرضها، وكنا نسألها عن سبب مرضها، وكانت تعلل بأشياء إلى أ وقعت في هول الموت، وسياق النزع فنظرت إلينا وبكت، ثم قالت: أوصيكم بزوجي أبي العلاء واسترضائه، والآن بدا لي أن أخبركم بسبب موتي، ثم قصت علينا هذه القصة، وفارقت الدنيا - رحمها الله - .

قال: وسمعت الشيخ أبا العلاء أحمد بن الحسن الحداد العارف يقول: سمعت الشيخ عمر بن سعد بن عبد الله بن حذيفة، من نسل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يقول: كنت مع الحافظ جزءاً من مسموعه وقرأه عليه، ثم سلمنا عليه وارتحلنا من عنده، فوصلنا إلى نهر عظيم، فلما عبرنا النهر، وقع ذلك الجزء منا وضاع، وضاق قلب الحافظ لذلك ضيقاً شديداً. فلما كان بعد ذلك بأيام، استقبلنا رجل حسن الوجه، حسن الشارة، وسلم علينا، ثم أقبل على الحافظ وقال: ما الذي أصابك؟ وما سبب حزنك؟ فقص عليه الحافظ قصة الجزء وكيفية ضياعه، فقال: خذ القلم واكتب عني جميع ما ضاع عنك في ذلك الجزء، وأخذ الحافظ القلم متعجباً ينظر إليه، وهو يملي والحافظ يكتب إلى أن فرغ، فلما فرغ الحافظ أخذ ببعض ثيابه فقال: أنشدك الله من أنت؟ فقال: أنا أخوك الخضر، وبعثت إليك لهذا الأمر. ثم غاب عنا فلم نره.
سمعت الشيخ الصالح سنقر بن عبد الله غلام شيخنا أبي طاهر محمد بن الحسن، بن أحمد العطار - رحمه الله - ابن الشيخ - رضي الله عنه - يقول: إني خدمت الشيخ - رضي الله عنه - سنين كثيرة، فرأيت العجائب الكثيرة في خلواته. منها. أنه قام ليلة ليتوضأ، فقال لي استق الماء من البئر فجئت وأرسلت الدلو فيها، فلما بلغ الدلو إلى رأس البئر نظرت فيها، فإذا الدلو مملوء ذهباً أحمر، أضاء الدار حمرته، فصحت صيحة عظيمة. فقال لي أيها الشيخ: ماذا أصابك؟ فأريته الدلو، فاسترجع ثم استغفر، وقال لي: اقلب الدلو في البئر، فإا نطلب الماء لا الذهب. قال: فقلبتها ثم أخذ الدلو من يدي واستقى الماء وقال لي: يا سنقر، إياك إياك أن تخبر بما رأيت أحداً من الناس ما دمت حياً.
قال: رأيت بخط الثقة ذكر أنه نقل من خط الشيخ أبي الفتح محمد بن الحسين بن وهب: سمعت الشيخ أبا عبد الله الحسين بن إبراهيم، بن الحسين بن جعفر الجوزقاني يقول: كنت نائماً ذات ليلة، فرأيت فيما يرى النائم، كأن الناس يهرعون إلى رباط أبي الفرج، أحمد بن علي المقرئ - رحمة الله عليه - قال: فسألت ما لهؤلاء؟ فقالوا: إن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، نزل في رباط المقرئ، ففرحت وأسرعت، وقصدت الإمام الحافظ أبا العلاء وأخبرته بذلك، فلما سمع مني فرح ونشط، وقام وأخذ جزءاً واحداً من أحاديث أس بن مالك - رضي الله عنه - وجاء معي حتى دخلنا الرباط، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في الرباط، ورأينا أنس بن مالك عن يساره، فقدمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمنا عليه، وجلسنا بين يديه، فاستأذنه أبو العلاء في قراءة ذلك الجزء عليه، فأذن له فابتدأ أبو العلاء بالقراءة، وقرأ ذلك الجزء قراءة حسنة مبينة صحيحة، ورأيته صلى الله عليه وسلم يتبسم من الفرح مرة إلى وجهه، ومرة إلى وجهي فلما قرأ الجزء انتبهت من النوم، فقمت وتوضأت وصليت الصلاة شكراً لله تعالى على ما رأيت في المنام.
قال: وسمعت الشيخ عمر بن أبي رشيد بن طاهر الزاهد يقول: رآني يوماً الشيخ علي الشاذاني صاحب الكرامات الظاهرة. فقال لي يا عمر: اذهب إلى الحافظ أبي العلاء وقبل جبنينه عني، فإني رأيت الليلة في المنام أن من قبل جبهته موقناً محتسباً - غفر الله له - .
قال: وسمعت الشيخ الزاهد وكان من الأبدال، إن شاء الله يقول: سمعت الشيخ سعيداً المتقي وكان من الصالحين يقول: رأيت جنات عدن مفتوحة أبوابها، وإذا الناس كلهم وقوف ينظرون دخول شخص، فلما قرب من الباب وكاد يدخل جنة عدن، سألت من هذا الشخص الذي يدخل جنة عدن قبل دخول الخلائق؟ فقالوا: الحافظ أبو العلاء ومن كان يحبه في الله عز وجل، فتضرعت وبكيت وقلت: وأنا أيضاً ممن يحبه في الله عز وجل، دعوني أدخل. فقال شخص: صدق: دعوه يدخل، فدخلت مع القوم وهم يقولون: (أدخلوها بسلام آمنين).

قال المصنف: وحكى لي الشيخ الإمام أبو عبد الله زبير بن محمد بن زبير المشكاني - رحمه الله - فقال: رأيت ليلة من الليالي في المنام كأن الإمام أبا العلاء - رضي الله عنه - يمشي إلى الحج، وهو جالس في المهد مربع، والمهد يمشي في الهواء بين السماء والأرض، فعدوت خلفه، فنزل المهد من السماء إلى الأرض وشيء مثل الوتد، وخرج من ذلك المهد فتعلقت به، فقام المهد يمشي في الهواء وأنا متعلق به حتى وصلنا الفرات، فأخذني العطش فقلت للحافظ: إني عطشان أريد أن أشرب، فقال لي: تعال حتى تشرب من زمزم، فمشيا حتى وصلنا مكة فدخلت الحرم، وشربت من ماء زمزم، ورأيت في الحرم خلقاً كثيراً، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الحافظ أبي العلاء، جالساً على تل في الحرم أعلى من سطح الحرم، وما معهما أحد غيرهما، وهما يستقبلان الكعبة، وينظران إلى فوق، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم مع أحد نحو فوق الكعبة، وإذا أراد أن يتكلم قام إليه، ورأيت شيخنا الحافظ أبا العلاء شاخصاً ببصره إلى الذي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فوق الكعبة، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، فقلت في نفسي: أذهب فأبصر من الذي يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم معه؟ ويظر إليه الحافظ أبو العلاء، فتقدمت وظرت إلى فوق الكعبة، فرأيت عرش الرحمن - جل جلاله - واقفاً فوق الكعبة، ورأيت الرحمن - جل جلاله - عليه، فأشار إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اسأل الله تبارك وتعالى، فسألت الله تعالى أربع حاجات، فسمعته يقول بالفارسية كردم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ففعل، فنويت الرجوع، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفارسية: شكرانه كو. فوقفت وقرأت (قل هو الله أحد) خمسمائة مرة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن، فرجعت وتركت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع الحافظ أبي العلاء على ذلك التل، وينظران إلى الله عز وجل.
وقد مدحه أفاضل عصره بأشعار كثيرة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي، وقد خرج الشيخ فحجبت الشمس غيماً فقال في ذلك:
ظهرت فأخفت وجهها الشمس هيبة ... وشوقاً إلى مرآك أسبلت الدمعا
ولما رأت مسعاك كفت شؤونها ... لئلا ترى شيئاً يصدك عن مسعى
وقد كان ذاك القطر أيضاً دلالة ... على أن مولى الجمع قد رحم الجمعا
ولا شك أن الله يرحم أمة ... حللت بها قطعاً أقول بذا قطعا
وقد مدحه أبو عبد الله المغربي هذا بقصائد حسان، وقد أفردها الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمود، بن أبراهيم، بن الفرج، مؤلف هذه المناقب، - رحمه الله - والأصل يشتمل على ستة أجزاء بخطه كلها - رحمه الله - وقد ذكر فيه بعد ذكر القصائد التي ذكرتها: سمعت أبا بشر محمد بن محمد، بن محمد بن هبة الله، بن عبد الله بان سهل - رحمه الله - يقول: كان أبو عبد الله المغربي بأصفهان في مدرسة النظام وهو يقرأ القرآن، فلما بلغ قوله - عز وجل - (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) قام وصرخ، وترك أمتعته وكتبه، وأقبل إلى الصحراء هائماً، وما ربي بعد ذلك، ولا سمع له خيرلا ولا أثر.
وأنشد موفق بن أحمد المكي الخطيب الحافظ في مدحه:
حفظ الإمام أبي العلاء الحافظ ... بالرجل ينكت هام حفظ الجاحظ
عمرو بن بحر بحره من جدول ... متشعب من بحر بحر الحافظ
ما إن رأينا قبل بحرك من له ... بحر طفوح كالأتي اللافظ
أحييت ما قد غاض من سنن العلا ... والعلم قبلك باليراع الغائظ
بهظ البرايا عبء أدنى علمه ... أعظم به من عبء علم باهظ
كم واعظ، لي أن أجاوز هجره ... لو كان ينجع في وعظ الواعظ
غاظ الأعادي جاهه لعلومه ... فرددت غيظهم بهذا القائظ
وأنشد أيضاً في مدحه:
وليس اعتراف الحاسدين بفضله ... لشيء سوى أن ليس يمكنهم جحد
بدا كعمود الفجر ما فيه شبهة ... فهل لهم من أن يقروا به، بد؟
وأنشد الإمام العلامة أفضل الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الملك، بن عبيد الله بن أحمد بن سعيد الدمانجير الكرخي، - رحمة الله عليه - في مدحه:

صبراً فأيام الهموم تزول ... والدهر يعطيك المنى وينيل
ويئوب من فلك السعادة ثاقباً ... قمر الآماي والحوس أفول
لا تيأسن إذا ألم ملمة ... إن الشدائد تعتري وتحول
والفضل لا يزرى به عدم الغنى ... أوليس يحسن في الرماح ذبول
ما إن يضر الغضب بعد مضائه ... يوم القراع إذا عرته فلول
لا تشتغل بالعسر واطو مشمراً ... بسط الفيافي والشباب مقيل
والبس سواد الليل مرتدياً به ... إن التجلد للرجال جميل
حتى تنيخ العيس في كنف العلا ... حيث التحرم بالنجي كفيل
كنف الإمام القرم قطب الدين من ... جوب الفلا إلا إليه فضول
صدر الزمان أبي العلاء سميدع ... غر المعالي في ذراه تقيل
وهي طويلة.
ولموفق الدين مكي خطيب خوارزم أشعار كثيرة في مدحه. منها:
بقيت بقاء الدهر في الناس خالداً ... أيا خير من في الأرض خالاً ووالدا
لتروي أحاديث النبي محمد ... وتحيي مسانيداً وتزوي معاندا
فهذا دعائي بالحجون وبالصفا ... وهذا مرامي حيثما كنت ساجدا
قال: وسمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ - رضي الله عنه - يقول: لما مات فلان أحد أصدقائه ذكر اسمه ونسيه: شق علي موته، وأثر في وفاته، فكنت بعد ذلك أكتب كل سنة كتاب الوصية، وأنا سمعت منه حينئذ صغيراً وهو يقول: غداً من شهر رجب شهر الله الأصم، وأنا أريد أن أجدد مع ربي عهداً، وهذا كتاب وصيته: " بسم الله الرحمن الرحيم " أخبرنا عبد القادر اليوسفي، وهبة الله بن أحمد الشيباني قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنهما - ، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده). وأخبرنا الشيخ أبو القاسم، زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو عثمان سعد بن محمد النجيرمي، أخبرنا أبو الخير الحنبلي، وأبو بكر محمد ابن أحمد بن عقيل قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن حفص بن جعفر، حدثنا إسحاق بن إبراهيم العصبي، حدثنا خالد بن يزيد الأنصاري، حدثي محمد بن أبي ذئب، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يحسن الوصية عند الموت، كان نقصاً في مروءته وعقله). قيل: وكيف يوصي؟ قال: يقول: (اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في دار الدنيا، إني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب والقدر حق، والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت، وأن القرآن كما أنزلت، جزى الله محمداً صلى الله عليه وسلم عنا خير الجزاء، وحيا محمداً منا بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمي إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشر، وأتباعد من الخير، فآنسني في قبري من وحشتي، واجعل لي عهداً يوم ألقاك).

ثم يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصية في القرآن: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً). فهذا عهد الميت. وهذه وصيته سنة إحدى وعشري وخمسمائة. وقلتها من خطه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسن بن أحمد بن الحسن، بن أحمد بن محمد العطار، طوعاً في صحة عقله وبدنه، وجواز أمره، أوصى وهو يشهد (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين). ويشهد أن محمداً عبده ورسوله (أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون). صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، ويشهد أن الجنة حق، والنار حق، والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأنه جل وعز جامع الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ويشهد أن صلاته ونسكه، ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمر وهو من المسلمين، وأنه رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالمؤمنين إخواناً، وأنه يدين لله عز وجل بمذهب أصحاب الحديث، ويتضرع إلى الله عز وجل، ويتوسل إليه بجميع كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى، وكلماته التامات، وجميع ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين أن يحييه على ذلك حيا، ويميته على ذلك إذا توفاه، وأن يبعثه عليه يوم الدي، وأوصى نفسه وخاصته وقرابته، ومن سمع وصيته بتقوى الله، وأن يعبدوه في العابدين، ويحمدوه في الحامدين، ويذكروه في الذاكرين، ولا يموتن إلا وهم مسلمون، وأوصى إلى الشيخ أبي مسعود إسماعيل بن أبي القاسم الخاز في جميع تركته، وما يخلفه بعده، وفي قضاء ديونه، واقتضاء ديونه وإنفاذ وصاياه، وذكره في ذلك بتقوى الله وإيثار طاعته، وحذره أن يبدل شيئاً من ذلك أو يغيره، وقد قال الله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلوه، إن الله سميع عليم).
وكتب هذه الوصية موصيها الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن العطار، في يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة، سنة إحدى وعشري وخمسمائة.
قال: وحدثني من شهد قبض روح الشيخ - رضي الله عنه - قال: كنا قعوداً في ذلك الوقت، وكنا نحب أن نلقنه كلمة الشهادة رعاية للسنة، ومع هذا كنا نخشى من هيبته، ونحذر سوء الأدب، فبقينا متحيرين حتى قلنا للرجل من أصحاب الشيخ: اقرأ أنت سورة يس. فرفع الرجل صوته يقرأ السورة، وكنا ننظر إليه ونراقب حاله، فدهش القارئ وأخطأ في القراءة، ففتح الشيخ عينه ورد عليه، فسررنا لذلك وحمدا الله عز وجل، ثم جئ إليه بقدح فيه شيء من الدواء، ووضع القدح على شفته، فولى وجهه ورد القدح بفيه، وفتح عينه وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، رافعاً بها صوته وفاضت نفسه - رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجعل أعلى الجنان مأواه - . وكان ذلك قبيل العشاء الآخرة ليلة الخميس، التاسع عشر من جمادى الأولى، عام تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن يوم الخميس في مسجده، وصلى عليه ابنه الإمام ركن الدين شيخ الإسلام أبو عبد الله أحمد، القائم مقامه، وخليفته على أولاده، وأصحابه وأتباعه. - رحمه الله - .
والكتاب الذي يشتمل على مناقبه، كتاب ضخم جليل. وإنما كتبت هذه النبذة ليستدل لها على فضله ومرتبته - رحمة الله عليه - ، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.
الحسن بن أبي عباد، اليمني النحويمن وجوه اليمن، كان يصجب الفقيه يحيى بن أبي الخير، وعمه إبراهيم بن أبي عباد نحوي أيضاً يذكر في موضعه. وصنف الحسن هذا مختصراً في النحو مشهوراً بالمن، يقرؤه المبتدئون وهو قريب العهد، تقارب وفاته سنة تسعين وخمسمائة. وهو القائل:
لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا من خطأ ألحن
ولكنني قد عرفت الأنا ... م فخاطبت كلاً بما يحسن
الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي

أبو نصر، شاعر رقيق الحواشي، مليح النظم، متمكن من القافية، كثير التجنيس، قلما يخلو له بيت من تصنيع وإحسان وبديع. كان في أيام نظام الملك والسلطان ملكشاه، وشمله منهما الجاه، فخلصه الكامل الطبيب في أيام نظام الملك، بعد أن قبض عليه وأساء إليه، فإنه كان مستولياً على آمد وأعمالها، مستبداً باستيفاء أموالها. وكان نحوياً رأساً. وإماماً في اللغة يقتدى به. وصنف في الآداب تصانيف تقوم له مقام شاهدي عدل بفضله، وعظم قدره. منها: كتاب شرح اللمع كبير كتاب الإفصاح في شرح أبيات مشكلة.
حدثني الشيخ الإمام موفق الدين أبو لابقاء يعيش ابن لعي بن يعيش النحوي قال: حدثي قاضي عسكر نور الدين محمود بن زنكي قال: قدم على ابن مروان صاحب ديار بكر شاعر من العجم يعرف بالغساني. وكان من عادة ابن مروان إذا قدم عليه شاعر يكرمه وينزله، ولا يجتمع به إلى ثلاثة أيام ليستريح من سفره، ويصلح شعره، ثم يستدعيه. واتفق أن الغصاني لم يكن أعد شيئاً في سفره، ثقة بقريحته، فأقام ثلاثة أيام فلم يفتح عليه بعمل بيت واحد وعلم أنه يستدعى ولا يليق أن يلقى الأمير بغير مديح، فأخذ قصيدة من شعر ابن أسد لم يغير فيها إلا اسمه. وعلم ابن مروان بذلك، فغضب من ذلك وقال: يجئ هذا العجمي فيسخر منا؟ ثم أمر بمكاتبة ابن أسد، وأمر أن يكتب القصيدة بخطه ويرسلها إليه، فخرج بعض الحاضرين، فأنهى القضية إلى الغساني وكان هذا بآمد. وكان له غلام جلد فكتب من ساعته إلى ابن أسد كتاباً يقول فيه: إي قدمت على الأمير، فأرتج علي قول الشعر مع قدرتي عليه، فادعيت قصيدة من شعرك استحساناً لها وعجباً بها، ومدحت بها الأمير. ولا أبعد أن تسأل عن ذلك، فإن سئلت فرأيك الموفق في الجواب فوصل غلام الغساني قبل كتاب ابن مروان. فجحد ابن أسد أن يكون عرف هذه القصيدة، أو وقف على قائلها قبل هذا. فلما ورد الجواب على ابن مروان، عجب من ذلك واساء إلى الساعي وشتمه وقال: إنما قصدكم فضيحتي بين الملوك، وإنما يحملكم على هذا الفعل الحسد منكم لمن أحسن إليه؟ ثم زاد في الإحسان إلى الغساني، وانصرف إلى بلاده، فلم يمض على ذلك إلا مديدة حتى اجتمع أهل ميافارقين إلى ابن أسد، ردعوه إلى أن يؤمروه لعيهم، ويساعدوه على العصيان، وإقامة الخطبة للسلطان ملكشاه وحده، وإسقاط اسم ابن مروان من الخطبة، فأجابهم إلى ذلك، وبلغ ذلك ابن مروان، فحشد له وزل على ميافارقين محاصراً فأعجزه أمرها، فأفذ إلى نظام الملك والسلطان يستمدهما فأنفذا إليه جيشاً ومدداً مع الغساني الشاعر المذكور آنفاً، وكان قد تقدم عند نظام الملك والسلطان، وصار من أعيان الدولة، وصدقوا في الزحف على المدينة حتى أخذوها عنوة، وقبض على ابن أسد، وجئ به إلى ابن مروان فأمر بقتله فقام الغساني وشدد العناية في الشفاعة فيه، فامتنع ابن مروان امتناعاً شديداً من قبول شفاعته وقال: إن ذنبه وما اعتمده من شق العصا، يوجب أن يعاقب عقوبة من عصى، وليس عقوبة غير القتل. فقال: بيني وبين هذا الرجل ما يوجب قبول شفاعتي فيه، وأنا أتكفل به ألا يجري منه بعد شيء يكره. فاستحيى منه وأطلقه له، فاجتمع به الغساني وقال له: أتعرفني؟ قال: لا والله، ولكنني أعرف أنك ملك من السماء، من الله بك علي لبقاء مهجتي. فقال له: أنا الذي ادعيت قصيدتك وسترت علي، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقال ابن أسد: ما رأيت ولا سمعت بقصيدة جحدت فنفعت صاحبها أكثر من نفعها إذا ادعاها غير هذه. - فجزاك الله عن مروءتك خيراً - ، وانصرف الغساني من حيث جاء.
وأقام اب أسد مدة ساءت حاله، وجفاه إخوانه، وعاداه أعوانه، ولم يقدم أحد على مقاربته ولا مرافدته، حتى أضر به العيش، فعمل قصيدة مدح بها ابن مروان، وتوصل حتى وصلت إليه. فلما وقف ابن مروان عليها غضب وقال: ما يكفيه أن يخلص منا رأساً برأس، حتى يريد منا الرفد والمعيشة، لقد أذكرني بنفسه، فاذهبوا به فاصلبوه، فذهبوا به فصلبوه، - رحمه الله - .
ومن شعر الحسن بن أسد الفارقي - رحمه الله - :
بنتم فما كحل الكرى ... لي بعد وشك البين عينا
ولقد غدا كلفي بكم ... أذناً علي لكم وعينا
فأسلت بعد فراقكم ... من ناظري بالدمع عينا
فحكت مدامعها الغزا ... ر من الغيوم الغر عينا

جادت على أثر شفى ... عيناً لهم لم تلق عينا
من كل واضحة الترا ... ئب سهلة الخدين عينا
غراء تحسب وجهها ... للشمس حين تراه عينا
أمسيت في حبي لها ... عبداً أضام وكنت عيا
لا قر ركب بالركا ... ئب إذ يهن سرين عينا
غاظ الحسود لنا الوصا ... ل فلا رعاه الله عينا
فذممت حرفاً عاينت ... عيناي في أولاه عينا
كانت تناصفنا بصا ... في الود لا ورقاً وعينا
لهفي وقد أبصرت في ... ميزان ذاك الوصل عينا
كم من أخ فينا وعى ... ما لم نكن فيه وعينا
ومصاحب صنفت في ... غدراته للعين عينا
وقال في الشمعة:
ونديمة لي في الظلام وحيدة ... مثل مجاهدة. كمثل جهادي
فاللون لوني، والدموع كأدمعي ... والقلب قلبي، والسهاد سهادي
لا فرق فيما بيننا لو لم يكن ... لهبي خفياً وهو منها بادي
وله أيضاً:
أريقاً من رضابك أم رحيقا ... رشفت فلست من سكري مفيقا
وللصهباء أسماء ولك ... جهلت بأن في الأسماء ريقا
حمتني عن حميا الكأس نفس ... إلى غير المعالي لن تتوقا
وما تركي لها شح ولكن ... طلبت فما وجدت لها صديقا
وله أيضاً:
وإخوان بواطنهم قباح ... وإن كانت ظواهرهم ملاحا
حسبت مياه ودهم عذاباً ... فلما ذقتها كانت ملاحا
وله أيضاً:
ووقت غنمناه من الدهر مسعد ... معار، وأوقات السرور عواري
معانيه مما نبتغيه جميعها ... كواس ومما لا نريد عواري
أدار علينا الكاس فيه ابن أربع ... وعشر له بالكاس أي مدار!
تناولتها منه بكف كأنما ... أناملها تحت الزجاج مداري
وله أيضاً:
تيم قلبي شادن أغيد ... ملك فالناس له أعبد
لو جاز أن يعبد في حسنه ... وظرفه كنت له أعبد
وله أيضاً:
هويت بديع الحسن للغصن قده ... وللظبي عيناه وخداه للورد
غزال من الغزلان لكن أخافه ... وإن كنت مقداماً على الأسد الورد
وله أيضاً:
ولرب دان منك يكره قربه ... وتراه وهو عناء عينك والقذى
فاعرف وخل مجرباً هذا الورى ... واترك لقاءك ذا كفافاً والق ذا
وله أيضاً:
أيا ليلة زار فيها الحبيب ... أعيدي لنا منك وصلاً وعودي
فإني شهدتك مستمتعاً ... به بين رنة ناي وعود
وطيب حديث كزهر الرياض ... تضوع ما بين مسك وعود
سقتك الرواعد من ليلة ... بها اخضر يابس عيشي وعودي
وفي لي بوعد ولا تخلف ... يه إخلاف دهر به في وعودي
فلما تقضيت أمرضتني ... فزوري مريضك يوماً وعودي
وله أيضاً:
يا من حكى ثغره الدر النظيم ومن ... تخال أصداغه السود العناقيدا
إعطف على مستهام ضم من أسف ... على هواك وفي حبل العناقيدا
وله أيضاً:
بنتم فما لحظ الطرف الولوع بكم ... شيئاً يسر به قلبي ولا لمحا
فلو محا فيض دمع من تكاثره ... إنسان عين إذاً إنسانه لمحا
وله أيضاً:
أياكم أعاني الوجد في كل صاحب ... ولست أراه لي كوجدي واجدا
إذا كنت ذا عدم فحرب مجانب ... وتلقاه لي سلماً إذا كنت واجداً
أحاول في دهري خليلاً مصافياً ... وهيهات خلا صافياً لست واجدا
وله أيضاً:
بعدت فأما الطرف مني فساهد ... لشوقي وأما الطرف منك فراقد
فسل عن سهادي أنجم الليل إنها ... ستشهد لي يوماً بذاك الفراقد
قطعتك إذ أنت القريب لشقوتي ... وواصلني قوم إلى أباعد

فيأهل ودي إن أبي وعد قربنا ... زمان، فأنتم لي به إن أبي عدوا
وله أيضاً:
لا يصرف الهم إلا شدو محسنة ... أو منظر حسن تهواه أو قدح
والراح للهم أنفاها فخذ طرفاً ... منها ودع أمة فس شربها قدحوا
بكر تخال إذا ما المزج خالطها ... سقاتها أنهم زنداً بها قدحوا
وله أيضاً:
بعدت فقد اضرمت ما بين أضلعي ... ببعدك ناراً شجو قلبي وقودها
وكلفت نفسي قطع بيداء لوعة ... تكل بها هوج المهاري وقودها
وله أيضاً:
تجلد على الدهر واصبر لكل ما ... عليك الإله من الرزق أجرى
ولا يسخطنك صرف القضاء ... فتعدم إذ ذاك حظاً وأجرا
فما زال رزق امرئ طالب ... بعيداً إليه دجى الليل يسرى
توقع إذا ضاق أمر علي ... ك خيراً فإن مع العسر يسرا
وله أيضاً:
قد كان قلبي صحيحاً كالحمى زمناً ... فمذ أباح الهوى منه الحمى مرضا
فكم سخطت على من كان شيمته ... وقد أبحت له فيك الحمام رضا
يا من إذا فوقت سهماً لواحظه ... أضحى لها كل قلب قلب غرضا
أنا الذي إن يمت حباً يمت أسفاً ... وما قضى فيك من أغراضه غرضا
ألبست ثوب سقام فيه صار له ... جسمي لرقته من سقمه حرضا
وصرت وقفاً على هم يجاذبني ... أيدي الصبابة فيه كلما عرضا
ما إن قضى الله شيئاً في خليقته ... أشد من زفرات الحب حين قضى
فلا قضى كلف نحباً فأوجعني ... أن قيل إن المحب المستهام قضى
وله أيضاً:
نراك يا متلف جسمي ويا ... مكثر إعلالي وأمراضي
من بعد ما أضنيتني ساخطاً ... علي في حبك أم راضي؟
الحسن بن بش بن الآمدي، النحوي الكاتبأبو القاسم صاحب كتاب الموازنة بي الطائيي. كان حسن الفهم، جيد الدراية ولارواية، سريع الإدراك. رأيت سماعه على كتاب القوافي لأبي العباس المبرد، وقد سمعه على نفطويه سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، ثم وجدت خطه على كتاب تبيين قدامة بن جعفر وفي نقد الشعر، وقد ألفه لأبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد وقد قرأه عليه، وكتب خطه في سنة خمس وستين وثلاثمائة. وقال ابن النديم في الفهرست الذي ألفه في سة سبع وسبعين وثلاثمائة. هو من أهل البصرة، قريب العهد، وأحسبه يحيا إلى الآن، ثم وجدت كتاب القوافي للمبرد بخط أبي منصور الجواليقي ذكر في إسناده: أن عبد الصمد بن حنيش النحوي قرأه على أبي القاسم الآمدي في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وفي تاريخ هلال بن المحسن في هذه السنة يعني في سنة سبعين: مات الحسن ابن بشر الآمدي بالبصرة.
وقال أبو القاسم المحسن التنوخي: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كاتب القضاء من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر حسن، واتساع تام في الأدب، ودراية وحفظ، وكتب مصنفة قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج قال: كنا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله نشرب وهو وزير، فغنت بدعة جارية عريب:
أدل فأكرم به من مدل ... ومن ظالم لدمى مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
وأسلمت خدي له خاضعاً ... ولولا ملاحته لم أذل

فأدت فيه صنعة حسنة جداً، فطرب القاسم عليه طرباً شديداً، واستحسن الصنعة جداً والشعر فأفرط. فقالت بدعة يا مولاي: إن لهذا الشعر خبراً حسناً أحسن منه، قال: وما هو؟ قالت هو لأبي حازم القاضي. قال: فعجبنا من ذلك مع شدة تقشف القاضي أبي حازم وورعه وتقبضه. فقال الوزير: بالله يا أبا إسحاق، اركب إلى أبي حازم واسأله عن هذا الشعر وسببه. فباكرته وجلست حتى خلا وجهه ولم يبق إلا رجل بزي القضاة عليه قلنسوة، فقلت: بيننا شيء أقوله على خلوة؟ فقال: ليس هذا ممن أكتمه شيئاً. فقصصت عليه الخبر، وسألت عن الشعر والخبر، فتبسم ثم قال: هذا شيء كان في الحداثة قلته في والدة هذا، وأومأ إلى القاضي الجالس، وإذا هو ابنه وكنت إليها مائلاً، وكانت لي مملوكة، ولقلبي مالكة، فأما الآن، فلا عهد لي بمثله منذ سنين، ولا عملت شعراً منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى. قال: فوجم الفتى حتى ارفض عرقاً، وعدت إلى القاسم فأخبرته، فضحك من خجل الإبن وقال: لو سلم من العشق أحد لكان أبا حازم مع تقبضه، وكنا نتعاود ذلك زماناً.
قال المؤلف: كان هذا الخبر بترجمة إسحاق الزجاج أحرى، إلا أن في أوله من إيضاح حال الآمدي ما ساق باقي الحديث.
قال أبو علي: كان قد ولي القضاء بالبصرة - في سنة نيف وخمسين وثلاثمائة - رجل لم يكن عندهم بمزلة من صرف به، لأنه ولي صارفاً لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، فقال فيه أبو القاسم الحسن ابن بشر الآمدي، كاتب القاضيين أبي القاسم جعفر، وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:
رأيت قلنسوة تستغي ... ث من فوق رأس تنادي خذوني
وقد قلعت وهي طوراً تمي ... ل من عن يسار ومن عن يمين
فطوراً تراها فويق القفا ... وطوراً تراها فويق الجبين
فقلت لها أي شيء دهاك؟ ... فردت بقول كئيب حزين
دهاني أن لست في قالبي ... وأخشى من الناس أن يبصروني
وأن يعبثوا بمزاح معي ... وإ فعلوا ذاك بي قطعوني
فقلت لها مر من تعرفين ... من المنكرين لهذي الشؤون
ومن كان يصفع في الدين لا ... يملء ويشتد في غير لين
ويلمح ملئك كيل التما ... م إما على صحة أو جنون
ففارقها ذلك الإنزعاج ... وعادت إلى حالها في السكون
وحدث ابن نصر قال: حدثت يوماً أبا الفرج الببغا الشاعر: أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب، كان منقطعاً إلى أبي العباس بن ماسرجس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد عامل البصرة في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضباً لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله، وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني مملوءاً كيميا، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفراً صار ذهباً إبريزاً ما مضيت إليه، فأمسك عنه مغيظاً. وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل، وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر. وقد حكى له أن ابن علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال فقال: هذا محال. فقيل له: ترد قول ابن علان؟ قال: فإن قال ابن علان: إن على شاطئ جيحون نخلاً يحمل غضاراً صينياً مجزعاً بسواد أقبل منه؟ وقلت لأبي الفرج: وللناس عادات في المبالغات، وهذا من أعجبها. فقال لي: كان الآمدي النحوي صاحب كتاب الموازنة، يدعي هذه المبالغات على أبي تمام، ويجعلها استطراداً لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه، وأورد في كتابه قوله من قصيدته التي أولها: من سجايا الطلول ألا تجيبا
خضبت خدها إلى لؤلؤ العق ... د دماً أن رأت شواتي خضيبا
كل داء يرجى الدواء له إل ... لا الفظيعين ميتة ومشيبا

ثم قال: هذه من مبالغاته المسرفة. ثم قال أبو الفرج: هذه والله المبالغة التي يبلغ بها السماء. وله من الكتب: كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء، كتاب نثر المنظوم، كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، كتاب في أن الشاعرين لا يتفق خواطرهما، كتاب ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطإ، كتاب فرق ما بين الخاص والمشترك من معاني الشعر، كتاب تفضيل شعر امرئ القيس على الجاهليين، كتاب في شدة حاجة الإنسان إلى أن يعرف نفسه، كتاب تبيين غلط قدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر، كتاب معاني شعر البحتري، كتاب الرد على ابن عمار فيما خطأ فيه أبا تمام، كتاب فعلت وأفعلت غاية لم يصنف مثله، كتاب الحروف من الأصول في الأضداد رأيته بخطه في نحو مائة ورقة، كتاب ديوا شعره نحو مائة ورقة. وقرأت في كتاب ألفه أحد بني عبد الرحيم الوزراء الذي مدحهم مهيار وغيره ولم يذكر اسمه قال: أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي عن أبيه أبي علي المحسن: أن مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة، وأنه قدم بغداد يحمل عن الأخفش، والحامض، والزجاج، وابن دريد، وبان السراج وغيرهم اللغة والنحو. وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة. وكان يكتب بمدينة لاسلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبي خليفة أحمد بن هلال صاحب عمان، بحضرة المقتدر بالله ووزارته، ولغيره من بعده. وكتب بالبصرة لأبي الحسن أحمد، وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، وبعدهما لقاضي البلد أبي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوف التي تليها القضاة ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات. وكان كثير الشعر، حس الطبع، جيد الصنعة، مشتهراً بالتشبيهات.
ولأبي القاسم تصانيف كثيرة جيدة مرغوب فيها. منها: كتاب الموازنة بين البحتري وأبي تمام في عشرة أجزاء، وهو كتاب حسن وإ كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده، والتعصب على أبي تمام فيما ذكره. والناس بعد فيه على فريقين: فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبهم لشعره. وطائفة أسرفت في التقبيح لتعصبه، فإنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام، وتزيين مرذول البحتري. ولعمري إن الأمر كذلك، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين فتارة يقول: هو مسروق، وتارة يقول: هو مرذول، ولا يحتاج المتعصب إلى أكثر من ذلك إلى غير ذلك من تعصباته، ولو أنصف وقال في كل واحد بقدر فضائله، لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام. وله أيضاً: كتاب الخاص والمشترك، تكلم فيه على الفرق بين الألفاظ والمعاني التي تشترك العرب فيها، ولا ينسب مستعملها إلى السرقة وإن كان قد سبق إليها، وبين الخاص الذي ابتدعه الشعراء وتفردوا به ومن اتبعهم، وما قصر في إيضاح ذلك وتحقيقه إلى غير ذلك من تصانيفه التي ذكرنا منها ما قدرنا عليه فيما تقدم. ومن شعره:
يا واحداً كان في الزمان ... لا من يجاريه أو يداني؟
دعني من نائل جزيل ... يعجز عن شكره لساني
فلست والله مستميحاً ... ولا أخا مطمع تراني
وهب إذا كنت لي وهوباً ... من بعض أخلاقك الحسان
وقال في أبي محمد المافروخي وكان عالماً فاضلاً لا يجارى، لكنه كان تمتاماً:
لا تنظرن إلى تتعتعه إذا ... رام الكلام ولفظه المعتاص
وانظر إلى المحكم التي يأتي بها ... تشفيك عند تطلق وخلاص
فالدر ليس يناله غواصه ... حتى تقطع أنفس الغواص

وفي النشوار: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي قال: قال أبو أحمد: طلحة بن الحسين بن المثنى، وقد تجارينا على خلوة للحديث عما كان بينه وبين أبي القاسم البريدي، وتدبير كل واحد منهما لصاحبه في القبض عليه، وأشرت عليه بأ يهرب من البصرة ولا يقيم، وأنه يجب أن يغير زيه فقال: لست أفكر في هذا الرجل لأمور كثيرة، منها: رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة. فقلت: ما هي؟ فقال: رأيت ثعباناً عظيماً قد خرج من هذا الحائط، وأوأ بيده إلى حائط في ملجسه وهو يريدني فطلبته فأتيته في الحائط. فتأولت ذلك أن الثعبا البريدي وأني أغلبه. قال: فحين قال: فأتيته في الحائط، سبق إلى قلبي أن البريدي هو الثابت، وأن الحائط حياطة له دون أبي أحمد. فأردت أن أقول له: إن الخبر مستفيض لما كان عبد الملك رأى في منامه، كأنه وابن الزبير اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وأنه أنفذ راكباً إلى البصرة، حتى لقي ابن سيرين، فقص عليه الرؤيا كأنها له، وكتم ابن الزبير. فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك، فلا أفسرها لك، فألح عليه فقال له: هذه للرؤيا يجب أن تكون لعبد الملك، فإن صدقتني فسرتها لك، فقال: هو كما وقع لك. فقال: قل له: إن صحت رؤياك هذه فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك أربعة ملوك. فمضى الرجل إلى عبد الملك فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين فقال: ارجع إليه فقل له: من أين قلت ذلك؟ فرجع الرجل إليه، فقال له: إن الغالب في النوم هو المغلوب، وتمكنه على الأرض غلبه عليها، والأوتاد الأربعة التي أوتدها في الأرض: هم ملوك يتمكنو من الأرض كما تمكنت الأوتاد.
قال أبو القاسم الآمدي: فأردت أن أقول لأبي أحمد هذا، وما وقع لي من القياس عليه في تفسير رؤياه، فكرهت ذلك لأنه كان يكون سوء أدب وقباحة عشرة، وعياً لنفسه، فما مضت الأيام حتى قبض البريدي عليه، وكان من أمره ما كان.
أبو الحسن البورانيمعتزلي نحوي، ذكره المقدر عند ذكره لجماعة من المعتزلة النحويين فقال: وأبو الحسن البوراني، ناهيك تدقيقاً في مسائل الكتاب، وكان في أيام أبي علي الفارسي وطبقته.
الحسن بن الحسين بن عبيد اللهابن عبد الرحمن، ابن العلاء بن أبي صفرة، المعروف بالسكري، أبو سعيد النحوي اللغوي، الراوية الثقة المكثر. مات في سنة خمس وسبعين ومائتين، ومولده في سنة اثنتي عشرة ومائتي. سمع يحيى بن معين، وأبا حاتم السجستاني، والعباس بن الفرج الرياشي، ومحمد بن حبيب، والحارث اب أبي أسامة، وأحمد بن الحارث الخزاز وخلقاً سواهم. وأخذ عنه محمد بن عبد الملك التاريخي وكان ثقة صادقاً يقرئ القرآن، وانتشر عنه من كتب الأدب ما لم ينتشر عن أحد من نظرائه. وكان إذا جمع جمعاً فهو الغاية في الاستيعاب والكثرة.
حدث أبو الكرم خميس بن علي الحوزي النحوي الحافظ الواسطي في أماليه، - وله في هذا الكتاب باب - قال: قدم أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري بغداد، فحضر مجلس أبي زكريا الفراء وهو يومئذ شيخ الناس بها، فأملى الفراء باباً في التصغير قال فيه: العرب تقول: هو الهن وتصغيره الهنى وتثنيته في الرفع الهنيان، وفي النصب والجر الهنيين، وأنشد عليه قول القتال الكلابي:
يا قاتل لله صلعاناً تجئ بهم ... أم الهنيين من زند لها وارى
فأمسك أبو سعيد حتى إذا انقضى المجلس، ولم يبق فيه أحد سوى الفراء، تقدم أبو سعيد حتى جلس بين يديه وقال له: - أكرمك الله - أنا رجل غريب وقد مر شيء، أتأذن لي في ذكره؟ فقال اذكره. فقال: إنك قلت هو الهن، وتثنيته في الرفع الهنيان، وفي النصب والجر الهنيين، وهذا جميعه كما قلت، ثم أنشدت قول الكلابي:
يا قاتل الله صلعاناً تجئ بهم ... أم الهنيين من زد لها وارى
وليس هكذا أنشدناه أشياخنا. قال الفراء: ومن أشياخك؟ قال: أبو عبيدة، وأبو زيد، والأصمعي. قال الفراء: وكيف أنشده أشياخك؟ فقال: زعموا أن الهنبر بوزن الخنصر: ولد الضبع. وأن القتال قال:
يا قاتل الله صلعاناً تجئ بهم ... أم الهنيبر من زد لها وارى
على التصغير. ففكر الفراء ساعة وقال: - أحسن الله عن الإفادة بحسن الأدب جزاءك - .

قال المؤلف ياقوت بن عبد الله: هكذا وجدت هذا الخبر في أمالي اجوزي، وهو ما علمت من الحفاظ، إلا أنه غلط فيه من وجوه، وذلك أن السكري لم يلق الأصمعي ولا أبا عبيدة، ولا أبا زيد، وإنما روى عمن روى عنهم: كابن حبيب، وابن أبي أسامة، والخزاز وطبقتهم. ثم إن السكري ولد في سنة اثنتي عشرة ومائتين. وأبو عبيدة مات سنة تسع عشرة ومائتين وأبو زيد مات سنة خمس عشرة ومائتين. والأصمعي مات في سنة ثلاث عشرة ومائتين، أو خمس عشرة ومائتين، فمتى قرأ عليهم؟ وهذه الجماعة المذكورة هم في طبقة الفراء، لأن الفراء مات في سنة سبع ومائتين، ولعل هذه الحكاية عن غير السكري، وأوردها خميس عنه سهواً، وأوردتها أنا كما وجدتها.
وللسكري من الكتب على ما ذكره محمد بن إسحاق النديم: كتاب أشعار هذيل، كتاب النقائص، كتاب النبات، كتاب الوحوش جود في تصنيفه، كتاب المناهل والقرى، كتاب الأبيات السائرة. وعمل أشعار جماعة من الشعراء، منهم: امرؤ القيس، النابغة الذيباني، النابغة الجعدي، زهير، الحطيئة، لبيد، تميم بن مقبل، دريد بن الصمة، الأعشى، مهلهل، متمم بن نويرة، أعشى باهلة، الزبرقان بن بدر، بشر بن أبي حازم، المتلمس، الراعي، الشماخ، الكميت، ذو الرمة، الفرزدق. ولم يعمل شعر جرير، وعمل شعر أبي نواس، وتكلم على معانيه وغريبه في نحو ألف ورقة ولم يتم، وإنما عمل مقدار ثلثيه.
قال محمد بن إسحاق النديم: ورأيته بخط الحلواني، وكان الحلواني قريب أبي سعيد السكري. وعمل شعر قيس بن الخطيم، وهدبة بن خشرم، وابن أحمر العقيلي، والأخطل، وغير هؤلاء.
وأما أشعار القبائل فإنه عمل منهم: أشعار بني هذيل، أشعار بني شيبان، وبني ربيعة، أشعار بني يربوع، أشعار بني طيء، أشعار بني كنانة، أشعار بني ضبة، أشعار بجيلة، أشعار بني العين، أشعار بني يشكر، أشعار بني حنيفة، أشعار بني محارب، أشعار الأزد، أشعار بني نهشل، أشعار بني عدي، أشعار بني أشجع، أشعار بني نمير، أشعار بني عبد ود، أشعار بني مخزوم، أشعار بني سعد، أشعار بني الحارث، أشعار الضباب، أشعار فهم وعدوان، أشعار مزينة.
وحدث الصولي قال: كنت عند أحمد بن يحيى ثعلب فنعي إليه السكري فتمثل:
المرء يخلق وحده ... ويموت يوم يموت وحده
والناس بعد هالك ... هل من رأيت الناس بعده
الحسن بن الخطيرأبو علي الفارسي المعروف بالظهير، كان فقيهاً لغوياً نحوياً، مات بالقاهرة من الديار المصرية في شهور سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. حدثني بجميع ما أورده عنه ههنا من خبره ووفاته، تلميذه الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي، الحسني الصعيدي بالقاهرة في سنة إثنتي عشرة وستمائة قال: كا الظهير يكتب على كتبه في فتاويه - الحسن النعماني - ، فسألته ع هذه النسبة فقال: أنا نعماني، أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقرية تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز، فتفقهت بها فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. وكان عالماً بفنون من العلم، كان قارئاً بالعشر والشواذ، عالماً بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه، والفقه والخلاف، والكلام والمنطق، والحساب والهيئة والطب، مبرزاً في اللغة والنحو، والعروض والقوافي، ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم. وكان يحفظ في كل فن من هذه العلوم كتاباً، فكان يحفظ في علم التفسير كتاب لباب التفسير لتاج القراء، وفي الفقه كتاب الوجيز للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني نظم النسفي، وفي الكلام كتاب نهاية الإقدام للشهرستاني، وفي اللغة كتاب الجمهرة لابن دريد، كان يسردها كما يسرد القارئ الفاتحة.
وقال لي: كنت أكتب ألواحاً وأدرسها كما أدرس القرآن، فحفظتها في مدة أربع عشرة سنة، وكان يحفظ في النحو كتاب الإيضاح لأبي علي وعروض الصاحب بن عباد، وكان يحفظ في المننطق أرجوزة أبي علي بن سينا، وكان قيماً بمعرفة قانو الطب له، وكان عارفاً باللغة العبرانية، ويناظر أهلها بها، حتى لقد سمعت بعض رؤساء اليهود يقول له: لو حلفت أن سيدنا كان حبراً من أحبار اليهود لحلفت، فإنه لا يعرف هذه النصوص بالعبرانية إلا من تدرب بهذه اللغة.

وكان الغالب عليه علم الأدب، حتى لقد رأيت الشيخ أبا الفتح عثمان بن عيسى النحوي البلطي، وهو شيخ الناس يومئذ بالديار المصرية، يسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشي اللغة، وسأله يوماً بمحضري عما وقع في ألفاظ العرب على مثال شقحطب، فقال: هذا يسمى في كلام العرب المنحوت، ومعناه: أن الكلمة منحوتة من كلمتين، كما ينحت النجار خشبتين، ويجعلهما واحداً فشقحطب منحوت من شق وحطب. فسأله البلطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال ليعول في معرفتها عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسماها كتاب تنبيه البارعي على المنحوت من كلام العرب.
قال: ورأيت السعيد أبا القاسم هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك، يسأله عن وجه الامتحان عن كلمات من غريب كلام العرب، وهو يجيب عنها بشواهدها وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني قد وضعه على ذلك.
قال: وحدثني عن نفسه قال: لما دخلت خوزستان لقيت بها المجير البغدادي تلميذ الشهرستاني، وكان مبرزاً في علوم النظر فأحب صاحب خوزستان أن يجمع بيننا للمناظرة في مجلسه، وبلغني ذلك، فأشفقت من الانقطاع لمعرفتي بوفور بضاعة المجير من علم الكلام، وعرفت أن بضاعته من اللغة نزرة، فلما جلسنا للمناظرة والمجلس غاص بالعلماء، فقلت له: نعرض الكلام إذاً أفرأيت الطلة إلى قرينها فارهاً في وبصان، أو الجساد إذا تأشب بأبي المغبث؟ فاحتاج إلى أن يستفسر ما قلت، فشنعت عليه وقلت: انظر إلى المدعي رتبة الإمامة يجهل لغة العرب، التي بها نزل كلام رب العالمين، وجاء حديث سيد المرسلي، والمناظرة: إنما اشتقت من النظير، وليس هذا بنظيري لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها، وكثر لغط أهل المجسل، وانقسموا فريقين فرقة لي، وفرقة علي، وانفض المجلس على ذلك، وشاع في الناس أني قطعته. وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فاجتاز به الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، فرآه عند الصخرة يدرس، فسأل عنه فعرف منزلته من العلم، فأحضره عنده، ورغبه في المصير معه، ليقمع به شهاب الدين أبا الفتح الطوسي لشيء نقمه عليه، فورد معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كل شهر ستين دياراً، ومائة رطل خبزاً وخروفاً وشمعة كل يوم، ومال إليه الناس من الجند وغيرهم من العلماء، وصار له سوق قائم، إلى أن قرر العزيز المناظرة بينه وبين الطوسي في غد عيد، وعزم الظهير أن يسلك مع الطوسي وقت المناظرة طريق المجير من المغالطة، لأن الطوسي كان قليل المحفوظ، إلا أنه كان جريئاً مقداماً شديد المعارضة، واتفق أن ركب العزيز يوم العيد، وركب معه الظهير والطوسي، فقال الظهير للعزيز في أثناء الكلام: أنت يا مولانا من أهل الجنة، فوجد الطوسي السبيل فوجد الطوسي السبيل إلى مقتله فقال: وما يدريك أنه من أهل الجنة؟ وكيف تزكي على الله تعالى؟ فقال له الظهير: قد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة. فقال: أبيت يا مسكين إلا جهلاً، ما تفرق بين التزكية عن الله، والتكية على الله؟ وأنت من أخبرك أن هذا من أهل الجنة؟ ما أنت إلا كما زعموا: أن فأرة وقعت في دن خمر، فشربت فسكرت، فقالت أين القطاط؟ فلاح لها هر، فقالت: لا تؤاخذ السكارى بما يقولو. وأنت شربت من خمر دن نعمة هذا الملك فسكرت فصرت تقول خالياً: أين العلماء؟ فأبلس ولم يجد جواباً وانصرف، وقد انكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت هذه الحكاية بين العوام، وصارت تحكى في الأسواق والمحافل. فكان مآل أمره أن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها الأمير تركون الأسدي، يدرس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات. وكان قد أملى كتاباً في تفسير القرآن، وصل منه بعد سنين إلى تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة. وله: كتاب في شرح الصحيحين على ترتيب الحميدي سماه كتاب الحجة، اختصره من كتاب الإفصاح في تفسير الصحاح للوزير ابن هبيرة، وزاد عليه أشياء وقع اختياره عليها، وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأنصار ولم يتم. وله خطب وفصول وعظية مشحونة بغريب اللغة وحوشيها.
الحسن بن داود الرقي

أبو علي، لا أعرف من أمره إلا ما وجدته بخط أبي الحسن علي بن عبيد الله الشمسي اللغوي. حدثنا النيسابوري قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف الناقط قال: حدثنا الناقط قال: حدثنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة قال: قال لي أبو أحمد محمد بن موسى البردي: سمعت من الحسن بن داود أبي علي الرقي بسر من رأى، سنة ثمان وثلاثين ومائتين كتابه الذي يسميه كتاب الحلي، وكان وقت كتبنا عنه قد جاز الثمانين، وأخرج إلى أبو أحمد الكتاب، فإذا هو الكتاب الذي سماه أ؛مد بن يحيى فصيح الكلام. قال أبو الحسن الناقط: قال ابن كامل: وكان الحسن بن داود مؤدب عبيد الله ابن سليمان بن وهب وزير المعتضد.
الحسن بن داود بن الحسن القرشيالمعروف بالبقار المقرئ، يكنى أبا علي، أموي كوفي، قرأ على أبي محمد القاسم بن أحمد، المعروف بالخياط التميمي، المعروف بابن القملي أيضاً - عن أبي جعفر محمد ابن حبيب الشموني الكوفي، عن أبي يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم - قراءة عاصم. ومات بالكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وصنف كتباً منها: كتاب قراءة الأعشى، كتاب اللغة في مخارج الحروف وأصول النحو، ذكر الحافظ أبو العلاء الهمذاني في كتاب القراءات العشر له في نسب البقار: الحسن بن داود بن الحسن بن عون بن منذر بن صبيح القرشي النحوي، وكان موصوفاً بحسن القراءة وطيب النغم جداً.
وقال ابن النجار في تاريخ الكوفة: ومن خيار رجال عاصم محمد بن غالب الصيرفي، وبينه وبين القملي اختلافات في حروف يسيرة، وقرأ عليه جماعة من أهل الكوفة منهم: أبو علي الحسن بن داود البقار، وكان حاذقاً بالنحو، لفاظاً بالقرآن، صاحب ألحان، وكان يصلي بالناس التراويح بالجامع بالكوفة، وصلى فيه ثلاثاً وأربعين سنة، وكان أ؛د المجودين.
الحسن بن رشيق القيروانيمولى الأزد، كان شاعراً أديباً، نحوياً لغوياً حاذقاً عروضياً، كثير التصنيف، حسن التأليف، وكان بينه وبين ابن شرف الأديب مناقضات ومحاقدات، وصنف في الرد عليه عدة تصانيف. كان أبوه رشيق رومياً، ذكر ذلك هو في الرد على ابن شرف، بعد ذكره نسب ابن شرف: هو اسم امرأة نائحة ثم قال: وأما أنا - فنضر الله وجه هذا الشيخ في، وأتم به النعمة علي - ، فما أبغي به أبا، ولا أرضى بمذهبه مذهباً، رضيت به رومياً، لا دعياً، ولا بدعياً.
تأدب ابن رشيق على أبي عبد الله بن جعفر القزاز، القيرواني النحوي اللغوي، وغيره من أهل القيروان. ومات بالقيروان سنة ست وخمسين وأربعمائة: عن ست وستين سنة، ذكر ابن رشيق هذا نفسه في كتابه الذي صنفه في شعراء عصره، ووسمه بالنموذج فقال في آخره: صاحب الكتاب هو حسن بن رشيق، مولى من موالي الأزد، ولد بالمحمدية سنة تسعين وثلاثمائة، وتأدب بها يسيراً. وقدم إلى الحضرة سنة ست وأربعمائة، وامتدح سيدنا - خلد الله دولته - .
قال المؤلف يعني المعز بن باديس بن المنصور سنة عشر بقصيدة أولها:
ذمت لعينك أعين الغزلان ... قمر أقر لحسنه القمران
ومشت ولا والله ما حقف النقا ... مما أرتك ولا قضيب البان
وثن الملاحة غير أن ديانتي ... تأبى علي عبادة الأوثان
منها:
يا بن الأعزة من أكابر حمير ... وسلالة الأملاك من قحطان
من كل أبلج واضح بلسانه ... يضع السيوف مواضع التيجان
قال: ومن مدحه القصيدة التي دخل بها في جملته، ونسب إلى خدمته، فلزم الديوان وأخذ الصلة والحملان:
لدن الرماح لما يسقي أسنتها ... من مهجة القيل أو من ثغرة البطل
لو أثمرت من دم الأعداء سمرقناً ... لأورقت عنده سمر القنا الذبل
إذا توجه في أولى كتائبه ... لم تفرق العين بي السهل والجبل
فالجيش ينفض حوليه أسنته ... نفض العقاب جناحيه من البلل
يأتي الأمور على رفق وفي دعة ... عجلان كالفلك الدوار في مهثل
قال: ومن رثائه:
أما لئن صح ما جاء البريد به ... ليكثرن من الباكي أشياعي
مازلت أفزع من يأس ومن طمع ... حتى ترفع يأسي فوق أطماعي

فاليوم أنفق كنز العمر أجمعه ... لما مضى واحد الدنيا بإجماع
قال: ومن هجائه:
قالوا رأينا فراتاً لي سوجعه ... ما يوجع الناس من هجو إذا قذفا
وله من كتاب سر السرور:
معتقة يعلو الحباب متونها ... فتحسبه فيها نثير جمان
رأت من لجين راحة لمديرها ... فطافت له من عسجد ببنان
ومن غير كتابه له:
ومن حسنات الدهر عندي ليلة ... من العمر لم تترك لأيامها ذنبا
خلونا بها ننفي القذا عن عيوننا ... بلؤلؤة مملوءة ذهباً سكبا
وملنا لتقبيل الثغور ولثمها ... كميل جناح الطير يلتقط الحبا
قال الأبيوردي: هذا أحس من قول ابن المعتز:
كم من عناق لنا ومن قبل ... مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفةمن النواطير يانع الرطب
وله أيضاً:
قد حنكت مني التجا ... رب كل شيء غير جودي
أبداً أقول لئن كسب ... ت لأقبضن بيدي شديد
حتى إذا أثريت عد ... ت إلى السماحة من جديد
إن المقام بمثل حا ... لي لا يتم مع القعود
لا بد لي من رحلة ... تدي من الأمل البعيد
وله أيضاً:
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس بإضرار
كالعود لا يطمع في طيبه ... إن أنت لم تمسسه بالنار
ومما أورده ابن رشيق لنفسه في النموذج:
أقول كالمأسور في ليلة ... ألقت على الآفاق كلكالها
يا ليلة الهجر التي ليتها ... قطع سيف الهجر أوصالها
ما أحسنت جمل ولا أجملت ... هذا وليس الحسن إلا لها
وأنشد لنفسه أيضاً:
أحب أخي وإ أعرضت عنه ... وقل على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطبت في وجه المدام
ورب تجهم من غير بغض ... وضغن كامن تحت ابتسام
وله أيضاً:
من جفاني فإنني غير جاف ... صلة أو قطيعة في عفاف
ربما هاجر الفتى من يصافي ... ه ولاقى بالبشر من لا يصافي
وأنشد لنفسه في كتاب فسح اللمح:
المرء في فسحة كما علموا ... حتى يرى شعره وتأليفه
فواحد منهما صفحت له ... عنه وجازت له زخاريفه
وآخر نحن منه في غرر ... إن لم يوافق رضاك تثقيفه
وقد بعثنا كيسي ملؤهما ... نقد امرئ حاذق وتزييفه
فانظر وما زلت أهل معرفة ... يا من لنا علمه ومعروفه
ثم قال في ورقة أخرى تمام الأبيات العينية، وما وجدتها أعني الأبيات التي هذه تمامها:
ولو غيرك الموسوم عندي بريبة ... لأعطيت فيه مدعي القوم ما ادعى
فلا تتخالجك الظنون فإنها ... مآثم واترك للصنائع موضعا
فوالله ما طولت باللوم فيكم ... لساناً ولا عرضت للذم مسمعا
ولا ملت عنكم بالوداد ولا انطوت ... حبالي ولا ولى ثنائي مودعا
بلى ربما أكرمت نفسي فلم تهن ... وأجللتها عن أن تذل وتخضعا
فباينت لا أن العداوة باينت ... وقاطعت لا أن الوفاء تقطعا
وختم كتاب العمدة بهذه الأبيات:
إن الذي صاغت يدي وفمي ... وجرى لساني فيه أو قلمي
مما عنيت بسبك خالصه ... واخترته من جوهر الكلم
لم اهده إلا لتكسوه ... ذكراً يجدده على القدم
لسنا نزيدك فضل معرفة ... لكنهن مصايد الكرم
فاقبل هدية من أشدت به ... ونسخت عنه آية العدم
لا تحسن الدنيا أبا حسن ... تأتي بمثلك فائق الهمم
الحسن بن أبي الحسن صافي
=======
ج6. كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


أبو نزار النحوي، وكان أبوه صافي مولى الحسين الأرموي التاجر، وكان لا يذكر اسم أبيه إلا بكنيته، لئلا يعرف أنه مولى، وهو المعروف بملك النحاة. قال أبو القاسم علي بن عساكر الحافظ: ذكر لي أنه ولد ببغداد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، في الجانب الغربي بشارع دار الرقيق، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي إلى جوار حرم الخلافة، وهناك قرأ العلم وتخرج. وسمع الحديث من الشريف أبي طالب الرينبي، وقرأ الفقه على أحمد، وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان، والخلاف على أسعد الميهني، والنحو على أبي الحس علي بن أبي زيد الأستراباذي الفصيحي وفتح له الجامع ودرس، ثم سافر إلى بلاد خراسان وكرمان وغزنة، ودخل إلى الشام وقدم دمشق، ثم خرج منها وعاد إليها واستوطنها إلى أن مات بها، في تاسع شوال سنة ثمان وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وكان قد ناهز الثمانين، وكان صحيح الاعتقاد كريم النفس، ذكر لي أسماء مصنفاته: كتاب الحادي في النحو مجلدتان، كتاب العمد في النحو مجلدة وهو كتاب نفيس، كتاب المقتصد في التصريف مجلدة ضخمة، كتاب أسلوب الحق في تعليل القراءات العشر، وشيء من الشواذ مجلدتان، كتاب التذكرة السفرية انتهت إلى أربعمائة كراسة، كتاب العروض مختصر محرر، كتاب في الفقه على مذهب الشافعي سماه الحاكم مجلدتان، كتاب مختصر في أصول الفقه، كتاب مختصر في أصول الدين، كتاب ديوان شعره، كتاب المقامات حذا حذو الحريري. ومن شعره يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا قاصداً يثرب الفيحاء مرتجياً ... أن يستجير بعليا خاتم الرسل
خذ عن أخيك مقالاً إن صدعت به ... مدحت في آخر الأعصار والأول
قل يا من الفخر موقوف عليه فإن ... تذوكر الفخر لم يصدف ولم يمل
صيت إذا طلبت غاياته خرقت ... سبعاً طباقاً فبذت كل ذي أمل
علوت وازددت حتى عاد منتزحاً ... جبريل عما له قد كان لم يطل
وعدت والكبر قد نافى علاك فما ... عدوت شيمة سبط الخلق مبتهل
أتتك غر قوافي المدح خاضعة ... لديك فاقبل ثناء غير منتحل
ثناء من لم يجد وجناء تحمله ... إليك أو صد بالإقتار عن جمل
ومن شعره أيضاً:
حنانيك إن جاءتك يوماً خصائصي ... وهالك أصناف الكلام المسخر
فسل منصفاً عن حالتي غير جائر ... يخبرك أن الفضل للمتأخر
وقال أحمد بن منير يهجو ملك النحاة، وكان قد كتب أبو نزار إلى بعض القضاة العاصوي:
أيا ملك النحو والحاء من ... تهجيهمن تحت قد أعجموها
أانا قياسك هذا الذي ... يعجم أشياء قد أعربوها
ولما تصنعت في العاصوي ... غدا وجه جهلك فيه وجوها
وقالوا قفا الشيخ إن الملو ... ك إذا دخلوا قرية أفسدوها
فبلغت أبياته ملك النحاة فأجابه بأبيات منها:
أيا بن منير حسبت الهجا ... ء رتبة فخر فبالغت فيها
جمعت القوافي من ذا وذا ... وأفسدت أشياء قد أصلحوها
وفي آخرها:
فقالوا قفا الشيخ إن الملو ... ك إذا أخطأت سوقة أدبوها
قال البلطي: كان ملك النحاة قدم إلى الشام، فهجاه ثلاثة من الشعراء، ابن منير والقيسواني والشريف الواسطي. واستخف به ابن الصوفي ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح جمال الدي وجماعة من رؤسائها وقضاتها. فلما نبت به الموصل، قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي، وابن منير، والقيسراني، والشريف الواسطي، فقتل الشريف الواسطي، ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر.

وحدثني شيخنا أبو البقاء. يعيش بن علي ابن يعيش النحوي قال: بلغني أنه كان لملك النحاة غلام وكان سيء العشرة، قليل المبالاة بمولاه ملك النحاة، فأرسله يوماً في شغل ليتعجله في إنجازه، فأبطأ فيه غاية الإبطاء، ثم جاء بعذر غير جميل، وكان يحضر ملك النحاة جماعة من أصدقائه والتلامذة، فغضب ملك النحاة وخرج عن حد الوقار الذي كان يلتزمه ويتوخاه وقال له: ويلك أخبري، ما سبب قلة مبالاتك بي، واطراحك لقبول أوامري؟ أنكتك قط؟ فبادر الغلام وقال: لا والله يا مولاي، معاذ الله أن تفعل ذلك بي، فإنك أجل من ذلك. قال: ويلك، فنكتني قط؟ فحرك الغلام رأسه متعجباً من كلامه وسكت. فقال له: ويلك أدركني بالجواب، هذا موضع السكوت؟ - لا رعاك الله - يا ابن الفاعلة، عجل، قل ما عندك قل، فقال: لا والله. قال: فما السبب في أك لا تقبل قولي، ولا تسرع في حاجتي؟ فقال له إن كان سبب الانبساط لا يكون إلا هذين، فأعدك ألا أعود إلى ما تكره إن شاء الله.
قال العماد: أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعاً متناسب الأحوال والأفعال، يحكم على أهل التميز بحكم ملك فيقيل ولا يستقال، وكان يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي؟ ولو عاش ابن جني لم يسع إلا حمل غاشيتي، مر الشكيمة، حلو الشيمة، يضم يده على المائة والمائتين ويمشي وهو منها صفر اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية، وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحساه إلى خلصانه وخلانه. قال العماد: أذكره وقد وصلت إليه خلعة مصرية، وجائزة سنية، فأخرج القميص الدبيقي إلى السوق، فبلغ دو عشرة دنانير، فقال: قولوا: هذا قميص ملك كبير، أهداه إلى ملك كبير، ليعرف الناس قدره، فيحلبوا عليه البدر على البدار، وليجلوا قدره في الأقدار، ثم قال: أنا أحق إذا جهلوا حقه، وتنكبوا فيه سبل الواجب وطرقه.
ومن ظريف ما يحكى عن ملك النحاة: أن نور الدين محموداً خلع عليه خلعة سنية، ونزل ليمضي إلى منزله. فرأى حلقة عظيمة فمال إليها لينظر ما هي؟ فوجد رجلاً قد علم تيساً له استخراج الخبايا وتعريفه ما يقول له من غير إشارة، فلما وقف عليه ملك النحاة، قال الرجل لذلك التيس: في حلقتي رجل عظيم القدر، شائع الذكر ملك في زي سوقة، أعلم الاس، وأكرم الناس، وأجمل الناس، فأرني إياه، فشق ذلك التيس الحلقة، وخرج حتى وضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك ملك النحاة أن خلع تلك الخلعة، ووهبها لصاحب التيس، فبلغ ذلك نور الدين فعاتبه وقال: استخففت بخلعتنا حتى وهبتها من طرقي؟ فقال يا مولانا: عذري في ذلك واضح، لأن في هذه المدينة زيادة على مائة ألف تيس، ما فيهم من عرف قدري إلا هذا التيس، فجازيته على ذلك. فضحك منه نور الدين وسكت.
وحكي عنه أنه كان يستخف بالعلماء، فكان إذا ذكر واحد منهم يقول: كلب من الكلاب. فقال رجل يوماً: فلست إذا ملك النحاة، إنما أنت ملك الكلاب، فاستشاط غضباً وقال: أخرجوا عني هذا الفضولي. وقال السمعاني: دخل أبو نزار بلاد غزنة وكرمان، ولقي الأكابر، وتلقى مورده بالإكرام، ولم يدخل بلاد خراسان وانصرف إلى كرمان، وخرج منها إلى الشام. قال: وقرأت فيما كتبته بواسط، ولا أدري عمن سمعته لأبي نزار النحوي:
أراجع لي عيشي الفارط ... أم هو عني نازح شاحط؟؟
ألا وهل تسعفني أوبة ... يسمو بها نجم المنى الهابط؟
أرفل في مرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي هذه واسط؟
يا زمني عد لي فقد رعتني ... حتى عراني شيبي الواخط
كم أقطع البيداء في ليلة ... يقبض ظلي خوفها الباسط؟
أأرقب الراحة أم لا وهل ... يعدل يوماً دهري القاسط؟؟
أيا ذوي ودي أما اشتقتم ... إلى إمام جأشه رابط؟
وهل عهودي عندكم غضة ... أم أنا في ظني إذاً غالط؟
ليهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط
وأنشد له:
الجيش والبرم الكثير ... منظوم ذلك والنثير
ودخان عود الهند والش ... مع المكفر والعبير
ورشاش ماء الورد قد ... عرفت به تلك النحور
ومثالث العيدان يس ... عد جسها بم وزير

وتخافق النايات يخ ... فق بينها الطبل القصير
والشرب بالقدح الصغ ... ير يحثه القدح الكبير
أحظى لدي من الأبا ... غر والحداة بها تسير
للعبد أ يلتذ في ... دنياه والله الغفور
ومن شعره أيضاً:
يا بن الذين ترفعوا في مجدهم ... وعلت أخامصهم فروع شمام
أنا عالم ملك بكسر اللام ف ... يما أدعيه لا بفتح اللام
أنشدني عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل أحمد بن عبد الوهاب بن الزاكي بن أبي الفوارس، السلمي الحراني المعروف باب الصيفي الدمشقي قال: أنشدني فتيان بن علي بن فتيان الأسدي النحوي في ملك النحاة، وكانت قد عضت يد ملك النحاة سنور فربطها بمنديل عظيم:
عتبت على قط ملك النحاة ... وقلت: أتيت بغير الصواب
عضضت يداً خلقت للدى ... وبث العلوم وضرب الرقاب
فأعرض عني وقال اتئد ... ألي القطاط أعادي الكلاب؟
قال: فبلغته الأبيات فغضب منها، إلا أنه لم يدر من قائلها؟ ثم بلغه أنني قلتها وبلغني ذلك فانقطعت عنه حياء مدة، فكتبت إليه شعراً أعتذر إليه، فكتب إلي:
يا خليلي نلتما النعماء ... وتسنمتما العلا والعلاء
ألمما بالشاغور والمسجد المعم ... ور واستمطرا به الأنواء
وامنحا صاحبي الذي كان فيه ... كل يوم تحية وثناء
ثم قولا له اعتبرنا الذي فه ... ت به مادحاً وكان هجاء
وقبلنا فيه اعتذارك عما ... قاله الجاهلون عنك افتراء
الشاغور محلة بدمشق بالباب الصغير. وقال فتيان ابن المعلم الدمشقي: رأيت أبا نزار في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أنشدته قصيدة ما في الجنة مثلها، فتعلق بحفظي منها أبيات وهي:
يا هذه أقصري عن العذل ... فليس في الحق ويك من قبل
يا رب ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زلل
ملآن كف بكل مأثمة ... صفر يد من محاسن العمل
فكيف أخشى ناراً مسعرة ... وأنت يا رب في القيامة لي
قال: فوالله منذ فرغت من إنشادها ما سمعت حسيس الأرض.
الحسن بن عبد الله،الأصبهانيالمعروف بلغدة ولكذة، أيضاً الأصبهاني أبو علي، قدم بغداد، وكان جيد المعرفة بفنو الأدب، حسن القيام بالقياس، موفقاً في كلامه، وكان إماماً في النحو واللغة، وكان في طبقة أبي حنيفة الديوري، مشياخهما سواء، وكان بينهما مناقضات قال حمزة بن حسن الأصبهاني في كتاب أصبهان: وقدم على اب رستم الديميري من سامراً: إبراهيم بن غيث البغدادي وكان أصبهانياً، فخرج في صغره إلى العراق، فبرع في علم النحو واللغة، وهو جد عبد الله بن يعقوب الفقيه. وروى عن أبي عبيدة، وأبي زيد، وقدم الخصيب بن أسلم الباهلي صاحب الأصمعي وروى عن أبي إسحاق إبراهيم بن غيث، وأبي عمر الخرقي، وهو أول من قدم أصبهان من أهل الأدب واللغة، وعن الباهلي صاحب الأصمعي، وعن الكرماني صاحب الأخفش: أخذ أبو علي لغدة علم اللغة. وكان أبو علي يحضر مجلس أبي إسحاق ويكتب عنه، ثم خالفه وقعد عنه، وجعل ينقض عليه ما يمليه.
قال حمزة: وقد تقدم من أهل اللغة في أصبهان، - وصار فيها رئيساً يؤخذ عنه - جماعة: منهم أبو علي لغدة، وكان رأساً في اللغة والعلم والشعر والنحو. حفظ في صغره كتب أبي زيد، وأبي عبيدة، والأصمعي، ثم تتبع ما فيها، فامتحن بها الأعراب الوافدين أصبهان، وكانوا يفدون على محمد بن يحيى بن أبان، فيضربون خيمهم بفاء داره، في باغ سلم بن عود، ويقصدهم أبو علي كل يوم، فيلقي عليهم مسائل شكوكه من كتب اللغة، وثبت تلك الأوصاف عن ألفاظهم في الكتاب الذي سماه كتاب النوادر. ثم لم يك له في آخر أيامه ظير بالعراق. قال: وكتاب النوادر هذا كتاب كبير، يقوم بإزاء كل ما خرج إلى الناس من كتب أبي زيد في النوادر، وله من الكتب الصغار: كتاب الصفات، كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، وكتب أخر كثيرة من صغار الكتب، وله ردود على علماء اللغة، وعلى رواة الشعر والشعراء، قد جمعناها نحن في كتاب وأنفذناه إلى أبي إسحاق الزجاج - رحمه الله

قال محمد بن إسحاق النديم: وله من التصانيف: كتاب الرد على الشعراء قضه عليه أبو حنيفة الدينوري، كتاب الطق، كتاب الرد لعى أبي عبيد في غريب الحديث، كتاب علل النحو، كتاب مختصر في النحو، كتاب الهشاشة والبشاشة، كتاب التسمية، كتاب شرح معاي الباهلي، كتاب نقض علل النحو، كتاب الرد على ابن قتيبة في غريب الحديث.
وأفرد حمزة الأصبهاني في كتاب أصبهان أشعاراً للغدة منها:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضاً ليستر معور عن معور
ما أقرب الأشياء حي يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
الجد أنهض بالفتى من كده ... فانهض بجد في الحوادث أو ذر
وإذا تعسرت الأمور فأرجها ... وعليك بالأمر الذي لم يعسر
ومن شعره أيضاً:
خير إخواك المشارك في المر ... ر وأين الشريك في المر أيا؟؟
الذي إن شهدت سرك في الق ... وم وإن غبت كان أذناً وعينا
مثل تبر العقيا إن مسه الا ... ر جلاه الجلاء فازداد زينا
وأخو السوء إن يغب عك يسبع ... ك وإن يحضر يكن ذاك شيئاً
جيبه غير ناصح ومناه ... أن يعيب الخليل إفكا ومينا
فاصرمنه ولا تلهف عليه ... إن صرماً له كنقدك دينا
ومن شعره أيضاً:
بذلت لك الصفاء بكل جهدي ... وكنت كما هويت فرصت وخزا
جرحت بمدية فحززت أنفي ... وحبل مودتي بيديك حزا
فلم تترك إلى صحل مجازاً ... ولا فيه لمطلبه مهزا
ستمكث نادماً في العيش مني ... وتعلم أن رأيك كان عجزا
وتذكرني إذا جربت غيري ... وتعلم أنني لك كنت كنزا
الحسن بن عبد الله المرزباني السيرافيأبو سعيد النحوي القاضي، وسيراف بليد على ساحل البحر من أرض فارس، رأيته أنا وبه أثر عمارة قديمة، وجامع حسن، إلا أنه الآن الغالب عليه الخراب، وقد كان ولي القضاء على بعض الأرباع ببغداد، ومات - رحمه الله - يوم الاثنين ثاني رجب، سنة ثمان وستين وثلاثمائة، في خلافة الطائع ودفن في مقابر الخيزران. وكان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد، فسماه أبو سعيد عبد الله، وكان أبو سعيد يدرس ببغداد القرآن والقراءات، وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه والفرائض. وكان قد قرأ على أبي بكر بن مجاهد القرآن، وعلى أبي بكر بن دريد اللغة، ودرسا جميعاً عليه النحو، وقرأ على أبي بكر بن السراج، وأبي بكر المبرمان النحو، وقرأ أحدهما عليه القرآن، ودرس الآخر عليه الحساب.
قال الخطيب: وكان - رحمه الله - زاهداً ورعاً، لم يأخذ على الحكم أجراً، إنما كان يأكل من كتب يمينه، فكان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس، حتى ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم، تكون بدق رمئونته، ثم يخرج إلى مجلسه. وصنف كتباً منها: شرح كتاب سيبويه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أصحاب أبي علي الفارسي يكثرون الطلب لكتاب شرح سيبويه ويجتهدون في تحصيله. فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه، وتزرون على مؤلف، فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نرد عليه، ونعرفه خطأه فيه.
قال أبو حيان: فحصلوه واستفادوا منه، ولم يرد عليه أحد منهم أو كما قال أبو حيان، فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه، وكان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلو عليه الرماني، فحكى ابن جني عن أبي علي: أن أبا سعيد قرأ على اب السراج خمسين ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه. فقال لي: يجب على الإنسان أن يقدم ما هو أهم. وهو علم الوقت من اللغة والشعر، والسماع من الشيوخ، فكان يلزم ابن دريد ومن جرى مجراه من أهل السماع.
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني يهجو أبا سعيد السيرافي:
لست صدراً ولا قرأت على صد ... ر ولا علمك البكي بكاف
لعن الله كل شعر ونحو ... وعروض يجيء من سيراف
وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال:

قال لي أبو أحمد: ولد أبو سعيد بسيراف، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين، ومضى إلى عمان فتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف، ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة. قال المؤلف: وبها قرأ فيما أحسب على المبرمان. قال: كان فقيهاً على مذهب العراقيين، وورد إلى بغداد، فخلف أبا محمد بن معروف قاضي القضاة على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم استخلفه على الجانبي. ومولده قبل التسعين ومائتين. وله من الكتب: كتاب شرح سيبويه، ألفات القطع والوصل، كتاب أخبار النحويين البصريين، كتاب شرح مقصورة ابن دريد، كتاب الإقناع في النحو لم يتم، فتممه ابنه يوسف، وكان يقول: وضع أبي النحو في المزابل بالإقناع، يريد أه سهله حتى لا يحتاج إلى مفسر، كتاب شواهد كتاب سيبويه، كتاب الوقف والابتداء، كتاب صنعة الشعر والبلاغة، كتاب المدخل إلى كتاب سيبويه، كتاب جزيرة العرب.
قرأت بخط أبي حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في تقريظ عمرو بن بحر، وقد ذكر جماعة من الأئمة، كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه، واللغة والشعر، والعروض والقوافي، والقرآن والفرائض، والحديث والكلام، والحساب والهندسة. أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة، فما وجد له خطأ، ولا عثر منه على زلة. وقضى ببغداد، وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني، فما جاراه فيه أحد، ولا سبقه إلى تمامه إنسان. هذا مع الثقة والديانة، والأمانة والرواية. صام أربعين سنة، وأكثر الدهل كله.
قال لنا الأندلسي: فارقت بلدي في أقصى الغرب طلباً للعلم، وابتغاء مشاهدة العلماء، فكنت إلى أن دخلت بغداد وتلقيت أبا سعيد، وقرأت عليه كتاب سيبويه نادماً سادماً في اغترابي عن أهلي ووطني، من غير جدوى في علم أو حظ من الدنيا، فلما سعدت برؤية هذا، علمت أن سعيي قرن بسعدي، وغربتي اتصلت ببغيتي، وأن عنائي لم يذهب هدراً، وأن رجائي لم ينقطع يأساً. قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ: قرأنا على أبي سعيد الحسن بن عبد الله في كتاب ما يلحن فيه العامة لأبي حاتم: هو الشمع مفتوح الشين والميم. فسألناه عما يحكى عن أبي بكر بن دريد أنه قال: شمع بكسر الشين. فقال: لا يعاج عليه. قلنا له: فهو صحيح عن ابن دريد؟ فقال: نعم هو عنه بخطي في كتاب الجمهرة.
قال: وكان أبو الفتح بن النحوي، وأبو الحس الدريدي سألاني عن ذلك، فاستعفيت من الإجابة، لئلا أنسب إلى ابي بكر حرفاً أجمع الناس على خلافه.
وقال أبو حيان في كتاب محاضرات العلماء قثال: وحضرت مجلس شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل، أبي سعيد السيرافي، وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي، يشرح له ترجمة المدخل إلى كتاب سيبويه من تصنيفه. فقال له: علق عليه، واصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواس، ولا تتصوره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: - أيد الله القاضي - ، أنا مؤثر لذلك، ولك اختلال الأمر وقصور الحال يحول بيني وبين ما أريده. فقال له: ألك عيال؟ قال لا. قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات. قال: فأنت ريح القلب، حسن الحال، ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة، والسؤال والمناظرة، واحمد الله تعالى على خفة الحاذ، وحسن الحال. وأنشده:
إذا لم يكن للمرء مال ولم يكن ... له طرق يسعى به الولائد
وكان له خبز وملح ففيهما ... له بلغة حتى تجيء الموائد
وهل هي إلا جوعة إن سددتها ... فكل طعام بين جنبيك واحد
قال: وكان يقرأ على أبي سعيد السيرافي الكامل للمبرد، فجاءه أبو أحمد بن مردك وكان هذا من ساوة، واستوطن بغداد وولد بها، وكان له قرب ومنزلة من أبي سعيد يوجب حقه ويرعاه له. فقال: ايها الشيخ عندي ابنة بلغت حد التزويج، وجماعة من الغرباء والبغداديين يخطبونها، فما ترى ومم أزوجها؟ فقال: فمن يخاف الله تعالى، وأكثرهم تقية وخشية منه، فإن من يخاف الله إن أحبها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبها تحرج من ظلمها، فاستحسنا ذلك وأثبتناه ثم قال: لا تنسبوا هذا إلي، إنما هذا قول الحسن.

قال: وشبيه هذه الحكاية: أن رجلاً وقف على الحسن فقال: علمني ما يقربني إلى الله تعالى وإلى الناس، قال: أما ما يقربك إلى الله فمسألته. وأما ما يقربك إلى الناس فترك مسألتهم. وقال: وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، وكان يرعى حق أبيه فيه، لأنه كان وجيهاً شريفاً، فلما كان يوم الأحد قال له: ما الذي أخرك؟ فأشار إلى شرب الدواء، ولأجله تأخر عن المجلس، فأنشدنا:
لنعم اليوم يوم السبت حقاً ... لصيد إن أردت بلا افتراء
وفي الأحد البناء فإن فيه ... تبدى الله في خلق السماء
وفي الإثنين إن سافرت حقاً ... يكون الأوب فيه بالنماء
وإن ترم الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعاته درك الشفاء
وإن شرب امرء يوماً دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج ... ففيه الله آذن بالقضاء
ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء
قال: ولما قبل ابن معروف شهادته، عاتبه على ذلك بعض المختصين به وقال: أيها الشيخ، إنك إمام الوقت وعين الزمان، والمنظور إليه والصدر، وإذا حضرت محفلاً كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كل محفل وناد، والألسنة مقرة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لاب معروف واختلافك إلى مجلسه، وصرت تابعاً بعد أن كنت متبوعاً، ومؤتمراً بعد أن كنت آمراً، وضعت من قدرك، وضيعت كثيراً من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحداً من صحبك. فقال: اعلموا أن هذا القاضي سبب اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة ومنافسة لأقرانه وإخوانه، ومع ذلك له من السلطان منزلة. وبلغني أنه يستضيء برأيه، ويعده من جملة ثقاته وأوليائه، وعرض بي، وصرح في الأمر مرة بعد أخرى، وثانية عقب أولى، فلم أجب إليه، ولم أسلس قيادي له، فخفت مع كثرة الخلاف اعتمادي بما أستضر به وينتفع به غيري. وإذا اتفق أمران، فاتباع ما هو أسلم جانباً وأقل غائلة أولى. وقد كان الآن ما كان، والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام، ورد عليه من آمد صاحب لأبي العباس بن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبس به من العدالة، وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة، وألفاظ حسنة، ومعان منتقاة. وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد، ومم لازمه سنين عدة، وعلق عنه على ما ذكره الشاشي، زهاء عشرة آلاف ورقة من شرحه لكتاب سيبويه وغيره، درساً ومذاكرة. وكانت له أيضاً بضاعة قوية في علم الهيئة، وبصر تام بمذهب الكوفيين في النحو، حتى ما كان يطاق وكان من أصدر الكتاب على يده رجلاً كردياً، عليه جبة ثقيلة فوقها صناعة عظيمة، قد أضرت به شمس الهواجر، ومقاساة السفر، وقطع المهامه والمفاوز. وكان الشيخ يبين لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى: (مثل ما أنكم تنطقون). والاحتجاج عمن نصبه ورفعه، والكردي ما يفهم منه القليل ولا الكثير، ثم التفت إلى أبي سعيد وقال: يا شيخ، في أي شيء أنت؟ وفي ماذا تتكلم؟ فقال: أتكلم في شيء لا يعرفه كل أحد، ولا يتصوره كثير من الناس. قال: ففسره لي لعلي أفهمه. قال: لا يكو ذلك أبداً. قال: أنت عالم، ومن اقتبس منك علماً لزمك الجواب. فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه، وتنتفع به. فأخذ الكردي في المطاولة، وإيراد الهذيان وما لا محصول له. وسكت عنه أبو سعيد، وصمت هو أيضاً. وجعل أبو سعيد على عادته، يبين ويوضح ويتكلم، وينثر الدر ولا يهدأ ولا يفتر لسانه، ولا يجف ريقه. والكردي ملازمه، وكأنه كالمتبرم به، والمستثقل لجلوسه، وملازمته إياه إلى أن قام ومضى.
ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلاً تمكن من أحد تمكن هذا منا اليوم، وإن ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إلي، لقد هممت تارة بضربه فقلت: ربما ضربني أيضاً، ثم هممت بالقيام فقلت: ضرب من الخرق، ثم كدت أصيح فقلت: نوع من الجنون، ثم بقيت أدعو سراً، وأرغب إلى الله تعالى في صرفه، فتفضل الله الكريم علي بذلك، ومع هذه الحالة، لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني. فقلنا له: وما الأبيات؟ فقال:

يا شقيق الرصاص والجبل ... وقريع الأيام في الثل
أرح حياتي فقد هجمت على ... نفسي وأشرفت بي على أجلي
والله لو كنت والداً حدباً ... وكنت تحيي الأموات في المثل
وتمزج الثلج في العساس لدى ال ... قيظ وعند الشتاء بالعسل
رحلت عن ذاك عند آخره ... واخترت ألا أراك في الرحل
فخذ طريفي وتالدي فإذا ... لم يبق شيء فخذ إذاً سملي
وارحل إلى الظلمة التي ذكرت ... من خلف قاف يا شر مرتحل
قال: وكان قد ظهر بالعراق رجل من الجراد، فأضرت بالزروع والأثمار، وغلت الأشعار، وأثر في أحوال الاس. فحضرنا مجلس أبي سعيد السيرافي، وكل منا شكا حاله، وذكر خلته، وكان فينا رجل مزارع، ذكر أنه زرع بنواحي النهروان أربعة آلاف جريب ملكاً وضماناً وإجارة رجاء الفائدة، وقد أتى عليها الجراد، وهلك ذلك الرجل لأجله.
ثم قال أبو سعيد: لا يهولنك أمرها، فإنها جند من جنود الله مأمور. بلغنا أن جرادة سقطت بين يدي عبد الله بن عباس، فأخذها ونشر جناحها وقال: أتعلمو ما هو مكتوب عليها؟ قالوا لا، قال: مكتوب عليها: أنا مغلي الأسعار، مع تدفق الأنهار. وأورد في ذكر الجراد ما حير الناظري، ثم قال: ومن أحسن ما وصف به الجراد، قول بعض الخطباء حيث يقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق خلقاً وسماها جراداً، وألبسها أجلاداً، وجندها أجناداً، وأدمجها إدماجاً، وكساها من الوشي ديباجاً، وجعل لها ذرية وأزواجاً، إذا أقبلت خلتها سحاباً أو عجاجاً، وإذا أدبرت حسبتها قوافل وحجاجاً، مزخرفة المقاديم، مزبرجة المآخير، مزقة الأطراف، منقطعة الأخفاف، منمنمة الحواشي، منمقة الغواشي، ذات أردية مزعفرة، وأكسية معصفرة، وأخفية مخططة. معتدلة قامتها، مؤتلفة خلقتها، مختلفة حليتها، موصولة المفاصل، مدرجة الحواصل، تسعى وتحتال، وتميس وتختال، وتطوف وتجتال، فتبارك خالقها، وتعالى رازقها، من غير حاجة منه إليها، رحمة منه عليها، أوسعها رزقاً، وأتقنها خلقاً، وفتق منها رتقاً. ووشج أعراقها، وألجم أعناقها، وطوقها أطواقها، وقسم معايشها وأرزاقها، تنظر شزراً من ورائها، وترقب النازل من سمائها، وتحرس الدائر من حولها. سلاحها عتيد، وبأسها شديد، ومضرتها تعديد تدب على ست وتطير، فسبحان من خلقها خلقاً عجيباً، وجعل لها من كل ثمر وشجر نصيباً، وجعل لها إدباراً وإقبالاً، وطلباً واحتيالاً، حتى دبت ودرجت، وخرجت ودخلت، ونزلت وعرجت، مع المنظر الأنيق، والعصب الدقيق، والبدن الرقيق (هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
ثم قال: وماذا تقولون في طير؟ إذا طار بسط، وإذا دنا من الأرض لطع، رجلاه كالمنشار، وعيناه كالزجاج. عينه في جنبه، ورجله أطول من قامته، ألا وهي الجرادة. ثم قال: وأحسن منه: جيدها كجيد البقر، ورأسها كرأس الفرس، وقرنها كقرن الوعل، ورجلها كرجل الحمل، وبطنها كبطن الحية، تطير بأربعة أجنحة، وتأكل بلسانها، فتبارك الله ما أحسنها! وأحس ما فيها: أنها طعام طاهر حياً وميتاً، ونقل تجدب أقواماً وتخصب آخرين. فقلنا له: ما معنى قولك تجدب أقواماً وتخصب آخرين؟ قال: إنها إذا حلت البوادي والفيافي ومواضع الرمال، فهي خصب لهم وميرة، وإذا حلت بمأوى الزرع والأشجار فهي تجدب، لأنها تأتي على الشوك والشجر، والرطب واليابس، فلا تبقي ولا تذر.
قال: وقال أيضاً في تضاعيف كلامه: خادم الملك لا يتقدم في رضاه خطوة، إلا استفاد بها قدمة وحظوة. قال: وما رأيت أحداً من المشايخ كان أذكر لحال الشباب، وأكثر تأسفاً على ذهابه منه، فإنه إذا رأى أحداً من أقرانه قد عالجه الشيب تسلى به، ولم يزل يسأله عن حاله، كانت في أيام الشباب وزمن الصبا. وإذا ذكر بين يديه ما يتعلق بالشيب والشباب، بكى وجداً وحن، وشكا وأن، وتذكر عهد الشباب. وكان كثيراً ما ينشد مقطعات محمود الوراق في الشيب ويبكي عليها. وأنشد يوماً:
فإن يكن المشيب طرا علينا ... وولى بالبشاشة والشباب
فإني لا أعاقبه بشيء ... يكون على أهون من خضاب
رأيت بأن ذاك وذا عذاب ... فينتقم العذاب من العذاب
قال: وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان:

ولو أن دار الشيب قرت بصاحب ... على ضيقها لم نبغ داراً بداره
ولكن هذا الشيب للموت رائد ... يخبرنا عنه بقرب مزاره
قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب أبي حنيفة وينصره، فجرى حديث تحليل اتلنبيذ عنده، فقال له بعض الخراسانيين: أيها الشيخ، دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي. ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر؟ فقال: أما المذهب فمعروف لا عدول عنه، وأما الذي يقتضيه الرأي ويجبه العقل، ويلزم من حيث الاحتياط، والأخذ بالأحسن والأولى، فتركه والعدول عنه.
فقال له: بين لنا - عافاك الله - . فقال: العم أنه لو كان المسكر حلالاً في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكان يجب على العاقل رفضه وتركه، بحجة العقل والاستحسان. فإن شاربه محمول على كل معصية، مدفوع إلى كل بلية، مذموم عند كل ذي عقل ومروءة، يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء، ويجعله من جملة السفهاء، ومع ذلك فيضر بالدماغ والعقل، والكبد والذهن، ويولد القروح في الجوف، ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة، حتى يصير بمنزلة المخبط المخريق والمئبئج، يقول بغير فهم، ويأمر بغير علم، ويضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، ويخضع لعدوه، ويصول على وليه، ويعطي من لا يستحق العطية، ويمنع من يستوجب الصلة، ويبذر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك، ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر، يصير حامده ذاماً، وأفعاله ملاماً، عبده لا يوقره، وأهله لا تقربه، وولده يهرب منه، وأخوه يفزع عنه، يتمرغ في قيئه، ويتقلب في سلحه، ويبول في ثيابه، وربما قتل قريبه، وشتم نسيبه، وطلق امرأته وكسر آلة البيت، ولفظ بالخنى، وقال كل غليظة وفحش، يدعو عليه جاره، ويزرى به أصحابه، عند الله ملوم، وعند الاس مذموم، وربما يستولي عليه في حال سكره مخايل الهموم، فيبكي دماً، ويشق جيبه حزناً، وينسى القريب، ويتذكر البعيد، والصبيان يضحكون منه، والنسوان يفتعلن النوادر عليه. ومع ذلك فبعيد من الله، قريب من الشيطان، قد خالف الرحمن في طاعة الشيطان، وتمكن من ناصيته، وزي في عينه إتيان الكبائر، وركوب الفواحش، واستحلال الحرام، وإضاعة الصلاة، والحنث في الأيمان، سوى ما حل به عند الإفاقة من الندامة، ويستوجب من عذاب الله يوم القيامة.
فقال الرجل: والله إن قولك ووصفك له أعلق بالقلب من كل واضح وبرهان لائح، وحجة وأثر، وقول وخبر. فقال له: لولا ذهاب الوقت لا عوض له، لاستدللت لكل خصلة ذكرتها، ولفظة أوردتها بآية من كتاب الله، أو خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قلت: إن الألفاظ مشتقة من ذاك مستنبطة منه، ولك الأمر في هذا أظهر وأشهر من أن يبين ويوضح. ولأبي حنيفة مسائل لا أرتضيها له، وقد خالفه فيها أعيان أصحابه، والناقلة لمذهبه، ولكن لكل أريب هفوة، ولكل جواد كبوة، والكلام إذا كثر لا يخلو من الخطإ، والقول إذا تتابع لا يعرى من التناقض، - والله المعين على أمر الدنيا والدين - قال أبو حيان: قال أبو سعيد: دخلت مسجداً بباب الشام يوماً أنظر أبا المنصور العمري فرأيت عربياً قد استلقى ومخلاته تحت رأسه، وهو يترنم بهذه الأبيات بحلق أطيب ما يكون، وصوت أندى ما يسمع:
سماء الحب تهطل بالصدود ... ونار الحب تحرق من بعيد
وعين الحب تأتي بالمنايا ... فتغرسه على قلب عميد
وأول من عشقت عشقت ظبياً ... له في الصدر قلب من حديد
فقلت له: أعد الأبيات. فقال لي: دخلت علي وشغلتني عما كنت عليه، خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أماني دونها خرط القتاد، فأفسدتها علي. فحفظت الأبيات من قوله، وانصرفت وتركته. قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي:
فكرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحق للشيب واجب
يصاحبن شرخ الشباب فيقضي ... وشيبي إلى حين الممات مصاحب
ثم قال: ما رأيت أحداً كان أحفظ لجوامع الزهد نظماً ونثراً، وما ورد في الشيب ولاشباب، من شيخنا أبي سعيد. وذاك أنه كان ديناً، ورعاً تقياً، زاهداً عابداً خاشعاً، له دأب بالنهار من القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني.

ما قرأت عليه خبراً ولا شيئاً قط فيه ذكر الموت والقبر، والبعث والنشور، والحساب والجنة والنار، والوعد والوعيد والعقاب، والمجازاة والثواب، والإنذار، والإعذار، وذم الدنيا وتقلبها بأهلها، وتغيرها على أبنائها، إلا وبكى منها، وجزع عندها، وربما نغص عليه يومه وليلته، وامتنع من عاداته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله، ما كنا نستعين به ونستفيد منه، وما نجعله حظ يومنا. ورأيته يوماً ينشد ويبكي:
حتى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى تنغيص عيشته عمري
ودب البلى في كل عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يقى سليماً على الدهر؟
قال: ووصى يوماً بعض أصحابه وكان يقرأ عليه شرح الفصيح لابن درستويه: كن كما قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في كتبك رأس مالك، وما في صدرك للتفقه. قال: وأنشدنا:
وذي حيلة للشيب ظل يحوطه ... يقرضه حيناً وحينا ينتف
وما لطفت للشيب حيلة عالم ... من الناس إلا حيلة الشيب ألطف
قال أبو حيان: شكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته، وكساد سوقه، ووقوف أمره، وذهاب ماله، ورقة حاله، وكثرة ديونه وعياله، وتجلف صبيانه، وسوء عشرة أهله معه، وقلة رضاهم به، ومطالبتهم له بما لا يقوم به، وأنه يقع ويقوم، ويدخل كل مدخل، حتى يحصل لنفسه وعياله بعض كفايتهم. فقال له: ثق بالله خالقك، وكل أمرك إلى رازقك وأقلل من شنبك وأجمل في طلبك، واعلم أنك بمرأى من الله ومسمع، قد تكفل برزقك، فيأتيك من حيث لا تحتسبه، وضمن لك ولعيالك قوتهم، فيدر عليك منم حيث لا ترتقبه، وعلى حسب الثقة بالله يكون حسن المعونة، وبمقدار عدولك عن الله إلى خلقه يكون كل المئونة. وأنشد وذكر أنه لبعض المحدثين:
يا طالب الرزق إن الرزق في طلبك ... والرزق يأتي وإن أقللت من تعبك
لا يملكنك لا حرص ولا تعب ... فيسلماك ولا تدري إلى عطبك
إن تخف أسباب هذا الرزق عنك فكم ... للرزق من سبب يغنيك عن سببك
بل إن تكن في أعز العز ذا أرب ... فلا يكن زاد من لم تبل من أربك
لا تعرضن لزاد لست تملكه ... واقنع بزادك أو فاصبر على سغبك
ولست تحمد أن تعزى إلى نشب ... إذا عزيت إلى بخل على نشبك
هب جاهل القوم غرته جهالته ... ألست ذا أدب فاعمل على أدبك؟
لا تكلب على عرض الكرام تعش ... والكلب أحسن حالاً منك في كلبك
ولا تعب عرض من في عرضه جرب ... إلا وأنت نقي العرض من جربك
وإنما الناس في الدنيا ذوو رتب ... فانهض إلى الرتبة العلياء من رتبك
قال أبو حيان: وكان يختلف إلى مجلس أبي سعيد علي ابن المستنير، وكان هذا اب بنت قطرب، وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق وحسن عشرة، وحلاوة كلام وفقر مدقع، وضر ظاهر وحالة سيئة، وأمر مختل ومعيشة ضيقة، وكثرة عيال ومئونة مع نشاط القلب، وثبات النفس وطلاقة الوجه، وكثرة المرح والطرب والارتياح.
وقرأ يوماً على أبي سعيد ديوان المرقش وأخذ خطه بذلك، وعجل الانصراف من عنده. فقال له أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال، وأتمحل وأحتال، فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية، وهو مع ذلك ضاحك السن، قرير العين، فلما انصرف. قلنا له: هذا الرجل مع ما فيه، لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ويقدر على دفعه. فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ: وراءه حال يخفيها عنا، ويطويها منا؟ قال: ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقل يعلو على همه وحزنه، فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتد همه وحزنه، ويرى ذلك في وجهه، ولا يقدر على دفعه لجهله. فاستحسنا ذلك وأثبتناه.

قال في كتاب الإمتاع: فقال لي الوزير: أين أبو سعيد من أبي علي؟ وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين ابن المارغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذا، وابن الوراق واب حيويه. فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب، وأخرج من كل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى للحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفين، وأظهر أثراً في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر وكان من أدباء ملوك آل سامان، سنة أربعين وثلاثمائة كتاباً خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة الغالب عليها الحرا وما أشبه الحران. وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأله عنها. وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين، ضمنه مسائل القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة.
وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام، سأل عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآ، وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف. وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن حنزابة على طريق المعونة.
وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الفرد. سأل عن سبعين مسألة في القرآن. ومائة كلمة في العربية، وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين.
قال الوزير: وهذه المسائل والجوابات عندك؟ قلت نعم: قال: في كم تقع؟ قلت لعلها تقع في الأف وخمسمائة ورقة، لأ أكثرها في الظهور. قال: ما أحوجنا إلى النظر إليها، والاستمتاع بها، والاستفادة منها، وأين الفراغ وأين السكو؟؟ ونحن في كل يوم ندفع إلى طامة تنسى ما سلف، وتوعد بالداهية ثم قال: صل حديثك. قلت: وأما أبو علي: فأشد تفرداً بالكتاب وأكثر إكباباً عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد وأطرافاً لغيره، وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد له. كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره؟ بغريبه وأمثاله، وشواهده وأبياته. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لأن هذا شيء ما تم للمبرد ولا للزجاج، ولا لابن السراج ولا لابن درستويه، مع سعة علمهم، وقبض بنانهم.
ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد عن الكتاب على النظم المعروف. وحدثني أصحابنا: أن أبا علي اشتري شرح أبي سعيد بالأهواز - في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين، لاحقاً بالخدمة الموسومة به والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم، وهذا حديث مشهور وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به، إلا من يزعم أنه أراد النقض عليه وإظهار الخطإ.
وقد كان الملك السعيد هم بالجمع بينهما فلم يقض له. ذلك، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة. وأبو علي يشرب ويخالع، وما هذي سجية أهل العلم وطريقة الديانين. وأبو سعيد يصوم الدهر كله، ولا يصلي إلا في الجماعة، ويفتي على مذهب أبي حنيفة، ويلي القضاء سنين، ويتأله ويتحرج، وغيره بمعزل عن هذا، ولولا الإبقاء لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عما يوجب اللائمة أحرى، وكان أبو سعيد حسن الخط، ولقد أراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال: هذا يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها، وسياسة وأنا غريب فيها. ومن العناء رياضة الهرم.

وحدثنا النصري أبو عبد الله وكان يكتب النوبة للمهلبي قال: كنت أخط بين يدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوماً لأ أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته، فظن أنه لفضل العلم أقوم بالجواب من غيره، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرر والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخلفاً لجاري العادة لفظاً، مباياً لمأثوره ترتيباً. قال: ودخلت في تلك الحال فتمثل الصيمري بقول الشاعر:
يا باري القوس برياً ليس يصلحه ... لا تظلم القوس أعط القوس باريها
ثم قال لأبي سعيد: خفف عنك أيها الشيخ، وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول. فلما ابتدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد.
ثم قال للصيمري أيها الأستاذ: ليس بمستنكر ما كان مني، ولا بمستكبر ما كان منه، إن مال الغني لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذ، والكتاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه. فتبسم الصيمري وأعجبه ما سمع وقال: على كل حال ما أخليتنا من فائدة.
وكان أبو سعيد بعيد القرين، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والتفسير، والفقه والفرائض، والشروط والنحو، واللغة والعروض، والقوافي والحساب، والهندسة والشعر، والحديث والأخبار، وهو في كل هذا، إما في الغاية وإما في الوسط.
وأما علي بن عيسى: فعلي الرتب في النحو واللغة، والكلام والمطق، ولا عيب به إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد له صناعة وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً، هذا مع الدين الثخين، والعقل الرزين.
وأما ابن المراغي: فلا يلحق بهؤلاء مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ وقوة النفس، وغزارة النفث، وكثرة الرواية، ومن نظر له في كتاب البهجة عرف ما أقول، واعتقد فوق ما وصفت.
وأما المرزباني وابن شاذان، والقرميسيني وابن الخلال، وابن حيويه: فلهم رواية وجمع، ليس لهم في شيء من ذلك نقط ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.
وحدثني الشيخ الإمام علم الدين لاقاسم بن أحمد الأندلسي شيخنا قال: حدثن تاج الدين أبو اليمن زيد ابن الحسن الكدي شيخنا قال: بلغني أن أبا سعيد دخل على ابن دريد وهو يقول: أول من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السلام في قوله:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
فقال أبو سعيد: يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء. فقال: وكيف ذلك؟ قال: بأن تنصب بشاشة على التمييز، وترفع الوجه المليح بقل، ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله:
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلاً
وقال أبو حيان: جرى ليلة ذكر أبي سعيد السيرافي في مجلس ابن عباد، وكان ابن عباد يتعصب له ويقدمه على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه وأبان عن نفسه، وصادف من أبي سعيد بحر علم وطود حلم.
فقال أبو موسى الخشكي: إلا أنه لم يعمل في كتاب شرح سيبويه شيئاً، فنظر إليه ابن عباد متنمراً ولم يقل حرفاً، فعجبت من ذلك. ثم إني توصلت ببعض أصحابه، حتى سأل عن حلمه عن أبي موسى مع ذبه عن أبي سعيد فقال: والله لقد ملكي الغيظ عن ذلك الجاهل حتى عزب عي رأيي، ولم أجد في الحال شيئاً يشفي غيظي وغلتي منه، فصار ذلك سبباً لسكوتي عنه، فشابهت الحال الحلم وما كان ذلك حلماً، ولكن طلباً لنوع من الاستخفاف لائق به. فوالله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب. وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره، مع كثرة فنونه، وخوافي أسراره؟ وكان أبو موسى هذا من طبرستان، فعد هذا التعصب من مناقب ابن عباد، وحجب أبا موسى بعد ذلك.

ومن عجيب ما مر بي: ما قرأته في كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي، لأبي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي، وكان قد رد فيه على بعض من زعم أن شعر المتنبي مسروق من أبي تمام والبحتري. وله قصيدة عارض بها بعض قصائد المتننبي، وأخذ المغربي يرد عليه فقال: ورأيته قود استشهد بأبي سعيد السيرافي مؤدب الأمير أبي إسحاق بن معز الدولة أبي الحس بن بويه، وذكر أنه أعطاه خطه بأن قصيدته خير من قصيدة أبي الطيب. قال: ومن جعل الحكم في هذا إلى أبي سعيد؟ إنما يحكم في الشعر الشعراء لا المؤدبة. وبمثل هذا جزت سنة العرب في القديم، كات تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ، وتأتي الشعراء من سائر الآفاق فتعرض أشعارها عليه، فيحكم لمن أجاد، وخبره مع حسان وغيره معروف. ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم، لكان أبو علي الفسوي أشعر الناس. وما عرف له من ظم بيت ولا أبيات ولا سمع ذلك منه.
وأما إعطاء أبي سعيد خطه، فيوشك أن يكون من جنب ما حدثني به المعروف بابن الخزاز الوراق ببغداد، وأبو بكر القنطري، وأبو الحسين بن الخراساني، وهما وراقان أيضاً من جلة أهل هذه الصنعة: أن أبا سعيد إذا أراد بيع كتاب - استكتبه بعض تلامذته - حرصاً على النفع منه، ونظراً في رق المعيشة. كتب في آخره وإن لم ينظر في حرف منه.
قال الحسن بن عبد الله: قد قرئ هذا الكتاب علي وصح، ليشترى بأكثر من ثمن مثله. قلت: وهذا ضد ما وصفه به الخطيب من متانة الدين، وتأبيه من أخذ رزق على القضاء، وقناعته بما يحصل من نسخه هذه، والله أعلم بما كان.
مناظرة جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي - رحمة الله عليه -
قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى. واختصرتها فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام، فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه، وبين هذين الشخصين بحضرة أولئك الأعلام، ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي ابن عيسى النحوي الشيخ الصالح، فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة وفيهم الخالدي، وابن الإخشيد، والكندي، وابن أبي بشر، وابن رباح، وابن كعب، وأبو عمرو قدامة بن جعفر، والزهري، وعلي بن عيسى ابن الجراح، وأبو فراس، وابن رشيد، وابن عبد العزيز الهاشمي، وابن يحيى العلوي، ورسول بن طنج من مصر، والمرزباني صاحب بني سامان: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام عليه، واستفدناه من مواضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه، فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته، وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحاراً، وللدي وأهله أنصاراً، وللحق وطلابه مناراً، فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما؟. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصو في الصدور، غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيغة، والعيون المحدقة، والعقول الجامدة، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة غاصة، كالصراع في بقعة خاصة.
فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك، يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمر به هجنة، والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير، - ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن التوفيق والمعونة في الحرب والسلم - . ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعنى به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه، كان كلامنا معك في قبول صوابه، ورد خطئه على سنن مرضي، وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات، يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه كالميزان، فإني أعرف به لارجحان من النقصان، والشائل من الجانح.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. هبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، من لك بمعرفة الموزون؟ أهو حديد أم ذهب، أم شبه أم رصاص؟ وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزو وإلى معرفة قيمته، وسائر صفاته التي يطول عدها. فعلى هذا لم ينفعك الوز الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول: حفظت شيئاً وضاعت منك أشياء وبعد: فقد ذهب عليك شيء ههنا، ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يكال، وفيها ما يوزن، وما يذرع، وفيها ما يسمح، وفيها ما يحزر.
وهذا، وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة، والأجسام ظلال العقول، وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ، والمماثلة الظاهرة، ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها، وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، من أين يلزم الترك، والهند، والفرس، والعرب أن ينظروا فيه، ويتخذوه حكماً لهم وعليهم، وقاضياً بينهم، ما شهد له قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك، لأن المنطق بحق عن الأغراض المعقولة، والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة، والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء.
ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.
قال أبو سعيد: لو كانت المطبوعات بالعقل، والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة، وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة، في أربعة وأربعة أنهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا.
ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال نعم. قال: أخطأت، قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا.
قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، بل إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها، وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها، على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟ قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإ الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما لاتاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص، ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشأ ما نشأ من أنواع العلم، وأصناف الصناعة، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت، وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل:
ألعلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة. وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك، لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطرة الظاهرة، والبنية لامخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم، وهذا جهل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم، يصيبون في أشياء ويخطئو في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال. وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عم قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير. وله مخالفون منهم ومن غيرهم، ومع هذا: فالاختلاف في الراي والنظر، والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرغت بالك، وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها، وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يوان، كما أنك غني عن لغة يونان وههنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم. قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ههنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعي، والتفاوت الأصلي؟ قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً.
قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا، أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به، وتباهى بتفخيمه، وهو الواو، وما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟ فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأن المنطق والنحو، واللفظ والإفصاح، والإعراب والبناء، والحديث والإخبار والاستخبار، والعرض والتمني، والحض والدعاء، والنداء والطلب، كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة. ألا ترى أن رجلاً لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً، وواضعاً للكلام في غير حقه، ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره، والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى، أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان، يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان، لأ مستملي المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيي متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار، ويسلم لك بمقدار، وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقي من الخلة اللاحقة لك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذه: الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

قال أبو سعيد أخطأت: لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وضعها وبنائها، على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا، إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات، كالخطإ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة، على أن ههنا سراً ما علق بك، ولا أسفر لعقلك، وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها، بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها، وحروفها وتأليفها، وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها، ونظمها ونثرها، وسجعها ووزنها وميلها، وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل، أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن نثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف، بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية، على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن الأغراض لا تكون فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا، فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزرى على العربية؟ وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها.
وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها، حال قوم كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي، والاعتقاب والاجتهاد، ما تقول له؟ لا يصح له هذا الحكم، ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل، أكثر مما يفرح باستبداده وإ كان على حق، وهذا هو الجهل المبين، والحكم غير المستبين، ومع هذا فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً، وأن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية، ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل آخر أو اللغة بكمالها، وإن كان لا يجهلها كلها وإنما يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج. وهذه رتبة العامة، أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير؟ فلم يتأبى على هذا وينكر؟ ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة، وخفي القياس وصحيح البرهان. وإنما سألتك عن معاني حرف واحد. فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز؟ وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء، كما يقولون: إن الباء للإلصاق. وإن في تقال على وجوه، يقال: الشيء في الوعاء، والإناء في المكان، والسائس في السياسة، والسياسة في السائس. ألا ترى هذا التشقيق هو من عقول يونان، ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند، والترك، والعرب، فهذا جهل من كل من يدعيه، وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذا قال: في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير، وهو كاف في موضع السكيت.
فقال ابن الفرات: أيها اشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو، حتى تكو أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع ذلك فهو متشيع له.
فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: أكرمت زيداً وعمرواً. ومنها القسم في قولك: والله لقد كان كذا وكذا. ومنها الإستئناف كقولك: خرجت وزيد قائم، لأ الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى رب التي هي للتقليل، نحو قوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق. ومنها: أن تكون أصلية في الاسم كقولك: واقد، واصل، وافد. وفي الفعل كقولك: وجل يوجل. ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه)، أي ناديناه. ومثله قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
المعنى انتحى بها. ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: (ويكلم الناس في المهد وكهلاً)، أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته. ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك: استوى الماء والخشبة، أي مع الخشبة.

فقال ابن الفرات لمتى. يأبا بشر، أكان هذا في نحوك؟ ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ههنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الإخوة؟ قال صحيح. قال: فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته؟ قال صحيح. قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلح وجنح وعصب ريقه.
فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى: جوابك عنها صحيح، وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها. والمسألة الثانية: جوابك عنها غير صحيح، وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها. قال متى: بين، ما هذا التهجين؟ قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، بل هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه. والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعى أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعني؟ والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ. هذا كان يصح لو كان المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد في الوهم السياح، والخاطر العارضي، والحدس الطارئ.
وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقاً لغرضه، وموافقاً لقصده.
قال ابن الفرات: يا أبا سعيد، تمم لنا كلامك في شرح المسألة، حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل.
قال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك، وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت: زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت: زيد أفضل الإخوة جاز، والفصل بينهما: أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج من جملتهم، دليل ذلك، أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد؟ لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد، وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن يكون أفضل إخوته، كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال، لأن الحمار غير البغال. كما أن زيداً غير إخوته. فإذ قلت: زيد أفضل الإخوة جاز. لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة. ألا ترى أنه لو قيل من الإخوة؟ عددته فيهم، فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير. فلما كان على ما وصفنا، جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس فتقول: زيد أفضل رجل، وحمارك أفره حمار، فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال، وكما في عشرين درهماً ومائة درهم.
فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد.
فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطإ في ذلك وإن زاغ شيء عن النعت، فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل، فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عليهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع، والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم. فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون، بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ مثال ذلك أنك تقول: هذا ثوب، والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً، ثم به نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ودقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره، والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال: لهذا علي درهم غير قيراط؟ قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست ازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ههنا ما هو أخف من هذا.
قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين؟ بين هذه المعاني التي تضمنها لفظاً لفظاً. قال متى: لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق شيئاً لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها، ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب، كالسبب والآلة، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والعموم والخصوص، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب، وفي الفهاهة أذهب. ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، وتدعون الشعر ولا تعرفونه، وتدعو الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان، فإن كان كما قال، فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ هذا كله تخليط وزرق، وتهويل ورعد وبرق. وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً، وتستئذلوا عزيزاً. وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع، والخاصة والفصل، والعرض والشخص، وتقولوا: الهلية والأيية، والماهية والكيفية والكمية، والذاتية والعرضية، والجوهرية والهيولية، والصورية والإنسية، والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولو: جئنا بالسحر في قولنا: لا شيء من باء وواو وجيم، في بعض باء وفاء في بعض جيم، وإلا في كل ب و ج في كل ب، فا، إذاً لا في كل ج، وهذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص، وهذه كلها جزافات وترهات، ومغالق، وشبكات، ومن جاد عقله وحسن تمييزه، ولطف نظره، وثقب رأيه، وأنارت نفسه، استغنى عن هذا كله، بعون الله وفضله. وجودة العقل وحسن التمييز، ولطف النظر وثقوب الرأي، وإنارة النفس من منائح الله الهنية، ومواهبه السنية، يختص بها من يشاء من عباده. وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً، وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم، وتتبع طريقكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أ تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف أغراضنا، ولا وقف على مرادنا، وإنما تكلم على وهم، وهذا منكم لجاجة ونكول، ورضىً بالعجز والكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض. هذا قولكم في فعل وينفعل، ولم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل، وقبول الفعل من ينفعل، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة.

فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه قال ولا مجال، وأنت إذا قلت لإنسان: كن منطقياً فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً، أو اعقل ما تقول، لأن أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول، لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك آخر: كن نحوياً لغوياً فصيحاً، فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك، وقدر اللفظ على المعنى فلا ينقص عنه. هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد، فاجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وسدد المعاني بالبلاغة، أعني لوح منها شيئاً حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه، عز وجل، وكرم وعلا، واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أن يمترى فيه، أو يتعب في فهمه، أو ينزح عنه لاغتماضه، فبهذا المعنى يكون جامعاً لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس، على أني لا أدري، أيؤثر ما أقول أم لا؟ ثم قال: حدثنا، هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أم رفعتم الخلاف بين اثنين؟؟ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحق ما تقوله؟ هيهات، ههنا أمور ترفع عن دعوى أصحابك وهذياهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم، ودع هذا. ههنا مسألة قد أوقعت خلافاً، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك. قال قائل: لفلان من الحائط إلى الحائط. ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معاً وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كل منهما. وقال آخرو: له أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأني لك بهما؟ وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك. ودع هذا أيضاً. قال قائل: من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم كذب، ومنه ما هو خطأ، فسر هذه الجملة. واعترض عليه عالم آخر فاحكم أنت بين القائل والمعترض، وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل. فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصل على اعتراضه؟. قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له، ثم أوضح الحق منهما، لأ الأصل مسموع لك حاصل عندك. وما يصح به أو يطرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة، فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل. والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة، وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان، أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج، ولا شيئاص من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بهذا المنطق، وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم، ووقفت على غورهم في فكرهم، وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة، والكنايات المفيدة، والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتتابعوا عليه، أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل. أليس الكندي وهو علم من أصحابكم، يقول في جواب مسألة: هذا من باب عدة. فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتى وضعوا له مسائل من هذا، وغالطوه بها، وأروه من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد أنه مريض العقل، فاسد المزاج، حائل الغريزة، مشوش اللب، قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام وتضاغط الأركان، هل يدخل في باب وجوب الإمكان، أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟.

وقالوا له أيضاً: ما تشبيه الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلة له على غاية الإحكام؟ ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان، عند امتناع الواجب من وجوبه، في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله. وعلى هذا، فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة، والضعف والفساد، والفسالة والسخف، ولولا التوقي من التطويل، لسردت ذلك كله. ولقد مر بي في خطة: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول، والاتفاق في الفروع. وكل ما يكون على هذا النهج، فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال السرية. ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدو، ويغم الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات اليونان وفوائد الفلسفة والمنطق. ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل - إنه سميع مجيب - .
قال أبو حيان: هذا آخر ما كتبت عن علي بن عيسي اشيخ الصالح بإملائه، وكان أبو سعيد روى لمعاً من هذه القصة، وكان يقول: لم أحفظ على نفسي كل ما قلت، ولكن كتب ذلك القوم الذي حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً، وقد اختل كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوض المجلس، وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف، ووجهه المتهلل، وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكباداً، وأقررت عيوناً، وبيضت وجوهاً، وحكت طرازاً لا تبليه الأزمان، ولا يتطرقه الحدثان.
قال: قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ؟ قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه، هذا مع السمت والوقار، والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقل من تظاهر وتحلى بحليته إلا جل في العيون، وعظم في الصدور والنفوس، وأحبته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة. وقلت لعلي بن عيسى، أكان أبو علي الفسوي حاضراً في المجلس؟ قال: لا، كان غائباً وحدث بما كان. وكان الحمد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.
قال أبو حيان: وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئاً كان في نفسي، وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه، أين أبو سعيد من أبي علي؟ وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين المراغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان؟ وابن الوراق وابن حيويه؟ فكان من الجواب ما تقدم ذكره.
ونظير خبر أبي سعيد مع متى، خبره أيضاً مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري، ذكره أبو حيان أيضاً قال: لما ورد أبو الفتح بن العميد إلى بغداد، وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه، ووصل أبا سعيد السيرافي، وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال، كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد ابن العميد.
قال أبو حيان: انعقد المجلس في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وغص بأهله، فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله؟ فعجب الناس من هذه المطالبة، ونزل بأبي سعيد ما كاد به يشك فيه، فأنطقه الله بالسحر الحلال، وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمي!. فقال:
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأن مع السكوت لبابة ... ومن التكلم ما يكون خبالا
والله يا شيخ، لعينك أكبر من فرارك، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنثورك أبين من منظومك، فما هذا الذي طوعت له نفسك، وسدد عليه رأيك؟ إني أظن أن السلامة بالسكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك، والله المستعان. فقال ابن العميد، وقد أعجب بما قال أبو سعيد:
فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... إذا الخطباء الصيد عضل قيلها
جهير وممتد العنان مناقد ... بصير بعورات الكلام خبيرها
وقوله:
القائل القول الرفيع الذي ... يمرع منمه البلد الماحل
والتفت إلى العامري فقال:

وإن لساناً لم يعنه لبابه ... كحاطب ليل يجمع الرذل حاطبه
وذي خطل بالقول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
وفي الصمت ستر وهو أولى بذي الحجى ... إذا لم يكن للنطق وجه ومذهب
ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال: لسنا من كلام أصحابك في الفريضة.
قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد: أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا؟ الكبير في أنفسنا، قال: ما دهيت قط بمثل ما دهيت به اليوم، لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب شرح كتاب المنطق سنة عشرين وثلاثمائة، في مجلس أبي جعفر ابن الفرات مناظرة، كانت هذه أشوس وأشرس منها.
الحسن بن عبد الله بن سعيد،
ابن زيد بن حكيم العسكري، أبو أحمد اللغوي العلامة. مولده يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال، سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ومات سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. قال السلفي الحافظ: على ما سمعت أبا عامر غالب بن علي بن غالب الفقيه الأستراباذي بقصر روناش يقول: رأيت بخط أبي حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان اللغوي العسكري مكتوباً: توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري يوم الجمعة، لسبع خلون من ذي الحجة، سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
قال مؤلف الكتاب: وطال تطوافي وكثر تسآلي عن العسكريين، أبي أحمد وأبي هلال، فلم ألق من يخبرني عنهما بجلية خبر، حتى وردت دمشق في سنة اثنتي عشرة وستمائة في جمادى الآخرة، ففاوضت الحافظ تقي الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، النضاري المصري، - أسعده الله بطاعته فيهما - فذكر لي أن الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم السلفي الأصبهاني لما ورد إلى دمشق، سئل عنهما فأجاب فيهما بجواب لا يقوم به إلا مثله من أئمة العلم، وأولي الفضل والفهم، فسألته أن يفيدني في ذلك ففعل متفضلاً، فكتبته على صورة ما أورده السلفي غير المولد والوفاة، فإنه كان في آخر أخبار أبي أحمد، فقدمته على عادتي. وأخبرني بذلك عن السلفي جماعة: منهم الأسعد محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الله العامري المقدسي، والنبيه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاعري، وغيرهما إجازة: قال أبو طاهر السلفي: دخل إلى الشيخ الأمين أبو محمد هبة الله بن أحمد بن الأكفاني بدمشق، سنة عشرة وخمسمائة، وجرى ذكر أبي أحمد العسكري، فذكرت فيه ما يحتمل الوقت، وبعد خروجه كتبت إليه بعد البسملة: أما بعد حمد الله العي، والصلاة على المصطفى النبي، فقد جرى اليوم ذكر الشيخ المرضي، أبي أحمد العسكري، وأنشدت للصاحب الكافي لله شعراً، خاله سيدي سحراً، ورام - حرس الله نمته، وكبت بالذل عندته - إثباته بتمامه، فاشتغلت به بعد نهوضه وقيامه، وأضفت إليه وإلى ذكر الشيخ أبي أحمد زيادة تعريف ليقف على جلية حاله، كأنه ينظر إليه نم وراء ستر لطيف. فليعلم - أطال الله لكافة الأنام بقاءه، ولا سلبهم ظله وبهاءه - : أن الشيخ أبا أحمد هذا، كان من الأئمة المذكورين بالتصرف في أنواع الفنون، والتبحر في فنو الفهوم، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف. ومن جملته: كتاب صناعة الشعر رأيته، كتاب الحكم والأمثال، كتاب راحة الأرواح، كتاب الزواجر والمواعظ، كتاب تصحيح الوجوه والنظائر. وكان قد سمع ببغداد والبصرة وأصبهان وغيرها من شيخته، وفي عدادهم أبو القاسم البغوي، وابن أبي داود السجستاني، وأكثر عنهم وبالغ في الكتابة، وبقي حتى علا به السن، واشتهر في الآفاق بالدراية والإتقان، وانتهت إليه رياسة التحديث، والإملاء للآداب والتدريس، بقطر خوزستان. ورحل الأجلاء إليه للأخذ عنه، والقراءة عليه. وكان يملي بالعسكر، وتستر ومدن ناحيته: ما يختاره من عالي روايته عن متقدمي شيوخه. ومنهم أبو محمد عبدان الأهوازي، وأبو بكر بن دريد، ونفطويه، وأبو جعفر ابن زهير ونظراؤهم.

ومن متأخري أصحابه الذين رووا عنه الحديث ومتقدميهم أيضاً فإني ذكرتهم على غير رتبهم كما جاء لا كما يجب: أبو عباد الصائغ التستري، وذو النون بن محمد، والحسين بن أحمد الجهرمي، وابن العطار الشروطي الأصبهاني، وأبو بكر أحمد بن محمد بن جعفر الأصبهاني المعروف باليزدي، وأبو الحسين علي بن أحمد بن الحسن البصري المعروف بالنعيمي الفقيه الحافظ، وأبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأهوازي نزيل دمشق، إلا أنه قد انقلب عليه اسمه فيقول في تصانيفه: أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن الحسن بن سعيد النحوي بعسكر مكرم قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري ونميره، وهو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري لا عبد الله بن الحسن: وقد روى عنه أبو سعد أحمد بن محمد بن عبد الله بن الخليل الماليني، وأبو الحسين محمد ابن الحسن بن أحمد الأهوازي شيخاً أبي بكر الخطيب الحافظ البغدادي، وخلق سواهم لا يحصون كثرة، لم أثبت اسماءهم احترازاً من وهم ما، واحتياطاً لبعد العهد بروايات تلك الديار. والنعيمي والأهوازي روى عنهما الخطيب أيضاً، وكذلك روى عن أبي نعيم الأصفهاني الحافظ. وقد روى أبو نعيم عن أبي أحمد كثيراً.
وممن روى عن أبي أحمد من أقران أبي نعيم: أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الوادعي، وعبد الواحد بن أحمد ابن محمد الباطرقاني، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن زنجويه الأصفهانيون، وأبو عبد الله محمد بن منصور بن جيكان التستري، والقاضي أبو الحسن علي بن عمر بن موسى الأيذجي، وأبو سعيد الحسن بن علي بن بحر السقطي التستري.
وروى عنه ممن هو أكبر من هؤلاء سناً وأقدم موتاً: أبو محمد خلف بن محمد بن علي الواسطي، وأبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي المعروف باللبان، وهما من حفاظ الحديث.
وقد روى عنه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي بخراسان بالأجازة، وكذلك القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتكلم بالعراق، وقد وقع حديثه لي عالياً من طرق عدة. فمن ذلك حكاية رأيتها الآن معي في جزء من تخريجي بخطي وهي: أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ابن أحمد الصيرفي ببغداد، حدثنا الحسن بن علي بن أحمد التستري من لفظه بالبصرة، حدثنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري إملاء بتستر، حدثنا العباس ابن الوليد بن شجاع بأصبهان، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا محمد بن عمرو بن مكرم، حدثني عتبة بن حميد قال: قال بشر بن الحارث لما ماتت أخته: إذا قصر العبد في طاعة ربه سلبه أنيسه. قال أبو أحمد العسكري في كتاب شرح التصحيف من تصنيفه، وقد ذكر ما يشكل ويصحف من أسماء الشعراء فقال: وهذا باب صعب لا يكاد يضبطه إلا كثير الرواية، غزير الدراية.
وقال أبو الحسن علي بن عبدوس الأرجاني - رحمه الله - وكان فاضلاً متقدماً وقد نظر في كتابي هذا، فلما بلغ إلى هذا الباب قال لي: كم عدة أسماء الشعراء الذين ذكرتهم. قلت: مائة ونيف. فقال: إني لأعجب كيف استتب لك هذا؟! فقد كنا ببغداد والعلماء بها متوفرون. وذكر أبا إسحاق الزجاج، وأبا موسى الحامض، وأبا بكر الأنباري، واليزيدي، وغيرهم. فاختلفنا في اسم شاعر واحد وهو حريث بن مخفض، وكتبنا أربع رقاع إلى أربعة من العلماء، فأجاب كل واحد منهم بما يخالف الآخر. فقال بعضهم: مخفض بالخاء والضاد المعجمتين. وقال بعضهم: محفص بالحاء والصاد غير معجمتين، وقال آخر: ابن مخفض. فقلنا: ليس لهذا إلا أبو بكر بن دريد، فقصدناه في منزله وعرفناه ما جرى.
فقال ابن دريد: أين يذهب بكم؟ هذا مشهور، هو حريث بن محفض بالحاء غير معجمة مفتوحة والفاء مشددة والضاد منقوطة، هو من بني تميم، ثم من بني مازن بن عمرو بن تميم وهو القائل:
ألم تر قومي إن دعوا لملمة ... أجابوا، وإن أغضب على القوم يغضبوا
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظاً ... لقومي أخرى مثلها إن تغيبوا
بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا
وتمثل الحجاج بهذه الأبيات على منتزه فقال: أنتم يأهل الشاعم كما قال حريث بن محفض - وذكر هذه الأبيات - فقام حريث بن محفض فقال: أنا والله حريث ابن محفض. قال: فما حملك أن سابقتني؟ قال: لم أتمالك إذ تمثل الأمير بشعري حتى أعلمته مكاني.

ثم قال أبو الحسن بن عبدوس: فلم يفرج عنا غيره. قال أبو أحمد: واجتمع يوماً في منزلي بالبصرة أبو رياش وأبو الحسين بن لنكك - رحمهما الله - فتقاولا، فكان فيما قال أبو رياش لأبي الحسين: أنت كيف تحكم على الشعر والشعراء وليس تفرق بين الزفيان والرقبان؟ فأجاب أبو الحسين ولم يقنع ذاك أبا رياش، وقاما على شغب وجدال.
قال أبو أحمد: فأما الرقبان بالراء والقاف وتحت الباء نقطة: فشاعر جاهلي قديم يقال له أشعر الرقبان وأما الزفيان بالزاي والفاء وتحت الياء نقطتان: فهو من بني تميم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم يعرف بالزفيان السعدي، راجز كثير الشعر، وكان على عهد جعفر بن سليمان، وهو الزفيان بن مالك بن عوافة القائل:
وصاحبي ذات هباب دمشق ... كأنها بعد الكلال زورق
قال: وذكر أبو حاتم آخر يقال له الزفيان، وأنه كان مع خالد بن الوليد حين أقبل من البحرين، فقال:
تهدى إذا خوت النجوم صدورها ... ببنات نعش أو بضوء الفرقد
فقد أخبرنا به أبو الحسين بن الطيوري ببغداد قال: حدثنا أبو سعيد السقطي بالبصرة قال: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل بن زيد بن حكيم العسكري إملاء سنة ثمانين وثلاثمائة بتستر، فذكر مجالس من أماليه هي عندي، وقرأت على أبي علي أحمد بن الفضل بن شهريار بأصبها عن السقطي: هذه فوائد عن أبي أحمد وغيره. وأما الأبيات المقصودة فعندي في أجزاء أذربيجان على نسق لا أذكر موضعها، إلا أن فيها قصة معناها: أن الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الوزير، كان يتمنى لقاء أبي أحمد العسكري، ويكاتبه على ممر الأوقات، ويستميل قلبه فيعتل عليه بالشيخوخة والكبر، إذ عرف أنه يعرض بالقصد إليه والوفود عليه. فلما يئس منه احتال في جذب السلطان إلى ذلك الصوب وكتب إليه حين قرب من عسكر مكرم كتاباً يتضمن علوماً نظماً ونثراً، ومما ضمنه من المنظوم قوله:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخدان
أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرىً لنزيلكم؟ ... بملء جفون لا بملء جفان
فلما قرأ أبو أحمد الكتاب، أقعد تلميذاً له فأملى عليه الجواب عن النثر نثراً، وعن النظم نظماً، وبعث به إليه في الحال، وكان في آخر جواب أبياته التي ذكر على الحال: وقد حيل بين العير والنزوان وهو تضمين، إلا أن الصاحب استحسنه ووقع ذلك منه موقعاً عظيماً وقال: لو عرفت أن هذا المصراع يقع في هذه القافية لم أتعرض لها، وكنت قد ذهلت عنه وذهب علي. ثم إن أبا أحمد قصده وقت حلوله بعسكر مكرم بلده ومعه أعيان أصحابه وتلامذته في ساعة لا يمكن الوصول إليه إلا لمثله، وأقبل عليه بالكلية بعد أن أقعده في أرفع موضع من مجلسه، وتفاوضا في مسائل فزادت منزلته عنده، وأخذ أبو أحمد منه بالحظ الأوفر، وأدر على المتصلين به إدراراً كانوا يأخذونه إلى أن توفي. - وبعد وفاته أيضاً فيما أظن - ، ولما نعي إليه أنشد فيه:
قالوا مضى الشيخ أبو أحمد ... وقد رثوه بضروب الندب
فقلت: ما من فقد شيخ مضى ... لكنه فقد فنون الأدب
ثم ذكر السلفي وفاته كما تقدم، هذا آخر ما ذكره من خبر أبي أحمد، هذا كله من كتاب السلفي، ثم وجدت ما أنبأني به أبو الفرج بن الجوزي عن ابن ناصر ع أبي زكريا التبريزي، وعن أبي عبد الله بن الحسن الحلواني، عن أبي الحسن علي بن المظفر البندنيجي قال: كنت أقرأ بالبصرة على الشيوخ، فلما دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة إلى الأهواز، بلغني حال أبي أحمد العسكري، فقصدته وقرأت عليه، فوصل فخر الدولة والصاحب بن عباد، فبينا نحن جلوس نقرأ عليه وصل إليه ركابي ومعه رقعة ففضها وقرأها وكتب على ظهرها جوابها، فقلت أيها الشيخ: ما هذه الرقعة؟ فقال: رقعة الصاحب كتب إلي:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخدان
الأبيات الثلاثة المتقدمة. قلت: فما كتبت إليه في الجواب؟ قال قلت:
أروم نهوضاً ثم يثني عزيمتي ... تعوذ أعضائي من الرجفان
فضمنت بيت ابن الشريد كأنما ... تعمد تشبيهي به وعناني

أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
قال: ثم نهض وقال: لابد من الحمل على النفس، فإن الصاحب لا يقنعه هذا، وركب بغلة وقصده، فلم يتمكن من الوصول إلى الصاحب لاستيلاء الحشم، فصعد تلعة ورفع صوته بقول أبي تمام.
مالي أرى القبة الفيحاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها
كأنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
قال: فناداه الصاحب: ادخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الأولى، فتبادر إليه أصحابه فحملوه حتى جلس بين يديه، فسأله عن مسألة فقال أبو أحمد: الخبير صادفت، فقال الصاحب يا أبا أحمد: تغرب في كل شيء حتى في المثل السائر؟ فقال: تفاءلت عن السقوط بحضرة مولانا وإنما كلام العرب سقطت، ووجدت بعد ذلك أنه توفي في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو أحمد العسكري بالبصرة، قال: كان أبو جعفر المجوسي عامل البصرة رجلاً واسع النفس، وكان يتعاهد الشعراء ويراعيهم، مثل العصفري والنهرجوري وغيرهم وهم يهجونه، وكان هذا - وهذان خصوصاً - من أوضاعهم، وقد رأيت النهرجوري قال: فلما مات أبو الفرج رثاه النهرجوري بقوله:
يا ليت شعري وليت ربما ... صحت فكانت لنا من العبر
هل أرين شوثناً وأمته ... رابكة حوله على البقر
يقدمهم أربعون لبسهم ... مع حلية الحرب حلة النمر
وأنت فيهم قد ابترزت لنا ... كالشمس في نروها أو القمر
قد نكحوا الأمهات واتكلوا ... على عقيق الأبوال في الطهر
وشارفوا والنساء قد ولدت ... غسل مضاريطها من الوضر
وأصبحوا أشبه البرية بالظ ... ظرف وأولى بكل مفتخر
شوثن عند المجوس، يجري مجرى المهدي، ويزعمون أنه يخرج وقدامه أربعون نفساً، على كل منهم جلد النمر، فيعيدون دين النور. قال: فقلت يا أبا أحمد، هذه بالهجاء أشبه منها بالمرثية بكثير. قال: هكذا قصد النهرجوري - لا بارك الله فيه - وقد عاتبته وقلت له: ما استحق أبو جعفر هذا منك. فقال: ما تعديت مذهبه الذي يعترف به.
ووجدت في تاريخ أصفهان من تأليف الحافظ أبي نعيم قال: الحسن بن عبد الله بن سعيد بن الحسين، ابو أحمد العسكري الأديب أخو أبي علي قدم أصبهان قديماً، وسمع من الفضل بن الخصيب وسمع عنه أبي وابن زهير وغيرهما، تأخر موته توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
الحسن بن عبد الله بن سهلابن سعيد بن يحيى، بن مهران، أبو هلال اللغوي العسكري. قال أبو طاهر السلفي: وكان لأبي أحمد تلميذ وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، وهو عسكري أيضاً، فربما اشتبه ذكره بذكره إذا قيل الحسن بن عبد الله العسكري الأديب، فهو أبو هلال الحسن بن عبد الله ابن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران اللغوي العسكري، سألت الرئيس أبا المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي - رحمه الله - بهمذان عنه، فأثنى عليه ووصفه بالعلم والفقه معاً وقال: كان يبرز احترازاً من الطمع والدناءة والتبذل، وذك فيه فصلاً هو في سؤالاتي عنه، وكان الغالب عليه الأدب والشعر. وله في اللغة: كتاب سماه بالتلخيص وهو كتاب مفيد، وكتاب صناعتي النظم والنثر وهو أيضاً كتاب مفيد جداً، ومن جملة من روى عنه أبو سعد السمان الحافظ بالري، وأبو الغنائم بن حماد المقرئ إملاء.
وأنشدني أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري لنفسه:
قد تخطاك شباب ... وتغشاك مشيب
فأتى ما ليس يمضي ... ومضى ما لا يئوب
فتأهب لسقام ... ليس يشفيه طبيب
لا توهمه بعيداً ... إنما الآتي قريب
ومما أنشدنا القاضي أبو أحمد الموحد بن محمد بن عبد الواحد الحنفي بتستر قال: أنشدنا ابو حكيم أحمد ابن إسماعيل العسكري قال: أنشدناه أبو هلال الحسن ابن عبد الله بن سهل اللغوي لنفسه بالعسكر:
إذا كان مالي مال من يلقط العجم ... وحالي فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعي بالأصالة والحجى ... وما ربحت كفي من العلم والحكم؟
ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي ... فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم

ومما أنشدنا القاضي أبو أحمد الحنفي بتستر قال: أنشدنا أبو حكيم اللغوي قال: أنشدنا أبو هلال العسكري لنفسه:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم تذل كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة كسوتي ... هجاء قبيحاً ما عليه مزيد
ومما أنشدناه أبو غالب الحسين بن أحمد بن الحسين القاضي بالسوس قال: أنشدنا المظفر بن طاهر بن الجراح الأستراباذي قال: أنشدني أبو هلال الحسن بن عبد الله ابن سهل اللغوي العسكري لنفسه:
يا هلالاً من القصور تدلى ... صام وجهي لمقلتيه وصلى
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى؟؟
لو تفرغت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت مخلاً
هذا آخر ما ذكره السلفي من حال أبي هلال. قال مؤلف الكتاب: وهذه الأبيات الأخيرة التي منها:
لست أدري أطال ليلي أم لا
والبيت الذي بعده رأيته في بعض الكتب منسوباً إلى خالد الكاتب والله أعلم. هذا عن السلفي. وذكر غيره: أن أبا هلال كان ابن أخت أبي أحمد، وله من الكتب بعد ما ذكره السلفي: كتاب جمهرة الأمثال، كتاب معاني الأدب، كتاب من احتكم من الخلفاء إلى القضاة، كتاب التبصرة وهو كتاب مفيد، كتاب شرح الحماسة، كتاب الدرهم والدينار، كتاب المحاسن في تفسير القرآن خمس مجلدات، كتاب العمدة، كتاب فضل العطاء على العسر، كتاب ما تحلن فيه الخاصة، كتاب أعلام المعاني في معاني الشعر، كتاب الأوائل، كتاب ديوان شعره، كتاب الفرق بين المعاني، كتاب نوادر الواحد والجمع. قال المؤلف: وأما وفاته فلم يبلغني فيها شيء، غير أني وجدت في آخر كتاب الأوائل من تصنيفه: وفرغنا من إملاء هذا الكتاب يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. ولبعضهم:
وأحسن ما قرأت على كتاب ... بخط العسكري أبي هلال
فلو أني جعلت أمير جيش ... لما قاتلت إلا بالسؤال
فإن الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا لأطراف العوالي
وقال أبو هلال العسكري في تفضيل الشتاء على غيره من الأزمة:
فترت صبوتي وأقصر شجوي ... وأتاني السرور من كل نحو
إن روح الشتاء خلص روحي ... من حرور تشوي الوجوه وتكوي
برد الماء والهوا وكأن قد ... سرق البرد من جوانح خلو
ريحه تلمس الصدور فتشفي ... وغماماته تصوب فتروي
لست أنسى منه دماثة دجن ... ثم من بعده نضارة صحو
وجنوباً يبشر الأرض بالقط ... ر كما بشر العليل ببرو
وغيوماً مطرزات الحواشي ... بوميض من البروق وخفو
كلما أرخت السماء عراها ... جمع القطر بين سفل وعلو
وهي تعطيك حين هبت شمالاً ... برد ماء فيها ورقة جو
وترى الأرض في ملاءة ثلج ... مثل ريط لبسته فوق فرو
فاستعار العرار منها لباساً ... سوف يمنى من الرياح بنضو
فكأن الكافور موضع ترب ... وكأن الجمان موضع فرو
وليال أطلن مدة درسي ... مثلما قد مددن في عمر لهوي
مر لي بعضها بفقه وبعض ... بين شعر أخذت فيه ونحو
وحديث كأنه عقد ريا ... بت أرويه للرجال وتروى
في حديث الرجال روضة أنس ... بات يرعى بأهل نبل وسرو
الحسن بن عبد الله العثماني

أبو علي النيسابوري. ذكره عبد الغافر في كتاب السياق وقال: إنه مات في شهور سنة نيف وسبعين وأربعمائة. ووصفه فقال: هو الإمام الكامل البارع في فنه، المعجز في نكته، له التصانيف المشهورة في التذكير والخطب وطرف الأشعار والرسائل والموشحات الغريبة، والصناعات البديعة، والترصيعات الرشيقة في النظم والنثر، بحيث يستفيد منها الأكابر والأماثل، ويستضيء بنورها البلغاء في المحافل. تفقه على الجويني، ثم انتقل إلى ناحية بشت وسكنها، ووافى بها قيولاً بالغاً، فصار مشاراً إليه في عصره تحترمه الصدور. قال: وافيت الناحية فرأيت ازدحاماً على قبره في الموسم وتناحراً عليه، وكان أكثر ميله إلى مقولاته في تصانيفه ومجموعاته نظماً ونثراً دون المنقول.
الجزء التاسع
الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزيأبو محمد القاضي. ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: هو حسن التصنيف مليح التأليف، سلك طريقة الجاحظ وكان شاعراً، وقد سمع الحديث ورواه.
مات في حدود سنة ستين وثلاثمائةٍ. قال: وله من الكتب: كتاب ربيع المتيم في أخبار العشاق. كتاب الفلك في مختار الأخبار والأشعار. كتاب أمثال النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب الريحانتين الحسن والحسين. كتاب إمام التنزيل في علم القرآن. كتاب النوادر والشوارد. كتاب أدب الناطق. كتاب المرائي والتعازي. كتاب رسالة السفر. كتاب مباسطة الوزراء. كتاب المناهل والأعطان والحنين إلى الأوطان. كتاب الفاصل بين الراوي والواعي.
وكان القاضي الخلادي من أقران القاضي التنوخي، وقد مدح عضد الدولة أبا شجاعٍ بمدائح، وبينه وبين الوزير المهلبي وأبي الفضل بن العميد مكاتبات ومجاوبات، منها ما نقلته من مزيد التاريخ لأبي الحسن محمد بن سليمان بن محمدٍ، الذي زاده على تاريخ السلامي في ولاة خراسان.
قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم قال: لما استوزر أبو محمد المهلبي كتب إليه أبو محمد الخلادي في التهنئة: " بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله مانح الجزيل، ومعود الجميل، ذي المن العظيم، والبلاء الجسيم:
الآن حين تعاطى القوس باريها ... وأبصر السمت في ظلماء ساريها
الآن عاد إلى الدنيا مهلبها ... سيف الخلافة بل مصباح داجيها
أضحى الوزراة تزهى في مواكبها ... زهو الرياض إذا جاءت غواديها
تاهت علينا بميمون نقيبته ... قلت لمقداره الدنيا وما فيها
موفق الرأي مقرون بغرته ... نجم السعادة يرعاها ويحميها
معز دولتها هنئتها فلقد ... أيدتها بوثيق من رواسيها
تهنئة مثلى من أولياء الوزير - أطال الله بقاءه - الدعاء أفضله ما صدر عن نيةٍ لا يرتاب بها ولا يخشى مذقها، وكان غيب صاحبه أفضل من مشهده، فهنأ الله الوزير كرامته، وأحلى له ثمرة ما منحه، وأحمد بدأه وعاقبته، ومفتتحه وخاتمته، حتى تتصل المواهب عنده اتصالاً في مستقبله ومستأنفه يوفى على متقدمه بمنه.
وكتابي هذا - أيد الله الوزير - من المنزل برامهرمز، وأنا عقيب علةٍ ومنحةٍ، ولولا ذلك لم أتأخر عن حضرته - أجلها الله - مهنئاً ومسلماً، فإن رأى الوزير شرفني بجواب هذا الكتاب. فكتب إليه المهلبي جوابه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتابك يا أخي - أطال الله بقاءك، وأدام عزك وتأييدك ونعماك - المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء وفهمته، ووقع ما أهديته من نظمٍ ونثرٍ وخطابٍ وشعرٍ، موقع الري من ذي الغلة، والشفاء من ذي العلة، والفوز من ذي الخيبة، والأدب من ذي الغيبة، وما ضاءت حال إلا وأنت الأولى بسرورها، والأغبط بحبورها، إذ كنت شريك النفس في السراء وماسيها في الضراء، وتكلفت الإجابة عما نظمت على كثرة من الشغل ألا عنك، وزهدٍ في المطاولة إلا فيك. والعذر في تقصيرها عن الغاية واضح، ودليل العجلة فيها لائح، وأنت بمواصلتي بكتبك وأخبارك وأوطارك مسؤول، والجرى على عادتك المأثورة وسيرتك المشكورة مأمول، وأنا والله على أفضل عهدك، وأحسن ظنك، وأوكد ثقتك، ومشتاق إليك:
مواهب الله عندي لا يوازيها ... سعي ومجهود وسعى لا يدانيها
لكن أقصى المدى شكري لأنعمه ... وتلك أفضل قربى عند مؤتيها

والله أسأل توفيقاً لطاعته ... حتى يوافق فعلى أمره فيها
وقد أتتني أبيات مهذبة ... ظريفة جزلة وقت حواشيها
ضمنتها حسن أوصافٍ وتهنئةٍ ... أنت المهنى بباديها وتاليها
ودعوة صدرت عن نيةٍ خلصت ... لا شك فيها أجاب الله داعيها
وأنت أوثق موثوقٍ بنيته ... وأقرب الناس من حالٍ نرجيها
فثق بنيل المنى في كل منزلةٍ ... أصبحت تعمرها عندي وتبنيها
وكتب أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد إلى القاضي أبي محمد الخلادي: بسم الله الرحمن الرحيم: أيها القاضي الفاضل - أطال الله بقاك، وأدام عزك ونعماك - . من أسر داءه وستر ظماءه، بعد عليه أن يبل من غلته، وقد غمرني منذ قرأت كتابك إلى الشريف - أيده الله - شوق استجذب نفسي واستفزها، ومد جوانحي وهزها، ولا شفاء إلا قربك ومجالستك، ولا دواء إلا طلعتك ومؤانستك، ولا وصول إلى ذلك إلا بزيارتك أو استزارتك، فإن رأيت أن تؤثر أخفهما عليك، وتعلمني آثرهما لديك، وتقوم ما ألبسته في ذلك فعلت، فإني أراعيه أشد المراعاة، وأتطلعه في كل الأوقات، وأعد على الفوز به الساعات. فأجابه الخلادي: " بسم الله الرحمن الرحيم " : قرأت التوقيع - أطال الله الأستاذ الرئيس - فشحذ الفطنة وآنس الوحدة، وألبس العزة وأفاد البهجة، وقلت كما قال رؤبة، لما استزاره أبو مسلمٍ صاحب الدعوة:
لبيك إذا دعوتني لبيكا ... أحمد ربي سابقاً إليكا
فأما الإجابة عن أفصح بيانٍ خط بأكرم بنانٍ، وأوضح للزهر المؤنق لمالك رقاب المنطق، فما أنا منها بقريب وهيهات وأنى لي التناوش من مكانٍ بعيدٍ لكني على الأثر، ولا أتأخر عن الوقت المنتظر، إن شاء الله تعالى.
قال: وكان أبو محمدٍ الخلادي ملازماً لمنزله، قليل البروز لحاجته. وقيل له في ذلك: فروى عن أبي الدرداء: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيه سمعه وبصره. وروى عن ابن سيرين أنه قال: العزلة عبادة. وقال: خلاؤك أقنى لحياتك. وقال: عز الرجل في استغنائه عن الناس، والوحدة خير من جليس لبسوء. وأنشد لابن قيس الرقيات:
اهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تلق السعود إذا ما كنت منفردا
ليت السباعلنا كانت معاشرةً ... وإننا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا
ثم صار الخلادي إلى أبي الفضل بن العميد، فلما فتشه شاهد منه علماً غزيراً، وقبس أدباً كثيراً. وقال الخلادي: إن أعجب الأستاذ معرفتي صحبته، وتعلقت به وأقمت عنده وبين يديه. وكتب الخلادي إلى منزله برامهرمز: " بسم الله الرحمن الرحيم " : قد وردت من الأستاذ الرئيس على ضياء باهرٍ، وربيع زاهرٍ، ومجلس قد استغرق جميع المحاسن، وحف بالأشراف والأكارم، وجلساء أقرانٍ أعداد عامٍ، كأنهم نجوم السماء، ومن طالبيٍ أرج المعاطف، وصلب المكاسر، جامعٍ إلى شرف الحسب ديناً وظرفاً، وإلى كرم المحتد رحمةً وفضلاً، وكاتبٍ حصيفٍ، وشاعرٍ مفلقٍ، وسميرٍ آنق وفقيهٍ جدلٍ، وشجاعٍ بطلٍ:
كرام المساعي لا يخاف جليسهم ... إذا نطق العوراء غرب لسان
إذا حدثوا لم تخش سوء استماعهم ... وإن حدثوا أدوا بحسن بيان
ووضعنا الزيارة حيث لا يزرى بنا كرم المزور ولا يعاب الزور. يجد الأستاذ عندي كل يومٍ مكرمةً وميرةً تطويان مسافة الرجاء، وتتجاوزان غايات الشكر والثناء، والبشر والدعاء، فزاد الله في تبصيره حقوق زواره، وتيسيري لشكري مباره.
قال الثعالبي: ومن ملح ما قيل في ابن خلادٍ قوله:
قل لابن خلادٍ إذا جئته ... مستنداً في المسجد الجامع
ها زمان ليس يحظى به ... حدثنا الأعمش عن نافع
ومن ملحه قوله وقد طولب بالخراج:
يا أيها المكثر فينا الزمجرة ... ناموسه دفتره والمحبره
قد أبطل الديوان كتب الشجره ... والجامعين كتاب الجمهره
هيهات لن يعبر تلم القنطره ... نحو الكسائي وشعر عنتره
ودغفل وابن لسان الحمره ... ليس سوى المنقوشة المدوره

ذكر السمعاني في كتاب النسب، قال القاضي أبو محمدٍ الحسن بن عبد الرحمن بن خلادٍ الرامهرمزي: كان فاضلاً مكثراً من الحديث، ولي القضاء ببلاد الخوز ورحل قبل التسعي ومائتين، وكتب عن جماعةٍ من أهل شيراز، ذكره أو عبد الله محمدبن عبد العزيز الشيرازي القصار في تاريخ فارس وقال: بلغني أنه عاش برامهرمز إلى قرب الستين وثلاثمائةٍ.
الحسن بن عثمان بن حمادبن حسان بن عبد الرحمن ابن يزيد، أبو حسان الزيادي البغدادي القاضي، من أعيان أصحاب الواقدي، وروى عن الهيثم بن عدي، وهشيم بن بشير وغيرهما، وكان أديباً فاضلاً نسابةً، أخبارياً جواداً كريماً سمحاً. مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، أو ثلاثٍ وأربعين ومائتين عن تسعً وثمانين سنةً، مات هو والحسن بن علي بن الجعد في وقتٍ واحدٍ، وكان الزيادي حينئذٍ على قضائه مدينة المنصور، وكان الزيادي يصنف الكتب ويصنف له، وكانت له خزانة كتبٍ حسنةٍ كثيرةٍ، وله من الكتب على ما ذكر محمد بن إسحاق: كتاب عروة بن الزبير. كتاب طبقات الشعراء. كتاب الآباء والأمهات. وقال الحافظ أبو القاسم: سمع بدمشق الوليد بن مسلمٍ، وشعيب بن إسحاق، وعمر بن عبد الواحد، وعمر بم سعيدٍ، والوليد بن محمدٍ الموقري، ومعروف بن عبد الله الخياط، وهارون بن عمر الدمشقي، ومحمد بن إسحاق بن بلال بن أبي الدرداء، وسعيد بن عيينة، وشعيب بن صفوان، وابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد، وحماد بن زيدٍ، ووكيع بن الجراح، وأبا داود الطيالسي. روى عنه أبو العباس الكديمي، وإسحق بن الحسن الحربي، ومحمد بن محمدٍ الباغندي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وذكر الجهشياري في كتاب الوزراء: أن رجلاً من أهل خراسان أودع أبا حسان الريادي القاضي عشرة آلاف درهمٍ، وأنها صادفت منه خلةً فأنفقها، وقدّر أن يأتي ما يرد على الخراساني مكانها إلى أن ينصرف الخراساني من الحج، فحدث للخراساني أمر قطعه عن الحج وعزم على الانصراف إلى بلده، فصار إلى أبي حسان يلتمس ماله، فتعلل عليه ودافعه وتحير، وضاقت الحيلة عليه، وعاد الخراساني مراراً فدافعه، ثم وعده في يومٍ بعينه، واشتد غمه وقلقه، وأجنع على بذل وجهه إلى بعض إخوانه، فلما كان في ليلة اليوم الذي وعد الرجل فيه، امتنع عليه النوم من شدة قلقه، فقام في بعض الليل فقصد دينار بن عبد الله، فلما صار في بعض الطريق تلقاه رسول لدينارٍ يسأل عن أبي حسان، فلما سمع ذكره سأله عن سببه، وتعرف إليه فقال له: أبو عليٍ دينار يقرأ عليك السلام ويقول لك: قسمت شيئاً على عيالنا، وذكرت من في منزلك منهم، فوجهت إليهم بعشرة آلاف درهمٍ، فقبلها وحمد الله وصار إلى منزله فسلمها إلى الخراساني، وصار إلى دينار بن عبد الله شاكراً له وعرفه خبره. فقال له دينار: فأرانا إنما وجهنا بمال الخراساني، فعلى ماذا يعتمد العيال؟ وأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى.
وفي سنة ثمان عشرة ومائتين: كتب المأمون من الثغر إلى إسحاق بن ابراهيم المصعبي وإلى بغداد، في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن، فمن أقر أنه خلوق محدث خلى سبيله، ومن أبى عليه أعلمه به ليأمر فيه برأيه، فأحضر إسحاق أبا حسانً الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتلٍ، والفضل بن غانمٍ، والذيال بن هيثمٍ وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبلٍ، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وسعد بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن الرياشي، وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة، وأبا نصير التمار وأبا معمرٍ القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمونٍ ومحمد بن نوحٍ المضروب، وابن فرحان وجماعةً، ومنهم النضر ابن شميلٍ، وأبو عليٍ عاصم، وأبو العوام البزاز، وابن شجاعٍ، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه، ثم كلم رجلاً رجلاً منهم، فيجيب بما يغالط به أو يصرح، حتى قال لأبي حسانٍ الزيادي: ما عندك؟ وقرأ عليه كتاب المأمون فأقر بما فيه ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر.

فقال له إسحاق: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيءٍ، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكوات أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته، فإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا. قال: القرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته. قال إسحاق: فإن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول: قلت ما أمرتني به، فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئاً. قال أبو حسان: وما عندي إلا السمع والطاعة، فأمرني آتمر. قال: ما أمرني أن آمركم، وإنما أمرني أن أمتحنكم، فتركه والتفت إلى أحمد بن حنبل فسأله. قال الحافظ أبو القاسم: وليس كما يظنه الناس من ولد زياد بن أبيه، وإنما تزوج أجداده أم ولدٍ لزيادٍ، فقيل له الزيادي، قال ذلك أحمد بن أبي طاهرٍ صاحب كتاب بغداد.
الحسن بن علي بن الحرمازيأبو عليٍ، هو مولى لبني هاشمٍ، ثم مولى آل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباسٍ، وإنما نزل بالبصرة في بني حرمازٍ فنسب إليهم، والحرماز لقب واسمه الحارث بن مالك بن عمرو بن تميم بن مرٍ بالبادية، نأ ثم قدم البصرة فأقام بها.
وحدث المبرد قال: كان التوزي والحرمازي والحرمي يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيدٍ سعيد بن أوسٍ الأنصاري والأصمعي، وكان هؤلاء الثلاثة أكبر أصحابه، وكان من هؤلاء في السن: إبراهيم الزيادي والمازني والرياشي. قال أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب مراتب النحويين: كان الحرمازي في ناحية همرو بن مسعدة، فخرج عمرو إلى الشام فقال الحرمازي:
أقام بأرض الشام فاختل جانبي ... ومطلبه بالشام غير قريب
ولا سيما من مفلسٍ حلف نقرسٍ ... أما نقر في مفلسٍ بعجيب
وحدث أبو العيناء قال: اعتل الحرمازي وكان له صديق من الهاشميين، فمل يعده فكتب إليه:
متى تشفيك واجبة الحقوق ... إذا كان اللقاء على الطريق؟
إذا ما لم يكن إلا سلام ... فما يرجو الصديق من الصديق؟
مرضت ولم تعدني عمر شهرٍ ... وليس ذاك فعل أخٍ شقيق
وقال الحرمازي وكتب بها إلى محمد بن عبيد الله العتبي:
بنفسي أنت قد جاء ... ك ما عندي من كتبك
فلا تبعد من الإفضا ... ل ما نرجوه من قربك
فما زلت أخا جودٍ ... وإفضالٍ على صحبك
وسل قلبك عما ل ... ك في قلبي من حبك
فقد أخبرني القلب ... بما قد حل في قلبك
فها إني لك الراضي ... وها إني لراضٍ بك
وكان بعض الهاشميين قد وعد الحرمازي وعداً فأخره، فكتب إليه:
رأيت الناس قد صدقوا ومانوا ... ووعدك كله خلف ومين
وعدت فما وفيت لنا بوعدٍ ... وموعود الكريم عليه دين
ألا يا ليتني استبقيت وجهي ... فإن بقاء وجه الحر زين
الحسن بن علي المدائني النحويقال أبو إسحاق بن إبراهيم بن سعيدٍ الحبال: مات لثلاثٍ بقين من جمادى الأولى سنة تسعٍ وسبعين وثلاثمائةٍ. وكان إماماً فاضلاً تخرج به جماعة وافرة في العددد.
الحسن بن علي بن عمر ويقال عمارالمعروف بابن المصحح، أبو محمدٍ التيمي النحوي، سمع أبا بكرٍ عبد الله الجناني، وأبا بكر بن أبي الحديد. وأبا نصرٍ حديد بن جعفر الرماني. روى عنه عبد العزيز الكتاني، ونجاء بن أحمد، وأبو القاسم النسيب، وسئل عنه فقال: ثقة. ومات لسبعٍ بقين من رجبٍ سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ. ذكر ذلك كله أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في تاريخ دمشق.
الحسن بن علي بن مقلة

بن الحسن بن عبد الله بن مقلة أبو عبد الله، ومقلة اسم أمٍ لهم كان أبوها يرقصها. فيقول يا مقلة أبيها فغلب عليها، وأبو عبد الله هو أخو الوزير أبي عليٍ محمد بن عليٍ، وهو المعروف بجودة الخط الذي يضرب به المثل. كان الوزير أوحد الدنيا في كتبه فلم الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته ذو فضلٍ بارعٍ، وكان أبو عبد الله هذا أكتب من أخيه في قلم الدفاتر والنسخ، مسلماً له فضلته غير مفاضلٍ في كتبته. ومولد أبي عبد الله في سلخ رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين، ومات في شهر ربيعٍ الآخر سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ. ومات أبوه أبو العباس علي بن الحسن في ذي الحجة سنة تسعٍ وثلاثمائةٍ. وله يوم مات سبع وستون سنةً وأشهر. وصلى عليه ابنه أبو عليٍ.
ولأخيه أبي علي ترجمة في بابه مفردة، لما اشترطنا في ذكر أرباب الخطوط المنسوبة وكان أبوهما الملقب بمقلة أيضاً كاتباً مليح الخط. وقد كتب في زمانهما وبعدهما، جماعة من أهلهما وولدخما ولم يقاربوهما وإنما يندر الواحد منهم الحرف بعد الحرف، والكلمة بعد الكلمة، وإنما كان الكمال لأبي عليٍ وأبي عبد الله أخيه. فممن كتب من أولادهما: أبو محمدٍ عبد الله، وأبو الحسن ابنا أبي عليٍ، وأبو أحمد سليمان بن أبي الحسن، وأبو الحسين علي بن أبو عليٍ، وأبو الفرج العباس بن علي بن مقلة. ومات أبو الحسن علي بالفالج والسكتة، في سنة ستٍ وأربعين وثلاثمائةٍ، ومولده سنة خمسٍ وثلاثمائةٍ.
حدث ابن نصرٍ قال: وجدت بخط أبي عبد الله بن مقلة على ظهر جزءٍ، وغنتني ابنة الحفار:
إلى سامع الأصوات من أبعد المسرى ... شكوت الذي ألقاه من ألم الذكرى
فيا ليت شعري والأماني ضلة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى؟
قال ابن نصرٍ: فقلت كفى ابنة الحفار هذا الصوت أن يذكرها ويكتبها أبو عبد الله بن مقلة بخطه. وحدث أبو نصرٍ قال: حدثني أبو القاسم بن الرقي منج سيف الدولة قال: كنت في صحبة سيف الدولة في غداة المصيبة المعروفة، وكان سيف الدولة قد انكسر يومئذٍ كسرةً قبيحةً، ونجا بحشاشته بعد أن قتلت عساكره قال: فسمعت سيف الدولة يقول وقد عاد إلى حلب: هلك مني من عرض ما كان في صحبتي خمسة آلاف ورقةٍ بخط أبي علي بن مقلة. قال: فاستعظمت ذلك وسألت بعض شيوخ خدمه الخاصة عن ذلك. فقال لي: كان أبو عبد الله منقطعاً إلى بني حمدان سنين كثيرةً يقومون بأمره أحسن القيام، وكان ينزل في دارٍ قوراء حسنةٍ، وفيها فرش تشاكلها ومجلس دست، وله شيء للنسخ وحوض فيه محابر وأقلام، فيقوم ويتمشى في الدار إذا ضاق صدره، ثم يعود فيجلس في بعض تلك المجالس وينسخ ما يخف عليه، ثم ينهض ويطوف على جوانب البستان، ثم يجلس في مجلسٍ آخر وينسخ أوراقاً أخر على هذا، فاجتمع في خزائنهم من خطه ما لا يحصى.
وجدت بعض أهل الفضل عن بعضهم قال: حضرت مجلس أبي عليٍ محمد بن علي بن مقلة في أيام وزارته وقد عرضت عليه رقاع، وتوقيعات وتسبيبات قد رد عليها بخطه أخوه أبو عبد الله، ثم رفعت إلى أبي عليٍ فكان ينظر فيها ويمضيها وقد عرف صورتها. وكان أبو عبد الله حاضراً، فلما فرغ منها التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله قد خففت عنا حتى أثقلت، وخشينا أن نثقل عليك، فأرح نفسك من هذا التعب. فضحك أبو عبد الله وقال: السمع والطاعة.
وقال ثابت بن سنانٍ: لما ولي أبو علي بن مقلة الوزارة للمقتدر في سنة ست عشرة وثلاثمائة، قلد أخاه أبا عبد الله الحسن بن عليٍ ديوان الضياع الخاصة، وديوان الضياع المستحدثة، وديوان الدار الصغيرة. وصودر أبو عبد الله في أيام القاهر على خمسين ألف دينارٍ بعد أن حلف أنه لا يملك إلا بساتين وما ورثه من زوجته، وقيمة الجميع نحو مائة ألف درهمٍ.
الحسنبن يزداد بن هرمزابن شاهوه، أبو عليٍ الأهوازي المقرئ، صاحب التصانيف المشهورة. قال ابن عساكر: قدم دمشق في ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ وسكنها، وقرأ القرآن برواياتٍ كثيرةٍ وأقرأه، وصنف كتاباً في القرآن، وحدث عن خلقٍ كثيرٍ، منهم نصر بن أحمد المرجي، وأبو حفصٍ الكتاني، والمعافا بن زكريا بن طرارٍ، وروى عنه الخطيب أبو بكرٍ ثابت وغيره.

قال ابن عساكر: أنبأنا أبو طاهر بن الحنائي، أنبأنا أبو عليٍ الأهوازي، حدثنا أبو زرعة أحمد بن محمد بن عبد الله بن سعيدٍ القشيري، حدثني جدي لأمي الحسن بن سعيدٍ، حدثنا أبو عليٍ الحسين بن إسحاق الدقيقي، حدثنا أبو زيدٍ حماد بن دليلٍ عن سفيان الثوري، عن قيس بن مسلمٍ، عن عبد الرحمن بن سابطٍ، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت عشية عرفة هبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيطلع إلى أهل الموقف فيقول: مرحباً بزواري الوافدين إلى بيتي، وعزتي لأنزلن إليكم، ولأساوي منزلكم بنفسي، فينزل إلى عرفة فيعممه بمغفرته، ويعطيهم ما يسألون إلا المظالم ويقول: يا ملائكتي، لنشهدكم أني قد غفرت لهم، ولا يزال كذلك إلى أن تغيب الشمس، ويكون أمامهم إلى المزدلفة، ولا يعرج إلى السماء تلك الليلة، فإذا أسفر الصبح ووقفوا عند المشعر الحرام غفر لهم حتى المظالم، ثم يعرج إلى السماء إلى منى " . هذا حديث منكر، وفي إسناده غير واحدٍ من المجهولين. وللأهوازي أمثاله في كتابٍ جمعه في الصفات سماه كتاب البيان، في شرح عقود أهل الإيمان، أودعه أحاديث منكرة، كحديث: " إن الله تعالى لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق " مما لا يجوز أن يروى ولا يحل أن يعتقد، وكان مذهبه مذهب السالمية، يقول بالظاهر، ويتمسك بالأحاديث الضعيفة التي تقوي له رأيه، وحديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشنع بهعلى أصحاب الحديث في رواياتهم المستحيلة، فيقبله بعض من لا عقل له ويراه، وهو مما يقطع ببطلانه شرعاً وعقلاً. قال الأهوازي: ولدت في سابع عشر من المحرم سنة اثنتين وستين وثلاثمائةٍ. ومات في رابع ذي الحجة سنة ستٍ وأربعين وأربعمائةٍ.
قال ابن عساكر: وسمعت أبا الحسن علي بن أحمد بن منصور يحكي عن أبيه قال: لما ظهر من الأهوازي الإكثار من الروايات في القراءات اتهم في ذلك، فسار رشاء بن نظيف، وأبو القاسم بن الفرات، وابن القماح إلى العراق لكشف ما وقع في نفوسهم منه، ووصلوا إلى بغداد وقرؤوا على بعض الشيوخ الذين روى عنهم الأهوازي، وجاءوا بالإجازات عنهم وبخطوطهم، فمضى الهوازي إليهم وسألهم أن يروه تلك الخطوط التي معهم، ففعلوا ودفعوها إليه، فأخذها وغير أسماء من سمى ليستر دعواه فعادت عليه بركة القرآن فلم يفتضح. وبلغني أنهم سالوا عنه بعض المقرئين الذي ذكر أنه قرأ عليهم وحكوه له، فقال: هذا الذي تذكرونه قد قرأ علي جزءاً أو نحوه. قال: وقال حدثني أبي قال: عاتبت أو عوتب أبو طاهرٍ الواسطي المقرئ في القراءة على الأهوازي فقال: أقرأ عليه العلم ولا أصدقه في حرفٍ واحدٍ. قال وحدثني أبو طاهرٍ محمد بن الحسن بن علي بن المليحي قال: كنت عند رشاء بن نظيف في داره على باب الجامع، - وله طاقة إلى الطريق - فاطلع فيها وقال: قد عبر رجل كذاب، فاطلعت فوجدت الأهوازي. قال: وقال ابن الأكفاني قال لنا الكتاني: كان الأهوازي مكثراً من الحديث، وصنف الكثير في القراءات، وكان حسن التصنيف، وجمع في ذلك شيئاً كثيراً، وفي أسانيد القراءات غرائب كان يذكر في مصنفاته أنه أخذها روايةً وتلاوةً، وأن سيوخه أخذوها روايةً وتلاوةً. ولما توفي كانت له جنازة عظيمة.
الحسن بن علي بن بركة بن عبيدةأبو محمدٍ المقرئ النحوي الفرضي، من ساكني الكرخ بدرب رباحٍ، مات في ثامن عشر شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائةٍ. وكان فاضلاً قارئاً نحوياً لغوياً فرضياً. قرأ القرآن بالروايات على الشيخ أبي محمد بن بنت الشيخ، وبالكوفة على عمر بن ابراهيم العلوي، وقرأ النحو على أبي السعادات بن الشجري، ولازمه حتى برع في فنه، وتصدر مدةً طويلةً لإقراء القرآن والنحو واللغة والفرائض، وأنشد له العماد في الخريدة شعراً قاله في المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وهو:
يا خير مستخلفٍ عمت نوافله ... وطبق الأرض بعد المحل نائله
أحيت لنا سيرة المهدي سيرته ... عدلاً وبذلاً فما تحصى فواضله
إمام حقٍ بعهد الله محتفظ ... وكل شيءٍ حواه فهو باذله
خير الخلائق أضحى لا ينازعه ... منهم إمام وإن جلت أوائله

فالمصطفى جاء بعد الأنبياء وما ... فيهم على فضلهم خلق يعادله
وله في المستضيء أيضاً:
هذه دولة تخيرها الل ... ه فدامت لنا سجيس الليالي
دونة روضة رباها وجادت ... من لهاها بوابلٍ متوالي
واستعادت صعب المقادة بالعد ... ل ودانت لها قلوب الرجال
وأضاءت بالمستضيء بأمر الل ... ه لا زال ملكه في اتصال
ملك عم بره كل برٍ ... وأباح الآمال في الأحوال
وأغاث الأنام منه سجال ... بعد إمحالهم عقيب سجال
طبق الأرض منهم فضل عدلٍ ... وكفاها بوائق الزلزال
جعل الله ودكم يا نبي العب ... باس فرضاً من أشرف الأعمال
وعليكم صلاتنافي التحيا ... ت توالى لأنكم خيرآل
يا بني عم أحمد طاب محيا ... كم ومن قبل طبتم في الظلال
الحسن بن عليٍ الجويني الكاتب
أبو علي صاحب الخط المنسوب، كان مقيماً ببغداد، ولا أدري أولد بها أم انتقل إليها، لأنه لما انتقل إلى مصر كان يعرف بها بالبغدادي، وكان يلقب فخر الكتّاب. مات بمصر لعشرٍ خلون من صفرٍ سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ.
سمعت جماعةً من أهل الكتابة المتحققين بها يقولون: لم يكتب أحد بعد أبي الحسن علي بن هلال بن البواب أجود من الجويني، وكان أستاذه في الكتابة، يعقوب الغزنوي، كتب عليه ببغداد إلا أنه أبرّ عليه، وزاد حتى لا تناسب بين خطيهما، وكان من شيمة الجويني أنه ما كتب شيئاً قط بخطه كثر أو قل، دق أو جل، إلا ويكتب في آخره: " كتبه علي بن الحسن الجويني " وكتب عليه جماعة من الكتاب وافتخروا بأستاذينه، كابن القيسراني وغيره، وكان ينتقل في البلاد حتى حط بركه بالديار المصرية، ونفق بها سوقه، وعلا على أبناء جنسه قدره، وعظم شأنه، وارتفع مكانه، وكان مع ذلك لا يترك هيئته وسمته، فإنه كان يتزيا زي أهل التصوف، وبلغ من علو قدره بالديار المصرية إلى أن ولي ولده عز الدين إبراهيم ولاية القاهرة، بعد ما ولي ولاية الإسكندرية مدةً، وكان محمود السيرة رأيت أهل مصر ممن شاهد ولايته يحسن الثناء عليه، وكان ملوكي الهمة، شريف النفس - أعني ولده عز الدين إبراهيم - وكان فخر الكتاب يقول الشعر ويتعاناه، إلا أنه لم يكن فيه بذاك. ومن شعره يمدح القاضي الفاضل وهو من أجود شعره:
لولا انقطاع الوحي كان منزلاً ... في الفاضل بن عليٍ البيساني
نثني عليه بمثل ما تثني على ... أفعاله المرضية الملكان
ومن شعره في الزهد:
كم كادت الأوطان تشغلنا ... بزخارف الدنيا عن الله
حتى تغربنافكم غيرٍ ... يقطعن عقل الغافل اللاهي
الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير

أبو محمدٍ المصري، أخو الرشيد أحمد بن عليٍ وقد تقدم ذكره، وكان من أهل أسوان من غسان، وكان الحسن هذا يلقب القاضي المهذب. مات في ربيعٍ الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائةٍ بمصر، وكان كاتباً مليح الحظ فصيحاً جيد العبارة، وكان أشعر من أخيه الرشيد، وكان قد اختص بالصالح بن رزيك وزير المصريين، وقيل: إن أكثر الشعر الذي في ديوان الصالح إنما هو عمل المهذب بن الزبير، وحصل له من الصالح مال جم، ولم ينفق عنده أحد مثله وكان القاضي عبد العزيز بن الحباب المعروف بالجليس هو الذي قرظه عند الصالح حتى قدمه، فلما مات الجليس شمت به ابن الزبير ولبس في جنازته ثياباً مذهبةً، فنقص بهذا السبب واستقبحوا فعله، ولم يعش بعد الجليس إلا شهر واحداً. وصنف المهذب كتاب الأنساب، وهو كتاب كبير أكثر من عشرين مجلداً، كل مجلد عشرون كراساً، رأيت بعضه فوجدته مع تحققي هذا العلم وبحثي عن كتبه غايةً في معناه لا مزيد عليه، يدل على جودة قريحة مؤلفه، وكثرة اطلاعه، إلا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابرٍ البلاذري، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري، إلا أنه إذا ذكر رجلاً ممن يقتضي الكتاب ذكره، لا يتركه حتى يعرفه بجهده من إيرادشيءٍ من شعره وخبره. وكان المهذب قد مضى إلى بلاد اليمن في رسالةٍ من بعض ملوك مصر، واجتهد هناك في تحصيل كتب النسب، وجمع منها ما لم يجتمع عند أحدٍ، حتى صح له تأليف هذا الكتاب.
وكان أخوه الرشيد لما مضى إلى اليمن وادعى الخلافة كما ذكرناه في ترجمته نمي خبره إلى المعروف بالداعي، فقبض عليه قبضاً لا نعلم كيفيته وهم بقتله، فكتب المهذب هذا إلى الداعي بقصيدته المشهورة يمدحه ويستعطفه حتى أطلقه. والقصيدة:
يا ربع أين ترى الأحبة يمموا ... هل أنجدوا من بعدنا أم اتهموا؟
رحلوا وقد لاح الصباح وإنما ... يسري إذا جن الظلام الأنجم
وتعوضت بالأنس روحي وحشةً ... لا أوحش الله النازل منهم
لولاهم ما قمت بين ديارهم ... حيران أستاف الديار وألثم
أمنازل الأحباب أين هم وأي ... ن الصبر من بعد التفرق عنهم؟
يا ساكني البلد الحرام وإنما ... في الصدر مع شحط المزار سكنتم
يا ليتني في النازلين عشيةً ... بمنىً وقد جمع الرفاق الموسم
فأفوز إن غفل الرقيب بنظرةٍ ... منكم إذ لبى الحجيج وأحرموا
لإني لأذكركم إذا ما أشرقت ... شمس الضحى من نحوكم فأسلم
لا تبعثوا لي في النسيم تحيةً ... إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضياً ... من هذه الدنيا بحظي منكم
فسلوت إلا عنكم وقنعت إل ... ا منكم وزهدت إلا فيكم
ورأيت كل العالمين بمقلةٍ ... لو ينظر الحساد ما نظرت عموا
ما كان بعد أخي الذي فارقته ... ليبوح إلا بالشكاية لي فم
هو ذاك لم يملك علاه مالك ... كلا ولا وجدي عليه متيم
أقوت مغانيه وعطل ربعه ... ولربما هجر العرين الضيغم
ورمت به الأهوال همة ماجدٍ ... كالسيف يمضي عزمه ويصمم
يا راحلاً بالمجد عنا والعلا ... أترى يمون لكم إلينا مقدم؟
يفديك قوم كنت واسط عقدهم ... ما إن لهم مذ غبت شمل ينظم
لك في رقابهم وإن هم أنكروا ... منن كأطواق الحمام وأنعم
جهلوا فظنوا أن بعدك مغنم ... لما رحلت وإنما هو مغرم
فلقد أقر العين أن عداك قد ... هلكوا ببغيهم وأنت مسلم
لم يعصم الله ابن معصومٍ من ال ... آفات واخترم اللعين الأخرم
واعتضت بعدهم بأكرم معشرٍ ... بدؤوا لك الفعل الجميل وتمموا
فلعمر مجدك إن كرمت عليهم ... إن الكريم على الكرام مكرم
أقيال بأسٍ خير من حملوا القنا ... وملوك قحطان الذين هم هم
متواضعون ولو ترى ناديهم ... ما اسطعت من إجلالهم تتكلم

وكفاهم شرفاً ومجداً أنهم ... قد أصبح الداعي المتوج منهم
هو بدر تمٍ في سماء علاهم ... وبنو أبيه بنو رويعٍ أنجم
ملك حماه جنة لعفاته ... لكنه للحاسدين جهنم
أثني عليك بما مننت وأنت من ... أوصاف مجدك يا مليكاً أعظم
فاغفر لي التقصير فيه وعده ... مع ما تجود به علي وتنعم
مع أنني سيرت فيك شوارداً ... كالدر بل أبهى لدى من يفهم
تغدو وهوج الذاريات رواكد ... وتبيت تسري والكواكب نوم
وإذا المآثر عددت في مشهدٍ ... فبذكرها يبدا المقال ويختم
وإذ تلا الراوون محكم آيها ... صلى عليك السامعون وسلموا
وكفى برأي إمام عصرك ناقضاً ... ما أحكم الأعداء فيك وأبرموا
وأنشدني أبو طاهرٍ إسماعيل بن عبد الرحمن الأنصاري المصري بمصر في سنة اثنتي عشرة وستمائةٍ، قال: أنشدني أبو محمدٍ الحسن بن علي بن الزبير مطلع قصيدةٍ:
أعلمت حين تجاور الحيان ... أن القلوب مواقد النيران
وعلمت أن صدورنا قد أصبحت ... في القوم وهي مرابض الغزلان
وعيوننا عوض العيون أمدها ... ما غادروا فيها من الغدران
ما الوجد هز قناتهم بل هزها ... قلبي لما فيه من الخفقان
وتراه يكره أن يرى أظعانهم ... فكأنما أصبحت في الأظعان
وكان لما جرى لأخيه الرشيد ما جرى من اتصاله بالملك صلاح الدين يوسف بن أيوب عند كونه محاصراً للإسكندرية كما ذكرنا في بابه، قبض شاور على المهذب وحبسه، فكتب إلى شاور شعراً كثيراً ليستعطفه فلم ينجع حتى التجأ إلى ولده الكامل أبي الفوارس شجاع بن شاورٍ مدحه بأشعارٍ كثيرةٍ وهو في الحبس حتى قام بأمره واستخرجه من حبسه، وضمه إليه واصطنعه فمن ذلك قوله من قصيدة:
أيا صاحبي سجن الخزانة خليا ... نسيم الصبا يرسل إلى كبدي نفحا
فإن تحبساني في النجوم تجبراً ... فلن تحبس مني له الشكر والمدحا
وكتب إليه:
وما كنت أخشى قبل سجنكما على ... دموعي أن يقطرن خوف المقاطر
وما لي من أشكو إليه أذاكما ... سوى ملك الدنيا شجاع بن شاور
ومما قاله فيه وهو لعمري من رائق الشعر وجيده:
إذا أحرقت في القلب موضع سكناها ... فمن ذا الذي من بعد يكرم مثواها؟
وإن نزفت ماء العيون بهجرها ... فمن أي عينٍ تأمل العيس سقياها؟
وما الدمع يوم البين إلا لآلئ ... على الرسم في رسم الديار نثرناها
وما أطلع الزهر الربيع وإنما ... رأى الدمع أجياد الغصون فحلاها
ولما أبان البين سر صدورنا ... وأمكن فيها العين النجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت ... دروعاً من الصبر الجميل نزعناها
ولما وقفنا للوداع وترجمت ... لعيني عما في الضمائر عيناها
بدت صورة في هيكلٍ فلو أننا ... ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طرباً صغنا القريض وإنما ... جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
وليالي كانت في ظلام شبيبتي ... سراي وفي ليل الذوائب مسراها
تأرج أرواح الصبا كلما سرى ... بأنفاس ريا آخر الليل رياها
ومهما أدرنا الكأس باتت جفونه ... من الراح تسقينا الذي قد سقيناها
ومنها:
ولو لم يجد يوم الندى في يمينه ... لسائله غير الشبيبة أعطها
فيا ملك الدنيا وسائس أهلها ... سياسة من قاس الأمور وقاساها
ومن كلف الأيام ضد طباعها ... فعاين أهوال الخطوب فعاناها
عسى نظرة تجلو بقلبي وناظري ... صداه فإني دائماً أتصداها

وحدثني الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي أن السبب في حبسه كان: أنه كاتب شيركوه الملقب بأسد الدين وهو نازل على بلبيس بعساكره في محاربة شاور، فلما رحل أسد الدين عن بلبيس، ومن شعره:
يجور على العشاق والعدل دأبه ... ويقطعني ظلماً وصنعته الوصل
ومن شعره أيضاً:
ولئن ترقرق دمعه يوم النوى ... في الطرف منه وما تناثر عقده
فالسيف أقطع ما يكون إذا غدا ... متحيراً في صفحتيه فرنده
ومنه أيضاً:
لقد طال هذا الليل بعد فراقه ... وعهدي به قبل الفراق قصير
فكيف أرجي الصبح بعدهم وقد ... تولت شموس بعدهم وبدور
ومنه أيضاً:
يعنفني من لو تحقق ما الهوى ... لكان إلى من قد هويت رسولي
بنفسي بدر لو رآه عواذلي ... على الحب فيه فاد كل عذول
ومنه أيضاً:
أقصر فديتك عن لومي وعن عذلي ... أو لا فخذ لي أماناً من ظبا المقل
من كل طرفٍ مريض الجفن ينشدني ... يا رب رامٍ بنجدٍ من بني ثعل
إن كان فيه لنا وهو السقيم شفا ... فربما صحت الأحسام بالعلل
وقال يرثي صديقاً له وقد وقع المطر يوم موته:
بنفسي من أبكى السموات فقده ... بغيثٍ ظنناه نوال يمينه
فما استعبرت إلا أسىً وتأسفاً ... وإلا فماذا القطر في غير حينه
وله أيضاً:
لا ترج ذا نقصٍ ولو أصبحت ... من دونه في الرتبة الشمس
كيوان أعلى كوكبٍ موضعاً ... وهو إذا أنصفته نحس
وله أيضاً:
فدع التمدحبالقديم فكم عفا ... في هذه الآكام قصردائر
لإيوان كسرى اليوم عند خرابه ... خير لعمرك منه قصر عامر
الحسن بن علي بن أبي مسلمالمعمر بن عبد الملك بن ناهوج الإسكافي الأصل، البغدادي المولد والدار، أبو البدر بن أبي منصورٍ، من أهل باب الأزج، أحد الكتاب المتصرفين في خدمة الديوان الإمامي هو وأبوه، وكان فيه فضل وأدب بارع، وعربية وتصرف في فنونها، ويكتب خطاً على طريقة أبي علي بن مقلة قل نظيره فيه، وله خصائص، ولقي المشايخ، وصنف عدة تصانيف في الأدب حسنةً، وتنقل في الولايات إلى أن رتب مشرفاً بالديوان العزيز في سادس شهر رمضان سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ، فكان على ذلك إلى أن عزل في سابع ذي الحجة سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائةٍ، وكان صحب أبا محمد بن الخشاب النحوي وقرأ عليه وبحث معه، وعلق عنه تعاليق وقفت على بعضها فوجدتها منبئةً عن يدٍ باسطةٍ في هذا الفن من العلم، ورأيت بخطه في حلب تعاليق وكتباً واختيارات ونظماً ونثراً تدل على قريحةٍ سالمةٍ، ونفسٍ عالمةٍ، تقلل النظير، وتؤذن بالعلم الغزير. ومما بلغني من شعره:
وعلى الكثيب مخمر من تيهه ... كالبدر من حسنٍ وليس بآفل
حجبوه بالبيض الفواصل ما دروا ... من حسنه وسيوفهم كالقاصل
رشأ كأن لحاظه مطرورة ... قذفت بها غرضاً حنية نابل
وكأن سحر بلاغةٍ في لفظه ... أخذ يعقدها نوافث بابل
وكان خرج من بغداد حاجاً سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائةٍ أو نحوها فجاور بمكة، ثم صار منها إلى الشام وأقام بحلب مدةً، ثم انتقل إلى مصر فسكنها إلى أن مات بها في ثامن عشر رمضان سنة ستٍ وتسعين وخمسمائةٍ، عن سبعٍ وستين سنةً، ودفن بالقرافة، وحدث بذلك ابنه أبو منصورٍ علي.

وقرأت بخط ابن أبي سالمٍ الذي لا أرتاب به ما صورته: نسخة كتابٍ كتبته إلى القاضي الفاضل عند قدومي من الحجاز إلى مصر في جمادى الآخرة، سنة اثنتين وتسعين وخمسمائةٍ: لو كانت المودات - أطال الله بقاء المجلس السامي - في نعمةٍ خصيبة المرتع، وعيشةٍ عذبة المنبع - وأدام علاه في سعادةٍ لا تتطرق إلى صافي بردها السابغ حوادث الأقدار - و لا يتطرق صافي وردها السائغ بحوادث الأكدار، وحرسمواهبه لديه ما لزم السكون أول المشددين، ولا زالت ثاويةً بجنابه حتى يلتقي المخففان من كلمتن، ولا فتئت منح التوفيق مصاحبةً له ما اشتبه الذاتي بالعرض اللازم، وذم المفرط في أمره وأحمد الحازم، لا تقرع أبوابها، ولا تتدرع زينة لبوسها وأثوابها إلا عن معرفةٍ في المشاهد سابقةٍ، أو ماتةٍ قائدةٍ، أو ذريعةٍ سائقةٍ والتعاضد والتضافر سابق للصفة، وإنما للنفوس سرائر أهواءٍ تحن إلى التداني إن تباعدت الشعوب وتنازحت الديار، كما لتباينها أسباب تتنافر من أجلها وإن تقاربت الأنساب، وتنازحت المقار، والفضائل الفاضلية القريرة، والمناقب الشهيرة التي قد سار ذكرها في الآفاق سير القمر، وعطلت مزيتها مروي السير، وتليت محاسنها كما تتلى السور، وصار الفوز بمناسمة رياها من أفضل ما أسفر عنه سفر، ولو عاينها الصدر الأول لمدح في دراستها السهر، وما جدب السمر، فلا غرو أن تحن النفوس إلى محل كمالها، ومأوى تضافر أضدادها التي انفرد بجمالها ومثوى مواهبها التي هبطت إليه من المحل الأرفع لما سمي لها وسما لها، ومن هو أمينها المصدق لظنونها، ويمينها إذا كان غيره يمينها وشمالها، وقد زادها إفراط حسن التبيان، فلله در ذلك البيان، فلكم استفادت حجته إلى أمر الله من اطوائف والفرق، وكم قص كتابه من كتائب الضلال وفرق.
ثم ذكر وصف بلاغته بما أطال فيه، ووصف البحر ركبه حتى خلص إلى مصر، ثم قال: وقد أرسل هذه الخدمة مستخرجة للإذن في الحضور والتشرف بميمون اللقاء، وإن زاحم به أوقات الطاعات ومواقيت الأذكار. وشغل على اختصاره عن شيء من المهام والأوطار. وللمتوكل لنفسه أن يدعي أن في ذلك ضرباً من ضروب البر، فإنه قد أصبح ولله الحمد في هذا الطرف لقاطنيه وطارقيته كالأب البر. والمنشود من الأريحية الكريمة إكرام مثوى خدمته، وتلقيها بما يزيل عنها انقباض الغريب ووحشته، وحيرة القادم ودهشته، فعنده حياء طبيعي لعلةٍ متجاوزةٍ للقدر المحمود غذيت به طفلاً،فإن رمت غيره عصاني وأعرتني به ألفة المهد. وكتب إليه بعد الحضور عنده رقعةً منها: وحضر الشيخ النفيس وصحبته ما قابل كريم الاهتمام الذي صدر عنه من الأدعية والأثنية بما لا يزال يواليه ويرفعه ويهديه، ولق أخجله أن يرى نفسه في صورة مثقلٍ، أو يرى بعين غير موحدٍ في دين هواه متنقلٍ. ومقترحه أن يخص من حسن الرأي العالي بشعار يبهج ولا ينهج، ويشرع له سبيلاً في الفخر وينهج، وأن يشير بأسطرٍ بالخط الكريم يفوق المال، ويبقى الجمال، فأبقى السمات ما خطته يمينه، وأثبت الصفات ما دل عليه تزيينه، وأزكى الشهادات ما تطوع به كرمه، وأعطر رياض الحمد ما أنبتته ديمه. وقد حصل الخادم بين نزاع يحضه على حضور الخدمة وينشطه، وخوف إبرامٍ يقبضه ويثبطه. وقد ترجم عن حاله هذه بأبيات الشاعر أبي عبد الله وهي:
حالة قد حصلت للخوف منها ... حول دار الأستاذ في عشواء
لإن تأخرت أو تقدمت فيها ... ساء ظني في الموضعين برائي
لست أدري من الضلال أقدا ... مي خير في ذاك أم من ورائي؟
أوثر الخدمة التي تؤثر اسمي ... عندكم في جريدة الأولياء
ثم أخشى أني أعد إذاجئ ... ت من المبرمين والثقلاء
قد تحيرت فاجعلوا أنتم اسمي ... حيث شئتم من هذه الأسماء
ومن خطه: ومن عبث الخاطر وهوسه أبيات تشوفت فيها الحجاز بعد مجاورتي بالحم الشريف بمكة - قدسها الله - سنة اثنتين أو ثلاثٍ وسبعين وهي:
خليلي هل يشفي من الوجد وقفة ... بخيف منىً والسامرون هجوع؟
وهل للييلات المحصب عودة ... وعيشٍ مضى بالمأزمين رجوع؟
وهل سرحة بالسفح من أيمن الصفا ... رعت من عهودي ما أضاع مضيع؟

وهل قوضت خيم على أبرق الحما ... وما ذاك من غدر الزمان بديع؟
وهل تردن ماءً بشعب ابن عامرٍ ... حوائم لو يقضى لهن شروع؟
وما ذاك إلا عارض من طماعةٍ ... له بقلوب العاشقين ولوع
وإني متى أعص التجلد والأسى ... فللشوق مني والغرام مطيع
فيا جيرتي إذ للزمان نضارة ... وعودي نضار والخيام جميع
بنعمان والأيام فينا حميدة ... ووادي الهوى للنازلين مريع
وما أزمع الحي اليمانون نيةً ... ولا ريع بالبين المشت مروع
كفى حزناً أني أبيت وبيننا ... من البيد معدو الفجاج وسيع
أعالج نفساً قد تولى بها الأسى ... وطرفاً يجف المزن وهو هموع
ومن خطه أيضاً بيتان صدرت بهما كتاباً في هذه الرقعة إلى بعض الخوان بمكة - حرسها الله تعالى - :
ألا قل لجيران الصفا ليت داعي الت ... فرق أعمي يوم راح مناديا
لعمري لقد ودعت يوم وداعكم ... بشعب المنقى شعبةً من فؤاديا
ومن خطه رسالة كتبها إلى الفاضل أيضاً يسأله شيئاً من رسائله، قال في آخرها: فصار العوارف التي اقتصر في ذكرها على الإيماء وقوفاً مع محتد سيدنا - أطال الله بقاءه - مبسوط اليد في عباد الله بالفرض، مقرضاً له عناء همه فيهم أحسن القرض، منجزاً لهم ما وعد. " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " عند الخادم. ومثله كالبيت من القريض قبل القافية، والمريض الذي مطلته الأيام بالعافية، فلا يكمل ذاك ولا يتطرب به المشوق، ولا يترنم به الكئيب، ولا يتسلى به الغريب دون تمامه، وتكافؤ أجزاء نظامه، وعبقه بمسك ختامه، ولا يحس هذا بلذةٍ على الحقيقة - وإن شرفت - حتى يجد روحه روح الشفاء فيدرك مزيتها بطرق الصحة، ومروءتها بحلسة سمعها، وتساعفه الأقدار بتكميلها لك وجمعها.
وما أسفي إلا عليها فإنني ... بقرطاسها لا بالدنانير أكلف
فجد لي بما أهواه منها فإنني ... سألحف في استيهابها وأكلف
وما هذه الأهواء إلا غرائز ... قبيح لدى نقادها المتكلف
وإن كان الخادم عن حال من شرف بهذا من أفناء الناس، ولم يكمل بعدته الإستئناس، فليس له أن يكون معترضاً، ولا أن يتلقى ذلك بغير التسليم والرضا، فإن الخدمة السامية هي التي تبين لديها الأقدار، وبأفعالها تترتب المنازل وتتفات الأخطار.
وكنت عند كوني بمرو عرض علي شيخنا فخر الدين أبو المظفر عبد الرحيم بن تاج الإسلام أبي سعدٍ السمعاني - تغمده الله برحمته - جزءاً يشتمل على رسائل للحسن القطان إلى الرشيد الوطواط محشوة بالسب له والثلب تصريحاً لا تعريضاً، ويلزمه الحجة في أنه نهب كتبه وسلبه نتيجة عمره، ويستحسب الله عليه. وضاق نطاق الزمان من تحصيلها وكتبها، وقلت:
وكم منيةٍ خلفت خلفي وبغية ... ومن حاج نفسٍ حال من دونها الترك
إذا ذكرتها تانفس حنت وأرزمت ... وودت لفرط الوجد أدركها الفتك
سلام على تلك الديار وقدست ... نفوس بمثواها ثوى العلم والنسك
وبقيت نفسي إليها متطلعةٍ، وإلى مكنونها متلفتةً، فظفرت برسائل الرشيد محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي المعروف بالوطواط، متضمنة لأجوبة يدل آخرها على إضراب القطان عن تهمته، والإذعان بإبراء ساحته: نسخة الرسالة الأولى:

" بسم الله الرحمن الرحيم " قرع سمعي من أفواه الواردين وألسنة الطارئين على خوارزم أن سيدنا - أدام الله فضله - كلما تفرغ من مهمات نفسه، ووظائف درسه أقبل بمجامعه على أكل لحمي، والإطناب في سبي وشتمي، وينسبني إلى الإغارة على كتبه، ويبالغ في هتك أستار الكرم وحجبه. أهذا يليق بالفضل والمروءة؟ أو يجمل بالكرم والفتوة أن يفتري على أخيه الميلم بمثل هذا الكذب المقلق، والبهتان المؤلم، والله إذا نفخ في الصور يوم النشور، وبعثت هذه الرمم البالية، من الأجداث متدرعةٍ ملابس الحياة الثانية، وجمعت عباد الله في مواقف العرصات، وتطايرت صحائف الأعمال إلى أربابها، وسئلت كل نفسٍ عما كسبت، فمن مسيءٍ يسحب على وجهه إلى النار، ومن محسن يحمل على أعطاف الملائكة إلى الجنة، لم يتعلق في ذلك المقام الهائل أحد بذيلي طالباً مني ملكاً غصبته، ولا مالاً نهبته، أو دماً سفكته، أو ستراً هتكته، أو شخصاً قتلته، أو حقاً أبطلته، وهاأنذا قد آتاني الله من الوجه الحلال قريباً من ألف مجلدٍ من الكتب النفيسة، والدفاتر الفائقة، والنسخ الشريفة، ووقفت كلها على خزائن الكتب المبنة في بلاد الإسلام - عمرها الله - لينتفع المسلمون بها، ومن كانت عقيدته هكذا كيف يستجيز من نفسه أن يغير على كتب إمامٍ من شيوخ العلم، أنفق جميع عمره حتى حصل أوراقاً يسيرة، لو بيعت في الأسواق لما أحضر بثمنها مائدة لئيمٍ، الله الله، لا يفترين سيدنا - أدام الله فضله - ، فافتراء الكذب على مثلي ذنب يتعثر في أذياله يوم القيامة، وليخافن الله الذي لا إله إلا هو، وليتذكرن يوماً يثاب الصادق فيه على صدقه، ويعاقب الكاذب على كذبه، والسلام. فورد على الرشيد جواب عن هذه الرسالة يكون في نحو كراستين يغلظ له في القول، ويصرح فيه بالسب والتهمة، فكتب الرشيد:

" بسم الله الرحمن الرحيم " ورد كتاب سيدنا - أطال الله بقاءه في دولة مفترة المباسم، ونعمةٍ متجددة المراسيم - مشتملاً من الإيذاء والإيحاش، والإبذاء والإفحاش على كلماتٍ، بل على ظلماتٍ، لو أطفأ - أدام الله علوه - بعض لهبه، وسكن نائرة غضبه، ثم عاد إليه متصفحاً لألفاظه ومبانيه، لما ارتضى ذلك من دينه وعقله، ولكا استحسنه من كرمه وفضله، إلا أني أعذره فيما قال، قصر كلامه أو طال، لعلمي أنه - أدام الله علوه - مسلوب مغلوب، جريح أسنة القهر، طريح صدمات الدهر، عضته أنياب النوائب، وخدشته أظفار المصائب، نهبت كتبه وأمواله، وغصبت رحاله وأثقاله، وطالب الثأر يقصد كل راجلٍ وفارسٍ، وصاحب الضالة يتهم كل قائمٍ وجالسٍ، ولقد علم سيدنا - أدام الله علوه - أن وقعة مرو عمرها الله كانت واقعةً عامةً، شملت كل جبهةٍ وحافرٍ، وطبقت كل صائحٍ وصافرٍ، وكان قد لحقت في ذلك الوقت بعسكر خوارزمشاه من طبقات الناس أوزاع وأخياف، ومن حشرات الأرض أنواع وأصناف، قصارى همهم القتل والإغارة، ومنتهى أربهم الإحراق والإبارة وأوباش مرو أيضاً كانوا يخرجون من مكامنهم في الليالي، ويتعرضون لبيوت السادات والموالي، فليسس بمستبعدٍ أن يكون قد ظفر بكتبه من أولئك الأقوام أحد لا يعرف شأنه، ولا يعلم مكانه، أما أنا فالله تعالى يعلم - وقد خاب من استشهده باطلاً - أني ما فتحت للإغارة بابه، ولا نهبت كتابة، بل ذهبت يوماً على مقتضى إشارته الكريمة لأحمل كتبه إلى المعسكر، فلما دخلت داره الرفيعة، ورأيت كتباً كثيرةً فوق ما يحيط به عد، أو يشتمل عليه حد، فقلت: تقل هذه أمر مشكل، وحمل هذه خطب معضل، فتركتها بحالها في أماكنها، وخليتها برمتها في معادنها، وخرجت كما دخلت خالي الحقائب، فارغ الزكائب، فإن كنت غصبت يوم وقعة مرو أو قبلها أو بعدها من كتبه - أدام الله علوه - كتاباً أو جزءاً أو دفتراً أو من سائر أمواله شيئاً صغر أو جل، كثر أو قل، أو رضيت أن يغصبه أحد من أتباعي والمنتمين إلي، أو عرفت غاصباً غصبه، أو ناهباً نهبه، فأخفيت ذلك عنه، أو كتمته منه، فأنا بريء من الله وهو بريء مني، وإن كنت فعلت بنفسي شيئاً مما ذكرت، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلاً فعله، فعلي لله أن أحج بيته المعظم المكرم راجلاً راجلاً حافياً، وعلى عاتقي الزاد والمزادة عشر مراتٍ، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلاً فعله، فكل مالٍ ملكته يميني فهو في سبيل الله على مساكين الحرمين، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلاً فعله، فكل عبدٍ ملكته أو أملكه فهو حر، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلاً فعله، فكل امرأة تزوجتها أو أتزوجها فهي طالق مني ثلاث طلقاتٍ، هذه الأيمان والنذور كتبتها ببناني، وأجريتها على لساني، لا خوفاً من غوائله، ولا هرباً من حبائله، فإن الصلح آمن أهله، والإسلام جب ما قبله، ولكن إظهاراً لخلو راحتي، وبراءة ساحتي، وشفقةً عليه - أدام الله علوه - وصيانةً لفاضلٍ مثله لا مثيل له في أقطار الشرق والغرب، وأقاصي البر والبحر، أن يسلك طريقةً غير مستصوبةٍ ويختار شريعةً غير مستعذبةٍ. - عصمنا الله وإياه - مما يورث ذماً، ويعقب إثما.
وقد بعث في قران هذه الخدمة خدمةً أخرى مفرطةً في الطول، مجررةً للذيول، منسوجةً على منوال آخر، كالكي للداء إذا استحكمت شدته، وتطاولت مدته، وعجز الأساة عن معالجته، والأطباء عن مداواته، وهديته - أدام الله علوه - فيها النجدين، وأريته الطريقين، ودفعت عنان الإختيار إليه، ووضعت زمام الإسار في يديه، ليسلك منهما ما يشاء، إما ما يسر به وإما ما يساء. - وفقه الله للصواب والأصلح، وأسعدة بالأرشد والأنجح، وجعله من الصالحين المصلحين، والفائزين المعليمن - إن شاء الله تعالى والسلام.
وكتب إليه مع الكتاب المتقدم ذكره:

" بسم الله الرحمن الرحيم " : صادفني - أطال الله بقاك في دولةٍ مشرقة الكواكب، ونعمةٍ هاطلة السحائب، وسلامةٍ طيبة المشارع والمشارب - خطابه الكريم وكتابه الشريف بخوارزم، وأنا ناعم البال منتظم الحال، ومنة النفس في دعةٍ، ومن العيش في سعةٍ، والحمد لله على ذلك، وبه الثقة والحول، وله المنة والطول، وحين تنسمت من يد حامله رياه، وثبت من مكاني مستقبلاً إياه، ومددت إليه يميني مد معزٍ مكرمٍ. وأخذته بطرف كمي أخذ مجلٍ معظمٍ، وقلت في نفسي: كرامة ساقها الله تعالى إلي، وسعادة ألقت أنوارها علي، وأرسلت في الحال قاصداً ذروات الأشراف، وسروات الأطراف، وبعثت في الساعة مرعاً إلى رجالات الأخبية والأبنية، وساكنة الأباطح والأودية، ودعوت من كل حلةٍ رئيسها وزعيمها، ومن كل خطةٍ كبيرها وعظيمها، حتى اجتمع عندي البدوي والحضري، واحتشد في ربعي الربعي والمضري، ثم عرضت عليهم كتاباً شريفاً بختمه، وحنيت ظهري لتقبيله ولثمه، وطلبت خطيباً مصقعاً من بلغاء بني معدٍّ صحيح اللسان، فصيح البيان، ووضعت له في منزلي منبراً من الساج، مغشى بالدرر والديباج، ليصعد به ذرا الأعواد، ويقرأه على رؤوس الأشهاد، فرفع الكل أصواتهم يمنةً ويسرةً، وسألوني خفيةً وجهرةً، ما هذا الذي تظهره لنا وتعرضه؟ وتوجب علينا سماعه وتفرضه؟ فقلت: كتاب إمامٍ لم تلمح عين الزمان لمثله، ولم تسمح يد الليالي بشكله، كتاب إمامٍ هو في العلم صاحب آياتٍ، وفي الفضل سابق غاياتٍ، إمام تطلع نجوم الجو دون قدره، وتحسد رياض الخلد أطايب صدره، كتاب إمامٍ تم به حساب العلماء، كما تم برسول الله صلى الله عليه وسلم حساب الأنبياء، صحيفة فخرٍ حررتها يد بيضاء، وقلادة مجدٍ رصعتها همة روعاء، ونشرت من معالي سيدنا - أدام الله علوه ومفاخره - وذكرت من مناقبه ومآثره، ما امتلأ بنشره النادي، وسال من ذكره الوادي، فسكنوا وسكتوا، وأصغوا وأنصتوا، فلما فضضت ختامه، وحدرت لثامه، وشاهدت في أثنائه من الفزع الأكبر، وعاينت في أدراجه من أهوال يوم المحشر، ما أطال السهاد، وأطار الرقاد، وشق جلباب الصبر ومريطاء الجلد، وجرح سواد العين وسويداء الخلد، حسبته حلةً خسروانيةً، فوجدته حربةً هندوانيةً، كتاب لا بل كتائب تفل كل جيشٍ، وخطاب لا بل خطوب تكدر كل عيشٍ، وكلام لا بل في الأضالع كلام، وفصول لا بل في الجوانح نصول، وأسجاع مؤنقة لا بل أوجاع موبقة، كله كأنه نازلة الدهر، وقاصمة الظهر، كأنما ألفاظه أنياب الأراقم، ومعانيه أظفار الضراغم، وهو - أدام الله علوه - دفاع الأمراض بطبه، فلم أمرضني بفضائح سبه؟ ونطاسي الجراح بعلمه، فلم جرحني بقبائح ظلمه؟
وممن أرجى شفاء السقام ... ومسقمتي جفوات الطبيب
ما هذا الإنذار والإيعاد؟ وما هذا الإبراق والإرعاد؟ كأنه صاحب دلدل وفارس يليلٍ، أو كأنه من أقيال اليمن، وأبطال الزمن، أو كأنه ثعبان الحرب، وشيطان الطعن والضرب، وذكر البول، أولى به من ذكر الهول. وحديث البراز أولى به من حديث البراز:
إن للهجر رجالاً ... ورجالاً للوصال

قال - أدام الله علوه - : مصصت دمي من عرقي، أوليس يدري أن امتصاص الدماء من خصائص بضاعته، والتصرف في اللحوم والعظام من لوازم صناعته؟ - رحم الله - امرأً عرف قدره، ولم يتعد طوره، وشر ما في بني آدم من الخصال الذميمة، والأفعال اللئيمة، إيذاء الصغار والكبار، وإيحاش العبيد والأحرار. وهذا له: - أدام الله فضله - جبلة فطر عليها، وطبيعة استرسل معها، وسجية شهر بين العامة والخاصة بها، يشتم كل يوم في منزله ومكانه، وعلى سدة داره وطرف دكانه، خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، من الرافعين قصصاً إليه، والعارضين عللهم عليه، فيرجعون وجفونهم تتصوب عبراتها، وقلوبهم تتصعد زفراتها، لما يلاقون من سوء خلقه، ويقاسون من خشونة نطقه، ويقفلون وألم ذلك التهجم والإعراض، والوقيعة في الأحشاب والأعراض، أشد عليهم من ألم الأسقام والأمراض ولهذا جعل شخصه وصير نفسه، - مع أنه أفضل زمانه، وأعلم أولاد قرانه - ضحكة الأداني والأقاصي، وسخرةً للأذناب والنواصي، حتى صار بحيث إذا مشى في الأسواق تعادى صبيان البلد حوله فيسخرون منه، ويضحكون عليه، وينعرون في قفاه، ولا أقول فيه - أدام الله علوه - إلا ما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابن المقفع حين رأى كمال فضله، ونقصان عقله: علم وافر، وعقل قاصر. ومن قصور عقل ابن المقفع: أنه مر ببيت النار وكان من أولاد كسرى، فتنفس الصعداء، وتمثل ببيت الأحوص بن محمدٍ الأنصاري:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فاتهم بالمجوسية، فألقى في تنورٍ مسجورٍ فأحرق، وما أصدق من قال: قيراط عقلٍ، خير من قنطار فضلٍ ومثقال حلمٍ، أنفع من مكيال علمٍ. أنكر - أدام الله علوه - رشاد مذهبي وإنكاره ضلال، وجحد سداد سيرتي وجحوده باطل محال، فيا طير الله جمجمة فرخت فيها الأضاليل وباضت، ويا أسكت الله شقشقةً دفعت منها الأباطيل وفاضت، ولا أعني بهذه الجمجمة إلا جمجمته التي لا عقل فيها، ولا أريد بهذه الشقشقة إلا شقشقته التي يباينها الصدق وينافيها. حتى متى يتهمني بظنه؟ وإلى كم يجرعني دردي دنه؟ أيحسب - أدام الله علوه - أن ظنه الباطل، وخياله الفاسد، ووهمه الكاذب، وحي من السماء إلهي، أو إلهام في الحقيقة رباني، أو آية نفث بها روح القدس في روعه، لا بل هو واحد من أبناء زماننا، وهذا شر الأزمنة، عجم الشيطان عوده فاستلانه، فصير خزانة خياله مكانه، فهذه الخطرات التي تختلج في جنانه وتدور حول حسبانه من تلك الخيالات الشيطانية، لا من الإلهامات الربانية. ولقد بلغني من أفواه الرواة وألسنة الثقات، أنه: - أدام الله علوه - أخذ بعين هذه التهمة الكاذبة قبل هذا واحداً من أعيان جلدته، وسكان بلدته، وهو مسعود بن المنتخب، - رحمه الله - فأغار على أهله وبيته، وتعرض لحيه وميته، وخرب دوره ورباعه، وغصب أثاثه وباعه، من غير حجةٍ صححها، ولا بينةٍ أوضحها، - اللهم اصرع الظالم على الهامة، وخذ منه للمظلوم حتى يرضى عنه يوم القيامة - ومما أقضى منه العجب أن عهدي به - أدام الله عزه - قد كان يخرب الأبدان، فها هو الآن يخرب الأوطان، وما أسرع الدهرإلى تغير البشر، وما أقدره على تبديل الصور والسير.

قرأت في بعض الكتب أن خليفةً من الخلفاء رأى في منامه أن واحداً من ندمائه وثب عليه ليقتله، فلما أصبح استدعى النديم وأمر بقتله، فقال له النديم: ماذا فعلت من الذنب حتى استوجبت هذه العقوبة؟ قال الخليفة: ما فعلت شيئاً، ولكني رأيت في المنام أنك تقتلني، فقال له النديم: إن يوسف بن يعقوب - صلوات الله وسلامه عليهما - مع كونه صديقاً نبياً احتاجت رؤياه إلى تعبيره، وافتقرت أحاديثه إلى تأويلٍ وتفسيرٍ. أفتستغني رؤياك عن مثل ذلك؟ فضحك الخليفة وخلاه. وأنا أقول: هكذا ظنون جميع ذوي الألباب، معرضة للخطأ والصواب، كأنه - أدام الله علوه - تفرد بينهم بذاته، وتوحد بعظمة صفاته، فتنزهت ظنونه عن السهو، وتقدست أحاديثه عن اللغو، عصمنا الله من الكبر البائن والعجب الشائن، أما حان أن ينتبه - أدام الله علوه - من غفلته ويستيقظ من رقدته، وقد بلغ غاية شيبه، وأخذ الموت بلحيته وجيبه، يقرع كل ساعةٍ منادى الفناء في أذنه الصماء، أن أترك أوطانك، واهجر أهلك وجيرانك، وارحل إلى جهنم بخيلك ورجلك، فإنها قد أوقدت نيرانها لأجلك، وما حرص جهنم على شيء كحرصها على إحراق شيخٍ غويٍ، وهمٍ غبيٍ، سيئ الخليقة، مذموم الطريقة، يتظاهر بالإثم والعدوان، ويتبع خطوات الشيطان، وهو - أدام الله علوه - بلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وهم بحر عمره بالنضوب ومال نجم بقائه للغروب، فما ظنه؟ هل في الحياة طمع وقد بليت جدته وفنيت مدته، وتراجع أمره، وأربي على الثمانين عمره؟:
أيرجو الفتى عوداً إلى طيباته ... وقد جاوزت رأس الثمانين سنه
كتبت هذه الأحرف على سبيل النموذج والجواب بعد في الجراب، والسيف لم يسل من القراب فإن انزجر - أدام الله علوه - واتعظ، وترك الفظاظة والغلظ، وعاد إلى كرم العهد، وصفاء الود فأنا خادم مخلص، وعبد مطيع، وتلميذ معتقد:
وإلا فعندي للعدو وقائع ... تريه المنايا لا ينادي وليدها
الحسن بن محمدٍ المهلبي أبو محمدٍ
قد سقطت من نسختنا أوائل الترجمة قصيدة يخاطب فيها أبا جعفرٍ الصيمري، ويذكر المهلبي - وكان في صحبته - :
ماذا لقينا من القاطول لا هطلت ... فيه السحاب ولا سقته تهتانا
فقد سددناه وارتدت غواديه ... حسرى ولم نأل إحكاماً وإتقاناً
وقد دعمنا له سكراً سما وطما ... حتى توهمه راوه ثهلانا
واستفرغ الوسع حتى طم خادمك ال ... مهلبي وقاسى فيه أشجانا
نجاه منه بآراءٍ مثقفة ... تخالها في ظلام الليل نيرانا
رميت بحرأ بطودٍ فاستكانله ... كرهاً وأيقظت فيما بات يقظانا
وما تقابل بالإقبال ممتنعاً ... إلا تبدل بالعصيان إذعانا

ثم خرج معز الدولة والصيمري إلى الموصل لقتال ناصر الدولة، فاستخلف الصيمري المهلبي وأبا الحسن طازاد بن عيسى على الأمور بمدينة السلام إلى أن عاد، ثم خرج الصيمري إلى البطيحة لطلب عمران بن شاهين، واستناب بحضرة معز الدولة أبا محمدٍ وحد في سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، فخدم أبو محمدٍ معز الدولة خدمة خفف بها عنه وخف على قلبه، فقبله ومال إليه، وبلغ أبا جعفرٍ ذلك فثقل عليه، فتطلب لأبي محمدٍ الذنوب وتحمل ما أنكره عليه، وأطلق فيه لسانه بالوقيعة والتهدد، وبلغ أبا محمدٍ ذلك، فقلق واستشعر النكبة والهلكة، لأنه لم طمع من معز الدولة في نصرته عليه، وعصمته منه، فما راعه إلا ورود كتاب الطائر بوفاة الصيمري، فجلس له في العزاء، وأظهر له الحزن الشديد ولزم منزله، واستدعاه معز الدولة وأمره بالحضور وتمشية الأمور، إلى أن يقلد من يرى تقليده الوزارة وترشح للوزارة جماعة، منهم أبو عليٍ الحسن بن هارون بن نصرٍ، وأبو عليٍ الحسن بن محمد الطبري، وأبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الخوميني وبذلوا البذول، وضمنوا الأموال، ووسط أبو عليٍ الطبري في أمره والدة معز الدولة، وبذل مائتي ألف درهمٍ عاجلةً على سبيل الهدية بمطالبه معز الدولة، فحمل منه مائةً وثمانين ألف درهمٍ وقال: قد بقي بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها، فقال معز الدولة: لا أفعل إلا بعد استيفاء المال، فعلم الطبري أنه خدع، وندم على ما حمله. ثم حضر الجماعة المترشحون الخاطبون وكل منه يعتقد أنه المختار المقلد، وجلسوا في خركاةٍ ينتظرون الإذن، ثم وصل القوم ووقفوا على مراتبهم، ودخل أبو محمدٍ بعدهم وقام في أخرياتهم، فلما تكامل الناس أسر معز الدولة إلى أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم الخازن قولاً لم يسمع، فمشى إلى أبي محمدٍ المهلبي وقبل يده، وخاطبه بالأستاذية على ما كان أبو جعفرٍ يخاطب به، وحمله إلى الخزانة فخلع عليه القباء والسيف والمنطقة.
قال هلال: قال جدي: فوالله يا بني لقد رأيت الناس على طباقاتهم ممن أسميناه ومن يتلوهم من الجند وغيرهم، والسعيد من وصل إلى يده فقبلها. وعاد أبو محمدٍ إلى حضرة معز الدولة فخاطبه بالتعويل عليه ف تقلد وزارته وتدبير دولته، وشكره أبو محمدٍ شكراً أطال فيه، وخرج منصرفاً إلى داره، فقدم له شهري بمركبٍ ذهبٍ، وسار أبو محمدٍ سبكتكين الحاجب بين يديه والقواد والناس في موكبه، وذلك لثلاثٍ بقين من جمادى الأولى سنة تسعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، ثم جددت له الخلع من دار الخلافة بالسواد والسيف والمنطقة، فأثقلته هذه الخلع - وكان ذا جثة و الزمان صيف - وقد مشى في تلك الصحون الكثيرة، فسقط عند دخوله إلى حضرة المطيع لله ووقع على ظهره فأقيم، وظن أنه يحصر لما جرى، فقال: يا أمير المؤمنين:
خرسنوه وما درى ما خراسا ... ن بلبس القباء والمزجين

ثم أكثر الشكر وأطال فيه، فاستحسنت منه هذه البديهة على تلك الصورة، وركب إلى داره وجميع الجيش معه وحجاب الخلافة ومعز الدولة بين يديه، فلما كانت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائةٍ، لهج معز الدولة بذكر عمان، وحدث نفسه بأخذها، وأغراه بذلك المعروف بكرك أحد النقباء الأصاغر، فأمر المهلبي بالخروج بالخروج إليها فدافعه ووضع عليه من يزهده فيها فلم يزدد إلا لجاجاً، وكان أبو محمدٍ يؤذي حاشية معز الدولة فإنه ألزمهم تقسيطاً في نفقة البناء الذي استحدثه من غير أن يخرج بأحدٍ منهم إلى عسفٍ، فأحفظهم فعله، فبعثوا معز الدولة على إخراجه، فما ألح عليه ضمن له أن يستخرج من هؤلاء جملةً كبيرةً يستعين بها في هذا الوجه، فمكنه من ذلك بعد أن شرط عليه أخذ العفوة تجنب الإجحاف، فقبض على جماعةٍ وأخذ منهم ألفي درهمٍ، منها خمسمائة ألف درهمٍ من أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم النصراني الخازن، ومعز الدولة على غاية العناية بأمره والثقة بأنه لا مال له، وأظهر أبو عليٍ الفقر وسوء الحال، وأنه اقترض المال الذي أداه من الناس، فشق ذلك على معز الدولة وظنه حقاً، واعتل أبو عليٍ عقيب ذلك ومات، فاعتقد معز الدولة أن أبا محمدٍ قتله لما عامله به، وأقبل عليه يلومه ويحلف له أنه يقيده به،، فلم يلتفت أبو محمدٍ إلى ذلك، وبادر إلى دار أبي عليٍ وقبض على خادمٍ له صغيرٍ كان يختصه ويثق به، ومناه ووعده، فدله على دفينٍ كان لأبي عليٍ في الدار فاستخرج منه عدة قماقم فيها نيف وتسعون ألف دينارٍ، وحملها إلى معز الدولة وقال له: هذا قدر أمانة خازنك الذي ظننت أني قد قتلته باليسير الذي أخذته لك منه، وما فيه درهم من مالك، وإنما اقترضه من أولادك وحرمك وغلمانك وشنع عليك. ثم تتبع أسبابه وأخذ منهم تمام مائتي ألف دينار، وقدر أبو محمدٍ أن معز الدولة يمكنه من الحاشية الباقين ويعفيه من الخروج فلم يفعل، وجد به جداً شديداً في الإنحدار، فانحدر في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ، وتمادت أيامه بالبصرة للتأهب والاستعداد، وامتنع العسكر المجرد من ركوب البحر، فبلغ معز الدولة ذلك، فاتهمه بأنه بعث العسكر على الشغب، فكاتبه بالجد والإنكار عليه في توقفه وإلزام المسير، ووجد أعداؤه طريقاً للطعن عليه، واغتنموا تنكر معز الدولة عليه، وأقاموا في نفسه أنه انحدر من مدينة السلام وهو لا يعتقد العود إليها، وأنه سيغلب على البصرة كما تغلب البريديون، وأن العسكر الذي معه والعشائر هناك على طاعةٍ له، وعظموا عنده أحواله، فتدوخ معز الدولة بأقاويلهم، وعرف أبو محمدٍ ذلك فأطلق لسانه فيهم، وخرق الستر بينه وبينهم، وتطابقت الجماعة في المشورة على معز الدولة بالقبض عليه والإعتياض بأمواله عما يقدر حصوله من عمان، وجعلوه على ثقةٍ من أنهم يسدون مسده، فمال إلى قولهم وكتب إلى أبي محمدٍ يعفيه من الإتمام إلى عمان، ويرسم له الإنكفاء إلى مدينة السلام، وعلم أبو محمدٍ بالحال، ووطن نفسه على الصبر وركوب أصعب المراكب فيه، وأن يدخل فيما دخل فيه القوم، ويتولى هو مصادرة نفسه وأصحابه وخصومه وأعدائه، وكان ملياً بذلك، فهجمت عليه علته التي مات منها، وتردد بين إفاقةٍ ونكسةٍ إلى أن وردت الكتب باليأس منه، فأنفذ معز الدولة حينئذٍ أحد ثقاته على ظاهر العيادة له، وباطب الاستظهار على ماله وحاشيته، فألقاه في طريقه محمولاً في محفةٍ كبيرةٍ مملوءةٍ بالفرش الوثيرة، ومعه فيها من يخدمه ويعلله، ويتناوب في حملها جماعة من الحمالين، فلما انتهى إلى زواطا قضى نحبه ومضى لسبيله، وسقط الطائر بمدينة السلام بذلك، فقبض على أسبابه وحرمه وولده، فصودرت الجماعة، ووقع السرف في الاستقصاء عليهم، فلم يظهر لأبي محمدٍ مال صامت ولا ذخيرة باطنة، وبانت لمعز الدولة نصيحته، وبطلان النكير عليه، وقد كان يصل إليه من حقوق الرقاب في ضياعه وما يأخذه من إقطاعه، ويستثني به على عماله مال كثير يستوفيه جهراً من غير أن توقع فيه أمانة، وبصرف جميعه في مئونته ونفقاته وصلاته وهباته، وإلى هدايا جليلةٍ كان يتكلفها لمعز الدولة في أيام النواريز والمهاريج.

وعطف معز لدولة على الجماعة يطالبهم بالضمانات التي ضمنوها فاحتجوا بوفاته، ووعدوا بالبحث عن ودائعه، وتدافعت الأيام واندرج الأمر، فكان الذي صح من مال أبي محمدٍ ومال حرمه وأولاده وأسبابه خمسة آلاف درهمٍ، فيها الصامت والناطق والباطن، وأثمان الغلات وارتفاق الأملاك والأموال، وأموال جماعةٍ من التجار أخذت بالتأويلات، وكانت وفاته سبباً لصيانته عن عاجل ابتذالهم له، وصيانتهم عن آجل بلواهم به، وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهرٍ، ووفاته في يوم السبت لثلاث ليالٍ بقين من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ. ولأبي محمدٍ:
قضيت نحبي فسر قوم ... حمقى لهم غفلة ونوم
كأن يومي على حتم ... وليس للشامتين يوم
قال هلال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: صاغ أبو محمدٍ دواة ومرفعاً وحلاهما حليةً كثيرةً مشرقةً وكانت ذراعاً وكسراً في عرض شبر، وكذلك كانت آلاته عظاماً، حتى إن آلة دسته مثل مخاده مساند الدسوت إلى ما يجري هذا المجرى من آلات الاستعمال، وقدمت الدواة بين يديه في مرفعها وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي وأنا إلى جانبه، فتذاكرنا سراً حسن الدواة وجلالتها وعظمتها، ثم قال لي: ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأتسع بثمنها، فقلت: وأي شيء يعمل الوزير؟ قال: يدخل في حر أمه وسمع أبو محمدٍ ما جرى بيننا بالإصغاء منه إلينا، وذهب ذاك علينا، فاجتمعت مع أبي أحمد من غدٍ فقال لي: عرفت خبر الدواة؟ قلت: لا. قال: جاءني البارحة رسول الوزير ومعه الدواة ومرفعها، ومنديل فيه عشر قطع ثياباً حساناً وخمسة آلاف درهمٍ وقال: الوزير يقول لك: أنا عارف بأمرك في قصور المواد عنك، وتضاعف المؤن عليك، وأنت تعرف شغلي وانقطاعي به عن كل حقٍ يلزمني، وقد آثرتك بهذه الدواة لما ظننته من استحسانك إياها اليوم عند مشاهدتك، وحملت معها ما تجدد به كسوتك وتصرفه في بعض نفقتك، وانصرف الرسول، وبقيت متحيراً متعجباً من اتفاق ما تجارينا به أمس زحدوث هذا على أثره، وتقدم أبو محمدٍ بصياغة دواةٍ أخرى على شكلها ومرفعٍ مثل مرفعها، فصيغت في أقرب مدةٍ، ودخلنا إلى مجلسه وقد فرغ منها وتركت بين يديه وهو يوقع منها.
ونظر أبو محمدٍ إلى وإلى أبي أحمد ونحن نلحظها فقال: هيه من منكما يريدها بشرط الإعفاء من الدخول فخجلنا وعلمنا أنه كان قد سمع قولنا. وقلنا: بل يمتع الله مولانا وسيدنا الوزير بها، ويبقيه حتى يهب ألفاً مثلها، اللهم أنت جدد الرحمة والرضوان عليه في كل ساعةٍ، بل لحظةٍ بل لمحةٍ، وعلى كل نفسٍ شريفةٍ وهمةٍ عاليةٍ، إنك العلي تحب معالي الأمور وأشرافها، وتبغض سفسافها.
قال: وحدث إبراهيم بن هلالٍ قال: كان أبو محمدٍ المهلبي يناصف العشرة أوقات خلوته، ويبسطنا في المزح إلى أبعد غايةٍ، فإذا جلس للعمل كان امرأ وقوراً، ومهيباً ومحذوراً، آخذاً في الجد الذي لا يتخونه نقص، ولا يتداخله ضعف، فاتفق أن صعد يوماً من طيارةٍ إلى داره - وقد حقنه البول وما كان يعتريه من سلسه - فقصد بعض الأخلية فوجده مقفلاً - وكذاك كانت عادته جاريةً في أخلية داره حفاظاً لها عن الابتذال - فأبى أن يدعو الفراش ويحضر، فقال لي متبادراً على نفسه:
فهبك طعامك استوثقت منه ... فما بال الكنيف عليه قفل؟
فقلت: لعمري إنه موضع عجبٍ، وإذا وقع الاجتياط في الأصل فقد استغنى عنه في الفرع، فضحك وقال: أوسعتنا هجاءً. فقلت: وجدت مقالاً. فقال: اسكت يا فاعل يا صانع.
قال أبو إسحق: وأجلسني معز الدولة لأكتب بين يديه وأبو محمدٍ المهلبي قائم فحجبني عن الشمس، فقال: كيف ترى هذا الظل؟ فقلت: ثخين. فقال: واعجباً! أحسن وتسئ. وضحك! ومن شعر المهلبي:
يا هلالاً يبدوا لتهتاج نفسي ... وهزاراً يشدو فيزداد عشقي
زعم الناس أن رقك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقي
وحدث أبو محمدٍ المهلبي قال: كنت أيام حداثتي وقصر حالي، وصغر تصرفي أسكن داراً لطيفةً - ونفسي مع ذلك تنازع في الأمور العظيمة، إلا أن الجد قاعد، والمقدور غير مساعدٍ - فأصبحت يوماً وقد جاء المطر وازدادت الحجرة إظلاماً، وصدري بها ضيقاً، فقلت:
أنا في حجرةٍ تجل عن الوص ... اف ويعمى البصير فيها نهارا

هي في الصبح كالظلام وفي اللي ... ل يولي الأنام عنها فرارا
أنا منها كأنني جوف بئرٍ ... أتقي عقرباً وأحذر فارا
وإذا ما الرياح هبت رخاءً ... خلت حيطانها تميد انهيارا
ورب عجل خرابها وأرحني ... من حذاري فقد مللت الحذارا
تحدث أبو الحسين هلال بن المحسن قال: حدث القاضي أبو بكر بن عند الرحمن بن خزيمة قال: كنت مع الوزير المهلبي بالأهواز، فاتفق أن حضرت عنده في يومٍ من شهر رمضان، والزمان صائف والحر شديد، ونحن في خيشٍ باردٍ، فسمع صوت رجلٍ ينادي على الناطف فقال: أما تسمع أيها القاضي صوت هذا البائس في مثل هذا الوقت؟ والشمس على رأسه، وحرها تحت قدميه، ونحن نقاسي في مكاننا هذا البارد ما يقاسيه من الحر؟ وأمر بإحضاره فأحضر، فرآه شيخاً ضعيفاً عليه قميص رث وهو بغير سراويل وفي رجله تاسومة مخلقة، وعلى رأسه مئزر، ومعه نبيخة فيها ناطف لا تساوي خمسة دراهم، فقال له: ألم يكن لك أيها الشيخ في طرفي النهار مندوحة عن مثل هذا الوقت؟ فتنفس الرجل وقال: ما أهون على الراقد سهر الساهد! وقال:
ما كنت بائع ناطفٍ فيما مضى ... لكن قضت لي ذاك أسباب القضا
وإذا المعيل تعذرت طلباته ... رام المعاش ولو على جمر الغضا
فقال له الوزير: أراك متأدباً، فمن أين لك ذلك؟ فقال: إني أيها الوزير من أهل بيتٍ لم يكن فيهم من صناعته ما ترى - وأسر إليه أنه من ولد معن بن زائدة - فأعطاه مائة دينارٍ وخمسة أثوابٍ، وجعل ذلك رسماً له في كل سنةٍ.
وحدث القاضي أبو عليٍ التنوخي قال: شاهدت أبا محمدٍ المهلبي قد ابتيع له في ثلاثة أيامٍ ورد بألف دينارٍ فرش به مجالس وطرحه في بركةٍ عظيمةٍ كانت في داره، ولها فوارات عجيبة يطرح الورد في مائها وينفضه، وبعد شرابه عليه وبلوغه ما أراده منه أنهبه، ولأبي عبيد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يرثي أبا محمدٍ:
يا معشر الالشعراء دعوة موجعٍ ... لا يرتجى فرح السلو لديه
عزوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دماً بعد الدموع عليه
مات الذي أمسى الثناء وراءه ... وجميل عفو الله بين يديه
هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنا نفر من الزمان إليه
وتضاءلت همم المكارم والعلا ... وانبت حبل المجد من طرفيه
عمري لئن قادته أسباب الردى ... مثل الجواد يقاد في شطنيه
فليعلمن بنو بويهٍ أنما ... فجعت به أيام آل بويه
ولأبي محمدٍ المهلبي:
أمثلي يا أخي وقسيم نفسي ... يفارق عهده عند الفراق؟
ويسلو سلوةً من بعد بعدٍ ... وينسبه الشقيق إلى الشقاق
فأقسم بالعناق وتلك أشفى ... واوفى من يميني بالعتاق
لقد ألصقت بي طلباً قبيحاً ... تجافى جانباه عن التصاق
وحدث أبو النجيب شداد بن إبراهيم الجزري الشاعر الملقب بالظاهر قال: كنت كثير الملازمة للوزير محمدٍ المهلبي، فاتفق أني غسلت ثيابي وأنفذ إلي يدعوني، فاعتذرت بعذرٍ فلم يقبله وألح في استدعائي، فكتبت إليه:
عبدك تحت الحبل عريان ... كأنه لا كان شيطان
يغسل أثواباً كأن البلى ... فيها خليط وهي أوطان
أرق من ديني إن كان لي ... دين كما للناس أديان
كأنها حالي من قبل أن ... يصبح عندي لك إحسان
يقول من يبصرني معرضاً ... فيها وللأقوال برهان
هذا الذي قد نسجت فوقه ... عناكب الحيطان إنسان؟
فأنفذ لي جبةً وقميصاً وعمامةً وسراويل وكيساً فيه خمسمائة درهمٍ وقال: قد أنفذت لك ما تلبسه وتدفعه إلى الخياط ليصلح لك الثياب على ما تريده، فإن كنت غسلت التكة واللالكة فعرفني لأنفذ لك عوضها. ولأبي محمدٍ المهلبي:
ويومٍ كأن الشمس والغيم دونها ... حجاب به صينت فما يتهتك
عروس بدت في زرقة من ثيابها ... تجللها فيها رداء ممسك
قرأت بخط المحسن بن إبراهيم الصابئ: أنشدني والدي قال: أنشدني الوزير أبو محمدٍ المهلبي لنفسه:

إذا تكامل لي ما قد ظفرت به ... من طيب مسمعةٍ وصوت رنان
وقهوةٍ لو تراها خلت رقتها ... ديني ومن حاجزٍ إن شئت أغناني
فما أبالي بما لاقى الخليفة من ... بغي الخصي وعصيان ابن حمدان
وقال الصاحب بن عبادٍ: أنشدني الأستاذ أبو محمدٍ المهلبي لنفسه:
قال لي من أحب والبين قد جد ... د وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق؟
حدث أبو عليٍ التنوخي قال: كان أبو محمدٍ المهلبي يكثر الحديث على طعامه وكان طيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب وضروب الحديث على المائدة لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيراً ما أحضر، فقدم إليه في بعض الأيام حجل فقال لي: أذكرني هذا حديثاً طريفاً، وهو ما أخبرني به بعض من كان يعاشر الراسبي الأمير قال: كنت آكل معه يوماً وعلى المائدة خلق عظيم فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، ثم استأمن إليه فآمنه واختصه، وطالت أيامه معه وكان في ذلك اليوم على مائدته إذ قدم حجل فألقى الراسبي منه واحدةً إلى الكردي كما تلاطف الرؤساء مؤاكليهم، فأخذها الكردي فجعل يضحك، فتعجب الراسبي من ذلك وقال: ما سبب هذا الضحك وما جرى ما يوجبه؟ فقال: خبر كان لي، فقال: أخبرني به، فقال: شيء ظريف ذكرته لما رأيت هذه. قال: فما هو؟ قال: كنت أيام قطع الطريق قد اجتزت في المحجة الفلانية في الجبل الفلاني وأنا وحدي في طلب من آخذ ثيابه، فاستقبلني رجل وحده، فاعترضته وصحن عليه فاستسلم إلي ووقف، فأخذت ما كان معه وطالبته أن يتعرى ففعل ومضى لينصرف، فخفت أن يلقاه في الطريق من يستفزه علي فأطلب وأنا وحدي فأوخذ، فقبضت عليه وعلوته بالسيف لأقتله، فقال: يا هذا أي شيءٍ بيني وبينك؟ أخذت ثيابي ولا فائدة لك في قتلي، فكتفته ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنعه بالسيف، فالتفت كأنه يطلب شيئاً فرأى حجلةً قائمةً على الجبل فصاح: يا حجلة اشهدي لي عند الله تعالى أني أقتل مظلوماً، فما زلت أضربه حتى قتلته، وسرت فما ذطرت هذا الحديث حتى رأيت هذه الحجلة، فذكرت حماقة هذا الرجل فضحكت، فانقلب عليه الراسبي في رأسه حرد وقال: لا جرم والله إن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم في الدنيا قبل الآخرة، وما آمنتك إلا على ما كان منك من إفساد السبيل، فاما الدماء فمعاذ الله أن أسقطها عنك يابن الفاعلة بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي. يا غلمان اضربوا عنقه، قال: فبادر الغلمان إليه بسيوفهم يخبطونه حتى تدحرج رأسه بين أيديهم على المائدة وجرت جثته، ومضى الراسبي حتى أتم غداءه.
قال قال أبو عليٍ: حضرت أبا محمدٍ في وزارته، وقد دفع إليه شاعر رقعة صغيرة فقرأها وضحك وأمر له بألف درهمٍ، وطرح الرقعة فقرأتها وإذا فيها:
يا من إليه النفع والضر ... قد مس حال عبيدك الضر
لا تتركن الدهر يظلمني ... ما دام يقبل قولك الدهر

قال إبراهيم بن هلالٍ الصابئ: كان أبو محمدٍ يخاطب بالأستاذية. قال أبو عليٍ: كنت في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ ببغداد، فحضر أول يومٍ من شهر رمضان، فاصطحبت أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي عليٍ الحسين بن هارون الكاتب في دار أبي الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمدٍ المهلبي لنهنئه بالشهر عند نوجه أبيه إلى عمان، وبلغ أبو محمدٍ إلى موضعٍ من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ، ففترت نيته عن الخروج إلى عمان، واستوحش معز الدولة منه وفسد رأيه فيه، واعتل المهلبي هناك، ثم أمره معز الدولة بالرجوع من علياباذ، وألا يتجاوزه، وقد اشتدت علته والناس بين مرجفٍ بأنه يقبض عليه إذا حصل بواسط أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته، وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد: أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن الحسين، فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي داره التي كانت لأبيه على دحلة على الصراة عند شباك على دجلة، وهو في دست كبير عالٍ جالس وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذا ذاك صبي غير بالغ إلا أنه محصل، فلم يلبث أن جاءه أبو الفضل وأبو الفرج فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره على طرف دسته في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما ولا انزعج ولا شاركاه في الدست، وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم فيساره فيمضي ويعود ويخاطبه سراً، إلى أن جاءه بعد ساعةٍ فساره فنهض، فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنئ من يجب تهنئته واعود إليك، فكن مكانك، وكان أبو الفضل زوج زينة ابنة أخت أبي الغنائم من أبيه وأمه تجني، فحين دخل واطمأن قليلاً وقع الصراخ وتبادر الخدم والغلمان، ودعي الصبي وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام فأمسكه أبو الفرج وقال: اجلس - وقبض عليه - وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني أم الصبي ووكل بها خدماً وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا - يعني معز الدولة - فقد طلبك، وقد مات أبوك، فبكى الصبي وسعى إليه وعلق بدراعته وقال: يا عم الله الله في - يكررها - فضمه أبو الفضل إليه واستعبره وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو أبو الفرج في زبزبه وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب تريد معز الدولة بباب الشماسية.
فقال أبو الفتح بن الحسين بن هارون: ما رأيت مثل هذا قط ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة كان هذا الغلام في الصدر معظماً وخليفتا أبيه بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً، ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته ما لم يجر على أحدٍ.
قال أبو عليٍ محمد بن وشاحٍ الكاتب: قال لي أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن سكرة الهاشمي من ولد المهدي:خرجت إلى الأهواز قاصداً للوزير أبي محمدٍ الحسن بن محمدٍ المهلبي مادحاً له، فلما وصلت إليه أنشدته:
قفي حيث انتهيت من الصدود ... ولا تتعمدي قتل العميد
فقد وهواك أجل حلفي ... حميت نظيرتيك من الهجود
هجرت مقيمةً وظعنت غضبي ... فخربت الحديد على الحديد
فراق ظعينةٍ وفراق رأيٍ ... يكرهما علي فراق جود
ثلاث ما اجتمعن على ابن حبٍ ... صدود في صدودٍ في صدود
قال وانصرفت، فلما كان من الغد استدعاني وقال: اسمع وأنشدني لنفسه:
أتاني في قميص اللاذ يمشي ... عدو لي يلقب بالحبيب
فقلت له فديتك كيف هذا ... بلاواشٍ أتيت ولا رقيب؟
فقال الشمس أهدت لي قميصاً ... رقيق الجسم من شفق الغروب
فثوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريبٍ من قريب
الحسن بن محمدبن أبي الشخباءبن عبد الصمد بن أبي الشخباء أبو عليٍ العسقلاني صاحب الرسائل، مات فيما ذكره علي بن بسامٍ في كتاب الذخيرة في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائةٍ معتقلاً بمصر في خزانة البنود.

وكان يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين، أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة، قيل: إن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن البيساني منها منها استمد، وبها اعتد، وأظنه كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر، لأن في رسائله جواباتٍ إلى الفساسيري، إلا أن أكثر رسائله أخوانيات، وما كتبه عن نفسه إلى أصدقائه ووزراء أمراء زمانه، وها انا أكطتب منها ما سنح لتعرف قدر بضاعته، ومغزى صناعته نظماً ونثراً. قال من قصيدة:
أخذت لحاظي من جنا خديك ... أرش الذي لاقيت من عينيك
هيهات، إني وزنت بمهجتي ... نظري إليك فقد ربحت عليك
غضي جفونك وانظري تأثير ما ... صنعت لحاظك في بنان يديك
وهو ويك نضح دمي وعز علي أن ... ألقاك في عرض الخطاب بويك
فسلكت في فيض الدموع مسالكاً ... قصرت بها يد عامرٍ وسليك
صانوك بالسمر اللدان وصنتهم ... بنواظرٍ فحميتهم وحموك
لو يشهرون سيوف لحظك في الوغى ... لاستقرؤوا فيها قنا أبويك
وقد كتب إلى صديقٍ له: لما حديت ركاب مولاي أخذ صبري معه، وصحبه فلبي وتبعه:
فعجبت من جسمٍ مقيمٍ سائرٍ ... كمسير بيت الشعر وهو مقيد
وبقيت أقاسي أموراً تخف الحليم، وترعي الهشيم، إن رجوت منها غفلةً اقتحمت، وإن رمت منها فرجةً تضايقت والتحمت، وأما الوحشة فقد اصطحبت منها كأساً مترعةً، وتجرعت من صابها أم جرعةً، ورأيت فؤادي إذا مر ذكر مولاي، يكاد يخرج من خدره، ويرغب في مفارقة صدره، حنيناً يجدده السماع، وصدوداً ينتفض منه الأضلاع وزفرةً يدمي في غرارها، ويطلع في الترائب شرارها:
أداري شجاها كي تخلي مكانها ... وهيهات ألقت رحلها واطمأنت
وأما ما أعاني بعد مسيره فأشياء: منها عيث الألم مرةً، وزوال الاستمتاع بما يعرفه من تلك المسرة، ومنها اضطراري إلى كثرة مكابرة من أعلم دخل سرائره، واختلاف باطنه وظاهره، وتكلف اللقاء له بصفحةٍ مستبشرةٍ، وأخلاقٍ غير متوعرةٍ، والله يعلم نفور طباعي ممن رآه أهل الأدب من الأدب غفلاً، ومن ذخائره مقفلاً، لكن السياسة تقتضي اعتماد ما ذكرت ما ذكرت وتوجب قصد ما شرحت، وإن كان مورداً غير عذبٍ، وثقيلاً على العين والقلب:
ولربما ابتسم الفتى وفؤاده ... شرق الضلوع برنةٍ وعويل
ومنها انعكاس كثيرٍ من الآمال، وارتشاف الصبابة الباقية من الحال، بجوائح مصريةٍ وشاميةٍ، وفوادح أرضيةٍ وسماويةٍ، ولا أشكو بل أسلم له مذعناً، وأرى فعله كيف تصرفت الأحوال جميلاً حسناً:
ومن لم يسلم للنوائبأصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا
والله تعالى المسؤول أن يهب لي من قرب مولاي ما يأسو هذه الكلوم، ويجددمن المسرة عافى الرسوم، فجميع الحوادث، وسائر النوائب الكوارث، إذا قربت الخطوة، واستجييت هذه الدعوة، تمسي غير مذكورةٍ، وبجناح التجاوز مكفورةً.
وكتب إلى أبي الفرج الموفقي جواباً عن رقعةٍ: وصلت رقعة مولاي والصبح قد سل على الأفق مقضبه، وأزال بأنوار الغزالة غيهبه، فكانت بشهادة الله صبح الآداب ونهارها، وثمار البلاغة وأزهارها، قد توشحت بضروبٍ من الفضل تقصر قاصية المدى، ويجري به في مضمار الأدب مفرداً:
فكان روض الحسن تنثره الصبا ... فأطلت من قرطاسها أتصفح
فأما ما تضمنته من وصفي، فقد صارت حضرته السامية تتسمح في الشهادة بذلك مع مناقشتها في هذه الطريقة، وانها لا توقع ألفاظها إلا مواقع الحقيقة. فإن كنت قد بهرجت عليها فلتراجع نقدها تجدني لا أستحق من ذلك الإسهاب فصلاً، ولا أعد لكلمةٍ واحدةٍ منه أهلاً، وبالجملة فالله ينهضني بشكر هذا الإنعام الذي يقف عنده الثنا، ويضلع، ويحصر دونه الخطيب المصقع:
هيهات تعيي الشمس كل مرامقٍ ... ويعوق دون منالها العيوق

واما الفضل الذي أودعه الرقعة الكريمة من قوله: " فأما فلان فيحل في قومه، ويفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد، قدوره عمارية، وعطسات جواريه أسدية، ويهوين لو خلق الرجال خلق الضباب، يتضوعن النشر العبقسي، ويرضعن مراضع ثعالة المجاشعي " وما أمرت حضرته السامية من ذكر ما عندي فيه فقد تأملته طويلاً، وعثر الخادم فيه بما أنا ذاكره، رغباً في الرضا بما بلغت إليه المقدرة، وتجليل ذلك بسجوف الصفح.
أما قوله: " يفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد " فيقع لي أنه أراد خالد بن الوليد المخزومي، وذلك أن مسيلمة الحنفي كان قد تنبأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحديثه المشهور - فبعث إليه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - خالد بن الوليد المقدم ذكره في جيشٍ كثيفٍ من المسلمين، ففتح اليمامة وقتل مسيلمة وأباد جماعةً كثيرةً من بني حنيفة. وأما قوله " قدوره عمارية " فإن هذا الفصل اما كان مبنياً على الذم وجب أن يتطلب لهذا السبب معنىً يجب حمله عليه، ولم نجد ما ينسب إليه إلا قول الفرزدق:
لو أن قدراً بكت من طول ما حبست ... عن الحقوق بكت قدر ابن عمار
ما مسها دسم مذ فض معدنها ... ولا رأت بعد نار اليقين من نار
وأما قوله: " عطسات جواريه أسدية " فيقوى وهمي أنه أراد قول الأول في هجائه:
إذا أسدية عطست فنكها ... فإن عطاسها طرق الوداق
واما قوله: " يهوين لو خلق الرجل خلق الضباب فإن الجاحظ ذكر في كتاب الحيوان، أن للضب أيرين وللضبة حرين، وحكى أن أير الضب أصله واحد، وإنما تفرق فيصير أعلاه اثنين، واستشهد على ذلك بقول الفرزدق:
رعين الدبا والبقل حتى كأنما ... كساهن سلطان ثياب مراجل
سبحل له نزكان كانا فضيلةً ... على كل حافٍ في البلاد وناعلٍ
والنزك: اسم أير الضب. وأنشد الأصمعي لابن دزماء فيما رواه أبو خالدٍ النميري:
تفرقتم لا زلتم قرن واحدٍ ... تفرق أير الضب والصل واحد
ومن هنا قالت حبى المدنية لما عذلها أبوها في تزوجها ابن أم كلابٍ:
وددت بأنه ضب وأني ... ضبيبة كديةٍ وجدت خلاء
وأما قوله " يتضوعن النشر " فمن أمثال العرب: هو أخسر صفقة من شيخ مهوٍ، وهو بطن من عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن نزار بن معد بن عدنان، وكان من خبره أن إياداً كانت أفسى العرب، فوفد وافدهم إلى الموسم بسوق عكاظ ومعه حلة نفيسة فقال: يا معشر العرب، من يشتري مني مثلبة قومٍ لا تضره بحلتي هذه؟ فقال الشيخ المهوي: أنا أشتريها. فقال الإيادي: أشهدكم يا معشر العرب أني قد بعت فساء إيادٍ لوافد عبد القيس بحلتي هذه، وتصافحا متراضين وقد شهد عليهما أهل الموسم، فصارت عبد القيس أفسى العرب. وقيل لابن مناذرٍ: كيف الطريق إلى عبد القيس؟ فقال شم ومر:
فإن عبد القيس من لؤمها ... تفسو فساءً ريحه تعبق
من كان لا يدري لها منزلاً ... فقل له يمشي ويستنشق
وأما قوله: أعطش من ثعالة المجاشعي، فمن أمثال العرب فيما ذكره الكلبي قال: هما رجلان من بني مجاشع عطشا فالتقم كل واحدٍ منهما أير صاحبه يشرب بوله، فلم يغن عنهما شيئاً، وماتا عطشاً ووجدا على تلك الحال. قال جرير يهجو بني دارمٍ:
رضعتم ثم بال على لحاكم ... ثعالة حين لم يجدا الشرابا
هذا ما وقع لي في هذا الفصل، وأرجو أن أكون قد ذهبت إلى ما قصده قائله.
ومن كلامه يهنئ بكسر أتسز بن أوقٍ الغزي، وكان ذلك لثمان ساعاتٍ مضين من يوم الاثنين في العشر الأخيرة من جمادى الآخرة، سنة تسعٍ وستين وأربعمائةٍ:

" الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضلٍ عظيمٍ " قد ارتفع الخلاف بين الكافة أن الله ذخر للدولة الفاطمية - ثبت الله أركانها، من الحضرة العلية المنصورة الجيوشية - خلد الله سلطانها، من حمى سوادها، ونصر أعلامها، وضم نشرها، وحفظ سريرها ومنبرها، بعد أن كان العداء الذين ارتضعوا در أنعامها، وتوسموا بشرف أيامها، فطردت يد الاصطناع إملاقهم، وأثقلت قلائد الإحسان أعناقهم، فخفروا ذمم الولاء، وكفروا سوابغ الآلاء، ففجأتهم الحوادث من كل طريقٍ، زنعب بهم غراب الشتات والتفريق، واستباحتهم يد الشدائد " واتى الله بنيانهم من القواعد " ، ولم تزل النفوس منذ طرق أتسز اللعين هذه البلاد، وأنجم فيها الفساد، وتعدى حدود الله وكلماته، وتعرض لمساخطته ونقماته. عالمةً بأن إملاء الحضرة العلية - مد الله ظلها على الكافة - لم يكن عن استعمال رخصةٍ في هذه الحال، ولا سكونٍ إلى عوارض من الإغفال والإهمال، بل هو أمر ركب فيه متن التدبير، وجرت بمثله المقادير، واتبع فيه قوله تعالى: " فأمليت للذين كفروا، ثم أخذتهم فكيف كان نكير " وحين خدعته المطامع المردية إلى الأعمال القاهرة مؤملاً انفصام عروة الله المتينة، وأفول ما توقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ، سكنت النفوس إلى أن الحضرة العلية - ثبت الله مجدها - ستجرد له من عزماتها الماضية ما يعجل دماره، وتنتضي له من آرائها الكاملة ما يعفي آثاره، وحين اصطدمت الرجال، وتوالت الأنباء بانكسار اللعين، وما منحته الحضرة من النصر المبين، حتى نهبت الأموال وتحكمت السيوف بحكم القاد الغالب. وأكلتهم الحرب أكل الغرثان الساغب، وأنشبت فيهم أظفارها المنية، وكسيت الأرض من دمائهم حلةً عسجديةً، وولى المخذول على أدباره، ونكص على أعقابه بوبيل أوزاره، يخاف من نجوم الليل أن ترجمه، ومن شمس النهار أن تصطلمه، وترك ما معه يقسم يميناً وشمالاً، ومن حشده يقتل ركباناً ورجالاً، علم أن لله تعالى عنايةً بالدولة الزاهرة، وتحقق أن له سبحانه رعايةً بالملة الطاهرة، تحوط أقطارها، وتضاعف أنوارها، ولطفاً خفياً بهذه الرعية، ومشيئةً نافذةً في هذه البرية، التي لولا مقام الحضرة العلية لمزق أديمها، واستبيح حريمها، والله المحمود على ما منح من هذه النعمة، والمسؤول أن يشد ببقاء الحضرة العلية قواعد الإسلام والأقلام، ويسم بمحامدها أغفال الأيام، ويستخدم لها السيوف والأقلام، حتى لا يبقى على وجه الأرض مفحص قطاةٍ إلا وقد دوخها سنابك خيولها، ولا مسقط نواة إلا وقد ركزت فيه صدور رماحها ونصولها، فقد دفعت - أدام الله جمال الدنيا ببقائها، وأعز كمال الدين ببأسها وأصالة رأيها - خطباً جسيماً، واستلقحت من السياسة أمراً عقيماً، وأعادت شمل الأمة ملموماً نظيماً " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان فضل الله عليك عظيماً " فأما العبد المملوك فقد تلاعبت به أيدي الأقدار، وقذفته العطلة في هوةٍ بعيدة الأقطار، وهو يعد نفسه ويوقيها، ويسوفها ويمنيها، أن مراحم، الحضرة نصر الله أعلامها، تعيد كساد بضاعته نفاقاً، واضطرب حاله انتظاماً واتساقاً، وسكون ريحه خفوقاً، وغروب حظه شروقاً، إن شاء الله تعالى.
زكتب إلى بعض إخوانه: أغب كتاب مولاي حتى أضرم ناراً في الفؤاد، وحالف بين جفني والسهاد:
ثم وافى بلفظه الرائق العذ ... ب وأغنى عن الزلال البرود
وقوله أيضاً:
وقرأته متنزهاً ... في روضه وغديره
جمع البلاغة كلها ... تختال بين سطوره
فالدر في منظومه ... والسحر في منثوره
وعرفت ذكر الشوق الذي هيج أحزاناً، ونكأ قرحاً لا يندمل زماناً، وإن عندي بشهادة الله ما يضرم ناره، ويشب أواره، والله تعالى، يسهل من ألطافه الخفية ما يجمع الشمل، ويصل الحبل، ويقرب الدار، ويدني المزار، بمحمدٍ وآله والأئمة الأطهار.

وأما حالي بعده، وارتياحي إلى ما عنده، وتأسفي على الفائت من أخلاقه التي هي من الحسن أدق، ومن الماء أصفى وأرق: فحال صبٍ أخذ ما في فؤاده، وحولف بين طرفه وسهلاده، فحرم لذلك لذيذ رقاده، وأما عتبه علي لتأخر كتبي عنه، وبعدها منه: فهو يعلم - حرس الله مدته - أنني إذا واصلت أو أغببت أنه سمير لخاطري، وإن غاب عن ناظري، وهو نازل بضمائري، وإن بان من بين مخالطي ومعاشري:
يا غائباً عن ناظري ... وحاضراً في خاطري
لا تخش مني جفوةً ... فباطني كالظاهر
والله يعلم أني لم أغفل كتابه صرماً وهجراً، ولا أهملت مجاوبته نقضاً لمودته الكريمة ولا غدراً، فإنه من العين بمكان من السواد، ومن الصدر بموضع الفؤاد، وبسبب هذا الاعتقاد وما ذكرت من محض الوداد، أبثه أشجاناً، وأطلعه على أسراري إسراراً وإعلاناً، ثقةً بوده، وتمسكاً بوثيق عهده وعقده، لو رآني فسح الله مدته، وضاعف علي مودته، لرأى صباً قلبه خفيق، ودمعه طليق:
قلق الضمير بظبيةٍ وهنانةٍ ... فلها بقلبي هزة وعلوق
الوجه طلق والوشاح مهفهف ... والردف دعص والقوام رشيق
وتبسمت عن واضحٍ فضحت به ... سطع البروق ونم منه رحيق
هذه الأبيات تغني عما أردت أن أشرحه، وتنبيء عن مكنون ما سبيلي أن أثبته واوضحه، والله المسؤول أن يقضي مأربي بسعادة جده، ويزيل عني ما أخشاه بتمام إقباله ومجده، وكتابه هو فسحة للصدر، ومنية ما يطلب من الدهر، ولرأيه علوه في إمضائه إلي ووفوده علي.
وكتب إلى ابن المغربي يهنئه بالفتوح، - أدام الله بقاء سيدنا الوزير الأجل، وما سطع الصبح بعموده، وهمهم السحاب برعوده، وطلعت في الأفق أنجم سعوده - :
نعتده ذخر العلا وعتادها ... ونراه من كرم الزمان وجوده
الدهر يضحك من بشاشة بشره ... والعيش يطرب من نضارة عوده
فقد ألبس الله الدهر من مناقب الحضرة السامية ما أخرس الأئمة، وأفاض على الكلفة من آلائها ما تملك به رق المآثر، ويعجز عنه كل ناظمٍ وناثرٍ، يقصر عنه لسان البليغ ويفضل عن مقلة الناظر، فما ينفك - خلد الله أيامه - يذود عن الدولة برأيٍ صائبٍ، وحسامٍ قاضبٍ يتحاسد عليه الدرع والدراعة، ويتنافس فيه الصمصامة واليراعة، والملك بين هذين متين العماد، مستبحر الثماد:
ما زال قائد كتيبةٍ وكتيبةٍ ... بأصيل رأيي منصلٍ وفؤاد
شبهان من قلمٍ ومن صمصامةٍ ... شهراً ليوم ندىً ويوم جلاد
وما وقفت في هذا المقام موقفاً وحشياً، ولا وقع عندها موقعاً أجنبياً، بل اقتفت آثار أسلافٍ خفقت عليهم ألوية المعالي وبنودها، ووسمت بأسمائهم جباه الممالك وخدودها، وتحيف الكرم أموالهم وهي أثيثة الجناح، وذللت عزامهم النوب وهي شديدة الجماح:
كتاب ملكٍ يستقيم برأيهم ... أود الخلافة أو أسود الصباح
بصدور أقلام ترد إليهم ... سرف الرياسة أو صدور رماح
كان العبد خدم المجلس السامي بخدمةٍ قصدها التهنئة بما فتح الله تعالى من الظفر بالعدو الذي أطاع شيطانه، ومد في مضمار الغي أشطانه، واتبع ما أسخط الله وكره رضوانه، وجرى الله على جميل عادته في زلزلة أطواده، واستئصال أحزابه وأجناده، الذين غدت الرماح تستقي مياه نحورهم، والسيوف تنتهب ودائع صدورهم، والحمام يجول عليهم كل مجالٍ، ويستدنى إليهم نوازح الآجال:
ما طال بغي قط إلا غادرت ... فعلاته الأعمار غير طوال
فتح أضاء به الزمان وفتحت ... فيه الأسنة زهرة الآمال
وأرجو أن يكون التوفيق قضى بوصولها، وأذن في قبولها، فيمتد ظل، ويثري مقل، ويصوب عارض مستهل.
أيعجز فضلك عن خادمٍ ... وأنت بأمر الورى مستقل؟
وبحكم ما العبد عليه من تطلع الأمل القوي، وتوقع الإنعام الكسروي، عززها بهذه المناجاة، وإن كان على ثقةٍ أن رشاه قد ألقي في الغدير القريب، ورائده قد خيم بالمرتع الخصيب:
لو رأينا التوكيد خطة عجزٍ ... ما شفعنا الأذان بالتثويب
ولع - أدام الله عزه - الرأي العالي فيه، إن شاء الله تعالى.

وكتب إلى صارم الدولة بن معروفٍ: - أدام الله بقاء الحضرة الصارمية - يجري القدر على حسب أهويتها، ويعقد الظفر بعزائم ألويتها، ويحلى بذكرها ترائب الأيام العاطلة، وينجز بكرمها عدات الحظوظ المماطلة، ما أصحب الجامح، وأضاء السماك الرامح، وعافت الماء الإبل الطوامح.
وما سحبت في مفرق الأرض ذيلها ... خوافق ريحٍ للسحاب لواقح
إذا رفض الناس المديح وطلقوا ... بنات العلا زفت إليه المدائح
أيام الناس شهود مختلفة في الأقوال، وصنوف متباينة الأحوال، فيوم تؤرخ السير بسودده وسنائه، وينطق بمحامد قومٍ ألسنة أبنائه، ويوم يخبو في موقف الجد شهابه، ويعبق بمسك المدام إهابه، فالحمد لله الذي جعل الحضرة سامية عقال الخطوب العوارم، ونظام المحاسن والمكارم، يعتدها الزمن نسيم أصائله، وزهر خمائله، وشموس مشارقه، وتيجان مفارقه، فيجب على كل من ضم اليراعة بنانه، وأطلق في ميدان البراعة عنانه، ألا يخلي مجلسه من مدحٍ معروضةٍ، وخدمٍ مفروضةٍ، يسهب فيها الواصف ويوجبها الإنعام المتراصف:
عسى منة تقوى على شكر منه ... وهيهات أعيا البحر من هو راشف
ولو كنت لا تولي يداً مستجدةً ... إلى أن توفى شكر ما هو سالف
حميت حريم المال من سطوة الندى ... وغاضت وحاشاها لديك العوارف
وكم عزمةٍ في الشكر كانت قويةً ... فأضعفها إحسانك المتضاعف
رعى الله من عم البرية عدله ... فأنصف مظلوم وأومن خائف
له منن في حرب خطبٍ عواطف ... دماث وفي صدر الخطوب عواصف
فكم أهلٍ هدته نصر الله عزائمها بعد الضلال، وحرٍ استنقذته من حبائل الإقلال، ومرهقٍ خففت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريدٍ بوأته من حرمها أمنع المعاقل:
منازل عزٍ لو يحل ابن مزنةٍ ... بها لسلا عما له من منازل
فيا صارماً يعطي وينسى عطاءه ... ولم نر سيفاً ذا وفاء ونائل
يكاد يفيض البرق من وجناته ... إذا ما أتاه سائل بوسائل
إذا هو عرى سيفه من عموده ... وأفضي بفضفاضٍ من السرد ذابل
وقد صبغ النقع النهاربصيغةٍ ... ترى ناصلاً منها بياض المناصل
رأيت متون الخيل تحمل ضيغماً ... مرير مذاق الكيد حلو الشمائل
يلذ له طعم الكماة كأنما ... جرى الشنب المعسول فوق العواسل
وكم أخرست أطرافها من غماغمٍ ... لأقرابه واستنطقت من ثواكل
من القوم تترك لهم عند كاشحٍ ... طوال ردينياتهم من طوائل
إذا ما سروا خلف العدو وهجروا ... تظلل من أرماحهم في ظلائل
وما ذبلت يوماً خميلة عزةٍ ... إذا زرعت فيها كعوب الذوابل
أوائل مجدٍ لم يزل فاخراً بها ... تميم بن مرٍ أو كليب بن وائل
ثم جاءته مناقب الحضرة العلية، فتم بها مناقب تميمٍ، وحكم لآل القعقاع أمر حكيم، ونصر لواء بني نصرٍ، وأبدرت أهلة بني بدرٍ، ونبه منبه هوازن، وظهرت مزينة ومازن، وضحك لعبسٍ عابس الدهر، وراحت الكملة كاملة الفخر، وزادت مغايظ الأزد، وقشرت قشيراً عن بلوغ المجد، وأغمدت سيوف بني غامدٍ، وصارت همدان كالجمر كالجمر الهامد، ومذحج كالعنس مذللةً، وحمير بالراية الحمراء متظللةً، وطوت طيئ عملها استخذاءً، وغصت جفنة جفونها استحياءً - فحرس الله محاسن الحضرة السامية - التي جباه الأنام بها موسومة، وتمم نعمها التي هي بينها وبين الناس مقسومة، ولا زالت الدولة الفاطمية تحمد عزائمها التي شهدت لها بمداومة الكفاءة وأنشرت من النصائح كل رميمٍ رفاتٍ:
كأنك حين ضل الناس عنها ... هديت إلى رضا هادي الرعاة
مزيل المال من ملك الأعادي ... وناظم شمله بعد الشتات
سيينطق بالثناء على عليٍ ... وعترته المنابر صامتات
فقاد له إلى بغداد قوداً ... تجلى لحمها جنب الفرات
عليها كل داني الحلم ثبتٍ ... سفيه السيف من بعد الثبات

كأنهم إذا التحموا المنايا ... يقيدون الحياة من الممات
يسابقون إلى العدو الأعنة، فتطعن عزائمهم قبل الأسنة، ويقتدون بالحضرة السامية في خوض الرهج، وإرخاص المهج، وتحكل الأعباء، في موالاة أصحاب العباء - ولا سلب الله هذا الثغر وأهله - : ما وهب لهم من إنعامه الذي يتهافت إليهم متناسقاً، ويعيد غصن مجدهم ناصراً باسقاً:
إذا ما فلي الناس السماح عشقته ... وأحسن ما تسدى المكارم عاشقا
حمى الله من كيد الزمان خلائقاً ... وسعت بها يا بن الكرام خلائقا
إذا ظلموا كانت شموساً طوالعاً ... وإن أجدبوا كانت غيوثاً دوافقا
وقد زاد شهر الصوم ربعك صابحاً ... له بأفاويق السعود وغابقا
تنور بالقرآن أسداف ليله ... فيبيض منها كل ما كان غاسقا
تأرج من تقواك فيه لطائم ... يظل لها عرنين عامك ناشقا
فعش أبداً ما شوهد الأفق أورقا ... وراح قضيب الأيك أخضر أورقا
إذا عد قوم للمعالي أخامصاً ... عددناك تيجاناً لها ومفارقا
الحسن بن محمدبن حمدونبن الحسن بن محمد بن حمدون أبو سعد بن أبي المعالي بن أبي سعدٍ الكاتب. قد تقدم ذكر أبيه صاحب الديوان بهاء الدين أبي المعالي، وذكر عمه أبي نصرٍ محمد بن الحسن كاتب الإنشاء، وكان أبو سعدٍ هذا في حادي عشر المحرم سنة ثمانٍ وستمائةٍ كما نذكره فيما بعد. ومولدهفي صفرٍ سنة سبعٍ وأربعين وخمسمائةٍ. وكان - رحمه الله - من الأدباء العلماء الذين شاهدناهم، زكي النفس، طاهر الأخلاق، عالي الهمة، حسن الصورة، مليح الشيبة، ضخم الجثة، كث اللحية طويلها، طويل القامة، نظيف اللبسة، ظريف الشكل، وهو ممن صحبته فحمدت صحبته، وشكرت أخلاقه، وكان قد ولي عدة ولاياتٍ عاينت منها النظر في البيمارستان العضدي، وكانت هيبته فيه ومكانته منه أعظم من مكانة أرباب الولايات الكبار، لأن الناس يرونه بعين العلم والبيت القديم في الرياسة، ثم ولي عند الضرورة كتابة السكة بالديوان العزيز ببغداد، يرزق عشرة دنانير في الشهر، وسألته: فقلت حمدون الذي تنسبون إليه، أهو حمدون نديم المتوكل ومن بعده من الخلفاء؟ فقال: لا، نحن من آل سيف الدولة بن حمدان بن حمدون من بين تغلب، هذا صورة لفظه.
وكان من المحبين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها المتقنة وأمهاتها المعينة، ما لم يحصل أحد للكثير، ثم تقاعد به الدهر وبطل عن العمل، فرأيته يخرجها ويبيعها وعيناه تذرفان بالدموع كالمفارق لأهله العزاء، والمفجوع بأحبابه الأوداء. فقلت له: هون عليك - أدام الله أيامك - فإن الدهر ذو دولٍ، وقد يسعف الزمان ويساعد وترجع دولة العز وتعاود، فتستخلف ماهو أحسن منها وأجود. فقال: حسبك يا بني: هذه نتيجة خمسين سنةً من العمر أنفقتها في تحصيلها، وهب أن المال يتيسر. والأجل يتأخر - وهيهات - فحينئذً لا أحصل من جمعها بعد ذلك إلا على الفراق، الذي ليس بعده تلاقٍ، وأنشد بلسان الحال:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى وفك من الأسر
فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن قبل بما قد مر في البؤس من عمري؟؟
ثم أدركته منيته ولم ينل أمنيته، وكان حرصاً على العلم، فجمع من أخبار العلماء، وصنف من أخبار الشعراء وألف كتباً كان لا يجسر على إظهارها خوفاً مما طرق أباه مع شدة احترازٍ، وبالجملة: فعاش في زمن سوءٍ وخليفةٍ غشومٍ جائرٍ، كان إذا تنفس خاف أن يكون على نفسه رقيب يؤدي به إلى العطب، وهو كان آخر من بقي من هذا البيت القديم، والركن الدعيم، ولم يخلف إلا ابنةً مزوجةً من ابن الدوامي، وما أظنها معقبةً أيضاً، وكان مع اغتباطه بالكتب ومنافسته ومناقشته فيها جواداً بإعارتها، ولقد قال لي يوماً - وقد عجبت من مسارعته إلى إعارتها للطلبة - : ما بخلت بإعارة كتابٍ قط ولاأخذت عليه رهناً. ولا أعلم أنه مع ذلك فقد كتاباً في عاريةٍ قط. فقلت: الأعمال بالنيات، وخلوص نيتك في إعارتها لله حفظها عليك.

وكتب بخطه الرائق طرائف الكتب الكثيرة الكبار والصغار المروية، وقابلها وصححها وسمعها على المشايخ. فكان ممن لقي من المشايخ: أبو بكرٍ محمد بن عبيد الله الزاغوني، والنقيب أبو جعفرٍ أحمد بن محمد بن عبدٍ العباسي المكي، وأبو حامدٍ محمد بن الربيع الغرناطي مغربي قدم عليهم، وأبو المعالي محمد بن محمد بن النحاس العطار، ووالده أبو المعالي بن حمدون، وأبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان المعروف بابن البطي، وجماعة بعدهم كثيرة كابن كليب الحراني، وابن بوشٍ وغيرهم.
وروى شيئاً من مسموعاته يسيراً، وكان مؤيد الدين محمد بن محمدٍ القمئ نائب الوزارة ببغداد: قد خرج إلى ناحية خوزستان حيث عصى سنجر مملوك الخليفة بها حتى قبض عليه وعاد به وفي صحبته عز الدين نجاح الشرابي، فخرج الناس لتلقيه عند عوده في المحرم سنة ثمانٍ وستمائةٍ، وكان تاج الدين فيمن يخرج خرج لتلقيه عند عوده في المحرم سنة ثمانٍ وستمائةٍ، وكان عبلاً ترفاً معتاداً للدعة والراحة، ملازماً لعقر داره، وكان الحر شديداً والوقت صائفاً، فلما انتهى إلى المدائن اشتد عليه الحر وتكاثف، حتى أفضى به إلى التلف، فمات - رحمه الله - في الوقت المقدم ذكره بالمدائن، بينه وبين بغداد سبعة فراسخ، فخمل إلى بغداد ودفن بمقبرة موسى بن جعفرٍ بباب التين ت رحمه الله، ورضي عنه.
الحسن بن محمدٍ الصغاني النحوي
ويقال صاغان - من بلاد ما وراء النهر - قدم العراق وحج، ثم دخل اليمن ونفق له بها سوق، وكان وروده إلى عدن سنة عشرٍ وستمائةٍ، وله تصانيف في الأدب، منها: تكملة العزيزي، وكتاب في التصريف ومناسك الحج ختمه بأبياتٍ قالها وهي:
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوخادة الزادا
أراقك الحنظل العامي منتجعاً ... وغيرك انتجع السعدان وارتادا
أتعبت سرحك حتى آض عن كثبٍ ... نياقها رزحاً والصعب منقادا
فاقطع علائق ما ترجوه من نشب ... استودع الله أموالاً وأولادا
وكان يقرأ عليه بعدن معالم السنن للخطابي، وكان معجباً بهذا الكتاب وبكلام مصنفه ويقول: إن الخطابي جمع لهذا الكتاب جراميزه، وقال لأصحابه: احفظوا غريب أبي عبيدٍ القاسم بن سلامٍ، فمن حفظه ملك ألف دينارٍ، فإني حفظته فملكتها، وأشرت على بعض أصحابي بحفظه وملكها. وفي سنة ثلاث عشرة وستمائةٍ كان بمكة، وقد رجع من اليمن وهو آخرالعهد به.
الحسن بن المظفر النيسابوريأبو عليٍ، أديب نبيل، شاعر مصنف، ذكره أبو أحمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم فقال: مات أبو عليٍ الحسن بن المظفر الأديب الضرير النيسابوري ثم الخوارزمي في الرابع من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائةٍ، وأثنى عليه ثناءً طويلاً زعم فيه أنه كان مؤدب أهل خوارزم في عصره، ومخرجهم وشاعرهم ومقدمهم والمشارإليه منهم، وهو شيخ أبي القاسم الزمخشري قبل أبي مضر، وله نظم ونثر. وذكر أن له ولداً اسمه عمر وكنيته أبو حفصٍ، أديب فقيه فاضل، وله شعر منه:
سبحان من ليس في السماء ولا ... في الأرض ند له وأشباه
أحاط بالعالمين مقتدراً ... أشهد أن لا إله إلا هو
وخاتم المرسلين سيدنا ... أحمد رب السماء سماه
أشرقت الأرض بعد بعثته ... وحصحص الحق من محياه
ومات أبو حفصٍ هذا في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائةٍ ووجدت للحسن بن المظفر من التصانيف: كتاب تهذيب ديوان الأدب، وكتاب تهذيب إصلاح المنطق، وكتاب ذيله على تتمة اليتيمة لم أقف على اسمه، كتاب ديوان شعره مجلدتان، كتاب ديوان رسائله، كتاب محاسن من اسمه الحسن، كتاب زيادات أخبار خوارزم. نقلت من الكتاب الذي وصل به تتمة اليتيمة، وذكر فيه أشياء من شعره ورسائله ختم بها كتابه، وهو أنه قال: الحسن بن المظفر النيسابوري مؤلف الكتاب: نيسابوري المحتد، خوارزمي المولد، وممن كان عارفاً بنفسه، غير مفتونٍ بنظمه ونثره، فإنه سلك طريق أبي منصور الثعالبي - رحمه الله - فيما أورده من شعره في آخر كتاب تتمة اليتيمة، فأورد نبذاً مما يستحسن من كلامه، ويستبدع مننظامه، فمن نثره الساذج رقعة له:

عرف الله الشيخ الرئيس بركة شهر رمضان، ووفقه من طاعته لما يكتسب به من العفو، ولولا العذر الواقع من الوصول لقصدت مجلسه - أعلاه الله - بالتهنئة والتسليم وقضاء حقه العظيم، هذا - أدام الله تمكينه - وعهدي به يعدني من جملة عياله، ويخصني كل وقتٍ بأفضاله، فليت شعري لم عدل إلى الفطام من ذلك الإنعام؟ فإن كان نسيان فقد جاءه ذكرى، وإن كان هجران فحاشاه من هجري. وله من أخرى: الشيخ يسترق الأحرار بعوائد فضله وبواديه، حتى لا حر بواديه. ومن نظمه:
أهلاً بعيشٍ كان جد موات ... أحيا من اللذات كل موات
أيام سرب الأنس غير منفرٍ ... والشمل غير مروعٍ بشتات
عيش تحسر ظله عنا فما ... أبقى لنا شيئاً سوى الحسرات
ولقد سقاني الدهر ماء حياته ... والآن يسقيني دم الحيات
لهفي لأحرارٍ منيت ببعدهم ... كانوا على غير الزمان ثقاتي
قد زالت البركات غنى كلها ... بزيال سيدنا أبي البركات
ركن العلا والمجد والكرم الذي ... قد فات في الحلبات أي فوات
فارقت طلعته المنيرة مكرهاً ... فبقيت كالمحصور في الظلمات
أضحي وأمسي صاعداً زفراتي ... لفراقه متحدراً عبراتي
وأنشد فيه لنفسه:
جبينك الشمس في الأضواء والقمر ... يمينك البحر في الإرواء والمطر
وظلك الحرم المحفوظ ساكنه ... وبابك الركن للقصاد والحجر
وسيبك الرزق مضمون لكل فمٍ ... وسيفك الأجل الجاري به القدر
أنت الهمام بل البدر التمام بل الس ... يف الحسام بل الصارم الذكر
وأنت غيث الأنام المستغاث به ... إذا أغارت على أبنائها الغير
وأنشد انفسه:
أريا شمالٍ أم نسيم من الصبا ... أتانا طروقاً أم خيال لزينبا؟
أم الطالع المسعود طالع أرضنا ... فأطلع فيها للسعادة كوكباً؟
قال أبو عليٍ الضرير: رأيت ابن هودار في المنام بعد موته فقلت له: لقد تحولت من دارٍ إلى دارٍ، فهل رأيت قراراً يا بن هودار؟ قال: فأجابني:
لا بل وجدت عذاباً لا انقطاع له ... مدى الليل ورباً غير غفار
ومنزلاً مظلماً في قعر هاويةٍ ... قرنت فيها بكفارٍ وفجار
فقل لأهلي موتوا مسلمين فما ... للكافرين لدي الباري سوى النار
الحسن بن ميمونٍ النصري
أحد بني نصر بن قعين بن طريف بن أسد بن خزيمة. روى عنه محمد بن النطاح، وكان أخيارياً عارفاً، ذكره محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب كتاب الدولة، كتاب المآثر.
الحسن بن أبي المعاليابن مسعود بن الحسين أبو عليٍ الحلي المعروف بابن الباقلاني النحوي. ولد سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ، وهو أحد أئمة العربية في العصر، سمع من أبي الفرج بن كليبٍ وغيره، وقرأ العربية على أبي البقاء العكبري، واللغة على أبي محمد بن المأمون، وقرأ الكلام والحكمة على الإمام نصير الدين الطوسي، وانتهت إليه الرياسة في هذه الفنون وفي علم النحو، وأخذ فقه الحنفية عن أبي المحاسن بن إسماعيل الدانغاني الحنفي، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، وكان ذا فهمٍ ثاقبٍ وذكاءٍ وحرصٍ على العلم، وكان كثير المحفوظ - وكتب الكثير بخطه - ذا وقارٍ مع التواضع ولين الجانب، لقيته ببغداد سنة سبعٍ وثلاثين وستمائةٍ، وكان آخر العهد به.
أبو الحسن البوراني النحويذكره محمد بن إسحاق في نحاة المعتزلة ووصفه بالتدقيق في مسائل الكتاب لسيبويه، وكان من طبقة أبي عليٍ الفارسي.
الحسين بن أحمد بن بطويهأبو عبد الله النحوي لا أعلم من أمره شيئاً، ومن شعره:
وماذا عليهم لو أقاموا فسلموا ... وقد علموا أني مشوق متيم
سروا ونجوم الليل زهر طوالع ... على أنهم في الليل للناس أنجمد
وأخفوا على تلك المطايا مسرهم ... فنم عليهم في الظلاء التبسم
وقال:
وإذا الدر زان حسن وجوهٍ ... كان للدر حسن وجهك زينا

وتزيدين أطيب الطيب طيباً ... إن تمسيه أين مثلك أينا؟
الحسين بن أحمد بن خالويهابن حمدان أبو عبد الله اللغوي النحوي من كبار أهل اللغة والعربية أصله من همذان، ودخل بغداد طالباً للعلم سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ، فلقي فيها أكابر العلماء وأخذ عنهم، فقرأ القرآن على الإمام ابن مجاهدٍ، والنحو والأدب على أبي بكر بن دريدٍ وأبي بكر بن الأنباري ونفطويه، وأخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد، وسمع من محمدٍ بن مخلدٍ العطار وغيره.
وقرأ على أبي سعيدٍ السيرافي، وأخذ عنه المعافا بن زكريا النهرواني وآخرون، وانتقل إلى الشام ثم إلى حلب فاستوطنها، وتقدم في العلوم حتى كان أحد أفراد عصره، وكانت الرحلة إليه من الآفاق، واختص بسيف الدولة بن حمدان وبنيه، وقرأ عليه آل حمدان، وكانوا يجلونه ويكرمونه، فانتشر علمه وذاع صيته وله مع أبي الطيب المتنبي مناظرات. ودخل يوماً على سيف الدولة فلما مثل بين يديه قال له: اقعد ولم يقل اجلس. قال ابن خالويه: فعلمت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب. قلت " قال ابن خالويه ذلك هذا، " لأنه يقال للقائم اقعد، وللنائم والساجد اجلس " .
وقال أبو عمروٍ الداني في طبقات القراء: كان ابن خالويه عالماً بالعربية، حافظاً للغة، بصيراً بالقراءة ثقةً مشهوراً، روى عنه غير واحدٍ من شيوخنا عند المنعم بن غلبون، والحسن بن سليمان وغيرهما. وروى أن رجلاً جاء إلى ابن خالويه وقال له: أريد أن أتعلم من العربية ما أقيم به لساني، فقال: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو فما تعلمت ما أقيم به لساني.
وذكر ابن خالويه في أماليه: أن سيف الدولة سأل جماعةً من العلماء بحضرته ذات ليلةٍ: عل هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا، فقال لي: ما تقول أنت؟ قلت: أنا أعرف اسمين، قال: ما هما؟ قلت: لا أقول لك إلا بألف درهمٍ لئلا تؤخذ بلا شكرٍ، وهما الصحراء وصحارى، وعذراء وعذارى. قال: سمعت ابن الأنباري يقول: اللئيم الراضع الذي يتخلل ويأكل خلالته.
وقال: حدثنا نفطويه عن أبي الجهم عن الفراء أنه سمع أعرابياً يقول: قضت علينا السلطان. قلت: السلطان يذكر ويؤنث والتذكير أعلى، ومن أنثه ذهب به إلى الحجة، وحكي عن أبي عمر الزاهد أنه قال في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكلتم فرازموا " أي افصلوا بين اللقمة والطعام باسم الله تعالى.
وحكى عنه أبو بكرٍ الخوارزمي وهو من تلامذته أنه قال: كل عطرٍ مائعٍ فهو الملاب، وكل عطر يابسٍ فهو الكباء، وكل عطرٍ يدق فهو الألنجوج. ولابن خالويه من التصانيف: كتاب أسماء الأسد ذكر له فيه خمسمائة اسمٍ، وإعراب ثلاثين سورةً، والبديع في القراءات، وكتاب اشتقاق خالويه، وكتاب " ليسن " وهو كتاب نفيس، وكتاب الاشتقاق، وكتاب الحمل في النحو، وكتاب المقصود والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، وشرح مقصورة ابن دريدٍ، وكتاب الألفات، وكتاب الآل، ذكر في أوله أن الآل ينقسم إلى خمسةٍ وعشرين قسماً، وذكر فيه الأئمة الاثني عشر ومواليدهم ووفياتهم وغير ذلك. مات ابن خالويه في حلب سنة سبعين وثلاثمائةٍ. ومن شعره:
ألجود طبعي وليس لي مال ... فكيف يبذل من القرض يحتال؟
فهاك حظي فخذه اليوم تذكرةً ... إلى اتساعي فلي في الغيب آمال
وقال:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائلٍ مالي رأيتك راجلاً ... فقلت له من أجل أنك فارس
وقال:
أيا سائلي عن قد محبوبتي الذي ... كلفت به وجداً وهجت غراما
أبى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالاً فأضحى بين ذاك قواما
الحسين بن أحمد بن محمد

ابن جعفر بن محمدٍ المعروف بابن الحجاج الكاتب الشاعر أبو عبد الله شاعر مفلق قالوا إنه في درجة امرئ القيس، لم يكن بينهما مثلهما وإن كان جل شعره مجون وسخف، وقد أجمع أهل الأدب على أنه مخترع طريقته في الخلاعة والمجون لم يسبقه إليها أحد، ولم يلحق شأوه فيها لاحق، قدير على ما يريده من المعاني الغاية في المجون مع عذوبة الألفاظ وسلاستها، وله مع ذلك في الجد أشياء حسنة لكنها قليلة، ويدخل شعره في عشر مجلداتٍ أكثره هزل مشوب بألفاظ المكدين والخلديين والشطار ولكنه يسمعه أهل الأدب على علاته، ويتفكهون بثمراته، ويستملحون بنات صدره المتهتكات، ولا يستنقلون حركاتهن لخفتها وإن بلغت في الخفة غاية الغايات.
وإني لأقول كما قال أبو منصورٍ: لولا قول إبراهيم بن المهدي: إن جد الأدب جد وهزله هزل، لصنت كتابي هذا عن مثل هذا المجون. وحديثٍ كله ذو شجونٍ.
ولقد مدح الملوك والمراء والوزراء والرؤساء، فلم يخل شعره فيهم من هيبة المقام من هزلٍ وخلاعةٍ. فلم يعدوه مع ذلك من الشناعة، وكان عندهم مقبولاً مسموعاً غالي المهر والسعر، وكان يتحكم على الأكابر والرؤساء بخلاعته، ولا يحجب عن المراء والوزراء مع سخافته، يستقبلونه بالبشاشة والإكرام، ويقابلون إساءته بالإحسان والإنعام، وناهيك برجلٍ يصف نفسه بمثل قوله:
رجل يدعي النبوة في السخ ... ف ومن ذا يشك في الأنباء
جاء بالمعجزات يدعو إليها ... فأجيبوا يا معشر السخفاء
حدث السن لم يزل يتلقى ... علمه بالمشايخ الكبراء
خاطر يصفع الفرزدق في الشع ... ر ونحو ينيك أم الكسائي
غير أني أصبحت أضيع في القو ... م من البدر في ليالي الشتاء
وقوله في وصف شعره:
بالله يا أحمد بن عمروٍ ... تعرف للناس مثل شعري؟
شعر يفيض الكنيف منه ... من جانبي خاطري وفطري
فلفظه منتن المعاني ... كأنه فلتة بجحر
لو جد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل كيف نتسري
وإنما هزله مجون ... يمشي به في المعاش أمري
وقال:
فإن شعري ظريف ... من بابة الظرفاء
ألذ معنىً وأشهى ... من أسماع الغناء
وقال:
إن عاب ثعلب شعري ... أو عاب خفة روحي
خرئت في باب أفعل ... ت من كتاب الفصيح
وقال في الأمير عز الدولة بختيار:
فديت وجه الأمير من قمرٍ ... يجلو القذى نوره عن البصر
فديت من وجهه يشككني ... في أنه من سلالة البشر
إن زليخا لو أبصرتك لما ... ملت إلى الحشر لذة النظر
ولم تقس يوسفاً إليك كما ... نجم السهى لا يقاس بالقمر
وكان يا سيدي قميصك إن ... هربت منها ينقد من دبر
بل وحياتي لوكنت يوسفها ... لم تك من تهمة العزيز بري
لأنني عالم بأنك لو ... شممت ريا نسيمها العطر
سنقتها وانزلقت تتبعها ... ما بين تلك البيوت و الحجر
وقد علمنا بأن سيدناال ... أمير ممن يقول بالبظر
ولم تكن تلك تشتكي أبداً ... ما كان من يوسفٍ من الحذر
طبعك كالماء في سهولته ... لكن أبو الزبرقان من حجر
إن الملوك الشباب ما خلقوا ... إلا صلاب الفياش والكمر
وقال يشكو سوء وابعث بها إلى ابن العميد:
فداؤك نفس عبدٍ أنت مولىً ... له يرجوك يا خير الموالي
حديثي منذ عهدك بي طويل ... فهل لك في الأحاديث الطوال؟
فإني بين قومٍ ليس فيهم ... فتىً ينهي إلى الملك اختلالي
فلحمي ليس تطبخه قدوري ... وحوتي ليس تقليه المقالي
وماءئ قد خلت منه جبابي ... وخبزي قد خلت منه سلالي
وكيسي الفارغ المطروح خلفي ... بعيد العهد بالقطع الحلال
أفكر في مقامي وهو صعب ... وأصعب منه عن وطني ارتحالي

فبي مرضان مختلفان حالي ال ... عليلة منهما تمسي بحال
إذا عالجت هذا جف كبدي ... وإن عالجت ذلك ربا طحالي
وقال في مثل ذلك أيضاً:
يا سيد عشت في نعمٍ ... تأوي إليها موابذ العجم
بديهتي في الخصام حاضرة ... أشهر في الخافقين من علم
والخط خطي كما تراه ولا ال ... زهرة بين القرطاس والقلم
هذا وخبزي حافٍ بلا مرقٍ ... فكيف لو ذقت لذة الدسم؟
مالي وللحم إن شهوته ... قد تركتني لحماً على وضم
وما لحلقي والخبز يجرحه ... بالملح يشكو مرارة اللقم
وقال في مثل ذلك:
خليلي قد اتسعت محنتي ... علي وضاقت بها حيلتي
عذرت عذاري في شيبه ... وما لمت إذ شمطت لمتي
إلى كم يخاسسني دائماً ... زماني المقبح في عشرتي
تحيفني ظالماً غاشماً ... وكدر بعد الصفا عيشتي
وكنت تماسكت فيما مضى ... فقد خانني الدهر في مسكتي
إلى منزلٍ لا يوارى إذا ... تربعت فيه سوى سوءتي
مقيماً أروح إلى حجرةٍ ... كقبري وما حضرت ميتتي
إذا ما لم ألم صديقي به ... على رغبةٍ منه في زورتي
فرشت لع فيه بسط الحدي ... ث من باب بيتي إلى صفتي
ومعدته في خلال الكلا ... م تشكو خواها إلى معدتي
وقد فت في عضدي ما به ... ولكن به غلبت علتي
وأغدو غدواً خليقاً بأن ... يزيد به الله في شقوتي
فأية دارٍ تيممتها ... تيمم بوابها حجتي
وإن أنا زاحمت حتى أموت ... دخلت وقد زهقت مهجتي
فيرفعني الناس عند الوصول ... إليهم وقد سقطت عمتي
وإن نهضوا بعد للإنصرا ... ف أسرعت في إثرهم نهضتي
وإن قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جمل الناس غلمانهم ... وليس سوائي في جملتي
ولا لي غلام فأدعو به ... سوى من أبوه أخو عمتي
وكنت مليحاً أروق العيو ... ن قبلاً فقد قبحت خلقتي
وقوسني الهم حتوى انطويت ... فصرت كأني أبو جدتي
وكان المزين فيما مضى ... تكسر أمشاطه طرتي
وكنت برأسٍ كلون الغداف ... فقد صرت أصلع من فيشتي
ويا رب بيضاء رود الشبا ... ب كانت تحن إلى وصلتي
فصارت تصد إذا أبصرت ... مشيبي وتغضبت من صلعتي
على أنني قلت يوماً لها ... وقد أمضت العزم في هجرتي
دعي عنك ما فوقه عمتي ... فإن جمالي ورا تكتي
هناك سيء يسر العيو ... ن طويل عريض على دقتي
وقال:
ويحكم يا كهول أو يا شيوخ ال ... فسق أو يا معشر الفتيان
إشربوها حمراء مما اقتناها ... آل دير العاقول للقربان
بكؤوسٍ كأنها ورق النس ... رين فيها شقائق النعمان
إشربوها وكل إثمٍ عليكم ... إن شربتم بالرطل في ميزاني
في ليالٍ لو أنها دفعتني ... وسط ظهري وقعت في رمضان
وقال يستهدي أبا تغلب بن حمدان فرساً:
اسمع المدح الذي لو قيل في ... أحدٍ غيرك قالوا سرقا
جاء يهديك مهراً أدهماً ... يركب الفارس منه غسقا
كالدجى تبصر من غرته ... فوق أطباق دجاه فلقا
جل أن يلحق مطلوباً ومن ... طلب الريح عليه لحقا
فتراه واقفاً في سرجه ... يتلظى من ذكاه قلقا
فإذا طاب به المشي مضى ... وهو كالريح يشق الطرقا
كالسحاب الجون إلا أنه ... ليس يسفي الأرض إلا عرقا
جمع الأمرين يعدو المرطي ... في مدى السبق ويمشي العنقا
واستدعاه الوزير للخروج معه إلى القتال فقال من قصيدةٍ:

يا سائلي عن بكاي حين أرى ... دموع عيني تسابق المطرا
ساعة قيل الوزير منحدر ... أسرع دمعي وفاض منحدرا
وقلت يا نفس تصبرين وهل ... يعيش بعد الفراق من صبرا؟
شاورته والهوى يفتته ... والرأي رأي الصواب قد حضرا
أهوى انحداري والحزم يكرهه ... وتارك الحزم يركب الغررا
لأنني عاقل ويعجبني ... لزوم بيتي وأكره السفرا
الخيش نصف النهار يعجبني ... والماء بالثلج بارداً خصرا
والشرب في روشني أقول به ... كيما أرى منه والقمرا
ولا أقود الخيل العتاق بلى ... أسوق بين الأزقة البقرا
من كل جاموسةٍ لعنبلها ... رأس بقرنيه يفلق الحجرا
قد نفخ الشحم جوفها فغدا ... كأنه بطن ناقةٍ عشرا
تركض مثل الحصان نافرةً ... ومن يرد الحصان إن نفرا؟
أحسن في الحرب من صفوفكم ... غداً قعودي أصفف الطررا
هيهات أن أحضر القتال وأن ... ترى بعينيك فيه لي أثرا
بل الذي لا يزال يعجبني ال ... دبيب بالليل خاءفاً حذرا
الدف عند الصباح دبدبتي ... وبوقي الناي كلما زمرا
هذا اعتقادي وهكذا أبداً ... أرى لنفسي وأنت كيف ترى؟
ومن مقطعاته:
ملك لو لم يكن من ملكه ... غير دارٍ وشحت بالنعم
لو رمى شداد فيها طرفه ... زهدته بعدها في إرم
وقال:
صنعت في دارك فوارةً ... أغرقتفي الأرض بها الأنجما
فاض على نجم السهى ماؤها ... فأصبحت أرضك تسقي السما
وقال:
واستوفعمر الدهر في نعمةٍ ... دون مداها موقف الحشر
مصيبة الحاسد في مكثها ... مصيبة الخنساء في صخر
وقال:
هذا حديثي تنمي عجائبه ... بكثرة القال فيه والقيل
أعجزني دفنه فشاع كما ... أعجز قابيل دفن هابيل
وقال:
قد رفع الصلح على غلتي ... واقتسموها كارةً كارةً
لا يفلس البقال إلا إذا ... تصالح السنور والفارة
وقال:
عجبت من الزمان وأي شيءٍ ... عجيبٍ لا أراه من الزمان
يصادر قوت جرذانٍ عجافٍ ... فيجعله لأوعالٍ سمان
وقال:
يا رائحاً في داره غادياً ... بغير معنىً وبلا فائده
قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وقال:
فديت من لقبني مثل ما ... لقبته والحق لا يغضب
إن قلت يا عرقوب خادعتني ... يقول لم نفسك يا أشعب
وقال:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا ... وراح ذمي فما بالوا ولا شعروا
علي نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذ لم تفهم البقر
وقال:
الصبح مثل البصير نوراً ... والليل في صورة الضرير
فليت شعري بأي رأيٍ ... يختارأعمى على بصير؟
وقال:
إن بني برمك لو شاهدوا ... فعلك بالغائب والشاهد
ما اعترف الفضل بيحيى أباً ... ولا انتمى يحيى إلى خالد
وقال:
مولاي يا من كل شيءٍ سوى ... نظيره في الحسن موجود
إن كنت أذنبت بجهلي فقد ... أذنب واستغفر داود
ولطائف ابن الحجاج كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. توفي يوم سابع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ، ودفن في بغداد عند مشهد موسى الكاظم بن جعفرٍ الصادق - رضي الله عنهما - وكان أوصى أن يدفن عند رجليه ويكتب على قبره: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . وكان من كبار شعراء الشيعة وقد رآه بعض أصحابه في المنام بعد موته فقال له: ما حالك فأنشد:
أفسد سوء مذهبي ... في الشعر حسن مذهبي
لم يرض مولاي على ... سبي لأصحاب النبي
ورثاه الشريف الرضي الموسوي بقصيدةٍ ارتجلها حين أتاه نعيه فقال:

نعوه على ضن قلبي به ... فلله ماذا نعى الناعيان
رضيع صفاء له شعبة ... من القلب مثل رصيع اللبان
بكيتك للشرد السائرا ... ت تعبث ألفاظها بالمعاني
مواسم ينهل منها الحيا ... بأشهر من مطلع الزبرقان
جوائف تبقى أخاديدها ... عماقاً وتعفو ندوب الطعان
تبض إلى اليوم آثارها ... بأحمر من عائد الطعن قاني
قعاقعهن تشن الحتوف ... إذا هن أوعدن لا بالشنان
وما كنت أحسب أن المنون ... تفل مضارب ذاك اللسان
لسان هو الأزرق القعضبي ... تمضمض في ريقه الأفعواني
له شفتا مبرد الهالكي ... أنحى بجانبه غير واني
إذا لز بالعرض مبراته ... تصدع صدع الرداء اليماني
يرى الموت أن قد طوى مضغةً ... ولم يطو إلا غرار السنان
فأين تسرعه للنضال ... وهباته للطزال اللدان
يشل الجوائح شل السياط ... ويلوي الجوانح لي العنان
فإن شاء كان حران الجماح ... وإن شاء كان جماح الحران
يهاب الشجاع غذاميره ... على البعد منه مهاب الجبان
وتعنو الملوك له خيفةً ... إذا راع قبل اللظى بالدخان
وكم صاحب كمناط الفؤاد ... عناني من يومه ما عناني
قد انتزعت يدي من المنون ... ولم يغن ضمي عليه بناني
فزال زيال الشباب الرطيب ... وخانك يوم لقاء الغواني
ليبك الزمان طويلاً عليك ... فقد كنت خفة روح الزمان
الحسين بن الحسن بن واسانابن محمدٍ أبو القاسم الواساني الدمشقي توفي سنة أربعٍ وتسعين وثلاثمائةٍ، شاعر مجيد برع وبرز في الهجاء، له فيه نفس طويل، فهو في عصره كابن الرومي في زمانه، وله أهاجٍ كثيرة في ابن القزاز لعداوةٍ تأصلت بينهما، وكان هجاؤه له سبباً لعزل الواساني عن عمله، ومن أجود شعره قصيدته النونية التي وصف بها دعوةً عملها في خمرايا من قرى دمشق قال:
من لعينٍ تجود بالهملان ... ولقلبٍ مدلهٍ حيران؟
يا خليلي أقصرا عن ملامي ... وارثيا لي في نكبتي وارحماني
ومتى ما ذكرت دعوة أبنا ... ء البغايا والعاهرات الزواني
فانتفا لحيتي وجزا سبالي ... وبنعلي الكثيف فاستقبلاني
ما الذي ساقني لحيني إلى حت ... في وما غالني وماذا دهاني؟
من عذيري من دعوةٍ أوهنت عظ ... مي وهدت بوقعها أركاني؟
كنت في منظرٍ ومستمعٍ من ... ها ومن ذا ينجو من الحدثان؟
فترت فطنتي وهجت على نف ... سي بلاءً ما كان في حسباني
كان عيشي صافٍ فكدره أه ... ل صفائي بنو أبي صفوان
فارثوا لي معاشر الناس من ض ... ري ومن طول محنتي وامتحاني
ضرب البوق في دمشق ونادوا ... لشقائي في سائر البلدان
النفير النفير بالخيل والرج ... ل إلى قفر ذا الفتى الواساني
جمعوا لي الجموع من جيل جيل ... ن وفرغانةٍ ومن ديلمان
ومن الروم والصقالب والتر ... ك وبعض البلغار واليونان
ومن الهند والأعاجم والبر ... بر والكيلجوج والبلقان
لم يحاشوا ممن عددت من الآ ... فاق من مسلمٍ ولا نصراني
والبوادي من الحجاز إلى نج ... دٍ معديها مع القحطاني
كل شكلٍ ما بين حدبٍ وحولً ... وأصمٍ والعمى والعوران
وشيوخٍ قب البطون وشبا ... نٍ رحاب الأشداق والمصران
كل ذي معدةٍ تقعقع جوعاً ... وهو شاكي السلاح بالأسنان
كل ذي اسمٍ مستغرب أعجميٍ ... منعت صرف إسمه علتان

كمرندٍ وطغتكين وطرخا ... ن وكسرى وخرمٍ وطغاني
وخمارٍ وزيركٍ وخوندٍ ... ومميشٍ وطشلمٍ وجوان
وطرادٍ وجهبلٍ وزيادٍ ... وشهابٍ وعامرٍ وسنان
غمر جمعوا بغير عقولٍ ... وازعاتٍ عني ولا أديان
هل سمعتم بمعشرٍ جمعوا الخي ... يل وساروا بالرجل والفرسان
رحلوا من بيوتهم ليلة المر ... فع من أجل أكلةٍ مجان
شره بارد وحرص على ال ... كل فويلي من معشرٍ مجان
لست أنسى مصيبتي يوم جاؤو ... ني وقد ضاق عنهم الواديان
وردوا ليلة الخميس علينا ... في خميسٍ ملء الربا والمغاني
متوالٍ كالسيل لا يلتقي من ... ه لفرط انتشاره الطرفان
أشرفوا بي على زروعٍ وأحطا ... بٍ وبيتٍ بخيره ملآن
لبنٍ فارسٍ وخبزٍ طريٍ ... وقدورٍ تغلي على الداركان
وشواءٍ من الجراء ومعل ... ف دجاجٍ وفائق الحملان
وشرابٍ ألذ من زورة المع ... شوق بعد الصدود والهجران
يخجل الورد في الروائح والطع ... م ويحكي شقائق النعمان
أذكرتني جيوشهم يوم جاؤو ... ني بيوم الكلاب والرحرحان
يقدم القوم أرحبي هريت الش ... شدق رحب المعي طويل اللسان
هو نمس الدجاج والبط والوز ... ز وذئب النعاج والخرفان
بسوادٍ من عظمه طبق الأر ... ض وخيلٍ يهوين كالظلمان
وأبو القاسم الكبير على طر ... فٍ كميتٍ أقب كالسرحان
وأخوه الصغير يعترض الخي ... ل على قارحٍ عريض اللبان
وهما يهويان بالساق والرج ... ل إلى ما يسوؤني مسرعان
والسري الذي سرى في جيوشٍ ... أضعفتني وقصرت من عناني
بفمٍ واسعٍ وشدقٍ رحيبٍ ... وبكفٍ تجول كالصولجان
وأخوه الفضل الذي بان للعا ... لم من فضله شفا النقصان
والشمولي حلقه حلق حما ... ل عريض الأكتاف عبل الجران
لست أنساه جاثياً جاحظ ال ... عين عبوساً في صورة الغضبان
كالعقاب الغرثان يقتنص اللح ... م ويهوى إلى طيور الخوان
والأديب الذي به كنت أعت ... د غزاني في الحين فيمن غزاني
وكذا الكاتب الذي كان جاري ... وصديقي ومشتكى أحزاني
وصديق الأشراف أخنى على خم ... ري وأفنى بالكرع ما في دناني
كلما شقق الفراريج شقق ... ت لغيظي من فعله قمصاني
وهو من أمره مجر رخى الب ... ال لم يعنه الذي قد عناني
مجرهد كالسوس في الصوف في الص ... يف بقلبٍ خالٍ من الإيمان
قلت قل لي يابن المبشر ما شأ ... نك من بين من غزاني وشأني؟
ليس هذا من شهوة الأكل هذا ... من طريق البغضاء والشنآن
قلت للفيلسوف لما غدا في ال ... أكل أعني فتى أبي عدنان
وأستحث الكؤوس صرفاً بلا مز ... جٍ ولاءً كالهائم الظمآن
ليت شعري أذاك من طب بقرا ... ط تعلمته وسمع الكيان؟
وبهذا تزداد بالعالم الجس ... مي علماً والعالم الروحاني
ثم لا تنس ما لقيت وما سم ... ت هواناً من عسكر الفرغان
أعجمي اللسان أفصح من ق ... سٍ إذا ما انتشى ومن سحبان
قال: قم فأتنا بخبزٍ ولحمٍ ... ونبيذٍ معتقٍ في الدنان
وغلامٍ مهفهفٍ حسن الوج ... ه يحاكي جماله غصن بان
لم توكل فرغان إلا بتفري ... غ دناني وصبها في القناني

إن من أعظم المصائب ياق ... م بلائي بذلك الطرمذان
رجل كالغنيق فدم بلا ل ... بٍ طويل في صورة الشيطان
بقفاً كالحديد يصمد للصف ... ع ورأسٍ أصم كالسندان
واسع الحلق ناقص الخلق والدي ... ن غليظ القذال كالفلتان
يبلع المطجنات بلعاً بلا مض ... غٍ ويحثو النبيذ كالعطشان
وأتوني بزامرٍ زمره يح ... كي ضراط العبيد والرعيان
ومغنٍ عناؤه يجشيء النف ... س ويأتي بالقيء والغثيان
قصدت هذه الطوائف خمرا ... يا ابتلاءً ونكبةً لامتحاني
قلت ما شأنكم فقالوا أغثنا ... ما طعمنا الطعام منذ ثمان
وأناخوا بنا فيالك من يو ... مٍ عصيبٍ من حادثات الزمان
نزلوا ساحتي وأطلقت الخي ... ل بزرع الحقول والبستان
أفقروني وغادروني بلا دا ... رٍ ولا ضيعةٍ ولا صيوان
أدهشوني وحيروني وقد صر ... ت ذهولاً أهيم كالسكران
أسمع اللفظ كالطنين فهم أل ... فاظهم ما لها لدى معاني
تركوني يا قوم أجرد من فر ... خٍ وأعرى ظهراً من الأفعوان
أكلوا لي من الجرادق ألفي ... ن بدبسٍ يسيل كالقطران
أكلوا لي ما حولها ثم مالوا ... كذئابٍ إلى سميد الفران
أكلوا لي من الجداء ثلاثي ... ن وسبعاً بالخل والزعفران
أكلوا ضعفها شواءً وضعفي ... ها طبيخاً من سائر الألوان
أكلوا لي تبالةً تبلت عق ... لي بعشرٍ من الدجاج سمان
أكلوا لي مضيرةً ضاعفت ضر ... ري بروس الجداء والحملان
أكلوا لي كشكيةً كشكت قل ... بي وهاجت بفقدها أشجاني
أكلوا لي سبعين حوتاً من النع ... ر طرياً من أعظم الحيتان
أكلوا لي عدلاً من المالح المق ... لو ملقىً في الخل والأذنان
أكلوا لي من القريشاء والبر ... ني والمعقلي والصرفان
ألف عدلٍ سوى المصغر والبر ... دي واللؤلؤي والصيخاني
أكلوا لي من الكزامخ والجو ... ز معاً والخلاط والأجبان
ومن البيض والمخلل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران
فتتوا لي من السفرجل والتف ... اح والرازقي والرمان
والرياحين ما رهنت عليه ... جبتي عند أحمد الفاكهاني
أذبلوا لي من البنفسج والنر ... جس ما ليس مثله في الجنان
ذبحوا لي بالرغم يا معشر النا ... س ثمانين رأس معزٍ وضان
ما كفاه تذبيحهم غنم الر ... ية حتى أتوا على الثيران
أكلوا كل ما حوته يميني ... وشمالي وما حوى جيراني
ثم قالوا هلم شيئاً فنادي ... ت غلامي قم ويك فاخبأ حصاني
لم تدع لي بطونكم يا بني البظ ... ر سواه وذا شطوبٍ يماني
فتمالوا علي شتماً ولعناً ... واستباحوا عرضي بكل لساني
ثم جاء المعقبون من السا ... سة والشاكري والعبدان
فرأيت الصراع والدفع واللط ... م وخرم النوف والآذان
ثم لما أتوا على كل شيء ... ختموا محنتي بكسر الأواني
ثم قاموا مثل البزاة إلى العص ... فور والعصفري والزربطان
فرأيت الطيور بعضاً على بع ... ضٍ وبعضاً ملقىً على الأغصان
أكلوا ما ذكرت ثم أراقوا ... يا صحابي كرا من الأشنان
ومن المحلب المطيب بالبا ... ن وماء الكافور سبع براني
شربوا لي عشرين ظرفاً من الرا ... ح لذيذ المذاق أحمر قاني

فأقاموا سواسهم والمكارو ... ن إلى أن سمعت صوت الأذان
يجمعون الأحطاب من حيث وافو ... ها فللظهر ضاع لي غيضتان
ومنها:
قطعوا اللوز والسفرجل أحطا ... باً ومالوا بها على غلماني
والنواطير مددوا وعلوهم ... حنقاً بالعصي والقضبان
طالبوني " بالشيء " في آخر اللي، ... ل وجمع النساء والمردان
قم فأسرع فبعضنا يطلب المر ... د وبعض مستهتر بالغواني
فتوهمته مزاحاً فجدوا ... قلت هذا ضرب من الهذيان
ليس يبقى على أرامل خمرا ... يا سوى بذلهن للضيفان
لو سمعتم يا قوم في غسق اللي ... ل بكاء النسوان والولدان
يتنادون بالعويل وبالوي ... ل وراء الأبواب والجدران
ومنها:
ثم راحوا بعد العشاء إلى دا ... ري فلم يتركوا سوى الحيطان
كان لي مفرش وكل مليحٍ ... فوقه مطرح من الميساني
وبساط من أحسن البسط مذخو ... ر لعرسٍ أو دعوةٍ أو ختان
غرقوه بالبصق والقيء والبو ... ل فأضحى وقدره بعرتان
أوقدوا زيتنا جزافاً بلا كي ... لٍ يكيلونه ولا ميزان
خلت داري يا إخوتي المسجد الجا ... مع ليلاً للنصف من شعبان
ثم لما انتهت بهم شدة الكظ ... ظة خروا صرعى إلى الأذقان
هوموا ساعةً كتهويمة الخا ... ئف في غير أرضه الفزعان
ثم قاموا ليلاً وقد جنح النس ... ر ومال السماك والفرقدان
يصرخون الصبوح يا صاحب البي ... ت فأبكوا عيني وراعوا جناني
سحبوني من عقر داري على وج ... هي كأني أدعى إلى السلطان
ومنها:
هل سمعتم فيما سمعتم بإنسا ... نٍ عراه في دعوةٍ ما عراني
أسعدوني يا إخوتي وثقاتي ... بدموعٍ يجري في الأجفان
إخوتي من لواكف الدمع محزو ... نٍ كئيبٍ مولهٍ حيران؟
هائم العقل ساهر الليل باكي ال ... عين واهي القوى ضعيف الجنان
لم يكن ذا القران إلا على شؤ ... مي فويلي من نحس ذاك القران
والقصيدة كلها غرر ولطائف، أجاد وأحسن فيها كل الإحسان، وأبان عن مقاصده بها أحسن بيانٍ. ومن شعر أبي القاسم أيضاً قوله:
لا تصغ للوم إن اللوم تضليل ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحويل
فقد مضى القيظ واحتثت رواحله ... وطابت الراح لما آل أيلول
وليس في الأرض نبت يشتكي رمداً ... إلا وناظره بالطل مكحول
وقال:
ولما نضا وجه الربيع نقابه ... وفاحت بأطراف الرياض النسائم
فطارت عقول الطير لما رأينه ... وقد بهتت من بينهن الحمائم
وهمن جنوناً بالرياض وحسنها ... صدحن وفي أعناقهن التمائم
وقال:
أنلني بالذي استقرضت خطاً ... وأشهد معشراً قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا ... عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول: إذا تداينتم بدينٍ ... إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه
وقال:
إذا دنت السحب الثقال وحثها ... من الرعد حادٍ ليس يبصر أكمه
أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهن مقهقه
إذا صاح في آثارهن حسبته ... يجاوبه من خلفه صاحب له
وقال يهجو منشا بن إبراهيم القزاز:
إن منشا قد زاد في التيه ... وزاد في شامنا تعديه
فلا ابن هندٍ ولا ابن ذي يزنٍ ... ولا ابن ماء السما يدانيه
وهو مغيظ على الوصي ومن ... يعزى إليه ومن يواليه
يذكر أيام خيبرٍ بهم ... فهم قذىً جال في أماقيه

وقد حكى أن فاه أطيب من ... سرمي وأني ممن يعاديه
ومن يقول القبيح فيه ومن ... أصبح بالمعضرت يرميه
فسوكوه بكل طيبة الر ... ريح تعفى على مساويه
ومضمضوه بالخل واجتهدوا ... معاً بكل اجتهادكم فيه
وأطعموه من الجوارش ما ... يعمل بالمسك والأفاويه
وأنهلوه من خمرٍ معتقةٍ ... قد صانها القس في خوابيه
واستفقحوني واستنكهوه تروا ... أن لسرمي فضلاً على فيه
وأحملوا الكلب والحمار على ... عياله واصفعوا محبيه
وقال يهجو أبا الفضل يوسف بن عليٍ، ويعرض فيها أيضاً بمنشا بن إبراهيم القزاز، وكانت هذه القصيدة سبب عزله عن عمله:
يا أهل جيرون هل أسامركم ... إذا استقلت كواكب الحمل؟
بمالحٍ كالرياض باكرها ... نوء الثريا بعارضٍ هطل
أو مثل نظم الجمان ينظم في ال ... عقد ووشي البرود والحلل
يلذ للسامع الغناء بها ... على خفيف الثقيل والرمل
كنت على باب منزلي سحراً ... أنتظر الشاكري يسرج لي
وطال ليلي لحاجةٍ عرضت ... باكرتها والنجوم لم تزل
فمر بي في الظلام أسود كال ... أقيل عريض الأكتاف والعضل
أشغى له منخر ككوة ... تنورٍ وعين كمقلة الجمل
ومشفر مسبل كخر رحى ... على نيوبٍ مثل المدى عضل
مشقق الكعب أفدع اليد والر ... رجل طويل الساقين كالسبل
فأهدت الريح منه لي أرجاً ... مثل جني الروض في ندىً خضل
مسكاً وقفصيةً معتقةً ... شيبا ببانٍ وعنبرٍ شمل
فقلت ما هكذا يكون إذا انفض ... ض الندامى روائح السفل
أسود غادٍ من الأتون له ... عرف أميرٍ نشوان ذي ثمل
هذا ورب السماء أعجب من ... حمار وحشٍ في البر منتعل
أردده يا نصر كي أسائله ... فشأنه عضلة من العضل
فقال يخشى فوات حاجتنا ... وليس هذا من أكبر الشغل
فقلت ترك الفضول نصر وإن ... أنجاك عين الخمول والكسل
بادره من قلب أن يفوتك في ... مسيره بين هذه السبل
فصد عني تغافلاً ومضى ... يعجب من عقله ومن خللي
وصاح من خلفه رويدك يا ... أسود مالي بالعدو من قبل
إرجع إلى ذلك الرقيع وإن ... أطال في هذره فلا تطل
أجب إذا ما سئلت مقتصداً ... في القول واسكت إن أنت لم تسل
وهو بترك الفضولأجدر لو ... سلم من خفةً ومن خطل
فكر نحوي عجلان يعثر في ... مرطٍ كسيه مبرغثٍ قمل
وقد مذى والمذى يقطر من ... غرموله في الذيول كالوشل
وظن أني صيد فأبرز لي ... فيشلةً مثل ركبة الجمل
وقال لج داركم لأولجها ... فيك وإن كنت لم تبل فبل
ومنها:
قلت له لا عدمت برك قد ... بذلت ما لم يكن بمبتذل
لكنني والذي يمد لك ال ... عمر ويعطيك غاية الأمل
ما شق دبري مذ كنت فيشلة ... ولا انتخاب الأيور من عملي
ولا لهذا دعيت فابغ لمي ... لوخك من يستلذه بدلي
وهات قل لي من أين جئت ومن ... أين أقبلت يا أبا جعل؟
فقال لي: بت عند عاملكم ... هذا أبي الفضل يوسف بن علي
فصاك بي طيبه وصكت به ... مني صناناً في حدة البصل
تركته في النهار أخفش لا ... ينظر في خدمةٍ ولا عمل
قلت تطاولت وافتريت على ... شيخٍ نبيلٍ ينمى إلى نبل

أبوه قسطاً وجده صمع ... يدعى حنيناً وعمه الصملي
لعل ذا غيره فصفه فما ... يخدع مثلي بهذه الحيل
فإن تكن صادقاً نجوت وأنحي ... ت عليه باللوم والعذل
وإن تكن كاذباً صفعتك بالن ... عل فإن كنت قائلاً فقل
فقال يا سيدي عجلت بمك ... روهي وكان الإنسان من عجل
هذا الذي بت عنده نصف ... دون عجوزٍ وفوق مكتهل
في فيه نتن وتحت عصعصه ... عين تمج الصديد في دغل
أنتن من كل ما يقال إذا ... بالغ في الوصف ضارب المثل
وهو على ذاك مولع أبداً ... لشؤم بختي بالعض والقبل
له إذا ما علوته نفس ... أمضى من السيف في يدي بطل
والقصيدة طويلة نحو مائةٍ وأربعين بيتاً، وفيها من الفحش ما لا يجمل بالأديب ذكره، وفيما أوردناه كفاية، ومن شعره:
ومهفهفٍ يزهو علي بجيده ... وبخصره وبردفه وبساقه
وافى إلي وقلبه متخوف ... كتخوف المعشوق من عشاقه
حتى إذا مددته وحللت عن ... كفلٍ مباح الحل بعد وثاقه
فاحت على أصنة من ردفه ... بخلاف ما قد فاحمن أطواقه
فسألته ماذا فقال بحرقةٍ ... ودموعه تنهل من آماقه
هذا ابن بسطامٍ أتانيطارقاً ... بلطيف حيلته وحسن نفاقه
وعلا على ظهري ويلقم مثقبي ... برياله المنهل من أشداقه
فبقي صنان رضابه في فقحتي ... زمناً لحاه الله بعد فراقه
فالله يحرمه معيشته كما ... قد سد مكسب مثقبي ببصاقه
الحسين بن سعد بن الحسين بن محمدٍ
أبو عليٍ الآمدي اللغوي الشاعر الأديب، توفى ليلة الخميس خامس ربيعٍ الآخر سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ. ولد بآمد ونشأ بها، ثم قدم بغداد فأخذ بها عن أبي يعلى الفراء، وأبي طالب بن غيلان، وأخذ بالشام عن جماعةٍ. ودخل أصبهان فاستوطنها ومات ودفن بها، وله مؤلفات. ومن شعره:
وأهيف مهزوز القوام إذا انثنى ... وهبت لعذري فيه ذنب اللوائم
بثغرٍ كما يبدو لك الصبح باسمٍ ... وشعرٍ كما يبدو لك الليل فاحم
مليح الرضا والسخط تلقاه عاتباً ... بألفاظ مظلومٍ وألحاظ ظالم
ومما شجاني أنني يوم بينه ... شكوت الذي ألقى إلى غير راحم
وحملت أثقال الهوى غير حاملٍ ... وأودعت أسرار غير كاتم
وأبرح ما لاقيته أن متلفي ... بما حل بي في حبه غير عالم
ولو أنني فيه سهرت لساهرٍ ... لهان ولكني سهرت لنائم
وقال:
أتنسب لي ذنباً ولم أك مذنباً ... وحماتنيفي الحب مالا أطيقه
وما طلبي للوصل حرص على البقا ... ولكنه أجر إليك أسوقه
وقال:
نوهم واشينا بليلٍ مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتى اتحدنا تعانقاً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد
وقال:
بنفسي وروحي ذلك العارض الذي ... غدا مسكه تحت السوالف سائلا
درى خده أني أجن من الهوى ... فهيأ لي قبل الجنون سلاسلا
وقال:
تصدر للتدريس كل مهوسٍ ... بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
الجزء العاشر
الحسين بن الضحاك

ابن ياسرٍ البصري المعروف بالخليع أبو عليٍ، أصله من خراسان، وهو مولىً لولد سلمان بن ربيعة الباهلي الصحابي، فهو مولىً لا باهلي النسب كما زعم ابن الجراح، بصري المولد والمنشأ، وهو شاعر ماجن، ولذلك لقب بالخليع، وعداده في الطبقة الأولى من شعراء الدولة العباسية المجيدين، ولد سنة اثنتين وستين ومائةٍ، وتوفي في بغداد سنة خمسين ومائتين، وقد ناهز المائة، وكان شاعراً مطبوعاً حسن التصرف في الشعر، وكان أبو نواسٍ يغير على معانيه في الخمر، فإذا قال شيئاً فيها نسبه الناس إلى أبو نواسٍ، وله غزل كثير أجاد فيه، وهو أحد الشعراء المطبوعين الذين أغناهم عفو فرائحهم عن التكلف، وقد اتصل الحسين بن الضحاك بالخلفاء من بني العباس ونادمهم، وأول من جالس منهم: محمد الأمين بن هارون الرشيد، وكان اتصاله به سنة ثمانٍ وتسعين ومائةٍ، وهي السنة التي قتل فيها الأمين، وتنقل بعده في مجالس الخلفاء ونادمهم إلى الحين الذي مات فيه في زمن المستغين، وقيل في زمن المنتصر.
حدث الصولي عن عبد الله بن محمدٍ الفارسي عن ثمامة بن أشرس قال: لما قدم المأمون من خراسان وصار إلى بغداد، وأمر بأن يسمى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم الحسين فقال: أليس هو الذي يقول في الأمين يعني أخاه:
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفاً سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا حاجة لي فيه، والله لا يراني أبداً إلا في الطريق، ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به. قال: وانحدر إلى البصرة فاقام بها طول أيام المأمون، واستقدمه المعتصم من البصرة حين ولي الخلافة بعد موت المأمون، فلما دخل عليه استأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده يمدحه:
هلا سألت تلدد المشتاق ... ومننت قبل فراقه بتلاق
إن الرقيب ليستريب تنفس الص ... صعدا إليك وظاهر الإقلاق
ولئن أربت لقد نظرت بمقلةٍ ... عبري عليك سخينة الآماق
نفسي الفداء لخائفٍ مترقفبٍ ... جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحمٍ متحيرٍ ... إلا الدموع تصان بالإطراق
ومنها:
خير الوفود مبشر بخلافةٍ ... خصت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمةً ... من كل مشكلةٍ وكل شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعةً ... قبل الأكف بأوكد الميثاق
سكن الأنام إلى إمامٍ سلامةٍ ... عف الضمير مهذب الأخلاق
فحمي رعيته ودافع دونها ... وأجار مملقها من الإملاق
قل للألى صرفوا الوجوه عن الهدى ... متعسفين تعسف المراق
إني أحذركم بوادر ضيغمٍ ... دربٍ بخطم موائل الأعناق
متأهبٍ لا يستفز جنانه ... زجل الرعود ولامع الإبراق
لم يبق من متعزمين توثبوا ... بالشام غير جماجمٍ أفلاق
من بين منجدلٍ تمج عروقه ... علق الأخادع أو أسير وثاق
وثنى الخيول إلى معاقل قيصرٍ ... تختال بين أجرةٍ ودفاق
يحملن كل مشمرٍ متغشمٍ ... ليثٍ هزبرٍ أهرت الأشداق
حتى إذا أم الحصون منازلاً ... والموت بين ترائبٍ وتراق
هرت بطارقها هرير ثعالب ... بدهت بزأر قساورٍ طراق
ثم استكانت للحصار ملوكهم ... ذلاً ونيط حلوقهم بخناق
هربت وأسلمت البلاد عشيةً ... لم تبق غير حشاشة الأرماق
فلما أتمها قال له المعتصم، ادن مني، فدنا منه فملأفمه جوهراً من جوهرٍ كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فيه،فأخرجه فأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده ليعلما موقعه منه ويعرفوا له فضله. وحدث الصولي عن عون بن محمدٍ الكندي قال: لما ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحاك فهنأه بالخلافة وأنشده:

تجددت الدنيا بملك محمدٍ ... فأهلاً وسهلاً بالزمان المجدد
هي الدولة الغراء راحت وبكرت ... مشمرةً بالرشد في كل مشهدٍ
لعمري لقد شدت عرى الدين بيعة ... أعز بها الرحمن كل موحد
هنتك أمير المؤمنين خلافة ... جمعت بها أهواء أمة أحمد
فأظهر إكرامه والسرور به وقال له: إن في بقائك بهاءً للملك، وقد ضعفت عن الحركة، فكاتبني بحاجتك ولا تحمل على نفسك بكثرة الحركة، ووصله بثلاثة آلاف دينارٍ ليقضي بها ديناً بلغه أنه عليه، وقال في المنتصر أيضاً وهو آخر شعرٍ قاله:
ألا ليت شعري أبدر بدا ... نهاراً أم الملك المنتصر؟؟
إمام تضمن أثوابه ... على سرجه قمراً من بشر
حمى الله دولة سلطانه ... بجند القضاء وجند القدر
فلا زال ما بقيت مدة ... يروح بها الدهر أو يبتكر
واصطبح عند عبد الله بن العباس بن الفضل وخادم له قائم بين يديه يسقيه، فقال عبد الله: يا أبا عليٍ قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في هذا فقل، فقال:
أحيت صبوحي فكاهة اللاهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي
فآثر اللهو في مكامنه ... من قبل يومٍ منغصٍ ناهي
بابنةٍ كرمٍ من كف منتطقٍ ... مؤتزرٍ بالمجون تياه
يسقيك من طرفه ومن يده ... سقي لطيفٍ مجربٍ داهي
كأساً وكأساً كأن شاربها ... حيران بين الذكور والساهي
وذكر الصولي في نوادره قال: حدثني علي بن محمد بن نصرٍ قال: حدثني خالي أحمد بن حمدون قال: قال الحسين بن الضحاك من أبياتٍ وقد عمر:
أما في ثمانين وفيتها ... عذير وإن أنا لم أعتذر
وقد رفع الله أقلامه ... عن ابن ثمانين دون البشر
وإني لمن أسراء الإله ... في الأرض نصب حروب القدر
فإن يقض لي عملاً صالحاً ... أثاب وإن يقض شراً غفر
وقال:
أصبحت من أسراء الله محتسباً ... في الأرض نحو قضاء الله والقدر
إن الثمانين إذ وفيت عدتها ... لن تبق باقيةً مني ولم تذر
قلت: والأصل في قول الحسين بن الضحاك هذا، الحديث الذي رواه ابن قتيبة في غريب الحديث. قال: حدثنا أبو سفيان الغنوي، حدثنا معقل بن مالكٍ عن عبد الرحمن بن سليمان، عن عبيد الله بن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ العبد ثمانين سنةً فإنه أسير الله في الأرض، تكتب له الحسنات وتمحى عنه السيئات). وقال:
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا ما تنفس النرجس الغض ... ض توهمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا
وقال:
لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا ... ح وإن كان موجعا
كبدي في هواك أس ... قم من أن تقطعا
لم تدع صورة الضنى ... في للسقم موضعا
وقال:
ألا إنما الدنيا وصال حبيب ... وأخذك من مشمولةٍ بنصيب
ولم أر في الدنيا كخلوة عاشقٍ ... وبذلة معشوقٍ ونوم رقيب
وقال يمدح الوزير الحسن بن سهلٍ:
أرى الآمال غير معرجاتٍ ... على أحدٍ سوى الحسن بن سهل
يباري يومه غده سماحاً ... كلا اليومين بان بكل فضل
أرى حسناً تقدم مستبداً ... ببعدٍ من رياسته وقبل
فإن حضرتك مشكلة بشكٍ ... شفاك بحكمةٍ وخطاب فصل
سليل مرازبٍ ترعوا حلوماً ... وراح صغيرهم بسداد كهل
ملوك إن جريت بهم أبروا ... وعزوا أن توازيهم بعدل
ليهنك أن ما أرجيرشد ... وما أمضيت من قولٍ وفعل
وأنك مؤثر للحق فيما ... أراك الله في قطعٍ ووصل
وأنك للجميع حيا ربيعٍ ... يصوب على قرارة كل محل
وقال يمدح الواثق لما ولي الخلافة:

أكتم وجدي فما ينكتم ... بمن لو شكوت إليه رحم
وإني على حسن ظني به ... لأحذر إن بحت أن يحتشم
ولي عند لحظته روعة ... تحقق ما ظنه المتهم
وقد علم الناس أني له ... محب وأحسبه قد علم
وإني لمغضٍ على لوعةٍ ... من الشوق في كبدي تضطرم
وعشية ودعت عن مدمعٍ ... سفوحٍ وزفرة قلب سدم
فما كان عند النوى مسعد ... سوى الدمع يغسل طرفاً كلم
سيذكر من بان أوطانه ... ويبكي المقيمين من لم يقم
ومنها في المديح:
إلى خازن الله في خلقه ... سراج النهار وبدر الظلم
ركبنا غرابيب زفافةٍ ... بدجلة في موجها الملتطم
إذا ما قصدنا لقاطولها ... ودهم قراقيرها تصطدم
وصرنا إلى خير مسكونةٍ ... تيممها راغب أو ملم
مباركةٍ شاد بنيانها ... بخير المواطن خير المم
كأن بها نشر كافورةٍ ... لبرد نداها وطيب النسم
كظهر الأديم إذا ما السحا ... ب صاب على متنها وانسجم
مبرأةٍ من وحول الشتاء ... إذا ما طمى وحله وارتكم
فما إن يزال بها راجل ... يمر الهوينا ولا يلتطم
ويمشي على رسله آمناً ... سليم الشراك نقي القدم
وللنون والضب في بطنها ... مراتع مسكونة والنعم
ومنهم:
يضيق الفضاء به إن عدا ... بطودي أعاريبه والعجم
ترى النصر يقدم راياته ... إذا ما خفقن أمام العلم
وفي الله دوخ أعداءه ... وجرد فهم سيوف النقم
وفي الله يكظم من غيظه ... وفي الله يصفح عمن ظلم
رأى شيم الجود محمودةً ... وما شيم الجود إلا قسم
فراح على نعمٍ واغتدى ... كأن ليس يحسن إلا نعم
وقال:
أتاني منك ما ليس ... على مكروهه صبر
فأغضيت على عمدٍ ... وقد يغضي الفتى الحر
وأدبتك بالهجر ... فما أدبك الهجر
ولا ردك عما كا ... ن منك النصح والزجر
فلما اضطرني المكر ... ه واشتد بي الأمر
تناولتك من ضري ... بما ليس له قدر
فحركت جناح الذل ... ل لما مسك الضر
إذا لم يصلح الخير ام ... رأً أصلحه الشر
وغضب عليه المعتص لشيءٍ جرى منه على النبيذ، فكتب إليه يسترضيه:
غضب الإمام أشد من أدبه ... وقد استجرت وعذت من غضبه
أصبحت معتصماً بمعتصمٍ ... أثنى الإله عليه في كتبه
لا والذي لم يبق لي سباً ... أرجو النجاة به سوى سببه
مالي شفيع غير حرمته ... ولكل من أشفى على عطبه
الحسين بن عبد اله بن يوسفابن أحمد بن شبلٍ أبو عليٍ البغدادي. ولد في بغداد وبها نشأ، وبها توفي سنة أربعٍ وسبعين وأربعمائةٍ. كان متميزاً بالحكمة والفلسفة، خبيراً بصناعة الطب، أديباً فاضلاً وشاعراً مجيداً، أخذ عن أبي نصرٍ يحيى بن جريرٍ التكريتي وغيره. وهو صاحب القصيدة الرائية التي نسبت للشيخ الرئيس ابن سينا وليست له، وقد دلت هذه القصيدة على علو كعبه في الحكمة والاطلاع على مكنوناتها، وقد سارت بها الركبان وتداولها الرواة، وهي:
بربك أيها الفلك المدار ... أقص ذا المسير أم اضطرار؟؟
مدارك قل لنا في أي شيءٍ ... ففي أفهامنا منك انبهار؟
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار؟
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟
وموج ذي المجرة أم فرند ... على لجج الذراع لها مدار
وفيك الشمس رافعةً شعاعاً ... بأجنحةٍ قوادمها قصار
وطوق النجوم إذا تبدى ... هلالك أم يد فيها سوار

وأفلاذ نجومك أم حباب ... تؤلف بينه لجج غزار
وتنشر في الفضا ليلاً وتطوى ... نهاراً مثلماً يطوى الإزار
فكم بصقالها صدئ البرايا ... وما يصدأ لها أبداً غرار
تبادي ثم تخنس راجعاتٍ ... وتكنس مثلما كنس الصوار
فبينا الشرق يقدمها صعوداً ... تلقاها من الغرب انحدار
على ذا قد مضى وعليه يمضي ... طوال منىً وآجال قصار
وأيام تعرفنا مداها ... لها أنفاسنا أبداً شفار
ودهر ينثر الأعمار نثراً ... كما للورد في الروض انتثار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذته من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار
فمن يومٍ بلا أمسٍ ويومٍ ... بغير غدٍ إليه بنا يسار
ومن نفسين في أخذٍ وردٍ ... لروح المرء في الجسم انتشار
وكم من بعد ما كانت نفوسٍ ... إلى أجسامها طارت وطاروا
ألم تك بالجوارح آنساتٍ ... فأعقب ذلك الأنس النفار
فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنبٍ ماله منه اعتذار
ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجوار
فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب الساقيات له شعار
فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار
ولكن بعد غفرانٍ وعفوٍ ... يعير ما تلا ليلاً نهار
لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدمٍ وبنا الصغار
وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار
فيا لك أكلة لا زال منها ... علينا نقمة وعليه عار
نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
وتنتظر البلايا والرزايا ... وبعد فللوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أخرجه الوجار
فماذا الإمتنان على وجودٍ ... لغير الموجدين به الخيار
وكان وجودنا خيراً لو أنا ... نخير قبله أو نستشار
أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار؟
تحير فيه كل دقيقٍ فهمٍ ... وليس لعمق جرحهم انسبار
إذا التكوير غال الشمس عنا ... وغال كواكب الأفق انتثار
وبدلنا بهذي الأرض أرضاً ... وطوح بالسموات انفطار
وأذهلت المراضع عن بنيها ... لدهشتها وعطلت العشار
وغشي البدر من فرقٍ وذعرٍ ... خسوف ليس يجلى أو سرار
وسيرت الجبال فكن كثباً ... مهيلاتٍ وسجرت البحار
فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم لنا اصطبار
وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الإعتبار؟
وأين يغيب لب كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار؟
ولا أرض عصته ولا سماء ... ففيما يغول أنجمها انكدار
وقد وافته طائعةً وكانت ... دخاناً ما لقاتره شرار
قضاها سبعةً والأرض مهداً ... دحاها فهي للأموات دار
فما لسمو ما أعلى انتهاء ... وما لعلو ما أرسى فرار
ولكن ذا التهويل فيه ... لمن يخشى اتعاظ وازدجار
وقال:
بنا إلى الدير كوثاً صبابات ... فلا تلمني فما تغني الملامات
لا تبعدن وإن طال الزمان بها ... أيام لهوٍ عهدناها وليلات
فكم قضينا لبانات الشباب بها ... غنماً وكم بقيت عندي لبانات
ما مكنت دولة الأيام مقبلةً ... فانعم ولذ فإن العيش تارات
قبل ارتجاع الليالي فهي عارية ... فإنما منح الدنيا غرامات

قم فاجل في فلك البستان شمس ضحىً ... بروجها الزهر والجامات دارات
لعله إن دعا داعي الحمام بنا ... نقضي وأنفسنا منها رويات
بم التعلل لولا الراح في زمنٍ ... أحياؤه في سبات الهم أموات؟
بدت تحيي فقابلنا تحيتها ... وقد عراها لخوف المزج روعات
مدت أشعة برقٍ من أبارقها ... على مقابلها منها شعاعات
فلاح في ساق ساقيها خلاخل من ... تيرٍ وفي أوجه الندمان شارات
قد وقع الصفو سطراً من فواقعها ... لا فارقت شارب الراح المسرات
خذ ما تعجل واترك ما وعدت به ... وكن لبيباً فللتأخير آفات
وللسعادة أوقات مقدرة ... فيها السرور وللأحزان أوقات
وقال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارةً ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على كبدٍ حراء قلت همومها
وقال:
ليكفكم ما فيكم من جوىً نلقى ... فمهلاً بنا مهلاً ورفقاً بنا رفقا
وحرمة وجدي لا سلوت هواكم ... ولا رمت منه لا فكاكاً ولا عتقا
سأزجر قلباً رام في الحب سلوةً ... وأهجره إن لم يمت بكم عشقا
صحبت الهوى يا صاح حتى ألفته ... فأضناه لي أشفى وأفناه أي لأبقى
فلا الصبر موجود ولا الشوق بارح ... ولا أدمعي تطفي لهيبي ولا ترقا
أخاف إذا ما الليل أخى سدوله ... على كبدي حرقاً ومن مقلتي غرقا
أيجمل أن أجزي من الوصل بالجفا ... فينعم طرفي والفؤاد بكم يشقي؟
أحظي هذا أم كذا كل عاشقٍ ... يموت ولا يحيا ويظمي فلا يسقي
سل الدهر عل الدهر يجمع شملنا ... فلم أر ذا حالٍ على حاله يبقى
وقال:
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كنت أدنى منه في الحلم والحجا ... عرفت له حق التقدم والفضل
وإن كان مثلي في الفطانة والحجا ... أردت لنفسي أن أجل عن المثل
وقال:
وفي اليأس إحدى الراحتين لذي الهوى ... على أن إحدى الراحتين عذاب
أعف وبي وجد وأسلو وبي جوىً ... ولو ذاب مني أعظم وإهاب
وآنف أن تصطاد قلبي كاعب ... بلحظٍ وأن يروي صداي رضاب
فلا تنكروا عن الكريم على الأذى ... فحين تجوع الضاريات تهاب
وقال:
وكأنما الإنسان منا غيره ... متكون والحس منه معار
متصرف وله القضاء مصرف ... ومسير وكأنه مختار
طراً تصوبه الحظوظ وتارةً ... خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمى بصيرته ويبصر بعدما ... لا يسترد الفائت استبصار
وتراه يؤخذ قلبه من صدره ... ويرد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يوسع بالملامة نفسه ... ندماً إذا عبثت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده ... حتى يبينه له الإصدار
وقال:
تلق بالصبر ضيف الهم حيث أتى ... إن الهموم ضيوف أكلها المهج
فالخطب إن زاد يوماً فهو منتقص ... والأمر إن ضاق يوماً فهو منفرج
فروح النفس بالتعليل ترض به ... واعلم إلى ساعةٍ من ساعةٍ فرج
وقال:
إحفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ ... سرٍ ومالٍ ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثةٍ ... بمعكرٍ وبحاسدٍ ومكذب
وقال:
وعلى قدر عقله فاعتب المر ... ء وحاذر براً يصير عقوقا
كم صديقٍ بالعتب صار عدواً ... وعدوٍ بالحلم صار صديقا
وقال:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغاً ... حتى إذا مثلت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
وقال:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...