Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج3وج4.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

ج3وج4.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي
ووجدت في كتاب ألفه أبو الحسن، علي بن عبيد الله، ابن المسيب الكاتب، في أخبار ابن الرومي، وكان ابن المسيب هذا، صديقاً لابن الرومي وخليطاً له. قال: كان أحمد بن محمد، بن عبيد الله، بن عمار، " هكذا قال في نسبه، بتقديم محمد على عبيد الله " صديقاً لابن الرومي، كثير الملازمة له، وكان ابن الرومي يعمل له الأشعار، وينحله إياها، يستعطف بها من يصحبه، وكان ابن عمار محدوداً فقيراً، وقاعة في الأحرار، وكان أيام افتقاره، كثير السخط لما تجري به الأقدار، في آناء الليل والنهار، حتى عرف بذلك، فقال له علي بن العباس، بن الرومي يوماً: يا أبا العباس، قد سميتك العزير، قال له: وكيف وقعت لي على هذا الاسم؟ قال: لأن العزير خاصم ربه، بأن أسال من دماء بني إسرائيل على يدي، بختنصر سبعين ألف دم، فأوحى الله: " لئن لم تترك مجادلتي في قضائي، لأمحونك من ديوان النبوة " : وقال فيه: " وفي ابن عمار عزيرية " وذكر البيتين اللذين في كتاب الخطيب وزاد:
لا، بل فتى خاصم في نفسه ... لم لم يفز قدماً وفاز البقر؟
وكل من كان له ناظر ... صاف فلا بد له من نظر
وكتب ابن الرومي إلى أحمد بن محمد، بن بشر المرشدي قصيدة يمدحه فيها، ويهنئه بمولود ولد له، ويحضه على بر ابن عمار والإقبال عليه، يقول فيها:
ولي لديكم صاحب فاضل ... أحب أن يبقى وأن يصحبا
مبارك الطائر ميمونه ... خبرني عن ذاك من جربا
بل عندكم من يمنه شاهد ... قد أفصح القول وقد أعربا
جاء فجاءت معه غرة ... تقبل الناس بها كوكبا
إن أبا العباس مستصحب ... يرضي أبا العباس مستصحبا
لكن في الشيخ عزيرية ... قد تركته شرساً مشغبا
فاشدد أبا العباس كفاً به ... فقد ثقفت المحطب المحوبا
باقعة إن أنت خاطبته ... أعرب أو فاكهته أغربا
أدبه الدهر بتصريفه ... فأحسن التأديب إذ أدبا
وقد غدا ينشر نعماءكم ... في كل ناد موجزاً مطنباً
والقصيدة طويلة. قال: وصار محمد بن داود، بن الجراح يوماً إلى ابن الرومي مسلماً عليه، فصادف عنده أبا العباس أحمد بن محمد بن عمار، وكان من الضيق والإملاق النهاية، وكان علي بن العباس مغموماً به، فقال محمد بن داود لابن الرومي، ولأبي عثمان الناجم: لو صرتما إلي وكثرتما بما عندي، لأنس بعضنا ببعض، فأقبل ابن الرومي، على محمد بن داود فقال: أنا في بقية علة، وأبو عثمان مشغول بخدمة صاحبه، يعني ابن بليل، وهذا أبو العباس بن عمار، له موضع من الرواية والأدب، وهو على غاية الإمتاع والإيناس بمشاهدته، وأنا أحب أن تعرف مثله، وفي العاجل خذه معك، لتقف على صدق القول فيه. فأقبل محمد بن داود، على أحمد بن عمار، وقال له: تفضل بالمصير إلي في هذا اليوم، وقبله قبولاً ضعيفاً، فصار إليه ابن عمار في ذلك اليوم، ورجع إلى ابن الرومي فقال له: إني أقمت عند الرجل وبت، وأريد أن تقصده وتشكره، وتؤكد أمري معه. ومحمد بن داود في هذا الوقت متعطل، ملازم منزله، فصار إليه، وأكد له الأمر معه، وطال اختلافه إليه، إلى أن ولي عبيد الله بن سليمان وزارة المعتضد، واستكتب محمد بن داود بن الجراح، وأشخصه معه، وقد خرج إلى الجبل ورجع، وقد زوجه بعض بنات، وولاه ديوان المشرق، فاستخرج لابن عمار أقساطاً أغناه بها، وأجرى عليه أيضاً من ماله، ولم يزل يختلف إليه أيام حياة محمد بن داود.
وكان السبب في أن نعشه الله بعد العثار، وانتاشه من الإقبار ابن الرومي، فما شكر ذلك له، وجعل يتخلفه، ويقع فيه ويعيبه، وبلغ ابن الرومي ذلك، فهجاه بأهاج كثيرة، منها وهو مصحف:
ألا قل لابن عمار ... ألا تعظم من قدري
بحر أختك وحر والد ... تك لا تعرض لشعري
وتذكر حين تنسى ... حر عمتك وأيرى
وإذ فتىً فرح الرو ... حة منقاد لأمري؟؟
خر خالاتك للج ... يران لكن لست تدري

قال ابن المسيب: ومن عجيب أمر عزير هذا، أنه كان ينتقص ابن الومي في حياته، ويزري على شعره، ويتعرض لهجائه، فلما مات ابن الرومي، عمل كتاباً في تفضيله، ومختار شعره، وجلس يمليه على الناس، وذكره محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست، فقال: كان يصحب محمد بن داود، بن الجراح، ويروي عنه، ثم توكل للقاسم بن عبيد الله، بن سليمان وولده.
وله من الكتب كتاب المبيضة، وهو في مقاتل الطالبيين، كتاب الأنواء، كتاب مثالب أبي نواس، كتاب أخبار سليمان بن أبي شيخ، كتاب الزيادة في أخبار الوزراء، لابن الجراح، كتاب أخبار حجر بن عدي، كتاب أخبار أبي نواس، كتاب أخبار ابن الرومي ومختار شعره، كتاب المناقضات، كتاب أخبار أبي العتاهية، كتاب الرسالة في بني أمية، كتاب الرسالة في تفضيل بني هاشم ومواليهم، وذم بني أمية وأتباعهم، كتاب الرسالة في المحدب والمحدث، كتاب أخبار عبد الله بن معاوية الجعدي، كتاب الرسالة في مثال معاوية.
وذكره أبو عبد الله المرزباني في كتاب المعجم فقال: وذكر أنه مات في سنة عشر وثلاثمائة قال: وهو القائل:
وعيرتني النقصان والنقص شامل ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكما؟
وأقسم أني ناقص غير أنني ... إذا قيس بي قوم كثير تقللوا
تفاضل هذا الخلق بالعلم والحجى ... ففي أيما هذين أنت؟ فتفضل
ولو منح الله الكمال ابن آدم ... لخلده والله ما شاء يفعل
وذكر ابن زنجي أبو القاسم الكاتب قال: كان الوزير أبو الحسن، علي بن محمد، بن الفرات، قد أطلق في وزارته الأخيرة للمحدثين عشرين ألف درهم، فأخذت لأبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار، لأنه كان يجيئني ويقيم عندي: وسمعت منه أخبار المبيضة، ومقتل حجر، وكتاب صفين، وكتاب الجمل، وأخبار المقدمي، وأخبار سليمان بن أبي شيخ، وغير ذلك خمسمائة درهم.
أ؛مد بن عبد الله كلوذانيبن أحمد، أبو الحسين الكلوذاني، المعروف بابن قرعة، من أهل الأدب والفضل الغزير، كتب بخطه الكثير من المصنفات الطوال، ولازم أبا بكر الصولي، وتضلع عليه من أدبه، وروى عنه، وطلب الأدب طول عمره، ثم عاد إلى بلده كلوذي، فأقام بها طول عمره، وقصده الناس، فكان أيدبها وفاضلها، ولم يزل بها إلى آخر عمره.
أحمد بن عبيد الله بن الحسن بن شقيرأبو العلاء البغدادي، ذكره الحافظ أبو القاسم في تاريخ دمشق، وقال: حدث عن أبي بكر محمد بن هارون بن المحدو، وحامد بن شعيب البلخي، والهيثم ابن خلف، وأبي بكر الباغندي والبغوي، وأبي عمر الزاهد، وأبي بكر بن الأنباري، وابن دريد، وأحمد بن فارس، وأبي بكر أحمد بن عبد الله سيف السجستاني، روى عنه تمام الرازي، ومكي بن محمد بن الغمر، وأبو نصر عبد الوهاب بن عبد الله، بن الحيان، ومحمد بن عبد الله ابن الحسن الدوري.
أحمد بن علي بن يحيى بن أبي منصورالمنجم، أبو عيسى، نذكر كل واحد من آبائه وأعمامه، وأهل بيته في بابه، إن شاء الله تعالى وحده. وأما نسبهم، وولاؤهم، وأوليتهم، فنذكره في باب جده يحيى بن أبي منصور المنجم، إن شاء الله، وكان أحمد هذا، نبيلاً فاضلاً، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: له كتاب تاريخ سني العالم.
أحمد بن علي، أبو بكر الميمونيالبرزندي النحوي، ذكره أبو الفتح، منصور بن المعذر النحوي، الأصفهاني المتكلم، وقد ذكر جماعة من المعتزلة النحويين، فذكر أبا سعيد السيرافي، وأبا علي الفارسي، وعلي ين عيسى الرماني، وغيرهم، ثم قال: وأبو بكر أحمد بن علي النحوي البرزندي، الشافعي النحوي المعتزلي، القائل:
إذا مت فانعيني إلى العلم والنهى ... وما حبرت كفي يما في المحابر
فإني من قوم بهم يصبح الهدى ... إذا أظلمت بالقوم طرق البصائر
أحمد بن علي المعروف بابن خشكنانجهبن وصيف، المعروف بابن خشكنانجه يكنى أبا الحسين، وكان أبوه علي الملقب بخشكنانجهْ، فاضلاً، وقد ذكر في بابه، مات أحمد ببغداد، وذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان كاتباً بليغاً، فصيحاً شاعراً، وله من الكتب: كتاب النثر الموصول بالنظم، كتاب صناعة البلاغة، كتاب الفوائد:
أحمد بن علي القاساني اللغوي

أبو العباس، يعرف بلوه، وقيل بابن لوه، لا أعرف من أمره إلا ما قرأته بخط بديع بن عبد الله، فيما كتبه عن أبي الحسين، أحمد بن فارس اللغوي. أنشدني أحمد بن علي بن القاساني اللغوي:
إغسل يديك من الثقات ... وأصرمهم صرم البتات
واصحب أخاك على هوا ... ه وداره بالترهات
ما الود إلا باللسا ... ن فكن لساني الصفات
وقال في موضع آخر منه: سمعت أبا العباس أحمد ابن علي القاساني يقول: سمعت أعرابياً بالبادية يقول:
قل لدنيا أصبحت تلعب بي ... سلط الله عليك الآخرهْ
قلت أنا: هذا البيت معروف للحسين بن الضحاك، مع بيت آخر هو:
إن أكن أبرد من قنينة ... أو من الريش فأمي فاجرهْ
وقال في موضع آخر،: أخبرني أبو العباس، أحمد ابن علي القاساني، يعرف بلوه، وقال في موضع آخر: يعرف بابن لوه بقزوين، قال: كنت بالبصرة، وبها أبو بكر بن دريد، فبينا نحن في مجلسه، ورد علينا رجل من أهل الكوفة، فجعل يسأله عن مسائل، يظهر فيها لنا أنه يتعنته ويتسقطه، فأقبل عليه أبو بكر فقال له: يا هذا: قد عرفت مغزاك، وأحب أن تجمع ما تريد أن تسألني عنه في قرطاس، وتأتيني به وتأخذ من الجواب بديهة إن شئت، أو روية، فمضى الرجل وجاءه بعد ثلاث، وقد جمع له، فما سأله عن مسألة إلا وأبو بكر يبادره بالجواب، والرجل يكتب، ثم إنا سألنا الرجل، فأعطانا المسائل والجواب، فكتبتها، وهي هذه سماعي من أبي بكر لفظاً، القهوسة: مشية بسرعة، القعسرة: الصلابة والشدة، القعسنة: الانتصاب في الجلسة ويقال: الفقعسة أن يرفع الرجل رأسه وصدره، العقوسة: التذلل، الفقعسة: استرخاء وبلادة في الإنسان، البحدلة: القصر، بهدل: طائر، الكهدل: الشابة الناعمة، غطمش، من قولنا: تغطمش علينا: إذا ظلمنا، هجعم من الهجعمة: وهي الجرأة، خضارع من الخضرعة: وهي التسمح بأكثر ما عند الإنسان، التخثعم: الانقباض، الخثعمة: التلطخ بالدم، الشعفر: المرأة الحسناء، الكلحبة: العبوس، ويقال: كلحبت النار إذا مدت لسانها، سنبس من الصلابة واليبس، البلندي: الغليظ الصلب، القرثعة: تقرد الصوف في خروف ونحو هذه.
قال ابن فارس: أنشدني أبو العباس أحمد بن علي القلساني، وكان يعرف بابن لوه، قال: أنشدني أبو عبد الله نفطويه لبعض الأعراب:
إذا واله حنت من الليل حنة ... إلى إلفها جاوبتها بحنين
هنالك لا روادهم يبلغوننا ... ولا خبر يجلو العمى بيقين
وقال: قال أبو العباس: حججت فوقفت على أعرابية فقلت لها: كيف أصبحت؟ فقالت:
بخير على أن النوى مطمئنة ... بليلي وأن العين باد معينها
وإني لباك من تفرق شملهم ... فمن مسعد للعين؟ أم من يعينها؟
قال وأنشدني:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد به الجثجاث والسلم والنضر
قال ابن فارس: وأنشدني أحمد بن علي القاساني:
وأمست أحب الناس قرباً ورؤية ... إلى قلبه سلمى وإن لم نحبب
حبيب إليه كل واد تحله ... سليمى خصيباً كان أو غير مخصب
قال وأنشدني:
وإذا دعا داع بها فديتها ... وعضضت من جزع لفرقتها يدي
لا يبعدن تلك الشمائل والحلي ... منها وإن سكنت محل الأبد
أحمد بن علي بن هارونابن علي، بن يحيى، بن أبي منصور المنجم، والمنجم أبو الفتح، أحد من سلك سبيل آبائه في طرق الآداب، واهتدى بهديهم في تلك إلى الفضائل من كل، روى عنه أبو علي التنوخي في نشواره فأكثر، ووصفه بالفضل وما قصر، وأنشد له أشعاراً قال: أنشدني أبو الفتح، أحمد بن علي، بن هارون، بن يحيى المنجم، في الوزير أبي الفرج، محمد بن العباس بن فسانجس في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز لنفسه:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
ومن يداه ماً تجدي ندىً وردىً ... يجريهما عدل حكم السيف والقلم
ومن إذا هم أن يمضي عزائمه ... رأيت ما تفعل الأقدار في الأمم
ومن عوارفه تهمي وعادته ... في رب بدأته تنمى على القدم

لأنت أشهر في رعي الذمام وفي ... حكم التكرم من نار على علم
والعبد عبدك في قرب وفي بعد ... وأنت مولاه إن تظعن وإن تقم
فمره يتبعك أو لا فاعتمده بما ... تجري به عادة الملاك في الخدم
قال وأنشدني لنفسه، وذكر أنه لا يوجد لها قافية رابعة من جنسها في الحلاوة:
سيدي أنت ومن عاداته ... باعتدال وبجود جاريهْ
أنصف المظلوم وارحم عبرة ... بدموع ودماء جاريهْ
ربما أكني بقول سيدي ... عند شكواي الهوى عن جاريهْ
قال: وأنشدني لنفسه، والقافية كلها عود باختلاف المعنى:
العيش عافية والريح والعود ... فكل من حاز هذا فهو مسعود
هذا الذي لكم في مجلس أنق ... شنجاره العنبر الهندي والعود
وقينة وعدها بالخلف مقترن ... بما يؤمله راج وموعود
وفتية كنجوم الليل دأبهم ... إعمال كأس حداها النار والعود
فاغدوا علي بكاس الراح مترعة ... عوداً وبدءاً فإن أحمدتم عودوا
أحمد بن علي، أبو الحسن البتي الكاتبكان يكتب للقادر بالله عند مقامه بالبطيحة، ولما وصلته البيعة، كتب عنه إلى بهاء الدولة، وكان البتي حافظاً للقرآن تالياً له، مليح المذاكرة بالأخبار والآداب، عجيب النادرة، ظريف المزح والمجون، قال ابن عبد الرحيم: كان البتي في بدء أمره يلبس الطيلسان، ويسمع الحديث، ويقرأ القرآن على شيوخ عصره، وكان يذكر أنه قرأ القرآن على زيد بن أبي بلال، وكان غاية في جمع خلال الأدب، يتعلق بصدور وافرة من فنون العلم، ويكتب خطاً جيداً، ويترسل ترسلاً لا بأس به، وينظم شعراً دون ما كان حظي به من العلم، ثم لبس من بعد الدراعة، وسلك في لبسه مذاهب الكتاب القدماء، وكان يلبس الخفين والمبطنة، ويتعمم العمة الثغرية، وإن لبس لالجة لم تكن الامربدية، وكان لا يتعرض لحلق شعره، جرياً على السنة السالفة، وكتب من بعد في ديوان الخلافة، وكان له حرمة بالقادر بالله رعاها له، ثم غلب على أخلاقه الهزل، وتجافى الجد بالواحدة، وانقطع إلى اللعب، وكان شكله ولفظه، وما يورده من النوادر، يدعو إلى مكاثرته، والرغبة إلى مخالطته، فحضر مجلس بهاء الدولة ف يجملة الندماء، ونفق عنده نفاقاً لا مزيد عليه، ولم يكن لأحد من الرؤساء مسرة تتم، ولا أنس يكمل إلا بحضوره، فكانوا يتداولونه ولا يفارقونه، ونادم الوزراء، حتى انتهى إلى منادمة فخر الملك، وأعجب به غاية الإعجاب، وأحسن إليه غاية الإحسان، ومات في أيامه، وكانت له نوادر مضحكة، وجوابات سريعة، لا يكاد يلحقه فيها أحد، وتعرض لغيبة الناس، تعرضاً قلما أخل به على الوجه المضحك، الذي يكون سبباً إلى تدارك تلك المنقصة، وطريقاً إلى استقالة زلته فيها، بما اعتمده من التطايب، وكان يذهب مذهب المعتزلة، ويميل إلى فقه أبي حنيفة، ويتعصب للطائي تعصباً شديداً، ويفضل البحتري على أبي تمام، ويغلو فيه غاية الغلو.
فمن نوادره الشائعة أنه انحدر مع الرضي والمرتضى، وابن أبي الريان الوزير، وجماعة من الأكابر لاستقبال بعض الملوك، فخرج عليهم اللصوص، ورموهم بالحراقات، وجعلوا يقولون: ادخلوا يا أزواج القحاب، فقال البتي: ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين، قالوا: ومن أين علمت؟ قال: وإلا فمن أين علموا أنا أزواج قحاب؟ وكان البتي صاحب الخبر والبريد في الديوان القادري، ومات في شعبان سنة ثلاث وأربعمائة، وله تصانيف منها: كتاب القادري، وكتاب العميدي، كتاب الفخري.
قال الوزير أبو القاسم المغربي: كان أبو الحسن البتي أحد المتفننين في العلوم، لا يكاد يجاري في فن من العلوم فيعجز عنه، وكان مليح المحاضرة، كثير المذاكرة، طيب النادرة: مقبول المشاهدة، رأيته على باب أحد رؤساء العمال وقد حجب عنه، فكتب إليه:
على أي باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا صاحبه
فخرج الإذن له في الحال.

وحدث الرئيس أبو الحسن هلال بن المحسن قال: كنت عند فخر الملك أبي غالب بن خلف بالأهواز، فكتب إلى أبي ياسر عماد بن أحمد الصيرفي: احمل إلى أبي الحسن البتي مائتي دينار مع امرأة لا يعرفها، واكتب معها رقعة غير مترجمة، وقل فيها: قد دعاني ما آثرته من مخالطتك، ورغبت فيه من مودتك، إلى استدعاء المواصلة منك، وافتتاح باب الملاطفة بيني وبينك، وقد أنفذت مع الرسول مائتي دينار، فأخذها أبو الحسن، وكتب على ظهر الرقعة: مال لا أعرف مهديه، فأشكر له ما يوليه، إلا أنه صادف إضافة دعت إلى أخذه، والاستعانة في بعض الأمور به، قلت:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنه قد سل عن ماجد محض
وإذا سهل الله لي اتساعاً، رددت العوض موفوراً، وكان المبتدي بالبر مشكوراً.
وكان أبو الحسن قد فطن للقصة، وكتب على بصيرة ولما أنفذ أبو ياسر بالجواب، أقرأنيه فخر الملك. فاستحسنت وقوع هذا البيت موقعه من التمثل. ومن شعر الرضي الموسوي إليه، الأبيات المشهورة:
أبا حسن أتحسب أن شوقي ... يقل على مكاثرة الخطوب
يهش لكم على الفرقان قلبي ... هشاشته إلى الزور القريب
وألفظ غيركم ويسوغ عندي ... ودادكم مع الماء الشروب
ورثاه الموسوي بقوله:
ما للهموم كأنها ... نار على قلبي تشب
والدمع لا يرقا له ... غرب كأن العين غرب
ما كنت أحسب أنني ... جلد على الأرزاء صعب
ما أخطأتك النائبا ... ت إذا أصابت من تحب
ورثاه المرتضى أخو الرضي بقوله:
عرج على الدار مغبراً جوانبها ... فاسأل بها عجلاً عن ساكن الدار
وقل لها أين ما كنا نراه على ... مر المدى بك من نقض وإمرار؟
وأين أوعية الآداب فاهقة ... تجري خلالك جري الجدول الجاري
يا أحمد بن علي والردى عرض ... يزور بالرغم منا كل زوار
علقت منك بحبل غير منتكث ... عند الحفاظ وعود غير خوار
وقد بلوتك في سخط وعند رضىً ... وبين طيٍ لأنباءٍ وإظهار
فلم تفدني إلا ما أضن به ... ولم تزدني إلا طيب أخبار
لا عار فيما شربت اليوم غصته ... من المنون وهل بالموت من عار؟
ولم ينلك سوى ما نال كل فتى ... عالي المكان ولاقى كل جبار
وأمر بهاء الدولة أبا الحسن البتي أن يعمل شعراً يكتب على تكة إبريسم فقال:
لم لا أتيه ومضجعي ... بين الروادف والخصور؟
وإن اتشحت فإنني ... بين الترائب والنحور
ولقد نشأت صغيرة ... إلفاً لربات الخدور
وله يصف كوز لافقاع:
يا رب ثدي مصصته بكراً ... وقد عراني خمار مغبوق
له هدير إذا شربت به ... مثل هدير الفحول في النوق
كأن ترجيعه إذا رشف الرا ... شف فيه صياح مخنوق
وله أيضاً:
ما احمرت العين من دمع أضر بها ... في عرصتي طلل أو إثر مرتحل
لكن رآها الذي يهوى وقد نظرت ... في وجه آخر فاحمرت من الخجل
قال ابن عبد الرحيم: وكان القادر بالله استتر عنده، لما طلبه الطائع قبل انحداره، وأخذ يده أن يستلينه، فلما ولي وقضي الأمر، صرف ابن حاجب النعمان، ورتبه في كتابته، واتفق أن كان ذلك في وقت الأضحى، فخرج إليه خادم على العادة في مثل ذلك، فقال له: رسم أن تحصى أسقاط الأضاحي، فقال لغلامه: خذ الدواة، فإن القوم يريدون كراعياً، ولا يريدون كاتباً، وانصرف بهذا المزح من الخدمة، وكان الهزل قد غلب عليه، وعزب عنه الجد جملة، وكان بينه وبين الرضي مقارضة لكلام جرى بينهما، فاتفق أن اجتاز بقرب دار الرضي، عند مسجد الأنباري، فقال لغلامه: مل بنا عن تلك الدار، فإني أكره المرور بها، فالتفت فوقعت عينه على الرضي، فتمم كلامه من غير أن يقطعه وقال: فإنني لا وجه لي في لقائه، لطول جفائه، فاستحسن هذا من بديهته، ودخل دار الرضي واصطلحا.

ومن نوادره: أنه سمع يوماً أصوات الملاحين، وارتفاع ضجة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هؤلاء أولاد أبي الفضل، بن حاجب النعمان، وأبي سعيد بن أبي الخطاب، وجماعة أولادهم، فقال: ما بيننا وبين هؤلاء إلا موت الآباء؟ ورأى معلماً قبيح الوجه، يعرف بنفاط الجن، وكان وحشاً انكشفت سوأته، فقال له يا هذا: استر عورتك السفلى، فإنك قد أدليت، ولكن بغير حجة، واستقبل أبا عبد الله بن الدراع، في ميدان بستان فخر الدولة، وهو متكئ على يد غلام أسود، فقال أبو عبد الله: هذا الأسود يصلح لخدمة سيدنا، فقال البتي: أي الخدم؟ فقال: خدمة الفراش، فقال: اللهم غفراً، أرمى بالبغاء، وليس في منزلي خنفساء؟ ويعرى منه سيدنا، وفي داره جميع بني حام.
بشر ابن الحواري بمولود، وكان ابن الحواري سمج الخلقة، فقال له البتي: إن كان هذا المولود يشبهك فويه، ثم ويه.
وسقاه الفقاعي في دار فخر الدولة فقاعاً، فلم يستطبه، فرد الكوز مفكراً، فقال له الفقاعي: في أي شيء تفكر؟ فقال: في دقة صنعتك، كيف أمكنك أن تخرى في بهذه الكيزان كلها مع ضيق رأسها؟ وأتاه غلامه في مجلس حفل فقال له: إن ابنك وقع من ثلاث درج، فقال: ويلك من ثلاث بقين؟ أو خلون؟ فلم يفهم عنه، فقال: إن كان خلون فسهل، وإن بقين فيحتاج إلى نائحة.
ودخل الرقي العلوي على فخر الملك، فقال: - أطال الله بقاء مولانا، واسعده بهذا اليوم - ، فقال له وأي يوم هذا؟ فقال أيلون، فقال البتي بالنون، فقال: ما قرأت النحو، فقال البتي: أنت إذاً معذور، فإنك ثلاثة أرباع رقيع، أراد رقي، إذا ألحقت به العين وهو الحرف الرابع، صار رقيع.
قال ابن عبد الرحيم: وكان بين البتي وبين أبي القاسم بن فهد ملاحاة ومنابذة، ثم أصلح فخر الملك بينهما، فعمل فيه أبياتاً يقول فيها:
قلت للبتي لما ... رام صلحي من بعيد
وكان يرمي بالبخر، ويزن بالأبنة أيضاً، وقال فيه أيضاً:
وكل شرط للصلح أقبله ... إن أنت أعفيتني من القبل
وحدث ابن عبد الرحيم قال: وكان البتي مقبولاً، مستملحاً في جميع أحواله، ولم يكن فيه أقل من شعره، فإنه كان في غاية البرد، وعدم الطبع، وكان قد عمل في فخر الملك، وهو يسد فتق النهروان قصيدة، يصف فيها السكر قال فيها:
إذا أتاه الماء من جانب ... عاجله بالسد من جانب
فقال له: هذا والله أيها الأستاذ بارد، وأعاده، فحكى البيت وتأمله، وقال نعم، والله هو بارد، وجعل يعوج على نفسه، ويكرر الإنشاد مستبرداً له، فضحك فخر الملك منه، وقطع الإنشاد ولم يتممه.
قال: ولم يكن يسلم أحد من لسانه، وتعويجه وثلبه له، وإذا اتفق أن يسمعه من يقول ذلك فيه، التفت إليه كالمعتذر، وقال: مولاي ههنا؟ ما علمت بحضوره، ويجعل كونه ما عليم بحضوره اعتذاراً، كأنه مباح له ثلبه بالغيبة.
قال: وكان مع ذكائه وتوقده، وكثرة طنزه وتولعه، أشد الناس غباوة في الأمور الجديات، وأبعدهم من تصورها، وكان له معرفة تامة بالغناء وصنعته، ولا تكاد المغنية تغني بصوت إلا ذكر صنعته، وشاعره وجميع ما قيل في معناه، وله من قصيدة في ابن صالحان:
سل الربع بالخبتين كيف معاهده ... وأنى برجع القول منه هوامده؟؟
عفت حقباً بعد الأنيس رسومه ... فلم يبق إلا نؤيه وخوالده
ديار نزفت الدمع في عرصاتها ... تؤاماً إلى أن أقرح الجفن فارده
أرقت دماً بعد الدموع نزحته ... من القلب حتى غيضته شوارده
سأستعتب الدهر الخئون بسيد ... يرد جماح الدهر إذ هو قائده
سواء عليه طارف المال في الندى ... إذ ما انتحاه السائلون وتالده
وله فيه:
قرم إذا اعتذرت نوافل بره ... لم يلف دافع حقها بمعاذر
من معشر ورثوا المكارم والعلا ... وتقسموها كابراً عن كابر
قوم يقوم حديثهم بقديمهم ... ويسير أولهم بمجد الآخر
وكان أبو إسحاق الصابئ قد عمل لأبي بشر بن طازاد نسخة كتاب أراد إنشاءه، ونحله إياه، فكتب إليه أبو الحسن البتي يعرض بذلك:
زكاة العلوم زكاة الندى ... وعرف المعارف بذل الحجى
ولكن يجر به أهله ... فأجر بنيلك فضل التقى

لئن كنت أوجبته قربة ... لما وقع الموقع المرتضى
وما صدقاتك مقبولة ... إذا ما تنكبت فيها الهدى
قد عرفت - أطال الله بقاء سيدي - العارية والمستعير، وكيف جرى الأمر في ذلك، وما ظننت أن هذا يجري مجرى الماعون الذي لا يحسن منعه، " إذ لا يقع الغرض موقعه، بل ساء لنفرته من لابسه: "
أحمد بن علي بن محمد، أبو عبد اللهالرماني النحوي، المعروف بابن الشرابي، ذكره أبو القاسم فقال: سمع عبد الوهاب بن حسن الكلابي، وأبا الفرج الهيثم بن أحمد الفقيه، وأبا القاسم عبد الرحمن بن الحسين، بن الحسن، بن علي، بن يعقوب، بن أبي العقب، حدث بكتاب إصلاح المنطق، ليعقوب بن السكيت، عن أبي جعفر محمد بن أحمد الجرجاني، عن أبي علي الحسن ابن إبراهيم الآمدي، عن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، عن ثعلب، عن ابن السكيت، روى عنه أبو نصر بن طلاب الخطيب. قال ابن الأكفاني: حدثنا عبد العزيز بن أحمد الكناني، قال: توفي أبو عبد الله، أحمد بن علي الرماني، الشرابي النحوي، يوم الجمعة ليومين مضيا من ربيع الآخر، سنة خمس عشرة وأربعمائة.
الجزء الرابع
أحمد بن علي بن خيران الكاتبالمصري، أبو محمد الملقب بولي الدولة، صاحب ديوان الإنشاء بمصر بعد أبيه، وكان أبوه أيضاً فاضلاً بليغاً، أعظم قدراً من ابنه، وأكثر علماً، وكان أبو محمد هذا، يتقلد ديوان الإنشاء للظاهر، ثم للمستنصر، وكان رزقه في كل سنة ثلاثة آلاف دينار، وله عن كل ما يكتبه من السجلات، والعهودات، وكتب التقليدات رسوم، يستوفيها من كل شيء بحسبه، وكان شاباً حسن الوجه، جميل المروءة، واسع النعمة، طويل اللسان، جيد العارضة، وسلم إلى أبي منصور بن الشيرازي، رسول ابن النجار إلى مصر من بغداد، جزأين من شعره ورسائله، واستصحبهما إلى بغداد، ليعرضهما على الشريف المرتضي أبي القاسم وغيره، ممن يأنس به من رؤساء البلد، ويستشير في تخليدهما دار العلم، لينفذ بقية الديوان والرسائل، إن علم أن ما أنفذه منها ارتضي واستجيد، وأنه فارقه حياً، ثم ورد الخبر، بأنه مات في شهر رمضان، سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في أيام المستنصر.
قال ابن عبد الرحيم: ووقع إلى الجزء من الشعر فتأملته، فما وجدته طائلاً، وعرفني الرئيس أبو الحسن، هلال بن المحسن: أن الرسائل صالحة سليمة. قال: وقد انتزعت من المنظوم على خلوة، إلا من الوزن والقافية. فمن شعره:
عشق الزمان بنوه جهلاً منهم ... وعلمت سوء صنيعه فشنئته
نظروه نظرة جاهلين فغرهم ... ونظرته نظر الخبير فخفته
ولقد أتاني طائعاً فعصيته ... وأباحني أحلى جناه فعفته
ومن شعره أيضاً:
ولي لسان صارم حده ... يدمي إذا شئت ولا يدمى
ومنطق ينظم سمل العلا ... ويستميل العرب والعجما
ولو دجا الليل على أهله ... فأظلموا كنت لهم نجما
ومن شعره أيضاً:
أخذ المجد يمينني ... لتفيضن يميني
ثم لا أرجئ إحسا ... ناً إلى من يرتجيني
ومن شعره أيضاً:
ولقد سموت على الأنام بخاطر ... ألله أجرى: منه بحراً زاخرا
فإذا نظمت نظمت روضاً حالياً ... وإذا نثرت نثرت دراً فاخرا
وقال على لسان بعض العلويين، يخاطب العباسيين:
وينطقنا فضل البدار إلى الهدى ... ويخرسكم عن ذكر فضل لنا بدر
وما كانت الشورى علينا غضاضة ... ولو كنتم فيها ساتطاركم الكبر
ومن شعره أيضاً:
يا من إذا أبصرت طلعته ... سدت على مطالع الحزم
قد كف لحظي عنك مذ كثرت ... فينا الظنون فكف عن ظلمي
ومن شعره أيضاً:
حيوا الديار التي أقوت مغانيها ... واقضوا حقوق هواها بالبكا فيها
ديار فاترة الألحاظ غانية ... جنت عليك ولجت في تجنيها
ظللت تسح دموعي في معاهدها ... سح السحاب إذا جادت عزاليها
ومن شعره أيضاً:
أيها المغتاب لي حسداً ... مت بداء البغي والحسد
حافظي من كل معتقد ... في سوءاً: حسن معتقدي
ومن شعره أيضاً:

أما ترى الليل قد ولت كواكبه ... والصبح قد لاح وانبثت مواكبه
ومنهل العيش قد طابت موارده ... والدهر وسنان قد أغفت نوائبه
فقم بنا نغتنم صفو الزمان فما ... صفو الزمان لمخلوق يصاحبه
ومن شعره أيضاً:
خلقت يدي للمكرمات ومنطقي ... للمعجزات ومفرقي للتاج
وسموت للعلياء أطلب غاية ... يشقى بها الغاوي وحظى الراجي
ومن شعره:
أنا شيعي لآل المصطفى ... غير أني لا أرى سب السلف
أقصد الإجماع في الدين ومن ... قصد الإجماع لم يخش التلف
لي بنفسي شغل عن كل من ... للهوى قرظ قوماً أو قذف
ومن شعره:
فقام يناوي غرة الشمس نوره ... وتنصف من ظلم الزمان عزائمه
أغر له في العدل شرع يقيمه ... وليس له في الفضل ند يقاومه
وقال على لسان ذلك الملك - ، يخاطب الظاهر لإعزاز دين الله، حين أمر بالختم على جميع ماله - : هذين البيتين، وكانا السبب في الإفراج عما أخذ منه والرضى عنه:
من شيم المولى الشريف العلي ... ألا يرى مطرحاً عبده
وما جزا من جن من حبكم ... أن تسلبوه فضلكم عنده
وكان ابن خيران، قد خرج إلى الجيزة متنزهاً، ومعه من أصحابه، المتقدمين في الأدب، والشعر، والكتابة، وقد احتفوا به يميناً وشمالاً، فأدى بهم السير إلى مخاضة مخوفة، فلما رأى إحجام الجماعة من الفرسان عنها، وظهور جزعهم منها، قنع بغلته، فولجها حتى قطعها، وانثنى قائلاً مرتجلاً:
ومخاضة يلقى الردى من خاضها ... كنت الغداة إلى العدا خواضها
وبذلت نفسي في مهاول خوضها ... حتى تنال من العدا أغراضها
وله أيضاً:
من كان بالسيف يسطو عند قدرته ... على الأعادي ولا يبغي على أحد
فإن سيفي الذي أسطو به أبداً ... فعل الجميل وترك البغي والحسد
وله أيضاً:
قد علم السيف وحد القنا ... أن لساني منهما أقطع
والقلم الأشرف لي شاهد ... بأنني فارسه المصقع
قال ابن عبد الرحيم: وهو كثير الوصف لشعره، والثناء على براعته ولسنه، وجميع ما في الجزء بعد ما ذكرته، لا حظ فيه، وليس فيه مدح إلا في سلطانهم المستنصر، والباقي على نحو ما ذكرته في مراثي أهل البيت عليهم السلام، ولو كان فيه ما يختار، لاخترته.
أحمد بن علي، بن ثابت، بن أحمد، بن مهديالخطيب، أبو بكر البغدادي، الفقيه الحافظ، أحد الأئمة المشهورين، المصنفين المكثرين، والحفاظ المبرزين، ومن ختم به ديوان المحدثين، سمع ببغداد شيوخ وقته، وبالبصرة، وبالدينور، وبالكوفة، ورحل إلى نيسابور في سنة خمس عشرة وأربعمائة حاجاً، فسمع بها، ثم قدمها بعد فتنة البساسيري، لاضطراب الأحوال ببغداد، فآذاه الحنابلة بجامع المنصور، سنة إحدى وخمسين، فسكنها مدة، وحدث بها بعامة كتبه ومصنفاته، إلى صفر سنة سبع وخمسين، فقصد صور، فأقام بها، وكان يتردد إلى القدس للزيارة، ثم يعود إلى صور، إلى أن خرج من صور، في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوجه إلى طرابلس، وحلب، فأقام في كل واحدة من البلدتين أياماً قلائل، ثم عاد إلى بغداد، في أعقاب سنة اثنتين وستين، وأقام بها سنة، إلى أن توفي، وحينئذ روى تاريخ بغداد، وروى عنه من شيوخه: أبو بكر البرقاني، والأزهري، وغيرهما.

وقال غيث بن علي الصوري: سألت أبا بكر الخطيب عن مولده، فقال: ولدت يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة: وكان الخطيب يذكر، أنه لما حج، شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله عز وجل ثلاث حاجات، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ماء زمزم لما شرب له " : فالحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد، والثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة: أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي، فلما عاد إلى بغداد، حدث بالتاريخ بها، ووقع إليه جزء، فيه سماع الخليفة القائم بأمر الله، فحمل الجزء، ومضى إلى باب حجرة الخليفة، وسأل أن يؤذن له في قراءة الجزء، فقال الخليفة: هذا رجل كبير في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، ولعل له حاجة، أراد أن يتوصل إليها بذلك، فسلوه ما حاجته؟ فسئل، فقال: حاجتي أن يؤذن لي أن أملي بجامع المنصور، فتقدم الخليفة إلى نقيب النقباء بأن يؤذن له في ذلك، فحضر النقيب، فلما مات أرادوا دفنه عد قبر بشر بوصية منه، قال ابن عساكر: فذكر شيخنا إسماعيل بن أبي سعد الصوفي، وكان الموضع الذي بجنب بشر، قد حفر فيه أبو بكر أحمد بن علي الطرثيثي قبراً لنفسه، وكان يمضي إلى ذلك الموضع، فيختم فيه القرآن ويدعو، ومضى على ذلك عدة سنين، فلما مات الخطيب، سألوه أن يدفنوه فيه، فامتنع، فقال: هذا قبري، قد حفرته، وختمت فيه عدة ختمات، ولا أمكن أحداً من الدفن فيه، وهذا مما لا يتصور، فانتهى الخبر إلى والدي، فقال له: يا شيخ، لو كان بشر في الأحياء، ودخلت أنت والخطيب إليه، أيكما كان يقعد إلى جنبه؟ أنت أو الخطيب؟؟ فقال: لا، بل الخطيب، فقال له: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت، فإنه أحق به منك، فطاب قلبه، ورضي بأن يدفن الخطيب في ذلك الموضع، فدفن فيه.
وقال المؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدار قطني، أحفظ من الخطيب، وذكر في المنتظم: أن الخطيب لقي في مكة أبا عبد الله بن سلامة القضاعي، فسمع منه بها، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزي في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد، فقرب من رئيس الرؤساء، أبي القاسم بن مسلمة، وزير القائم بأمر الله تعالى، وكان قد أظهر بعض اليهود كتاباً، وادعى أنه كتاب رسول الله صلى عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأنه خط علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فعرضه رئيس الرؤساء على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مزور، فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وكان قد مات يوم الخندق، في سنة خمس، فاستحسن ذلك منه.
وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني: أن رئيس الرؤساء تقدم إلى القصاص والوعاظ، ألا يورد أحد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يعرضه على أبي بكر الخطيب، فما أمرهم بإيراده أوردوه، وما منعهم منه ألغوه.

وفي المنتظم قال: ولما جاءت نوبة البساسيري، استتر الخطيب، وخرج من بغداد إلى الشام، وأقام بدمشق، ثم خرج إلى صور، ثم إلى طرابلس، وإلى حلب، ثم عاد إلى بغداد، في سنة اثنتين وستين، فأقام بها سنة، ثم مات. قال: وله ستة وخمسون مصنفاً، بعيدة المثل، منها: كتاب تاريخ بغداد، كتاب شرف أصحاب الحديث، كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، كتاب الكفاية في معرفة علم الرواية، كتاب المتفق والمفترق، كتاب السابق واللاحق، كتاب تلخيص المتشابه في الرسم، كتاب في التلخيص، كتاب في الفصل والوصل، كتاب المكمل في بيان المهمل، كتاب الفقيه والمتفقه، كتاب الدلائل والشواهد، على صحة العمل باليمين مع الشاهد، كتاب غنية المقتبس في تمييز الملتبس، كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة، كتاب الموضح، وهو أوهام الجمع والتفريق، كتاب المؤتنف في كملة المختلف والمؤتلف، كتاب منهج الصواب، في أن التسمية من فاتحة الكتاب، كتاب الجهر بالبسملة، كتاب الخيل، كتاب رافع الارتياب في القلوب من الأسماء والألقاب، كتاب القنوت، كتاب التبيين لأسماء المدلسين، كتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد، كتاب من وافق كنيته اسم أبيه، كتاب من حدث فنسي، كتاب رواية الآباء عن الأبناء، كتاب الرحلة في طلب الحديث، كتاب الرواة عن مالك بن أنس، كتاب الاحتجاج للشافعي فيما أسند إليه، والرد على الجاهلين بطعنهم عليه، كتاب التفصيل لمبهم المراسيل، كتاب اقتضاء العلم العمل، كتاب تقييد العلم، كتاب القول في علم النجوم، كتاب روايات الصحابة عن التابعين، كتاب صلاة التسبيح، كتاب مسند نعيم بن هماز، جزء. كتاب النهي عن صوم يوم الشك، كتاب الإجازة للمعلوم والمجهول، كتاب روايات السنة من التابعين، كتاب البخلاء، كتاب الطفيليين، كتاب الدلائل والشواهد، كتاب التنبيه والتوقيف، على فضائل الخريف.
قال ابن الجوزي: فهذا الذي ظهر لنا من تصانيفه، ومن نظر فيها عرف قدر الرجل، وما هيئ له مما لم يهيأ لمن كان أحفظ منه، كالدار قطني وغيره.
وحدث أبو سعد السمعاني، قرأت بخط والدي: سمعت أبا الحسين بن الطيوري ببغداد يقول: أكثر كتب الخطيب سوى التاريخ، مستفاد من كتب الصوري، كان الصوري بدأ بها ولم يتممها، وكانت للصوري أخت بصور، مات وخلف عندها اثني عشر عدلاً محزوماً من الكتب، فلما خرج الخطيب إلى الشام، حصل من كتبه ما صنف منها كتبه، قال: وكان سبب وفاة الصوري، أنه افتصد، وكان الطبيب الذي فصده، قد أعطي مبضعاً مسموماً ليفصد به غيره، فغلط، ففصده فقتله.
قال ابن الجوزي عند سماع هذه الحكاية: وقد يضع الإنسان طريقاً فيسلكه غيره، وما قصر الخطيب على كل حال، وكان حريصاً على علم الحديث، كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسن القراءة، فصيح اللهجة، عارفاً بالأدب، يقول الشعر الحسن.
قال ابن الجوزي: ونقلت - من خطه - من شعره قوله:
لعمرك ما شجاني رسم دار ... وقفت بها ولا ذكر المغاني
ولا أثر الخيام أراق دمعي ... لأجل تذكري عهد الغواني
ولا ملك الهوى يوماً فؤادي ... ولا عاصيته فثنى عناني
رأيت فعاله بذوي التصابي ... وما يلقون من ذل الهوان
فلم أطمعه في وكم قتيل ... له في الناس لا يحصى وعان؟
طلبت أخاً صحيح الود محضاً ... سليم الغيب مأمون اللسان
فلم أعرف من الإخوان إلا ... نفاقاً في التباعد والتداني
وعالم دهرنا لا خير فيه ... ترى صوراً تروق بلا معاني
ووصف جميعهم هذا فما إن ... أقول سوى فلان أو فلان
ولما لم أجد حراً يواتي ... على ما ناب من صرف الزمان
صبرت تكرماً لقراع دهري ... ولم أجزع لما منه دهاني
ولم أك في الشدائد مستكيناً ... أقول لها ألا كفي كفاني
ولكني صليب العود عود ... ربيط الجأش مجتمع الجنان
أبي النفس لا أختار رزقاً ... يجيء بغير سيفي أو سناني
لعز في لظى باغيه يشوى ... ألذ من المذلة في الجنان
ومن طلب المعالي وابتغاها ... أدار لها رحا الحرب العوان

ومن شعره أيضاً:
لا تغبطن أخا الدنيا بزخرفها ... ولا للذة وقت عجلت فرحاً
فالدهر أسرع شيء في تقلبه ... وفعله بين للخلق قد وضحا
كم شارب عسلاً فيه منيته ... وكم تقلد سيفاً من به ذبحا
قال أبو الفرج: وكان الخطيب قديماً على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عنه أصحابنا لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتعصب في تصانيفه عليهم، فرمز إلى ذمهم، فصرح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: سيد المحدثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه، وقال في ترجمة حسين الكرابيسي، إنه قال عن أحمد: " إيش " تعمل بهذا الصبي. إن قلنا لفظنا بالقرآن مخلوق، قال بدعة، وإن قلنا غير مخلوق، قال بدعة، ثم التفت إلى أصحاب أحمد: فقدح فيهم بما أمكن، وله دسائس في ذمهم عجيبة، وذكر شيئاً مما زعم أبو الفرج أنه قدح في الحنابلة، وتأول له، ثم قال: أنبأنا أبو زرعة، طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه، قال: سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي، وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم، لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم، الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب. قال أبو الفرج: وصدق إسماعيل، وكان من أهل المعرفة، فإن الحاكم كان متشيعاً ظاهر التشيع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة. قال: وما يليق هذا بأصحاب الحديث، لأن الحديث جاء في ذم الكلام، وقد أكد الشافعي في هذا، حتى قال رأيي في أصحاب الكلام، أن يحملوا على البغال ويطاف بهم قال: وكان للخطيب شيء من المال، فكتب إلى القائم بأمر الله: إني إذا مت، كان مالي لبيت المال، وأنا أستأذن أن أفرقه على من شئت، فأذن له، ففرقه على أصحاب الحديث، وكان مائتي دينار، ووقف كتبه على المسلمين، وسلمها إلى أبي الفضل، بن خيرون، فكان يعزها، ثم صارت إلى ابنه الفضل، فاحترقت في داره، ووصى الخطيب أن يتصدق بجميع ما لعيه من الثياب.
قال ابن طاهر: سألت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، قلت: هل كان أبو بكر الخطيب كتصانيفه في الحفظ؟ فقال: لا، كنا إذا سألناه عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، وكانت له بادرة وحشة.
وأما تصانيفه فمصنوعة مهذبة، ولم يكن حفظه على قدر تصانيفه.
وذكر أبو سعد السمعاني، في ترجمة عبد الرحمن بن محمد، بن عبد الواحد القزاز، قال: سمع جميع كتاب تاريخ مدينة السلام، من مصنفه أبي بكر الخطيب الحافظ، إلا الجزأين السادس، والثلاثين، فإنه قال: توفيت والدتي، واشتغلت بدفنها والصلاة عليها، ففاتني هذان الجزآن، وما أعيدا لي، لأن الخطيب كان قد شرط في الابتداء، ألا يعاد الفوت لأحد، فبقيا غير مسموعين.
قال السمعاني: لما رجعت إلى خراسان، حصل لي تاريخ الخطيب، بخط شجاع بن فارس، الذهلي الأصل، الذي كتبه بخطه لأبي غالب، محمد بن عبد الواحد القزاز، وعلى وجه كل واحد من الأجزاء مكتوب: سماع لأبي غالب، ولابنه أبي منصور عبد الرحمن، ولأخيه عبد المحسن، إلا هذين الجزأين، السادس، والثلاثين، فإنه كتب على وجهيهما: إجازة لأبي غالب، وابنه أبي منصور. وشجاع أعرف الناس، فيكون قد فاته الجزءان المذكوران، لا جزء واحد. ونقلت من خط أبي سعد السمعاني، ومنتخبه لمعجم شيوخ عبد العزيز، بن محمد النخشبي، قال: ومنهم أبو بكر، أحمد بن علي، بن ثابت الخطيب، يخطب في بعض قرى بغداد، حافظ فهم، ولكنه كان يتهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يسلم علي، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا، وقال لي: لقيت أبا بكر الخطيب سكران، فقلت له: قد لقيته متغيراً، واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران، ولعله قد تاب، إن شاء الله.

قال السمعاني: ولم يذكر عن الخطيب - رحمه الله - هذا، إلا النخشبي، مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه. وقال في المذيل: والخطيب في درجة القدماء من الحفاظ، والأئمة الكبار، كيحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن أبي خيثمة، وطبقتهم. وكان علامة العصر، اكتسى به هذا الشأن غضارة، وبهجة ونضارة، وكان مهيباً وقوراً، نبيلاً خطيراً، ثقة صدوقاً، متحرياً، حجة فيما يصنفه ويقوله، وينقله ويجمعه، حسن النقل والخط، كثير الشكل والضبط، قارئاً للحديث، فصيحاً. وكان في درجة الكمال، والرتبة العليا، خلقاً وخلقاً، وهيئة ومنظراً، انتهى إليه معرفة علم الحديث وحفظه، وختم به الحفاظ، - رحمه الله - بدأ بسماع الحديث سنة ثلاث وأربعمائة، وقد بلغ إحدى عشرة سنة من عمره. ثم إنه قال: وسمعت بعض ماشيخي يقول: دخل بعض الأكابر جامع دمشق أو صور، ورأى حلقة عظيمة للخطيب، والمجلس غاص، يسمعون منه الحديث، فصعد إلى جانبه، وكأنه استكثر الجمع، فقال له الخطيب: القعود في جامع المنصور مع نفر يسير، أحب إلي من هذا. قال: وسمعت أبا الفتح مسعود بن محمد، بن أحمد أبي نصر، الخطيب بمرو يقول: سمعت عمر النسوي - يعرف بابن أبي ليلى - يقول: كنت في جامع صور عند الخطيب، فدخل عليه بعض العلوية، وفي كمه دنانير، وقال للخطيب: فلان - وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد، فقال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب، وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار، فقام الخطيب محمر الوجه، وأخذ السجادة، ونفض الدنانير على الأرض، وخرج من المسجد.
قال الفضل بن أبي ليلى: ما أنسى عز خروج الخطيب، وذل ذلك العلوي، وهو قاعد على الأرض، يلتقط الدنانير من شقق الحصر، ويجمعها.
وحدث بإسناد رفعه إلى الخطيب، قال: حدثت ولي عشرون سنة، حين قدمت من البصرة، كتب عني شيخنا أبو القاسم الأزهري، أشياء أدخلها في تصانيفه، وسألني فقرأتها عليه، وذلك في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وحدث قال: ذكر أبو الفضل ناصر السلامي قال: كان أبو بكر الخطيب من ذوي المروآت حدثني أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب اللغوي قال: لما دخلت دمشق في سنة ست وخمسين، كان بها إذ ذاك الإمام أبو بكر الحافظ، وكانت له حلقة كبيرة يجتمعون في بكرة كل يوم، فيقرأ لهم، وكنت أقرأ عليه الكتب الأدبية المسموعة له، فكان إذا مر في كتابه شيء يحتاج إلى إصلاح يصلحه، ويقول: أنت تريد مني الرواية، وأنا أريد منك الدراية، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي يوماً وسط النهار، وقال: أحببت أن أزورك في بيتك، وقعد عندي، وتحدثنا ساعة، ثم أخرج قرطاساً فيه شيء، وقال: الهدية مستحبة، وأسألك أن تشتري به الأقلام، ونهض، ففتحت القرطاس بعد خروجه، فإذا فيه خمسة دنانير صحاح مصرية، ثم إنه مرة ثانية، صعد وحمل إلي ذهباً، وقال لي تشتري به كاغداً، وكان نحواً من الأول أو أكثر، قال: وكان إذا قرأ الحديث في جامع دمشق، يسمع صوته في آخر الجامع، وكان يقرأ مع هذا صحيحاً.
وقال أبو طاهر أحمد بن محمد، بن أحمد، السلفي الحافظ، الأصبهاني، يمدح مؤلفات الخطيب:
تصانيف ابن ثابت الخطيب ... ألذ من الصبا الغصن الرطيب
تراها إذ حواها من رواها ... رياضاً تركها رأس الذنوب
ويأخذ حسن ما قد صاغ منها ... بقلب الحافظ الفطن الأريب
فأية راحة ونعيم عيش ... يوازي كتبه أم أي طيب؟؟
وحدث محمد بن طاهر المقدسي، سمعت أبا القاسم مكي بن عبد السلام الرميلي كان يقول: سبب خروج أبي بكر الخطيب من دمشق إلى صور، أنه كان يختلف إليه صبي صبيح الوجه، وقد سماه مكي، وأنا نكبت عن ذكره، فتكلم الناس في ذلك، وكان أمير البلدة رافضياً متعصباً، فبلغه القصة، فجعل ذلك سبباً للفتك به، فأمر صاحب الشرطة أن يأخذه بالليل ويقتله

وكان صاحب الشرطة من أهل السنة، فقصده صاحب الشرطة تلك الليلة مع جماعة من أصحابه، ولم يمكنه أن يخالف الأمر، فأخذه وقال له: قد أمرت بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة، إلا أني أعبر بك على دار الشريف، بن أبي الحسن العلوي، فإذا حاذيت الباب فادخل الدار، فإني أرجع إلى الأمير، وأخبره بالقصة، ففعل ذلك، ودخل دار الشريف، وذهب صاحب الشرطة إلى الأمير، وأخبره الخبر، فبعث الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال الشريف: أيها الأمير، أنت تعرف اعتقادي فيه، وفي أمثاله، ولكن ليس في قتله مصلحة، هذا رجل مشهور بالعراق، وإن قتلته، قتل به جماعة من الشيعة بالعراق، وخربت المشاهد، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن يخرج من بلدك، فأمر بإخراجه، فخرج إلى صور، وبقي بها مدة، إلى أن رجع إلى بغداد، فأقام بها إلى أن مات.
ومن شعر الخطيب أيضاً:
قد شاب رأسي وقلبي ما يغيره ... كر الدهور عن الإسهاب في الغزل
وكم زماناً طويلاً ظلت أعذله ... فقال قولاً صحيحاً صادق المثل
حكم الهوى يترك الألباب حائرة ... ويورث الصب طول السقم والعلل
وحبك الشيء يعمي عن مقابحه ... ويمنع الأذن أن تصغي إلى العذل
لا أسمع العذل في ترك الصبا أبداً ... جهدي فما ذاك من همي ولا شغلي
من ادعى الحب لم تظهر دلائله ... فحبه كذب قول بلا عمل
وله أيضاً:
تغيب الخلق عن عيني سوى قمر ... حسبي من الخلق طرا ذلك القمر
محله في فؤادي قد تملكه ... وحاز روحي ومالي عنه مصطبر
فالشمس أقرب منه في تناولها ... وغاية الحظ منها للورى النظر
أردت تقبيله يوماً مخالسة ... فصار من خاطري في خده أثر
وكم حليم رآه ظنه ملكاً ... وراجع الفكر فيه أنه بشر
قال عبد الخالق بن يوسف: أنشدني من لفظه الشيخ أبو العز، أحمد بن عبد الله كادش، عن الخطيب، وقال: هي في أبي منصور بن النفور:
الشمس تشبهه والبدر يحكيه ... والدر يضحك والمرجان من فيه!!
ومن سرى وظلام الليل معتكر ... فوجهه عن ضياء البدر يغنيه
روي له الحسن حتى حاز أحسنه ... لنفسه وبقي للخلق باقيه
فالعقل يعجز عن تحديد غايته ... والوحى يقصر عن فحوى معانيه
يدعو القلوب فتأتيه مسارعة ... مطيعة الأمر منه ليس تعصيه
سألته زروة يوماً فأعجزني ... وأظهر الغضب المقرون بالتيه
وقال لي دون ما تبغي وتطلبه ... تناول الفلك الأعلى وما فيه
رضيت يا معشر العشاق منه بأن ... أصبحت أعلم أني من محبيه
وأن يكون فؤادي في يديه لكي ... يميته بالهوى منه ويحييه
وله أيضاً:
بنفسي عاتب في كل حال ... وما لمحبه ذنب جناه
حفظت عهوده ورعيت منه ... ذماماً مثله لي ما رعاه
حرمت وصاله إن كنت يوماً ... جرى لي خاطر بهوى سواه
ولو تلفي رضاه لهان عند ... خروج الروح في طلبي رضاه
وله أيضاً:
خمار الهوى يربي على نشوة الخمر ... وذو الحزم فيه ليس يصحو من السكر
وللحب في الأحشاء حر أقله ... وأبرده يوفي على لهب الجمر
أخبركم يأيها الناس أنني ... عليم بأحوال المحبين ذو خبر
سبيل الهوى سهل يسير سلوكه ... ولكنه يفضي إلى مسلك وعر
وترجع أوصاف الهوى ونعوته ... لحرفين سعد الوصل أو شقوة الهجر
وله أيضاً:
إلى الله أشكو من زماني حوادثاً ... رمت بسهام البين في غرض الوصل
أصابت بها قلبي ولم أقض منيتي ... ولو قتلتني كان أجمل بالفعل
" متى ما تماثل بين " قتل وفرقة ... تجد فرقة الأحباب شراً من القتل

قال أبو بكر الخطيب: كتب معي أبو بكر البرقاني إلى أبي نعيم الأصبهاني الحافظ كتاباً يقول في فصل منه: وقد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً، أخونا أبو بكر أ؛مد بن علي، بن ثابت، - أيده الله وسلمه - ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله، من له في هذا الشأن سابقة حسنة، وقدم ثابة، وفهم حسن وقد رحل فيه وفي طلبه، وحصل له منه ما لم يحصل لكثير من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع من ذلك مع التورع والتحفظ، وصحة التحصيل، ما يحسن لديك موقعه، ويجمل عندك منزلته، وأنا أرجو إذا صحت منه لديك هذه الصفة، أن تلين له جانبك، وأن تتوفر له، وتحتمل منه ما عساه يورده، من تثقيل في اللاستكثار، أو زيادة في الاصطبار، فقديماً حمل السلف عن الخلف، ما ربما ثقل، وتوفروا على المستحق منهم بالتخصيص، والتقديم والتفضيل، ما لم ينله الكل منهم، وقال الرئيس أبو الخطاب بن الجراح، يمدح الخطيب:
فاق الخطيب الورى صدقاً ومعرفة ... وأعجز الناس في تصنيفه الكتبا
حمى الشريعة من غاو يدنسها ... بوضعه ونفى التدليس والكذبا
جلا محاسن بغداد فأودعها ... تاريخه مخلصاً لله محتسباً
وقال في الناس بالقسطاس منزويا ... عن الهوى، وأزال الشك والريبا
سقى ثراك أبا بكر على ظمأ ... جون ركام يسح الواكف السربا
ونلت فوزاً ورضواناً ومغفرة ... إذا تحقق وعد الله واقتربا
يا أحمد بن علي طبت مضطجعاً ... وباء شانيك بالأوزار محتفبا
وقال أبو القاسم: حدثني أبو محمد الأكفاني، حدثني أبو القاسم، مكي بن عبد السلام المقدسي، قال: مرض الشيخ أبو بكر الخطيب ببغداد، في نصف رمضان، إلى أن اشتد به الحال، في ذي الحجة، وأيسنا منه، وأوصى إلى أبي الفضل بن خيرون، ووقف كتبه على يده، وفرق جميع ماله في وجوه البر، وعلى أهل العلم والحديث، وأخرجت جنازته من حجرة تلي المدرسة النظامية، من نهر المعلى، وتبعه الفقهاء، والخلق العظيم، ومرت الجنازة على الجسر، وحملت إلى جامع المنصور، وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذب عن رسول الله، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله، وعبرت الجنازة بالكرخ، ومعها ذلك الخلق العظيم.
أحمد بن علي، ين قدامة، أبو المعاليقاضي الأنبار، أحد العلماء بهذا الشأن، المعروفين المشهورين به، وله من الكتب كتاب في علم القوافي، وكتاب في النحو. مات في شوال، سنة ست وثمانين وأربعمائة.
أحمد بن علي، بن عمر، بن سوار المقرئأبو طاهر، مات، فيما ذكره السمعاني، في رابع شعبان، سنة ست وتسعين وأربعمائة، ودفن عند قبر معروف الكرخي، قال: وقال ابن ناصر أبو الفضل: أظن أن مولد ابن سوار في سنة ست عشرة وأربعمائة، قال: وسمعت أبا المعمر، المبارك بن أحمد الأنصاري قال: سألت ابن سوار عن مولده، فقال: ولدت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
قال: وهو والد شيخنا أبي الفوارس هبة الله، بن محمد، وكان ثقة أميناً، مقرئاً فاضلاً، وكان حسن الأخذ للقرآن العظيم، ختم عليه جماعة كتاب الله، وكتب الكثير بخطه من الحديث، وصنف في القرآن كتاب المستنير وغيره، سمع عبد الواحد بن رزمة، صاحب أبي سعيد السيرافي في النحو. وأبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبا طالب محمد بن محمد، بن إبراهيم، بن غيلان البزاز، وغيرهم. وروى عنه عبد الوهاب الأنماطي، ومحمد بن ناصر، الحافظان، وغيرهما.
قال: وسألت عنه الأنماطي فقال: ثقة مأمون، فيه خير ودين. وسألت عنه الحافظ بن ناصر، فأحسن الثناء عليه، وقال: شيخ نبيل عالم ثبت، متقن رحمه الله.
وأنشد السمعاني بإسناده إلى ابن سوار، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محجمد السمار: أنشدنا أبو نصر عبد العزيز ابن نباتة السعدي لنفسه:
نعلل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء؟
ونختار الطبيب، وهل طبيب ... يؤخر ما يقدمه القضاء؟
وما أنفاسنا إلا حساب ... ولا حركاتنا إلا فناء

وذكره أبو علي الحسين بن محمد، بن فيرو الصدفي في شيوخه، يذكر نسبه، ثم قال: البغدادي الضرير المقرئ الأديب، ولعله أضر على كبر، فإن المحب بن النجار، أخبرني أنه رأى خطه تحت الطباق متغيراً.
سمع الصدفي منه كتابه المستنير، وكتابه في المفردات، أفرد ما جمعه في المستنير، وقال: هو شيخ فاضل في الحنفية، سمع كثيراً، وحبس نفسه على القرآن.
وذكره أبو بكر بن العربي في شيوخه، فقال: واقف على اللغة، مذاكر، ثقة، فاضل، قرأ على أبوي علي الشرمقاني والعطار. وأبي الحسن بن فارس الخياط، وأبي الفتح بن المقدر، وأبي الفتح بن شيطا، وغيرهم.
أحمد بن علي، بن مخلد، البيادي الأديبأبو العباس، ذكره عبد الغافر فقال: أحد وجوه أفاضل النواحي، المشهورين باللهجة الفصيحة في النظم والنثر، سمع الأحاديث، وعني بجمعها.
أحمد بن علي، بن أبي جعفر، محمدابن أبي صالح البيهقي، أبو جعفر المقرئ اللغوي، ويعرف ببو جعفرك، ومعنى هذه الكاف المزيدة ففي آخر الاسم الفارسي " التصغير " يقولون في تصغير علي " عليك " وفي تصغير حسن " حسنك " وفي تصغير جعفر " جعفرك " وما أشبهه. مات فيما ذكره أبو سعد السمعاني في مشيخة أبيه، في سلخ شهر رمضان، سنة أربع وأربعين وخمسمائة. أخبرني بذلك الشيخ الإمام أبو المظفر عبد الرحيم ابن سعد السمعاني، عن والده، وأخبرني أيضاً أن مولده في حدود سنة سبعين وأربعمائة.
قال السمعاني: كان إماماً في القراءة والتفسير، والنحو واللغة، صنف التصانيف في ذلك، وانتشرت عنه في البلاد وظهر له أصحاب نجباء، وتخرج به خلق، وكان ملازماً لبيته لا يخرج منه إلا في أوقات الصلاة، إلى مسجد نيسابور، لأنه كان إمامه، وكان لا يزور أحداً، إنما يقصده الناس إلى منزله، للتعلم منه والتبرك به، سمع أبا نصر أحمد بن محمد، بن صاعد القاضي، وأبا الحسن علي بن الحسن، بن العباس، الصندلي الواعظ وغيرهما. وذكر وفاته كما تقدم.
وذكر تاج الدين، محمود بن أبي المعالي الحواري، في مقدمة كتاب ضالة الأديب، قال: أحمد بن علي البيهقي، كان إماماً في القراءات والأدب، حفظ كتاب الصحاح في اللغة عن ظهر قلب، بعد ما قرأه على أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني، وكتباً كثيرة، وله مؤلفات، منها: كتاب المحيط بلغات القرآن، كتاب ينابيع اللغة، فيه صحاح اللغة من الشواهد، وضم إليه من تهذيب اللغة والشامل لأبي منصور الجبان، والمقاييس لابن فارس، قدراً صالحاً من الفوائد والفرائد وهو كتاب صالح، كبير الحجم، يقرب حجمه من الصحاح، وله أيضاً: كتاب تاج المصادر، كتاب المحيط بعلم القرآن.
وقال علي بن محمد، بن علي الجويني، يمدح بو جعفرك ويذكر كتابه تاج المصادر، وقد راعى اللزوم:
أبا جعفر يا من جعافر فضله ... موارد منها قد صفت ومصادر
كتابك ذا غيل تأشب نبته ... وأنت به ليث بخفان خادر
لبست صدار الصبر، يا خير مصدر ... مصادر لا تنهى إليها المصادر
فقل لرواة الفضل والأدب: انتهوا ... إليها، ونحو الري منها فبادروا
أحمد بن علي، بن إبراهي، بن الزبير، الغسانيالأسواني المصري، يلقب بالرشيد، وكنيته أبو الحسين. مات في سنة اثنتين وستين وخمسمائة، على ما نذكره، وكان كاتباً شاعراً، فقيها، نحوياً، لغوياً، ناشئاً، عروضياً، مؤرخاً، منطقياً، مهندساً، عارفاً بالطب، والموسيقى، والنجوم، متفنناً.
قال السلفي: أنشدني القاضي أبو الحسن، أحمد بن علي ابن إبراهيم، الغساني الأسواني لنفسه بالثغر:
سمحنا لدنيانا بما بخلت به ... علينا، ولم نحفل بجل أمورها
فيا ليتنا لما حرمنا سرورها ... وقينا أذى آفاتها وشرورها

قال: وكان ابن الزبير هذا، من أفراد الدهر فضلاً في فنون كثيرة من العلوم، وهو من بيت كبير بالصعيد، من الممولين وولي النظر بثغر الإسكندرية والدواوين السلطانية، بغير اختياره، وله تآليف ونظم ونثر، التحق فيها بالأوائل المجيدين، قتل ظلماً وعدواناً في محرم سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وله تصانيف معروفة لغير أهل مصر، منها: كتاب منية الألمعي وبلغة المدعي: تشتمل على علوم كثيرة. كتاب المقامات. كتاب جنان الجنان، وروضة الأذهان، في أربع مجلدات، يشتمل على شعر شعراء مصر، ومن طرأ عليهم. كتاب الهدايا والطرف. كتاب شفاء الغلة، في سمت القبلة. كتاب رسائله نحو خمسين ورقة، كتاب ديوان شعره، نحو مائة ورقة.
ومولده بأسوان، وهي بلدة من صعيد مصر، وهاجر منها إلى مصر، فأقام بها، واتصل بملوكها، ومدح وزراءها، وتقدم عندهم، وأنفذ إلى اليمن في رسالة، ثم قلد قضاءها وأحكامها، ولقب بقاضي قضاة اليمن، وداعي دعاة الزمن. ولما استقرت بها داره، سمت نفسه إلى رتبة الخلافة، فسعى فيها، وأجابه قوم، وسلم عليه بها، وضربت له السكة، وكان نقش السكة على الوجه الواحد: " قل هو الله أحد، الله الصمد " وعلى الوجه الآخر: الإمام الأمجد، أبو الحسين أحمد، ثم قبض عليه، وأنفذ مكبلاً إلى قوص، فحكى من حضر دخوله إليها: أنه رأى رجلاً ينادي بين يديه: هذا عدو السلطان، أحمد بن الزبير، وهو مغطى الوجه، حتى وصل إلى دار الإمارة، والأمير بها يومئذ طرخان سليط، وكان بينهما ذحول قديمة، فقال: احبسوه في المطبخ، الذي كان يتولاه قديماً، وكان بان الزبير، قد تولى المطبخ، وفي بذلك يقول الشريف الأخفش، من أبيات يخاطب الصالح بن رزيك:
يولى على الشيء أشكاه ... فيصبح هذا لهذا أخا
أقام على المطبخ ابن الزبير ... فولى على المطبخ المطبخا
فقال بعض الحاضرين لطرخان: ينبغي أن تحسن إلى الرجل، فإن أخاه، - يعني المهذب حسن بن الزبير، - قريب من قلب الصالح، ولا أستبعد أن يستعطفه عليه، فتقع في خجل.
قال: فلم يمض على ذلك غير ليلة أو ليلتين، حتى ورد ساع من الصالح بن رزيك، إلى طرخان بكتاب يأمره فيه بإطلاقه، والإحسان إليه، فأحضره طرخان من سجنه مكرماً.
قال الحاكي: فلقد رأيته، وهو يزاحمه في رتبته ومجلسه.
وكان السبب في تقدمه في الدولة المصرية في أول أمره، ما حدثني به الشريف، أبو عبد الله، محمد بن أبي محمد العزيز الإدريسي، الحسني الصعيدي قال: حدثني زهر الدولة، حدثنا: أن أحمد بن الزبير، دخل إلى مصر بعد مقتل الظافر، وجلوس الفائز، وعليه أطمار رثة، وطيلسان صوف، فحضر المأتم، وقد حضر شعراء الدولة، فأنشدوا مراثيهم على مراتبهم، فقام في آخرهم، وأنشد قصيدته التي أولها:
ما للرياض تميل سكرا ... هل سقيت بالمزن خمرا
إلى أن وصل إلى قوله:
أفكر بلاء بالعرا ... ق، وكربلاء بمصر أخرى؟
فذرفت العيون، وعج القصر بالبكاء والعويل، وانثالت عليه العطايا من كل جانب، وعاد إلى منزله بمال وافر، حصل له من الأمراء والخدم، وحظايا القصر، وحمل إليه من قبل الوزير جملة من المال، وقيل له: لولا أنه العزاء والمأتم، لجاءتك الخلع.
قال: وكان على جلالته وفضله، ومنزلته من العلم والنسب، قبيح المنظر، أسود الجلدة، جهم الوجه، سمج الخلقة، ذا شفة غليظة، وأنف مبسوط، كخلقة الزنوج، قصيراً.

حدثني الشريف المذكور عن أبيه، قال: كنت أنا والرشيد بن الزبير، والفقيه سليمان الديلمي، نجتمع بالقاهرة في منزل واحد، فغاب عنا الرشيد، وطال انتظارنا له، وكان ذلك في عنفوان شبابه، وإبان صباه، وهبوب صباه، فجاءنا، وقد مضى معظم النهار، فقلنا له: ما أبطأ بك عنا؟ فتبسم وقال: لا تسألوا عما جرى عليّ اليوم، فقلنا: لابد من ذلك، فتمنع، وألححنا عليه، فقال: مررت اليوم بالموضع الفلاني، وإذا امرأة شابة، صبيحة الوجه، وضيئة المنظر، حسانة الخلق، ظريفة الشمائل، فلما رأتني، نظرت إلي نظر مطمع لي في نفسه، فتوهمت أنني وقعت منها بموقع، ونسيت نفسي، وأشارت إلي بطرفها، فتبعتها وهي تدخل في سكة وتخرج من أخرى، حتى دخلت داراً، وأشارت إلي، فدخلت، ورفعت النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه، ثم صفقت بيديها منادية: يا ست الدار، فنزلت إليها طفلة، كأنها فلقة قمر، وقالت لها: إن رجعت تبولين في الفراش، تركت سيدنا القاضي يأكلك، ثم التفتت وقالت: - لا أعدمني الله إحسانه، بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه - ، فخرجت وأنا خزيان خجلاً، لا أهتدي إلى الطريق.
وحدثني قال: اجتمع ليلة عند الصالح بن رزيك، هو وجماعة من الفضلاء، فألقى عليهم مسألة في اللغة، فلم يجب عنها بالصواب سواه، فأعجب به الصالح، فقال الرشيد: ما سئلت قد عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهماً. فقال ابن قادوس، وكان حاضراً:
إن قلت: من نار خلق ... ت، وفقت كل الناس فهماً
قلنا: صدقت، فما الذي ... أطفاك حتى صرت فحما؟
وأما سبب مقتله: فلميله إلى أسد الدين شيركوه عند دخوله إلى البلاد، ومكاتبته له، واتصل ذلك بشاور وزير العاضد، فطلبه، فاختفى بالإسكندرية، واتفق التجاء الملك صلاح الدين، يوسف بن أيوب إلى الإسكندرية، ومحاصرته بها، فخرج ابن الزبير راكباً متقلداً سيفاً، وقاتل بين يديه، ولم يزل معه مدة مقامه بالإسكندرية، إلى أن خرج منها فتزايد وجد شاور عليه، واشتد طلبه له، واتفق أن ظفر به، على صفة لم تتحقق لنا، فأمر بإشهاره على جمل، وعلى رأسه طرطور، ووراءه جلواز ينال منه.
وأخبرني الشريف الإدريسي، عن الفضل بن أبي الفضل، أنه رآه على تلك الحال الشنيعة، وهو ينشد:
إن كان عندك يا زمان بقية ... مما تهين به الكرام فهاتها
ثم جعل يهمهم شفتيه بالقرآن، وأمر به، بعد إشهاره بمصر والقاهرة، أن يصلب شنقاً، فلما وصل به إلى الشناقة، جعل يقول للمتولي ذلك منه: عجل عجل، فلا رغبة للكريم في الحياة بعد هذه الحال، ثم صلب.
حدثني الشريف المذكور قال: حدثني الثقة حجاج ابن المسبح الأسواني: أن ابن الزبير دفن في موضع صله، فما مضت الأيام والليالي، حتى قتل شاور، وسحب فاتفق أن حفر له ليدفن، فوجد الرشيد بن الزبير في الحفرة مدفوناً، فدفنا معاً في موضع واحد، ثم نقل كل واحد منهما بعد ذلك إلى تربة له بقرافة مصر القاهرة.
ومن شعر الرشيد، قوله يجيب أخاه المهذب عن قصيدته التي أولها:
يا ربع، أين ترى الأحبة يمموا ... رحلوا، فلا خلت المنازل منهم
ويروى: ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم
وسروا، وقد كتموا الغداة مسيرهم ... وضياء نور الشمس ما لا يكتم
وتبدلوا أرض العقيق عن الحمى ... روت جفوني أي أرض يمموا
نزلوا العذيب، وإنما في مهجتي ... نزلوا، وفي قلب المتيم خيموا
ما ضرهم، لو ودعوا من أودعوا ... نار الغرام، وسلموا من أسلموا
هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا ... أو أيمنوا، أو أنجدوا، أو أتهموا،
وهم مجال الفكر من قلبي وإن ... بعد المزار فصفو عيشي معهم
أحبابنا، ما كان أعظم هجركم ... عندي، ولكن التفرق أعظم
غبتم، فلا والله ما طرق الكرى ... جفني، ولكن سح بعدكم الدم
وزعمتم أني صبور بعدكم ... هيهات، لا لقيتم ما قلتم
وإذا سئلت بمن أهيم صبابة ... قلت: الذين هم الذين هم هم
النازلين بمهجتي وبمقلتي ... وسط السويدا، والسواد الأكرم

لا ذنب لي في البعد أعرفه سوى ... أني حفظت العهد، لما خنتم
فأقمت، حين ظعنتم، وعدلت، لم ... ما جرتم، وسهدت، لما نمتم
يا محرقاً قلبي بنار صدورهم ... رفقاً، ففيه نار شوق تضرم
أسعرتم فيه لهيب صبابة ... لا تنطفي إلا بقرب منكم
يا ساكني أرض العذيب سقيتم ... دمعي، إذا ضن الغمام المرزم
بعدت منازلكم وشط مزاركم ... وعهودكم محفوظة، مذ غبتم
لا لوم للأحباب فيما قد جنوا ... حكمتهم في مهجتي فتحكموا
أحباب قلبي أعمروه بذكركم ... فلطالما حفظ الوداد المسلم
واستخبروا ريح الصبا تخبركم ... عن بعض ما يلقى الفؤاد المغرم
كم تظلمونا قادرين، وما لنا ... جرم ولا سبب لمن نتظلم؟
ورحلتم، وبعدتم، وظلمتم ... ونأيتم، وقطعتم، وهجرتم
هيهات لا أسلوكم أبداً، وهل ... يسلو عن البيت الحرام المحرم؟
وأنا الذي واصلت، حين قطعتم ... وحفظت أسباب الهوى، إذ خنتم
جار الزمان علي، لما جرتم ... ظلماً، ومال الدهر، لما ملتم
وغدوت بعد فراقكم، وكأنني هدف يمر بجانبيه الأسهم
ونزلت مقهور الفؤاد ببلدة ... قل الصديق بها وقل الدرهم
في معشر خلقوا شخوص بهائم ... يصدى بها فكر اللبيب ويبهم
إن كورموا لم يكرموا، أو علموا ... لم يعلموا، أو خوطبوا لم يفهموا
لا تنفق الآداب عندهم ولا ال ... إحسان يعرف في كثير منهم
صم عن المعروف حتى يسمعوا ... هجر الكلام فيقدموا ويقدموا
فالله يغني عنهم، ويزيد في ... زهدي لهم، ويفك أسري منهم
أحمد بن علي الصفار، الخوارزمي أبو الفضلقال محمد بن أرسلان: كان من فضلاء خوارزم، وبلغائهم، وكتابهم، وله أشعار مونقة لطيفة، ورسائل لبقة خفيفة، جمع رسائله أبو حفص، عمر بن الحسن، بن المظفر الأديبي، وجعلها على خمسة عشر باباً، وذكر في أول جمعه: وبعد، فإني رغبت في مطالعة رسائل، تكون إلى التخريج في البراعة وسائل، ثم تقلبت وتطلبت، فلم أر أعذب في السمع، وأعلق بالطبع، وأجرى في ميدان أهل الزمان، من غرر أبي الفضل الصفاري، ثم ذكرت ما كان بينه وبين والدي - رحمه الله - من المحبة المشتبكة اسشتباك الرحم، الجارية في عروقها مجرى الدم، والأخوة الصافية من الكدر، الباقية على الغير، فاقترحت عليه أن يلقي إلي ما حصل لديه، من رقاعه الصادرة إليه، فأجابني إلى ملتمسي، فدونت ما ألقاه إلي من إنشائه، وألحقت به ما وجدته عند غيره من أودائه، وهذا أنموذج من كلامه: كتب عن أبي سعيد، سهل بن أحمد السهلي، إلى عميد الملك أبي نصر الكندري، حين أنهض ولده إلى حضرته:

كتابي - أطال الله بقاء الشيخ السيد - وأنا معترف برق ولائه، متصرف في شكر سوابق آلائه، حامد لله تعالى على تظاهر أسباب عزه وعلائه، ولم أزل منذ حرمت التشرف بخدمته، أنطوي على مبايعته، وأتلظى شوقاً ألى التسعد بخدمة حضرته، التي هي مجمع الوفود، ومطلع الجود، وعصره المحمود، وأتمنى على الله تعالى حالاً تدنيني من جنابه الرحب، ومشرعه العذب، ومتى تذكرت تلك الأيام، التي كانت تسعفني بالتمكن من خدمته، التي هي مادة الجمال، وغاية الآمال، انثنيت بحسرة مرة، وانطويت على غصة مستمرة، وكم كاتبت شريف حضرته، لازالت محسودة مأنوسة، فلم أؤهل لجواب، ولم أشرف بخطاب، فأمسكت عن العادة في المعاودة، جرياً على طريقة الأصاغر، في مراعاة حشمة الأكابر، ولو جريت في مكاتبة حضرته على حكم الاعتقاد، والنية الخالصة في الوداد، لأكثرت، حتى أضجرت، وهو بحمد الله أحسن أخلاقاً، وأوفر في الكرم والمجد خلاقاً، من أن يرى عن قدماء خدمه متجافياً، ولخواص أصاغره جافياً، ولو كان رحيلي ممكناً، لاستعملت في الخدمة قدمي، دون قلمي، وحين عجزت عن ذلك، لما أنا مدفوع إليه من اختلال الحال، وتضاعف الاعتلال، أنهضت ولدي أبا الحسين خادمه، وابن خادمه، نائباً عني في إقامة رسم حضرته، التي من فاز بها، فقد فاز وسعد، وعلا نجمه وصعد، فلا زال مولانا منيع الأركان، رفيع القدر ولا مكان، سابغ القدرة والإسكان، محروس العز والسلطان، تدين المقادير لأحكامه، وتجري السعود تحت راياته وأعلامه، آمين، إن شاء الله.
أحمد بن علي، بن المعمر، بن محمد المعمر بن أحمد، بن محمدابن محمد، بن عبيد الله، بن علي، بن عبيد الله، بن الحسين ابن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب، أبو عبد الله، النقيب الطاهر، نقيب نقباء الطالبيين، ابن النقيب الطاهر أبي الغنائم، أديب، فاضل، شاعر منشئ، له رسائل مدونة حسنة، مرغوب فيها، يتناولها الناس في مجلدين، وكان من ذوي الهيئات والمنزلة الخطيرة، التي لا يجحدها أحد، وكان فيه كيس ومحبة لأهل العلم، وبينه وبين محمد بن الحسن، بن حمدون مكاتبات، كتبناها في ترجمته، وكان وقوراً، عاقلاً جداً، تولى النقابة بعد أبيه، في سنة ثلاثين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات، في سنة تسع وستين وخمسمائة تاسع عشر جمادى الآخرة، فيكون: قد تولى النقابة تسعاً وثلاثين سنة، وبداره بالحريم الطاهري كانت وفاته، وصلى عليه جمع كثير، وتقدم في الصلاة عليه شيخ الشيوخ، أبو القاسم عبد الرحيم، بن إسماعيل النيسابوري، بوصية منه بذلك، بعد مشاجرة جرت بينه وبين قثم بن طلحة، نقيب الهاشميين، ودفن بداره المذكورة، ثم نقل بعد ذلك إلى المدائن، فدفن بالجانب الغربي منها، في مشهد أولاد الحسين بن علي، عليه السلام، وكان قد سمع الحديث من أبي الحسين بن المبارك، ابن عبد الجبار الصيرفي، وأبي الحسن علي بن محمد ابن العلاف، وأبي الغنائم محمد بن علي الزينبي، وغيرهم، وحدث عنهم. سمع منه أبو الفضل، أحمد بن صالح، بن شافع، وأبو إسحاق، إبراهيم بن محمود، بن الشعار، والشريف أبو الحسن، علي بن أحمد اليزيدي، وغيرهم. وله كتاب ذيله على منثور المنظوم لابن خلف الثيرماني، وكتاب آخر مثله في إنشائه، وكانت حرمته في الأيام المقتفوية وأمره لم ير أحد من النقباء مثلهما، مقدرة وبسطة. ثم مرض مرضة شارف فيها التلف، فولى ولده الأسن النقابة موضعه، ثم أفاق من مرضه، واستمر ولده على النقابة، حتى عزل عنها، ومات ولده في سنة ثلاث وخمسين، ولم تعد منزلته إلى ما كانت عليه في أيام المستنجد، لأسباب جرت من العلويين.
أحمد بن علوية، الأصبهاني الكرمانيقال حمزة: كان صاحب لغة، يتعاطى التأديب، ويقول الشعر الجيد، وكان من أصحاب أبي علي لغذة، ثم رفض صناعة التأديب، وصار في ندماء أحمد بن عبد العزيز، ودلف بن أبي دلف العجلي، وله رسائل مختارة، فدونها أبو الحسن أحمد بن سعد، في كتابه المصنف في الرسائل، لوه ثمانية كتب في الدعاء من إنشائه، ورسالة في الشيب ولاخضاب، وله شعر جيد كثير، منه في أحمد ابن عبد العزيز العجلي:
يرى مآخير ما يبدو أوائله ... حتى كأن عليه الوحي قد نزلا
ركن من العلم لا يهفو لمحفظة ... ولا يحيد وإن أبرمته جدلا

إذا مضى العزم لم ينكث عزيمته ... ريب ولا خيف منه نقض ما فتلا
بل يخرج الحية الصماء مطرقة ... من جحرها ويحط الأعصم الوعلا
وله فيه:
إذا ما جنى الجاني عليه جناية ... عفا كرماً عن ذنبه لا تكرما
ويوسعه رفقاً يكاد لبسطه ... يود برئ القوم لو كان مذنبا
وله يهجو زامراً اسمه حمدان:
حذار يا قوم من حمدان وانتبهوا ... حذار يا سادتي من زامر زاني
فما يبالي إذا ما دب مغتلما ... بدا بصاحب دار أو بضيفان
يلهى الرجال بمزمار فإن سكروا ... ألهى النساء بمزمار له ثاني
ومن شعره:
حكم الغناء تسمع ومدام ... ما للغناء مع الحديث نظام
لو أنني قاض قضيت قضية ... إن الحديث مع الغناء حرام
قال حمزة: وله وأنشدنيها في سنة عشر وثلاثمائة، وله ثمان وتسعون سنة:
دنيا مغبة من أثرى بها عدم ... ولذة تنقضي من بعدها ندم
وفي المنون لأهل اللب معتبر ... وفي تزودهم منها التقى غنم
والمرء يسعى لفضل الرزق مجتهداً ... وما له غير ما قد خطه القلم
كم خاشع في عيون الناس منظره ... والله يعلم منه غير ما علموا
قال: وقال بعد أن أتت عليه مائة:
حتى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى ضحضاح غايته عمري
ودب البلى في كل عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يبقى سليماً على الدهر؟
قال: ولأحمد بن علوية قصيدة، على ألف قافية، شيعية، عرضت على أبي حاتم السجستاني، فأعجب بها، وقال: يأهل البصرة، غلبكم أهل أصبهان، وأول هذه القصيدة:
ودب البلى في كل عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يبقى سليماً على الدهر؟
قال: ولأحمد بن علوية قصيدة، على ألف قافية، شيعية، عرضت على أبي حاتم السجستاني، فأعجب بها، وقال: يأهل البصرة، غلبكم أهل أصبهان، وأول هذه القصيدة:
ما بال عينك ثرة الإنسان ... عبرى اللحاظ سقيمة الأجفان
وقال أحمد بن علوية يهجو الموفق، لما أنفذ الأصبغ رسولاً إلى أحمد بن عبد العزيز العجلي، يأمره بإنفاذ قطعة من جيشه:
أدى رسالته وأولص كتبه ... وأتى بأمر لا أبالك معضل
قال اطرح ملك اصبهان وعزها ... وابعث بعسكرك الخميس الجحفل
فعلمت أن جوابه وخطابه ... عض الرسول ببظر أم المرسل
أحمد بن عمر، البصري النحويروى عن أبي بشر، عن أبي المفرح الأنصاري، عن ابن السكيت، وروى عنه أبو عبد الله، محمد بن المعلى ابن عبد الله الأزدي.
أحمد بن عمران، بن سلامة الألهاني، أبو عبد الله النحوييعرف بالأخفش، قديم، ذكره أبو بكر الصولي، في الكتاب الذي ألفه في شعراء مصر، فقال: كان نحوياً لغوياً، وأصله من الشام، وتأدب بالعراق، فلما قدم مصر، أكرمه إسحاق بن عبد القدوس، وأخرجه إلى طبرية، فأدب ولده، وله أشعار كثيرة في أهل البيت، عليهم السلام، منها:
إن بني فاطمة الميمونة ... الطيبين الأكرمين الطينهْ
ربيعنا في السنة الملعونهْ ... كلهم كالروضة المهتونهْ
قال: وحدثني علي بن سراج قال: حدثني جعفر بن أحمد قال: قال لي أحمد بن عمران، قال الهيثم بن عدي، ممن أنت؟ قلت: أنا من ألهان، أخي همدان، قلت: نعم، هم عرس الجن، يسمع به ولا يرى، ما رأيت ألهانيا قبلك، قال: وكان الألهاني قد نزل على رعل حي من بني سليم فلم يقروه، فقال:
تضيفت بغلتي والأرض معشبة ... رعلاً وكان قراها عندهم علسي
وأكلباً كأسود الغاب ضارية ... وواقفات بأيدي أعبد عبس
والعام أرغد والأيام فاضلة ... وما ترى في سواد الحي من قبس
يستوحشون من الضيف الملم بهم ... ويأنسون إلى ذي السوءة الشرس
وله يمدح جعفر بن جدلة:
إذا استسلم المال عند الهذيل ... فمال الفتى جعفر خاسر
وإن ضن جازره بالمدى ... فإن الحسام له حاضر
أحمد بن فارس، بن زكريا اللغوي

وقال ابن الجوزي: أحمد بن زكريا، بن فارس، ولا يعاج به، مات سنة تسع وستين وثلاثمائة: وقال قبل وفاته بيومين:
يا رب إن ذنوبي قد أحطت بها ... علماً وبي وبإعلاني وإسراري
أنا الموحد لكني المقر بها ... فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري
ووجد بخط الحميدي: أن ابن فارس مات في حدود سنة ستين وثلاثمائة، وكل منهما لا اعتبار به، لأني وجدت خط كفه على كتاب " الفصيح " تصنيفه، وقد كتبه في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وذكره الحافظ السلفي، في شرح مقدمة معالم السنن للخطابي فقال: أصله من قزوين، وقال غيره: أخذ أحمد بن فارس على أبي بكر، أحمد بن الحسن الخطيب، راوية ثعلب، وأبي الحسن، علي بن إبراهيم القطان، وأبي عبد الله، أحمد بن طاهر المنجم، وعلي بن عبد العزيز المكي، وأبي عبيد، وأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وكان ابن فارس يقول: ما رأيت مثل ابن عبد الله أحمد بن طاهر، ولا رأى هو مثل نفسه.
وكان ابن فارس قد حمل إلى الري بأجرة، ليقرأ عليه مجد الدولة، أبو طالب بن فخر الدولة، علي بن ركن الدولة، بن أبي الحسن بويه الديلمي صاحب الري، فأقام بها قاطناً.
وكان الصاحب ابن عباد يكرمه، ويتتلمذ له، ويقول: شيخنا أبو الحسين، ممن رزق حسن التصنيف وأمن فيه من التصحيف، وكان كريماً جواداً، لا يبقي شيئاً، وربما سئل فوهب ثياب جسمه، وفرش بيته، وكان فقيهاً شافعياً، فصار مالكياً، وقال: دخلتي الحمية لهذا البلد، يعني الري، كيف لا يكون فيه رجل على مذهب هذا الرجل؟ المقبول القول على جميع الألسنة وله من التصانيف: كتاب المجمل، وكتاب متخير الألفاظ، كتاب فقه اللغة، كتاب غريب إعراب القرآن، كتاب تفسير أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب مقدمة كتاب دار العرب، كتاب حلية الفقهاء، كتاب العرق، كتاب مقدمة الفرائض، كتاب ذخائر الكلمات، كتاب شرح رسالة الزهري إلى عبد الملك بن مروان، كتاب الحجر، كتاب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب صغير الحجم، كتاب الليل والنهار، كتاب العم والخال، كتاب أصول الفقه، كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب الصاحبي، صنفه لخزانة الصاحب، كتاب جامع التأويل في تفسير القرآن، أربع مجلدات، كتاب الثياب والحلي، كتاب خلق الإنسان، كتاب الحماسة المحدثة، كتاب مقاييس اللغة، وهو كتاب جليل لم يصنف مثله، كتاب كفاية المتعلمين في اختلاف النحويين.
وحدث ابن فارس: سمعت أبي يقول: حججت فلقيت ناساً من هذيل، فجاريتهم ذكر شعرائهم، فما عرفوا أحداً منهم، ولكني رأيت أمثل الجماعة رجلاً فصيحاً وأنشدني:
إذا لم نحظ في أرض فدعها ... وحث اليعملات على وجاها
ولا يغررك حظ أخيك فيها ... إذا صفرت يمينك من جداها
ونفسك فز بها إن خفت ضيماً ... وخلالدار تنعى من بكاها
فإنك واجد أرضاً بأرض ... ولست بواجد نفساً سواها
ومن شعر ابن فارس:
وقالوا كيف أنت؟ فقلت خير ... تقضى حاجة ويفوت حاج
إذا ازدحمت هموم القلب قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وسرور قلبي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج
ومن شعره في همذان:
سقى همذان الغيث لست بقائل ... سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرم
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم
وله أيضاً:
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم
وله أيضاً:
مرت بنا هيفاء مقدودة ... تركية تنمى لتركي
ترنو بطرف فاتن فاتر ... كأنه حجة نحوي
قال الثعالبي: حدثني ابن عبد الوارث النحوي قال: كان الصاحب منحرفاً عن أبي الحسين بن فارس، لانتسابه إلى خدمة آل العميد، وتعصبه لهم، فأنفد إليه من همذان كتاب الحجر نم تأليفه، فقال الصاحب: رد الحجر من حيث جاءك، ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه، وأمر له بصلة: ولابن فارس في اليتيمة:
يا ليت لي ألف دينار موجهة ... وأن حظي منها فلس فلاس

قالوا فما لك منها؟ قلت تخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس
وله أيضاً:
إسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقهْ
إياك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقهْ
وله أيضاً:
وصاحب لي أتاني يستشير وقد ... أراد في جنبات الأرض مضطرباً
قلت اطلب أي شيء شئت واسع ورد ... منه الموارد إلا العلم والأديبا
وله أيضاً:
إذا كان يؤذيك حر المصي ... ف وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن ازمان الربي ... ع فأخذك للعلم قل لي متى؟
وله أيضاً:
عتبت عليه حين ساء صنيعه ... وآليت لا أمسيت طوع يديه
فلما خبرت الناس خبر مجرب ... ولم أر خيراً منه عدت إليه
وله أيضاً:
تلبس لباس الرضا بالقضا ... وخل الأمور لمن يملك
تقدر أنت وجاري القضا ... ء مما تقدره يضحك
قال يحيى بن مندة الأصبهاني: سمعت عمي عبد الرحمن ابن محمد العبدي يقول: سمعت أبا الحسين أحمد بن زكريا ابن فارس النحوي يقول: دخلت بغداد طالباً للحديث، فحضرت مجلس بعض أصحاب الحديث وليست معي قارورة، فرأيت شاباً عليه سمة جمال، فاستأذنته في كتب الحديث من قارورته، فقال: من انبسط إلى الإخوان بالاستئذان، فقد استحق الحرمان. قال عبد الرحمن بن مندة: وسمعت ابن فارس يقول: سمعت أبا أحمد بن أبي التيار يقول: أبو أحمد العسكري يكذب، على الصولي، مثلما كان الصولي، يكذب على الغلابي، مثلما كان الغلابي، يكذب على سائر الناس. قرأت بخط الشيخ أبي الحسن، علي بن عبد الرحيم السلمي، وجدت بخط ابن فارس على وجه المجمل والأبيات له، ثم قرأتها على سعد الخير الأنصاري، وأخبرني أنه سمعها من ابن شيخه أبي زكريا، عن سليمان بن أيوب، عن ابن فارس:
يا دار سعدى بذات الضال من غضم ... سقاك صوب حياً من واكف العين
العين: سحاب ينشأ من قبل القبلة.
إني لأذكر أياماً بها ولنا ... في كل إصباح يوم قرة العين
العين ههنا: عين الإنسان وغيره.
تدني معشقة منا معتقة ... تشجها عذبة من نابع العين
العين ههنا: ما ينبع منه الماء.
إذا تمززها شيخ به طرق ... سرت بقوتها في الساق والعين
العين ههنا: عين الركبة، والطرق: ضعف الركبتين.
والزق ملآن من ماء السرور فلا ... تخشى توله ما فيه من العين
العين ههنا: ثقب يكون في المزادة، وتوله الماء: أن يتسرب.
وغاب عذالنا عنا فلا كدر ... في عيشنا من رقيب السوء والعين
العين ههنا: لا رقيب.
يقسم الود فيما بيننا قسماً ... ميزان صدق بلا بخس ولا عين
العين ههنا: العين في الميزان.
وفائض المال يغنينا بحاضره ... فنكتفي من ثقيل الدين بالعين
العين ههنا: المال الناض.
والمجلمل المجتبي تغني فوائده ... حفاظه عن كتاب الجيم والعين
قال: وبخطه أيضاً: سمعت أبي يقول: حججت فلقيت بمكة ناساً من هذيل، فجاريتهم ذكر شعرائهم. وجدت على نسخة قديمة بكتاب المجمل، من تصنيف ابن فارس ما صورته: تأليف الشيخ أبي الحسين، أحمد بن فارس، ابن زكريا الزهراوي، الأستاذ خرزي، واختلفوا في وطنه، فقيل: كان من رستاق الزهراء، من القرية المعروفة بكرسفة وجيانا باذ، وقد حضرت القريتين مراراً، ولا خلاف أنه قروي.
حدثني والدي محمد بن أحمد، وكان من جملة حاضري مجالسه، قال: أتاه آت فسأله عن وطنه، فقال: كرسف، قال فتمثل الشيخ:
بلاد بها شدت على تمائمي ... وأول أرض مس جليد ترابها
وكتبه مجمع بن محمد، بن أحمد بخطه، في شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين وأربعمائة، وكان في آخر هذا الكتاب ما صورته أيضاً: قضى الشيخ أبو الحسين، أحمد ابن فارس - رحمه الله - في صفر سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالري، ودفن بها مقابل مشهد قاضي القضاة، أبي الحسن، علي بن عبد العزيز، يعني الجرجاني.
أنشد أبو الريحان البيروني في كتاب الآثار الباقية، عن القرون الخالية، لأحمد بن فارس:
قد قال فيما مضى حكيم ... ما المرء إلا بأصغريه

فقلت قول امرئ لبيب ما المرء إلا بدرهميه
من لم يكن معه درهماه ... لم تلتفت عرسه إليه
وكان من ذله حقيراً ... تبول سنوره عليه
وحدث هلال بن المظفر الريحاني قال: قدم عبد الصمد، ابن بابك الشاعر إلى الري، في أيم الصاحب، فتوقع أبو الحسين، أحمد بن فارس، أن يزوره ابن بابك، ويقضي حق علمه وفضله، وتوقع ابن بابك، أن يزوره ابن فارس، ويقضي حق مقدمه، فلم يفعل أحدهما ما ظن صاحبه، فكتب ابن فارس إلى القاسم بن حسولة:
تعديت في وصلي فعدي عتابك ... وأدنى بديلاً من نواك إيابك
تيقنت أن لم أحظ والشمل جامع ... بأيسر مطلوب فهلا كتابك
ذهبت بقلب عيل بعدك صبره ... غداة أرتنا المرقلات ذهابك
وما استمطرت عيني سحابة ريبة ... لديك ولا مست يميني سخابك
ولا نقبت والصب يصبو لمثلها ... عن الوجنات الغانيات نقابك
ولا قلت يوماً عن قلىً وآمة ... لنفسك: سلى عن ثيابي ثيابك
وأنت التي شيبت قبل أوانه ... شبابي سقى الغر الغوادي شبابك
تجنبت ما أوفى وعاقبت ما كفى ... ألم يأن سعدى أن تكفي عتابك؟
وقد نبحتني من كلابك عصبة ... فهلا وقد حالوا زجرت كلابك
تجافيت عن مستحسن البر جملة ... وجرت على بختي جفاء ابن بابك
فلما وقف أبو القاسم الحسولي على الأبيات، أرسلها إلى ابن بابك، وكان مريضاً، فكتب جوابها بديهاً: وصلت الرقعة - أطال الله بقاء الأستاذ - وفهمتها، وأنا أشكو إليه الشيخ أبا الحسن، فإنه صيرني فصلاً لا وصلاً، وجاً لا نصلاً، ووضعني موضع الحلاوى من الموائد، وتمت من أواخر القصائد، وسحب اسمي منها مسحب الذيل، وأوقعه موقع الذنب المحدوف من الخيل، وجعل مكاني مكان القفل من الباب، وفذلك من اعلحساب، وقد أجبت عن أبياته بأبيات، أعلم أن فيها ضعفاً لعلتين: علتي، وعلتها، وهي:
أيا أثلات الشعب من مرج يابس ... سلام على آثاركن الدوارس
لقد شاقني والليل في شملة الحيا ... إليكن ترجيع النسم المخالس
ولمحة برق مستضئ كأنه ... تردد لحظ بين أجفان ناعس
فبت كأني صعدة يمنية ... تزعزع في نقع من الليل دامس
ألاى حبذا صبح إذا ابيض أفقه ... تصدع عن قرن من الشمس وارس
ركبت من الخلصاء أرقب سيلها ... ورود المطي الظامئات الكوانس
فيا طارق الزوراء قل لغيومها ... أهلي على مغنى من الكرخ آنس
وقل لرياض القفص تهدي نسيمها ... فلست على بعد المزار بآيس
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... لقى بين أقراط المها والمحابس
وهل أرين الري دهليز بابك ... وبابك دهليز إلى أرض فارس
ويصبح ردم السد قفلاً عليهما ... كما صرت قفلاً في قوافي ابن فارس
فعرض أبو القاسم الحسولي المقطوعين على الصاحب، وعرفه الحال، فقال: البادئ أظلم، والقادم يزار، وحسن العهد من الإيمان.
أحمد بن الفضل، بن شبابة الكاتب، أبو الصقرالنحوي الهمذاني، من أهل همذان، ذكره شيرويه كان يلقب بساسي دوير، مات سنة خمسين وثلاثمائة، روى عن إبراهيم بن الحسين ديزيل، وأبي خليفة الفضل ابن الخباب الجمحي، وأبي القاسم عبد الله، بن محمد، بن عبد العزيز البغوي، وأبي سعيد الحسن بن علي، بن زكريا العدوي، وأبي بكر محمد، بن خلف وكيع، وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبي العباس، محمد بن يزيد المبرد، وأبي بكر بن دريد النحوي، وأبي الحسن علي بن سعيد العسكري، وعلي بن الفضل الرشيدي وغيرهم. روى عنه أبو بكر أحمد بن علي، بن بلال، وأبو العباس، أحمد ابن إبراهيم، بن تركان، وأبو الحسن، إبراهيم بن عفر الأسدي، وأبو بكر بن خلف، بن محمد الخياط، وأبو عبد الله أحمد بن عمر الكاتب، وابن روزنة، وغيرهم.

حدثنا عبد الملك بن عبد الغفار، الفقيه لفظاً، أخبرنا عبد الله بن عيسى الفقيه، حدثنا محمد بن أحمد قال: سمعت أبا الصقر بن شبابة الكاتب يقول: كنت بالبصرة، فاستأذنت على ابن خليفة، وعنده جماعة من الهاشميين يتغدون، فحبسني البواب، فكتبت في رقعة وناولتها بعض غلمانه، فناولها أبا خليفة:
أبا خليفة تجفو من له أدب ... وتتحف الغر من أولاد عباس
ما كان قدر رغيف لو سمحت به ... شيئاً وتأذن لي في جملة الناس
فلما وصلت إليه الرقعة قال: علي بالهمذاني صاحب الشعر، فأدخلت إليه، فقدم إلي طبقاً من رطب، وأجلسني معه.
أحمد بن الفضل، بن محمد، بن أحمد
ابن محمد، بن جعفرالباطرقاني المقرئ، مات في الثاني والعشرين من صفر، سنة ستين وأربعمائة بأصبهان.
قال السمعاني: كان مقرئاً فاضلاً، ومتحدثاً مكثراً من الحديث، كتب بنفسه الكثير، وكان حسن الخط دقيقه، قرأ القرآن على جماعة من مشاهير القدماء بالروايات، وصنف التصانيف فيه، منها: كتاب طبقات القراء، كتاب الشواذ، وصلى بالناس إماماً في الجامع الكبير سنين، بعد ابن المظفر بن الشبيب، سمع الحديث من أبي عبد الله، محمد بن إسحاق، بن إبراهيم، ابن عبد الله، بن خرشيدة التاجر وجماعة، وروى لنا عن جماعة كثيرة.
قال ابن مندة: جرى ذكر الباطرقاني عند الإمام عمر، - رحمه الله - ، والشيخ الحافظ أبو محمد، عبد العزيز ابن محمد النخشبي، وجماعة حاضرون، فقال عبد العزيز صنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري، إلا أنه كتب المتن من الأصل، ثم ألحقه الإسناد، وهذا ليس من شرط أصحاب الحديث وأهله، يتكلم في مسائل لا يسع الموضع ذكرها، ولو اقتصر على الإقراء والحديث، لكان خيراً له.
أحمد بن كامل، بن شجرة، بن منصور، بن كعبابن يزيد أبوبكر القاضي، قال الخطيب: قال القاضي بن كامل، ولدت في سنة ستين ومائتين. ومات في المحرم سنة خمسين وثلاثمائة، قال الخطيب: فكان ينزل في شارع عبد الصمد، وهو أحد أصحاب محمد بن جرير الطبري، وتقلد قضاء الكوفة، من قبل أبي عمر محمد بن يوسف، فكان من العلماء بالأحكام، وعلوم القرآن، والنحو، والشعر، وأيام الناس، والتاريخ، وأصحاب الحديث، وله مصنفات في أكثر من ذلك، قال النديم. منها: كتاب غريب القرآن، كتاب القراءات، كتاب التقريب في كشف الغريب، كتاب موجز التأويل عن حكم التنزيل، كتاب التنزيل، كتاب الوقوف، كتاب التاريخ، كتاب المختصر في الفقه، كتاب الشروط الكبير، كتاب الشروط الصغير، كتاب البحث والحث، كتاب أمهات المؤمنين، كتاب الشعر، كتاب الزمان، كتاب أخبار القضاة.
وكان قد اختار لنفسه مذهباً، قال الخطيب: وحدث ابن كامل، عن محمد بن سعد العوفي، ومحمد بن الجهم السمري، وأبي قلابة الرقاشي، وأحمد بن أبي خيثمة، وأبي إسماعيل الترمذي. روى عنه الدارقطني، وأبو عبد الله المرزباني، وحدثنا عنه ابن رزقويه وغيره، وقال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله، ولما بلغ الثمانين أنشدنا:
عقد الثمانين عقد ليس يبلغه ... إلا المؤخر للأخبار والغير
قال: وأنشدني القاضي بن كامل لنفسه:
صرف الزمان تنقل الأيام ... والمرء بين محلل وحرام
وإذا تقشعت الأمور تكشفت ... عن فضل أيام وقبح أنام
وسئل الدارقطني عن ابن كامل، فقال: كان متساهلاً، ربما حدث ن حفظه بما ليس عنده في كتابه، وأهلكه العجب، فإنه كان يختار، ولا يضع لأحد من الأئمة أصلاً، قيل: أكان جريري المذهب؟ فقال: بل خالفه، واختار لنفسه، وأملى كتاباً في السير، وتكلم على الأخبار.

أنبأنا الخطيب أبو الفضل، عبيد الله بن أحمد، بن عبد الله المنصوري، قال: حدثنا أبو منصور، موهوب بن الجواليقي، حدثنا ثابت بن بندار، حدثنا أبو علي الحسن ابن أحمد بن شاذان، حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل، بن شجرة القاضي، في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، حدثني عبد الله بن أحمد، بن عيسى المقرئ، يعرف بالقسطاطي، قال: حدثنا أحمد بن سهل، أبو عبد الرحمن، قال: قدم علينا سعد بن زنبور، فأتيناه فحدثنا، قال: كنا على باب الفضيل ابن عياض، فاستأذنا عليه، فلم يؤذن لنا، قال: فقيل لنا: إنه لا يخرج إليكم إلا أن يسمع القرآن، قال: وكان معنا رجل مؤذن، وكان صيتاً فقلنا له: اقرأ فقرأ: " ألهاكم التكاثر " ، ورفع بها صوته، قال: فأشرف علينا الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه خرقة ينشف بها الدمع من عينيه، وأنشأ يقول:
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر؟
أتاني ثمانون من مولدي ... وبعد الثمانين ما ينتظر؟
علتني السنون فأبلينني.
قال: ثم خنقته العبرة، قال: وكان معنا علي بن خشرم فأتمه له، فقال: فدقت عظامي وكل البصر قال: ثم قال القاضي أحمد بن كامل: ولدت سنة ستين ومائتين، وأنشدنا:
عقد الثمانين عقد ليس يبلغه ... إلا المؤخر للأخبار والغير
أحمدبن كليب النحويصاحب أسلم الأندلسي، ذكر أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في المنتظم: أن أحمد بن كليب، مات سنة ست وعشرين وأربعمائة، وذكر قصته التي أذكرها فيما بعد بعينها، ولا أدري من أين له هذه الوفاة؟ فإن الحميدي ذكره في كتابه، ولم يذكر وفاته، قال الحميدي: هو شاعر مشهور الشعر، ولا سيما شعره في أسلم، وكان قد أفرط في حبه، حتى أداه ذلك إلى الموت، وخبره في ذلك ظريف رواه عن محمد بن الحسن المذحجي.
قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله، محمد ابن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن، أسلم بن أحمد، بن سعيد، بن قاضي الجماعة، وأسلم بن عبد العزيز، صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون، وكان يجئ معنا إلى محمد بن خطاب، أ؛مد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع، والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متستراً بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه، وجرت على الألسنة، وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بعرس، وفيه زامر يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم:
أسلمني في هوا ... ه أسيلم هذا الرشا
غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا
وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى
ولو شاء أن يرتشي ... على العمل روحي ارتشى
فلما بلغ هذا المبلغ، انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه، فكان أحمد بن كليب، لا شغل له إلا المرور على باب أسلم، سائراً ومقبلاً نهاره كله، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام، خرج مستروحاً، وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب، فتحيل في بعض الليالي، ولبس جبة من جباب أهل البادية، وأعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يديه، وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا؟ فقال له أسلم: ومن أنت؟ قال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وقد كان تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، وتأمله فعرفه، فقال يا أخي: وهنا بلغت بنفسك؟ وإلى ههنا تبعتي؟ أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على باب داري نهاراً؟ حتى قطعت علي جميع مالي فيه راحة، قد صرت في سجنك، والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي، ولا قعدت ليلاً ولا نهاراً على بابي، ثم قام، وانصرف أحمد بن كليب حزيناً كئيباً.

قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا، فقلنا لأحمد ابن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال هات: كل ليلة قبلة يده، وأخسر أضعاف ذلك. قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة، نهكته العلة، وأضجعه المرض، قال: فأخبرني شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته، فوجدته بأسوإ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف وأما الأطباء، فلا حيلة لهم فيه، ألبتة. فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك، وكان هو والله أيضاً يؤجر، قال: فرحمته، وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى اسلم، فتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة، قال: وما هي؟ قلت له: قد علمت ما جمعك مع أحمد من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم، فقد تعلم أنه أشهر اسمي وآذاني، فقلت له: كل ذلك مغتفر في الحال التي هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته، فقال: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلفني هذا، فقلت له: لا بد، فليس عليك في ذلك شيء، فإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن، فقال لي: لست والله أفعل ذلك، ولكن غداً، فقلت له: ولا خلف؟ فقال: نعم. قال: فانصرفت إلى أحمد بن كليب، وأخبرته بوعده بعد تأبيه، فسر بذلك، وارتاحت نفسه. قال: فلما كان من الغد، بكرت إلى أسلم وقلت له، الوعد، فوجم وقال: والله لقد تحملني على خطة صعبة، وما أدري كيف أطيق ذلك؟ فقلت له: لا بد من أن تفي بوعدك، فأخذ رداءه ونهض معي راجلاً، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، فلما توسط الدرب احمر وخجل، وقال لي: الساعة والله أموت، وما أستطيع أن أنقل قدمي، ولا أن أعرض لهذا نفسي. فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل، أن تنصرف؟ قال لا سبيل والله إلى ذلك، ألبتة، قال: ورجع مسرعاً، فاتبعته وأخذت بردائه، فتمادى وتمزق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي، ومضى فلم أدركه، فرجعت ودخلت إلى أحمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل إليه، إذ رآنا من أول الدرب مبشراً، فلما رآني دونه، تغير لونه، وقال: وأين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته، واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثره من التوجع، فاستبشعت، الحال، وجعلت أرجع وقمت، فثاب إليه ذهنه، وقال لي: يا أبا عبد الله، اسمع، وأنشد:
أسلم يا راحة العليل ... رفقاً على الهائم النحيل
وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل
فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟ فقال لي: قد كان ما كان، فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه، وقد فارق الدنيا، هذا قتيل الحب، لا دية ولا قود.
قال: وهذه قصة مشهورة عندنا، والرواة ثقات، وأسلم هذا، من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعراً أديباً.
قال الحميدي: وقد رأيت ابنه أبا الجعد قال: وذكرت هذه القصة لمحمد بن سعيد الخولاني الكاتب، فعرفها، وقال لي: أخبرني الثقة قال: لقد رأيت أسلم هذا في يوم شديد المطر، لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائراً له، وقد تحين غفلة الناس في مثل ذلك الوقت، وكان أحمد بن كليب، قد أهدى إلى أسلم في أول أمره كتاب الفصيح، وكتب عليه:
هذا كتاب الفصيح ... بكل لفظ مليح
وهبته لك طوعاً ... كما وهبتك روحي
وقرأت في كتاب الديارات للخالدي حكاية أعجبني أمر صاحبها، وأحببت أن يكون لها موضع من كتابي هذا، وكأن المثل يذكر بالمثل، ذكرتها عقيب خبر أحمد بن كليب، فإنهما خبران متقاربان.
قال: حدثني أبو الحسين، يحيى بن الحسين الكندي الحراني الشاعر، قال: حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبري، قال: كان بالرها وراق يقال له سعد، وكان في دكانه مجلس كل أديب، وكان حسن الأدب والفهم، يعمل شعراً رقيقاً، وما كنا نفارق دكانه، أنا وأبو بكر المعوج، الشامي الشاعر، وغيرنا من شعراء الشام، وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصراني، من كبار تجارها ابن اسمه عيسى، من أحسن الناس وجهاً، وأحلاهم قداً، وأظرفهم طبعاً ومنطقاً، وكان يجلس إلينا، ويكتب عنا أشعارنا، وجميعنا يحبه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتاب، فعشقه سعد الوراق عشقاً مبرحاً، ويعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه:

إجعل فؤادي دواة والمداد دمي ... وهاك فابر عظامي موضع القلم
وصير اللوح وجهي وامحه بيد ... فإن ذلك برء لي من السقم
ترى المعلم لا يدري بمن كلفي ... وأنت أشهر في الصبيان من علم
ثم شاع - بعشق الغلام في الرها - خبره، فلما كبر وشارف الائتلاف أحب الرهبنة، وخاطب أباه وأمه في ذلك، وألح عليهما حتى أجاباه، وخرجا به إلى دير زكى بنواحي الرقة، وهو في نهاية حسنه، فابتاعا له قلاية، ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها، فأقام الغلام فيها، وضاقت على سعد الوراقالدنيا بما رحبت، وأغلق دكانه، وهجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلك، يعمل فيه الأشعار: فمما عمل فيه وهو في الدير، وكان الغلام قد عمل شماساً:
يا حمة قد علت غصناً من البان ... كأن أطرافها أطراف ريحان
قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا ... بأنما الشمس والشماس سيان
فقل لعيسى بعيسى كم هراق دماً ... إنسان عينك من عين لإنسان
ثم إن الرهبان، أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به، ونهوه عنه، وحرموه أن أدخله، وتوعدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك.
فلما رأى سعد امتناعه منه، شق عليه، وخضع للرهبان، ورفق بهم ولم يجييوه، وقالوا: في هذا علينا إثم وعار، ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير، أغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه، فاشتد وجده، وازداد عشقه، حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه، وانصرف إلى داره، فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير، وهو عريان يهيم، ويعمل الأشعار ويبكي.
قال أبو بكر الصنوبري: ثم عبرت يوماً أنا والمعوج، من بستان بتنا فيه، فرأيناه جالساً في ظل الدير وهو عريان، وقد طال شعره، وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه، وعذلناه وعتبناه. فقال: دعاني من هذا الوسواس، أتريان ذلك الطائر على هيكل؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك، فقلنا: نعم، فقال: أنا وحقكما يا أخوي، أناشده منذ الغداة أن يسقط، فأحمله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إلي وقال: يا صنوبري، معك ألواحك؟ قلت: نعم. قال اكتب:
بدينك يا حمامة دير زكي ... وبالإنجيل عندك والصليب
قفي وتحملي عني سلاماً ... إلى قمر على غصن رطيب
عليه مسوحه وأضاء فيها ... وكان البدر في حلل المغيب
وقالوا رابنا إلمام سعد ... ولا والله ما أنا بالمريب
وقولي سعدك المسكين يشكو ... لهيب جوىً أحر من اللهيب
فصله بنظرة لك من بعيد ... إذا ما كنت تمنع من قريب
وإن أنا مت فاكتب حول قبري ... محب مات من هجر الحبيب
رقيب واحد تنغيص عيشي ... فكيف بمن له مائتا رقيب؟
ثم تركنا وقام يعدو إلى باب الدير، وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه، ومازال كذلك زماناً، ثم وجد في بعض الأيام ميتاً إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ، العباس بن كيغلغ، فلما اتصل ذلك به وبأهل الرها، خرجوا إلى الدير، وقالوا: ما قتله غير الرهبان، وقال لهم ابن كيغلغ: لابد من ضرب رقبة الغلام، وإحراقه بالنار، ولا بد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتصعب في ذلك، فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم.
وكان الغلام بعد ذلك، إذا دخل الرها لزيارة أهله، صاح به الصبيان: يا قاتل سعد الوراق، وشدوا عليه بالحجارة يرجمونه، وزاد عليه الأمر في ذلك، حتى امتنع من دخول المدينة، ثم انتقل إلى دير سمعان، وما أدري ما كان منه.

ومثل هذه الحكاية، خبر مدرك بن علي الشيباني، وكان مدرك شاعراً، أديباً فاضلاً، وكان كثيراً ما يلم بدير الروم ببغداد، ويعاشر نصاراه، وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى، يقال له: عمرو بن يوحنا، وكان من أحسن الناس وجهاً، وأملحهم صورة وأكملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس يجتمع فيه الأحداث لا غير، فإن حضر شيخ أو ذو لحية قال له مدرك: إنه قبيح بك أن تختلط مع الأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم، وكان عمرو ممن يحضر مجلسه، فعشقه وهام به، فجاء عمرو يوماً، فكتب مدرك رقعة فطرحها في حجره، فقرأها فإذا فيها:
بمجالس العلم ... التي بك تم حسن جموعها
إلا رثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
فقرأ الأبيات عمرو، ووقف عليها من كان بالمجلس، وقرءوها، فاستحيا عمرو، وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك، وقال فيه قصيدته المزدوجة المشهورة، التي أولها:
من عاشق ناء هواه داني ... ناطق دمع صامت اللسان
موثق قلب مطلق الجثمان ... معذب بالصد والهجران
وهي طويلة: وكتب إليه لما هجره، وقطع مجلسه:
فيض الدموع وشدة الأنفاس ... شهدا على ما في هواه أقاسي
لبس الملاحة وهو ألبسني الضنا ... شتان بين لباسه ولباسي
يا من يريد وصالنا ويصده ... ما قد يحاذر من كلام الناس
صلني فإن سبقت إليك مقالة ... منهم فعصب ما يقال براسي
ثم خرج مدرك إلى الوسواس، وسل جسمه، وتغير عقله، وترك مجلسه، وانقطع عن الإخوان، ولزم الفراش.
قال حسان بن محمد، بن عيسى، بن شيخ: فحضرته عائداً في جماعة من إخوانه، فقال: ألست صديقكم؟ والقديم العشق لكم؟ فما منكم أحد ليسعدني بالنظر إلى وجه عمرو، قال: فمضينا إلى عمرو فقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل ديناً، فإن إحياءه مروءة، قال: وما فعل؟ قلنا قد صار إلى حال لا نحسبك تلحقه قال: فنهض معنا، فلما دخلنا عليه، سلم عليه عمرو، فأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي، فنظر إليه، ثم أغمي عليه، وأفاق، وهو يقول:
أنا في عافية إل ... لا من الشوق إليكا
أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا
لا تعد جسماً وعد قل ... باً رهيناً في يديكا
كيف لا يهلك مرشو ... ق بسهمي مقلتيكا
ثم شهق شهقة فارق الدنيا فيها، فما برحنا حتى دفناه - رحمه الله - .
أحمد المحرر، يعرف بالأحولقديم، كان في أيام الرشيد والمأمون، وبعد ذلك. قال أبو عبد الله بن عبدوس: ذكر أبو الفضل بن عبد الحميد في كتابه: أن الأحول المحرر شخص مع محمد بن يزداد، بن سعيد وزير المأمون، عند شخوص المأمون إلى دمشق، وأنه شكا يوماً إلى أبي هارون، خليفة محمد بن يزداد، الوحدة والغربة، وقلة ذات اليد، وسأله أن يكلم له محمداً في كلام المأمون في أمره. ليبره بشيء، ففعل أبو هارون ذلك، ورأى محمد بن يزداد من المأمون طيب نفس، فكلمه فيه وعطفه عليه، فقال له المأمون: أنا أعرف الناس به، ولا يزال بخير ما لم يكن معه شيء، فإذا رزق فوق القوت بذره وأفسده، ولكن أعطه لموضع كلامك، أربعة آلاف درهم، فدعا ابن يزداد بالأحول، وعرفه ما جرى، ونهاه عن الفساد، وأمر له بالمال، فلما قبضه ابتاع غلاماً بمائة دينار، واشترى سيفاً ومتاعاً، وأسرف فيما بقي بعد ذلك، حتى لم يبق معه شيء، فلما رأى الغلام ذلك، أخذ كل ما كان في بيته وهرب، فبقي عرياناً، بأسوء حال، وصار إلى أبي هارون، خليفة بن يزداد فأخبره، فأخذ أبو هارون نصف طومار ونشره ووقع في آخره:
فر الغلام فطار قلب الأحول ... وأنا الشفيع وأنت خير معول
ثم ختمه ودفعه إليه، وقال له: امض به إلى محمد ابن يزداد، فأوصله إليه، فلما رآه ابن يزداد، قال له: ما في كتابك؟ قال: لا أدري، فقال: هذا من حمقك، تحمل كتاباً لا تدري ما فيه، ثم فضه فلم ير فيه شيئاً، فجعل ينشره وهو يضحك، حتى أتى على آخره، فوقف على البيت ووقع تحته:
لولا تعنت أحمد لغلامه ... كان الغلام ربيطة بالمنزل

ثم ختمه وناوله، وأمره أن يرده إلى خليفته، فقال له: الله الله في، - جعلت فداك - ، ارحمني من الحال التي صرت إليها، فرق له، ووعده أن يكلم المأمون، فلما وجد بعد ذلك خلوة من المأمون، كلمه فيه، وشرح له ما جرى أجمع، ووصف له ضعف عقل الأحول، ووهي عقدته وسخفه، فأمر المأمون بإحضاره، فلما وقف بين يديه، قال له: يا عدو الله، تأخذ مالي فتشتري به غلاماً حتى يفر منك، فارتاع لذلك، وتلجلج لسانه. فقال: - جعلت فداك - يا أمير المؤمنين. ما فعلت، فقال له: ضع يدك على رأسي، والحف أنك لم تفعل. فجعل ابن يزداد يأخذ بيده لذلك، والمأمون يضحك، ويشير إليه أن ينحيها. ثم أمر له بإجراء رزق واسع في كل شهر، ووصله مرة بعد مرة، حتى أغناه، وكان يعجبه خطه.
أحمد بن محمد، بن حميد، بن سليمان، بن حفص، بن عبد اللهابن أبي الجهم، بن حذيفة، بن غانم، بن عامر، بن عبد الله، بن عبيد، بن عوتج، بن عدي، بن كعب العدوي الجهمي: أبو عبد الله، من بني عدي بن كعب، القرشي، ينسب إلى جده أبي الجهم، بن حذيفة، حجازي، دخل العراق وبها تأدب ونشأ، وكان أديباً، راوية شاعراً، متقناً، عالماً بالنسب، والمثالب، ويتناول جلة الناس، وله في ذلك كتب، مات.
ذكره المرزباني، ومحمد بن إسحاق النديم، فقالا: وقع بينه وبين قوم من العمريين والعثمانيين شر، فذكر سلفهم بأقبح ذكر، فكلمه بعض الهاشميين في ذلك، فذكر العباس بأمر عظيم، فأنهي خبره إلى المتوكل، فأمر بضربه مائة سوط، وتولى ضربه إياها، إبراهيم ابن إسحاق، بن إبراهيم، فلما فرغ من ضربه، قال فيه:
تبرا الكلوم وينبت الشعر ... ولكل مورد غلة صدر
واللؤم في أثواب منبطح ... لعبيده ما أورق الشجر
قال: وله من الكتب، كتاب قريش وأخبارها، كتاب المعصومين، كتاب المثالب، كتاب الانتصار في الرد على الشعوبية، كتاب فضائل مضر.
أحمد بن أبي عبد الله، بن محمد، بن خالد، بن عبد الرحمنابن محمد، بن علي الرقي، أبو جعفر، الكوفي الأصل، وكان يوسف بن عمر الثقفي، والي العراق من قبل هشام ابن عبد الملك، قد حبس جده محمد بن علي بعد قتل زيد ابن علي، ثم قتله، وكان خالد صغير السن، فهرب مع أبيه عبد الرحمن إلى برقة قم، فأقاموا بها.

وكان ثقة في نفسه، غير أنه أكثر الرواية عن الضعفاء، واعتمد المراسيل، وصنف كتباً كثيرة، منها: المحاسن وغيرها، وقد زيد في المحاسن ونقص، فمما وقع إلي منها: كتاب الإبلاغ، كتاب التراحم والتعاطف، كتاب أدب النفس، كتاب المنافع، كتاب أدب المعاشرة، كتاب المعيشة، كتاب المكاسب، كتاب الرفاهية، كتاب المعاريض، كتاب السفر، كتاب الأمثال، كتاب الشواهد من كتاب الله عز وجل، كتاب النجوم، كتاب المرافق، كتاب الدواجن، كتاب المشوم، كتاب الزينة، كتاب الأركان، كتاب الزي، كتاب اختلاف الحديث، كتاب المأكل، كتاب الفهم، كتاب الإخوان، كتاب الثواب، كتاب تفسير الأحاديث وأحكامه، كتاب العلل، كتاب العقل، كتاب التخويف، كتاب التحذير، كتاب التهذيب، كتاب التسلية، كتاب التاريخ، كتاب التبصرة، كتاب غريب كتب المحاسن، كتاب مذام الأخلاق، كتاب النساء، كتاب المآثر والأحساب، كتاب أنساب الأمم، كتاب الزهد والموعظة، كتاب الشعر والشعراء، كتاب العجائب، كتاب الحقائق، كتاب المواهب والحظوظ، كتاب الحياة، وهو كتاب النور والرحمة، كتاب التعيين، كتاب التأويل، كتاب مذام الأفعال، كتاب الفروق، كتاب المعاني والتحريف، كتاب العقاب، كتاب الامتحان، كتاب العقوبات، كتاب العين والخصائص، كتاب النحو، كتاب العيافة والقيافة، كتاب الزجر والفأل، كتاب الطيرة، كتاب المراشد، كتاب الأفانين، كتاب الغرائب، كتاب الخيل، كتاب الصيانة، كتاب الفراسة، كتاب العويص، كتاب النوادر، كتاب مكارم الأخلاق، كتاب ثواب القرآن، كتاب فضل القرآن، كتاب مصابيح الظلم، كتاب المنتخبات، كتاب الدعابة والمزاح، كتاب الترغيب، كتاب الصفوة، كتاب الرؤيا، كتاب المحبوبات والمكروهات، كتاب خلق السموات والأرض، كتاب بدء خلق إبليس والجن، كتاب الدواجن والرواض، كتاب مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، كتاب الأحناش والحيوان، كتاب التأويل، كتاب طبقات الرجال، كتاب الأوائل، كتاب الطب، كتاب التبيان، كتاب الجمل، كتاب ما خاطب الله به خلقه، كتاب جداول الحكمة، كتاب الأشكال والقرائن، كتاب الرياضة، كتاب ذكر الكعبة، كتاب التهانئ، كتاب التعازي.
أحمد بن محمد، بن يوسف الأصبهانيقال حمزة في كتاب أصبهان، وذكره في جملة الأدباء الذين كانوا بها، وقال: له كتاب في طبقات البلغاء، وكتاب في طبقات الخطباء، لم يسبق إلى مثلهما، وكتاب أدب الكتاب، وأنشد الأصبهاني في القاضي الوليد.
لعمرك ما حمدنا غب ود ... بذلنا الصفو منه للوليد
رجونا أن يكون لنا ثمالاً ... إذا ما المحل أذوى كل عود
ويحيى أحمد بن أبي دؤاد ... سليل المجد والشرف العتيد
فزرناه فلم نحصل لديه ... على غير التهدد والوعيد
نورد حوضه الآمال منا ... فآبت غير حامدة الورود
يظل عدوه يحظى لديه ... بنيل الحظ من دون الودود
رضينا بالسلامة من جداه ... وأعفيناه من كرم وجود
وقال في مثل للفرس قلبه إلى العربية شعراً:
إني إذا ما رأيت فرخ زنى ... فليس يخفى على جوهره
لو في جدار تخط صورته ... لماج في كف من يصوره
وقال في رجل عدل عن انتحال علم الإسلام، إلى علم الفلسفة:
فارقت علم الشافعي ومالك ... وشرعت في الإسلام رأي رقلس
وأراك في دين الجماعة زاهداً ... ترنو إليه بميل طرف الأشوس
وكتب إلى بعض إخوانه:
نفسي فداؤك من خليل مصقب ... لم يشفني منه اللقاء الشافي
عندي غداً فئة تقوم بمثلها ... لله حجته على الأصناف
مثل النجوم يلذ حسن حديثهم ... ليسوا بأوباش ولا أجناف
أو روضة زهراء معشبة الثرى ... كال الربيع لها بكيل واف
من بين ذي علم يصول بعلمه ... أو شاعر يقضي بحد قواف
منهم أبو الحسن ابن قلس دهره ... وأبو الهذيل وليس بالعلاف
والهرمزاني الذي يسمو به ... شرف أناف به على الأشراف
فاجعل حديثك عندنا يشفي الجوى ... فنفوسنا ولهى إلى الإيلاف

ألن الجواب فليس يعجبني أخ ... في الدين شاب وفاءه بخلاف
أحمد بن محمد، بن أبي محمد اليزيديأبو جعفر، ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر، في تاريخ دمشق، فقال: أحمد بن محمد، بن يحيى المبارك، ابن المغيرة، أبو جعفر العدوي النحوي، المعروف أبوه باليزيدي، كان من ندماء المأمون، وقدم معه دمشق، وتوجه منها غازياً للروم، سمع جده أبا محمد يحيى، وأبا زيد الأنصاري، وكان مقرئاً، روى عنه أخواه، عبيد الله، والفضل ابنا محمد، وابن أخيه محمد بن العباس، ومحمد بن أبي محمد، وعون بن محمد الكندي، ومحمد بن عبد الملك الزيات، مات قبيل سنة ستين ومائتين. قرأت في كتاب أبي الفرج الأصبهاني، حدثنا محمد بن العباس، حدثني أبي، عن أخيه أبي جعفر قال: دخلت يوماً على المأمون بقارا، وهو يريد الغزو، فأنشدته شعراً مدحته به، أوله:
يا قصر ذا النخلات من بارا ... إني حننت إليك من قارا
أبصرت أشجاراً على نهر ... فذكرت أنهاراً وأشجارا
لله ايام نعمت بها ... في القفص أحياناً وفي بارا
إذ لا أزال أزور غانية ... ألهو بها وأزور خمارا
لا أستجيب لمن دعا لهدى ... وأجيب شطاراً ودعارا
أعصى النصيح وكل عاذلة ... وأطيع أوتاراً ومزمارا
قال: فغضب المأمون قوال: أنا في وجه عدو، وأحض الناس على الغزو، وأنت تذكرهم نزهة بغداد، قلت: الشيء بتمامه، ثم قلت:
وصحوت بالمأمون من سكري ... ورأيت خير الأمر ما اختارا
ورأيت طاعته مؤدية ... للفرض إعلاناً وإسرارا
فخلعت ثوب الهزل من عنقي ... ورضيت دار الخلد لي دارا
وظللت معتصماً بطاعته ... وجواره وكفى به جارا
إن حل أرضاً فهي لي وطن ... وأسير عنها حيثما سارا
فقال له يحيى بن أكثم: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين! أخبر أنه كان في سكر وخسار، فترك ذلك وارعوى، وآثر طاعة خليفته، وعلم أن الرشد فيها، فسكن وأمسك، ولأحمد بن اليزيدي هذا، بيت جمع فيه حروف المعجم كلها وهو:
ولقد شجتني طفلة برزت ضحى ... كالشمس خثماء العظام بذي الغضا
وذكره أبو بكر الزبيدي فقال: هو أمثل أهل بيته في العلم.
أحمد بن محمد، بن عبد الكريم، بن سهلويقال ابن أبي سهل الأحول، أبو العباس، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من متقدمي الكتاب وأفاضلهم، وكان عالماً بصناعة الخراج، متقدماً في ذلك على أهل عصره، مات سنة سبعين ومائتين وله كتاب الخراج.
أحمد بن محمد، بن ثوابة، بن خالد الكاتبأبو العباس، قال محمد بن إسحاق النديم: هو أحمد ابن محمد، بن ثوابة، بن يونس، أبو العباس الكاتب، أصلهم نصارى، وقيل: إن يونس يعرف بلبابة، وكان حجاماً، وقيل: أمهم لبابة، ومات أبو العباس سنة سبع وسبعين ومائتين، وقال الصولي: مات في سنة ثلاث وسبعين قال: وحدثني أبو سعيد، وهب بن إبراهيم، بن طازاذ قال: كان بين علي بن الحسين، وبين أبي العباس بن ثوابة، منازعة في ضيعة، فاجتمعا في مجلس بعض الرؤساء وأحسبه عبيد الله بن سليمان، فرد علي بن الحسين، مناظرة أبي العباس، إلى أخيه أبي القاسم، بن الحسين، فناظر أبا العباس، فأقبل أبو العباس يهاتره ويطنز به وقال في جملة قوله: من أنتم؟ إنما نفقتم بالبذيذة، قال: فالتفت علي بن الحسين، إلى صبي كان معه، كأنه الدنيا المقبلة، فأخذ بيده، وقام قائماً في موضعه، وكشف عن رأسه، وقال بأعلى صوته: يا معشر الكتاب، قد عرفتموني، وهذا ولدي، من فلانة بنت فلان الفلاني، وهي من طالق طلاق الحرج والسنة، على سائر المذاهب، إن لم يكن هذا الشرط الذي في أخدعي شرط جده فلان المزين، لا يكنى عن جد ابن ثوابة، قال: فاستخذل أبو العباس، ولم يحر جواباً، ولا أجرى بعد ذلك كلاماً في الضيعة، وسلمها من غير منازعة ولا محاورة.

قال: وكان أبو العباس من الثقلاء البغضاء، وله كلام مدون مستهجن مستثقل، منه: علي بماء الورد أغسل فمي من كلام الحاجم. ومنه: لما رأى أمير المؤمنين الناس قد تدارسوا وتدقلموا وترنسعوا وتذورروا تدسقن وله من التصانيف: كتاب رسائله المجموعة، كتاب رسالته في الكتابة والخط، وأخوه جعفر بن محمد، بن ثوابة، تولى ديوان الرسائل في أيام عبيد الله بن سليمان الوزير، وله ابن اسمه محمد بن أحمد، كان أيضاً مترسلاً بليغاً، وله كتاب رسائل. وأبو الحسين محمد بن جعفر، بن ثوابة، وابنه أبو عبد الله، أحمد بن محمد، بن جعفر. وله أيضاً ديوان رسائل، وهو آخر من بقي من فضلائهم.
ومن كلام أبي العباس: من حق المكاتبة، أن يسبقها أنس، وينعقد قبلها ود، ولكن الحاجة أعجلت عن ذلك، فكتبت كتاب من يحسن الظن إلى من يحققه.
ومن فصل له إلى عبيد الله بن سليمان: لم يؤت الوزير من عدم فضيلة، ولم أوت من عدم وسيلة، وغلة الصادي تأبى له انتظار الوارد، وتعجل عن تأمل ما بين الغدير والواد، ولم أزل أترقب أن يخطرني بباله، ترقب الصائم لفطره، وأنتظره انتظار الساري لفجره، إلى أن برح الخفاء، وكشف الغطاء، وشمت الأعداء، وإن في تخلفي وتقدم المقصرين، لآية للمتوسمين والحمد لله رب العالمين.
وقيل لابن ثوابة: قد تقلد إسماعيل بن بلبل الوزارة، فقال: إن هذا عجز قبيح من الأقدار، وكان محمد بن أحمد بن ثوابة، كاتباً لباكباك التركي، فلما أغري المهتدي بالرافضة، قال المهتدي لباكباك: كاتبك والله أيضاً رافضي، فقال باكباك: كذب والله على كاتبي، ما كان يقول هؤلاء، فشهدت الجماعة عليه، فقال باكباك: كذبتم، ليس كاتبي كما تقولون، كاتبي خير فاضل، يصلي ويصوم، وينصحني، ونجاني من الموت، لا أصدق قولكم عليه، فغضب المهتدي، وردد الأيمان على صحة القول في ابن ثوابة، وهو يقول: لا، لا، فلما انصرف القوم من حضرة المهتدي، أسمعهم باكباك وشتمهم، ونسبهم إلى أخذ الرشا والمصانعات وأغلظ لهم وأمر ببعضهم فنيل بمكروه، إلى أن تخلصوا من يده، واستتر ابن ثوابة، وقلد المهتدي كتابة باكباك، سهل بن عبد الكريم الأحول، ونودي على ابن ثوابة، ثم تنصل باكباك إلى المهتدي، واعتذر إليه فقبل عذره، وصفح عنه، فلما قدم موسى بن بغا، سر من رأى من الجبل، تلقاه باكبابك، وسأله النطف في المسألة، في الصفح عن كاتبه ابن ثوابة، فلما جدد المهتدي البيعة في دار أناجور التركي، عاود باكباك المسألة في كاتبه، فوعده بالرضا عنه، وقال: الذي فعلته بابن ثوابة، لم يكن لشيء كان في نفسي عليه يخصني، لكن غضباً لله تعالى وللدين، فإن كان قد نزع عما أنكر منه، وأظهر تورعاً، فإني قد رضيت عنه، ثم رضي عنه الخليفة في يوم الجمعة، النصف من محرم، سنة خمسين ومائتين، وخلع عليه أربع خلع، وقلده سيفاً، ورجع إلى كتابة باكباك ميمون بن هارون.
قال لي الحسن، علي بن محمد، بن الأخضر: كنا يوماً في مجلس أبي العباس ثعلب، إذ جاءه أبو هفان البصري للسلام عليه، فسأله عن أمره، وسبب قدومه من سامراً، واين يريد؟ فقال أريد ابن ثوابة، يعني أحمد بن محمد، ابن ثوابة، بن خالد، وكان بالرقة، وكان ذلك في أيام عيد، فقال أبو العباس: كيف رضاك عن بني ثوابة؟ فقال: إني والله أكره هجاءهم في يوم مثل هذا، ولكني أقمت هجائي لهم مقام الزكاة، وقلت:
ملوك ثناهم كأحسابهم ... وأخلاقهم شبه آدابهم
فطول قرونهم أجمعين ... يزيد على طول أذنابهم

وقال الصولي: كانت بين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير، وبين أبي العباس، أحمد بن محمد، بن ثوابة وحشة شديدة، لأسباب منها: أشياء جرت في مجلس صاعد في آخر أيامه، قد حدثني رشيق الموسوي الخادم - وما رأيت خادماً أعقل منه، ولا أكتب يداً - قال: كنا في مجلس صاعد، فسأل عن رجل، فقال أبو الصقر: قد كان أنفيي، يريد نفي، فقال ابن ثوابة: في الخرء، فسمعها، فقال أبو الصقر: كيف تكلم من حقه أن يشد ويحد؟ فقال ابن ثوابة: من جهلك، إنك لا تعلم أن من يشد لا يحد، ومن يحد لا يشد، ثم ضرب الدهر من ضربه، فرايت ابن ثوابة قد دخل إلى أبي الصقر بواسط، فوقف بين يديه، ثم قال: أيها الوزير، " لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين " . فقال له أبو الصقر: " لا تثريب عليكم " يا أبا العباس، ثم رفع مجلسه، وقلده طساسيج بابل، وسورا، وبربسما، فضاعف وزاد في الدعاء له، فمازال والياً إلى أن توفي في سنة ثلاث وسبعين ومائتين. هكذا ذكر الصولي، والأول منقول من كتاب محمد بن إسحاق، وهذا أولى بالصواب.
قال الصولي: وحدثني الحسين بن علي الكاتب، قال: كان أبو العيناء في جملة أبي الصقر، قال: وكان يعادي ابن ثوابة، لمعاداة أبي الصقر، فاجتمعا في مجلس بعقب ما جرى بين أبي الصقر، وبين ابن ثوابة في مجلس صاعد، فتلاحيا، فقال له ابن ثوابة: أما تعرفني؟ قال: بل أعرفك ضيق العطن، كثير الوسن، قليل الفطن، خاراً على الذقن، قد بلغني تعديك على أبي الصقر. وإنما حلم عنك، لأنه لم ير عزاً فيذله: ولا علواً فيضعه. ولا حجراً فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله. وسهك دمك أن يسفكه، فقال له: اسكت، فما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما، قال أبو العيناء: فلهذا غلبت بالأمس أبا الصقر، فأسكته.
ومن كتاب الوزراء لهلال بن المحسن، حدث علي بن سليمان الأخفش قال: ذكر لي المبرد، أنه كان في سوم نوبة له عند أبي العباس، أحمد بن محمد، بن ثوابة، حتى دخل عليه غلامه، وفي يده رقعة البحتري، فقرأها أبو العباس، ووقع فيها توقيعاً خفيفاً، وأمر بإصلاحها، فأصلحت وأعيدت إليه. قال المبرد: فرمى بها إلي، فإذا فيها:
إسلم أبا العباس واب ... ق فلا أزال الله ظلك
وكن الذي يبقى لنا ... ونموت حين نموت قبلك
لي حاجة أرجو لها ... إحسانك الأوفى وفضلك
والمجد مشترط علي ... ك قضاءها والشرط أملك
فلئن كفيت ملمها ... فلمثلها أعددت مثلك
قال: وإذا وقع ابو العباس: مقضية، والله الذي لا إله إلا هو، ولو أتلفت المال، وأذهبت الحال، فقل: - رعاك الله - ما شئت منبسطاً، وثق بما أنا عليه لك مغتبطاً، إن شاء الله تعالى.
وقال أحمد بن علي المادرائي، الكاتب الأعور الكردي، صديق المبرد يهجو ابن ثوابة من قصيدة:
تعست أبا الفضل الكتابهْ ... من أجل مقت بني ثوابهْ
وسألت أهل المهتي ... ن من الخطابة والكتابهْ
عن عادل في حكمه ... فعليك أجمعت العصابهْ
فاسمع فقد ميزتهم ... ولكلهم طرز وبابه
أما الكبير فمن جلا ... لته يقال له لبابهْ
وإذا خلا فممدد ... في البيت قد شالوا كعابهْ
وارفض عنه زهوه ... وتقشعت تلك المهابهْ
نقلت من خط عبد السلام البصري، حدثنا أبو العباس التميمي، حدثنا جحظة في أماليه، قال: حضرت مجلس أبي العباس ثعلب، وعنده جماعة من أصحابه، وحضر أحمد بان علي المادرائي، فسأله عن أبي العباس بن ثوابة، وقال له، متى عهدك به؟ فقال: لا عهد ولا عقد، ولا وفاق ولا ميثاق، فقال له ثعلب: عهدي بك إذا غضبت هجوت، فهل من شيء؟ فأنشد:
بني ثوابة أنتم أثقل الأمم ... جمعتم ثقل الأوزار والتخم
أهاض حين أراكم من بشامتكم ... على القلوب وإن لم أوت من بشم
كم قائل حين غاظته كتابتكم ... لو شئت يا رب ما علمت بالقلم
فقال ثعلب: أحسنت والله في شعرك، وأسأت إلى القوم.

وعن أبي الفرج الأصبهاني، حدثني أبو الفضل العباس بن أحمد، بن محمد، بن ثوابة، قال: قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الإسكافي، مادحاً له، فلم يثبه ثواباً يرضاه، بعد أن طالت مدته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها:
ما كسبنا من أحمد بن علي ... ومن النيل غير حمى النيل
وهجاه بقصيدة أخرى أولها: قصة النيل فاسمعوها عجابهْ فجمع إلى هجائه إياه، هجاء بني ثوابة، وبلغ ذلك أبي، فبعث إليه بألف درهم، وثياباً ودابة بسرجها ولجامها، فرده، وقال: قد أسلفتكم إساءة، فلا يجوز معه قبول صلتكم، فكتب إليه أبي: أما الإساءة فمغفورة، والمعذرة مشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو جراحك مثل يدك، وقد رددت إليك ما رددته علي، وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك، أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل، احتملنا وصبرنا، فقبل ما بعث به، وكتب إليه: كلامك والله أحسن من شعري، وقد أسلفتني ما أخجلني، وحملتني ما أثقلني، وسيأتيك ثنائي، ثم غدا عليه بقصيدة أولها: ضلال لها ماذا أرادت من الصد؟ وقال فيه بعد ذلك: برق اضاء العقيثق من ضرمه وقال فيه أيضاً: أن دعاه داعي الهوى فأجابهْ: قلم يزل أبي يصله بعد ذلك، وتتابع بره لديه، حتى افترقا.
وكتب أحمد بن محمد، بن ثوابة، إلى إسماعيل بن بلبل، حين صاهر الناصر لدين الله، الموفق بالله: " بسم الله الرحمن الرحيم " ، بلغني، للوزير - أيده الله - نعمة زاد شكرها على مقادير الشكر، كما أربى مقدارها على مقادير النعمة، فكان مثلها قول إبراهيم بن العباس:
بنوك غدوا آل النبي، ووارثوا ال ... خلافة، والحاوون كسرى وهاشما
وأنا أسأل الله تعالى أن يجعلها موهبة ترتبط ما قبلها، وتنتظم ما بعدها، وتصل جلال الشرف، حتى يكون الوزير - أعزه الله - على سادة الوزراء موفياً، ولجميل العادة مستحقاً، ولمحمود العاقبة مستوجباً، وأن يلبس خدمه، وأولياءه، من هذه الحلل العالية، ما يكون لهم ذكراً باقياً، وشرفاً مخلداً.
وكان يلقب لبابة، وكان عبيد الله بن سليمان، قد صرف أحمد بن محمد، بن ثوابة، عن طساسيج كان يتقلدها، بأبي الحسن بن مخلد.
فقال أحمد بن علي المادرائي الأعور الكردي:
إني وقفت بباب الجسر في نفر ... فوضى يخوضون في غرب من الخبر
قالوا: لبابة أضحت وهي ساخطة ... قد قدت الجيب من غيظ ومن ضجر
فقلت: حقاً وقد قرت بقولهم ... عيني وأعين إخواني بني عمر
لا تعجبوا لقميص قد من قبل ... فإن صاحبه قد قد من دبر
ولأبي سهل فيه، يخاطب عبيد الله بن سليمان:
يا أبا القاسم الذي قسم الل ... ه في الورى الهوى والمهابهْ
كدت تنفي هل الكتابة عنها ... حين أدخلت فيهم ابن ثوابهْ
أنت ألحقته وما كان فيهم ... بهم ظالماً به للكتابهْ
هل رأينا مخنثاً كاتباً أو ... هل يسمى أديب قوم لبابهْ؟؟
وله فيه:
أقصرت عن جدي وعن شغلي ... والمكرمات وعدت في هزلي
لما أراني الدهر من تصريفه ... غيراً يغير مثلها مثلي
بلغ أحمد بن ثوابة بجنونه ... ما ليس يبلغه ذوو عقل
إن كان نقص المرء يجلب حظه ... فالعقل يرفع رزق ذي فضل

قال أبو حيان في كتاب الوزرين: حدثنا أبو بكر الصيمري قال: حدثنا ابن سمكة قال: حدثنا ابن محارب قال: سمعت أحمد بن الطيب يقول: إن صديقاً لابن ثوابة الكاتب أبي العباس، يكنى أبا عبيدة، قال له ذات يوم: إنك بحمد الله ومنه، ذو أدب وفصاحة وبراعة، فلو أكملت فضائلك، بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسي، وعلم الأشكال الهندسية، الدالة على حقائق الأشياء، وقرأت إقليدس وتدبرته، فقال له ابن ثوابة: وما كان إقليدس؟ ومن هو؟ قال: رجل من علماء الروم، يسمى بهذا الإسم، وضع كتاباً فيه أشكال كثيرة مختلفة، تدل على حقائق الأشياء المعلومة والمغيبة، يشحذ الذهن، ويدقق الفهم، ويلطف المعرفة، ويصفي الحاسة، ويثبت الروية، ومنه افتتح الخط، وعرفت مقادير حروف المعجم، قال له أبو العباس بن ثوابة: وكيف ذلك؟ قال: لا تعلم كيف هو؟ حتى تشاهد الأشكال، وتعاين البرهان، قال: فافعل ما بدا لك، فأتاه برجل يقال له قويري مشهور، ولم يعد إليه بعد ذلك، قال أحمد بن الطيب: فاستغربت ذلك، وعجبت منه، فكتبت إلى أبي ثوابة رقعة نسختها:

" بسم الله الرحمن الرحيم " ، اتصل بي، - جعلت فداك - ، أن رجلاً من إخوانك أشار عليك، بتكميل فضائلك وتقويتها، بشيء من معرفة القياس البرهاني، وطمأنينتك إليه، وأنك أصغيت إلى قوله، وأذنت له، فأحضرك رجلاً كان غاية في سوء الأدب، ومعدناً من معادن الكفر، وإماماً من أئمة الشرك، لاستغرارك واستغوائك، يخادعك عن عقلك الرصين، وينازلك في ثقافة فهمك المبين، فأبى الله العزيز، إلا جميل عوائه الحسنة قبلك، ومننه السواب لديك، وفضله الدائم عندك، بأن تأتي على قواعد برهانه من ذروته، وتحط عوالي أركانه، من أقصى معاقد أسه، فأحببت استعلامي ذلك على كنهه من جهتك، ليكون شكري لك، على ما كان منك، حسب لومي لصاحبك، على ما كان منه، ولأتلافي الفارط، في ذلك بتدبر المشيئة، إن شاء الله تعالى، قال: فأجابني ابن ثوابة برقعة نسختها: " بسم الله الرحمن الرحيم " وصلت رقعتك - أعزك الله - وفهمت فحواها، وتدبرت متضمنها، والخبر كما اتصل بك، والأمر كما بلغك، وقد لخصته وبينته، حتى كأنك معنا وشاهدنا، وأول ما أقول: الحمد لله مولي النعم، والمتوحد بالقسم، " إليه يرد علم الساعة " ، " وإليه المصير " ، وأنا أسأله إتراع الشكر على ذلك، وعلى ما منحنا من ودك، وإتمامه بيننا بمنه، ومما أحببت: إعلامك وتعريفك بما تأدى إليك، أن أبا عبيدة " لعنه الله تعالى " بنحسه، ودسه وحدسه، اغتالني ليكلم ديني، من حيث لا أعلم، وينقلني عما أعتقده، وأراه وأضمره، من الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، موطداً إلى الزندقة، بسوء نيته من الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علماً شريفاً، تكمل به فضائلي فيما زعم، فقلت: عسى أفيد به براعة في صناعة، أو كمالاً في مروءة، أو فخاراً عند الأكفاء، فأجبته: بأن هلم، فأتاني بشيخ ديراني شاخص النظر، منتشر عصب البصر، طويل مشذب، محزوم الوسط، متزمل في مسكة فاستعذت بالرحمن، إذ نزغني الشيطان، ومجلسي غاص بالأشراف، من كل الأصناف وكلهم يرمقه، ويتشوف إلى رفعي مجلسه، وإدنائه وتقريبه، ويعظمونه ويحيونه، " والله محيط بالكافرين " ، فأخذ مجلسه، ولوى أشداقه، وفتح أوساقه، فتبينت في مشاهدته النفاق، وفي ألفاظه الشقاق، فقلت: بلغني أن عندك معرفة من الهندسة، وعلماً واصلاً إلى فضل، يفيد الناظر فيه حكمة، وتقدماً في كل صناعة، فهلم أفدنا شيئاً منها، عسى أن يكون عوناً لنا على دين أو دنيا، في مروءة ومفاخرة لدى الأكفاء، ومفيداً زهداً ونسكاً، فذلك هو الفوز العظيم، " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " ، " وما ذلك على الله بعزيز " ، قال: فأحضرني دواة وقرطاساً، فأحضرتهما، فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة، تخيلها بصري، وتوهمها طرفي، كأصغر من حبة الذرة، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهراً بإفكه وأقبل علي وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟ فقال كالبسيط، فأذهلني وحيرني، وكاد يأتي على عقلي، لولاأن هداني ربي، لأنه أتاني بلغة، ما سمعتها والله من عربي ولا عجمي، وقد أحطت علماً بلغات العرب، وقمت بها وسبرتها جاهداً، واختبرتها عامداً، وصرت فيها إلا ما لا أجد أحداً يتقدمني إلى المعرفة به، ولا يسبقني إلى دقيقة وجليلة، فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كالله، وكالنفس، فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب بالله الأمثال؟ والله يقول: " فلا تضربوا لله الأمثال، إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " لعن الله مرشداً أرشدني إليك، ودالاً دلني عليك، فما ساقك إلي إلا قضاء سوء، ولا كسعك نحوي إلا الحين، وأعوذ بالله من الحين، وأبرأ إليه منكم ومما تلحدون، والله ولي أمير المؤمنين، إني بريء مما تشركون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب، فأقبل علي مستبسلاً وقال: إني أرى فصاحة لسانك سبباً لعجمة فهمك، وتدرعك بقولك آفة من آفات عقلك، فلولا من حضر والله المجلس، وإصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبينت من توازرهم، لأمرت بسل لسان اللكع الألكن، وأمرت بإخراجه، إلى آخر نار الله وسعيره، وغضبه ولعنته، ونظرت إلى أمارات الغضب في وجوه الحاضرين، فقلت: ما غضبكم لنصراني يشرك بالله

ويتخذ من دونه الأنداد، ويعلن بالإلحاد، ولا مكانكم لنهكته عقوبة، فقال له رجل منهم: إن كان حكيم، فغاظني قوله، فقلت: لعن الله حكمة مشوبة بكفر، فقال لي آخر: إن عندي مسلماً يتقدم أهل هذا العلم، ورجوت بذكره الإسلام خيراً، فقلت: ائتني به، فأتاني برجل قصير دحداح، آدم، مجدور الوجه، أخفش العينين، أجلح أفطس، سيء المنظر، قبيح لازي، فسلم، فرددت عليه السلام، فقلت: ما اسمك؟ فقال أعرف بكنية قد غلبت علي، فقلت: أبو من؟ فقال أبو يحيى، فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت: اللهم إني أعوذ بك من الهندسة، اللهم فاكفني شرها، فإنه لا يصرف السوء إلا أنت، وقرأت " الحمد لله، والمعوذتين، وقل هو الله أحد " ، وقلت: إن صديقاً لي جاءني بنصراني يتخذ الأنداد، ويدعي أن لله الأولاد، ليغويني، فهلم أفدنا شيئاً من هندستك، واقبسنا من ظرائف حكمتك، ما يكون لي سبباً إلى رحمة الله، ووسيلة إلى غفرانه، فإنها أربح تجارة، وأعود بضاعة، فقال: أحضرني دواة وقرطاساً، فقلت: أتدعو بالدواة والقرطاس، وقد بليت منهما ببلية، كلها لم تندمل عن سويداء قلبي، فقال: وكيف كان ذلك؟ فقلت: إن النصراني نقط نقطة كأصغر من سم الخياط، وقال لي، إنها معقولة كربك الأعلى، فوالله ما عدا فرعون وكفره وإفكه، فقال: إني أعفيك من النقطة، - لعن الله - قوبري، وما كان يصنع بالنقطة؟ وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟ فقلت: استجهلني ورب الكعبة، وقد أخذت بأزمة الكتابة، ونهضت بأعبائها، واستقللت بثقلها، يقول لي: لا تعرف فحوى النقطة، فنازعتني نفسي في معالجته بغليظ العقوبة، ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل، ودعا بغلامه، وقال: ائتني بالتخت، فوالله ما رأيت مخلوقاً بأسرع إحضاراً له من ذلك الغلام، فأتاه به، فتخيلته هيئة منكرة، ولم أدر ما هو؟ وجعلت أصوب الفكر فيه، وأصعد أخرى، وأجيل الرأي ملياً، وأطرق طويلاً، لأعلم أي شيء هو؟ أصندوق هو؟ فإذا ليس بصندوق، أتخت؟ فغذا ليس بتخت، فتخيلته كتابوت، فقلت: لحد لملحد، يلحد به الناس عن الحق، ثم أخرج من كمه ميلاً عظيماً، فظننته متطبباً، وإنه لمن شر المتطببين، فقلت له: إن أمرك لعجب كله، ولم أر أميال المتطببين كميلك، أتفقأ به العين؟ قال: لست بمتطبب، ولكن أخط به الهندسة على هذا التخت، فقلت له: إنك وإن كنت مبايناً للنصراني في دينه، لموازر له في كفره، أتخط على تخت بميل، لتعدل به عن وضح الفجر إلى غسق الليل؟ وتميل بي إلى الكذب باللوح المحفوظ، وكاتبيه الكرام، إياي تستهوي؟ أم حسبتني كمن يهتز لمكايدكم فقال: لست أذكر لوحاً محفوظاً، ولا مضيعاً، ولا كاتباً كريماً، ولا لئيماً، ولكن أخط فيه الهندسة، وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة، قلت له: اخطط، فأخذ يخط، وقلبي مروع يجب وجيباً، وقال لي غير متعظم: إن هذا الخط طول بلا عرض، فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له: - قاتلك الله - أتدري ما تقول؟ تعال صراط ربي المستقيم، عن تخطيطك وتشبيهك، وتحريفك وتضليلك، إنه لصراط مستقيم، وإنه لأحد من السيف الباتر، والحسام القاطع، وأدق من الشعر، وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، ومداه بعيد، وهوله شديد، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي؟ وحسبتني غراً غبياً، لا أعلم ما في باطن ألفاظك، ومكنون معانيك، والله ما خططت الخط، وأخبرت أنه طول بلا عرض، إلا ضلة بالصراط المستقيم، لتزل قدمي عنه، وأن ترديني في جهنم، - أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة، ومما تدل عليه، وترشد إليه - ، إني بريء من الهندسة، ومما تعلنون وتسرون، ولبئسما سولت لك نفسك، أن تكون من خزنتها، بل من وقودها، وإن لك فيها لأنكالاً وسلاسل وأغلالاً، وطعاماً ذا غصة، نفأخذ يتكلم. فقلت: سدوا فاه، مخافة أن يبدر من فيه، مثل ما بدر من المضلل الأول، وأمرت بسحبه، فسحب إلى أليم عذاب، ونار " وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون " ثم أخذت قرطاساً، وكتبت بيدي يميناً، آليت فيها بكل عهد مؤكد، وعقد مردد، ويمين ليست لها كفارة، أني لا أنظر في الهندسة أبداً، ولا أطلبها، ولا أعلمها من أحد لا سراً ولا جهراً، ولا على وجه من الوجوه، ولا على سبب من الأسباب، وأكدت بمثل ذلك على عقبي وعقب أعقابهم، لا تنظروا فيها ولا تتعلموها، مادامت السموات والأرض، إلى أن تقوم الساعة، لميقات

يوم معلوم، وهذا بيان ما سألت - أعزك الله - عنه، فيما دفعت إليه، وامتحنت به، ولتعلم ما كان مني، ولولا وعكة أنا في عقابيلها، لحضرتك مشافهاً، وأخذت بحظ المتمني بك، والاستراحة إليك، تمهد على ذلك عذري، فإنك غير مباين لفكري، والسلام.م، وهذا بيان ما سألت - أعزك الله - عنه، فيما دفعت إليه، وامتحنت به، ولتعلم ما كان مني، ولولا وعكة أنا في عقابيلها، لحضرتك مشافهاً، وأخذت بحظ المتمني بك، والاستراحة إليك، تمهد على ذلك عذري، فإنك غير مباين لفكري، والسلام.
قال عبد الله الفقير إليهن مؤلف هذا الكتاب: لا شك أن أكثر ما في هذه الرسالة، مفتعل مزور، وما أظن برجل مثل ابن ثوابة، وهو بمكانة من العلم، بحيث تلقى إليه مقاليد الخلافة، فيخاطب عنها بلسانه القاصي والداني، ويرتضيه العقلاء والوزراء، بحيث لا يرون له نظيراً في زمانه، في براعة لسانه، تولى كتابة الإنشاء السنين الكثيرة، أن يكون منه هذا كله، ولكن عسى أن يكون منه، ما كان من ابن عباد، وهو الذي ساق أبو حيان، خبر ابن ثوابة لأجله، وهو أن قال: كان ابن عباد يسب أصحاب الهندسة، ويقول: جاءني بعض هؤلاء الحمقى، ورغبني في الهندسة، فابتدأ فأثبت خمسة وعشرين، وخط خطاً، ووضع شكلاً، وطول، وزعم أنه يعمل برهاناً على ذلك، فقلت له: كنت أعرف أن هذا خمسة وعشرون ضرورة، وقد شككت الآن، فأنا مجتهد حتى أعلم بالاستدلال، وهذا هو الخسار، قلت: ومثل هذا لا يبعد أن يقول مثله، من لم يتدرب بهذه الصناعة، فأما ما تقدم من حديث ابن ثوابة، فهو غاية في التجلف، والرجل كان أجل من ذلك، وإنما أتي إما من جهة أحمد بن الطيب، لأنه كان فيلسوفاً، وكان ابن ثوابة متعجرفاً كما ذكرنا، فأخذ يسخر منه، ليضحك المعتضد، فإن أحمد بن الطيب، كان من جلساء المعتضد. وإما أن يكون أبو حيان، جرى على عادته، في وضع ما أكثر من وضعه من مثل ذلك، والله أعلم.
أحمد بن علي، بن المأمون، النحوي اللغوي

القاضي، صاحب الخط المليح، والعقل الصحيح. مات في التاسع عشر من شعبان، سنة ست وثمانين وخمسمائة، ومولده في ذي القعدة، سنة تسع وخمسمائة. سألت ولده أبا محمد، عبد الله بن أحمد عنه، فأعطاني جزءاً بخط والده هذا، وقد ضمنه ذكر نفسه، وذكر ولده، فنقلت منه جميع ما أذكره في هذه الترجمة، إلا ما أبينه، فقال: أنا أحمد بن علي، بن هبة الله، بن علي الزوال، " وأصله الزول، وإنما غيره المتكلمون، وزادوا ألفاً، والزول: الرجل الشجاع، وقد ذكر ذلك في كتاب الألفاظ لابن السكيت " ، بن محمد، بن يعقوب، بن الحسين، ابن عبد الله المأمون بالله، الخليفة، بن هارون الرشيد بالله الخليفة، بن محمد المهدي بالله الخليفة، بن عبد الله المنصور بالله الخليفة، بن محمد الكامل، بن علي السجاد، ابن عبد الله خير الأمة، بن العباس سيد العمومة، ابن عبد المطلب شيبة الحمد، بن هاشم عمرو العلا، ابن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، هو قريش بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، ابن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان، ابن أد، بن أدد، بن اليسع، بن الهميسع، بن سلامان، ابن ثبت، بن جميل، بن قيدار، بن إسماعيل، بن إبراهيم الخليل، بن آزر، بن تارح، بن ناحور، بن ساروغ، ابن أرغو، بن فالع، بن عابر، بن سالخ، ابن أرفخشذ، ابن سام، بن نوح، بن لمك، بن متوشلخ، بن أخنوخ، وهو إدريس بن ليارد، بن مهلائيل، بن قينان، بن أنوش، بن شيث، بن آدم، أبي البشر، فطرة الله عز وجل، ومولدي في ضحى نهار الثلاثاء، ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وخمسمائة، ولدت بدرب فيروز، في الدار المعروفة الآن، بورثة ابن الثقفي، القاضي عز الدين، قاضي القضاة، - رحمه الله - ، وكان والدي يومئذ، كاتب الزمام في الأيام المستظهرية، وبعد ذلك في الأيام المسترشدية مدة، وكنت مذ نشأت، ختمت القرآن، وقرأته للعشرة، على المرزقي - رحمه الله - ، الأمين أبي بكر، أنا وحجة الإسلام، أبو محمد، إسماعيل بن الجواليقي - وفقه الله - ، وكنا نترافق حين الحداثة في القراءة على الشيوخ، ويتكثر بعضنا ببعض، ونتعاضد في القراءة، وكتبت الخط على أبي سعيد الحسن بن منصور، أبي الحسن الجزري، - رحمه الله - ، وكان صالحاً أديباً، صائم الدهر، عالماً في فنون من العلم، فقيهاً، وكان والدي يؤثرني من دون إخوتي، لما يراه من اشتغالي بالعلم، فإنني منذ انفصلت من المكتب، رجعت بقراءة النحو واللغة، إلى شيخنا أوحد الزمان، أبي منصور بن الجواليقي، - رحمه الله - ، وصحبته إحدى عشرة سنة، وقرأت عليه كتباً كثيرة من حفظي، ويغر حفظي، حتى توليت القضاء، سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وكان الحكم والقضاء على دجيل، إلى والدي المقدم ذكره، مضافاً إلى الخطابة، فحين ولي أمر ديوان الزمام ببغداد، رد القضاء إلى ولده هبة الله، الملقب بتاج العلا، وكان يخاطب من الديوان العزيز - مجده الله - بالأجل الأوحد، زين الإسلام، نجم الكفاءة، تاج العلا، جمال الشرف، مجد القضاة، عين الكفاءة، وكان بعد ذلك أضيف إليه نظر دجيل أجمع، مع المخزنيات، وكان ذا سطوة وشجاعة، وثروة كبيرة، ومماليك من الأتراك، والإماء والعبيد، والقرايا والأملاك، والرياسة التامة، والصيت والذكر الجميل، بين العرب والعجم، وكان له معروف كبير، ودار مضيف بحربي، يجتمع إليها أمراء العرب على طبقاتهم، وغيرهم من الغرباء، وكان له نواب في القضاء بحربي، والحظيرة، وغيرهما، وكانت ولايته من قاضي القضاة الدامغاني، إلى أن درج بالموصل مسموماً مخافة منه، لما شوهد من رياسته، وتبع العرب والتركمان له، وحمل السلاح، والجند الكثير، والاستطالة العظيمة، وأنفذ ميتاً في ستارة حتى دفن بحربي، في أواخر سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وانحدر ولده علي بن هبة الله، بن علي، طالباً مكانه ببذل المال الجم، وكان وزير الزمان يومئذ، شرف الدين علي بن طراد الزينبي، في أوائل الأيام المقتفوية، فترك مع بذله، ووليت بعد أن أحضرت، وقيل لي: قد رسم توليك من غير قربة، لتميزك بالعلم، وكان لي من العمر يومئذ، أربع وعشرون سنة، واعتزى ابن أخي بعد ذلك، إلى ديوان السلطنة، وخاطب الديوان العزيز في ذلك فلم يجب، ودخل في النوبة جماعة من الأهل والأكابر من ولاة الأمر، فتوسط الحال على أن يكون لولده مجلس وساطة، وحكم

بحربي في المداينات، وما عداها إلي مع الخطابة، ولذلك نصر يقين، فكتبت رسالة إلى المواقف المقدسة النبوية المقتفوية، - قدسها الله - . في المداينات، وما عداها إلي مع الخطابة، ولذلك نصر يقين، فكتبت رسالة إلى المواقف المقدسة النبوية المقتفوية، - قدسها الله - .
ومنها: ومعاذ الله أن يقارن هذا الفتى بالعبد، ولا يعرف فتيلاً من وثير، ولا يؤلف بين كلمتين في تعبير، لوسيم قراءة الفاتحة أخجلته، أو ريم منه التماس حاجة في التطهر أحفزته، وعد عن أسباب لا يمكن بسطها، ولا يروق خطها، وأما العبد فطرائقه معلومة، ومآخذه مفهومة، ومحل الشيء عنده قابل، والجمهور إليه مائل، وسحاب الاستحقاق لما أهل له في أرضه هاطل، ومعاذ الله أن يتغير من كريم الآراء الشريفة في حقه رأي، أو ينفصم من تلك الوعود فيما أهل له وأي، والوعود كالعهود، ومواقع الكلم الشريفة كالتربق في الجلمود، وهو واثق من الإنعام، بما سار بين الأنام، ليغدو مستحكم الثقة بالإكرام، والأمر أعلى والسلام.
فبرز التوقيع الأشرف المقتفوي، يؤمر فيه بالعمل بسابق التوقيع، وخرجت إلى العمل، وبقيت مدة، فتولي القضاء لمدينة السلام، وفاء بن المرخم، وكان على حالة جليلة من الاختصاص، واستخدام قضاة الأطراف من جانبه، فأبيت ذلك،وخاطبت في الخروج عن يده، وإضافة باقي دجيل، مع ما والاه وقاربه، من لدن تكريت إلى الأنبار، وإلى الجبل وما والاه، من بلد خانقين، وروشن قبادوا، إلى الحربية من الجانب الغربي ببغداد، وكنت أحكم في ذلك أجمع، حتى ولي المستنجد بالله، - رضي الله عنه - ، وقصر القضاة وغيرهم، وأنا في الجملة، وبقيت إحدى عشرة سنة مقصوراً، إلى أن توفي إلى رحمة الله، بعد أن استوعب ما كنت أملكه سائره، فلم أضيع من زماني شيئاً، وكنت في الحبس بمائتي مجلدة، منها، الجمهرة لأبي بكر بن دريد، مجلدتان. وشرح سيويه، ثلاث مجلدات. وإصلاح المنطق، محشي مجلدة واحدة. والغريبان للهروي، مجلدة واحدة. وأشعار الهذليين ثلاث مجلدات. وشعر المتنبي مجلدة. وغريب الحديث لأبي عبيد، مجلدتان. وأشياء يطول شرحها من الكتب الكبار، وحفظت أولادي الختمة، وأيضاً حفظتهم كتباً كثيرة في علم العربية والتفاسير، وغريب القرآن، والخطب والأشعار، وشرحت لهم كتاب الفصيح، وجمعت لهم كتاباً سميته أسرار الحروف، يبين فيه مخارجها ومواقعها من الزوائد، والمنقلب، والمبدل، والمتشابه، والمضاعف، وتصريفها في المعاني الموجودة فيها، والمعاني الداخلة عليها، وذكرت فيه من اشتقاق الأسماء، كل ما تكلمت به علماء البصريين، والكوفيين، وغيرهم من أهل اللغة، وهو مجلدة ضخمة، تحتوي على عشرين كراسة، في كل وجهة عشرون سطراً.
ولما درج الإمام المستنجد بالله، وأتاح الله الخروج من ذلك الضيق، وولي بعده الإمام العادل الرحيم، المستضئ بالله أمير المؤمنين، وشملت رحمته من كان في السجن من الأمة، حتى لم يبق فيه أحداً إلا أفرج عنه، ومن وجد له بخزانته المعمورة من ماله شيئاً عليه اسمه، أعاده عليه، وكل من كان في ولاية، أعاده إليها، ومن وجد من ملكه شيئاً تحت الاعتراض، أفرج عنه، وأعاده إليه، وأنا ممن أنعم في حقه، بإعادة خرقة كان ختمها باقياً عليها، واسمي فيها ثلاثمائة دينار إمامية صحاح، من جملة ما أخذ من مالي، فأعادها علي، وأعاد علي سهاماً في ثلث قراي بالرذان، وقراحاً ببلدة الحظيرة، وما كان فات وبيع لم يرجع، وأنعم في حقي بإعادة ولايتي علي، وتقريبي واستخدامي في مهام عدة، وكان الوسيط في ذلك كله، الوزير عضد الدولة، أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وكان محباً لإسداء العوارف والاصطناع، وجذب الباع، وإدخال المكارم عند الرجال، وكان كريماً رحب الفناء لأرباب الحوائج، بعيداً ما ينفصل من بابه محروم.
هذا آخر ما نقلته من خطه، واجتمعت بولده قوام الدين، أبي محمد عبد الله، بن أحمد، وقد أفردت له ترجمة في هذا الكتاب، فأنشدني لوالده من حفظه:
فراد المشوق كثير العنا ... ومن كتم الوجد أبدى الضنا
وكم مدنف في الهوى بعدهم ... وكانوا الأماني له والمنا
لقد خلفوه أخا لوعة ... موله شوق يعاني العنا
ينادي من الشوق في إثرهم ... إذا آده ما به قد منا

بيا جسداً ناحلاً بالعراق ... مقيماً وقلباً بوادي منى
تحرقه زفرات الحني ... ن ويغدو بهن الشجا ديدنا
وهي طويلة، قالها في زعيم الدين بن جعفر، عند عوده من مكة،
أحمد بن أبي عمر، المقرئ، المعروف بأحمد الزاهدأبو عبد الله الأندرابي، مات في العشرين من ربيع الأول، سنة سبعين وأربعمائة، ذكره عبد الغافر، وقال: شيخ زاهد عابد، عالم بالقراءات، له التصانيف الحسنة في علم القراءات، سمع الحديث، وأكثر سماعه مع السيد أبي المعالي، جعفر بن حيدر العلوي، الهروي الصوفي، وكان رفيقه، سمعا صحيح مسلم وغيره، وروى عن محمد بن يحيى ابن الحسن الحافظ. روى عنه أبو الحسن الحافظ.
أحمد بن محمد، بن بشر، بن سعد المرثدي، أبو العباسذكره الطيب فقال: كنيته أبو علي، ومات في صفر: سنة ست وثمانين ومائتين، وذكر ابن بنت الغرياني أنه مات في سنة أربع وثمانين، وسمع علي ابن الجعد، والهيثم بن خارجة في آخرين، وروى عنه أبو بكر الشافعي وغيره، وكان عبد الرحمن بن يوسف يثني عليه، وقال ابن المنادي: هو أحد الثقات، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: كنيته أبو العباس الكبير، وهو الذي كان ابن الرومي يكاتبه في السمك كان المرثدي يكتب للموفق في خاصة أمره، وله من الكتب: كتاب الأنواء في نهاية الحسن، كتاب رسائله، كتاب أشعار قريش، وعليه عول أبو بكر الصولي في كتاب الأوراق، وله انتحل، وقد ذكرت ذلك في أخبار الصولي.
أحمد بن محمد، بن عاصم، أبو سهل الحلوانيذكره محمد بن إسحاق النديم، وقال: بينه وبين أبي سعيد السكري نسب قريب، فروى عن أبي سعيد كتبه، وكان كثيراً ما توجد بخطه، وخطه في نهاية القبح، إلا أنه من العلماء، وله من الكتب: كتاب المجانين الأدباء.
أحمد بن محمد، بن بنت الشافعيهو صحيح الخط، متقن الضبط، من أهل الأدب، يعتمد على خطه وضبطه، لا أعرف من خطه إلا ما رأيته بخطه، بكتاب تفسير القرآن، لابن جرير الطبري، وقد ذكر عند خاتمته " وكتبه أحمد بن محمد، بن بنت الشافعي، وراق الجهشياري " .
أحمد بن محمد، بن سليمان، بن بشار، الكاتبذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أستاذ أبي عبد الله الكوفي الوزير، وكان أحد الأفاضل من الكتاب بلاغة، وفصاحة، وصناعة، وله كتاب الخراج نحو ألف ورقة، وكتاب الشراب والمنادمة.
أحمد بن محمد، المهلبي أبو العباسكذا ذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه، وقال: هو مقيم بمصر ويعرف بالبرجاني وله من الكتب: كتاب شرح علل النحو، كتاب المختصر في النحو، وكان بمصر نحوي يعرف بالمهلبي، اسمه علي بن أحمد، وكان في هذا العصر. فإن كان هذا، فقد وهم النديم في اسمه، وإلا فهو غيره، والله أعلم، وقد كتبنا لذلك ترجمة في بابه.
أحمد بن محمد، بن نصرالجيهاني أبو عبد الله، وزير نصر بن أحمد، بن نصر الساماني، صاحب خراسان، كان أديباً فاضلاً، ذكره محمد بن إسحاق النديم، وقال: له من الكتب كتاب آئين، كتاب العهود والخلفاء والأمراء، كتاب المسالك والممالك، كتاب الزيادات في كتاب الناشئ من المقالات، ولأحمد بن أبي بكر الكاتب، يهجو أبا عبد الله الجيهاني:
أيا رب فرعون لما طغى ... وتاه وأبطره ما ملك
لطفت وأنت اللطيف الخبير ... فأقحمته اليم حتى هلك
فما بال هذا الذي لا أرا ... ه يسلك إلا الذي قد سلك
مصوناً على نائبات الدهو ... ر يدور بما يشتهيه الفلك
ألست على أخذه قادراً ... فخذه وقد خصل الملك لك
فقد قرب الأمر من أن يقا ... ل ذا الأمر بينهما مشترك
وإلا فلم صار يملي له ... وقد لج في غيه وانهمك
ولن يصفو الملك مادام ه ... ذا شريكاً وهل ثم شك
ذكر هذه الأبيات أبو الحسن، محمد بن سليمان، ابن محمد في كتاب فريد التاريخ، في أخبار خراسان، وقال فيه بعضهم يهجوه، قال: وأظنه اللحام:
لا لسان لا رواء ... لا بيان لا عبارهْ
لا ولا رد سلام ... منك إلا بالإشارهْ
أنا أهواك ولكن ... أين آثار الوزارهْ

قال: ثم مات السديد، منصور بن نوح، وقام مقامه الرضي أبو القاسم، نوح بن منصور، والجيهاني على وزارته، ثم صرفت عنه الوزارة في شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وثلاثمائة، ووليها أبو الحسين عبد الله بن أحمد العتبي.
أحمد بن محمد، بن يزداد، بن رستمأبو جعفر النحوي الطبري، سكن بغداد، قال الخطيب: وحدث بها عن نصير بن يوسف، وهاشم بن عبد العزيز، صاحبي علي بن حمزة الكسائي، روى بإسناده قال: قال عبد الله بن مسعود: إني قد سمعت القراء، فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم، فإنما هو كقول أحدكم هلم، وتعال. قال عمر بن محمد، بن سيف الكاتب: سمعت من ابن رستم، في سنة أربع وثلاثمائة. قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب: كتاب غريب القرآن، كتاب المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب صورة الهمز، كتاب التصريف، كتاب النحو، وقرأت في كتاب الغاية، لأبي بكر بن مهران النيسابوري في القراءات: قرأت على أبي عيسى، بكار بن أحمد المقرئ قال: قرأت على أبي جعفر، أحمد بن محمد، بن رستم الطراني، وكان مؤدباً في دار الوزير بن الفرات، ووصلنا إليه بالحيل والشفعاء، وكان بصيراً بالعربية، حاذقاً في النحو، أخذ القراءات عن نصير بن يوسف، أبي المنذر النحوي، صاحب الكسائي، وأخذ نصير عن الكسائي.
أحمد بن محمد، بن عبد الله، بن صالحابن شيخ بن عمير، أبو الحسن، أحد أصحاب أبي العباس ثعلب، ذكره المرزباني في كتاب المقتبس، وقال ابن بشران في تاريخه: في سنة عشرين وثلاثمائة، مات أبو بكر بن أبي شيخ ببغداد، وكان محدثاً أخبارياً، وله مصنفات، ولا أدري أهو هذا، أم غيره؟ فإن الزمان واحد، وكلاهما أخباري، والله أعلم، ولعل ابن بشران غلط في جعله ابن أبي شيخ، أو جعله أبا بكر، والله أعلم.
حدث المرزباني، عن عبد الله بن يحيى العسكري، قال: أنشدني أبو الحسن، أحمد بن محمد، بن صالح، بن شيخ ابن عمير الأسدي لنفسه، وكتب بها إلى بعض إخوانه:
كنت يا سيدي على التطفيل ... أمس لولا مخافة التثقيل
وتذكرت دهشة القارع البا ... ب إذا ما أتى بغير رسول
وتخوفت أن أكون على القو ... م ثقيلاً فقدت كل ثقيل
لو تراني وقد وقفت أروي ... في دخول إليك أو في قفول
لرأيت العذراء حين تحايا ... وهي من شهوة على التعجيل
وحدث عن عمر بن بنان النماطي، عن أبي الحسن الأسدي قال: تركت النبيذ، وأخبرت أبا العباس ثعلباً بتركي إياه، ثم لقيت محمد بن عبد الله، بن طاهر، فسقاني فمررت على ثعلب، وهو جالس على باب منزله عشياً، فلما رآني أتكفأ في مشيتي، علم أني شارب، فقام ليدخل إلى منزله، ثم وقف على بابه، فلما حاذيته وسلمت عليه، أنشأ يقول:
فتكت من بعد ما نسكت وصا ... حبت ابن سهلان صاحب القسط
إن كنت أحدثت زلة غلطاً ... فالله يعفو عن زلة الغلط
قال عمر: فسألت ثعلباً عن ابن سهلان صاحب القسط، فقال: أهل الطائف يسمون الخمار صاحب القسط.
وحدث عن الصولي قال: انشدني أبو الحسن، أحمد بن محمد الأنباري لنفسه، في قصيدته المزدوجة، التي تمم بها قصيدة علي بن الجهم، التي ذكر فيها الخلفاء إلى زمانه:
ثم تولى المستعين بعده ... فحاز بيت ماله وجنده
ثم أتى بغداد في محرم ... إحدى وخمسين برأي مبرم
وذكر قطعة من أخباره، ثم قال:
وثبتت خلافة المعتز ... ولم يشب أمروه بعجز
وذكر طرفاً من أموره، ثم قال:
وقلدوا محمد بن الواثق ... في رجب من غير أمر عائق
وقال أيضاً:
المهتدي بالله دون الناس ... جاء به الرحمن بعد الياس
ثم قال بعد أبيات:
وقام بالأمر الإمام المعتمد ... إمام صدق في صلاح مجتهد
وساق قطعة من سيرته.
أحمد بن محمد، جراب الدولة

هو أحمد بن محمد، بن علويهْ، من أهل سجستان، ويكنى أبا العباس، وكان طنبورياً أحد الظرفاء الطياب، كان في أيام المقتدر، وأدرك دولة بني بويه، فلذلك سمى نفسه بجراب الدولة، لأنهم كانوا يفتخرون بالتسمية في الدولة، وكان يلقب بالريح أيضاً، وله: كتاب ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح، لم يصنف في فنه مثله اشتمالاً على فنون الهزل والمضاحك.
أحمد بن محمد، بن إسحاق،
بن إبراهيم، الهمذاني أبو عبد الله، يعرف بابن الفقيه، أحد أهل الأدب، ذكره محمد بن إسحاق في كتابه، الذي ألفه في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة قال: وله كتاب البلدان نحو ألف ورقة، أخذه من كتب الناس، وسلخ كتاب الجيهاني، وكتاب ذكر الشعراء المحدثين، والبلغاء منهم والمفحمين.
وقال شيرويه: محمد بن إسحاق، بن إبراهيم، الفقيه أبو أحمد، والد أبي عبيد الأخباري، روى عن إبراهيم بن حميد البصري وغيره، وروى عنه ابنه أبو عبد الله، وقال شيرويه: أحمد بن أحمد، بن محمد، بن إسحاق، بن إبراهيم الأخباري، أبو عبد الله، يعرف بابن الفقيه، ويلقب بحالان، صاحب كتاب البلدان، روى عن أبيه، وإبراهيم بن الحسين، بن ديزيل، ومحمد بن أيوب الرازي، وأبي عبد الله الحسين، بن أبي السرح الأخباري، وذكر جماعة قال: وروى عنه أبو بكر بن بلال، وأبو بكر بن روزنة، ولم يذكر وفاته.
أحمد بن محمد، بن الوليد،
بن محمد، يعرف بولاد من أهل بيت علم، ولأبيه وجده ذكر في هذا الكتاب، وتراجم في مواضعها، وكنية أحمد هذا، أبو العباس. مات فيما ذكره الزبيدي في كتابه سنة اثنتين وثلاثمائة، قال: وكان بصيراً بالنحو، ساداً فيه، ورحل إلى بغداد من موطنه مصر، ولقي إبراهيم الزجاج وغيره، وكان الزجاج يفضله، ويقدمه على أبي جعفر النحاس، وكانا جميعاً تلميذيه، وكان الزجاج لايزال يثني عليه عند كل من قدم إلى بغداد من مصر، ويقول لهم: لي عندكم تلميذ من حاله وصفته كذا، فيقال له: أبو جعفر النحاس، فيقول: بل أبو العباس بن ولاد. قال: وجمع بعض ملوك مصر بين ابن ولاد، وابن النحاس، وأمرهما بالمناظرة، فقال ابن النحاس لابن ولاد: كيف تبني مثال أفعلوت من رميت، فقال ابن ولاد: أقول ارمييت، فخطأه أبو جعفر، وقال: ليس في كلام العرب افعلوت، ولا افعليت، فقال أبو العباس: إنما سألتني أن أمثل لك بناء ففعلت، وإنما تعقله أبو جعفر بذلك.
قال الزبيدي: ولقد أحسن في قياسه، حين قلب الواو ياء، وقد كان أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: يبني من الأمثلة، ما لا مثال له في كلام العرب، وله كتاب المقصور والممدود، وكتاب الانتصار لسيبويه، فيما ذكره المبرد.
أحمد بن محمد، البشتي الخارزنجيقال السمعاني: خارزنج قرية بنواحي نيسابور، بناحية بشت، والمشهور من هذه القرية: أبو حامد، أحمد بن محمد الخارزنجي، إمام أهل الأدب بخراسان في عصره بلا مدافعة، فإن فضلاء عصره شهدوا له، لما حج بعد الثلاثين وثلاثمائة، وشهد له أبو عمر الزاهد، صاحب ثعلب، ومشايخ العراق بالتقدم، وكتابه المعروف بالتكملة، البرهان في تقدمه وفضله، ولما دخل بغداد، تعجب أهلها من تقدمه في معرفة اللغة، فقيل: هذا الخراساني لم يدخل البادية قط، وهو من آدب الناس، فقال: أنا بين عربين: بشت، وطوس. سمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي، وحدث، سمع منه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، ومات في رجب سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وهذا كله نقله السمعاني من كتاب الحاكم أبي عبد الله.

قال الأزهري: وممن ألف وجمع من الخراسانيين في زماننا هذا فصحف، وأكثر فغير، رجلان: أحدهما يسمى أحمد بن محمد البشتي، ويعرف بالخارزنجي، والآخر أبو الأزهر البخاري، فأما الخارزنجي، فإنه ألف كتاباً سماه التكملة، أراد أنه كمل كتاب العين، المنسوب إلى الخليل بن أ؛مد بكتابه، وأما البخاري: فإنه سمى كتابه الحصائل، فأعاره هذا الاسم، لأنه أراد تحصيل ما أغفله الخليل، ونظرت في أول كتاب البشتي، فرأيته أثبت في صدره الكتب المؤلفة، التي استخرج كتابه منها، وعدد كتباً. قال الخارزنجي: استخرجت ما وضعت في كتابي هذا من الكتب المذكورة. قال: ولعل بعض الناس يبتغي العيب بتهجينه والقدح فيه، لأني أسندت ما فيه إلى هؤلاء العلماء من غير سماع، وإنما إخباري عن صحفهم، كإخباري عنهم، ولا يزرى ذلك على من عرف الغث من السمين، وميز بين الصحيح والسقيم، وقد فعل مثل ذلك أبو تراب، صاحب كتاب الاعتقاب، فإنه روى عن الخليل بن أحمد، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي، وبينه وبين هؤلاء فترة، وكذلك العتبي روى عن سيبويه، والأصمعي، وأبي عمرو، وهو لم ير منهم أحداً، قال المؤلف: ورد عليه الأزهري في هذا الفصل، بما يطول على كتبه، وله من الكتب: كتاب التكملة، كتاب التفصلة، كتاب تفسير أبيات أدب الكاتب.
أحمد بن محمد، بن إسحاق، بن أبي خميصةيعرف بالحرمي بن أبي العلاء، أبو عبد الله، من أهل مكة، سكن بغداد، ذكره الخطيب فقال: مات سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان كاتب أبي عمر محمد بن يوسف القاضي، وحدث عن الزبير بكتاب النسب وغيره. وحدث عنه أبو حفص بن شاهين، وأبو عمر بن حيوية، وأكثر عنه أبو الفرج، علي بن الحسين الأصبهاني وغيره.
أحمد بن محمد، بن موسى، بن العباس، أبو محمدذكره ابن الجوزي في المنتظم، وقال: كان معتنياً بأمر الأخبار، وطلب التواريخ، وولي حسبة سوق الرقيق، وكتب عنه، ومات في محرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد، بن عبد الله الزردياللغوي، العلامة النيسابوري، أبو عمر الزردي، من قرى إسفرايين، من رساتيق نيسابور، ذكره الحاكم، وقال: مات أبو عمرو الزردي في شعبان، سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، قال: وكان واحداً في هذه الديار في عصره، بلاغة وبراعة، وتقدماً في معرفة أصول الأدب، وكان رجلاً ضعيف البنية مسقاماً، يركب حماراً ضعيفاً، ثم إذ تكلم، تحير العلماء في براعته، سمع الحديث الكثير من أبي عبد الله محمد ابن المسيب الأرغياني، وأبي عوانة يعقوب بن إسحاق، وأقرانهما.
قال الحاكم: سمعت الأستاذ أبا عمرو الزردي في منزلنا يقول: إن الله إذا فوض سياسة خلقه، إلى واحد يخصه لها منهم، وفقه لسداد السيرة، وأعانه بإلهامه، من حيث رحمته تسع كل شيء، ولمثل ذلك، كان يقول ابن المقفع: تفقدوا كلام ملوككم، إذ هم موفقون للحكمة، ميسرون للإجابة، فإن لم تحظ به عقولكم في الحال، فإن تحت كلامهم حيات فواغر، وبدائع جواهر، وكان بعضهم يقول: ليس لكلام سبيل أولى من قبول ذلك، فإن ألسنتهم ميازيب الحكمة والإصابة. قال: وسمعت أبا عمر الزردي يقول: العلم علمان: علم مسموع، وعلم ممنوح.
أحمد بن محمد، بن عبد ربه

بن حبيب، بن حدير ابن سالم، مولى هشام بن عبد الرحمن، بن معاوية، ابن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، كنيته أبو عمر، ذكره الحميدي، وقال: إنه مات في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة ست وأربعين ومائتين. عن إحدى وثمانين سنة، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وهو من أهل بلاد الأندلس، قال الحميدي: وأبو عمر من أهل العلم، والأدب، والشعر، وهو صاحب كتاب العقد في الأخبار، مقسم على عدة فنون، وسمى كل باب منه على نظم العقد، كالواسطة، والزبرجدة، والياقوتة، والزمردة، وما أشبه ذلك، وبلغني أن الصاحب بن عباد، سمع بكتاب العقد، فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله، قال: " هذه بضاعتها ردت إلينا " ، ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا،لا حاجة لنا فيه، فرده. قال الحميدي: وشعره كثير مجموع، رأيت منه نيفاً وعشرين جزءاً، من جملة ما جمع للحكم بن عبد الله الملقب بالناصر الأموي سلطان العرب، وبعضها بخطه. قال: وكانت لأبي عمر بالعلم جلالة، وبالأدب رياسة وشهرة، مع ديانته وصيانته، واتفقت له أيام وولايات للعلم، فيها نفاق، فتسود بعد المول، وأثرى بعد فقر، وأشير بالتفضيل إليه، إلا أنه غلب عليه الشعر، ومن شعره وكان بعض من تألفه قد أزمع لعى الرحيل في غداة عينها، فأتت السماء في تلك الغداة بمطر جود، منعته من الرحيل، فكتب إليه أبو عمر ابن عبد ربه:
هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر
مازلت أبكي حذار البين ملتهفاً ... حتى رثا لي فيك الريح والمطر
يا برده من حيا مزن على كبد ... نيرانها بغليل الشوق تستعر
آليت ألا أرى شمساً ولا قمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر
ومن شعره السائر:
الجسم في بلد والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبك عيناك لي يا من كلفت به ... من رحمة فهما سهمان في كبد
قال: ووقف ابن عبد ربه تحت روشن لبعض الرؤساء، قد رش بماء وكان فيه غناء حسن، ولم يعرف لمن هو؟ فقال:
يا من يضن بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا البخل في أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
فلا تضن على سمعي تقلده ... صوتاً يجول مجال الروح في الجسد
لو كان زرياب حيا ثم أسمعه ... لذاب من حسد أو مات من كمد
أما النبيذ: فإني لست أشربه ... ولست آتيك إلا كسرتي بيدي
وزرياب عندهم، يجري مجرى إسحاق بن إبراهيم الموصلي في صنعة الغناء ومعرفته، وله أصوات مدونة، ألفت الكتب فيها، وضربت به الأمثال. قال: ولأبي عمر أيضاً أشعار كثيرة، سماها الممحصات، وذلك أنه نقض كل قطعة قالها في الصبا والغزل، بقطعة في المواعظ والزهد، وأرى أن من ذلك قوله:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب
وكم أسخنت بالأمس عيناً قريرة ... وقرت عيون دمعها الآن ساكب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب
ومن شعره، وهو آخر شعر قاله فيما قيل:
بليت وأبلتني الليالي بكرها ... وصرفان للأيام معتوران
ومالي لا أبكي لسبعين حجة ... وعشر أتت من بعدها سنتان

وقد أجاز لي رواية كتابه الموسوم بالعقد، الحافظ ذو النسبين، بني دحية والحسين، أبو الخطاب عمر بن الحسين، المعروف بابن دحية المغربي السبتي، فإنه رواه عن شيخه أبي محمد عبد الحق، بن عبد الملك، بن ثوبة العبدي، عن شيخه أبي عبد الله، محمد بن معمر، عن شيخه أبي بكر، محمد بن هشام المصحفي عن أبيه، عن زكريا بن بكير، بن الأشبح، عن المصنف. وقسم كتاب العقد على خمسة وعشرين كتاباً، كل كتاب منها جزءان، فذلك خمسون جزءاً في خمسة وعشرين كتاباً، كل كتاب باسم جوهرة من جواهر العقد، فأولها: كتاب اللؤلؤة في السلطان، ثم كتاب الفريدة في الحروب، ثم كتاب الزبرجدة في الأجواد، ثم كتاب الجمانة في الوفود، ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك، ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب، ثم كتاب الجوهرة في الأمثال، ثم كتاب الزمردة في المواعظ، ثم كتاب الدرة في التعازي والمراثي، ثم كتاب اليتيمة في الأنساب، ثم كتاب العسجدة في كلام الأعراب، ثم كتاب المجنبة في الأجوبة، ثم كتاب الواسطة في الخطب، ثم كتاب المجنبة الثانية، في التوقيعات، والفصول، والصدور، وأخبار الكتبة، ثم كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وأيامهم، ثم اليتيمة الثانية في أخبار زياد، والحجاج، والطالبيين، والبرامكة، ثم الدرة الثانية في أيام العرب ووقائقعهم، ثم الزمردة الثانية في فضائل الشعر، ومقاطعه ومخارجه، ثم الجوهرة الثانية في أعرايض الشعر، وعلل القوافي، ثم الياقوة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه، ثم المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن، ثم الجمانة الثانية في المتنبئين زالممرورين، والطفيليين، ثم الزبرجدة الثانية في التحف، والهدايا، والنتف، والفاكهات والملح، ثم الفريدة الثانية في الهيئات والبنائين، والطعام والشراب، ثم اللؤلؤة الثانية في طبائع الإنسان، وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، وهو آخر الكتاب: ومن شعر ابن عبد ربه:
ودعتني بزورة واعتناق ... ثم نادت متى يكوت التلاقي
وبدت لي فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أقطع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق
ومن شعره أيضاً:
يا ذا الذي خط الجمال بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا
ما صح عندي أن لحظك صارم ... حتى لبست بعارضيك حمائلا
قال: أخبرني بعض العلية: أن الخطيب أبا الوليد ابن عسال، حج، فلما انصرف، تطلع إلى لقاء المتنبئ واستشرف، ورأى أن لقيته فائدة يكتسبها، وحلة فخر لا يحتسبها، فصار إليه، فوجده في مسجد عمرو بن العاص، ففاوضه قليلاً ثم قال: ألا أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربه فأنشده:
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع لاقلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... ورداً يعود من الجناء عقيقا
وإذا نظت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطع خصره من ردفه ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا
فلما أكمل إنشاده، استعادها منه، ثم صفق بيديه. وقال: يا ابن عبد ربه، لقد يأتيك العراق حبواً. ثم إن ابن عبد ربه، أقلع في آخر عمره عن صبوته، وأخلص لله في توبته، فاعتبر أشعاره التي قالها في الغزل واللهو، وعمل على أعاريضها وقوافيها في الزهد، وسماها الممحصات، فمنها القطعة التي أولها: هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر محصها بقوله:
يا قادراً ليس يعفو حين يقتدر ... ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر؟
عاين بقلبك إن العين غافلة ... عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت ... للظالمين فما تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة ... لكان فيه عن اللذات مزدجر
أنت المقول له ما قلت مبتدئاً ... هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر
أحمد بن محمد، بن إسماعيل النحاس

أبو جعفر من أهل مصر، رحل إلى بغداد، فأخذ عن المبرد، والأخفش علي بن سليمان، ونفطويه، والزجاج، وغيرهم. ثم عاد إلى مصر فأقام بها إلى أن مات بها، فيما ذكره أبو بكر الزبيدي في كتابه، في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
وأبو جعفر هذا: صاحب الفضل الشائع والعلم المتعارف الذائع، يستغني بشهرته، عن الإطناب في صفته.
قال الزبيدي: ولم يكن له مشاهدة، فإذا خلا بعلمه جود وأحسن، وكان لا ينكر أن يسأل أهل النظر والفقه، ويفاتشهم عما أشكل عليه في تصانيفه. قال الزبيدي: فحدثني قاضي القضاة بالأندلس، وهو المنذر بن سعيد البلوطي قال: أتيت ابن النحاس في مجلسه بمصر، فألفيته يملي في أخبار الشعراء شعر قيس بن معاذ المجنون، حيث يقول:
خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها؟
قد اسلمها الباكون إلا جمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها
تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنيها من الأرض لينها
فقلت: يا ابا جعفر، ماذا - أعزك الله - باتا يصنعان؟ فقال لي: وكيف تقوله أنت يا أندلسي؟ فقلت: بانت وبان قرينها، فسكت، ومازال يستثقلني بعد ذلك، حتى منعني كتاب العين، وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته، فلما قطع بي، قيل انتسخ من أبي العباس ابن ولاد، فقصدته، فلقيت رجلاً كامل العلم، حسن المروءة، وسألته الكتاب فأخرجه غلي، ثم تندم أبو جعفر لما بلغه إباحة ابن العباس الكتاب لي، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه.
قال: وكان أبو جعفر لئيم النفس، شديد التقتير على نفسه، وكان ربما وهبت له العمامة، فقطعها ثلاث عمائم، وكان يأبى شرى حوائجه بنفسه، ويتحامل فيها على أهل معرفته، وصنف كتباً حساناً مفيدة، منها كتاب الأنوار، كتاب الاشتقاق لأسماء الله عز وجل، كتاب معاني القرآن، كتاب اختلاف الكوفيين والبصريين سماه " المقنع " ، كتاب أخبار الشعراء، كتاب أدب الكتاب، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب الكافي في النحو، كتاب صناعة الكتاب، كتاب إعراب القرآن، كتاب شرح السبع الطوال، كتاب شرح أبيات سيبويه، كتاب الاشتقاق، كتاب معاني الشعر، كتاب التفاحة في النحو، كتاب أدب الملوك.
وسمعت من يحكي: أن تصانيفه تزيد على الخمسين مصنفاً، وقد ذكر أبو عبد الله الحميدي: القاضي المذكور في قصة ابن النحاس، وقال: هو أبو الحكم، المنذر ابن سعيد، يعرف بالبلوطي، ينسب إلى موضع هناك قريب من قرطبة، يقال له فحص البلوط، ولي قضاء الجماعة بقرطبة، في حياة الحكم المستنصر، وذكر له قصة استحسنتها فأثبتها ههنا، إذ لم أجعل له ترجمة، لأنه لم يذكره بالتصنيف في الأدب، فقال: كان الحكم المستنصر مشغوفاً بأبي علي القالي، ييؤهله لكل مهمة في بابه، فلما ورد رسول ملك الروم، أمره عند دخول الرسول إلى الحضرة أن يقوم خطيباً، بما كانت العادة جارية به، فلما كان في ذلك الوقت، وشاهد أبو علي الجمع، وعاين الحفل، جبن ولم تحمله رجلاه، ولا ساعده لسانه، ففطن له أبو الحكم، منذر بن سعيد القاضي، فوثب وقام مقامه، وارتجل خطبة بليغة على غير أهبة، وأنشد لنفسه في آخرها:
هذا المقال الذي ما عابه فند ... لكن صاحبه أزرى به البلد
لو كنت فيهم غريباً كنت مطرفاً ... لكنني منهم فاغتالني النكد
لولا الخلافة أبقى الله بهجتها ... ما كنت أبقى بأرض ما بها أحد
واتفق الجمع على استحسانه، وجمال استدراكه، وصلب العلج وقال: هذا كبش رجال الدولة، ثم ذكر قصته مع ابن النحاس بعينها.
أحمد بن محمد بن حمادة أبو الحسن الكاتبحسن الأدب، من أفاضل الكتاب، صنف الكتب ولقي الأدباء، وله كتاب امتحان الكتاب، وديوان ذوي الألباب، كتاب شحذ الفطنة، كتاب الرسائل، ذكر ذلك محمد بن إسحاق.
أحمد بن محمد، بن عبد الله، بن هارونأبو الحسين، أظنه من عسكر مكرم، لأنه اعتنى بشرح مختصر محمد بن علي، بن غسماعيل المبرمان، ثم قرأت في بعض المجموعات:

تقدم رجلان إلى القاضي أبي أحمد بن أبي علان، - رحمه الله - ، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، فقال المدعي عليه: ماله عندي حق، فقال القاضي: من هذا؟ فقالوا: ابن هارون النحوي العسكري، فقال القاضي: فاعطه ما أقررت له به. له شرح كتاب التلقين، رأيته وسماه البارع، وكتاب شرح العيون، وكتاب شرح المجاري، رأيت كتاب شرح التلقين بخطه، وقد كتبه في رجب، سنة تسع وستين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد، بن ميمونبن أحمد، بن نصر، بن ميمون ابن مروان بن الأسلمي، الكفيف النحوي أبو عمرو، قال ابن الفرضي: هو من أهل قرطبة، ويقال له اشكابة. سمع من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن محمد الخشني وغيرهما، وكان صالحاً عفيفاً، أدب عند الرؤساء والجلة من الملوك، ومات لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، سنة تسعين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد،العروضيبن أحمد أبو الحسن، العروضي معلم أولاد الراضي بالله، وجدت على كتابه في العروض بخطه، وقد قرئ عليه في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. وكان إماماً في علم العروض، حتى قال ابو علي الفارسي في بعض كتبه، وقد احتاج إلى الاستشهاد ببيت قد تكلم عليه في التقطيع: " وقد كفانا أبو الحسن العروضي الكلام في هذا الباب " ولقي أبو الحسن ثعلباً وأخذ عنه، وروى أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني: نقلت من كتاب ألفه أبو القاسم عبيد الله بن جرو الأسدي في العروض، وكان الكتاب بخط أبي الحسن السمسماني يقول فيه: وكان أبو الحسن علي بن أحمد العروضي، عمل كتاباً كبيراً، وحشاه بما قد ذكر أكثره، ونقل كلام أبي إسحاق الزجاج، وزاد فيه شيئاً قليلاً، وضم إليه باباً في علم القوافي، وذاك علم مفرد مثل علم العروض، وفيه مسائل لطيفة، واختلاف كثير، يحتاج إلى كشف واستقصاء نظر، ولم أره كبير عمل، ولو نسخ كتاب أبي الحسن الأخفش في القوافي، لكان أعذر عندي، ثم ضم إليه باباً في استخراج المعمي، وهذا لا يتعلق بالعروض، وضم إليه باباً في الإيقاع ونسبه، وغيره به أحذق، وختمه بقصيدة في العروض، ولم يفد بها غير التكرير، وكان ينبغي أن يوفي صناعته حقها، ولا يخل بشيء منها، ثم يتعرض لما قد ضمه إليها.
أحمد بن محمد التاريخي،
الرعيني بالأندلس الحميدي: عالم بالأخبار، ألف في مآثر المغرب كتباً جمة، منها: كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها، وأمهات مدنها وأجنادها الستة، وخواص كل بلد منها، ذكره ابن جرير وأثنى عليه.
أحمد بن محمد، بن موسى بن، بشير بن، جنادابن لقيط، الرازي الأندلسي، أصله من الري، ذكره أبو نصر الحميدي قال: له كتاب في أخبار ملوك الأندلس وكتابهم وخططها، على نحو كتاب أحمد بن أبي طاهر في أخبار بغداد، وكتاب في أنساب مشاهير أهل الأندلس، في خمس مجلدات ضخم، من أحسن كتاب وأوسعه، كتاب تاريخه الأوسط، كتاب تاريخه الأصغر، كتاب مشاهير أهل الأندلس، في خمسة أسفار، من جيد كتبه.
وقال ابن الفرضي: أصله رازي، قدم أبوه على الإمام محمد، وكان أبوه من أهل اللسن والخطابة، وولد أحمد هذا بالأندلس، يوم الاثنين عاشر ذي الحجة، سنة أربع وسبعين ومائتين، ومات لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد، بن فرج، الجياني الأندلسيأبو عمرو وقد ينسب إلى جده، فيقال: أحمد بن فرج، وكذلك أخوه، وهو وافر الأدب، كثير الشعر، معدود في العلماء والشعراء، وله الكتاب المعروف بكتاب الحدائق، ألفه للحكم المستنصر، عارض فيه كتاب الزهرة لابن داود الأصبهاني، إلا أن ابن داود، ذكر مائة باب، في كل باب مائة بيت، وأبو عمرو ذكر مائتي باب، في كل باب مائة بيت، ليس منها باب يكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير الأندلسيين شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء.
وله أيضاً كتاب المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم، وكان الحكم قد سجنه لأمر نقمه عليه، قال الحميدي: وأظنه مات في سجنه، وله في السجن أشعار كثيرة مشهورة.
أحمد بن محمد، بن سعيد، بن عبيد اللهابن أحمد، بن سعيد، بن أبي مريم، أبو بكر القرشي الوراق، وراق أبي الحسن، أحمد بن عمير، بن جوصي، الحافظ الدمشقي، ويعرف بابن فطيس.

قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: ومات في شوال سنة خمسين وثلاثمائة، ومولده في رمضان، سنة إحدى وسبعين ومائتين، أو اثنتين وسبعين ومائتين، وهو صاحب الخط الحسن المشهور، مولى جويرية بنت أبي سفيان، روى الحديث عن جماعة من أهل الشام، قال ابن عساكر: وقد ذكره عبد العزيز الكناني وقال: كان ثقة مأموناً، يورق للناس بدمشق، له خط حسن.
قال المؤلف: وإنما ذكرناه، لما اشترطنا في أول الكتاب، من ذكر أرباب الخطوط المنسوبة، فذكرناه لما وصفه به ابن عساكر من جودة الخط، وأما أنا، فلم أر من خطه شيئاً.
أحمد بن محمد، بن الفضل،
بن جعفر، بن محمد ابن الجراح، أبو بكر الخزاز، سمع أبا بكر ابن دريد، وأبا بكر بن السراج، وأبا بكر بن الأنباري، وروى كثيراً من مصنفاتهم، ومات في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وكان ثقة حسن الأدب والخط، والإتقان، والضبط، فاضلاً أديباً، كثير الكتب، حسن الحال، ظاهر الثروة، روى عنه القاضي أبو العلاء الواسطي، والصيمري، والتنوخي، وأبو الحسين هلال بن المحسن، وأولاد الصابئ كلهم كثيراً من كتب الأدب، متصلة الرواية إلى الآن، وقد روى شيخنا تاج الدين أبو اليمن من طريقه عدة كتب أدبية.
قال أبو القاسم التنوخي: سمعت ابن الجراح يقول: كتبي بعشرة آلاف درهم، ووابي بعشرة آلافدرهم. وسلاحي بعشرة آلاف درهم قال التنوخي: وكان أحد الفرسان، يلبس أداته، ويركب فرسه، ويخرج إلى الميدان، ويطارد الفرسان.
أحمد بن محمد، بن أحمد،الأصبهاني المقرئ "بن الحسين، بن سعيد، " أبو علي الأصبهاني المقرئ " سكن دمشق، وصنف تصانيف في القراءات، وقرأ القرآن على أبي القاسم، زيد بن علي، بن أحمد، بن أبي بلال الكوفي، وأبي بكر النقاش، وأبي العباس بن الحسن ابن سعد الفاسي، وأبي عبد الله، صالح بن مسلم، بن عبيد الله، بن المقرئ، وأبي الفتح، المظفر بن أحمد، بن إبراهيم، بن برهان. وسمع بدمشق أبا محمد عبد الله بن عطية، وعبد الوهاب بن الحسن الكلابي، والحسين بن علي، وأبا القاسم بن الفرات، وأبا نصر بن الجبان. ومات سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، بدمشق في شهر ربيع الآخر، وكان لجنازته مشهد عظيم.
أحمد بن محمد، بن هاشم،
بن خلف، ابن عمرو بن سعيد ابن عثمان، بن سلمان، بن سليمان، القيسي القرطبي الأعرج، يكنى أبا عمر، سمع محمد بن عمر بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، ومال إلى النحو وغلب عليه، وأدب به، وكان وقوراً مهيباً، لا يقدم عليه، ولا عنده هزل، وكان يلقب بالقاضي لوقاره. مات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. قال ابن الفرضي: ذكره محمد ابن حسن.
أحمد بن محمد، بن جعفر، بن ثوابةيكنى أبا عبد الله، أحد البلغاء الفهماء، وأرباب الاتساع في علم البلاغة، ولي ديوان الرسائل بعد أبيه محمد بن جعفر، في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، في أيام المقتدر، ولم يزل على ديوان الرسائل، إلى أن مات وهو متوليه، في أيام معز الدولة، في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فولي ديوان الرسائل بعده، أبو إسحاق الصابئ، حدث أبو الحسين، علي بن هشام الكاتب قال: سمعت الوزير أبا الحسن، علي بن عيسى، يقول لأبي عبد الله، أحمد بن محمد، بن محمد، بن جعفر، بن ثوابة، ما قال: " أما بعد " فما أحد، على وجه الأرض أكتب من جدك، وكان أبوك أكتب منه، وأنت أكتب من أبيك، قال أبو علي المحسن التنوخي: وقد رأيت أنا أبا عبد الله هذا في سنة تسع وأربعمائة، وإليه ديوان الرسائل، وكان نهاية في حسن الكلام والكتبة.
أحمد بن محمد، بن الفضل، الأهوازييعرف بابن كثير، صاحب بلاغة وفضل، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب مناقب الكتاب.
أحمد بن محمد، الأفريقي المعروف بالمتيمأبو الحسن، أحد الأدباء، الفضلاء، الشعراء، له من التصانيف: كتاب الشعراء الندماء، كتاب الانتصار المنبئ عن فضل المتنبئ، وغير ذلك، وله ديوان شعر كبير، قال الثعالبي: رأيته ببخارى شيخاً رث الهيئة، تلوح عليه سيماء الحرفة، وكان يتطبب ويتنجم، فأما صناعته التي يعتمد عليها، فالشعر. ومما أنشدني لنفسه:
وفتية أدباء ما علمتهم ... شبهتهم بنجوم الليل إذ نجموا
فروا إلى الراح من خطب يلم بهم ... فما درت نوب الأيام أين هم؟
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:

تلوم على تركي الصلاة حليلتي ... فقلت أعزبي عن ناظري أنت طالق
فوالله لا صليت لله مفلساً ... يصلي له الشيخ الجليل وفائق
لماذا أصلي أين مالي ومنزلي ... وأين خيولي والحلي والمناطق
أصلي ولا فتر من الأرض يحتوي ... عليه يميني إنني لمنافق؟
بلى إن على الله وسع لم أزل ... أصلي له ما لاح في الجو بارق
وله في تركي:
قلبي أسير في يدي مقلة ... تركية ضاق لها صدري
كأنها من ضيقها عروة ... ليس لها زر سوى السحر
أحمد بن محمد، بن إبراهيم، بن الخطابالخطابي أبو سليمان، من ولد زيد بن الخطاب، أخي عمر بن الخطاب، كذا ذكر أبو عبيد الهروي، وكان تلميذه، وأبو منصور الثعالبي، وكان صديقه. مات الخطابي فيما ذكره عبد الرحمن بن عبد الجبار، الفامي الهروي، في تاريخ هراة من تصنيفه " وسماه حمداً " في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ومولده في رجب، سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
نقلت من خط أبي سعد السمعاني، قال: نقلت من خط الشيخ ابن عمر، توفي الإمام أبو سليمان الخطابي ببست في رباط على شاطئ هندمند، يوم السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر، سنة ست وثمانين وثلاثمائة. وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتاب المنتظم: أنه توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وهذا ليس بشيء. قال السمعاني: كان الخطابي حجة صدوقاً، رحل إلى العراق، والحجاز، وجال في خراسان، وخرج إلى ما وراء النهر، وكان يتجر في ملكه الحلال، وينفق على الصلحاء من إخوانه، وقد ذكره الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر، وقال: كان يشبه في زماننا بأبي عبيد القاسم بن سلام. وذكره الحافظ أبو طاهر، أحمد بن محمد، بن أحمد السلفي، في شرح مقدمة كتاب معالم السنن له،فقال: وذكر الجم الغفير، والعدد الكثير، أن اسمه حمد، وهو الصواب، وعليه الاعتماد. قال المؤلف: وإنما ذكرته أنا في هذا الباب، لأن الثعالبي، وأبا عبيد الهروي، وكانا معاصريه وتلميذيه، سمياه أحمد، وقد سماه الحاكم بن البيع في كتاب نيسابور حمداً، وجعله في باب من اسمه حمد، وذكر أبو سعد السمعاني في كتاب مرو: سئل أبو سليمان عن اسمه فقال: اسمي الذي سميت به حمد، لكن الناس كتبوه أحمد، فتركته عليه. قال: ورثاه أبو بكر عبد الله بن إبراهيم الحنبلي ببست في شعر،فسماه حمداً فقال:
وقد كان حمداً كاسمه حمد الورى ... شمائل فيها للثناء ممادح
خلائق ما فيها معاب لعائب ... إذا ذكرت يوماً فهن مدائح
تغمده الله الكريم بعفوه ... ورحمته والله عاف وصافح
لازال ريحان الإله وروحه ... قرى روحه ما حن في الأيك صادح
قال: وأخذ العلم عن كثير من أهله، ورحل في طلب الحديث، وطوف وألف في فنون من العلم وصنف. وأخذ الفقه عن أبي بكر القفال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة، ونظرائهما من فقهاء أصحاب الشافعي.
ومن تصانيفه: كتاب معالم السنن، في شرح كتاب السنن لأبي داود، كتاب غريب الحديث، ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبيد، ولا بان قتيبة في كتابيهما، وهو كتاب ممتع مفيد، رواه عنه أبو الحسين عبد الغافر بن محمد، بن عبد الغافر، الفارسي ثم النيسابوري. كتاب تفسير أسامي الرب عز وجل، شرح الأدعية المأثورة، كتاب شرح البخاري. كتاب العزلة. كتاب إصلاح الغلط. كتاب العروس. كتاب أعلام الحديث. كتاب الغنية عن الكلام. كتاب شرح دعوات لأبي خزيمة. ومن شيوخ الخطابي في الأدب وغيره: إسماعيل الصغر، وأبو عمر الزاهد، وأبو العباس الأصم، وأحمد بن سليمان النجار، وأبو عمرو السماك، ومكرم القاضي، وجعفر الخلدي، كل هؤلاء بغداديون، سوى الأصم، فإنه نيسابوري، وبها كتب عنهم عالي الإسناد جداً، وروى عنه خلق: منهم عبد بن أحمد، ابن غفير الهروي، وأبو مسعود الحسن بن محمد الكرابيسي البستي، روى عنه ببست، وأبو بكر محمد ابن الحسن المقرئ، روى عنه بغزنة، وأبو الحسن علي ابن الحسن، الفقيه السجزي، روى عنه بسجستان، وأبو عبد الله محمد بن علي، بن عبد الله الفسوي، روى عنه بفارس، وآخرون.

وقد روى عنه الإمام الفقيه، أبو حامد الإسفراييني، فقيه العراق، والحاكم أبو عبد الله، محمد بن البيع النيسابوري، روى عنه بخراسان وقد حدث عنه أبو عبيد الهروي في كتاب الغريبين. وأنشد أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، لأبي سليمان الخطابي في اليتيمة أشعاراً منها:
وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
ولأبي منصور الثعالبي في الخطاب شعر منه:
أبا سليمان سر في الأرض أو أقم ... فأنت عندي دنا مثواك أو شطنا
ما أنت غيري، فأخشى أن تفارقني ... فديت روحك بل روحي، فأنت أنا
نقلت من خط أبي سعد السمعاني: أنبأنا إسماعيل ابن أحمد الحافظ، أنبأنا أبو القاسم سعد بن علي، بن محمد الريحاني أدباً، أنبأنا أبو سعد الخليل، بن محمد الخطيب، قال: كنت مع أبي سليمان الخطابي، فرأى طائراً على شجرة، فوقف ساعة يستمع، ثم أنشأ يقول:
يا ليتني كنت ذاك الطائر الغردا ... من البرية منحازاً ومنفردا
في غصن بان دهته الريح تخفضه ... طوراً وترفعه أفنانه صعدا
خلو الهموم سوى حب تلمسه ... في الترب أو نفية يروى بها كبدا
ما إن يؤرقه فكر لرزق غد ... ولا عليه حساب في المعاد غدا
طوباك من طائر طوباك ويحك طب ... من كان مثلك في الدنيا فقد سعدا
وحدث أبو بكر محمد بن علي، بن الحسن، بن الراغوثي اللغوي، فيما ذكره السلفي قال: أنشدني أبو منصور الثعالبي بنيسابور للخطابي، يقوله في الثعالبي:
قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقري البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذبة ... منها التقى، والنهى، والحلم ينتسخ
قال أبو طاهر السلفي: وقلت أنا فيه في سنة خمسين وخمسمائة، لشغفي بتآليفه، ورغبتي في تحصيل تصانيفه.
ظن هذا الخطاء في الخطابي ... شيخ أهل العلوم والآداب
من على كتبه اعتماد ذوي الفض ... ل ومن قوله كفصل الخطاب
أن يحوز الفردوس إذ أتعب لانف ... س لذي العرش غاية الإتعاب
وتعنى في الأخذ جداً وفي التص ... نيف من بعد رغبة في الثواب
نضر الله وجهه من إمام ... ألمعي أتى بكل صواب
ولعمري قد فاز بالروح والري ... حان من غير شبهة وارتياب
هو قد كان شمس متبعي الشر ... ع على الزائفين سوط عذاب
وللسلفي فيه أشعار غير هذا، في نهاية الضعف والسقط كما ترى. ومن شعره في اليتيمة:
وليس اغترابي عن سجستان أنني ... عدمت بها الإخوان والدار والأهلا
ولكنني مالي بها من مشاكل ... وإن الغريب الفرد من يعدم الشكلا
وله:
شر السباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشراً لم يؤذه بشر
ومنه أيضاً:
ما دمت حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى، ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديماً للندامات
ومنه أيضاً:
وقائل ورأى من حجبتي عجباً ... كم ذا التواري وأنت الدهر محجوب؟
فقلت: حلت نجوم الدهر منذ بدا ... نجم المشيب ودين الله مطلوب
فلذت من وجل بالاستتار عن ال ... أبصار إن غريم الموت مرهوب
ومنه أيضاً:
تغنم سكوت الحادثات فإنها ... وإن سكنت عما قليل تحرك
وبادر بأيام السلامة إنها ... رهان وهل للرهن عندك مترك
ومنه أيضاً:
تسامح، ولا تستوف حقك كله ... وأبق ولم يستقص قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال أبو القاسم الداوودي الهروي: قال الثعالبي له في مرثية الخطابي - رحمه الله - :

انظروا كيف تخمد الأنوار ... انظروا كيف تسقط الأقمار؟؟
انظروا هكذا تزول الرواسي ... هكذا في الثرى تغيض البحار
أحمد بن محمد،أبو عبيد الهرويبن عبد الرحمن، أبو عبيد الهروي الباشاني المؤدب، صاحب كتاب غريبي القرآن والحديث، والسابق إلى الجمع بينهما في علمنا، قرأ على جماعة منهم: أبو سليمان الخطابي، وكان اعتماده وشيخه الذي يفتخر به، أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري، صاحب كتاب التهذيب في اللغة. مات أبو عبيد هذا، فيما ذكره المليحي، سنة إحدى وأربعمائة في رجبها. روى عنه كتاب الغريبين، أبو عمرو عبد الواحد بن أحمد المليحي، وأبو بكر محمد بن إبراهيم، بن أحمد الأزدستاني، وله من الكتب: كتاب الغريبين. كتاب ولاة هراة.
أحمد بن محمد، بن عبد الله، بن يوسفابن محمد، بن مالك السهلي الأديب، أبو الفضل، العروضي الصفار الشافعي، ذكره عبد الغفار في السياق، فقال: مات بعد سنة ست عشرة وأربعمائة، ومولده سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وهو شيخ أهل الأدب في عصره، حدث عن الأصم، والمكاري. وأبي الفضل المزكي، وأبي منصور الأزهري، وأقرانهم. وتخرج به جماعة من الأئمة، منهم: علي بن أحمد الواحدي، وغيره، وذكره أبو منصور الثعالبي فقال: إمام في الأدب، خنق التسعين في خدمة الكتب، وأنفق عمره على مطالعة العلوم، وتدريس مؤدبي نيسابور، وإحراز الفضائل، والمحاسن، وهو القائل في صباه:
أوفى على الديوان بدر الدجى ... فسل نجوم السعد ما حظه؟
أخده أملح أم خطه ... ولحظه أفتن أم لفظه؟؟
قال: وأنشدني لنفسه:
لعزة الفضة العبرة ... أودعها الله قلب صخرهْ
حتى إذا النار أخرجتها ... بألف كد وألف كرهْ
أودعها الله كف وغد ... أقسى من الصخر ألف مرهْ
أحمد بن محمد،ابن شرام الغسانيبن أحمد، بن سلمة، ابن شرام الغساني أحد النحاة المشهورين بالشام، صحب أبا القاسم الزجاجي وأخد عنه، وكتب تصانيفه، وكان جيد الخط والضبط، صحيح الكتابة، وجدت خطه في كتاب أمالي الزجاجي، وقد فرغ من كتابتها، في سنة ست وأربعين وثلاثمائة. ذكره أبو القاسم فقال: أحمد بن محمد، بن أحمد، بن سلمة، أبو بكر بن أبي العباس، الغساني المعروف بابن شرام النحوي، سمع أبا بكر الخرائطي، وأبا الدحداح أحمد بن محمد، بن إسماعيل التميمي، وأبا الحسن أحمد ابن جعفر، بن محمد الصيدلاني، وعبد الغافر بن سلامة الحمصي، وأبا القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، وأبا بكر أحمد بن محمد، بن سعيد، بن عبيد الله، بن فطيس، والحسن بن حبيب الحظائري، وأبا الطيب أحمد ابن إبراهيم، بن عبادل الشيباني، وإبراهيم بن محمد، بن أبي ثابت، وأبا علي محمد بن القاسم، بن أبي نصر. روى عنه رشا بن نظيف، وأبو بكر أحمد بن الحسن، بن أحمد ابن الطبال، وأبو الحسن الربعي، وأبو نصر بن الجبان. قال ابن الأكفاني: رأيت في كتاب عتيق: توفي أبو بكر ابن شرام يوم الثلاثاء، لعشر خلون من شعبان، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد،الخلال، الوراقبن الحسن، " الخلال، الوراق، الأديب، " صاحب الخط المليح الرائق، والضبط المتقن الفائق، أظنه ابن أبي الغنائم الأديب، وقد ذكرنا في باب علي ابن محمد، " آخر " ، ونراه أخا هذا، والله أعلم. وجدت خطه على كتاب قد كتبه في سنة خمس وستين وثلاثمائة.
الجزء الخامس
أحمد بن محمد،الملقب مسكوية

بن يعقوب، الملقب مسكوية أبو علي الخازن، صاحب التجارب، مات فيما ذكره يحيى بن مندة، في تاسع صفر، سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، قال أبو حيان في كتاب الإمتاع: وقد ذكر طائفة من متكلمي زمانه، ثم قال: وأما مسكوية، ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء، لأنه شاذ، وإنما أعطيته في هذه الأيام، صفو الشرح لإيساغوجي، وقاطيغورياس، من تصنيف صديقنا بالري. قال الوزير ومن هو قلت أبو القاسم الكاتب، غلام أبي الحسن العامري وصححه معي، وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان المنطقي، وليس له فراغ، لكنه محب في هذا الوقت، للحسرة التى لحقته مما فاته من قبل. فقال: يا عجباً لرجل صحب ابن العميد، وأبي الفضل، ورأى ما عنده، وهذا حظه، قلت: قد كان هذا ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء، مع أبي الطيب الكيميائي الرازي، منهوك الهمة في طلبه، والحرص على إصابته، مفتوناً بكتب أبي زكريا، وجابر ابن حيان، ومع هذا، كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه، هذا مع تقطيع الوقت في الحاجات الضرورية والشهوية، والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأواطر في عرضها تجتمع وتفترق، والنفوس عن فوائتها تذوب وتحترق، ولقد قطن العامري الري خمس سنين، ودرس وأملى، وصنف وروى، فما أخذ عنه مسكوية كلمة واحدة، ولا وعي مسألة، حتى كأنه كان بينه وبينه سد، ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغى لقمة حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه، قوارع الملامة من أصدقائه، حينما ينفع ذلك كله، وبعد هذا، فهو ذكى، حسن الشعر، نقي اللفظ، وإن بقي فعساه أن يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفه بالكيمياء، وإنفاق زمانه، وكد بدنه وقلبه في خدمة الساطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط، والكسرة والخرقة، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشح بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول، ومفارقته بالعمل. قال أبو منصور الثعالبي: كان في ذروة العليا من الفضل والأدب، والبلاغة والشعر، وكان في ريعان شبابه متصلاً بابن العميد، مختص به، وفيه يقول:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
ثم تنقلت به أحوال جليلة، في خدمة بني بوية، والاختصاص ببهاء الدولة، وعظم شأنه، وارتفاع مقداره، فترفع عن خدمة الصاحب، ولم يرى نفسه دونه، ولم يخل من نوائب الدهر، حتى قال ما هو متنازع بينه وبين نفر من الفضلاء:
من عذيري من حادثات الزمان ... وجفاء الأخوان والخلان.
قال: وله قصيدة في عميد الملك، تفنن فيها، وهنأه باتفاق الأضحى، والمرجان في يوم، وشكا سوء أثر الهرم، وبلوغه إلى أرذل العمر:
قل للعميد: عميد الملك والأدب ... أسعد بعيديك:عيد الفرس والعرب
هذا يشير بشرب الغمام ضحى ... وذا يشير عشيا بابنة العنب
خلائق خيرت في كل صالحة ... فلو دعاها لغي الخير لم تجب
أعدن شرخ شباب لست أذكره ... بعداً ووردت على العمر من كثب
فطاب لي هرمي والموت يلحظني ... لحظ المريب ولولا أنت لم يطب
فإن تمرس لي خصم تعصب لي ... وإن أساء إلى الدهر أحسن بي ومنها:
وقد بلغت إلى أقصى مدى عمري ... وكل غربي وأستأنست بالنوب
إذا تملأت من غيظ على زمني ... وجدتني نافخاً في جذوة اللهب
ومنها:
وإن تمنيت عيش الدهر أجمعه ... وإن تعاين ماولى من الحقب
فانظر إلى سير القوم الذين مضوا ... و الحظ كتابهم من باطن الكتب
تجد تفاوتهم فى الفضل مختلفاً ... وإن تقاربت الأحوال فى النسب
هذا: كتاج على رأس يعظمه ... وذاك كالبعر الجافي على الذنب

قال المؤلف:وكان مسكوية مجوسياً وأسلم، وكان عارفاً بعلوم الأوائل معرفة جيدة، وكتاب الفوز الأصغر. وصنف كتب تجارب الأمم في التاريخ، إبتداؤه من بعد الطوفان، وانتهاؤه إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة. وله: كتاب أنس الفريد، وهو مجموع يتضمن أخباراً وأشعاراً، وحكماً وأمثالاً،غير مبوب، وكتاب ترتيب العادات، وكتاب المستوفي أشعار مختارة، وكتاب الجامع، وكتاب تجاوزان فرد، وكتاب السير أجاده، ذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه، مزجه بالأثر والآية، والحكمة، والشعر وللبديع الهمذاني إلى أبي سلمى مسكوية، يعتذر من شيء بلغه عنه، بعد مودة كانت بينهما:
ويا عز: إن واشٍ وشى بى عند كم ... فلا تمهليه أن تقولي له: مهلاً
كما لو وشى واشٍ بعزة عندنا ... لقلنا: تزحزح لاقريباً ولاسهلاً
بلغني أطال الله بقاء الشيخ، أن قيضه كلبٍ وافته بأحاديث لم يعرها الحق نوره، ولا الصدق ظهوره، وأن الشيخ أذن لها على حجاب أذنه وفسح لها فناء ظنه، وعاذ الله أن أقولها، وأستجيز معقولها، بلى قد كان بيني وبينه عتاب لاينزع كنفه، ولايجدف أنفه، وحديث لايتعدى إلى النفس وضميرها ولا تعرفه الشفة وسميرها، وعربدة كعربدة أهل الفضل، لاتتجاوز والإدلال، ووحشة يكشفها عتاب لحظة كغناء جحظة، فسبحان من ربى هذا الأمر، حتى صار أمراً، وتأبط شراً، وأوحش حراً، وأوجب عذراً، بل سبحان من جعلني في حير العذر أشيم بارقته وأستقبل صاعقته، وأنا المساء إليه، والمجني عليه، ورمى من الحسدة بما رميت، ووقف من الوجد والوحدة حيث وقفت، واجتمع عليه من المكاره ما وصفت، أعتذر مظلوماً، وأحسن ملوماً، وضحك مشتوماً، ولو علم الشيخ عدد أبناء الحدد، وأولاد العدد، بهذا البلد، ممن ليس له همة إلا في شكاية، أو حكاية، أو سعاية أو نكاية لضن بعشرة غريب إذا بدر، وبعيد إذا حضر، ولصان مجلسه عمن لايصونه عما رقى إليه، فهبني قلت ماحكى له، أليس الشاتم من أسمع أليس الجاني من أبلغ فقد بلغ من كيد هؤلاء القوم، أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفساً لاتستفز، وحبلاً لايهز، دسوا إليه حديثه بما حرشوا به نارهم، ورد على مماقالوه، فما لبثت أن قلت:
فإن يك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كل نائبة سلم
فليعلم الشيخ الفاضل، أن في كبد الأعداء منى جمرة، وأن في أولاد الزنا عندنا كثرة، قصاراهم نار يشبونها، أو عقرب يدببونها، أو مكيدة يطلبونها، ولولا أن العذر إفرار بما قيل، وأكره أن أستقيل، بسطت في الاعتذار شاذرواناً، ودخلت في الاستقالة ميداناً، لكنه أمر لم أضع أوله، فلا أتدارك آخره، وقد أبى الشيخ أبو محمد، إلا أن يوصل هذا النثر الفاتر بنظم مثله، فهاكه يلعن بعضه بعضاً:
مولاي إن عدت ولم ترض لي ... أن أشرب البارد لم أشرب
إمتط خدي وانتعل ناظري ... وصيد بكفي حمة العقرب
بالله ما أنطق عن كاذب ... فيك ولاأبرق عن خلب
فالصفو بعد الكدرالمفترى ... كالصحو بعد المطر الصيب
إن أجتن الغلظة من سيدي ... فالشوك عند الثمر الطيب
أو نفق الزور على ناقد ... فالخمر قد تعضب بالثيب
ولعل الشيخ أبا محمد يقوم من الاعتذار، بما قعد عنه القلم والبيان، فنعم رائد الفضل هو، والسلام. وجاء الجواب من أبي علي:
وإذا الواشي أتى يسعى لها ... نفع الواشي بما جاء يضر
فهمت خطاب الشيخ الفاضل، الأديب البارع، الذي لو قلت: إنه السحر الحلال، والعذب الزلال، لنقصته حظه، ولم أوفه حقه، أما البلاغات التي أومأ إليها، فو الله ما أذنت لها، ولا أذنت فيها، وما أذهبني عن هذه الطريقة، وأبعدني عنها، وقد نزه الله لسانه عن الفحشاء، وسمعي عن الإصغاء، وما يتخذ العدو بينهما مجالاً وأما الأبيات فقد تكلفت الجواب عنها، لامساجلة له، ولكن لأبلغ المجهود في قضاء حقه:
يا بارعاً في الأدب المجتنى ... منه ضروب الثمر الطيب
لوقلت: إن البحر مستغرق ... في بحرك الفياض لم أكذب
إذا تبوأت محلاً فما ... نزلت إلا منزل الكوكب
أحمدتني الشعر وأعتبتني ... فيه ولم أذمم ولم أعتب

والعذر يمحو ذنب فعاله ... فكيف يمحوه ولم يذيب
أنا الذي آتيك مستغفراً ... من زلة لم تك من مذهبي
وأنت لاتمنع مستوهباً ... مالاً فهب ذنباً لمستوهب
قال أبو حيان في كتاب الوزيرين: فإن ابن العميد اتخذه خازناً لكتبه،وأراد أيضاً أن يقدح ابنه به، ولم يكن من الصنائع المقصودة، والمهمات اللازمة وكان يحتمل ذلك لبعض العزازة بظله، والتظاهر بجاهه.
نسخة وصية أبو على المسكاوية" بسم الله الرحن الرحيم " : هذا ماعاهد عليه أحمد ابن محمد، وهو يومئذ آمن في سربه، معافى في جسمه عند قوت يومه،لا تدعه إلى هذه المعاهدة، ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة منهم، عاهد على أن يجاهد نفسه، ويتفقد أمره، فيعف، ويشجع، ويحكم. وعلامة عفته: أن يقتصد في مآرب بدنه، حتى لا يحمله الشره على ما يضر جسمه، أو يهتك مروءته. وعلامة شجاعته: أن يحارب دواعى نفسه الذميمة، حتى لا تقهره شهوة قبيحة، ولا غضب في غير موضعه. وعلامة حكمته: أن يستبصر في اعتقاداته حتى لايفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولاد نفسه ويهذبها، ويحصل له من هذه المجاهدة ثمراتها، التي هي العدالة، وعلى أن يتمسك لهذه التذكرة، ويجتهد في القيام بها، والعمل بموجبها، وهى خمسة عشرة باباً: إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الأفعال، وكثرة الجهاد الدائم، لأجل الحرب الدائم، بين المرء ونفسه، والتمسك بالشريعة، ولزوم طائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها. وأول ذلك، ما بين وبين الله جل وعز. وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال. ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك. والصمت في أوقات حركات النفس للكلام، حتى يستشار فيه العقل. وحفظ الحال التي تحصل في شيء حتى تصير ملكة، ولا تفسد بالاسترسال. والاقدام على كل ما كان صواباً. والإشفاق على الزمان الذى هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره. وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي. وترك التواني. وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد، لئلا يشتغل بمقاتلتهم. وترك الانفعال لهم. وحسن احتمال الغنى والفقر، والكرامة والهوان بجهة وجهة. وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضا عند الغضب، ليقل الطغى والبغى. وقوة الأمل، وحسن الرجاء. والثقة بالله عز وجل، وصرف جميع البال إليه.
أحمد ابن محمد، الصخرى أبو الفضل

قتل في أواخر سنة ست وأربعمائة، هكذا ذكر أبو محمد، محمود ابن أرسلان، في تاريخ خوارزم، وقال:هو أحد مفاخر خوارزم، أديب كامل، وعالم ماهر، وكاتب بارع، وشاعر ساحر. قال أبو منصور الثعالبي في كتابه: له ظرف حجازى، وخط عراقي، وبلاغة جزلة سهلة، ومروءة ظاهرة، ومحاسن متظاهرة، وله شعر كثير، يجمع فيه بين الإسراع والإبداع، ويأخذ بطرفي الإتقان والإحسان، ثم هو في الارتجال، فرد الرجال بسرعة خاطره، وسلامة طبعه، وحصول أعنة القوافى فى يده، وكان في عنفوان شبابه، ألم بحضرة الصاحب إسماعيل بن عباد، فاقتبس من نورها، واغترف من بحرها، وانخرط في سلك أعيان أهل الفضل بها، وتزود من ثمارها، فحسن أثره وطاب خبره ورجع إلى أوطانه، وأقام بحضرة سلطانه، في أجلة الكتاب، ووجوه العمال، وهو الآن من أخص جلساء الأمير، وأقرب ندمائه،وأفضل كتابه، وأجل شعرائه، ولا يكاد يخلو منه مجالس أنسه، ولايتقشع عنه سحائب جوده، وما أكثر ما يقترح عليه الأشعار في المعاني البديعة، ويكمل لها ويفي، ويعلنها فى الوقت والساعة بين يديه، ويعرضها عليه.وعهدى بذلك المجلس العالي، ليلة من الليالى، وقد جرى فيه ذكر أبى الفضل الهمذاني بديع الزمان، وإعجاز لطائفه وخصائصه فى الارتجالات، وسرعة إتيانه وإثباته بالاقتراحات، وأنه كان يكتب الكتاب المقترح عليه، ويبتدئ بآخر سطرٍ،ثم هلم جرا إلى السطر الأول،حتى يخرجه مستوفي الألفاظ والمعاني، كأملح شئ وأحسنه، فانتدب الصخري لهذه النادرة، وضمن الأستقلال بهذه الغريبة الصعبة، فرسم له على لسان الشيخ أبي الحسين السهيلي، أن يكتب في معنى مؤلف الكتاب، كتاباً إلى الدهخداً أبي سعيد، محمد بن منصور الحوالى، يذكر فيه: أن أخبار فلان فى محاسن أدبه، وبديع تأليفاته، لم تزل تأتينا، ثم تشوقنا إلى مشاهدة الفضل، فأخذ القلم و القرطاس، وكان كتب أولاً السطر الذى يقع في آخره - إن شاء الله تعالى - ثم لم يزل يمضى قدماً في الكتاب، ويرتفع عن عجزه إلى صدره، ومن سفله إلى علوه، ويصل أواخره بأوائله، حتى أتم المعنى المقترح عليه، مع جودة الألفاظ وسهولتها، وحسن مطالعها. وفرغ من الكتاب فى زمن قصير المدة، وقد أخذ منه الشراب، وأثرات فيه الكاسات، فوقع ذلك أحسن موقع، وعد من محاسنه. وله كتاب رسائل مدونة، كتاب ديوان شعر مجلد. فمن منثور كلامه:الشيخ: أصدق لهجة، وأبين في الكرم محجة،من أن يخلف برق ضمانه، ولا يمطر سحاب إحسانه، فليت شعرى: ما الذى فعله فى أمر وليه،القاصر عليه أمله؟،وهل بلغ الكتاب أجله؟، وقد استهل الشهر الثامن استهلالاً ولاندى كالأفق، ولنرى لأفق مواعده هلالاً.آخر:طبع كرمه: أغلب من أن يحتاج إلى هز، وحسام فضله، أقطع من أن يهز لحز. آخر:أما إني لاأرضى من كرمه العد، أن تجر أولياؤه على شوك الرد، فبحق مجده المحض، الذى فاق به أهل الأرض، أن يرفع عن حاجتي قناع الخجل، و ولايعتبر أملي فيها قبل حلول الأجل وهذا قسم أرجو أن يصونه عن الحنث، وعهد أظن أنه لا يعرضه للنكث.آخر:لا أدرى: أهنئ الشيخ بعوده إلى مركزه، ومستقر عزه، سالماً في نفسه، التي سلامتها سلامة المعالي والمكارم، وهى أجسم المتاع وأنفس الغنائم؟، أم أهنئ الحضرة به، فقد عاد إليها ماؤها، ورجع برجوعه حسنها وبهاؤها، أم أهنى الملك - ثبت الله أركانه - ؟ كما نضر بمكانه منه زمانه، فقد آب إليه رونقه، وزال عن أمره رنقه، أم أهنئ الفضل، فقد كان ذوى عوده، ثم احضر وأورق، وهوى نجمه، ثم أنار وأشرق، أم أهنئ جماعة الأولياء والخدم، وكافة كتاب الإنشاء فقد عاشوا، وانتعشوا وارتاشوا، وارتفعت نواظرهم بعد الانخفاض، وانشرحت صدورهم غب الانقباض. وأنا أعد نفسي من جملتهم، ولا أنحرف مع طول العهد عن قبلتهم. وله: كتابي وقد عرتني علة منعتني من استغراق المعاني واستيعابها، وإشباع الكلم فى وجوهها وأبوابها، فاختصرت وقصرت، وعلى النبذ اليسيرة اقتصرت، وما أعرف هذه العلة، إلا من عوادي فراقه، ودواعي اشتياقه، وإن كانت النعمة بمكانه خارجة عن القياس، غير خافية من جميع الناس، إلا أنها ازدادات الآن ظهوراً، وإن لم يكن قدرها مستوراً، وقدر النعمة لايعرف إلا بعد الزوال، ولا يتحقق إلا مع الانتقال، - أهلنا الله لعودها - ، لنحسن جوارها، بشكرها وحمدها، وأصحبه السلامة حالاً ومرتحلاً، ومقيماً ومتنقلاً، إنه خير صاحب، يصحب كل غائب.

وله: وصل كتاب الشيخ فيما حلانى به، من صفاته التى هو بها حال، وأنا منها خال وقد كان أعارني منها عارية، وجدت نفسي منها عارية، ولكنه نظر إلى بعين رضاه، وشهد لي بقلب هواه. فلا ينظرن بعين الرضى، فنظرتها ربما تجنح، ولا يشهدن بقلب الهوى، فإنها شهادة تجرح وله: كل من ورد جناب الشيخ من أمثالي، إنما ورد بأمل منفسخ، ثم صدر بصدر منشرح، إذ ما امتدت إليه يد فارتدت عاطلاً ولا توجه تلقاءه رجاء فعاد باطلاً،. وأنا أجله أن يفسخ من بينهم ذريعة رجائي، وينسخ شريعة ولائي، بل أظن إن لم يفضلني عليهم في المراتب، لم ينقصني عنهم فى الواجب، ثم ليس طمعي في ماله، فكفاني ما شملني من أفضاله، بل كفاه ما تكلفه فى هذا الوقت من كلفة المروة، التى تنوء بالعصبة أولى القوة، ولكن طمعي في جاهه، ومن ضن به ملوم. إذ البخل به لؤم. ومن أشعاره يمدح أبا العباس خوارزمشاه:وله: وصل كتاب الشيخ فيما حلانى به، من صفاته التى هو بها حال، وأنا منها خال وقد كان أعارني منها عارية، وجدت نفسي منها عارية، ولكنه نظر إلى بعين رضاه، وشهد لي بقلب هواه. فلا ينظرن بعين الرضى، فنظرتها ربما تجنح، ولا يشهدن بقلب الهوى، فإنها شهادة تجرح وله: كل من ورد جناب الشيخ من أمثالي، إنما ورد بأمل منفسخ، ثم صدر بصدر منشرح، إذ ما امتدت إليه يد فارتدت عاطلاً ولا توجه تلقاءه رجاء فعاد باطلاً،. وأنا أجله أن يفسخ من بينهم ذريعة رجائي، وينسخ شريعة ولائي، بل أظن إن لم يفضلني عليهم في المراتب، لم ينقصني عنهم فى الواجب، ثم ليس طمعي في ماله، فكفاني ما شملني من أفضاله، بل كفاه ما تكلفه فى هذا الوقت من كلفة المروة، التى تنوء بالعصبة أولى القوة، ولكن طمعي في جاهه، ومن ضن به ملوم. إذ البخل به لؤم. ومن أشعاره يمدح أبا العباس خوارزمشاه:
أشبه البدر في السنا والسناء ... وحوى رقة الهوى و الهواء
وأتى الشيب بعدها منفذاً لي ... عن يد الدهر بالبلى و البلاء
وإذا شاء بالندى الملك العا ... دل في المجد والعلى و العلاء
أبدل الشين منه سيناً وأوطا ... ني الثريا من الثرى و الثراء
ومن شعره أيضاً في الهجاء:
أياذا الفضائل و اللام حاء ... وياذا المكارم و الميم هاء
ويا أنجب الناس و الباء سين ... وياذا الصيانة و الصاد خاء
ويا أكتب الناس و التاء ذال ... ويا أعلم الناس و العين ظاء
تجود على الكل و الدال راء ... فأنت السخي ويتلوه فاء
ولقد صرت عيباً لداء البغاء ... ومن قبل كان يعاب البغاء
وله يستهدي ماء الورد:
يا من حكى الورد الطرئ بعرفه ... وبظرفه وبلطفه وبهائه
إن شئت و الإفضال منك سجية ... أهديت لي قارورة من مائه
وله قصيدة في أبى الفتح البستي:
نسب كريم فاضل أنسى به ... من كان معتمداً على أنسابه
قد كنت في نوب الزمان وصرفه ... إذ عضني صرف الزمان بنابه
فاليوم جابنت الحوادث جانبي ... إذا قد نسبت إلى كريم جنابه.
نفسمصدقة جميع عداتها ... يكن مكذبة ظنون عداتها
هماته حكمت على هاماتها ... إذا أصبحت للوحش من أقوالها
ومن قصيدة فى أبى الحسين السهيلي:
نفس مصدقة جميع عداتها ... إذ أصبحت للوحش من أقواتها
يا أحمد بن محمد يا خير من ... ولى الوزارة عند خير ولاتها
مادامت الأيام في الغفلات عن ... عرصات مجدك فاغتنم غفلاتها
وله من قصيدة:
لئن بخلت بإسعادى سعاد ... فإني بالفؤاد لها جواد
وإن نفذ اصطبارى في هواها ... فدمع العين ليس له نفاد
أرى ثلجاً بوجنتها وناراً ... لتلك النار في قلبي اتقاد
فهب من نارها كان احتراقي ... فلم بالثلج ما برد الفؤاد؟
لأجتهدن في طلب المعالي ... بسعي ما عليه مستزاد
فإن أدركت آمالى وإلا ... فليس على إلا الجتهاد
وله فى بعض الصدور:

جمعت إلى العلي شرف الأبوه ... وحزت إلى الندى فضل المروه
أتيتك خادماً فرفعت قدري ... إلى الصداقة والأخوه
فما شبهتني إلى بموسى ... رأى ناراً فشرف بالنبوة.
وله من قصيدة:
أسمعت يامولاى ده ... ري بعد بعدك ماصنع؟
أخني علي بصرفه ... فرأيت هول المطلع
أحمد بن محمدالخوارزميأبو الحسين السهلي الخوارزمي. قال محمود بن محمد الإسلامي في تاريخ خوارزم إنه مات بسر من رأى، في سنة ثمان عشرة واربعمائة، على ما يذكره. قال: وهو من أجلة خوارزم، وبيته بيت رياسة ووزارة، وكرم ومروءة، قال الثعالبي: وهو وزير ابن وزير:
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الاسناد بالاسناد
قال: وكان يجمع بين آلات الرياسة، وأدوات الوزارة،ويضرب فى العلوم والآداب بالسهام الفائزة، ويأخذ من الكرم وحسن الشيم بالحظوظ الوافرة: وله كتاب الروضة السهيلية في الأوصاف والتشبيهات، وبأمره والتماسه، صنف الحسن بن الحارث الحسوفي في المذهب كتاب الهيلى، يذكر فيه المذهبين: مذهب الشافعي، والحنفي وله شعر، فمن ذلك ولم يسبق الى معناه:
ألا سقنا الصهباء صرفاً فإنها ... أعز علينا من عتاق الترحل
وإني لأقلى النقل حباً لطعمها ... لئلا يزول الطعم عند التنقل
وله في النجوم:
فالشهب تلمع فى الظلام كأنها ... شرر تطاير من دخان النار
فكأنها فوق السماء بنادق ... الكافور فوق صلاية العطار
وله فى النجوم أشعار، منها فى شعاع القمر على الماء:
كأنما البدر فوق الماء مطلعاً ... يقدر فمد له جسر من الذهب
كأنما البدر فوق الماء مطلعاً ... ونحن بالشط في لهو وفي طرب
مللت وأنا فأهوى للعبور فلم ... يقدر فمد له جسر من الذهب
خرج السهيل من خوارزم، فى سنة اربع واربعمائة الى بغداد، وتوطنها، وترك وزارة خوارزم شاه، أبي العباس مأمون خوفاً من شره، ولما قدم بغداد، أكرمه فخر الملك أبو غالب، محمد بن خلفٍ، وهو والي العراق يومئذ، وتلقاه بالجميل، فلما مات فخر الملك، خرج من بغداد هارباً ايضاً، حتى لحق بغريب بن مقنٍ، خوفاً على ماله، وكان غريب صاحب البلاد العليا، تكريت،ودجيل، وما لاصقها، فأقام عنده الى ان مات، وخلف عشرين الف دينار، سلمها غريب إلى ورثته.
أحمد بن محمد، بن الحسن المرزوقي

أبو علي، من أهل أصبهان، كان غاية في الذكاء والفطنة، وحسن التصنيف، وإقامة الحجج، وحسن الاختيار وتصانيفه لا مزيد عليها فى الجودة مات فيما ذكره أبو زكريا، يحيى بن مندة في ذي الحجة، سنة إحدى وعشرين واربعمائة، قال: وكتب عنه سعيد البقال، وأخرجه في معجمه وجدت خطة على كتاب شرح الحماسة من تصنيفه، وقد قرئ عليه فى شعبان، سنة سبع عشرة واربعمائة، وكان قد قرأ كتاب سيبويه، على أبي على الفارسى، وتتلمذ له، بعد أن كان رأساً بنفسه وله من الكتب: كتاب شرح الحماسة، أجاد فيه جدا، كتاب شرح المفضليات، كتاب شرح الفصيح، كتاب شرح أشعار هذيل، كتاب الأزمنة، كتاب شرح الموجز، كتاب شرح النحو قال الصاحب بن عباد: فاز بالعلم من أصبهان ثلاثة: حائك، وحلاج، وإسكاف، فالحائك هو المرزوقى والحلاج أبو منصور بن ماشدة، والإسكاف أبو عبد الله الخطيب بالري، صاحب التصانيف في اللغة ووجدت في المجموع بخط بعض فضلاء العجم، نقلت من خط الأبيوردى: أبو على المرزوقي، صاحب شرح الحماسة، والهذليين: قرأ على أبى على، وهو يتفاصح في تصانيفه كابن جني، وكان معلم اولاد بنى بويه بأصبهان، ودخل إليه الصاحب فما قام له فلما أفضت الوزارة إلى الصاحب جفاه أحمد بن محمد، بن ابراهيم، أبو إسحاق الثعلبي المفسر، صاحب الكتاب المشهور بأيدى الناس المعروف بتفسير الثعلبي مات فيما ذكره عبد الغنى بن سعيد، الحافظ المصرى، ونقلته من حاشية كتاب الإكمال لابن ماكولة، فى محرم سنة سبع وعشرين واربعمائة فقال: أبو اسحاق الثعلبي المفسر، جليل خراسانى، وذكره عبد الغافر في السياق فقال: أحمد بن محمد، بن ابراهيم، أبو اسحاق الثعلبى، المقرئ المفسر، الواعظ الأديب، الثقة الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة، من التفسير الحاوى أنواع الفرائد، من المعانى والإشارات، وكلمات أرباب الحقائق، ووجوه الإعراب والقراءات، ثم كتاب العرائس والقصص، وغير ذلك، مما لا يحتاج الى ذكره لشهرته، وهو صحيح النقل، موثوق به حدث عن أبي طاهر بن خزيمة، وأبي بكر بن مهران المقرئ، وابي بكر بن هانئ وابي بكر بن الطرازى، والمخلدى، والخفاف، وأبى محمد بن الرومي، وطبقتهم وهو كثير الحديث، كثير الشيوخ، وذكر وفاته كما تقدم قال: وسمع منه الواحدي التفسير، وأخذه عنه، وأثنى عليه وحدث عنه بإسناد رفعه إلى عاصم، قال: الرياسة بالحديث رياسة نذلة، إن أصح الشيخ وحفظ، وصدق فأحمى، قالوا هذا شيخ كيس، وإذا وهم قالوا شيخ كذاب وله كتاب ربيع المذكرين
أحمد بن محمد،بن دلويهبن أحمد، بن محمود، بن دلويه أبو حامد الاستوائي، مات فيما ذكره الخطيب، فى سنة أربع وثلاثين واربعمائة، وقال: يعرف بالدلوي، واستوى التي نسب إليها: قرية من قرى نيسابور، قدم بغداد، فسمع من الدار قطني، واستوطنها إلى حين وفاته، وولى القضاء بعكبرا، من قبل القاضى أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وكان ينتحل في الفقه مذهب الشافعي، وفي الأصول مذهب الأشعري، وله حظ في معرفة الأدب، والعربية، وحدث بشئ يسير قال الخطيب: وكتب عنه، وكان صدوقاً، ولما مات دفن بالشونيزية قال المؤلف: كان الدلوى أديباً، فاضلاً، وكثيراً ما توجد كتب الأدب بخطه، وكان صحيح النقل، جيد الضبط، معتبر الخط فى الغالب.
أحمد بن محمد،المهدويبن عمار، بن مهدى، بن ابراهيم المهدوي،ابو القاسم المقرئ، ذكره الحميدي فقال:أصله من المهدية، من بلاد القيروان، ودخل الأندلس فى حدود الثلاثين واربعمائة، او نحوها، وكان عالماً بالقراءات والأدب متقدماً، ذكره لى بعض أهل العلم بالقراءات، وأثنى عليه، وأنشدني له في ظاءات القرآن:
ظنت عظيمة ظلمنا من حظها ... فظلت اوقظها لتكظم غيظها
وظغنت أنظر فى الظلام وظله ... ظمآن أنتظر الظهور لوعظها
ظهرى وظفرى ثم عظمى فى لظى ... لأظاهرن لحظها ولحفظها
لفظي شواظ أو كشمس ظهيرة ... ظفر لدى غلظ القلوب وفظها
أحمد بن محمد، بن برد الأندلسى

ذكره الحميدى وقال: هو مولى أحمد بن عبد الملك، ابن عمر، بن محمد، بن شهيد، أبو حفص الكاتب، مليح الشعر، بليغ الكتابة، من أهل بيت أدب ورياسة، له رسالة فى السيف والقلم، والمفاخرة بينهما، وهو أول من سبق إلى القول في ذلك بالأندلس، وقد رأيته بالمرية، بعد الاربعين واربعمائة غير مرة، وله كتب في علم القرآن، منها كتاب التحصيل فى تفسير القرآن، كتاب التفصيل فى تفسيره ايضاً، وله غير ذلك وكان جده أحمد بن برد وزيرا فى الأيام العامرية، وكاتباً بليغاً ايضا مات سنة ثمان عشرة واربعمائة أعنى الوزير ومن شعر أحمد بن محمد هذا:
تأمل فقد شهق البهار مغلساً ... كماميه عن نواره الخضل الندى
مداهن تبر فى أنامل فضة ... على أذرع مخروطة من زبرجد
ومن شعره ايضاً:
لما بدا في لازور ... دى الحرير وقد بهر
كبرت من فرط الجمال ... وقلت ما هذا بشر
فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر
ومن شعره أيضاً:
قلبى وقلبك لامحالة واحد ... شهدت بذلك بيننا ألحاظ
فتعال فلنعظ الحسود بوصلنا ... إن الحسود بمثل ذاك يغاظ
أحمد بن محمد، بن هارون النزليأبو الفتح النحوي أخذ عن أبي الحسن، علي بن عيسى الربعي، وهو من أقران أبى يعلى بن السراج
أحمد بن محمد العموديالهمذاني أبو عبد الله اللغوي ذكره شيرويه بن شهر دار، فقال: روي عن عبد الرحمن بن حمدان الجلاب، وابى الحسين محمد الحريرى، صاحب ابى شعيب الحرانى، وغيرهما روى عنه أبو عبد الله الإمام وغيره
أحمد بن محمد، الأصبهانيبن أحمد بن شهر دار المعلم الأصبهاني كان أديباً فاضلاً، بارعاً في الأدب، فصيحاً، كثير السماع، حسن الخط صاحب اصول، مات في شوال سنة ست واربعين واربعمائة قال يحيى بن مندة: سمعت من الثقات، منهم أبو غالب بن هارون تلميذه، أنه كان رجلاً فاضلاً، إلا أنه كان لا يصلى الصلوات كما قيل.
أحمد بن محمد، ابن ابراهيم الميدانيأبو الفضل النيسابورى، والميدان محلة من محال نيسابور، كان يسكنها، فنسب اليها، ذكر ذلك عبد الغافر، وهو أديب فاضل، عالم نحوى لغوى مات فيما ذكره عبد الغافر بن اسماعيل الفارسى فى السياق، فى رمضان، سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ليلة القدر، ودفن بمقبرة الميدان، قرأ على ابى الحسن، على بن أحمد الواحدى، وعلى يعقوب بن أحمد النيسابورى، وله من التصانيف: كتاب جامع الأمثال، جيد بالغ، كتاب السامي في الأسامي، كتاب النموذج في النحو، كتاب الهادى للشادى، كتاب النحو الميداني، كتاب نزهة الطرف في علم الصرف، كتاب شرح المفضليات، كتاب منية الراضى فى رسائل القاضي، وفي كتاب السامي في الأسامي يقول أسعد بن محمد المرساني
هذا الكتاب الذى سماه بالسامى ... درج من الدر بل كنز من السام
ماصنفت مثله فى فنه أبداً ... خواطر الناس من حام ومن سام
فيه قلائد ياقوت مفصلة ... لكل أوع ماضى العزم بسام
فكعب أحمد مولاي الإمام سما ... فوق السماكين من تصنيفه السامي
وسميت في المفاوضة ممن لا أحصى: أن الميداني لما صنف كتاب الجامع في الأمثال، وقف عليه أبو القاسم الزمخشري، فحسده على جودة تصنيفه، وأخذ القلم وزاد في لفظة الميداني نوناً، فصار النميداني، ومعناه بالفارسية: الذي لا يعرف شيئاً فلما وقف الميداني على ذلك، أخذ بعض تصانيف الزمخشرى، فصير ميم نسبته نوناً فصار الزنخشرى، معناه مشترى زوجته وذكر محمد بن أبى المعالي، بن الحسن الخواري في كتابه ضالة الأديب، من الصحاح والتهذيب، وقد ذكر الميداني فقال: وسمعت غير مرة من كتاب أصحابه يقولون: لو كان للذكاء، والشهامة، والفضل، صورة، لكان الميداني تلك الصورة، ومن تأمل كلامه، واقتفى اثره، علم صدق دعواه. وكان ممن قرأ عليه وتخرج به، الامام أبو جعفر أحمد ابن علي المقرئ البيهق، وابنه سعيد، وكان اماماً بعده. قال عبد الغافر ابن اسماعيل: ومن اشعاره:
تنفس صبح الشيب في ليل عارض ... فقلت عساه يكتفي بعذارى
فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل يرى صبح بغير نهار

وذكره أبو الحسن البيهقي في ككتاب وشاح الدمية فقال: الامام استاذنا صدر الأفاضل، أبو الفضل، أحمد ابن محمد ابن أحمد الميدانى، صدر الادباء، وقدوة الفضلاء، قد صاحب الفضل في ايام نفذ زاده. وفني عتاده، وذهبت عدته، وبطلت اهبته، فقوم سناد العلوم، بعد ما غيرتها الايام بصروفها، ووضع انامل الافاضل، على خطوطها وحروفها، ولم يخلق الله تعالى فاضلا في عهده، إلا وهو في مائدة ادابه ضيف، وله بين بابه وداره شتاء وصيف، وما على من عام لجج البحر الخضم، واستنزف الدرر ظلم وحيف، وكان هذا الامام يأكل من كسب يده، وما انشدنى رحمة الله لنفسه:
حننت اليهم والديار قريبة ... فكيف اذا سار المطي مراحلا
وقد كنت قبل البين لا كان بينهم ... اعاين للهجران فيهم دلائلا
وتحت سجوف الرقم اغيد ناعم ... ينيس كخوط الخيزرانة مائلاً
وينض علينا السيف من جفن مقلة ... تريق دم الابفال في الحب باطلاً
وتسكرنا لحظ ولفظ كأنما ... بفيه وعينيه سلافة بابلاً
وله أيضاً:
شفة لماها زاد في الامي ... في رشف ريقها شفاء سقام
قد ضمنا جنح الدجى وللثمنا ... صوت كقطك الرؤوس الأقلام
ثم ذكر البيتين اللذين أولهما:
تنفس صبح الشيب في ليل عارض ... وقد مر ذكرهما انفاً، ثم قال: وله:
ياكاذبا اصبح في كذبه ... اعجوبة اية اعجوبة
وناطق ينطق في لفظة ... واحدة سبعين اكذوبة
شبهك الناس بعرقوبهم ... لما رأوا اخذك اسلوب
فقلت: كلا، انه كاذب ... عرقوب لا يبلغ عرقوبه
ثم ذكر وفاته كما تقدم في رواية عبد الغافري، ثم ذكر ولده سعيد، وقد ذكرنهاه في بابه
أحمد بن محمد الصلحي، أبو الخطابكان أديباً، فاضلاً، كاتباً، حسن الخط، وله شعر رفيق سائر، ذكره أبو سعد في المذيل، وأورد له هذين البيتين وهما:
يا راقد العين عيني فيك ساهرة ... وفارغ القلب: قلبي فيك ملآت ما الآن
اني ارى منك عذب الثغر عذبنى ... واسهر الجفن، جفن منك وسنان
أحمد بن محمد، الأخسكيثيبن القاسم، بن أحمد، بن خديو الأخسكيثي أبو رشاد، الملقب بذى الفضائل. مات ليلة الاحد الثامن من جماد الاولى، سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وأخيكث مدينة من فرغانة، يقال بالثاء والتاء، وكان هو واخوه ذو المناقب محمد، اديبى مرو، غير مدافعين، يقر لهما بذلك كلهم، قدما مرو وسكناه الى ان ماتا. وكان ذو الفضل هذا شاعرا اديبا، مصنفا كاتبا، مترسلا في ديوان السلاطين وله تصانيف، منها: كتاب في التاريخ، كتاب في قولهم كذب عليك كذا، كتاب زوائد في شرح سقط الزند، وغير ذلك. قرأت في ديوان شعره بخطه، انشدت لابي العلاء:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ... وموجس حارت واليهود مظللة
اثنان اهل الارض: ذو عقل بلا ... دينا، واخر دين لا عقل له فقلت له مجيبا له:
الدين اخذه وتاركه ... لم يخف رشدهما وغيهما
رجلان أهل الارض قلت فقل: ... يا شيخ سوء انت ايهما؟
ذكره السمعاني في مشيخته، فقال: كان اديبا، فاضلا، بارعا، له الباع الطويل في معرفة النحو واللغة، واليد الباسطة في النظم والنثر، وله ورود على جماعة من قدماء الفضلاء، ومشاعرات ومنافرات، مع الفحول والكبراء، وكان اكثر فضلاء خرسان، قرأوا الادب عليه، وتتلمذوا له، سمع بأخسيكث: أبي القاسم محمود ابن محمد الصوفي، وبمرو: جدي ابى المضفر السمعاني، سمعت كتاب الاداب والمواعظ، للقاضى أبي سعد الخليل ابن أحمد السجزى، بروايته عن محمود الصيرفي، عن أبي عبيد الكرواني، عن المصنف. كانت ولادته في حدود سنة ست وستين واربعمائة. وتوفى بمرو فجأة ليلة الاثنين، لاربع ليال بقين من جماد الاخرة، سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.


أحمد ابن محمد الأبي، أبو العباسكان من أهل أبة، من ناحية برقة، وسافر إلى اليمن تاجراً، واجتمع بأبي بكر السعدي بعدن وحدثني المولى المفضل، جمال الدين بقصته مع السعدي عنه، انه سمعها منه، ثم قدم الاسكندرية واقام بها، فجرى بينه وبين القاضي شرف الدين عبد الرحمن، ابن قاضى الاسكندرية ما احوجه الى قدومه الى القاهرة، وشكا منه إلى الصاحب صفى الدين شكر، فلم يشكه، فاقام بالقاهرة إلى ان مات، وكان شكواه من قطع رزقه، من مسجد كان يصلى فيه، او نحو ذلك، وكان قدومه إلى القاهرة، سنة ست وستين وخمسمائة ومات بعد ذلك في نحو سنة ثمان وتسعين وصنف كتاباً في النحو، رأيته بخطه، وهي مسائل منثورة حدثني المولى القاضي المفضل، جمال الدين قال: دخلت إلى الصاحب أبي بشر وهو في مجلسه، فجلست إلى جانبه فأنشدني متمثلاً:
إنك لاتشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
اشارة الى انه لم يشكه قال أبو زياد الكلابي: ومثل من أمثال العرب: إنك لاتشكو الى مصمت، والتصميت: أن تقول المرآة إذا بكى صبيها الرضيع، وهي مشغولة عنه لبعض صبيانها، أو لزوجها: صمت هذا الصبي، فيأتيه فيحضنه بيده حتى يسكت قال: وحدثني قال: دخلت إلى مجلس الشيخ الموفق أبي الحجاج يوسف، المعروف بابن الخلال، كاتب الإنشاء فى ايام المصريين، وكان الموفق قد عمل معمى في المرآة نثرا، فقال لمن بحضرته: ماتقولون فى قولي: شيء شديد الباس، يغيره ضعيف الانفاس وذكر كلاما بعده، فاستدللت بهذه الفاتحة، على انه المرآة، لأن الشديد البأس، هو الحديد، ويغير صقالها النفس، فقلت له ذلك، فاستحسن حدة خاطري انشدني مولانا القاضي، الإمام جمال الدين، أبو الحجاج يوسف بن القاضي الأكرم، علم الدين، أبى طاهر اسماعيل بن عبد الجبار، بن ابى الحجاج، قال انشدنى أبو العباس، أحمد بن محمد الآبى، ممتدحاً لى، وكتبته أنا من خطه بيده:
ياخير من فاق الافاضل سوددا ... وامتاز خيماً في الفخار ومحتدا
وسما لاعلام المعالي فاحتوى ... فضلا به يهدي وفضلا يجتدا
واذا الرياسة لم تزن بمعارف ... وعوارف يسدى بها كانت سدا
لاتنس من لم ينس ذكرك أحمدا ... وافى جنابكم الكريم فأحمدا
يهدى الى الأسماع من أوصافكم ... ملحاً كزهر الروض باكره الندا
مستحسنات كلما كررتها ... لم تسأم الاسماع منها موردا
والفضل فيه لكم ومنكم إنما ... يعزى المضاعف في الجميل لمن بدا
كالزهر يسقى الزهر صيب أفقها ... فيعود منه نشره متصعدا
جاد الغمام على الكمام بمائه ... عذبا فنصر ما حوته ونضدا
وإذا امرؤ أسدى لحر نعمة ... بدءا تملكه بها واستبعدا
دعى المفضل إذ تسامى فضله ... شرفا على نظرائه واستجمد
أحمد بن محمد، الواسطىبن مختار الواسطى أبو على النحوي العدل، بن أخي أبى الفتح، محمدابن محمدة، بن جعفر، بن مختار النحوى، الذى يأتى ذكره فيما بعد، إن شاء الله تعالى مات بعد سنة خمسمائة وله عقب بواسط، اخذ النحو عن ابى غالب بن بشران، وكان منزله مألفا لاهل العلم، وكان من الشهود المعدلين، وكان طحانا بمشرعة التنانيرين بواسط حدثنى أبو عبد الله محمد بن سعد، بن الحجاج الدبيثى، قال: حدثنى عبد الوهاب بن غالب، عن الشريف ابى العلاء ابن التقي قال: قدم إلى واسط في بعض الأعوام عسكر الأعاجم، فنبهوا قطعة من البلد، ونبوا دكان الشيخ أبي علي بن مختار، ونزلوا بداره قال الشريف: فدخلت معه إليهم، نستعطفهم أن يردوا عليه بعض ما اخذوا منه، فلم نر لذلك وجها وخرجنا وهو يقول:
تذكرت ما بين المذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
ثم التفت الى فقال: ما العامل في الظرف فى هذا البيت؟ فقلت له يا سيدى: ما اشغلك ما انت فيه عن النحو والنظر فيه! فقال: يا بني، وما يفيدني إذا حزنت؟ وحدث الحافظ أبو طاهر، أحمد بن محمد السلفي قال: أنشدني الشيخ أبو علي أحمد بن محمد، بن مختار المعدل بواسط لنفسه، وأفادنيه خميس بن علي الحافظ:
كم جاهل متواضع ... ستر التواضع جهله

ومميز فى علمه ... هدم التكبر فضله
فدع التكبير ما حييت ... ولا تصاحب أهله
فالكبر عيب للفتى ... أبدا يفبح فعله
وأنشد له:
ما هذه الدنيا بدار مسرة ... وتخونني مكرا لها وخداعا
بيننا الفتى فيها يسر بنفسه ... وبماله يستمتع استمتاعا
حتى سقته من المنية شربة ... وحمته منها بعد ذاك رضاعا
فغدا بما كسبت يداه رهينة ... لايستطيع لما عراه دفاعا
لوكان ينطق قال من تحت الثرى ... فليحسن العمل الفتى ما استطاعا
أحمد بن مروان، المؤدب أبو مسهرمن اهل الرملة، عالم باللغة، كان فى ايام المتوكل وهو القائل:
غيث وليث: فغيث حين تسأله ... عرفا، وليث: لدى الهيجاء ضرغام
يحيا الانام به في الجدب ان قحطوا ... جودا ويشقي به يوم الوغى الهام
حالان ضدان مجموعان فيه فما ... ينفك بينهما بوسى وانعام
كالمزن يجتمع الضدان فيه معا ... ماء ونار وارهام واضرام
أحمد بن مطرف،القاضىبن إسحاق القاضى أبو الفتح المصرى، كان فى الدولة المصرية فى أيام، الحكم، وله تآليف فى الأدب، منها: كتاب النوائح، كتاب كبير في اللغة، ورسالة فى الضاد و الظاء، كتب بها إلى الشريف أبى الحسن، محمد بن القاسم الحسيني، عامل تنيس
أحمد بن مطرف، أبم الفتح العسقلانىكان ياى القضاء بدمياط، ومات فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ومولده سنة نيف وعشرين وثلاثمائة، وكان أديباً، فاضلاً، وله كتب كثيرة مصنفة في الأدب، وفى اللغة، وغيرهما. وديوان شعره جمعه على نسختين: إحداهما معربة، والأخرى مجردة، يكون دون ألف ورقة، قال ذلك كله أبو عبد الله الصوري الحافظ.وحكى: أنه أنشده قطعة من شعره، وناوله بقيته، وأذن له في روايته عنه، ورواية سائر مصنفاته، قال: ومما أحفظ له من قطعة أنشد نيها لنفسه، أولها:
علمي بعاقبة الأيام يكفيني ... وما قضى الله لي: لا بد يأتيني يقول فيها:
ولاخلاف بأن الناس مذ خلقوا ... فيما يرومون معكوسو القوانين
إذ ينفق العمر فى الدنيا مجازفة ... و المال ينفق فيها بالموازين
أحمد بن موسى، بن أبى عمار الحناطصاحب أبى عبيد القاسم بن سلام، مات فيما ذكره ابن بنت الغرياني في سنة إحدى وثمانين ومائتين
أحمد بن موسى،بن مجاهد المقرئبن العباس، بن مجاهد المقرئ، أبو بكر، قال الخطيب: كان شيخ القراء فى وقته، و المقدام منهم على أهل عصره، مات فيما ذكره الخطيب فى شعبان، سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، ودفن فى مقبرة باب البستان، من الجانب الشرقى، في ربيع الآخر، سنة خمس وأربعين ومائتين، قال الخطيب: وحدث عن عبد الله بن أيوب المخزمى، ومحمد بن الجهم السمري،وخلق غيرهما. وحدث عنه الدار قطني، وأبو بكر الجعابي، وأبو بكر بن شاذان، وأبو حفص بن شاهين، وغيرهم.وكان ثقة مأموناً، يسكن بالجانب الغربي، نحو مربعة الخرسي. حدث أبو بكر الخطيب قال: قال ثعلب النحوى:في سنة ست وثمانين ومائتين: ما بقى من عصرنا هذا، أعلم بكتاب الله، من أبى بكر بن مجاهد. وحدث أبو بكر النحوى قال: صليت خلف أبى بكر ابن مجاهد صلاة الغداة، فاستفتح بقراءة الحمد، ثم سكت، ثم استفتح ثانية، ثم سكت، ثم ابتدأ بالقراءة،فقلت أيها الشيخ، رأيت اليوم منك عجيباً. فقال لي: شهدت المكان؟ فقلت: نعم، فقال: أشهدتك الله أن لا حدثت به عنى، إلى أن أوارى تحت أطباق الثرى، ثم قال يابنى: ما هو إلا أن كبرت تكبيرة الإحرام، حتى كأنى بالحجب قد انكشفت ما بينى وبين رب العزة تعالى سرابسر، ثم استفتحت بقراءة الحمد، فاستجمع كل حمد لله في كتابه مابين عيني، فلم أدرى بأى الحمدلة أبتدئ؟. وحدث عيسى بن علي، بن عيسي، الوزير قال: أنشدنى أبو بكر بن مجاهد، وقد جئته عائداً، وأطال عنده قوم، كانوا قد حضروا لعيادته، فقال لى يا ابا القاسم، عيادة ثم ماذا؟ فصرف من حضر، ثم هممت بالانصراف معهم، فامرنى بالرجوع إليه، ثم انشدنى عن على بن الجهم السمرى:

لاتضجرن مريضا جئت عائده ... ان العيادة يوم اثر يومين
بل سله عن حاله وادع الاله له ... واقعد بقدر فواق بين حلبين
من زار غبا اخا دامت مودته ... وكان ذاك صلاحا للنحليلين.
وحدث الحسين بن محمد، بن خلف المقرئ، قال: سمعت ابا الفضل الزهرى يقول: انتبه أبى فى الليلة التى مات فيها أبو بكر بن مجاهد، فقال يابنى: ترى من مات الليلة؟ فانى قد رأيت في منامى، كأن قائلا يقول: قد مات الليلة مقوم وحى الله، منذ خمسين سنة، فلما اصبحنا إذا ابن مجاهد قد مات آخر مانقلناه من تاريخ الخطيب وذكره محمد بن إسحاق في كتابه، فقال: كان ابن مجاهد، مع ماعرف به من الفضل، واشتهر عنه من العلم والنبل، كثير المداعبة، طيب الخلق، وله من الكتب: كتاب القراءات الكبير، كتاب القراءات الصغير، كتاب الياءات، كتاب الهاءات، كتاب قراءة ابى عمرو، كتاب قراءة ابن كثير، كتاب قراءة عاصم، كتاب قراءة نافع كتاب قراءة حمزة كتاب قراءة الكسائى كتاب قراءة ابن عامر، كتاب قراءة النبى صلى الله عليه وسلم، كتاب السبعة كتاب انفرادات القراء السبعة كتاب قراءة على بن ابى طالب رضى الله عنه نقلت من خط أبى سعد السمعاني واختياره لتاريخ يحيى بن مندة سمعت الامام ابا المظفر عبد الله بن شيث المقرئ يقول: سمعت أحمد بن منصور المذكر يقول: سمعت ابا الحسن بن سالم البصري الصوفى يقول: وهو صاحب سهل بن عبد الله التسترى قال: سمعت ابا بكر محمد بن مجاهد المقرئ يقول: رأيت رب العزة في المنام؟ فتختمت عليه ختمتين، فلحنت فى موضعين، فاغتممت،فقال يابن مجاهد: الكمال لى، الكمال لى قرأت فى تاريخ خوارزم فى ترجمة ابى سعيد، أحمد بن محمد، ابن حمديج الحمد يجى قال: كنت اختلف إلى ابى بكر بن مجاهد، المقرئ البغدادى، فكان يكرمى لفقهى،فاشتهيت ات اقرأ عليه، لما رايت من ولوع الناس بالقراءة عليه، فقلت له: اني اريد أن اقرأ عليك القرآن، فقال: نعم، إن كنت تريد القراءة، فاجلس مجلس التلامذة، قال فتحولت من جنبه الى بين يديه، فلما افتتحت القراءة على رسم العامة، وقلت: " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: أوكذا تقرأ؟ إذهب الى ذلك الفتى حتى يرشدك، ثم اقرأ علي، فخجلت من ذلك، وترك إكرامي، كما كان يكرمني قبل ذلك، لما عرف بضاعتي في القراءة وقال التنوحي: بلغني عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: الناس أربعة: مليح يتبغض لملاحته فيحتمل، وبغيض يتملح، فذاك الحمى، والداء الذي لا دواء له، وبغيض يبغض، فيعذر لأنه طبعه، ومليح يتملح، فتلك الحياة الطيبة ومن تاريخ ابن بشران: كان ابن مجاهد كثيرا ما ينشد:
إذا عقد القضاء عليك أمرا ... فليس يحله إلا القضاء
قال: وذكر عن ابن مجاهد: انه حضر وجماعة من اهل العلم في بستان، وداعب وقال: وقد لاحظه بعضهم التعاقل في البستان، كالتخالع في المسجد وروى عن ابى طالب الهاشمى صهر ابى بكر بن مجاهد قال: كنت عند ابن مجاهد وقد حضرته الوفاة، فقال لي: اخرج من ههنا من اهلنا، قال: ففعلت ذلك، ثم قال لى: وتباعد انت ايضا، فوقفت عنه بعيدا، فاستقبل القبلة، واقبل يتلو آيات من القرآن، ثم خفت صوته، فلم يزل يتشاهد الى ان طفا قال: وكان له جاه عريض عند السلطان، وسأله بعض اصحابه كتابا الى هلال بن بدر فى حاجة له، فكتب إليه كتابا وختمه، ولم يقف عليه، فلما صار الى هلال وسلم اليه الكتاب، قضى حوائجه، وبلغ له فوق ما اراد، فلما اراد ان ينصرف، قال له: تدرى ما في كتابك؟ قال: فاخرجه وفيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " حامل كتابي إليك، حامل كتاب الله عني والسلام وصلى الله على سيدنا محمد وآله اجمعين.
أحمد النهر جوري

أبو أحمد الشاعر العروضي له في العروض تصانيف، وهو به عارف حاذق، يجرى مجرى أبي الحسن العروضي والعمرانى وغيرهما فيه، وهو مع ذلك شاعر متوسط الطبقة، وهو من أهل البصرة حدثني أبو الحسن، عن علي بن محمد بن نصر الكاتب، قال: اجتمعت به بالبصرة فى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وانا فى جملة ابى الحسن بن ماسرجيس،وسافرنا عنها الى ارجان مع بهاء الدولة، وخرج النهرجورى معنا، واقام فى مصاحبته، إلى ان تقلد أبو الفرج، محمد بن على الخازن البصرة في اواخر سنة اثنتين واربعمائة، فعاد معه اليها، ثم وردتها فى ذى القعدة، سنة ثلاث واربعمائة، متصلا بخدمة " شاهنشاه " الاعظم، جلال الدولة بن بهاء الدولة، وقد مات النهرجورى قبل ذلك بشهور، بعلة طريفة، لحقته من ظهور القمل في جسمه، عند حكه اياه، الى ان مات وكان شيخا قصيرا، شديد الأدمة، سخيف اللبسة، وسخ الجملة، سيء المذهب، متطاير بالالحاد، غير مكاتم له، ولم يتزوج قط، ولا اعقب، وكان اقوى الطبقة في الفلسفة، وعلوم الاوائل، ومتوسطا في علوم العربية وعلمه بها اكثر من شعره، وكان ثلابة للناس هجاء قليل الشكر لمن يحسن إليه، غير مراع لجميل يسدى إليه وانشدني اشياء كثيرة من شعره، ومنه:
من عاذري من رئيس ... يعد كسبي حسبي
لما انقطعت إليه ... وصلت منقطعا بي
فسمع ذلك أبو العباس بن ماسرجيس،فقال: هذا تليس منه، وانا المقصو بالهجو، وانما قال: من عذيرى من وزير، وقد راقبني في تعبيره، فلما توفي النهرجوري، حمل إلى ابى العباس مسوداته، فوجد فيها القطعة منسوبة اليه، فاخرجها ووقفني عليها، وعرفني صحة حدسه فيه ومن شعره في أبي الوفاء بن الصقيل:
ما استخرج المال بمثل العصا ... لطالبيه من أبي الغدر
اليس قد اخرج موسى بها ... لقومه الماء من الصخرة
وله ايضا:
صاح نديمي وشفه الطرب ... ياقومنا ان امرنا عجب
نار إذا الماء مسها زفرت ... كأنها لالتهابها حطب
وله يهجو طبيباً من أهل الابلة، يعرف بأبي غسان وكان قد أغرى بهجائه:
ياطبيبا داوى كساد ذوي الأكفان ... حتى أعادهم في نفاق
إن تكن قد وصلت رزقهم فيها ... فكم قد قطعت من أرزاق؟
وقع الله فى جبينك للأرزاق ... إن ودع وداع الفراق
وله فيه ايضا:
يا بن غسان أنت ناقضت عيسى ... فهو يحيي الموتى وأنت تميت
يشهد القلب أنه يقدم الغاسل ... أو إن دسته تابوت
وقال في أبي إسحاق الصابئ، يمدحه وهو بالبصرة بقصيدة أولها:
لا يذهبن عليك في العواد ... ضعف القوى وتفتت الأكباد
لا تسألي عني سواك فإنما ... ذكراك أنفاسي وحبك زادي
يا سمحة بدمي على تحريمه ... فيما يظن أصادق وأعادي
حاشاك أن ألقاك غير بخيلة ... أو أن أرى ما لا ترين رشادي
وله يهجو امرأة:
تموت من شهوة الضراط ولا ... يسعدها دبرها بتصويت
كأنما إليتاك خابية ... تظل ملقية لتزفيت
وله أيضاً:
لو كان يورث بالتشابه ميت ... لملكت بالأعضاء ما لا يملك
ثعل مخاتله تخبر أنه ... في الناس من نطف الجميع مشبك
قالوا: ولم يكن وسخه وقذارته عن فقر، فإن حاله كانت مستقيمة حسنة، بل كانت لعادة سيئة فيه، وكان الناس يتقون لسانه وكثرة هجائه، قال ابن نصر: ومدح أبو أحمد النهرجوري أبا الفرج منصور بن سهل المجوسي عامل البصرة، فأعطاه صلة حاضرة هنية، والتف به الحواشى، فطالبوه، فكتب رقعة ودفعها إلى بعض الداخلين إليه، وقال تسلم هذه إلى الأستاذ وكان فيها:
أجارني الأستاذ عن مدحتي ... جائرة كانت لأصحابه
ولم يكن حظي منها سوى ... جربذتي يوماً على بابه
فلما وصلت إليه الرقعة،خرج فى الحال من صرف الحواشى عنه، وصار معه حتى دخل منزله:
أحمد بن نصر، بن الحسين البازريار

أبو علي كان نديماً لسيف الدولة بن حمدان، وكان أبوه نصر بن الحسين من ناقلة سامرا، واتصل بالمعتضد وخدمه، وخف على قلبه، وأهله من خرسان،وكان يتعاطى لعب الجوارح فرد إليه المعتضد نوعاً من أنواع جوارحه، ومات أبو على بحلب، في حياة سيف الدولة، وله من الكتب كتاب تهذيب البلاغة ذكر ذلك كله محمد بن إسحاق النديم.قال ثابت بن سنان: مات أبو على أحمد بن نصر، بن البازايار بالشام، فى سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وحدث أبو جعفر طلحة بن عبد الله بن قناش، صاحب كتاب القظاة قال: كنا بحضرة سيف الدولة، وقد كان من ندمائه، قال: كان يحضر معنا مجلسه أبو نصر النبض، وكان رجلاً من أهل نيسابور، أقام ببغداد قطعة من أيام المقتدر، وبعدها إلى أيام الراضى، وكان مشهوراً بالطيبة و الخلاعة،وخفة الروح، وحسن المحاضرة، مع العفة و الستر، وتقلد الحكم فى عدة نواح بالشام، فقيل له يوماً بحضرة سيف الدولة: لم لقبت النبض؟ فقال: ما هذا لقب، وإنما هو اشتقاق من كنيتي، كما لو أردنا أن نشتق من أبى على مثل هذا " وأومأ إلى ابن البازيار " لقلنا: البعل. أو اشتققنا من أبى الحسن " وأومأ إلى سيف الدولة " لقلنا:البحس، فضحك سيف الدولة منه،ولم ينكر عليه، وقد استدللت بهذه الحكاية، على عظم قدر ابن البازيار عند سيف الدولة،إذ قرن اسمه باسمه. قال أبو على عبد الرحمن بن عيسي، بن الجراح فى تاريخه: لما ورد ناصر الدولة إلى بغداد، وقد رد إليه تدبير العساكر، وإمرة الأمراء، قلد الوزير أبو إسحاق محمد بن أحمد القراريطى، إبراهيم بن أخى أبى الحسن على بن عيسى، أصل ديوان المشرق، وزمام البر، وزمام المغرب، وزمام المنبع وديوان الفراتية، مدة من الزمان، ثم استشفع إلى الوزير، أحمد بن نصر البازيار، بابن مكرم كاتب ناصر الدولة، فقلده ديوان المشرق، وزمام البر، وزمام المغرب، وعوض أب نصر إبراهيم بن أخي أبى الحسن، مكان ماصرفه عنه، ديوان البر، وديوان ضياع ورثة موسى بن بغا الأصل. نقلت هذا من خط إبراهيم ابن أخي أبي الحسن، علي بن عيسى، صاحب هذه القصة، فإن النسخة بالتاريخ كانت بخطه. وذكر هلال أن أحمد ابن نصر البازيار، كان ابن أخت أبى القاسم، على بن محمد بن الحواري، وكان أبو العباس الصفري، شاعر سيف الدولة، قد حبس لمحاكمة كانت بينه وبين رجل من أهل حلب، فكتب إلى ابن البازيار فى محبسه
كذا الدهر بوس مرة ونعيم ... فلا ذا ولاهذا يكاد يدوم
وذو الصبر محمود على كل حالة ... وكل جزوع فى الأنام ملوم
يقول فيها:
أترضى الطماى قاض بحبسه ... إذا اختصمت يوماً إليه خصوم؟
وإن زماناً فيه يحبس مثله ... لمثلي، زمان ما علمت لثيم
يكاد فؤادي يستطير صبابة ... إذا هب من نحو الأمين نسيم
هل أنت ابن نصر ناصر بمقالة ... لها في دجى الخطب البهيم نجوم؟
ولائم قاض رد توقيع من به ... غدا قاضياً فالأمر فيه عظيم
ومتخذ عندي صنيعة ماجد ... كريم نماه فى الفخار كريم
أحمد بن هبة الله، بن العلاء،
ابن منصور المخزومي أبو العباس،الأديب النحوى، المعروف بالصدر ابن الزاهد، مات فى الثالث عشر من رجب، سنة إحدى عشرة وستمائة، وقد نيف على الثمانين وكان له اختصاص عظيم بالشيخ أبي محمد بن الخشاب لا يفارقه، فحصل منه علماً جماً،وصارت له يد باسطة في العربية و اللغة، وكان قرأ قبله على أبى الفضل بن الأشتر، وكان كيساً مطبوعاً، خفيف الروح، حسن الفكاهة. وسمع من عبد الوهاب الأنماطي، وابن الماندائي، وغيرهما. أنبأنا أبو عبد الله الدبيثي، قال: أنشدني أبو العباس، أحمد بن هبة الله الأديب لفظاً، قال: أنشدني الأمير أبو الفوارس سعد بن محمد الصيفي لنفسه:
أجنب أهل الأمر و النهى زورتي ... وأغشى امرأ في بيته وهو عاطل
إني لسمح بالسلام لأشعث ... وعند الهمام القيل بالرد باخل
وما ذاك من كبر ولكن سجية ... تعارض تيهاً عندهم وتساجل
ذكره العماد فقال: هو من فقهاء النظامية، ذو الخاطر الوقاد، و القريحة والانقاد وله يد في العربية و النحو، قرأ على شيخنا أبي محمد الخشاب، وأنشدني لنفسه:

ومهفهف يسبيك خط عذاره ... ويريك ضوء البدر فى أزراره
حاكت شمائله الشمول وهجنت ... لطف النسيم يهب في أسحاره
وله قصيدة كتبها إلى الملك الناصر يوسف بن أيوب، منها
إن الأكاسرة الأولى شادوا العلي ... بين الأنام فمضل أو منعم
يشكون أنك قد نسخت فعالهم ... حتى تنوسي ما تقدم منهم
وسننت في شرع الممالك ماعملوا ... عن بعضه وفهمت مالم يفهموا وله أيضاً
ماذا يقول لك الراجي وقد نفذت ... فيك المعاني وبحر القول قد نزفا؟
وما له حيلة إلا الدعاء فإن ... يسمع يظل عليه الدهر معتكفاً
أحمد بن الهيثم، بن فراس،
بن محمد، ابن عطاء الشامي قال المرزباني: هو أحد الرواة المكثرين، روى عنه الحسن بن عليل العنزي، وأبو بكر وكيع، قلت: وكان أبوه الهيثم بن فراس، شاعراً مكثراً، وكان جده فراس من شيعة بني العباس، وقد أدرك دولة هشام بن عبد الملك، وله في أول الدولة أخبار، فحدث المرزباني بإسناد رفعه إلى الهيثم بن فراس قال: أنشدت عمار بن ثمامة:
ينادي الجار خادمة فتسعى ... مشمرة إذا حضر الطعام
وأدعو حين يحضرني طعامي ... فلا أمة تجيب ولاغلام
وحدث عن محمد، بن العباس عن المبرد قال: قال الهيثم بن فراس في المفضل بن مروان، وزير المعتصم:
تجبرت يافضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل، والفضل و الفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم الموت المشتت والقتل
يريد الفضل بن يحيى، و الفضل بن الربيع، و الفضل ابن سهل.
فإنك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستودى كما أودى الثلاثة من قبل
أحمد بن يحيى،البلاذريبن جابر، بن داوود البلاذري أبو الحسن، وقيل أبو بكر، من أهل بغداد ذكره الصولي في ندماء المتوكل على الله، مات في أيام المعتمد على الله إلى أواخرها، وما أبعد أن يكون أدرك أول أيام المعتضد، وكان جده جابر يخدم الخصيب صاحب مصر، وذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق، فقال. سمع بدمشق هشام بن عمار، وأبا حفص عمر ابن سعيد، وبحمص محمد بن مصفى، وبأنطاكية محمد ابن عبد الرحمن بن سهم، وأحمد بن مرد الأنطاكي، و بالعراق عفان بن مسلم، وعبد الأعلى بن حماد، وعلى ابن المديني، وعبد الله بن صالح العجلي، ومصعباً الزبيري، وأبا عبيد القاسم بن سلام، وعثمان بن أبى شيبة، وأبا الحسن على بن محمد المدائني، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وذكر جماعة قال: وروى عنه يحيى بن النديم، وأحمد بن عبد الله بن عمار، وأبو يوسف، يعقوب بن نعيم قرقارة الأرزاني. قال محمد بن إسحاق النديم: كان جده جابر، يكتب للخصيب صاحب مصر، وكان شاعراً، وراويه، ووسوس آخر أيامه فشد بالمارستان، ومات فيه، وكان سبب وسوسته، أنه شرب ثمر البلاذر على غير معرفة، فلحقه مالحقه. وقال الجهشياري في كتاب الوزارء: جابر بن داوود البلاذري، كان يكتب للخطيب بمصر، هكذا ذكر. ولا أدرى أيهما شرب البلاذر؟ أحمد بن يحيى، أو جابر بن داود؟ إلا أن ما ذكره الجهشياري، يدل على أن الذي شرب البلاذر هو جده، لأنه قال: جابر بن داود، ولعل ابن ابنه، لم يكن حينئذ موجوداً، والله أعلم. وكان أحمد بن يحيى بن جابر، عالماً فاضلاً، شاعراً، راوية نسابة، متقناً، وكان مع ذلك، كثير الهجاء، بذيء اللسان، أخذ الأعراض، وتناول وهب بن سليمان، بن وهب، لما ضرط فمزقه، فمن قوله فيه، وكانت الضرطة بحضرة عبد الله بن يحيى، بن خاقان:
أيا ضرطة حسبت رعده ... تنوق في سلها جهده
تقدم وهب بها سابقاً ... وصلى أخو صاعد بعده
لقد هتك الله ستريهما ... كذا كل من يطعم الفهده
وقال أحمد بن يحيى، بن جابر، يهجو عافية بن شيب:
من رآه فقد رأى ... عربياً مدلسا
ليس يدري جليسه ... أفسا أم تنفسا؟

وحدث علي بن هارون، بن النجم في أماليه عن عمه قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري قال: لما أمر المتوكل إبراهيم بن العباس الصولي، أن يكتب فيما كان أمر به من تأخير الخراج، حتى يقع في الخامس من حزيران استفتاح الخراج فيه، كتب في ذلك كتابه المعروف، وأحسن فيه غاية الإحسان، فدخل عبيد الله بن يحيى على المتوكل، فعرفه حضور إبراهيم ابن العباس، وإحضاره الكتاب معه، فأمر بالإذن له فدخل، وأمره بقراءة الكتاب، فقرأه، واستحسنه عبيد الله بن يحيى، وكل من حضر، قال البلاذري: فدخلني حسد له، فقلت: فيه خطأ، قال: فقال المتوكل: في هذا الكتاب الذي قرأه على إبراهيم خطأ؟ قال: قلت: نعم، قال: يا عبيد الله وقفت على ذلك؟ قال: لا، و الله يا أمير المؤمنين، ما وقفت فيه على خطأ، قال: فأقبل إبراهيم بن العباس على الكتاب يتدبره، فلم ير فيه شيئاً، فقال يا أمير المؤمنين: الخطأ لا يعرى منه الناس، وتدبرت الكتاب، خوفاً من أكون قد أغفلت شيئاً وقف عليه أحمد بن يحيى، فلم أرما أنكره، فليعرفنا موضع الخطأ،قال: فقال المتوكل: قل لنا ما هو هذا الخطأ الذي وقفت عليه في هذا الكتاب؟ قال: فقلت هو شيء لا يعرفه إلا على بن يحيى المنجم، ومحمد بن موسى، وذلك أنه أرخ الشهر الرومي بالليالي، وأيام الروم قبل لياليها، فهي لا تؤرخ بالليالي، وإنما يؤرخ بالليالي الأشهر العربية، لأن لياليها قبل أيامها بسبب الأهلة، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هذا مالا علم لي به،ولا أدعي فيه ما يدعى، قال: فغير تاريخه. قال الجهشياري: وقال أحمد بن يحيى، البلاذري في عبيد الله بن يحيى وقد صار إلى بابه فحجبه:
قالوا: اصطبارك للحجاب مذلة ... عار عليك به الزمان و عاب
فأجبتهم: ولكل قول صادق أو كاذب عند المقال جواب
إنى لأغتفر الحجاب لماجد ... أمست له منن على رغاب
قد يرفع المرء اللئيم حجابه ... صنعة ودون العرف منه حجاب
وحدث الجهشياري قال: حدثني ابن أبى العلاء الكاتب، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري قال:دخلت إلى أحمد بن صالح بن شيرزاد، فعرضت عليه رقعة لي فيها حاجة، فتشاغل عنى فقلت:
تقدم وهب سابقاً بضراطه ... وصلى الفتى عبدون و الناس حضر
وإني أرى من بعد ذاك وقبله ... بطوناً لناس آخرين تقرقر
فقال ياأبا الحسن: بطن من؟ فقلت: بطن من لم يقض حاجتى، فأخذ الرقعة، ووقع فيها بما أردت. وقال أحمد بن يحيى: يهجو صاعداً وزير المعتمد:
أصاعد قد ملأت الأرض جوراً ... وقد سست الأمور بغير لب
وساميت الرجال وأنت وغد ... لئيم الجد ذوعي وعيب
أضل عن المكارم من دليل ... وأكذب من سليمان بن وهب
وقد خبرت أنك حارثي ... فرد مقالتي أولاد كعب
قلت: أما سليمان بن وهب فمعروف، وأما دليل: فهو دليل بن يعقوب النصراني، أحد وجوه الكتاب، كان يكتب لبغا التركي، ثم توكل للمتوكل على خاصته. وحدث أبو القاسم الشافعي، في تاريخ دمشق بإسناده قال: قال أحمد بن جابر البلاذري: قال لي محمود الوراق: قل من الشعر ما يبقى ذكره، ويزول عنك إثمه، فقلت
إستعدي يانفس للموت واسعي ... لنجاة فالحازم المستعد
قد تثبت أنه ليس للحي ... خلود ولامن الموت بد
إنما أنت مستعيرة ما سوف ... تردين والعواري ترد
أنت تسهين والحوادث لا تسهو، ... وتلهين والمنايا تجد
لاترجى البقاء في معدن الموت ... ودار حقوقها لك وردُ
أي ملك في الأرض أم أي حظ ... لأمرىٍ حظه من الأرض لحدُ
كيف يهوى أمرؤ لذاذة أياماً ... عليه الأنفاس فيها تعد
ومن شعر البلاذري، الذي رواه المرزباني في معجم الشعراء:
يا من روى أدباً ولم يعمل به ... فيكف عادية الهوى بأديب
ولقلما تجدي اصابة صائب ... أعماله أعمال غير مصيب
حتى يكون بما تعلم عاملاً ... من صالح فيكون غير معيب

قال ابن عساكر في كتابه: وبلغني أن البلاذري كان اديباً، راوية، له كتب جياداً، ومدح المأمون بمدائح، وجالس المتوكل، ومات في أيام المعتمد، ووسوس في آخر عمره. قال المؤلف: هذا الذى ذكره ابن عساكر، من كلام المرزباني في معجم الشعراء بعينه. وقال محمد ابن اسحاق النديم: وله من الكتب: كتاب البلدان الصغير، كتاب البلدان الكبير لم يتم، كتاب جمل نسب الأشراف، وهو كتابه المعروف المتهور، كتاب عهد أردشير، ترجمه بشعر. قال: وكان أحد النقلة من الفارسي إلى العربي، كتاب الفتوح وحدث الصولي في كتاب الوزراء: حدثني أحمد ابن محمد الطالقني قال: لي أحمد ابن يحيى البلاذري: كان بيني وبين عبيد الله ابن يحيى، ابن خاقان حرمة، منذ أيام المتوكل،وماكنت أكلفه حاجة لإستغناء عنه، فنالتني في أيام المعتمد على الله إضافة،فدخلت إليه وهو جالس للمظالم، فشكوت تأخر رزقي وثقل ديني، وقلت: إن عيب على الوزير - أعزه الله - حاجة مثلي في أيامه، وغض طرفه عني، فوقع لي ببعض ما أردت، وقال: أين حياؤك المانع لك من الشكوى على الاستبطاء؟ فقلت: غرس البلوى، يثمر ثمر الشكوى، وانصرفت، وكتبت إليه:
لحاني الوزير المرتضى في شكايتي ... زماناً أحلت للجذوب محارمه
وقال: لقد جاهرتني بملامة ... ومن لي بدهر كنت فيه أكاتم
فقلت: حياء المرء ذو الدين والتقى ... يقل إذا قلت لديه دارهم
وحدث الصولى عن محمد ابن علي: أن البلاذري امتدح أبا الصقر، اسماعيل بن بلبل، وكتب إليه كتاباً حسناً، وسأله أن يطلق له شيئاً من ارزاقه ووعده فلم يفعل، فقال:
تجانف إسماعيل عني بوده ... ومل إخائي واللئيم ملول
وأن امرؤ يغشى أبا الصقر راغباً ... إليه ومغترا به لذليل
وقد علمت شيبان أن لست منهم ... فماذا الذي إن أنكروك تقول؟
ولو كانت الدعوى تثبت بالرشى ... لثبت دعواك الذين تنيل
ولكنهم قالوا مقالاً فكذبوا ... وجاؤوا بأمر ماعليه دليل
وله فيما أورده عبيد الله ابن ابى طاهر:
لما رأيتك زاهياً ... ورأيتني أجفى ببابك
عديت رأس مطيتي ... وحجبت نفسي عن حجابك
أحمد ابن يحيى، ابن يسار
ج4. كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


أبو العباس ثعلب الشيباني، مولاهم النحوي اللغوي، إمام الكوفيين في النحو واللغة، والثقة، والديانة. ولد فيما ذكره المرزباني عن مشايخه، سنة مائتين، ومات لثلاث عشرة ليلة بقيت من جماد الأولى، سنة إحدى وتسعين ومائتين، في خلافة المكتفي ابن المعتضد، وقد بلغ تسعين سنة وأشهر وكان رأى أحد عشر خليفة، أولهم المأمون وأخرهم المكتفى وكان قد ثقل سمعه قبل موته، ودفن في مقابر باب الشام، في حجرة اشتريت له، وبنيت بعد ذلك، وقبره هناك معروف، ورد ماله على ابنته، وكان خلف إحدى وعشرين الف درهم، وألفي دينار، ودكاكين بباب الشام، قيمتها ثلاثة آلاف دينار، وضاع له قبل أحمد الصيرفي ألف دينار، وكان يتجر له بها، ذكر ذلك عبد الله ابن الحسين القطر بلى في تاريخه: حدث المرزباني عن أبى العباس، محمد ابن طاهر الطاهري، وكان أبو العباس ثعلب، يؤدب أباه طاهر ابن محمد، بن عبد الله، بن طاهر، قال: كان سبب وفاة أبى العباس ثعلب، أنه كان في يوم جمعة قد انصرف من الجامع بعد صلاة العصر، وكان يتبعه جماعة من اصحابه إلى منزله، أنا أحدهم، فتبعناه في تلك العشية، إلى أن صرنا إلى درب قد أسماه بناحية بابل باب الشام، وأتفق أن ابناً لإبراهيم ابن أحمد المادرائي، يسير من وراءنا على دابة، وخلفه خادم له على دابة، قد قلق واضطرب، وكان في تلك العشية بيده دفتراً ينظر فيه وقد شغله عما سواه،فلما سمعنا صوت حوافر الدواب خلفنا، تآخرنا عن جادة الطريق، ولم يسمع أبو العباس لصممه صوت الحوافر، فصدمته دابة الخادم، فسقط على رأسه في هوة من الطريق، أخذ ترابها، فلم يقدر على القيام، فحملناه إلى منزله، كالمختلط يتأوه من رأسه، وكان سبب وفاته - رحمه الله - . وحدث المرزباني عن أحمد بن محمد العروضي قال: إنما فضل أبو العباس أهل عصره، بالحفظ للعلوم التي يضيق عنها الصدور، وقد كان أبو سعيد السكري كثير الكتب جداً،فكتب بيده مالم يكتبه أحداً، فكان في الطرفان، لأن أبا سعيد، كان غير مفارق للكتاب عند ملاقاة الرجال. وابو العباس لايمس بيده كتابة إتكالاً على حفظه، وثقة بصفاء ذهنه. قال الخطيب: سمع يعني ثعلبة، محمد بن سلام الجمحي، ومحمد بن زياد الأعرابي، وعلي ابن المغيرة الأكثرم، وإبراهيم بن المنذر الحراني، وسلمة بن عاص، وعبيد الله بن العمر القوارري، والزبير بن بكار، وخلق كثيرة. وروى عنه محمد ابن العباس اليزيدي، وعلي ابن سليمان الأخفش، وإبراهيم بن محمد، بن عرفة نفطويه، وأبو بكر بن الأنباري، وأبو عمر الزاهد، وأبو الحسن بن المقسم، وأحمد ابن كامل القاضي وخلق كثر. وكان يقول: سمعت من القواريري مائة الف حديث. قرأت بخط أبي سالم الحسن ابن على: نقلت من خط الحسن بن على المقلة، قال أبو العباس أحمد بن يحيى ابتدأت النظر في العربية، والشعر واللغة، سنة ست عشرة، ومولد سنة مائتين، في السنة الثانية من خلافة المأمون. قال أبو العباس: ورأيت المأمون لما قدم من خرسان في سنة اربع ومائتين وقد خرج من باب الحديد، وهو يريد قصر الرصافة، والناس صفان في المصلى، قال: وكان أبى قد حملني على يده، فلما مر المأمون، رفعني وقال لي: هذا المأمون، وهذه سنة اربع، فحفظت ذلك إلى هذه الغاية وحذقت العربية، وحفظت كتب الفراء كلها، حتى لم يشذ عنى حرف منها، ولي خمس وعشرون سنة، وكنت أعنى بالنحو، أكثر من عناية بغيره، فلما أتقنته، أكببت على الشعر، والمعاني، والغريب، ولزمت أبا عبد الله ابن الاعرابي، بضع عشرة سنة، وأذكر يوماً وقد صار إلى أحمد بن سعيد ابن سليم وأنا عنده وجماعة منهم السدرى، وابو العالية، فأقام وتذاكروا شعر الشماخ، وأخذوا في البحث عن معانيه، والمسألة عنه، فجعلت أجيب ولا أتوقف وابن الأعرابي يسمع، حتى أتينا على معظم شعره، فالتف إلى أحمد ابن سعيد يعجبه مني. قال أبة العباس: قلت لابن ماسويه في علة شكوتها إليه، ماتقول في الحمام: فقال لي: أن تهيأ لانسان بعد اربعين سنة، أن يكون قد قيم حمام فليفل، قال أبو العباس: الذي لاينسب إليهيه، لأنه لايتم إلا بصلة، والعرب لاتنسب إلا إلى اسم تام، والذي وما بعده حكاية، والحكاية لاينسب إليها، لئلا تتغير. قال أبو العباس: وسئل ابن قادم عنها، وأنا غائب بفارس، فقال: اللذوي فلما قدمت وسئلت، فقلت: لاينسب إليه وأتيت بهذه العلة، فبلغته، فلما اجتمعنا تجاذبنا، ثم

رجع الى قولي. وقال أبو العباس: كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه، وكان نقي العلم، فقال لي يوماً وقد قرئ عليه:ع الى قولي. وقال أبو العباس: كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه، وكان نقي العلم، فقال لي يوماً وقد قرئ عليه:
ماتنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي؟ كيف نقول؟ بازل أو بازل؟ فقلت: أتقول لى هذا بالعربية؟ إنما أقصدك لغير هذا يروى بازل وبازل، الرفع على الاسئتناف، والخفض على الإتباع، والصب على الحال، فاستحيى وأمسكا. قال أبو العباس: ودخلت على محمد ابن عبد الله، بن طاهر، فإذا عنده المبرد وجماعة من أصحابه وكتابه، وكان محمد ابن عيسى وصفه له، فلم قعدت، قال لي محمد ابن عبد الله: ماتقول في قول امرئ القيس؟:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
قال: قلت أما غريب البيت، فإنه يقال لحم خظا يخظى: إذا كان صلباً مكتنزا، ووصف فرساً، وقوله أكب على ساعديه النمر: أي في صلابة ساعد النمر، إذا اعتمد على يديه والمتن: الطريقة الممتدة من عن يمين الصلب وشماله، ومافيه من العربية أنه خظاتا، فلم تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة، قال: فأقبل بوجهه على محمد بن يزيد فقال له محمد: - أعز الله الأمير - إنما أراد خظاتا بالإضافة، أضاف خظاتا إلى ما قال فقلت: ما قال هذا لأحد. قال محمد بن يزيد: بلى سيبويه يقول، فقلت لمحمد بن عبد الله لا والله ما قال سيبويه وهذا كتابه فليحضر، ثم أقبلت على محمد بن عبد الله، وقلت: ما حاجتنا إلى كتاب سيبويه؟ أيقال مررت بالزيدين طريفي عمرو، فيضاف نعت الشيء إلى غيره؟؟ فقال محمد لصحة طبعه، لا والله مايقال هذا، ونظر إلى محمد بن يزيد فأمسك ولم يقل شيئاً فقمت ونهض المجلس. قال عبد الله الفقير إليه: لا أدري، لما لايجوز هذا؟ وما أظن أحداً أن ينكر قول القائل: رأيت الفرسين مر كوبى زيد، والا الغلامين عبدي عمرو، ولا الثوبين ذراعتي زيد، ومثله مررت بالزيدين طريفي عمر، فيكون مضاف الى عمرو، وهو صفة لزيد، وهذا ظاهر لكل متأمل. قال أبو العباس: لما شاهدني المازني وجاراني النحو، وخرج الى سر من رأى، كان يذكرني ويوجه: الى أخوك يقرئك السلام. قال أبو العباس: قال لي محمد ابن عيسى بحصرة محمد ابن عبد الله: نحن نقدمك لتقدمه الأمير، فقلت له ياشيخ: إني لم أتعلم لتقدمني الأمراء، وإنما تعلمته لتقدمني العلماء. قال أحمد ابن يحيى: كان محمد ابن عبد الله، يكتب الف درهم واحدة، فإذا مر به ألف درهم واحد أصلحه واحدة، وكان كتابه ينكرون ذلك، ويغلظ عليه ويهابونه، فلا يبتدأونه فيه بشيء، فقال يوم: أتدري لما عمل القراء كتاب البهي؟ قلت لا، قال: لعبد الله أبي، بأمر طاهر الجدي، قلت له: إنه كان قدعمل له كتباً، منها: كتاب المذكروالمؤنث قال ومافيه؟ مثل الف درهم واحد، ولايجوز واحدة، ففتح عينيه وتنبه وأقلع. وقال أبو العباس:بعث الي عبدالله ابن اخت أبي الوزير، رقعة فيها خط المبرد: ضربته بلا سيف، قال: أيجوز هذا؟ فوجهت إليه، لا والله ماسمعت بهذا، قال أبو العباس: هذا خطأ البتة لأن لا التبرئة لايقع عليه خافض ولاغيره، لأنها أداة، وماتقع أداة على أداة. قال العجوزى: صرت إلى المبرد مع القاسم والحسن ابنى عبيد الله، بن سليمان، بن وهب، فقال لي القاسم سله عن شيء من الشعر فقلت ما تقول: - أعزك الله - في قول أوس؟:
وغيرها عن وصل الشيب أنه ... شفيع الي بيض الخدور مدرب

فقال بعد تمكث وتمهل وتمطق: يريد النساء أنس به، فصرنا لايسترنا منه، ثم صرنا إلى أبي العباس أحمد ابن يحيى، فلم غص المجلس، سألته عن البيت، فقال: قال لنا ابن الأعرابي: إن الهاء في " أنه للشباب " وإن لم يجر له ذكر لأنه علم، والتفت الى الحسن والقاسم فقلت: أين صاحبنا من صاحبكم؟. وقال حمزة: لما مات المازني، خلفه أبو العباس المبرد، وبقي ذكره ببغداد وسامراء، لايفض احد منه، الى أن ذكره ابن الأنباري في بعض مصنفاته وأراد أن يضع منه، ويرفع من صاحبه أبى العباس، أحمد ابن يحيى ثعلب، جاري على عادته في العصبية للكوفيين على البصريين، فقال: سمعت أبا العباس يعنى ثعلب: عزمت على المضي الى المازني لاناظره، فأنكر ذلك على أصحابنا وقالوا: مثلك لا يصلح أن يمضي إلى بصرى، فيقال غداً إنه تلميذه، فكرهت الخلافة عليه، فأراد ابن الانباري أن يرفع من ثعلب، فوضع منه، ولم يقتصر على ذلك التقصير بالمازني، حتى قصر بالخليل أيضاً، وزعم أن أبا العباس أحمد ابن يحيى، حكى له أن ابا جعفر الرؤاسي، عمل كتاباً في النحو وسماه الفيصل، فبعث الخليل إليه يستعيره، فوجه به إليه، فقال: والدليل على أن الخليل تعلم النحو من كتاب الرؤاسي مايوجد في كتاب سيبويه من ذكره، إذ يقول: قال الكوفي: وهذا متى سمع، علم أنه لايقوله إلا عصبي. قرأت في كتاب ابن أبى الأزهر، بخط عبد السلام البصري قال: كان بأزاءدار أبي العباس ثعلب، رجل قد غلب على عقله، فكان ربما خرج فجلس على باب بيته ينظر إلى الناس، فرأى يوماً غلام أبي العباس، وقد أدخل إلى داره خبز أسود فقال له يا أبا العباس: ألا تشتري لك خبز حواري؟ مامعنى هذا الضيق والشؤم؟ فقالله: هذا أصلح من الحاجة، وبد للوجه الى الناس فضحك فقال: عجبت لك من هذا الكلام، أما لك هذا، إلا من بذل الوجه والحاجة إلى الطلب منه، لاتقبل بر أحد إن كنت صادقاً فالتفت إلى وقال: قد قال قولاً، ثم أنشدني في الزهد:
زماننا صعب وإخواننا ... أيديهم جامدة البذل
وقدمضى الناس ولم يبقى فيه ... عصرك إلا محكم البخل
وما لنا بلغة أقواتنا ... مافيه للأسراف من فضل
غضم كفيك على ملكها ... وأطرش السمع عن العذل
فتعجبت من إنشاد هذا الشعر، بعقب ما خوطب به قال أحمد ابن فارس اللغوي: كان أبو العباس ثعلب، لايتكلف الأعراب في كلامه كان يدخل المجلس فتقوم له فيقول: أقعدوا أقعدوا بفتح الألف قال ابن كامل القاض: أنشدني أبو بكر ابن العلاف لنفسه لما مات المبرد:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليلحقنا مع المبرد ثعلب
بيت من الأداب أصبح نصفه ... خرباً وباق بيتها فسيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... للدهر أنفسكم على مايسلب
ذهب المبرد حيث لاترجونه ... أبداً ومن ترجونه فمغيب
فتزودوا من ثعلب فبكاس ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب
واستحلبو ألفاظه فكأنكم ... بسريره وعليه جمع ينحب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
فليلحقن بمن مضى متخلف ... من بعده وليذهبن وتذهب

وقال أبو الطيب عبد الواحد اللغوي في كتابه المسمى مراتب النحويين، قال: كان ثعلب يعتمد على ابن الأعرابي في اللغة وعلى سلمة ابن عاصم في النحو، ويروى عن ابن نجدة كتب أبا زيد، وعن الأثرم كتب أبي عبيدة، وعن أبى نصر كتب الأصمعي، وعن عمرو ابن أبي عمرو كتب ابيه، وكان ثقة متقنة يستغني بشهرته عن نعته وقال: وكان ثعلب حجة، ديناً، ورعاً، مشهوراً باللحفظ والصدق وإكثار الرواية وحسن الدراية، كان ابن الاعرابي إذا شكى في شيء يقول له: ما عندك يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه. ولد سنة مائتين، وطلب اللغة والعربية في سنة ست عشرة ومائتين، قال: وابتدأت بالنظر في حدود الفراء وسني ثماني عشرة سنة، وبلغت خمس وعشرين سنة، وما بقي على مسألة للقراء، إلا وأنا أحفظها، وأحفظ موضعها من الكتاب، ولم يبق شيء من كتب الفراء في هذا الوقت، إلا وقد حفظته. وحدث المزرباني: قال عبد الله بن حسين، بن سعد القطر بلى في تاريخه: كان أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، بن الحفظ، والعلم، وصدق اللهجة، والمعرفة بالغريب، رواية الشعر القديم، ومعرفة النحو على مذهب الكوفيين على ما ليس عليه أحد وكان يدرس كتب الفراء، والكسائي، درسا، وكان متبحرا في مذهب البصريين لا مستخرجا للقياس، ولا طالبا له، وكان يقول: قال الفراء: والكسائي: فإذا سأل عن الحجة والحقيقة في ذلك لم يعرف النظر وكان أبو على أحمد ابن جعفر النحوى ختنه، زوج ابنته، يخرج من منزله وهو جالس على باب داره، فيتخطى اصحابه، ويمضى ومعه دفتره ومحبرته، فيقرأ على أبي العباس المبرد كتاب سبيويه، فيعاتبه أحمد ابن يحيى على ذلك ويقو ل له: إذا رأك الناس تمضي الى هذا الرجل تقرأ عليه، يقول ماذا؟ ولم يكن يلتفت الى قومه قال: وكان ختنه هذا أبو علي يعرف بالدينوري، وكان حسن المعرفة، فسمعت إسحاق المصعبي يقول له: كيف صار محمد ابن يزيد، أعلم بكتاب سبيويه من أحمد ابن يحيى؟ قال: لأن محمد ابن يزيد، قرأه على العلماء، وأحمد ابن يحيى، قرأه على نفسه. قال: ولم يزل ثعلب متقدم عند العلماء منذ أيام حداثته، وكان ضيق النفقة مقترا على نفسه. حدثني أخي، وكان صاحبه ووصيه قال: دخلت إليه يوما وقد احتجم، وبين يديه طبق فيه ثلاثة أرغفة، وخمس بيضات، وبقل وخل، وهو يأكل، فقلت له: يا أبا العباس، قد احتجمت، ولو أخذ لك رطل لحم وثمن التوابل، ومثله للعيال كان ما له معنى. قال: وسمعت أحمد ابن إسحاق المعروف بابي المدور يقول: كنت أرى عبد الله بن الأعرابي يشك في الشيء، فيقول لثعلب: ما عندك يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه، ولم يكن مع ذلك موصوفا بالبلاغة، ولا رأيته إذا كتب كتاباً إلى بعض إخوانه من أصحاب السلطان، خرج عن طبع العامة، فإذا أخذته في الشعر والغريب، ومذهب الفراء والكسائي، رأيت من لا يفي به أحدا، ولايتهيأ له الطعن عليه، وكان هو ومحمد بن يزيد، عالمين، ختم بهما تاريخ الأدب، أو كان كما قال بعض المحدثين:
أيا طالب العلم لاتجهلن ... وعد بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذين علم ورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب
قال المرزباني: أخبرني الصولي أن عبد الله ابن الحسين بن سعد القطربلي: أنشده هذه الأبيات لنفسه. وحدث محمد ابن أحمد الكاتب قال: حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال: سألني ابن الأعرابي: كم لك من الولد؟ فقلت: ابنة وأنشدته:
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظلم
تهوى حياتي، وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزالا على الحرم
فأنشدني ابن الأعرابي في المعنى:
أميمة تهوى عمر شيخ يسره ... لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جوفة الناس بعده ... ولا ختن يرجى أود من القبر

وحدث عن أبي عبد الله الحكيمي، عن يموت بن المزرع قال: وأراد أبو العباس ثعلب أن يرحل الى أبي حاتم السجستانى في البصرة، فبلغه أن أبا حاتم أنتشر ذكره يوما، لم رأى جماعة المرد يكتبون في مجلسه، فرأه غلام منهم فقال له: - أصلحك الله - أي لام هذه؟ قال: لام كي يابني، فلم يخرج أبو العباس إليه. وحدث الصولي قال: كنا عند أبي العباس أحمد ابن يحيى فقال له رجل: المجسد هذا المعروف، فما المصدر؟ قال: مصدره السجود، قال: فعرفنى ما لايجوز منذا؟ فقال: لا يقال مسجد، وضحك، وقال: هذا يطول إن وصفنا ما لايجوز، وإنما يوصف الجائز، ليدل على أن غيره لايجوز. ومثل ذلك أن ماسيويه: وصف لانسان دواء ثم قال له: كل الفروج وشيئا من الفاكهة، وقال: أريد أن تخبرني بالذي لا أكل، فقال: لاتأكلن ولاحماري، ولاغلامي، واجمع كثير من القراطيص وبكر إلي فإن هذا يكثر إن وصفته لك وحدث عن الصولى قال: قال أبو العباس ثعلب: لم أسمع من جماعة كلهم قد رأيته، وتمكنت منه، ولو أردت ذلك، ما فاتني عنه جميع ما أطلب، منهم أبو عبيد القاسم ابن سلام وإسحاق الموصلي، وأبو التوبة والنظر ابن حديد، وإني لا أذكر موت الفراء ذكر جيداً، وأنا في الكتاب. وحدث قال: وقال أبو العباس يوم لاخر: الهرم علة قائمة بنفسها، فاذا كان معه علة، فذاك امر عظيم، وأنشد:
أرى بصرى في كل يوم وليلة ... يكل وخطوى عن مداهن يقصر
ومن يصحب الأيام تسعين حجة ... يغيرنه والدهر لا يتغير
لعمري لأن أصبحت أمشي مقيدا ... لما كنت أمشي مطلق قبل أكثر
وحدث أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي قال: قال ثعلب: أقعدني محمد ابن عبد الله ابن طاهر، مع ابنه طاهر، وأفرد لي دار في داره، وأقام لنا وظيفة فكنت أقعد معه إلى أربع ساعات من النهار ثم أنصرف إذا أراد الغداء، فنما ذلك الى أبيه، فكسى البهو والأروقة وأضعف ما كان يعد من الألوان، فلما حضر وقت الانصراف، انصرفت فنما ذلك اليه، فقال للخادم الموكل بنا، قد نمى الى انصراف أحمد بن يحيى وقت الطعام، فظننت أنه يستقل ما يحضر، ولم يستتطب الموضع فأمرنا بتضعيفه، ثم نمى إلى أنه انصرف، فقل له عن نفسك:أبيتك أبرد من بيتنا؟ أو طعامك أطيب من طعامنا؟ وتقول له عنى: انصرافك الى بيتك وقت الغداء هجنة علينا، فلما عرفني الخادم ذلك، أقمت، فكنت علة هذه الحال، ثلاث عشرة سنة، وكان يقم لي مع ذلك في اليوم، سبعة وظائف من الخبز الخشكار، ووظيفة من الخبز السميد وسبعة ارطال من اللحم، ووعلوفة رأس وأجرى لي في الشهر الف درهم، ولقد جاءت سنة لفتنه، وعظم الأمر بالدقيق واللحم، فكتب اليه كاتبه على المطبخ، يعرفه ما هو فيه من عظم المؤنة، ويسأله احضار الجليدة، فيقتصر على ما لا بد منه،فأنفذها، فكان مشتملة على ثلاثة آلاف وستمائة انسان، فرأيت محمدا قد زاد فيها بخطه قوم اخرين، ووقع عليها: لست اقطع عن أحد ما عودته، ولاسيما من قال لى: أطعمنى الخبز، فاجرى الأمر على ما في الجريدة، واصبر على هذه المؤن فإما عشنا جميعاً وإما متنا جميعا. قال الزبيدي: وخلف كتب جليلة، فاوصى الى على ابن محمد الكوفي، أحد أعيان تلاميذه، وتقدم اليه في دفع كتبه الى أبي بكر أحمد بن إسحاق القطر بلى، فقال الزجاج للقاسم بن عبيد الله: هذه كتب جليلة، فلا تفوتنك، فاحضر خيران الوراقة، فقوم ما كان يساوى عشرة دنانير ثلاثة، فبلغت أقل من ثلاثمائة دينار، فأخذها القاسم بها. وقال أبو الطيب، عبد الواحد بن العلي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: وانتهى علم الكوفيين الى ابن السكيت، وثعلب، وكان ثقتين امينين، ويعقوب أسن وأقدم موتا، وأحسن الرجلين تأليفاً، وكان ثعلب أعلهما بالنحو، وكان يعقوب يضعف فيه. قال ثعلب: كنت يوما عند ابن السكيب، فسألني عن شيء فصحته، وكان ثعلب شديد الحدة، قال: فقال لي لاتصح، فوالله ما سألت إلا مستفهماً وحدث أحمد ابن العسكري في كتاب التصحيف قال:وأخبرنا أبو بكربن الأنباري قال: حدثني أبي قال: قرأ القطر بلى على أبي العباس ثعلب بيت الأعشى:
فلو كنت في حب ثمانين قامة ... ورقيت اسباب السماء بسلم

فقال أبو العباس: خرب بيتك، هل رأيت حباً قط ثمانين قامة؟ إنما هو جب وحدث الخطيب قال: قال ثعلب: كنت أحب أن أرى ابن حنبل، فلما دخلت عليه قال لي: فيما تنظر؟ قلت: في النحو والعربية فأنشدني أبو عبد الله وهو لبعض بنى أسد:
إذا ما خلوت الدهر يومافلا تقل ... خلوت، ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما يرى ... ولا أنما تخفني عليه يغيب
لهونا على الأثام حين تتابعت ... ذنوب على أثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... فيأذن في تواباتنا فنتوب
وحدث الخطيب قال: قال أبو محمد الزهري: كان لثعلب عزاء لبعض أهله فتأخرت عنه، لأن هفا علي، ثم قصدته معتذرا، فقال لى: يا أبا محمد، ما بك حاجة الى تكلف عذراً، فإن الصديق لايحاسب والعدو لايحتسب له وجدت بخط أبي الحسن، علي ابن عبيد الله، السميسمي اللغوي:حدثنا أبو محمد بن الحسن النوبختي، قال: حدثنا أبو الفتح، محمد ابن جعفر المراغي النحوي قال: حدثنا أبو بكر بن الخيار النحوي: كنت عند أبي العباس ثعلب في بعض الأيام، فسأله رجل وقد ساء سمعه، فقال له: يا أبا العباس، أعزك الله، ما الصوص؟ فقال له: الصوح اصل الجبل، فأعاد الرجل سؤاله، لعلمه بأن الشيخ ما فهم، فقال ثعلب: السوح جمع ساحة، فاعاد سؤال ثالثة،، فعلم ثعلب أنه ما فهم عن الرجل، قال: فقال له: أدن مني، فألقم أذني فاك وقل: ففعل ذلك، فلما فهم ثعلب سؤاله، قال: نعم، العرب تقول: رأيت صوصاً على أصوص، أيى رجل نذل على ناقة الكلمة. حدث الزجاجي أبو القاسم، عن علي بن سليمان الأخفش قال: أخبرنا أحمد ابن يحيى ثعلب قال: قدم الرياشي بغداد، سنة ثلاثين ومائتين، فصرت إليه لأخذ عنه، فقال لي: أسألك عن مسألة؟ فقلت: نعم فقال: تجيز نعم الرجل يقوم؟ فقلت: نعم هي جائزة عند الجميع، أم الكسائي فيضمر، والتقدير عنده نعم الرجل رجل يقوم، لأن نعم عنده فعل، والفراء لايضمر، لأن نعم عند اسم، فيرفع الرجل بنعم، ويقوم الصلة للرجل. وأما صاحبك، يعني سبيويه: فإنه لايضمر شيئاً، ونعم عنده ايضا فعل، ولكن يجعل يقوم مترجماً وهو الذي يسمونه البدل، فسكت فقلت له: فأسألك عن مسألة؟ فقال: نعم فقلت: أيجوز يقوم نعم الرجل؟ فقال: جائز، فقلت: هذه خطأ عند الجميع، أما على مذهب الكسائي فانه لايولى الفعل فعل. فأما على مذهب الفراء: فان يقوم عنده صلة للرجل والصلة لاتتقدم على الموصول. وأما على مذهب سبيويه صاحبك: فأنه لايجوز، لأنه ترجمة، والترجمة إيضاح وتبين للجملة التي تتقدمها، ولايجوز تقديمها عليها. فقال: أنا تارك للعربية،فخذ فيما قصدت له، ففاتحته ايام الناس، والأخبار، والأشعار، ففتحت به سيح بحر. وحدث قال: أخبرنا على بن سليمان الأخفش قال: كنت يوما بحضرة ثعلب، فاسرعت القيام قبل انقضاء المجلس، فقال: الى أين؟ ما أراك تصبر عن مجلس الخلدي، يعني المبرد، فقلت له: لي حاجة،فقال لي: ان اراه يقدم البحتري على أبي تمام، فاذا اتيته،فقل له: ما معنى قول أبي تمام:
أألفته النحيب كما افتراق ... أظل فكان داعية اجتماع
قال أبو الحسن: فلما صرت إلى أبي العباس المبرد، سألته عنه، فقال: معنى هذا: أن المتحابين العاشقين قد يتصارمان ويتهاجران إذلالا، لا عزما على القطيعة، فاذا حان الرحيل وأحسا بالفراق، تراجعا إلى الود، وتلاقيا خوف الفراق، وأن يطول العهد بالالتقاء بعده، فيكون الفراق حينئذ سبباً للاجتماع، كما قال الآخر:
متعا باللقاء يوم الفراق ... مستجيرين بالبكا والعناق
كم أسرا هواهما حذر الناس ... وكم كاتما غليل اشتياق
فأظل الفراق فالتقيا فيه ... فراقا أتاهما باتفاق
كيف أدعو على الفراق بحتف ... وغداة الفراق كان التلافي
قال: فلما عدت إلى ثعلب سألني عنه، فأعدت عليه الجواب والأبيات، فقال: ما أشد تمويهه!! ما صنع شيئاً، إنما معنى البيت، أن الانسان قد يفارق محبوبه، رجاء أن يغنم في سفره، فيعود الى محبوبه مستغنيا عن التصرف، فيطول اجتماعه معه، ألا تراه يقول في البيت الثاني:
وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوف على ترح الوداع
وهذا نظير قول الآخر، بل منه أخذ أبو تمام:

وأطلب بعد الدار لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
هذا هو ذاك بعينه. وحكى ان ثعلباً خرج يوماً على أصحابه، وليس فيهم إلا كهل أو شيخ، فأنشد متمثلاً:
ألا ربما سؤت الغيور وبرحت ... بي الأعين النجل المراض الصحائح
فقد سادني أن الغيور يودنى ... وأن نداماي الكهول الجحاجح
قلت أنا: إن هذا والله مليح جداً
وحدث جحظة في أماليه قال:كنت يوماً في مجلس ثعلب، فقال له رجل ياسيدي: ما البعجدة؟ قال: لا أعرفها في كلام العرب، فقال الرجل: فإني وجدتها في شعر عبد الصمد بن المعذل حيث يقول
أعاذلتى أقصري ... أبع جدتى بالمنن
فاغتاظ أبو العباس غيظاً عظيماً وقال: ياقوم، أجيدوا أذنيه عركاً، أو يحلف أنه لايرجع يحضر حلقتي، ففعلنا. قال أبو محمد عبد الرحمن ابن أحمد الزهري: كانت بينى وبين أبي العباس ثعلب مودة وكيدة، وكنت أستشيره في أموري، فجئته يوماً أشاوره في الانتقال من محلة الى محلة، لنأذي بالجيران. فقال: يا أبا محمد، العرب تقول: صبرك على أذى من تعرف، خير من استحداث ما لاتعرف. قال أبو عمر الزاهد: أنشدني أبو العباس ثعلب:
إذا ما شئت أن تبلو صديقاً ... فجرب وده عند الدراهم
فعند طلابها تبدو هنات ... وتعرف ثم أخلاق المكارم
وحدث الخطيب قال: كان بين المبرد وثعلب منافرات كثيرة، والناس مختلفون في تفضيل كل واحد منهما على صاحبه نقطة. قال: وجاء رجلا الى ثعلب فقال له: يا أبا العباس: قد هجاك المبرد، فقال بماذا؟ فأنشده:
أقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكي الصبو الى الصب
لولا أخذ النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى القلب
فقال: أنشدنى من أنشده أبو عمرو ابن العلاء:
يشتمنى عبدو بمسمع ... فصنته عنه النفس والعرض
ولم أجبه لاحتقار له ... من ذا يعض الكلب إن عضى؟
وحدث أيضاً قال: قال: أبو العباس محمد بن عبيد الله ابن عبد الله، بن طاهر، قال لي ابي: حضرت مجلس أخي محمد ابن عبد الله، بن طاهر وحضره أبو العباس ثعلب، والمبرد، فقال لي أخي محمد، قد حضر هذان الشيخان فليتناظرا، قال: فتناظرا في شيء من علم النحو مما أعرفه، فكنت أشركهما فيه الى أن دققا، فلم أفهم، ثم عدت اليه، فلم أعرف ما المجلس؟ فسألني فقلت: إنهما تكلما فيما أعرف فشركهما ثم دفقا، فلم أعرف ما قال، ولا والله ياسيدي ما يعرف أعلمهما إلا من هو أعلم منهما، ولست ذلك الرجل، فقال لي يا أخي: أحسنت والله، هذا أحسن، يعني اعترافه بذلك وقال لي أبو عمر الزاهد:سألت أبا بكر بن السراج فقلت: أي الرجلين أعلم؟ ثعلب أم المبرد فقال: ما أقول في رجلين، العالم بينهما؟ وحدث أبو عمر أيضاً قال: كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فضجر، فقال له شيخ خضيب من الظاهرية: لو علمت مالك من الأجر في إفادة الناس، لصبرت على أذاهم، فقال لولا ذلك ما تعديت، ثم أنشد بعقب هذا:
يخللن بالقضبان كل مفلج ... به الظلم لايفلل لهن غروب
رضاب كطعم الشهد يجلو متونه ... من الظرو أو غضن الاراك قضيب
اولئك لولا هن ما سقت نضوة ... لحاج ولا استقبلت برد جنوب
وحدث أبو بكر بن مجاهد كنت عند أبي العباس ثعلب، فقال لي يا أبا بكر: اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما يكون حالف الآخرة؟فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي:إقرأ أبا العباس عني السلام وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل. قال: الروض باري: أراد أن الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل. وقال مرة أخرى: أراد أن جميع العلوم مفتقرة اليه. وأنشد الخطيب قال: أنشد أبو العباس ثعلب:
بلغت من عمري ثمانين ... وكنت لا أمال خمسين
فالحمد لله وشكرا له ... إذا زاد في عمري ثلاثين
وأسأل الله بلوغا إلى ... مرضاته آمين أمين

ونقلت من كتاب محمد بن عبد الملك التاريخي في أخبار النحويين، فقال: أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد ابن ثعلب، الشيباني النحوي، فاروق النحويين، والمعاير على اللغويين، من الكوفيين والبصريين، أصدقهم لساناً وأعظمهم شأنا، وأبدعهم ذكراً، وأرفعهم قدراً، وأصحهم علماً، وأوسعهم حلماً وأتقنهم حفظاً، وأوفرهم حظاً من الدين والدنيا.
حدثني المفضل بن سلمة بن عاصم قال: رأس أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوي، واختلف الناس إليه في سنة خمس وعشرين ومائتين، قال: وسمعت إبراهيم الحربي يقول: وقدتكلم الناس في الاسم والمسمى وقد كرهت لكم ولنفسي، ما كره أحمد بن يحيى ورضيت لكم ولنفسي، مارضي أحمد بن يحيى. قال: وكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني قد ذكر أبا العباس ثعلبا للناصر لدين الله، الموفق بالله، وأخرج له رزقاً سنياً سلطانيا، فحسن موقع ذلك من أهل العلم والأدب وقال قائلهم لأبي الصقر، وأبي العباس في أبيات ذكرها:
فيا جبلي شيبان لا زلتما لها ... حليفي فخار في الورى وتفضل
فهذا اليوم الجود والسيف والقنا ... وأنت لبسط العلم غير مبخل
عليك أبا العباس كل معول ... لأنك بعد الله خير معول
فككت حدود النحو بعد انغلاقه ... وأوضحته شرحا وتبيان مشكل
فكم ساكن في ظل نعمتك التي ... على الدهر أبقى من ثبير ويذبل
فأصبحت للإخوان بالعلم ناعشا ... وأخصبت منه منزلاً بعد منزل
وذكر التاريخي وفاة الثعلب كما تقدم قال: وقال بعض أصحابنا يرثيه:
مات ابن يحيى فماتت دولة الأدب ... ومات أحمد أنحى العجم والعرب
فإن تولى أبو العباس مفتقدا ... فلم يمت ذكره في الناس والكتب
وللتاريخي في ثعلب شعر رثاه به، نذكره في بابه إن شاء الله تعالى قال التاريخي: وحدثني أبو الحصين البجلي قال: تقول أهل الكوفة:لنا ثلاثة فقهاء في نسق، فلم ير الناس مثلهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن ولنا ثلاثة نحويين كذلك، وهم: أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، آخر مانقلناه من كتاب التاريخي وذكره محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست وقال: من الكتب: كتاب المصون في النحو جعله حدودا، كتاب اختلاف النحويين، كتاب معاني القرآن، كتاب مختصر في النحو سماه الموفقي، كتاب القراءات، كتاب معانى الشعر، كتاب التصغير، كتاب ما ينصرف وما لاينصرف، كتاب مايجزى وما لايجزى، كتاب الشواذ، كتاب الوقف والابتداء، كتاب الهجاء، كتاب استخراج الألفاظ من الأخبار، كتاب الأوسط، كتاب غريب القرآن لطيف، كتاب المسائل، كتاب حد النحو، كتاب تفسير كلام ابنة الخس كتاب الفصيح وذكر أن الفصيح تصنيف بن داود الرقي، وادعاه ثعلب وهذا له ترجمة قال: ولأبي العباس مجالسات وأمال أملاها على أصحابه في مجالسه، تحتوى على قطعة من النحو، واللغة، والأخبار، ومعاني القرآن، والشعر، رواها عنه جماعة وعمل أبو العباس قطعة من داووين العرب، وفسر غريبها كالأعشى والنابغتين وغيرهم. وسئل ثعلب عن معنى قولهم، لا أكلملك أصلاً فقال: معناه أقطع ذلك من أصله وأنشد:
بأهلي من لايقطع البخل رغبتي ... إليه وما لايزداد عن زغبتي بخلا
ومن قد لحاني الناس فيه فأكثر ... علي فكل الناس مغتظن ذحلا
وأمنحه صفو الهوى ولو أنه ... على البحر يسقي ما سقيت به سجلا
وما زلت تعتادين ود بالمنى ... وبالبخل حتى قد ذهبت به أصلا
قرأت في أمال أبي بكر ابن محمد، ابن القاسم الأنباري: أنشدنا أبو بكر لأحمد بن يحيى النحوي:
إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فلم تلبث النفس التي أن تقوتها؟
ستبقى بقاء الظب في الماء أو كما ... يعيش لدى ديمومة البيد حوتها
قال وزادنا أبو الحسن ابن البراء:
أغرك أن قد تصبرت جاهداً ... وفي النفس مني منك ماسيمتها
فلو كان مابي بالصخور لهدهها ... وبالريح ماهبت وطال خفوتها

فصبرا لعل الله يجمع بينا ... فأشكو هموما منك كنت قد لقيتها
كذا كان في الكتاب، ولا أدري، أهذا الشعر لثعلب أم أنشأه لغيره؟ إلا أنه في هذا الكتاب لأحمد ابن يحيى كما ترى:
أحمد بن يحيى،، لمنجمبن علي، بن يحيى، بن أبي منصورالمنجم أبو الحسن، قد ذكرنا آباءه في أبوابهم، وكان أبو الحسن هذا، أديبا، شاعرا، فاضلا، عالما، أحد رؤساء زمانه في علم الكلام، وعلوم الدين، والافتنان في الآداب مات في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، عن نيف وسبعين سنة، وله أخبار مع الراضي في منادمته إياه، ذكر ذلك كله المزرباني في المعجم قال ثابت: وفي ذي الحجة كانت وفاته، ومولده في سنة اثنتين وستين ومائتين، وكان يحيى بن علي أبوه، قد صنف كتاباً في أخبار الشعراء المخضرمين، فأتمه ابنه هذا وله من الكتب: كتاب أخبار أهله ونسبهم، كتاب الإجماع في الفقه، على مذهب ابن جرير الطبري، وكان يرى رأيه كتاب المدخل إلى مذهب الطبري ونصرة مذهبه، كتاب الأوقات، وأبو الحسن هذا، هو القائل فيما رواه المزرباني:
ياسيدا قد راح فر ... دا ماله في الفضل توءم
عمرت أطول مدة ... تزداد تمكينا وتسلم
في صفو عيش لاتزا ... ل به العدى تقذي وترغم
مازلت في كل الأمر ... موفقا للخير ملهم
بك إن تذوكرت الأيا ... دي يبتدا فيها ويختم
أحمد بن يحيى،بن الوزير،
بن سليمان، بن مهاجر مولى قيسبة بن كلثوم السوقي، سمع ابن الكلبي وعبد الله بن وهب، وكان فقيها من جلساء ابن وهب، وكان عالما بالشعر، والأدب، والأخبار، وأيام الناس، والأنساب يقال: كان مولده سنة إحدى وسبعين ومائة، وتوفى في حبس ابن المدبر، صاحب الخراج بمصر، لخراج كان عليه، ودفن يوم الأحد لاثنتين وعشرين ليلة خلت من شوال، سنة خمسين ومائتين، وكان من أهل مصر ذكر ابن يونس ذلك كله في تاريخ مصر.
أحمد ابن يحيى،السدي، الطائيبن سهل بن السدي، الطائيأبو الحسن المنبجي، الشاهد، المقرئ، النحوي، الأطروش، ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق، وكان وكيلا في الجامع مات سنة خمس عشرة وأربعمائة روى عن أبي عبد الله بن مروان، وأبى العباس أحمد بن فارس، الأديب المنبجي، وأبي الحسن، نظيف بن عبد الله المقرئ، وغيرهم وكان يحفظ من أخبار أبي عبد الله بن خالويه النحوي، وكان ثقة، قال ابن عساكر: أنشدني ابن الأكفاني، عن ابن الأكفاني، عن أحمد بن يحيى، بن سهل المنبجي، أنشدني أبو العباس، أحمد بن فارس الأديب أنشدني ابن طباطبا لنفسه:
حسود مريض القلب يخفى أنينه ... ويضحى كئيب البال مني حزينة
يلوم على أن رحت للعلم طالبا ... أقلب من كل الرواة فنونه
وأختار أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لايجلب الغنى ... ويحسن بالجهل النميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمه كل الناس ما يحسنونه
أحمد بن يزيد، بن محمد المهلبي، أبو جعفرأديب شاعر، راوية، له قصيدة مدح فيها الموفق، وهنأه بفتح مصر، منها:
قل للأمير هناك النصر والظفر ... وفيهما للإله الحمد والشكر
مافوق فتحك فتح في الزمان كما ... ما فوق فخرك يوم الفخر مفتخر
أحمد بن يعقوب، بن يوسف، أبوجعفرالنحوي، المعروف ببرزويه الأصبهاني، مات فيما ذكره الخطيب، سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، في ايام المطيع، فكان يعرف بغلام نفطويه أخذ عن أبي خليفة الفضل بن الحباب، ومحمد بن العباس اليزيدي، وغيرهما.
أحمد بن يعقوب، بن ناصح الأصبهانيالأديب، أبو بكر النحوي، ذكره الحاكم فقال: هو نزيل نيسابور، وسمع بأصبهان محمد بن مندة الأصبهاني وأقرانه مات بنيسابور قبل الخمسين، وبعد الأربعين والثلاثمائة، وكتب عنه الحاكم، وأسند إليه في كتابه حديثين.
أحمد بن أبي يعقوب، إسحق بن جعفر

ابن وهب، بن واضح الأخباري العباسي، ذكره أبو عمر، محمد بن يوسف، بن يعقوب المصري الكندي المؤرخ في تاريخ له، ابتداه بسنة ثمانين ومائتين،قال إن أحمد بن إسحق بن واضح مولى بنى هاشم، توفي في سنة أربع وثمانين ومائتين، وله تصانيف كثيرة، منها: كتاب التاريخ كبير، كتاب أسماء البلدان مجلد، وكتاب في أخبار الأمم السالفة صغير، كتاب مشاكلة الناس لزمانهم.
أحمد بن أبي يعقوب،يوسف بن إبراهيميعرف بابن الداية، كان أبوه ولد داية ابن المهدى، وأظن أن المعروف بابن الداية، هو يوسف، الراوي أخبار أبي يونس، والله أعلم وكان أبوه يوسف بن إبراهيم، يكنى أبا الحسن، وكان من جلة الكتاب بمصر، ولا أدري كيف كان انتقاله إليها عن بغداد وكان له مروءة تامة، وعصبية مشهورة.
قال أبو القاسم العساكري الحافظ: يوسف بن إبراهيم، أبو الحسن الكاتب، وأظنه بغدادياً: كان في خدمة ابراهيم بن المهدي، قدم دمشق سنة خمس وعشرين ومائتين، وحكى عن عيسى بن حكم الدمشقي، الطبيب النسطوري، وشكلة أم إبراهيم بن المهدي، وإسماعيل ابن أبي سهل، بن نوبخت، وأبي إسحق إبراهيم بن المهدي، وأحمد بن رشيد الكاتب،مولى سلام الأبرش، وجبرائيل بن بختيشوع الطبيب، وأيوب بن الحكم البصري، المعروف بالكسروي، وأحمد بن هارون الشرابي روى عنه ابنه أبو جعفرأحمد، ورضوان بن أحمد، بن جالينوس،وكان من ذوى المروءات، وصنف كتابا فيها أخبار المطببين.
قال الحافظ: وبلغني عن أبي جعفر أحمد، بن يوسف قال: حبس أحمد بن طولون، يوسف بن إبراهيم والدي في بعض داره، وكان اعتقال الرجل في داره يؤيس من خلاصه، فكاد ستره أن ينتهك لخوف شمله عليه، وكان له جماعة من أبناء الستر تتحمل مئونة مقيمة لا تنقطع الى غيره، فاجتمعوا، وكانوا زهاء ثلاثين رجلا، وركبوا الى دار أحمد بن طولون، فوقفوا بباب له، يعرف بباب الخيل، وأستاذنوا عليه، فأذن لهم، فدخلوا إليه وعنده محمد بن عبد الله، بن عبد الحكم، وجماعة من أعلام مستورى مصر، فابتدءوا كلامه بأن قالوا: قد اتفق لنا - أيد الله الأمير - من حضور هذه الجماعة، وأشاروا الى ابن عبد الحكم والحاضرين مجلسه، ما رجونا أن يكون ذريعة الى ما نسأله، ونحن نرغب إلى الأمير في أن يسألهم عنا ليقف على أمرنا ومنازلنا، فسألهم عنهم، فقالوا: قد عرضت العدالة على أكثرهم، فامتنع منها، فأمرهم أحمد بن طولون بالجلوس، وسألهم تعريفه ماقصدوا له، فقالوا: ليس لنا أن نسال الأمير مخالفة ما يراه في يوسف بن إبراهيم، لأنه أهدى إلى الصواب فيه، ونحن نسأله أن يقدمنا إلى ما اعتزم عليه فيه، إن آثر قتله أن يقتلنا، إن آثر غير ذلك أن يبلغه، فهو في سعة وحل منه، فقال لهم: ولم ذلك؟ فقالوا: لنا ثلاثون سنة ما فكرنا في ابتياع شيء مما احتجنا إليه، ولا وقفنا بباب غيره، ونحن والله يا أمير، نرفض البقاء بعده، والسلامة إن شيء مكروه وقع به وعجبوا بالبكاء بين يديه، فقال أحمد بن طولون: - بارك الله عليكم - فقد كأفأتم إحسانه، وجازيتم إنعامه، ثم قال: أحضروا يوسف بن إبراهيم، فأحضر، فقال: خذوا بيد صاحبكم وانصرفوا، فخرجوا معه، وانصرف إلى منزله.
قال أبو جعفر أحمد بن يوسف بن إبراهيم: وبعث أحمد بن طولون في الساعة التي توفى فيها والدي، يوسف بن إبراهيم، بخدم فهجموا الدار، وطالبوا بكتبه، مقدرين أن يجدوا فيها كتابا من أحد ممن ببغداد، فحملوا صندوقين، وقبضوا علي وعلى أخي وصاروا بنا إلى داره، وأدخلنا إليه وهو جالس، وبين يديه رجل من أشراف الطالبين، فأمر بفتح أحد الصندوقين، وأدخل خادم يده، فوقع يده على دفتر جراياته على الأشراف وغيرهم، فأخذ الدفتر بيده وتصفحه، وكان جيد الاستخراج، فوجد اسم الطالبي في الجراية، فقال له وأنا أسمع: كانت عليك جراية ليوسف بن إبراهيم؟ فقال له نعم: يأيها الأمير، دخلت هذه المدينة وأنا مملق فأجري علي في كل سنة مائتي دينار، أسوة بابن الأرقط، والعقيقي، وغيرهما ثم امتلأت يداي بطول الأمير، فاستعفيته منها، فقال لي:نشدتك الله أن لا قطعت سببا لي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدمع الطالبي، فقال أحمد بن طولون: رحم الله يوسف بن إبراهيم، ثم قال: انصرفوا إلى منازلكم، فلا بأس عليكم، فانصرفنا فلحقنا جنازة والدنا، وحضر ذلك العلوى، وقضى حقنا، وقد أحسن مكافأة والدنا في خلفيه.

قال أبو جعفر: أحمد بن أبي يعقوب، يوسف بن إبراهيم، يعرف بابن الداية، من فضلاء أهل مصر ومعروفيهم، وممن له علوم كثيرة في الأدب، والطب والنجامة، والحساب، وغير ذلك وكان أبوه أبو يعقوب، كاتب إبراهيم بن المهدى ورضيعه، ألف كتابا في أخبار الطب، مات أحمد بن يوسف، في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، وأظنها سنة أربعين وثلاثمائة وله من التصانيف:سيرة أحمد بن طولون، كتاب سيراته إلى أبي الجيش خمارويه، كتاب سيرة هارون بن أبي الجيش، وأخبار غلمان بني طولون، كتاب المكافأة، كتاب حسن العقبى، كتاب أخبار الأطباء، كتاب مختصر المنطق، ألفه للوزير علي بن عيسى، كتاب ترجمته، كتاب الثمرة، كتاب أخبار المنجمين، كتاب أخبار إبراهيم بن المهدي، كتاب الطبيخ، وذكره ابن زولاق الحسن ابن ابراهيم، فقال: كان أبو جعفر رحمه الله في غاية الافتتان، أحد وجوه الكتاب الفصحاء، والحساب والمنجمين مجسطى أوقليدسي، حسن المجالسة، حسن الشعر، قد خرج من شعره أجزاء دخل يوما على أبي الحسن، على بن المظفر الكرخي، عامل خراج مصر، مسلما عليه، فقال له: كيف حالك يا أبا جعفر؟ فقال على البديهة:
يكفيك من سوء حالي إن سألت به ... أني إلى ثوب طمر في الكوانين
أحمد بن يوسف، بن القاسم، بن صبيحالكاتب الكوفي أبو جعفر، من أهل الكوفة، كان يتولى ديوان الرسائل للمأمون، وكان أخوه القاسم بن يوسف، يدعي أنه من بني عجل، ولم يدع أحمد ذلك، قال المرزباني: كان مولى لبني عجل، ومنازلهم بسواد الكوفة وزر أحمد للمأمون، بعد أحمد بن أبي خالد مات في قول الصولي في شهر رمضان، سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقال غيره: سنة اربع عشرة ومائتين، وكان أبوه يوسف يكنى أبا القاسم، وكان يكتب لعبد الله بن علي عم المنصور، وله شعر حسن وبلاغة، وكان أحمد وأخوه القاسم، شاعرين، أديبين، وأولادهما جميعا أهل أدب، يطلبون الشعر والبلاغة حكى عن المأمون وعبد الحميد بن يحيى الكاتب، وحكى عنه ابنه محمد بن أحمد، بن يوسف، وعلي بن سليمان الأخفش، وغيرهما قال الصولي: لما مات أحمد بن أبي خالد الأحول، شاور المأمون الحسن ابن سهل، فيمن يكتب له، ويقوم مقامه، فأشار عليه بأحمد بن يوسف، وبأبي عباد ثابت بن يحيى الرازي وقال: هما أعلم الناس بأخلاق أمير المؤمنين، وخدمته، وما يرضيه فقال له: إختر لي أحدهما، فقال الحسن: إن صبر أحمد على الخدمة، وجفا لذاته قليلا، فهو أحبهما إلي، لأنه أعرق في الكتابة، وأحسنهما بلاغة، وأكثر علما، فاستكتبه المأمون، وكان يعرض الكتب ويوقع، ويخلفه أبو عباد إذا غاب عن دار المأمون، مترفعا عن الحال التي كان عليها أيام أحمد بن أبي خالد، وكان ديوان الرسائل، وديوان الخاتم والتوقيع، والأزمة، إلى عمرو بن مسعدة، وكان أمر المأمون يدور على هؤلاء الثلاثة حدث الصولي عن أبي الحارث النوفلي قال: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لمكروه نالني منه، وآلف أحمد بن يوسف الوزير، فلما مات أخوه الحسن، قلت على لسان ابن بسام:
قل لأبي القاسم المرجى ... قابللك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعايب
حياة هذا كموت هذا ... فليس تخلو من المصائب
وانما أخذه من قول أحمد بن يوسف الكاتب، لبعض إخوانه من الكتاب، وقد مات له ببغا، وكان له أخ يضعف، فكتب إليه:
أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا
فلقد جل خطب دهر أتانا ... بمقادير أتلفت ببغاكا
عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا
كان عبد الحميد أصلح للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا
شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا

حدث أبو القاسم عبد الله بن محمد، بن باقيا الكاتب، في كتاب ملح الممالحة، قال: ولما خرج عبد الله بن طاهر من بغداد الى خراسان، قال لابنه محمد: إن عاشرت أحدا بمدينة السلام، فعليك بأحمد ابن يوسف الكاتب، فان له مروءة، فما عرج محمد حين انصرف من توديع أبيه على شيء، حتى هجم على أحمد، ابن يوسف في داره، فاطال عنده،ففطن له أحمد، فقال: يا جارية غدينا، فأحضرت طبقا وارغفة نقية، وقدمت الوانا يسيرة وحلاوة، وأعقب ذلك بأنواع من الأشربة في زجاج فاخر، وآلة حسنة، وقال: يتناول الأمير من أيها شاء، ثم قال له: إن رأى الأمير أن يشرف عبده ويجيئه في غد فانعم بذلك، فنهض وهو متعجب من وصف ابيه له، وأراد فضيحته، فلم يترك قائدا جليلا، ولا رجلا مذكورا من أصحابه، إلا عرفهم انه في دعوة أحمد بن يوسف، وأمرهم بالغدو معه، فلما أصبحوا قصدوا دار أحمد بن يوسف، وقد أخذ أهبته، وأظهر مروءته، فرآى محمد من النضائد والفرش والستور والغلمان والوصائف ما أدهشته، وكان قد نصب ثلاثمائة مائدة، وقد حفت بثلاثمائة وصيفة، ونقل الى كل مائدة ثلاثمائة لون في صحاف الذهب والفضة، ومثارد الصين، فلما رفعت الموائد، قال ابن طاهر: هل أكل من بالباب؟ فنظروا، فاذا جميع من بالباب قد نصبت لهم الموائد، فأكلوا، فقال: شتان بين يوميك يا أبا الحسن - كذا هذه الرواية، كناه بأبي الحسن - فقال أيها الأمير: ذاك قوتي وهذه مروءتي وحدث الصولي قال: كان من اول ما ارتفع به أحمد ابن يوسف، أن المخلوع لما قتل، أمر طاهر الكتاب أن يكتبوا إلى المأمون، فأطالوا، فقال طاهر، أريد أخصر من هذا، فوصف له أحمد بن يوسف، فأحضره لذلك، فكتب أما بعد: فان المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن اجماع المسلمين، قال الله عز وجل لنوح عليه السلام في ابنه: (يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح) ولاصلة لأحد في معصية الله، ولاقطيعة ما كانت في ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين، وقد قتل الله المخلوع، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، فالارض باكنافها أوطأ مهاد لطاعته، واتبع شيء لمشيئته، وقد وجهت الى أمير المؤمنين بالدنيا، وهي رأس المخلوع، وبالاخرة وهي البردة والقضيب،والحمد لله الأخذ لأمير المؤمنين بحقه، والكائد له من خان عهده، ونكث عقده، حتى رد الالفة، وأقام به الشريعة والسلام على أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، فرضى طاهر ذلك وأنفذه، ووصل أحمد بن يوسف وقدمه. وحدث محمد ابن عبدوس: انه لما حمل رأس المخلوع إليه وهو بمرو، أمر المأمون بانشاء كتاب عن طاهر ابن الحسين، ليقرأ على الناس، فكتبت عدة كتب لم يرضها المأمون، والفضل ابن سهل، فكتب أحمد بن يوسف هذا الكتاب، فلما عرضت النسخة على ذي الرياستين، رجع نظره فيها، ثم قال لأحمد ابن يوسف: ما أنصفناك، ودعا بقهر مانه، وأخذ القلم والقرطاس، وأقبل يكتب بما يفرغ له من المنازل، ويعد له فيها من الفرش والالات، والكسوة والكراع، وغير ذلك، ثم طرح الرقعة إلى أحمد ابن يوسف، وقال له: إذا كان في غد فاقعد في الديوان، وليقعد جميع الكتاب بين يديك، واكتب الى الآفاق. وحدث بما رفعه الى إبراهيم ابن إسماعيل قال: قال: كثر الطلاب للصلاة بباب المأمون، فكتب اليه أحمد بن يوسف: داعي نداك يا أمير المؤمنين، ومنادى جدواك، جمع الوفود ببابك، يرجون نائللك المعهود، فمن من يمت بحرمة، ومنهم من يدلى بخدمة، وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الايام، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشه بسيبه، ويحقق حسن ظنهم بطوله، فعل، إن شاء الله تعالى، فوقع المأمون: الخير منبع، وأبواب الملوك مغان لطالب الحاجات، ومواطن لهم، ولذلك قال الشاعر:
يسقط الطير حيث يلتقط الحبب ... وتغشى منازل الكرماء
فاكتب اسماء من ببابنا منهم، وأحك مراتبهم، ليصل الى كل رجل قدر استحقاقه، ولاتكدر معروفنا عندهم بطول الحجاب، وتأخير الثواب، فقد قال الشاعر:
فإنك لن ترى طرد لحر ... كالصاق به طرف الهوان

حدث أحمد ابن أبي طاهر قال: كتب صديق لأحمد ابن يوسف الكاتب في يوم دجن اليه: يومنا ظريف النواحي، رقيق الحواشي، قد رعدت سماءه، وبرقت وحنت وارجحنت، وانت قطب السرور، ونظام الأمور، فلا تفردن منك فنقل، ولا تنفرد عنا فنذل، فان المرء بأخيه كثير، وبمساعدته جدير. قال: فصار أحمد بن يوسف الى الرجل، وحضرهم من أرادوا ثم تغيمت السماء، فقال أحمد بن يوسف:
أرى غيم تؤلفه جنوب ... وأحسب أن سياتينا بهطل
فعين الرأي أن تدعو برطل ... فتشربه وتدعو لي برطل
ونسقيه ندامانا جميعا ... فيغرفون منهم بغير عقل
فيوم الغيم يوم الغم إن لم ... تبادر بالمدامة كل شغل
ولاتكره محرمها عليها ... فإني لا أراه له بأهل
قال فغنى فيه عثعت اللحن المشهور: وأهدى أحمد بن يوسف هدية في يوم نوروز الى المأمون وكتب معها:
على المبدى حق فهو لا بد فاعله ... وإن عظم المولى وجلت فضائله
ألم ترنا نهدي الى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدي للكريم بقدره ... لقصر فضل المال عنه ونائله
ولكننا نهدي الى من نعزه ... وإن لم يكن في وسعنا ما يعادله
وذكر الجهشاري قال:كان يكتب لعبد الله بن علي، يوسف بن صبيح، مولاى بني عجل، من ساكني سواد الكوفة، فذكر القاسم بن يوسف بن صبيح، أن أباه حدثه: أن عبد الله بن علي، لما استتر عند أخيه سليمان بالبصرة، علم أنه لاوزر له من أبي جعفر قال: فلما استتر، وقصدت اصحابنا الكتاب، فصرت في ديوان أبي جعفر، وأجرى لي في كل يوم عشرة دارهم، قال: فبكرت يوما الى الديوان قبل فتح بابه، ولم يحضر أحد من الكتاب، وإني لجالس عليه، إذا أنا بخادم لابي جعفر، قد جاء الى الباب فلم يد غيري، فقال لي: أجب أمير المؤمنين، فاسقط في يدي، وخشيت الموت، فقلت له: إن أمير المؤمنين لم يردني، فقال: وكيف؟ فقلت: لأني لست ممن يكتب بين يديه، فهم بالانصراف عني، ثم بدا له فأخذني وأدخلني، حتى اذا كنت دون الستر وكلا بي، ودخل ولم يلبث ان خرج، فقال لي: إدخل، فدخلت، فلما ضرب باب الايوان، قال لي الربيع:سلم على أمير المؤمنين، فشممت رائحة الحياة، فسلمت، فادناني وامرني بالجلوس، ثم رمى إلي بربع قرطاس وقال لي: اكتب وقارب بين الحروف، وفرج بين السطور، واجمع خطك ولاتسرف في القرطاس، وكانت معي دواة شامية، فتوقفت عن اخراجها، فقال لي يا يوسف: إنت تقول في نفسك، أنا بالأمس في ديوان الكوفة، اكتب لبني أمية، ثم مع عبد الله بن علي، وأخرج الساعة دواة شامية، إنك إنما كنت في الكوفة تحت يدي غيرك، وكنت مع عبد الله ابن علي، لي ومعي، والدوي الشامية أدب جميل، ومن أدوات الكتاب ونحن أحق بها. قال: فأخرجتها، وكتبت وهو يملي، فلما فرغت من الكتاب أمر به فأترب واصلح، وقال: دعه، وكل العناون الي، ثم قال لي: كم رزقك يايوسف في ديواننا؟ فقلت: عشرة دراهم، فقال: قد زادك أمير المؤمنين عشرة دراهم أخرى، رعاية لحرمتك بعبد الله ابن علي، ومثوبة لك على طاعتك، ونقاء ساحتك وأشهد أنك لو اختفيت باختفائه، لاخرجتك ولو كنت في حجرة النمل، ثم زايلت بين اعضائك، فدعوت له، وخرجت مسرورا بالسلامة. كان للمأمون جارية اسمها مؤنسة، وكانت تعني بأحمد ابن يوسف، وكان أحمد ابن يوسف يقوم بحوائجها، فأدلت على المأمون في بعض الأمور، فانكر عليها، وصار الى الشماسية ولم يحملها معه، فاستحضرت نصرة خاد أحمد بن يوسف، وحملته رسالة الى مولاه بخبرها، وسألته التلطف لاصلاح نية المأمون، فلم عرفه الخادم ذلك، دعا بدواته، وقصد الشماسية، فاستأذن على المأمون، فلما وصل اليه قال: أنا رسول، فاذن لي في تأدية الرسالة، فأنشده هذه الابيات:
قد كان عتبك مرة مكتوماً ... فاليوم أصبح ظاهرا معلوما
نال الأعادي سؤلهم، لاهنئوا، ... لما رأونا ظاعنا ومقيما
هبني أسأت فعادة لك أن ترى ... متجاوزا متفضلا مظلوما

قال: قد فهمت الرسالة، فكن الرسول بالرضى، ووجه بياسر الخادم فحملها، وكان موسى بن عبد الملك، في ناحية أحمد بن يوسف وهو خرجه، وقدمه، قال الحسن بن مخلد: حدثني، موسى ابن عبد الملك، وكان يرمي بابنة قال: وهب لي أحمد بن يوسف، وكان يعبث بموسى بن عبد الملك ويتعشقه، الف الف درهم في مرات، وكان عاتبه فيه محمد بن الجهم البرمكي، فكتب اليه أحمد بن يوسف:
لاتعذلني يا أبا جعفر ... لوم الاخلاء من اللوم
إن أسته مشربة حمرة ... كأنها وجنة مكلوم
فتقدم محمد الى البجلى، وكان في ناحيته، فأجابه:
لست بلا حيك على حبه ... ولست في ذاك بمذموم
لأنه في استه سخنة ... كأنها سخنة محموم
ذكر غرس النعمة في كتاب الهفوات: حدثني محمد بن علي، بن طاهر، بن الحسين قال: كان أحمد بن يوسف يسقط السقطة بعد السقطة، فيتلف نفسه في بعض سقطاته، وذلك أنه حكى علي ابن يحيى، ابن أبي منصور: أن المأمون كان إذا تبخر طرح له العود والعنبر، فإذا تبخر أمر باخراج المجمرة، ووضعها تحت الرجل من جلسائه إكراما له وحضر أحمد بن يوسف يوما، وتبخر المأمون على عادته، ثم أمر بوضع المجمرة تحت أحمد بن يوسف، فقال: هاتوا ذا المردود، فقال المأمون: ألنا يقال هذا، ونحن نصل رجلا واحدا من خدمنا بستة آلاف دينار، إنما قصدن إكرامك، وأن أكون أنا وأنت، قد اقتسمنا بخورا واحدا ثم قال: يحضر عنبر، فأحضر منه شيء في الغاية من الجودة، في كل قطعة ثلاثة مثاقيل، وأمر أن تطرح قطعة في المجمر، ويبخر بها أحمد، ويدخل رأسه في زيقه حتى ينفد بخورها، وفعل به ذلك بقطعة ثانية، وثالثة، وهو يستغيث ويصيح، وانصرف الى منزله، وقد احترق دماغه واعتل، ومات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقيل: أربع عشرة ومائتين وكانت له جارية يقال لها نسيم، لها من قلبه مكان خطير، فقالت ترثيه:
ولو أن ميتا هابه الموت قبله ... لما جاءه المقدار وهو هيوب
ولو أن حيا جازه الردى ... إذا لم يكن للأرض فيه نصيب
وقالت أيضا ترثيه:
نفسي فداؤك لو بالناس كلهم ... مابي عليك تمنوا أنهم ماتوا
وللورى موتة في الدهر واحدة ... ولي من الهم والأحزان موتات
ومن شعر أحمد بن يوسف كتب به إلى صديق له:
تطاول باللقاء العهد منا ... وطول العهد يقدح في القلوب
أراك وإن نأيت بعين قلبي ... كأنك نصب عيني من قريب
فهل لك في الرواح إلى حبيب ... يقر بعينه قرب الحبيب
قال أحمد بن يوسف: وقد شتمه رجل بين يدي المأمون، للمأمون، قدو الله يا أمير المؤمنين، رأيته يستملي من عينيك ما يلقاني به.
وكتب الى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وقد أراده إبراهيم بن المهدي: من حق من أنا عبده، وحجتنا عليك، إعلامنا إياك، والسلام.
عندي من تبهج العيون به ... فإن تخلفت كنت مغبونا
وأهدى الى المأمون في يوم عيد هدية وكتب معها: هذا يوم جرت فيه العادة، بإهداء العبيد إلى السادة، وقد أهديت قليلا من كثير عندي، وقلت:
أهدي إلى سيده العبد ... ماناله الإمكان والوجد
وإنما أهدى له ماله ... يبدأ هذا ولذا رد
ومن شعره اللطيف:
إذا ما التقينا والعيون نواظر ... فألسننا حرب وأبصارنا سلم
وتحت استراق اللحظ منا مودة ... تطلع سرا حيث لايبلغ الوهم
وهو القائل في محمد بن سعيد، بن حماد الكاتب، وكان يميل إليه، وكان صبيا مليحا.
صد عني محمد بن سعيد ... أحسن العالمين ثاني جيد
صد عني لغير جرم إليه ... ليس إلا لحبه في الصدود
قال: وكان محمد بن سعيد يكتب بين يديه، فنظر إلى عارضه قد اختط في خده، فأخذ رقعة وكتب فيها:
لحاك الله من شعر وزادا ... كما ألبست عارضه الحدادا
أغرت على تورد وجنتيه ... فصيرت احمرارهما سوادا
ورمى بها إلى محمد بن سعيد، فكتب مجيبا: عظم الله أجرك فيى ياسيدي، وأحسن لك العوض منى.
ومن شعر أحمد بن يوسف:
كثير هموم النفس ختى كأنما ... عليه كلام العالمين حرام

إذا قيل ما أضناك أسبل دمعه ... يبوح بما يخفي وليس كلام
وعاش القاسم أخوه بعده، فقال يرثيه:
رماك الدهر بالحدث الجليل ... فعز النفس بالصبر الجميل
أترجو سلوة وأخوك ثاو ... ببطن الأرض تحت ثرى مهيل
ولمثل أخيك فلتبك البواكي ... لمعضلة من الخطب الجليل
زير الملك يرعى جانبيه ... بحسن تيقظ وصواب قيل
أخثاءهولقب ولا أعرف اسمه، ولم أجد له ذكرا، إلا ما ذكره أبو بكر المبرمان، في الباب من كتابه في نكت كتاب سيبويه، في الفرق بين الكلم والكلام، فقال: وقال لي الملقب بأخثا: وكان أحد من رأينا من النحويين، الذين صحت لهم القراءة على أبي عثمان المازني، وكان موصوفا في اول نظره بالبراعة، مسلما له لاستغراقه الكتاب على أبي عثمان، ثم أدركته علة، فقال عن الحال الأولى كلاما أنا حاكيه، ورأيت أبا العباس ثعلبا يروم ذلك، وهو أن كل ما لفظ به ينقسم أقساما ثلاثة: قسم منه يكون للحدث، ولأسماء المدثين، ولأسماء الأمكنة والأزمنة، التي تقع فيها الأحداث، ولا اسم للجنس فيه، وذلك نحو الضرب، والقتل، والأخذ، والكلام، وما أشبه ذلك فإذا سئلت عن شيء من هذا، فقيل لك: ماهو؟ فجوابه أن تذكر الحدث المنقضى مع الزمان، وصنف منه يكون للأجناس، ولا اسم للأحداث فيه، ولا يكون حدثا، وهو كقولك: سفرجلة وسفرجل، فإذا سئلت عن ذلك، فجوابه أن تخبر عن صفة الشيء، فتقول: هو الذي لونه كذا، وجسمه كذا، ومركب من كذا، وصنف آخر يجمع الجنسين، وذلك نحو تمرة وتمر، فهذا من باب سفرجلة وسفرجل، ثم ثقول: أتمر النخل يتمر بإتمارا، فهذا إنما هو عبارة عن الحدث، فاذا سئلت ما التمر؟ فجوابه أن تقول: هو الجسم الذي من صفته كذا، ومن قده كذا، وفي داخله كذا، وإذا سئلت ما الاثمار؟ فجوابه أنه يمر الزمان بحره وبرده، وما فيه على البسر، فيتغير من حال إلى حال كذا، ثم يلين فيصير فيه الدبس وإنما تنبئ عن الأحداث التي تقع، وكذا كلمة وكلم في باب تمرة وتمر، فإذا قيل لك: ما الكلم؟ فالجواب هو الموضوع المتعارف بين الناس فاستعملوه، وهو الذي يسمونه: اسم، وفعل، وحرف، فإن قيل: فما الكلام؟ فجواب ذلك أن تقول: هو إجراء هذا الذي يسمونه كليما، وإخراجه بالصوت من الفم، فهو حدث، فالكلام حدث، والكلم موضوع الكلام الذي يستعمل، كزيد وضرب، وهل، وبل، فقد جمع الكلم أمرين، والكلام ليس كذلك، إنما هو لأمر واحد.
أسامة بن سفيان، السجزي النحويمن نحاة سجستان وشعرائها، ذكره أبو الحسن البيهق في كتاب الوشاح، وأنشد له:
أبي النأى إلا أن يجدد لي ذكرى ... لمن ودعتني وهي لا تملك العبرا
وقالت: رعاك الله ماخلت أنني ... أراك تسلى أو تطيق لنا هجرا
وكانت ترى فرط العلاقة ساعة ... تغيبها عنا وإن قصرت شهرا
وتجزع من وشك الفراق فما لها ... على فرقة الأحباب أن نظهر الصبرا
ومنها في المديح:
وزير يرى المعروف يجمل ذكره ... فأرسل بين الناس معروفه غمرا
فم أقلعت يوما غمامة جوده ... ولاقطرت رشا ولا أخطأت قطرا
وما اختص يوما حاضرا دون غائب ... برفد ولا ذا فاقة دون من أثرى
وقد أمه الراجون من كل وجهة ... فأربى مرجاهم بواحدة عشرا
وقد كان يعطيهم وهم في ديارهم ... ولكن هوى أن يجمع الرفد والبشرا
رأى ماله مال العدى فأباده ... فلم يبق منه لا ولا منهم أثرا
أسامة بن مرشد، بن مقلد

ابن نصر، بن منقذ، بن محمد، بن منقذ، بن نصر، ابن هاشم، بن سوار، بن زياد، بن رغيب، بن مكحول، بن عمر، بن الحارث، بن عامر، بن مالك،ابن أبي مالك، بن عوف، بن كنانة، بن بكر، بن عذرة، ابن زيد اللات، بن رفيدة، بن ثور، بن كلب، بن وبرة، ابن ثعلب، بن حلوان، بن عمران، بن قضاعة، ابن مالك، بن حمير، بن مرة، بن زيد، بن مالك، بن حميد، بن سينا، بن يشجب، بن يعرب، بن قحطان، هكذا ذكر هو نسبه، وفيه اختلاف يسير، عند ابن الكلبي، ويكنى أبا أسامة، وأبا الظفر، ويلقب مؤيد الدولة، ومجد الدين، وفي بني منقذ جماعة أمراء شعراء، لكن أسامة أشعرهم وأشهرهم، وأنا أذكر لكل واحد من أهله وترجمته ما يليق، ولا أفرقهم.
ذكر عماد الدين أبو عبد الله، محمد بن محمد، بن حامد الأصفهاني في كتاب خريدة القصر، وفريدة العصر، وأثنى عليه كثيرا، فقال: ما زال بنو منقذ هؤلاء مالكي شيزر، وهي حصن قريب من حماة، معتصمين بحصانتها، ممتنعين بمناعتها، حتى جاءت الزلزله في سنة نيف وخمسين، فخربت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملكها نور الدين، محمود بن زنكى عليهم، وأعاد بناءها، فتشعبوا شعبا، وتفرقوا أيدى سبا.
قال ابن عساكر: ذكر لي أسامة،أنه ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقدم دمشق، سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ومات أسامة في الثالث والعشرين من رمضان، سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ودفن بجبل قاسيون قال العماد: وأسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الإمارة، ويؤسس بيت قريضه عمارة العبارة، حلو المجالسة، حالى المساجلة، ندى الندى بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، اسكنه عشق الغوطة، دمشق المغبوطة، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل الى مصر، فبقى بها مؤمرا، مشارا إليه بالتعظيم الى أيام ابن رزيك، فعاد الى الشام، وسكن دمشق،مخصوصا بالاحترام، حتى أخذت شيزر من أهله، ورشقهم صرف الزمان بنبله ورماه الحدثان الى حصن كيفا، مقيما بها في ولده، مؤثرا لها على بلده، حتى أعاد الله دمشق الى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين، يوسف بن أيوب، سنة سبعين وخمسمائة، ولم يزل مشغوفا بذكره، مشتهرا باشاعة نظمه ونثره، والأمير العضد مرهف، ولد الأمير مؤيد الدولة، جليسة ونديمه وأنيسه.
قال مؤلف هذا الكتاب: وقد رأيت أنا العضد هذا بمصر، عند كونى بها، في سنتي إحدى عشرة واثنتي عشرة وستمائة، وأنشدني شيئا من شعره، وشعر والده قال: فاستدعاه الى دمشق، يعني: مؤيد الدولة، وهو شيخ قد جاوز الثمانين قال: وأنشدني العامرى من شعره بأصبهان، و كنت أتمنى لقياه، وأشيم على العبد حياه، حتى لقيته في صفر،سنة إحدى وسبعين بدمشق، وسألته عن مولده،فقال: ولدت فى السابع و العشرين من جمادى الآخر، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وأنشدنى لنفسه، البيتين اللذين سارا له فى قلع ضرسه:
وصاحب لاأمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعى و يسعى سعى مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظرى افترقنا فرقة الأبد
وأنشدني لنفسه من قديم شعره:
قالوا نهته الأربعون عن الصبا ... وأخو المشيب يجور ثمت يهتدى
كم جار فى ليل الشباب فدله ... صبح المشيب على الطريق الأقصد
وإذا عددت سنى ثم نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدى
قلت أنا: هذا كلام نفيس، ومعنى لطيف، ولكنه أخذ معنى البيت الثانى، من قول ابن الرومى:
كفى بسراج الشيب فى الرأس هادياً ... إلى من أضلته المنايا لياليا
فكان كرامى الليل يرمى فلا يرى ... فلما أضاء الشيب شخصى رمانيا
وأخذ معنى البيت الأخير، من قول أبى فراس بن حمدان فى مزدوجته:
ما العمر ماطالت به الدهور ... العمر ماتم به السرور
أيام عزى ونفاذ أمرى ... هى التى أحسبها من عمرى
لو شئت مما قد قللن جدا ... عددت أيام السرور عدا
ولكن قول أسامة أبلغ في المعنى، وهذا ظاهر قال: وأنشدنى من قديم شعره:
لم يبق لي في هواكم أرب ... سلوتكم و القلوب تنقلب
أوضحتم لي سبل السلو وقد ... كانت لي الطرق عنه تنشعب

الإم دمعى من هجركم سرب ... قان وقلبى من غدركم يجب
إن كان هذا لأن تعبدني الحب ... فقد أعتقني الريب
أحببتكم فوق ما توهمه الناس ... وخنتم أضعاف ما حسبوا
وقوله أيضاً:
يادهر مالك لايصددك ... عن مساءتى العتاب
أمرضت من أهو ويأبى ... أن أمرضه الحجاب
لو كنت تنصف كانت الأم ... راض لي و له الثواب
أخذ هذا المعنى من قول الشاعر:
يا ليت علته لى غير أن له ... أجر المريض وأنى غير مأجور
قال العماد: وهذا الذى أوردته من شعره، نقلته من تاريخ السمعاني، فلم وردت إلى دمشق، وأجتمعت به، قلت له: هل لك معنى مبتكر فى الشيب؟ فأنشدني:
لو كان صد معاتبا ومغاضبا ... أرضيته وتركت خدي شائبا
لكن رأى تلك النضارة قد ذوت ... لما غدا ماء الشبيبة ناضبا
ورأى النهي بعد الغواية صاحبي ... فثنى العنان يريغ غيرى صاحبا
وأبيه ما ظلم المشيب وإنه ... أملي، فقلت عساه عني راغبا
أنا كالدجى لما تناهى عمره ... نشرت له أيدى الصباح ذوائبا
ومن شعره أيضا في محبوس:
حبسوك: والطير النواطق إنما ... حبست لميزتها على الأنداد
وتهيبوك وأنت مودع سحنهم ... وكذا السيوف تهاب في الأغماد
ما الحبس دار مهانة لذوى العلا ... لكنه كالغيل للآساد
ومنه قوله في الشمعة:
أنظر إلى حسن صبر الشمع يظهر ... للرائين نورا وفيه النار تستعر
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا ... وقلبه بدخيل الغم منفطر
وقوله أيضا:
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل ... طلق وقلبى كئيب مكمد باك
وراحة قلبي في الشكوى ولذتها ... لو أمكنت لا تساوى ذلة الشاكي
وقوله أيضا:
لئن غض دهر من جماحي أو ثنى ... عناني أو زلت بأخمصي النعل
تظاهر قوم بالشمات جهالة ... وكم إجنة في الصدر أبرزها الجهل
وهل أنا إلا السيف فلل حده ... قراع الأعادي ثم أرهفه الصقل
وقوله أيضا:
لا تحسدن على البقاء معمرا ... فالموت أيسر ما يئول إليه
وإذا دعوت بطول عمر لامرئ ... فاعلم بأنك قد دعوت عليه
قال العماد: وتناشدنا بيتا للوزير المغربي في وصف خفقان القلب، وتشبيهه بظل اللواء، الذى تخترقه الرياح وهو:
كان قلبى إذا عن ادكاركم ... ظل اللواء عليه الريح تخترق
فقال لى الأمير مؤيد الدولة أسامة: لقد شبهت القلب الخافق وبالغت في تشبيهه، وأربيت عليه فى قولى من أبيات وهي:
أحبابنا كيف اللقاء ودونكم ... عرض المهامه والفيافي الفيح
أبكيتم عينى دما لفراقكم ... فكأنما إنسانها مجروح
وكأن قلبى حين يخطر ذكركم ... لهب الضرام تعاورنه الريح
فقلت له: صدقت، فإن المغربى قصد تشبيهه خفقان القلب، وأنت شبهت القلب الواجب باللهيب، وخفقانه باضطرابه عند اضطرامه، لتعاور الريح، فقد أربيت عليه وأنشدني أيضا من قوله أيام شبابه، وهو معتقل فى الخيال.
ذكر الوفاء خيالك المنتاب ... فالم وهو بودنا مرتاب
نفسى فداؤك من حبيب زائر ... متعتب عندى له الأعتاب
ودى كعهدك والديار قريبة ... من قبل أن تتقطع الأسباب
ثبت فلا طول الزيارة ناقص ... منه وليس يزيده الإغباب
حظر الوفاء على هجرك طائعا ... وإذا اقتسرت فما علي عتاب
قال: وتذاكرنا قول أبي العلاء المعري:
لو حط رحلي فوق النجم رافعة ... ألفيت ثم خيالا منك منتظري
وأبلغ من هذا قول المعري في بعد المسافة:
وذكرت كم بين العقيق إلى الحمى ... فجزعت من أمد المدى المتطاول
وعذرت طيفك في الجفاء فإنه ... يسري فيصبح دوننا بمراحل
وأنشدني:
وأعجب ما لقيت من الليالي ... وأى فعالها بي لم يسؤنى؟

تقلب قلب من مثواه قلبي ... وجفوة من ضممت عليه جفني
قال: واجتمعنا عن الملك الناصر صلاح الدين، يوسف بن أيوب بدمشق، وكان يلعب بالشطرنج، فقال الأميرأسامة: ألا أنشدك البيتين اللذين قلتهما في الشطرنج؟ فقلت: هات، فأنشدنى لنفسه:
أنظر إلى لاعب الشطرنج يجمعها ... مغالبا ثم يعد الجمع يرميها
كالمرء يكدح للدنيا ويجمعها ... حتى إذا مات خلاها وما فيها
وأنشدني لنفسه في غرض له فى نور الدين محمود - رحمه الله - :
سلطاننا زاهد والناس زهدوا ... له فكل على الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم خالية ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش
قال: وأنشدني لنفسه:
أأحبابنا هلا سبقتم بوصلنا ... صروف الليالى قبل أن نتفرقا؟؟
تشاغلتم بالهجر والوصل ممكن ... وليس إلينا للحوادث مرتقى
كأنا أخذنا من صروف زماننا ... أمان ومن جور الحوادث موثقا
وقال ايضا:
قمر إذا عاينته شغفا به ... غرس الحياء بوجنتيه شقيقا
وتلهبت خجلا فلولا ماؤها ... مترقرق فيه لصار حريقا
وازور عنى مطرقا فأضلني ... أن أهتدى نحو السلو طريقا
فليلحنى من شاء فيه فصبوتى ... بهواه سكر لست منه مفيقا
وكتب إليه أبو الفوارس مرهف: من حض كيفا، كتابا على يد مسنمنح، فلم يمكن الوقت من بلوغ الغرض من البر، فكتب أسامة جوابه.
أبا الفوارس ما لاقيت من زمني ... أشد من قبضه كفي عن الجود
رأى سماحي بمنزور تجانف لي ... عنه وجودي به فاجتاح موجودي
فصرت إن هزني جان تعود أن ... يجبنى نداي رآني يابس العود
وقال أيضا:
سقوف الدور في خربرت سود ... كستها النار أثواب الحداد
فلا تعجب إذا ارتفعت علينا ... فللحظ اعتناء بالسواد
بياض العين يكسوها جمالا ... وليس النور إلا في السواد
ونور الشيب مكروه وتهوى ... سواد الشعر أصناف العباد
وطرس الخط ليس يفيد علما ... وكل العلم فى وشى المداد
وله مدح صلاح الدين:
هو من عرفت فلو عصاه نهاره ... لرماه نقع جيوشه بالغيهب
وله في الهزل:
خلع الخليع عذاره في فسقه ... حتى تهتك فى بغا ولواط
يأتي ويؤتى ليس ينكى ذا ولا ... هذا كذلك إبرة الخياط
قال العماد: وكان قد سألني أن أنتجز له مطلوبا عند الملك الناصر، صلاح الدين، فكتب إلى يستحثنى:
عماد الدين مولانا جواد ... مواهبه كمنبل السحاب
يحكم في مكارمه الأمانى ... ولو كلفنه رد الشباب
وعذرك في قضا شغلى قضاء ... يصرفه فما عذر الجواب
ولمؤيد الدولة أسامة بن منقذ، تصانيف حسان، منها: كتاب القضاء، كتاب الشيب والشباب، ألفه لابيه، كتاب ذيل يتيمة الدهر للثعالبي، كتاب تاريخ أيامه، كتاب في أخبار أهله رأيته ومن شعر الأمير الأجل مؤيد الدولة، مجد الدين أسامة بن منقذ:
صديق لنا كالبحر قد أهلك الورى ... ولم تنههم أخطاره عن ركوبه
موداته تحكيه صفوا وخبرها ... كمشربه من حوبه وذنوبه
ومنه أيضا:
كنت بين الرجاء واليأس منه ... أقطع الدهر بين سلم وحرب
ألتقى عتبه بأكرم إعتاب ... ويلقى ذلى بتيه وعجب
فبدا للملول أنى لو رمت ... سلوا لما سلا عنه قلبي
فتجنى لي الذنوب ولا والله ... ما لي ذنب سوى فرط حبي
ومنه أيضا:
أنظر بعينك هل ... ترى أحد يدوم على الموده؟
فترى أخلاء الصفاء ... عدى إذا نابتك شده
ومنه أيضا
تنكرني الإخوان حتى ثقاتهم ... وحذرنى منهم نذير التجارب
كأني إذا أودعت سري عندهم ... رفعت بنار فوق أعلى المراقب
قال العماد: وكتبها إلى دمشق بعد خروجه إلى مصر، في أيام بنى الصوفى يشير إليهم:

ولوا فلما رجونا عدلهم ظلموا ... فليتهم حكموا فينا بما علموا
ما مر يوما بفكرى ما يريبهم ... و لا سعت بي إلى ما ساءهم قدم
ولا أضعت لهم عهدا ولااطلعت ... على ودائعهم فى صدرى التهم
محاسنى منذ ملونى بأعينهم ... قذى، وذكرى فى آذانهم صمم
وبعد لو قيل لي ما تحب وما ... تختار من زينة الدنيا لقلت هم
هم مجال الكرى من مقلتي ومن ... قلبي محل المنى جاروا أو احترموا
تبدلوا بي ولا أبغى بهم بدلا ... حسبى بهم أنصفوا فى الحكم أم ظلموا
ياراكبا تقطع البيداء همته ... والعيس تعجز عما تدرك الهمم
بلغ أميري معين الدين مألكة ... من نازح الدار لكن وده أمم
هل فى القضية يا من فضل دولته ... وعدل سيرته بين الورى علم
تضيع واجب حقى بعد ما شهدت ... به النصيحة والخلاص والخدم
إذا نهضت إلى مجد تؤثله ... تقاعدوا، وإذا شيدته هدموا
وإن عرتك من الأيام نائبة ... فكلهم للذي يبكك يبتسم
وكل من ملت عنه قربوه ومن ... ولاك فهو الذي يقى ويهتضم
أين الحمية والنفس الأبية إذ ... ساموك خطة خسف عارها يصم؟
هلا أنفت حياء أو محافظة ... من فعل ما أنكرته العرب والعجم
أسلمتنا وسيوف الهند مغمدة ... ولم يرو سنان السمهري دم
وكنت أحسب من والاك في حرم ... لايعتريه به شيب ولا هرم
وأن جارك جار للسموءل لا ... يخشى الأعادى ولاتغتاله النقم
هبنا جنينا ذنوبا لا يكفرها ... عذر فماذا جنى الأطفال والحرم
ومنها:
لكن رأيك أدناهم وأبعدني ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم
ولا سخطت بعادي إذ رضيت به ... ولا لجرح إذا أرضاكم ألم
تعلقت بحبال منك يدي ... ثم انثنت وهي صفر ملؤها ندم
لكن فراقك آساني وأسقمني ... ففي الجوانح نار منه تضطرم
فاسلم فما عشت لي فالدهر طوع يدي ... وكل ما نالنى من بؤسه نعم
ومن شعره أيضا:
إلق الخطوب إذا طرقن بقلب محتسب صبور
فسينقضي زمن الهموم ... كما انقضى زمن السرور
فمن المحال دوام حال ... في مدى العمر القصير
وتوفى بعد الثمانين والخمسمائة. ومنهم أخوه أبو الحسن على بن مرشد، بن على بن مقلد، بن منقذ، سيد بنى منقذ، ورد بغداد حاجا بعد العشرين والخمسمائة. وقد ذكره السمعاني في تاريخه، وأنشد له:
ودعت صبري ودمعي يوم فرقتكم ... وما علمت بأن الدمع يدخر
وضل قلبي عن صدري فعدت بلا ... قلب فياويح ما آتى وما أذر
ولو علمت ذخرت الصبر مبتغيا ... إطفاء نار بقلبي منك تستعر
قال الأمير علي بن مرشد: سمعت دربابا يصيح بدرب حبيب فقلت فيه:
ياطائرا لعبت أيدى الفراق به ... مثلى فأصبح ذا هم وذا حزن
داني الأسى، نازح الأوطان مغتربا ... عن الأحبة مصفودا عن الوطن
بلا نديم ولاجار يسر به ... ولاحميم ولا دار ولا سكن
لكن نطقت فزال الهم عنك ولى: ... هم يقلقل أحشائي ويخرسني
وكل من باح بالشكوى استراح ومن ... أخفى الجوى بث عنه شاهد البدن
أرقت عيني بنوح لست أفهمه ... مع مابقلبى من وجد يؤرقني
وما بكيت ولي دمع غواربه ... إذا ارتمت منه لم تنشق بالسفن
قال: وكتب إلى صديق له:
ما فهت مع متحدث متشاغلا ... إلا رأيتك خاطرا فى خاطرى
ولو استطعت لزرت أرضك ماشيا ... بسواد قلبى أو بأسود ناظرى
وكتب إلى أخيه مؤيد الدولة أسامة، وهو بالموصل:

ألا هل لمخزون تذكر إلفه ... فحن وأبدى وجده من يعنيه
وعيشا معنى بالرغم إذ نحن جبرة ... ترف على روض الوصال عصونه
لدي منزل كان السرور قرينكم ... به فتولى إذ تولى قرينه
فلو أعشبت من فيض دمعي محوله ... لما رضيت عن دمع عيني جفونه
قال: وأنشدنى له ابن أخيه، الأمير مرهف بن أسامي:
لأشكرن النوى والعيس إذ قصدت ... بى معدن الجود والإحسان والكرم
فسرت في وطني إذ سرت من وطنى ... فمن رأى صحة جاءت من السقم؟
وقد ندمت على عمر مضى أسفا ... إذ لم أكن لك جارا فيه في القدم
فاسلم ولا زلت محروس العلا أبدا ... ما لاحت الشهب في داج من الظلم
وقال أخوه أسامة بن مرشد: ونقلت من خط أخى عز الدولة، أبي الحسن، علي بن مرشد، من شعره، وكان استشهد رحمه الله على عزة فى شهر رمضان، سنة خمس وأربعين وخمسمائة، فى حرب الفرنج لعنهم الله قبل أن يكمل من شعره، وكان تقطر به فرسه على باب غزة، واستعلى الفرنج على أصحابه، فانكشفوا عنه، وبقى في المعركة فقتل، وأنشد له أشعارا، منها قوله فى مرض طال به:
ظننت، وظن الألمعى مصدق ... بأن سقام المرء سجن حمامه
فإن لم يكن موت صريح فإنه ... عذاب تمل النفس طول مقامه
وكم يلبث المسجون في قبضة الأذى ... يجرب فيه الموت غرب حسامه
وأنشد له قوله عند رحيله عن بغداد إلى الحجاز
ترحلت عن بغداد لا كارها لها ... وفى القلب منها لوعة وحريق
فسقيا لأيام تقضت بربعها ... إذ العيش غض والزمان أنيق
بإخوان صدق ليس فيهم مشاهق ... وكلهم حان على شفيق
وأنشد له أيضا:
ولما أعرتني النوى منك نظرة ... أحب إلي قلبي من البارد العذب
تعقبها البين المشت فليتنا ... بقينا على تأميلنا لذة القرب
وأنشد له:
ليت شعري علام صدك عنا ... بعد ما كنت تدعي الأشواقا؟
لاتجار الزمان سبقا إلى الهجر ... فما زال صرفة سباقا
أنت غر بغدره فلهذا ... قد تعجلت بالصدود الفراق
وأنشد له:
بنى أبى إن عدا دهر ففرقنا ... فهم نفسى بكم ما عشت مجتمع
هل تعلمون الذى فى النفس من أسف ... عليكم وحنين ليس ينقطع
ترحتم أدمعى حتى لقد محلت ... جفون عيني ومات اليأس والطمع
وإن دهرا رمى عن جيده دررا ... أمثالكم لزمان عاطل ضرع
ومنهم جده سديد الملك، أبو الحسن، علي مقلد، بن منقذ، وكان من شرطه أن يقدم على بنيه قال: هو جد الجماعة، موفور الطاعة، أحكم آساس مجده وشادها، وفضل أمراء ديار بكر والشام وسادها.
قال أبو يعلى حمزة بن أسد: في سنة أربع وسبعين وأربعمائة فى رجب، ملك الأمير أبو الحسن، علي بن مقلد، بن منقذ، حصن شيزر، من الأسقف الذى كان فيه بمال بذله له، وأرغبه فيه إلى أن حصل فى يده، وشرع فى عمارته وتحصينه، والمصانعة عنه إلى أن تمكنت حاله فيه، وقويت نفسه فى حمايته، والمدافعة عنه والأمير سديد الملك، هو ممدوح فحول الشعراء، الذي امتدحه ابن حيوس بقصيدته التي أولها - وكتبها إليه من طرابلس وهو بحلب - :
أما الفراق فقد عاصيته فأبى ... وطالت الحرب إلا أنه غلبا
أرانى البين لما حم عن قدر ... وداعنا كل جد بعده لعبا
قال: وسألت ابن ابنه الأمير أسامة بن مرشد، ابن على عن وفاة جده، فقال: مات سنة خمس وسبعين وأربعمائة، قال: وأنشدني مجد العرب العامري بأصبهان قال: أنشدني الأمير أبو سلامة مرشد لأبيه الأمير، أبى الحسن علي بن مقلد فى غلام له ضربه، وقد أبدع في هذا المعنى وأعرب:
أسطو عليه وقلبى لو تمكن من ... كفى غلهما غيظا إلى عنقي
وأستعير إذا عاتبته حنقا ... وأين ذل الهوى من عزة الحنق
قال وأنشدني له أيضا:
ماذا النجيع بوجنتيك وليس من ... شدخ الأنوف على الخدود رعاف

ألحاظنا جرحتك حين تعرضت ... لك أم أديمك جوهر شفاف
وقرأت له في مجموع.
إذا ذكرت أياديك التى سلفت ... مع سوء فعلي وزلاتى ومجترمي
أكاد أفتل نفسى ثم يمنعني ... علمى بأنك مجبول على الكرم
وله أيضا:
من كان يرضى بذل فى ولايته ... من خوف عزل فإنى لست بالراضي
قالوا فنركب أحيانا فقلت لهم ... تحت الصليب ولا فى موضع القاضى
وله أيضا:
لاتعجلوا بالهجر إن النوى ... تحمل عنكم مؤنة الهجر
وظاهرونا بوفاء فقد ... أغناكم البين عن الهجر
وله أيضا:
ألقي المنية فى درعين قد نسجا ... من المنية لا من نسج داود
إن الذى صور الأشياء صورني ... نارا من البأس في بحر من الجود
وهذان البيتان يرويان لعبد المؤمن ملك الغرب، ولسديد الملك، من مجموع أسامة:
كيف السلو وحب من هو قاتلي ... أدنى إلي من الوريد الأقرب
إنى لأعمل فكرتى فى سلوة ... عنه فيظهر فى ذل المذنب
وله أيضا:
بكرت تنظر شيبي ... وثيابي يوم عيد
ثم قالت لى بهزء ... يا خليقا في جديد
لاتغالطني فما تص ... لح إلا للصدود
قال العماد: أنشدت هذه الأبيات والقطع جميعها، الأمير مؤيد الدولة أسامة، فى سنة اثنتين وسبعين، فأنكر أن يكون لجده سوى البيتين اللذين أولهما: لاتعجلوا بالهجر إن النوى وأنشدني لجده، وكان كتب بها إلى القاضي جلال الملك، أبى الحسن علي بن عمارة، صاحب طرابلس:
أحبابنا لو لقيتم فى مقامكم ... من الصبابة ما لاقيت فى ظعنى
لأصبح البحر من أنفاسكم يبسا ... كالبر من أدمعي ينشق بالسفن
ومنهم الأمير أبو سلامة، مرشد بن علي، بن مقلد، ابن نصر، بن منقذ،وولد المقدم ذكره، له البيت القديم، والفضل العميم، من فروع الأملاك، الفارعى الأملاك.
قال السمعاني في تاريخه: رأيت مصحفا بخطه، كتبه بماء الذهب على الطاق الصورى، ما رأيت ولا أظن أن الرائين رأوا مثله، فقد جمع إلى فضائله حسن خطه، وتقدم بحسن تدبيره على رهطه وأسن وعمر، وله أولاد نجباء أمجاد، كرماء أجواد، وكان مولده سنة ستين وأربعمائة، ومات بشيزر، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فيما حكاه ولده أسامة للسمعاني. وذكره مجد العرب أبو فراس العامري، وقال: كنت مقيماً مدة بشيزر في كنفهم، حاظيا برفدهم، ساميا بشرفهم وأثنى على خلفهم، وترحم على سلفهم، قال: وكان الأمير حينئذ بقلعة شيزر: السلطان أبو العساكر أخوه، وهو ممدوحي الذى حباني الإكرام والإحسان، وكان الأمير مرشد يقربني ويكرمني، وقال فى أبياتا منها
لئن نسى امرؤ عهدا فإني ... لعهد أبي الفوارس غير ناس
وما عاش الأمير أبو فراس ... فما مات الأمير أبو فراس
كنية العامري أبو فراس الآخر، وهو أبو فراس بن حمدان، وكان العامري ينبجح بالبيتين، وذكر السمعاني في تاريخه، أنشدني ولده أبو عبد الله محمد ابن مرشد، بن علي، بن مقلد بن منقذ، من حفظه عند القبة التى فيها قبر أيوب النبى صلى الله عليه وسلم، عند عقبة أفيق، بنواحى الأردن قال، وأنا قائم أكتب، وهو وغلمانه على الخيل قال: أنشدني والداى المرشد بن على لنفسه بشيزر:
ظلوم أبت فى العلم إلا التماديا ... وفى الصد والهجران إلا تناهيا
شكت هجرنا والذنب فى ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطالما ... عصيت عذولا فى هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى العلا ... وهيهات أن أمسى لها الدهر قاليا
ولا ناسيا ما استودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
ومنها فى العتاب:
وقلت: أخى يرعى بني وأسرتي ... ويحفظ فيهم عهدتي وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فعد أعددته من تراثيا
فأصبحت صفر الكف مما رجوته ... أرى اليأس قد غطى سبيل رجائيا
فما لك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارما كان ماضيا

تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتناسيا
على أننى ماحلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي الشؤون وداديا
فلا زعزعتك الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
قال: وقرأت فى بعض الكتب كلمة نظمها الخطيب أب الفضل، يحيى بن سلام الحصكفي، فى جواب رسالة وصلته من الأمير على بن مرشد من شيزر، وهى:
حوى مرشد وابناه غر المناقب ... وحلوا من العلياء أعلى المراتب
ذوائب مجد ما علمت بأنهم ... من العلم أيضا فى الذرى و الذوائب
أنت من على روضة جاد روضها ... سحائب فضل لا كجود السحائب
بأبيات شعر أفحمت كل شاعر ... وآيات نثر أعجبت كل خاطب
وغر معان أعجزن كل عالم ... وأسطر خط أرعشت كل كاتب
وربع لورد واقد لمطالع ... ربيع لوفد وارد بمطالب
وخود رمت بالسحر عن قوس حاجب ... لها في العلا فخر على قوس حاجب
فلو قطبت بوما لما قطبت لها ... وجوه ولا غطت على حكم شارب
ومنهم حميد بن مالك، بن مغيث، بن نصر، بن منقذ، بن محمد، بن منقذ، بن نصر، بن هاشم، أبو الغنائم، الملقب بمكين الدولة، ولد بشيزر في تاسع جمادي الآخرة، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ونشأ بها، وانتقل إلى دمشق، فسكنها مدة طويلة، وكتب فى العسكر، وكان يحفظ القرآن، وله شعر جيد، وفيه شجاعة وعفاف، ومات فى نصف شعبان، سنة أربع وستين وخمسمائة بحلب، ومن شعره:
ما بعد جلق للمرتاد منزلة ... ولا كسكانها فى الأرض سكان
فكلها لمجال الطرف منتزه ... وكلهم لصروف الدهر أقران
وهم وإن بعدوا عنى بنسبتهم ... إذا بلوتهم بالود إخوان
وقال في أخيه يحيى:
بالشام لي حدث وجدت بفقده ... وجدا يكاد القلب منه يذوب
فيه من البأس المهيب صواعق ... تخشى ومن ماء السماء قليب
فارقت حتى حسن صبرى بعده ... وهجرت حتى النوم وهو حبيب
قال الحافظ علي بن الحسن، بن هبة الله، وأنشدنا لنفسه:
يذكرني يحيى الرماح شوارعا ... وبيض المواضى جردت للوقائع
وأقسم ما رؤياه في العين بهجة ... بأحسن من أوصافه فى المسامع
قال: وأنشد لنفسه:
وسلافة أزرى احمرار شعاعها ... بالورد والوجنات والياقوت
جاءت مع الساقى تنير بكأسها ... فكأنها اللاهوت فى الناسوت
قال: وأنشدنا لنفسه فى صديق له يعاتبه:
أدنو بودى وحظى منك يبعدنى ... هذا: لعمرك عين الغبن والغبن
وإن توخيتني يوما بلائمة ... رجعت باللوم إبقاء على الزمن
وحسن طنى موقوف عليك فهل ... غيرت بالظن بى عن رأيك الحسن
ومنهم الأمير شرف الدين، أبو الفضل، إسماعيل بن أبى العساكر، سلطان بن علي، بن منقذ، كان أبوه عم مؤيد الدولة، أسامة بن مرشد، أمير شيزر، وكان شابا فاضلا، سكن لما أخذت منهم شيزر بدمشق، ومات بها سنة إحدى وستين وخمسمائة، قال العماد: وسمعت من شعره:
ومهفهف كتب الجمال بخده ... سطرا يحير ناظر المتأمل
بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأى إلا رأى أهل الموصل
وذكره ابن عمه الأمير مرهف بن أسامة، وأثنى عليه، وأنشدنى له أشعاراً منها بيتان فى النحل والزنبور وهما:
ومغردين ترنما فى مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام
هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيحمد ذا وذاك يذام
يعنى العسل من النحل، وعكسه اللسع من الزنبور وأنشدنى أيضا له:
سقيت كأس الهوى علا على نهل ... فلا تزدني كأس اللوم والعذل
نأى الحبيب فبى من نأيه حرق ... لو لابست جبلا هدت قوى الجبل
ولو تطلبت سلوانا لزدت هوى ... وقد يزيد رسوبا نهضة الوحل
عفت رسومي فعج نحوى لتندبني ... فالصب غب زيال الحب كالطلل

صحوت من قهوة تنفى الهموم بها ... لكنني ثمل من طرفة الثمل
أصبر النفس عنه وهى قائلة ... مالى بعادية الأشواق من قبل
كم ميتة وحياة ذقت طعمهما ... مذ ذقت طعم النوى لليأس والأمل
والنفس إن خاطرت فى غمرة وألث ... منها وإن خاطرت فى الوجد لم تئل
لها دروع تقيها من سهام يد ... لهل دروع تقيها أسهم المقل
فانظر إليه تر الأقمار فى قمر ... وانظر إلى تر العشاق فى رجل
بأى أمر سأنجو من هوى رشا ... فى جفنه سحر هاروت وسيف على
إذا رمى طرفه باللحظ قال له ... قلبى أعد لا رماك الله بالشلل
أمن بني الروم ذا الرامي الذى فتكت ... سهامه بالورى أم من بني ثعل؟
إن خفت روعة هجران الحبيب فقد ... أمنت في حبه من روعة العذل
ومنهم الأمير أبو الفتح، يحيى بن سلطان، بن منقذ، لقبه فخر الدولة، ذكره الأمير مرهف بن أسامة، وذكر أنه قتل على بعلبك، فى سنة أربعين وخمسمائة وأنشدنى من شعره، ما كتبه إلى أبيه عز الدين، يطلب منه رمحا:
يا خير قوم لم يزل مجدهم ... فى صفحات الدهر مسطورا
عبدك يبغى أسمرا ذكره ... ما زال بين الناس مذكورا
مسدد والجور من شأنه ... إن نال، وترا صار موتورا
فإن تفضلت به عاد عن ... صدور أعدائك مكسورا
ومنهم الأمير عز الدولة أبو المرهف، نصر بن مقلد، بن نصر، بن منقذ، عم مؤيد الدولة أسامة، قال العماد: كنا حضرنا عند الملك الناصر ليلة بدمشق، سنة إحدى وسبعين، والأمير مؤيد الدولة حاضر، وتناشدنا ملح القصائد، ونشدنا ضالة الفوائد، وجرى حديث اقتضى إنشاد الأمير أسامة بيتين لبعضهم فى المشط الأبيض، وهما لأبى الحسن، أحمد بن محمد، بن الدريدة المغربي، كان فى زمن بنى صالح:
كنت أستعمل السواد من الأمشاط ... والشعر فى سواد الدياجي
أتلقى مثلا بمثل فلما ... صار عاجا سرحته بالعاج
ثم قال الأمير: وقد أخذ هذا المعنى، عمى نصر وعكسه، وقال:
كنت أستعمل البياض من الأمشاط ... عجبا بلمتى وشبابي
فاتخذت السواد فى حالة الشيب ... سلوا عن الصبا بالتصابي
وقال لى الأمير أسامة: كان عمى نصر قد أخرج حجة عن والدته، فرآها فى النوم كأنها تنشده، فأتيته والأبيات على حفظه، وهي:
جزيت من ولد بر بصالحة ... فقد كسبت ثوابا آخر الزمن
وقد حجبت إلى البيت الحرام وقد ... أتيته زائرا يا خير محتضن
فلا تنلك يد الأيام ما طلعت ... شمس وما صدحت ورقاء فى فنن
وكان نصر هذا، صاحب قلعة شيزر بعد والده سديد الملك، وكان كريما ذا أريحية حدثنى الأمير مرهف بن أسامة بحضرة والده، قال: كتب القاضى أبو مسلم وادع المعرى، إلى الأمير نصر فى نكبة نالته:
يانصر يا ابن الأكرمين ومن ... شفع التلاد بطارف الفخر
هذا كتاب من أخى ثقة ... يشكو إليك نوائب الدهر
فأمنن بما عودت من حسن ... هذا أوان النفع والضر
فكتب إليه نصر إنه لم يحضرنى سوى ما هو عندك مودع، وهو ستة آلاف دينار، فاصرفها فى بعض مصالحك واعذر وذكر أن نصرا كان برا بوالده سديد الملك، فقال فيه سديد الملك:
جزى الله نصرا خير ما جزيت به ... رجال قضوا فرض العلاء ونفلوا
هو الولد البر العطوف وإن رمى ... به حادث فهو الحمام المعجل
يفديك يا نصر رجال محلهم ... من المجد والإحسان أن يتقولوا
سألنى بما أوليت بالموقف الذى ... تقر به الأقدام أو تتزلزل
وألقاك يوم الحشر أبيض ناصعا ... وأشكر عند الله ما كنت تفعل

وتوفى نصر بن على، فى جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، بشيزر ومنهم الأمير عضد الدين أبو الفوارس مرهف بن أسامة، بن مرشد، بن على، ابن مقلد، بن نصر، بن منقذ قال مؤلف الكتاب: فارقته فى جمادى الأولى، سنة اثنتى عشرة وستمائة، بالقاهرة يحيا، ولقيته بها وهو شيخ ظريف، واسع الخلق، شائع الكرم، جماعة للكتب، وحضرت داره، واشترى منى كتبا، وحدثنى أن عنده من الكتب ما لايعلم مقداره، إلا أنه ذكر لى، أنه باع منها أربعة آلاف مجلد فى نكبة لحقته، فلم يؤثر فيها، وسألته عن مولده، فقال: ولدت سنة عشرين وخمسمائة،فيكون عمرع إلى وقتنا هذا، اثنتين وتسعين سنة،وكان قد أقعد لا يقدر على الحركة، إلا أنه صحيح العقل والذهن، والفطنة والبصر، يقرأ الخط الدقيق كقراءة الشبان، إلا أن سمعه فيه ثقل، وكان ذلك يمنعنى من مكاثرته ومذاكرته وكان السلطان صلاح الدين رحمه الله قد أقطعه ضياعا بمصر، فهو يصرفها فى مصالحه، واجراه الملك العادل، أخو صلاح الدين على ذلك، وكان الملك الكامل بن العادل يحترمه، ويعرف له حقه، وأنشدنى شيئا من شعره وشعر أهله، لم يحضرنى فى هذا الوقت ما أورده: وذكر له العماد فى كتاب الخريدة، ما ذكر أنه سمعه منه وهو:
سمحت بروحى فى رضاك ولم يكن ... ليعجزنى لولا رضاك المذاهب
وهانت لجراك العظائم كلها ... على وقد جلت لدى النوائب
فكان ثوابي عن ولائي لحبكم ... رمتني به منك الظنون الكواذب
فمهلا فلي في الأرض عن منزل العلا ... مسار إذا أخرجتنى ومسارب
وإن كنت ترجو طاعتي بإهانتي ... وقسري فإن الرأي عنك لعازب
وأنشدني أيضاً لنفسه، قال وهو حاضر عند والده، وذكر أنه مما كتبه إلى والده:
رحلتم وقلبى بالولاء مشرق ... لديكم وجسمي للعناء مغرب
فهذا سعيد بالدنو منعم ... وهذا شقي بالبعاد معذب
وما أدعي شوقا فسحب مدامعي ... تترجم عن شوقي إليكم وتعرب
ووالله ما اخترت التأخر عنكم ... ولكن قضاء الله ما منه مهرب
ومات الأمير عضد الدين بن مرهف، في الثانى من صفر، سنة ثلاث عشرة وستمائة.
الجزء السادس
إسحاق بن إبراهيم الموصليكنيته أبو محمد وكان الرشيد إذا أراد أن يولع به، كناه أبا صفوان، وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب والشعر، لو أردنا استيعابه، طال الكتاب وخرجنا عن غرضنا من الاختصار، ومن وقف على الأخبار، وتتبع الآثار، علم موضعه، وأما الغناء فكان أصغر علومه، وأدنى ما يوصف به، وإن كان الغالب عليه، لأنه كان له في سائر علومه نظراء، ولم يكن له فى هذا نظير، لحق فيه من مضى، وسبق من بقى، فهو إمام هذه الصناعة، على أنه كان أكره الناس للغناء والتسمى به، ويقول: وددت أني أضرب، - كلما أراد مني من يندبني أن أغني، وكلما قال قائل: إسحاق الموصلي المغني، - عشر مقارع، ولا أطيق أكثر من هذا، وأعفي من الغناء والنسبة إليه وكان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، وشهر به من الغناء عندهم، لوليته القضاء بحضرتى، فإنه أولى به، وأحق وأعف، وأصدق تدينا وأمانة من هؤلاء القضاة قال: بقيت زمانا من دهرى أغلس إلى هشيم، فأسمع منه الحديث، ثم أصبر إلى الكسائي، فأقرأ عليه جزءا من القرآن، وآتى الفراء، فأقرأ عليه جزءا، ثم آتى منصورا زلزل فيضاربني طريقين أو ثلاثة، ثم آتى عاتكة بنت شهدة، فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتى الأصمعى فأناشده، وآتى أبا عبيدة فأذاكره، ثم أسير إلى أبى فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغذى معه، وإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد وقال الأصمعى: خرجت مع الرشيد، فلقيت إسحاق الموصلى بها، فقلت له: هل حملت شيئا من كتبك؟ فقال: حملت ما خف فقلت: كم مقداره؟ فقال ثمانية عشر صندوقا، فعجبت وقلت: إذا كان هذا ما خف، فكم يكون ما ثقل؟ فقال: أضعاف ذلك وكان الأصمعى يعجب بقول إسحاق:
إذا كان الأحرار أصلى ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا فاعدا غير قائم

وقال جعفر بن قدامة: حدثني علي بن يحيى المنجم قال: سأل إسحاق الموصلى المأمون أن يكون دخوله إليه، مع أهل العلم والأدب، والرواة، لامع المغنين، فإذا أراد الغناء غناه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد ذلك بمدة، أن يكون دخوله مع الفقهاء، فأذن له فى ذلك، فكان يدخل ويده فى يد القضاة، حتى يجلس بين يدى المأمون وقال: ولا كل هذا يا إسحاق، وقد اشتريت منك هذه المسألة، بمائة ألف درهم، وأمر له بها. وحدث المزربانى عن محمد بن عطية الشاعر قال: كنت عند يحيى بن أكثم فى مجلس له، يجتمع إليه فيه أهل العلم، وحضره إسحاق، فجعل يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن واحتج، ثم تكلم فى الشعر واللغة، ففاق من حضر، فأقبل على يحيى ابن أكثم وقال: - أعز الله القاضي - أفي شيء مما ناظرت فيه تقصير؟ قال: لا والله، قال: فما بالي أقوم بسائر العوم قيام أهلها، وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطوى: فالتفت إلى يحيى بن أكثم، وقال: جوابه فى هذا عليك، قال: وكان العطوى من أهل الجدل والكلام، فالتفت إلى إسحاق، وقلت: يا أبا محمد، أخبرنى إذا قيل: من أعلم الناس بالشعر واللغة؟ أيقولون إسحاق، أم الأصمعى وأبو عبيدة؟ فقال: بل الأصمعى وأبو عبيدة، قال فإن قيل من اعلم الناس بالنحو؟ أيقولون إسحاق، أم الخليل وسيبويه؟ قال بل الخليل وسيبويه: قال: فإن قيل: من أعلم الناس بالأنساب؟ أيقولون إسحاق، أم ابن الكلبى؟ قال: بل ابن الكلبى قال: فإن قيل: من أعلم الناس بالكلام؟ أيقولون إسحاق، أم أبو الهذيل والنظام؟ قال: بل أبو الهذيل، والنظام، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالفقه؟ أيقولون إسحاق، أم أبو حنيفة، وأبو يوسف؟ فقال: بل أبو حنيفة وأبو يوسف، قال: فإن قيل: من أعلم الناس بالحديث؟ أيقولون إسحاق، أم على بن المديني، ويحيى بن معين؟ قال: بل على المديني، ويحيى بن معين. قال: فإذا قيل من أعلم الناس بالغناء؟ أيجوز أن يقول قائل: فلان أعلم من إسحاق؟ قال: لا، قلت: فمن ههنا نسبت إلى مانسبت إليه، لأنه لا نظير لك فيه، وأنت فى غيره لك نظراء فضحك وقام وانصرف فقال لى يحيى بن أكثم لقد وفيت الحجة، وفيها ظلم قليل لإسحاق، لأنه ربما ماثل أو زاد على من فضلته عليه، وإنه ليقل فى الزمان نظيره.
وكان إسحاق قد روى الحديث عن جماعة، منهم: أبو معاوية الضرير، وهشيم، وابن عينية، وغيرهم، وكان مع كراهيته للغناء أحذق خلق الله به، ممن تقدم وتأخر، وأشد الناس بخلا به على كل أحد، حتى على جواريه وغلمانه، ومن يأخذ عنه منتسبا إليه، متعصياً له، فضلا عن غيره، وهو الذى صحح أجناس الغناء وطرائقه، وميزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله، ولا تعلق به أحد بعده، ولم يكن قديما مميزا على هذا الجنس.
وكان إبراهيم بن المهدى يأكل المغنين أكلا، حتى يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم، ويطلب مكأفاته ومعارضته، ولا يدع إسحاق يكبته، وكان إسحاق آفته، كما أن لكل شيء آفة، وله معه عدة مشاهد، قال إسحاق: كنت يوما عند الرشيد، وعنده ندماؤه وخاصته، وفيهم إبراهيم بن المهدى، فقال لى الرشيد: يا إسحاق نغن:
شربت مدامة وشقيت أخرى ... وراح المننشون وماانتشب

فغنيته فاقبل على إبراهيم بن المهدى، فقال: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت، فقلت له: ليس هذا مما تحسنه وتعرفه، وإن شئت فنه، فإن لم أجدك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك، فدمى حلال ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين: هذه صناعتي، وصناعة أبي، وهى إلى قربتنا منك، واستخدمتنا إليك، وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعناها أحد بلا علم، لم نجد بدا من الإيضاح والذب، فقال: لا عزو، ولا لوم عليك، وقام الرشيد لببول، فأقبل على إبراهيم وقال: ويلك يا إسحاق، تجترى على وتقول ما قلت يا ابن الزانية، فداخلني ما لم أملك نفسي معه، فقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك، وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقد كنت أقول لك: يا ابن الزانية، كما قلت لي يا ابن الزانية، ولكن قولي في ذمك، ينصرف إلى خالك لأعلم، ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه قال إسحاق: وكان بيطارا، وعلمت أن إبراهيم يشكونى إلى الرشيد، وأن الرشيد سيسأل من حضر عما جرى فيخبره، ثم قلت له: أنت تظن أن الخلافة تصير إليك، فلا تزال تهددني بذلك، وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك، حسدا له ولولده على الأمر، وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخف بأوليائهم تشيعا وأرجو ألا يخرجها الله تعالى عن يد الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها، وإن صارت إليك والعياذ بالله، فحرام على العيش يومئذ، والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ مابدا لك.
فلما خرج الرشيد، وثب إبراهيم فجلس بين يديه، وقال يا أمير المؤمنين: شتمنى وذكر أمي، واستخف بي، فغضب الرشيد وقال: ما تقول ويلك؟ قلت: لا أعلم، سل من حضر، فأقبل على مسرور وحسين الخادم فسألهما عن القصة، فجعلا يخبرانه ووجهه يربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة، فسرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: ما له ذنب، شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك، وأمسك عن هذا، فلما انقضى المجلس وانصرف الناس، أمر ألا أبرح، وخرج كل من حضر، حتى لم يبق غيري، فساء ظني وهمتني نفسي، فأقبل على وقال لي: ويحك يا إسحاق، أتراني لا أعرف وقائعك؟ قد والله زانيته دفعات، ويحك لا تعد، ويحك حدثني عنك لو ضربك أخى إبراهيم، أكنت أقتص لك منه، فأضربه؟ وهو أخي يا جاهل؟ أتراه لو أمر غلمانه أن يقتلونك فقتلوك، أكنت أقتله بك؟ فقلت: قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلني، وما أشك في أنه قد بلغه الآن، فصاح بمسرور الخادم وقال: على بإبراهيم الساعة، وقال لي: قم فانصرف، فقلت لجماعة من الخدم، وكلهم كان لي محبا، وإلى مائلاً، أخبروني يما يجري، فأخبروني من غد: أنه لما دخل عليه وبخه وجهله، وقال له: لم تستخف بخادمي؟ وصنيعتي، ونديمي، وابن خادمي، وصنيعة أبى في مجلسي، وتقدم على وتصنع في مجلسي، وحضرتي، هاه هاه، نقدم على هذا وأمثاله، وأنت مالك والغناء، وما يدريك ماهو؟ ومن أخذ لحنه وطارحك إياه، حتى تظن أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق، الذى غذى به، وهو صناعته، ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك، فلا تثبت لذلك، وتعتصم بشتمه، أليس هذا مما يدل على السقوط، وضعف العقل، وسوء الأدب، من دخولك فيما لا يشبهك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، أليس تعلم ويحك؟ أن هذا سوء رأى وأدب، وقلة معرفة ومبالاة بالخطأ، والتكذيب والرد القبيح، ثم قال له والله العظيم، وحق رسوله الكريم - وإلا فأنا نفى من أبي - لئن أصابه سوء أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من دابته، أو سقط عليه سقف، أو مات فجأة، لأقتلنك به - والله والله والله وأنت أعلم - فلا تعرض له، قم الآن فاخرج، فخرج وقد كاد يموت، فلما كان بعد ذلك، دخلت عليه وإبراهيم عنده، فأعرضت عنه، فجعل الرشيد ينظر إلي مرة، وإلى إبراهيم أخرى، ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه والأخذ عنه وإن هذا لا تقدر عليه كما تريد، إلا أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه، وبره وصله، فإذا فعلت ذلك، ثم خالف ما تهواه، عاقبته بيد منبسطة، ولسان منطلق، ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك، فقبل رأسه، فقمت إليه، وأصلح بيننا وحدث المبرد قال: حدثت عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم يوما على الرشيد، فرأيته لقس النفس، فأنشده
وآمره بالبخل قلت لها اقصرى ... فذلك شيء ما إليه سبيل

أرى الناس خلان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل
وإنى رأيت البخل يزرى بأهله ... فأكرمت نفسى أن يقال بخيل
ومن خير أخلاق الفتى قد علمته ... إذا نال يوما أن يكون ينيل
فعالى: فعال الموسرين تكرما ... ومالى: كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل
قال: فقال الرشيد لأكيفيك إن شاء الله: ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها، ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها!!! وأمر له بخمسين ألف درهم، فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعرى، أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة، فضحك الرشيد وقال: أجعلوها لهذا القول مائة الف درهم. قال الأصمعى: فعلمت يومئذ أن إسحاق، أحذق بصيد الدراهم مني. وحدث إسحاق قال: قال لي الرشيد يوما: بأي شيء يتحدث الناس؟ قلت: يتحدثون أنك نقبض على البرامكة، وتولى الفضل بن الربيع الوزارة، فغضب وصاح، وقال: وما أنت وذاك؟ فأمسكت، فلما كان بعد أيام دعا بنا، فكان أول شيء غنيته:
إذا نحن صدقناك ... فضر عندك الصدق
طلبنا النفع بالباطل ... إذ لم ينفع الحق
فلو قدم صبا في ... هواه الصبر والرفق
لقدمت على الناس ... ولكن الهوى رزق
والشعر لأبى العتاهية. قال: فضحك الرشيد، وقال لى يا إسحاق: قد صرت حقوداً وحدثت شهوات جارية إسحاق، التى كان أهداها الواثق: أن محمدا الأمين، لما غنى إسحاق لحنه، الذى صنعه فى شعره:
يأيها القائم الأمير فدت ... نفسك نفسي بالأهل والولد
بسطت للناس إذا وليتهم ... يدا من الجود فوق كل يد
أمر له بألف ألف درهم، فرأيتها قد أدخلت إلى دارنا، يحملها مائة فراش وحدث إسحاق قال: أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا، لم يسمع حرفا من الأغاني، ثم كان أول من تغنى بحضرته، أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع، متسترا متشبهاً في أول أمره بالرشيد، فأقام على ذلك أربع حجج ثم ظهر للندماء والمغنين، وكان حين أحب السماع سأل عني، فخرجت بحضرته، وقال الطاعن على: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة؟ فقال: ما بقى هذا شيئا من التيه إلا استعمله، فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلنى، لسوء رأيه الذى ظهر في، فأضر ذلك بى، حتى جاءني علوية يوما فقال لي: أتاذن لى في ذكرك، فإنا قد دعينا اليوم فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك، لمن هذا، فإذا سألك، انفتح لك ما تريد، فكان الجواب، أسهل عليك من الابتداء، وألقيت عليه لحنى فى شعرى:
يا مشرع الماء قد سدت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود؟
لحائم حام حتى لا سبيل له ... محلا عن طريق الماء مطرود
قال: فلما استقر بعلوية المجلس، غناه الشعر الذى أمرنه، فما عدا المأمون أن سمع الغناء، حتى قال: ويحك يا علوية، لمن هذا الشعر؟ قلت: ياسيدى لعبدك الذى جفوله، وأطرحته لغير جرم. فقال: لإسحاق تعنى؟ قلت: نعم. فقال: يحضرنى الساعة، فجاءنى رسوله، فصرت إليه، فلما دخلت عليه، قال: ادن، فدنوت منه، فرفع يديه مددهما إلى، فأكببت عليه فاحتضنى بيديه، وأشار من يرى وإكرامى، ما لو أظهر صديق مؤانس بصديق لسره وقال إسحاق. غنيت المأمون يوما.
لأحسن من قرع المثانى ورجعها ... تواتر صوت الثغر يقرع بالثغر
وسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي ... من الشرب بالكلمات من عانق الخمر
فقال لى المأمون: ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن؟ الفراغ، والشباب، والجدة.

وحدث إسحاق قال: ذكر المعتصم وأنا بحضرته يوما بعض أصحابه، وقد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع فى هذا الوقت. فقال قوم: كذا، وقال آخرون: كذا، فبلغت الرنة إلى، فقال: قل يا إسحاق قلت: إذا أقول فأصيب. قال: أتعلم الغيب؟ قلت: ولكننى اقسم ما يصنع، وأندر على معرفته. قال: فإن لم تصب، قلت: وأن أصبت، قال: لك حكمك، وإن لم تصب، قلت لك دمى، قال: وجب، قلت: وجب، قال: فقل، قلت يتنفس، قال. وإن كان ميتا، قلت: تحفظ الساعة التى تكلمت فيها، فإن كان مات قبلها أو فيها، فقد قمرتنى، قال: قد أنصفت، قلت: فالحكم، قال: فاحتكم ما شئت، قلت: ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين. قال: فإن رضاي لك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، أترى مزيدا؟ فقلت: ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك، قال: فإنها مائتا ألف، أترى مزيدا؟ فقلت ما أحوجنى إلى ذاك، قال فإنها ثلاثمائة ألف، أترى مزيدا؟ قلت، ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك، فقال: يا صفيق الوجه ما نزيد على هذا وحدث إسحاق قال: كنت جالسا بين يدى الواثق وهو ولى عهد، إذ خرجت وصيفة من القصر، كأنها خوط بان، أحسن من رأته عينى، يقدمها عدة وصائف بأيديهن المذاب والمناديل، ونحو ذلك، فنظرت إليها نظر دهش وهي ترمقني، فلما تبين إلحاح نظري إليها، قال لي: مالك يا أبا محمد، قد انقطع كلامك، وباتت الحيرة فيك؟ فلجلجت، فقال: رمتك والله هذه الوصيفة، فأصابت قلبك، فقلت: غير ملوم، فضحك وقال: أنشدني شيئا فى هذا المعنى، فأنشدني قول المرار:
ألكني إليها: عمرك الله يافتى ... بآية ما قالت: متى أنت رائح
وآية ما قالت: لهن عشية ... وفى الستر: حرات الوجوه ملائح
تخيرن أرماكن فارمين رمية ... أخا أسد إذ طوحته الطوائح
فأرسلت مسلاس الوشاح كأنها ... مهاة لها طفل برمان راشح
فقال الواثق: أحسنت وحياتي وظرفت، فاصنع فيه لحناً، فإن جاء كما أريد، فالوصيفة لك، فصنعت فيه لحنا وغنيته إياه، فانصرفت بالجارية. وحدث إسحاق قال: غنيت الواثق فى شعر قلته عنده بسر من رأى، وقد طال مقامى، واشتقت إلى أهلى، وهو:
يا حبذا ريح الجنوب إذا بدت ... فى الصبح وهى ضعيفة الأنفاس
قدحملت برد الندى وتحملت ... عبقا من الجنجاث والبسباس
فاستحسنه وقال: يا إسحاق، لو جعلت مكان الجنوب شمالا، ألم يكن أرق وأخاف، وأصح للأجساد، وأقل وخامة، وأطيب للأنفس فقلت: ما ذهب على ما قاله أمير المؤمنين، ولكن التفسير فيما بعد، وهو:
ماذا يهيج للصبابة والهوى ... للصب بعد ذهوله والياس
فقال الواثق: فإنما استطبت ما يجئ به الجنوب، لنسيم بغداد، لا للجنوب وإليهم اشتقت لا إليها، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، وقمت فقبلت يده، فضحك وقال: قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام، فامض راشداً، فأمر لى بمائة ألف درهمٍ.
وحدث إسحاق قال: ما وصلنى أحد من الخلفاء، بمثل ما وصلني به الواثق، ولا كان أحد يكرمني إكرامه، ولقد غنيته:
لعلك إن طالت حياتك أن ترى ... بلادا بها مبدى لليلى ومحضر
فاستعاده منى جمعة لا يشرب على غيره، ثم وصلنى بثلاثمائة ألف درهم، ولقد استقدمني إليه، فلما قدمت عليه، قال لى: ويحك يا إسحاق، أما اشتقت إلى؟ فقلت: بلى والله يا سيدى، وقد قلت فى ذلك أبياتا، إن أمرتني أنشدتك إياها، قال: هات، فأنشدته:
أشكو إلى الله بعدى عن خليفته ... وما أعالج من سقم ومن كبر
لا أستتطيع رحيلا إن هممت به ... يوما إليه ولا أقوى على السفر
أنوى الرحيل إليه ثم يمنعنى ... ما أحدث الدهر والأيام فى بصرى
وإنما قال: ما أحدث الدهر والأيام فى بصرى، لأن إسحاق لما كبر ضعف بصره، ثم أضر واستأذنته فى إنشاد قصيدة مدحته بها، فأذن لي فأنشدته:
لما أمرت بإشخاصي إليك هفا ... قلبى حنينا إلى أهلي وأولادى
ثم اعتزمت ولم أحفل ببينهم ... وطابت النفس عن فضل وحماد
فلو شكرت ياديكم وأنعمكم ... لما أحاط بها وصفى وتعدادى

فقال أحمد بن إبراهيم: لعلي بن يحيى، وقد أخبر بهذا الخبر، أخبرني: لو قال الخليفة أحضرني فضلا وحمادا، أليس كان إسحاق يفتضح من دمامة خلقتهما، وتجلف شاهدهما.
قال إسحاق: وانحدرت منه إلى النجف، فقلت له يا أمير المؤمنين: قد قلت فى النجف قصيدة قال هاتها: فأنشدته:
يا ركب العيسى لا تعجل بنا وقف ... نحي داراً ليسعدى ثم ننصرف
حتى انتهيت فيها إلى قولي
لم ينزل الناس فى سهل ولا جبل ... أصفى هواء ولا أغذى من النجف
حفت ببر وبحر فى جوانبها ... فالبر فى طرف و البحر فى طرف
ما يزال نسيم من يمانية ... يأتيك منها بريا روضة أنف
ثم مدحته فقلت:
لا يحسب الجود يفي ماله أبداً ... و لا يرى بال ما يحوى من السرف
ومضيت فيها حتى أتممتها، فطرب وقال: أحسنت و الله يا أبا محمد، وكناني يومئذ، وأمر لى بمائة ألف درهم، وانحدرت معه إلى الصالحية، التى يقول فيها أبو نواس:
فالصالحية من أطراف كلواذى ... فذكرت الصبيان و بغداد، فقلت:
أتبكى على بغداد وهى قريبة ... فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لو أنا وجدنا من فراق لها بدا
إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت ... من الشوق أو كادت تهيم بها وجدا
كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها ... وداعاً ولم أحدث بساحتها عهدا
فقال لى الموصلى: اشتقت إلي بغداد؟ فقلت: لا و الله يا أمير المؤمنين، ولكن من أجل الصبيان، وقد حضرني بيتان فأنشدته:
حننت إلى أصيبية صغار ... وشاقك منهم فرب المزار
وأبراج ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
فقال لى إسحاق: سر إلى بغداد، فأقم مع عيالك شهراً، ثم صر إلينا، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم. وحدث حماد بن إسحاق عن إسحاق قال: دخلت يوماً دارا الواثق بالله بغير إذن، إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالساً، فسمعت صوت عود من بيت وترنماً، لم أسمع أحسن منه قط، فأطلع خادم رأسه وصاح، فدخلت، وإذا الواثق، فقال لى أى شئ سمعت؟ فقلت: الطلاق كاملاً لازم لى، وكل مملوك لى حر، لقد سمعت ما لم أسمع مثله قط حسناً، فضحك وقال: ما هو الأفضل؟ أدب وعلم مدحه الأوائل، واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و التابعون بعدهم، وكثر فى حرم الله عز وجل،، ومهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم، أتحب أن تسمعه؟ قلت: أى: و الذى شرفني بخطاب أمير المؤمنين، وجميل رأيه، وقال يا غلام: هات العود، وأعط إسحاق رطلاً، فدفع الرطل إلى، وضرب و غنى فى شعر لأبي العتاهية، بلحن صنعه فيه:
أضحت قبورهم من بعد عزتهم ... تسعى عليها الصبا و الحرجف الشمل
لا يدفعون هواماً عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل
فشربت الرطل، ثم قمت ودعوت له، فأجلسنى و قال: أتشتهى أن تسمع ثانية؟ قلت: إى و الله، فغنانيه ثانية، وثالثة، وصاح ببعض خدمه، و قال: احمل إلى إسحاق الساعة، ثلاثمائة ألف درهم ثم قال يا إسحاق قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة ارطال واخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسروراً، وليسروا معك، فانصرفت بالمال. وحدث إسحاق بن إبراهيم قال: جاءني الزبير بن دحمان يوماً مسلماً، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إن الفضل بن الربيع أمرني أن أبكر إليه لنصطبح، فقلت له: أنت تعرف أن صبوح الفضل غبوق غيره، فأقم عندى نشرب، قلت له:
أقم يا أبا العوام ويحك نشرب ... ونله مع اللاهين يوماً ونطرب
إذا ما رأيت اليوم قد بان خيره ... فخذه بشكر واترك الفضل يغضب
قال: فأقام عندى وسررنا يوماً، ثم صار إلى الفضل، فسأله عن سبب تأخره عنه، فحدثه الحديث، وأنشده الشعر، فعتب علي، وحول وجه عني، وأمر عوناُ حاجبه ألا يدخلني، ولايستأذن لي عليه، ولا يوصل لي رقعة إليه، فقلت: وكتبت بها إلى الفضل:
يقول أناس شامتون و قد رأوا ... مقامي وإغبابي الرواح إلى الفضل
لقد كان هذا خص بالفضل مرة ... فأصبح منه اليوم منصرم الحبل

ولو كان لي فى ذاك ذنب علمته ... لقطعت نفسى بالملامة والعذل
و توصلت حتى عرضت الأبيات عليه، فلما قرأها قال: أعجب من ذنبه وأشد، أنه لايرى من نفسه ذنباً بذلك الفعل، فقلت فى نفسى: لاأرى أمره يصلحه إلا حاجبه عون، فقلت لعون:
عون يا عون ليس مثلك عون ... أنت لي إذا كان كون
لك عندى والله رضى الفضل ... غلام يرضيك أو برذون
فقال: اكتب رقعة وقل شعراً لأعرضه لك عليه، فقلت:
حرام على الراح مادمت غضباتاً ... وما لم يعد عنى رضاك كما كانا
فأحسن فإنى قد أسأت ولم تزل ... تعودنى عند الإساءة إحسانا
قال: فأنى الفضل بالشعرين جميعاً، فقرأهما وضحك، وقال: ويحك، وإنما عرض بقوله: غلام يرضيك بالسوءة، فقال: قد وعدنى بما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم، فأمره أن يرسل إلي، فأتاني رسوله، فصرت إليه، فرضي عني، ووفيت لعون، وحدث إسحاق قال: عتب على جعفر بن يحيى و قال: إنى لا أراك ولا تغشانى، فقلت: إنى أتيتك كثيراً، فيحجبنى خادمك نافذ، فقال: إذا حجبك عني فنكه، فكتبت إليه بعد أيام:
جعلت فداءك من كل سوء ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بينى وبين السلام ... فلست أسلم إلا اختلاسا
وأنفذت أمرك فى نافذ ... فما زاده ذاك إلا شماسا
قال: فأحضرنى ودعا نافذاً، وقرأ الأبيات عليه، وقال له: فعلتها ياعدو الله، فغضب نافذ حتى كاد يبكى، وجعفر يضحك ويصفق، ثم لم يعد بعدها إلى التعرض. وحدث على بن الصباح قال: كانت امرأة من بنى كلاب يقال لها زهراء، تحدث إسحاق وتناشده، وكانت تميل إليه. وتكنى عنه فى شعرها، إذا ذكرته بجمل قال: فحدثنى إسحاق أنها كتبت إليه، وقد غابت عنه:
وجدى بجمل على أنى أجمجمه ... وجد السقيم ببرء بعد إدناف
أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها ... أو وجد مغترب من بين ألاف
قال فأجبتها:
إقر السلام على زهراء إذ ظعنت ... وقل لها قد أذقت القلب ما خافا
أما رثيت لمن خلفت مكتئباً ... يذري مدامعه سحاً وتو كافا
فما وجدت على إلف فجمعت به ... وجدى عليك وقد فارقت ألافا
وحدث محمد بن عبد الله الخزاعى قال: أنشدنى إسحاق لنفسه:
سقى الله يوم الماوشان ومجلساً ... به كان أحلى عندنا من جنى النحل
غداة اجتنينا اللهو غضا ولم نبل ... حجاب أبى نصر ولا غضب الفضل
غدونا صحاحاً ثم رحنا كأننا ... أطاف بنا شر شديد من الخبل
فسألته أن يكتبنيها فغفل، فقلت: ما حديث يوم الماوشان؟ فقال: لو لم أكتبك الأبيات، ما سألت عما لا يعينك، ولم يخبرنى. قال: وكان ابن الأعرابى يصف إسحاق ويقرظه، ويثني عليه، ويذكر أدبه وحفظه، وعلمه وصدقه، ويستحسن قوله:
هل إلى أن تنام عينى سبيل ... إن عهدى بالنوم عهد طويل
غاب عني من لا أسمى فعيني ... كل يوم وجداً عليه تسيل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن تحب القليل
وكان إسحاق إذا غنى هذه الأبيات، تفيض عيناه ويبكى أحر بكاء، فسئل عن بكائه، فقال: تعشقت جارية فقلت لها هذه الأبيات، ثم ملكتها، وكنت مشغوفاً بها، حتى كبرت و اعتلت عيى، فإذا غنيت هذا الصوت، ذكرت أيامه المتقدمه، وأنا أبكى على دهرى الذى كنت فيه. قال إسحاق وأنشدنى بعض الأعراب لنفسه:
إلا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت
تغنت بصوت أعجمى فهيجت ... من الوجد ما كانت ضلوعى أجنت
فلو قطرت عين امرئ من صبابة ... دماً قطرت عينى دماً وأبلت
فما سكتت حتى أويت لصوتها ... وقلت أرى هذه الحمامة جنت
ولي زفرات لويد من قتلني ... بشوق إلى هاتي التي قد تولت
إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضت ... فمن لى بأخرى فى غد قد أظلت
فيا منشر الموتى أعنى على التى ... بها نهلت نفسى سقاماً وعلت

لقد بخلت حتى لو انى سألتها ... قذى العين من سافى التراب لضنت
فقلت ارحلا يا صاحبي فيلتني ... أرى كل نفس أعطيت ما تمنت !
حلفت لها بالله ما أم واحد ... إذا ذكرته آخر الليل أنت
ولا وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت
إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه ... وبرد حصاه آخر الليل حنت
بأكثر منى لوعة غير أنني ... أطامن أحشائي على ما أجنت
قال: وحدث حماد بن إسحاق، لما خرج أبى إلى البصرة وعاد، أنشدني لنفسه:
ما كنت أعرف ما فى البين من حزن ... حتى تنادوا بأن قد جئ بالسفن
لما افترقنا على كره لفرقتنا ... أيقنت أنى قتيل الهم و الحزن
قامت تودعني و الدموع يغلبها ... فجمجمت بعض ما قالت ولم تبن
مالت على تفدنيي وترشفني ... كما يميل نسيم الريح بالغصن
وأعرضت ثم قالت وهى باكبة ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن
وحدث إسحاق قال: دخلت على الأصمعى، فأنشدنه أبياتاً قلتها ونسبتها إلى بعض الأعراب، وهى: " هل أن تنام عينى سبيل " الأبيات، وهى متقدمة. قال فجعل يعجب بها ويرددها، فقلت له إنها بنات ليلتها. فقال: لاجرم، إن أثر التوليد فيها بين. فقلت: ولاجرم أن أثر الحسد فيك ظاهر وكان إسحاق يقوم على ابن الأعرابى ويبره، فكان ابن الأعرابى يقول: إسحاق والله أحق بقول أبى تمام:
يرمى بأشباحنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه
ممن قد قيل فيه وحدث إسحاق قال: بعث إلى طلحة بن طاهر، وقد انصرف من وقعة الشراة، وقد أصابته ضربة فى وجهه، فقال: غنى، فغنيته فى شعر بعض الأعراب:
إنى لأكنى بأجبال عن اجبلها ... وباسم أودية عن إسم واديها
عمدا ليحسبها الواشون غانية ... أخرى، وتحسب أنى لست أعنيها
ولايغير ودى أن أهاجرها ... ولا فراق نوى فى الدار أنوبها
وللقلوص ولى منها إذا بعدت ... بوارح الشوق تنضينى وأنضيها
فقال: أحسنت والله، أعده، فأعدت عليه وهو يشرب، حتة صلى العتمة وأنا أغنيه إياه، فأقبل على خادم له فقال له: كم عندك؟ فقال: مقدار سبعين الف درهم، فقال: تحمل معه، فلما خرجت من عنده، تبعنى جماعة من الغلمان يسألوننى، فوزعت المال بينهم، فرفع الخبر إليه فأغضبه، ولم يوجه إلى ثلاثاً، فكتبت إليه:
علمنى جودك السماح فما ... أبقيت شيئا لدى من صلتك
لم أبق شيئا مما سمحت به ... كأن لى قدرة كمقدرتك
تتلف فى اليوم بالهبات وفي السا ... عة ماتجتبيه فى سنتك
فلست أدرى من أين تنفق لو ... لا أن ربى يجزي علي هبتك
فلما كان فى اليوم الرابع، بعث إلى فصرت إليه، فدخلت فسلمت، ورفع بصره إلى، ثم قال: اسقوه رطلا فسقيته، فأمر لى بآخر، وآخر، فشربت ثلاثة، ثم قال: غننى " إنى لأكنى بأجبال عن أجبلها " فغنيته إياه، ثم أتبعته الأبيات التى قلتها. فقال لى: أذن فدنوت، فقال لى: أعد الصوت، فأعدته، فلما فهمه وعرف المعنى، قال الخادم له: أحضرني فلانا فأحضره، فقال له: كم قبلك من مال الضياع؟ قال: ثمانمائة ألف درهم، فقال: أحضرها الساعة، فجئ بثمانين بدرة فقال: جئنى بثمانين مملوما، فأحضروا، فقال: احملوا المال، ثم قال: يأبا محمد، خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج إلى أحد تعطيه شيئا.
حدث على بن يحيى المنجم: أن إسحاق لما انحدر إلى البصرة، كتب إلى على بن هشام القائد، - جعلت فداك - بعث إلى أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي، يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه، لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فلما لنا ولك يا أبا عبد الله، تدعنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها، ورجونا السلامة من شرها، أفسدت قلوبنا وعلقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا فأما ذكرته من شوقك إلى، فلولا أنك حلفت عليه، لقلت:
يا من شكا عبثا إاينا شوقه ... شكوى المحب وليس بالمشتاق

لو كنت مشتاقا إلى تريدنى ... ماطبت نفسا ساعة بفراقي
وحفظني حفظ الخليل خليله ... ووفيت لى بالعهد والميثاق
هيهات قد حدثت أمور بعدنا ... وشغلت باللذات عن إسحاق
قد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب فى الشعر وغيره، وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأستقبل الشمال، وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وإن كنت تكرهها، تركتها إن شاء الله:
ألا قد أرى أن الثواء قليل ... وأن ليس يبقى للخليل خليل
وأنى وإن مليت فى العيش حقبة ... كذى سفر قد حان منه رحيل
فهل لى إلى أن تنظر العين مرة ... إلى ابن هشام فى الحياة سبيل؟
فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة ... وفى النفس منه حاجة وغليل
وأما بعد، فإنى أعلم أنك وإن لم تسأل عن حالي، تحب أن تعلمها، وأن تأتيك عني سلامة، فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن، مريض القلب، وبعد فأنا - جعلت فداك - فى صنعة كتاب ظريف مليح، فيه تسمية القوم، ونسبهم وبلادهم، وأسبابهم وأزمنتهم، وما اختلفوا فيه من غنائهم، وبعض أحاديثهم، وأحاديث قيان الحجاز والكوفة، وقد بعثت إليك بنموذج، فإن كان كما قال القائل: قبح الله كل دن أوله دردي لم نتجشم إتمامه، وإن كان كما قال العربى: إن الجواد عينه فرارة، أعلمتنا، فأتمناه مسرورين بحسن رأيك فيه.
وكان إسحاق يألف علياً وأحمد بني هشام، وسائر أهلهم إلفاً شديداً، ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة فى أمر لم يقع إلينا، فهجاهم هجاء كثيراً.
فحدث أبو أيوب المديني عن مصعب الزبيري قال: قال لي أحمد بن هشام: أما تستحي أنت وصباح بن خافان المنقري، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة، والعلم والأدب، أن يذكركما إسحاق فى شعره، فيقول:
قد نهانا مصعب وصباح ... فعصينا مصعبا وصباحا
عذلا ما عذلا ثم ملا ... فاسترحنا منهما واستراحا
فقلت له: إن كان قد فعل، فما قال إلا خيراً، إنما ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها، أو امرأة عشقها، وقد أشاد باسمك فى الشعر بأشد من هذا. قال بماذا؟ قلت: بقوله.
وصافية تعشى العيون رقيقة ... رهينة عام فى الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهنا ... من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العى نحكى أحمد بن هشام
قال: أوقد فعل العاض بظر أمه؟ قلت: إى والله قد فعل.
ومن شعر إسحاق عند علو سنه:
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغوانى والمدامة والشرب
سلام امرئ لم يبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
لعمرى لئن حلئت عن منهل الصبا ... لقد كنت ورادا لمشرعه العذب
ليالى أغدو بين بردى لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
وحدث أبو بكر الصولى، عن إبراهيم الشاهينى قال: كان إسحاق يسألى الله ألا يبتليه بالقولنج، لما رأى من صعوبته على أبيه، فأرى فى منامه، كأن قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك، ولست تموت بالقولنج، ولكن تموت بضده، فأصابه ذرب فمات منه فى شهر رمضان، سنة خمس وثلاثين ومائتين، فى خلافة المتوكل على الله، فبلغ المتوكل نعيه، نعمه وحزن عليه. وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك، وبهائه وزينته، ثم نعى إليه بعده، أحمد بن عيسى، بن زيد، بن علي، بن الحسين، ابن علي الخارج عليه. فقال: تكافأت الحالان. ثم قال: قام الفرح بوفاة أحمد، - وما كنت آمن وثبته علي - ، مقام الفجيعة بإسحاق، والحمد لله على ذلك.
ورثاه أو داؤه وأصدقاؤه بأشعار كثيرة، منها قول إدريس بن أبى حفصة:
سقى الله يا ابن الموصلي بوابل ... من الغيث فبرا أنت فيه مقيم
ذهبت فأوحشت الكرام فما بنى ... بعبرته يبكى عليك كريم
إلى الله أشكو فقد إسحاق إننى ... وإن كنت شيخا بالعراق يتيم
وقال مصعب بن الزبير يرثى إسحاق:
أتدرى لمن تبكى العيون الذوارف ... وينهل منها مسبل ثم واكف
لفقد امرئ لم يبق فى الناس مثله ... مفيد لعلم أو صديق يلاطف

تجهز إسحاق إلى الله رائحا ... فلله ما ضمت عليه اللفائف
وما حمل النعش الولى عشية ... من الناس إلا دامع العين كالف
فلقيت فى يمنى يديك صحيفة ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
تسرك يوم البعث عند قراتها ... ويفتر ضحكا كل من هو واقف
وحدث الصول قال: كان لإسحاق من الولد: حميد، وحماد، وأحمد، وحامد، وإبراهيم، وفضل، ولم يكن فى ولد إبراهيم من يغنى إلا إسحاق، وطياب أخوه، ومات إسحاق، وله من التصانيف التى تولى هو بنفسه تصنيفها: كتاب أغانيه التى غنى فيها، كتاب أخبار عزة الميلاء، كتاب أغانى معبد، كتاب أخبار حماد عجرد، كتاب أخبار حنين الحيرى، كتاب أخبار ذى الرمة، كتاب أخبار طويس، كتاب أخبار المغنين المكيين، كتاب أخبار سعيد بن مسجح، كتاب أخبار دلال، كتاب أخبار محمد بن عائشة، كتاب أخبار الأبجر، كتاب أخبار ابن صاحب الوضوء، كتاب الاختيار من الأغانى للواثق، كتاب اللحظ والاشارات، كتاب الشراب، يروى فيه عن العباس بن معن، وابن الجصاص، وحماد بن ميسرة، كتاب جواهر الكلام، وكتاب الرقص والزفن، كتاب النغم والإيقاع، كتاب أخبار الهذليين، كتاب الرسالة إلى على بن هشام، كتاب قيان الحجاز، كتاب القيان، كتاب النوادر المتخيرة، كتاب الأخبار والنوادر، كتاب أخبار حسان، كتاب أخبار الأحوص، كتاب أخبار جميل، كتاب أخبار كثير، كتاب أخبار نصيب، كتاب أخبار عقيل بن علفة، كتاب أخبار ابن هرمة وأما كتاب الأغانى الكبير، فقال محمد بن إسحاق النديم: قرأت بخط أبى الحسن على بن محمد، بن عبيد، ابن الزبير الكوفى الأسدى، حدثنى فضل بن محمد اليزيدى قال: كنت عند إسحاق بن إبراهيم الموصلى، فجاءه رجل فقال له يا أبا محمد: أعطنى كتاب الأغانى، فقال: أيما كتاب؟ الكتاب الذى صنفته، أو الكتاب الذى صنف لي، يعني بالذى صنفه كتاب أخبار المعنيين واحدا واحدا، ويعنى بالذى صنف له، كتاب الأغانى الكبير، الذى بأيدى الناس. قال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني أبو بكر محمد بن خلف وكيع قال: سمعت حماد بن إسحاق يقول: ما ألف أبى هذا الكتاب قط، يعنى كتاب الأغانى الكبير، ولا رآه، والدليل على ذلك، أن أكثر أشعاره المنسوبة، إنما جمعت لما ذكر معها من الأخبار، وما غنى فيها إلى وقتنا هذا، وأن أكثر نسبة المغنين خطأ، والذى ألفه أبى من دواوين غنائهم، يدل على بطلان هذا الكتاب، وإنما وضعه وراق كان لأبى بعد وفاته، سوى الرخصة التى هى أول الكتاب، فإن أبى ألفها، إلا أن أخباره كلها من روايتنا. وقال لى أبو الفرج: هذا سمعته من أبى بكر وكيع، واللفظ يزيد وينقص.
قال: وأخبرنى جحظة أنه يعرف الوراق الذى وضعه، وكان يسمى سندى بن على، وحانوته فى طاق الزبل، وكان يورق لإسحاق، فاتفق هو وشريك له على وضعه، وهذا الكتاب يعرف فى القديم بكتاب السراة، وهو أحد عشر جزءا، ولكل جزء أول يعرف به، فالجزء الأول من الكتاب: الرخصة، هو من تأليف إسحاق، لاشك فيه ولاخلف.
قرأت فى كتاب ألف فى أخبار أبى زيد البلخي، أن أبا زيد قال: وذكر كتاب الأغاني لإسحاق، فقال: ما رأيت أعجب من الموصلى، جمع علم العرب والعجم فى كتاب، ثم أنشده بالاسم قال: وكان إسحاق أديبا فاضلا، متقدما فى كل شئ، بلغنى أنه دخل على إسحاق ابن إبراهيم، بن مصعب، يعزيه بعبد الله بن طاهر، فقال:
لم تصب أيها الأمير بعبد ... الله لكن به أصيب الأنام
فسيكفيكم البكاء عليه ... أعين المسلمين والإسلام
إسحاق بن إبراهيم البربري المحرر " ووالده إبراهيم " ويعرف بالنديم، كذا قال عبد الرحمن بن عيسى الوزير. قال محمد بن إسحاق بن النديم: هو إسحاق بن إبراهيم، بن عبد الله، بن الصباح، بن بشر، بن سويد، بن الأسود، التميمي ثم السعدى، وكان إبراهيم أبوه أحول، وكان محررا أيضا. وكان ول من تكلم على رسوم الخط وقوانينه، وجعله أنواعا رجل يعرف بالأحول المحرر، لا أدرى: هل هو إبراهيم أو غيره؟ وكان من صنائع البرامكة، وكان يحرر الكتب النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف فى الطوامير، وكان فى نهاية الحرفة والوسخ، ومع ذلك كان سمحا لا يليق على شئ، فلما رتب الأقلام، جعل أول الأقلام الثقال.

فمنها قلم الطومار وهو أجلها، يكتب فى طومارتام بسعفة، وربما كتب بقلم، وكانت تنفذ الكتب إلى الملوك به، ومن الأقلام: قلم الثلثين، قلم السجلات، قلم العهود، قلم المؤامرات، قلم الأمانات، قلم الديباج، قلم المدمج، قلم المرصع، قلم التشاجي. فلما أنشأ ذو الرياستين الفضل بن سهل، اخترع قلما وهو أحسن الأقلام، ويعرف بالرئاسي، ويتفرع إلى عدة أقلام، فمن ذلك: قلم الرئاسي الكبير، قلم النصف من الرئاسي، قلم الثلث، قلم صغير النصف، قلم خفيف الثلث، قلم المحقق، قلم المنثور، قلم الوشي، قلم الرقاع، قلم المكاتبات، قلم غبار الحلبة، قلم النرجس، قلم البياض.
فأما إسحاق هذا، فإنه كان يعلم المقتدر وأولاده، وهو أستاذ ابن مقلة. ولأبى على إليه رسالة ذكرتها فى أخبار أبى على. ويكنى بأبى الحسين، لم ير فى زمانه أحسن خطا منه، ولا أعرف بالكتابة.
ولإسحاق كتاب القلم، كتاب تحفة الوامق، رسالة فى الخط والكتابة، وأخوه أبو الحسن نظيره، ويسلك طريقته، وابنه أبو القاسم، إسماعيل، بن إبراهيم، وابنه أبو محمد القاسم بن إسماعيل، بن إسحاق، ومن ولده أيضا أبو العباس عبد الله بن إسحاق، وهؤلاء القوم فى نهاية حسن الخط، والمعرفة بالكتابة.
إسحاق بن إبراهيم الفارابيخال إسماعيل بن حماد الجوهرى، صاحب كتاب الصحاح فى اللغة، وأبو إبراهيم هذا، هو صاحب كتاب ديوان الأدب، المشهور اسمه، الذائع ذكره كتب إلينا القاضى الأشرف يوسف بن إبراهيم، بن عبد الواحد الشيبانى القفطى من بلاد اليمن، وكان قد سافر إلى هناك وأقام، قال: مما أخبركم به، أن أبا إبراهيم إسحاق الفارابى مصنف كتاب ديوان الأدب، ممن ترامى به الاغتراب، وطوح به الزمان المنتاب إلى أرض اليمن، وسكن زبيد، وبها صنف كتابة ديوان الأدب، ومات قبل أن يروى عنه، وكان أهل زبيد، قد عزموا على قراءته عليه، فحالت المنية دون ذلك. قال: وكانت وفاته فيما يقارب سنة خمسين وأربعمائة، والله أعلم. ووضع كتابه على ستة كتب: الأول السالم، الثانى المضاعف، الثالث المثال، وهو ما كان فى أوله واو أو ياء، والرابع ذوات الثلاثة، وهو ما كان فى وسطه حرف من حروف العلة، والخامس كتاب ذوات الأربعة، وهو ما كان آخره حرف علة، والسادس كتاب الهمزة، وكل كتاب من هذه الستة أسماء وأفعال، يورد الأسماء اولا ثم الأفعال بعده. وله كتاب بيان الإعراب، كتاب شرح أدب الكاتب، كتاب ديوان الأدب. قرأت بخط الشيخ أبي نصر، إسماعيل بن حماد الجوهري، الفارابي النسوي النيسابوري قال: قرأته على إبراهيم - رحمه الله - بفاراب، ثم على أبي السري محمد بن إبراهيم الأصبهاني بأصبهان، ثم عرضته على القاضي أبى سعيد السيرافي ببغداد. قال الحاكم: وكنت قرأت بعضه إلى موضع البلاغ، وهو آخر الأسماء على أبي يعقوب يوسف بن محمد، بن إبراهيم الفرعاني الزبرقاني قال: قرأته على أبي علي، الحسن بن علي، بن سعد الزاميني، وقرأه أبو علي على أبي إبراهيم. قال الحاكم: قول الجوهرى عرضته على القاضي أبى سعد السيرافي يريد أنه، فأنكره من كلمات علم عليها بخط الجوهري، وفى آخر الثلث الأخير من نسخة الحاكم: قرأ على أبو سعد عبد الرحمن بن محمد، بن محمد، بن عزيز، هذا الكتاب من أوله إلى أخره، وصححته له، وكتبه إسماعيل بن حماد الجوهري، وعلى النسخة أيضا فى موضع آخر سمعه مني، ولدي علي والحسن، من أوله إلى أخره بقراءتي إياه، إلا أوراقا قرأها الحسن بنفسه علي، وصح سماعهما، والله تعالى يبارك لهما فيه، ويوفقهما الأعمال.
وكتب أبوهما يعقوب بن أحمد، غرة المحرم سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ثم قرأه على ولدي الحسن، قراءة بحث واستقصاء، من أوله إلى آخره، بما على حواشيه من الفوائد، وشرح الأبيات فى شهور، سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وعلى النسخة أيضا قبل ذلك ما صورته: سمعه مني بلفظي، وصححه عرضاً بنسختي، صاحبه أبو يوسف، يعقوب بن أحمد، وفرغ منه فى ذى العقدة، سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
وكتب عبد الرحمن بن محمد بن دوست بخطه، قال مؤلف الكتاب: فهذا مه وضوحه، وكون هؤلاء المذكورين مشهورين، معروفين، ومعرفتى بالخطوط الموجودة على النسخة، كمعرفتى بما لا أشك فيه، يبطل ما كتب إلينا القاضي القفطي، من كون هذا الكتاب صنف بزبيد، وأنه لم يسمع على مصنفه.
إسحاق بن أحمد، بن شبيب

بن نصر، بن شبيب ابن الحكم، بن أقلذ، بن عقبة، بن يزيد، بن سلمة، بن رؤبة، بن خفاتة، بن وائل، بن هضيم، بن ذيبان الصفار، أبو نصر الأديب البخارى، من أهل بخارى، كان أحد أفراد الزمان فى علم العربية، والمعرفة بدقائقها الخفية، وكان فقيهاً وورد إلى بغداد، وروى بها، ومات بعد سنة خمس وأربعمائة، فإنه فى هذه السنة حدث ببغداد، ذكره السمعاني أبو سعد فى تاريخ مرو، والحاكم بن البيع، فى تاريخ نيسابور، والخطيب فى تاريخ بغداد. قال تاج الإسلام: ومن خطه نقلت: ورد أبو نصر الصفار خراسان ثم خرج إلى العراق والحجاز، وسكن الطائف، وبها توفى، وقبره بها معروف، وله تصانيف فى اللغة، وكان حسن الشعر وهو جد الزاهد الصفار إبراهيم بن إسماعيل بن، إسحاق بن أحمد، الذى لقيناه بمرو. وسمع نصر بن أحمد بن إسماعيل الكنانى. وروى عنه أبو على الحسن بن على بن محمد، بن المذهب التميمي البغدادي. وقال الحاكم أبو نصر الفقيه، الأديب البخاري الصفار، بعد ما ذكر سنة كما تقدم: قدم علينا حاجا، وما كنت رأيت مثله ببخارى فى سنة، فى حفظ الأدب والفقه، وقد طلب الحديث فى أنواع من العلم، وأنشدني لنفسه من الشعر المتين ما يطول شرحه، ثم قال: أنشدني لنفسه:
ألعين من زهر الخضراء فى شغل ... والقلب من هيبة الرحمن فى وجل
لو لم تكن هيبة الرحمن تردعنى ... شرقت من قبلى فى صحن خد ولى
يا دمية خلقت كالشمس فى المثل ... حورى جسم ولكن صورة الرجل
لو كان صيد الدمى والمرد من عملى ... لكنت من طرب كالشارب الثمل
لكننى من وثاق العقل فى عقل ... وليس لي عن وفاق العقل من حول
الله يرقبني والعقل يحجبني ... فما لمثلى إذا في اللهو والغزل
كلفت نفسى عزا في صيانتها ... دين الورى لهم طرا وديني لي
وقال أبو بكر بن على الخطيب: إسحاق بن أحمد، ابن شبيب أبو نصر البخارى، ويعرف بالصدق، قدم بغداد فى سنة خمس وأربعمائة، وحدث بها عن نصر بن أحمد، بن إسماعيل الكناني، صاحب جبريل السمرقندي، حدثنى عنه الحسن بن على، بن محمد، بن المذهب، واثنى عليه خيراً. قال المؤلف: ورأيت أنا له كتابا فى النحو عجيبا، سماه كتاب المدخل إلى سيبويه، وذكر فيه المبنيات فقط، يكون نحواً من خمسمائة ورقة، ووقفت منع على كلام من تبحر في هذا الشأن، واشتمل على غوامضه إلى أقصى مكان، وله غير ذلك من التصانيف فى الأدب، وكتاب المدخل الصغير فى النحو، وكتاب الرد على حمزة فى حدوث التصحيف.
إسحاق بن بشر، بن محمد، ابن عبد الله

بن سالم أبو حذيفة البخارى، مولى بنى هاشم، ولد ببلخ، واستوطن بخارى، فنسب إليها، وهوة صاحب كتاب المبتدأ وغيره، مات ببخارى سنة ست ومائتين، حدث عن محمد بن إسحاق، بن يسار، وعبد الملك بن جريج، وسعيد بن أبى عروبة، وجوبير بن سعيد، ومقاتل بن سليمان، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وإدريس ابن سنان، وخلق من أئمة أهل العلم أحاديث باطلة، روى عنه جماعة من الخراسانين، و لم يرو عنه من البغداديين فيما أعلم، سوى إسماعيل بن عيسى العطار، فإنه سمع منه مصنافته، ورواها عنه، وروى الحسن بن علويه القطان: أن الرشيد بعث إلى أبي حذيفة، فأقدمه بغداد، و كان يحدث في المسجد المعروف بابن رعيان. و قال أحمد بن سيار، بن أيوب: كان ببخارى شيخ يقال له أبو حذيفة، إسحاق بن بشر القرشى، وكان صنف فى بدء الخلق كتاباً، وفيه أحاديث ليست لها أصول، وكان يتعرض فيروى عن قوم ليسوا ممن أدركهم مثله، فإذا سألوه عن آخرين دونهم يقول: من أين أدركت هؤلاء؟ وهو يروى عمن فوقهم و كانت فيه غفلة، مع أنه كان يزن بحفظ، وسمعت إسحاق بن منصور يقول: قدم علينا ههنا، وكان يحدث عن ابن طاوس، ورجال كبار من التابعين، ممن ماتوا قبل حميد الطويل. قال: فقلت له: كتبت عن حميد الطويل؟ قال: ففزع وقال: جئتم تسخرون بي، حميد عن أنس جدى لم يلق حميداً. قال: فقلنا له أنت تروى عمن مات قبل حميد بكذا كذا سنة، قال: فعلمنا ضعفه، وأنه لا يعلم ما يقول. وقال أبو رجاء قتيبة بن سعيد: بلغنى أن أبا حذيفة البخارى قدم مكة، فجعل يقول: حدثنى ابن طاوس، فقيل لسفيان بن عيينة ذلك، فقال: سلوه عن مولده، فسألوه، فإذا ابن طاوس مات قبل مولده بسنين. فقال: وهو متروك الحديث، ساقط رمى بالكذب. قال المؤلف: كل ما تقدم من كتاب الخطيب. محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب كتاب المبدإ ثم كتاب الفتوح، كتاب الردة، كتاب الجمل، كتاب الألوية، كتاب صفين، كتاب حفر زمزم.
إسحاق بن مسلمة بن إسحاق القينىأخبارى عالم أندلسى، له كتاب يشتمل على أجزاء كثيرة فى أخبار " رية " ناحية بالأندلس، وحصونها وولاتها، وحروبها، وفقهائها، ذكره أبو محمد بن حزم.
إسحاق بن عمار، يعرف بابن الجصاصيكنى أبا يعقوب، من موالى اليمن، وكان صاحب عيسى بن موسى فى أول الدولة، ولم يزل معه. فكان الناس يقرءون عليه الشعر فى دار عيسى، قال المرزبانى: قال عيسى بن جعفر: إسحاق بن عمار من موالي اليمن، ويقال: هو عبد الله بن إسحاق، وإسحاق أبوه هو الجصاص، وقد اختلف فى ولائه أيضاً وقال الكسائي: إسحاق بن عمار الجصاص، أحد من أخذنا عنه الشعر، وكان عالما به، ومات فى آخر أيام المنصور. قال: وكان إذا إذا تكلم فى مجلس صمت الناس. وقال عبد الله بن جعفر: ذكر ابن الجصاص الكوفى الرواية، عند أحمد بن سعيد بن سالم، قال: ذكر عند أبى فاختلفوا فى ولائه، فقال أبي: حدثنى من رآه، وقد دخل إلى عيسى بن موسى، بعد أن خلع وسلم العهد إلى المهدى فقال: أيها الأمير، أنت و الله كما قال الأحوص:
فمن يك عنا سائلاً بشماتة ... لما مسنا أو شامتاً غير سائل
فما عجمت منا العواجم ماجداً ... صبوراً على عضات تلك التلاتل
إذا سر لم يبطر وليس لنكبة ... ألمت به بالخاشع المتضائل
وحدث المبرد عن عيد الله بن صالح المقرئ قال: كان ابن الجصاص، وجناد بن واصل قاعدين، فتذاكرا القبور، فقال ابن الجصاص متمثلاً:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظرى ... إلى دير هند كيف خطت مقابره
فقال جناد:
ترى عجباً مما قضى الله فيهم ... رهائن حتف أوجبته مقادره
فرد عليه أعرابى فقال:
بيوت ترامى أهلها فوق أهلها ... ومستأذن لا يرحل الدهر زائره
وقال ابن الكلبي: ابن الجصاص الراوية، مولى لبشر ابن عبد الملك، بن بشر بن مروان.
إسحاق بن مرار،
أبو عمرو الشيبانى الكوفى قال الأزهرى: كان يعرف بأبى عمرو الأحوص، ومرار بكسر الميم ورائين مهملتين مخففتين، وهو مولى وليس من بنى شيبان، وإنما كان مؤدبا لأولاد ناس من بنى شيبان، فنسب إليهم، كما نسب اليزيدي إلى يزيد ابن منصور، حين أدب ولده.

وقرأت فى أمالى أبى إسحاق النجيرمي: ذكر أن يوسف الأصبهانى قال: أبو عمرو الشيباني من الدهاقين وإنما قيل له الشيباني، لأنه كان يؤدب ولد هارون الرشيد، الذين كانوا فى حجر يزيد بن مزيد الشيباني، فنسب إليه قال عبد الله بن جعفر: وأبو عمرو راوية أهل بغداد، واسع العلم باللغة والشعر، ثقة فى الحديث، كثير السماع. وله كتب كثيرة فى اللغة جياد، مات فى أيام المأمون، سنة خمس ومائتين، أوست ومائتين، وقدبلغ مائة سنة وعشر سنين.
وقال ابن السكيت: مات أبو عمرو، وله ثمان عشرة ومائة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات، وكان ربما استعار منى الكتب، وأنا إذ ذاك صبى آخذ عنه، وأكتب من كتبه. وقال ابن كامل: مات أبو العتاهية، وأبو عمرو الشيباني، وإبراهيم المغنى، والد إسحاق فى يوم واحد، سنة ثلاث عشرة ومائتين، ببغداد.
قال ابن درستويه: وله بنون وبنو بنين يروون عنه كتبه، وأصحاب علماء ثقات، وكان ممن يلزم مجلسه، ويكتب عنه الحديث: أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وحدث الحزنبل، عن عمرو بن أبى عمرو الشيباني قال: لما جمع أبى أشعار القبائل، كانت نيفا وثمانين قبيلة، فكان كلها عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس، كتب مصحفا بخطه، وجعله فى مسجد الكوفة، حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا. وكان يقول: تعلموا العلم، فإنه يوطئ الفقراء بسط الملوك. وروى عن أبى عمرو الشيباني أنه قال يوما لأصحابه: لايمنين أحد أمنية سوء، فإن البلاء موكل بالمنطق هذا المؤمل قال:
شف المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر
فذهب بصره. وهذا مجنون بنى عامر قال:
فلو كنت أعمى أخبط الأرض بالعصا ... أصم ونادتني أجبت المناديا
فعمى وصم. وقال أبو شبل يهجو أبا عمرو الشيباني:
قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقةً ... حتى ألمت بنا يوما ملمات
فقلت: والمرء قد تخطيه منيته ... أدنى عطيته إياى ميات
فكان ما جاد لي لا جاد عن سعة ... دراهم زائفات ضربجيات
ما الشعر ويح أبيه من صناعته ... لكن صناعته بخل وحالات
ودن خل ثقيل فوق عاتقه ... فيه رعيثاء مخلوط وصحناة
فلو رأيت أبا عمرو ومشيته ... كأنه جاحظ العينين نهات
نهات: أى نهاق وقال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب كتاب الختم، كتاب النوادر، كتاب أشعر القبائل، ختمه بابن هرمة، كتاب الخيل، كتاب غريب المصنف، كتاب اللغات، كتاب غريب الحديث، كتاب النوادر الكبير على ثلاث نسخ.
وقال أبو الطيب اللغوى فى كتاب مراتب النحويين: وأما كتاب الختم فلا رواية له، لأن أبا عمرو بخل به على الناس، فلم يقرأه أحد عليه، وذكره أبو بكر الخطيب فقال: هو كوفي نزل بغداد، وحدث بها عن ركين الشامي. روى عنه ابنه عمرو، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وكان ثقة. قال ثعلب: وكان مع أبى عمرو الشيبانى من العلم والسماع، عشرة أضعاف ما كان مع أبى عبيدة، ولم يكن في أهل البصرة مثل أبي عبيدة، في السماع والعلم.
قال المؤلف: ولقد أسرف ثعلب فيما فضل به أبا عمرو، فإننى لا أقول: إن الله خلق رجلا كان أوسع رواية وعلما من أبى عبيدة فى زمانه. وحدث يونس بن حبيب قال: دخلت على أبي عمرو الشيباني، وبين يديه قمطر فيه أمناء من الكتب يسيرة، فقلت له أيها الشيخ: هذا علملك؟فتبسم إلى وقال: إنه من صدق كثير.

وقال الخطيب: كان أبو عمرو نبيلاً، وفاضلاً، عالما بكلام العرب، حافظا للغاتها، عمل كتاب شعراء مضر، وربيعة، ويمن، إلى ابن هرمة، وسمع من الحديث سماعا واسعا، وعمر عمرا طويلا، حتى أناف على التسعين، وهو عند الخاصة من أهل العلم، والرواية مشهور معروف والذي قصر به عند العامة من أهل العلم أنه كان مستهترا بالنبيذ والشرب له. قرأت بخط أبى منصور الأزهري، فى كتاب نظم الجمان للمنذري، حدثني أبو بكر محمد بن أحمد، بن النضر المثنى قال: حدثنى سعيد بن صبيح قال: حدثنى أبوك يعنى النضر، قال: كنت عشية الخميس عند إسماعيل بن حماد، بن أبى حنيفة، وجاء أبو عمرو الشيباني فقال لى: من هذا الشيخ؟ قلت، هذا أبو عمرو الشيباني، صاحب العربية والغريب، وكان قد أتى عليه نحو من خمس عشرة سنة ومائة، فالتفتت إليه أسائله عن أيامه وسنه، ثم قال: ما راح بك؟ الك حاجة؟ قلت: نعم بلغني أنك تقول: إن القرآن مخلوق، قال: نعم، قلت: فمتى خلقه؟ قبل أن يتكلم به أو بعد ما تكلم به، فأطرق طويلا ثم رفع رأسه، وقال: أنت شيخ جدل، هذا قولي، وقول أمير المؤمنين. قال سعيد: فغدوت يوم الجمعة على أبي عمرو، وكان مجلسه وكنت أقرب منه، فقلت يا أبا عمرو " وإيش " كنت تصنع عند إسماعيل بن حماد؟ قال: من أخبرك؟ فقال: أحمد بن أبى غالب، أله عن هذا، فإن هذا بي عارف، يعنى المأمون، دعوا هذا لا تتكلموا به.
إسحاق بن نصير الكاتب البغدادي،
أبو يعقوب،كاتب الرسائل بديوان مصر، بعد محمد بن عبد الله، ابن عبد كان، قال ابن زولاق: مات سنة سبع وتسعين ومائتين، قال ابن زولاق: وكان أبو جعفر محمد بن عبد الله ابن عبد كان، على المكاتبات والرسائل، منذ أيام أحمد بن طولون، ومكاتباته وأجوبته موجودة، إلى أن قدم عليه أبو يعقوب، إسحاق بن نضير البغدادي من العراق، والتمس التصرف، فقال له ابن عبد كان، فيماذا تتصرف؟ فقال: فى المكاتبات والأجوبة والترسل، وكان بين يدى أبى جعفر كتب قد وردت، فقال له: خذ هذه وأجب عنها، فأخذها ومضى إلى ناحية من الدار، فأجاب عنها، فأجاب عنها، ثم وضع خفه تحت رأسه ونام، وقام أبو جعفر إلى الحجرة التى له، فاجتاز به والكتب بين يديه، فأخذها وقرأها، فلما تأملها جعل بروح إسحاق بن نضير حتى انتبه، فقال له: عمن أخذت الكتبة وأجرى عليه أربعين دينارا فى كل شهر، فلم يزل مع أبى جعفر إلى أن توفى أبو جعفر، وانفرد بالأمر على بن أحمد الماذرائي، فقال لإسحاق: الزم منزلك، فانصرف، فوردت كتب فأجاب عنها على بن أحمد، ودخل على أبى الجيش، خمارويه بن أحمد، بن طولون، فعرضها عليه، فقال له: ما هذه الألفاظ التى كانت تخرج منى وعنى فمضى على بن أحمد، وعاد إليه، فما أراد أبو الجيش الجواب ولا استجاده، فخرج على بن أحمد وقال: هاتوا إسحاق ابن نضير، فجئ به، فقال: أجب عن هذه، فأجاب، ودخل على بن أحمد على أبى الجيش، فقرأ الأجوبة، فقال: نعم هذا الذى أعرف " أيش الخبر " ؟ فقال له: كاتب كان مع أبى جعفر، فاعتزل، وأحضرته الساعة، فقال هاته، فأحضره فقال: كم رزقك؟ فقال: أربعون ديناراً، فقال لعلي بن أحمد: " اجعلها أربعمائة فى السنة " ، إجعلها له أربعمائة فى الشهر.
وقال لإسحاق بن نصير: لا تفارق حضرتى، فبلغ إسحاق حتى صار رزقه ألف دينار فى كل شهر، فكان يجود بذلك، ويفضل به على الناس، ولقد أرسل إلى بغداد إلى ثلاثة أنفس، إلى أبي العباس المبرد، وإلى أبى العباس ثعلب، وإلى وراق كان يجلس عنده دفعة واحدة ثلاثة آلاف دينار، لكل واحد منهم ألف دينار، وجرى ذلك على يدي أحمد بن الوليد التاجر، خال القاضي بمصر.
إسحاق بن يحيى، بن شريح الكاتبأبو الحسين النصرانى، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان جيد المعرفة يامر الدواوين والخراج، ومناظرة العمال، وله معرفة تامة بالنجوم، ومولده فى شعبان سنة ثلاثمائة، قال وهو يحيا. قال المؤلف: وكان قوله هذا فى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، قال: وله من الكتب: كتاب الخراج الكبير فى ألف ورقة، جزأين، وجعله ستة منازل كتاب الخراج الذى فى أيدى الناس مائتا ورقة، كتاب الخراج صغير نحو مائة ورقة، كتاب عمل المؤامرات بالحضرة، كتاب تحويل سني الوليد نحو مائة ورقة، كتاب جمل التاريخ.
إسحاق بن موهوب

بن أحمد، بن محمد بن الخضر الجواليقي يكنى أبا طاهر، وهو أخو إسماعيل، ومات فى الحادى عشر من رجب، سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ودفن بباب حرب عند أبيه وأخيه. سمع أبا القاسم بن الحصين وأباه وغيرهما، وحدث بالقليل. سمع منه القاضي القرشي قال: وسألته عن مولده فقال: فى ربيع الأول، سنة سبع عشرة وخمسمائة.
أسعد بن عصمة، أبو البيداء الرياحيأعرابي نزل البصرة، وكان يعلم الصبيان بالأجرة وأقام بها أيام عمره، يؤخذ عنه العلم، زوج أم أبي مالك عمرو بن كركرة، وكان شاعراً، ومن شعره:
قال فيها البليغ ما قال ذو العي ... وكل بوصفها منطيق
وكذاك العدو لم يعد أن قال ... جميلا كما يقول الصديق
أسعد بن علي، بن أحمد الزوزنيالمعروف بالبارع، أبو القاسم الأديب الشاعر، الفاضل الكاتب المترسل، مات فيما ذكره عبد الغافر في السياق، يوم عيد الأضحى، سمة اثنتين وتسعين وأربعمائة. قرأت بخط تاج الإسلام: البارع من أهل زوزن، سكن نيسابور، وورد العراق، وأكرم فضلاؤها مورده، وكان شاعر عصره، وأوحد دهره بخراسان والعراق، وقد شاع ذكره فى الآفاق، وكان على كبر سنه، يسمع الحديث، ويكتب إلى آخر عمره، سمع أبا عبد الرحمن ابن محمد الداودى، وأبا جعفر محمد بن إسحاق البحاثي، وروى لنا عنه أبو البركات الفرارى. وأبو منصور الشحامى وغيرهما.
وذكره الباخرزي فى الدمية وقال: الأديب أبو القاسم، أسعد بن على البارع الزوزني، هو البارع حقا، والوافر من البراعة حظا، وقد اكتسب الأدب بجده وكده، وانتهى من الفضل إلى أقصى حده، ولفتني إليه نسبة الآداب، ونظمتني وإياه صحبة الكتاب، وهلم جرا إلى الآن، وقد ارتدينا المشيب، وخلعانا برد الشباب ذاك القشيب، ولا أكاد أنسى وأنا فى الحضر، حظى منع فى السفر، وقد أخذنا بيننا بأطراف الأحاديث، ورضنا المطايا بأجنحة السير الحثيث، حتى سرنا معا إلى العراق، ونزل هو من فضلائه بمنزلة السواد من الأحداق وعنده توقيعاتهم بتبريزه على الأقران، وحيازته قصبات الرهان، وأنا على ذلك من الشاهدين، لا أكتم من شهادتى دقا ولا جلا، بل أعتقد بها صكا وعليها سجلا، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، وعازب لبه.
قال السمعانى: أنشدنى الشحامى، أنشدنا البارع لنفسه:
قد أقبل المعشوق فاستقبلته ... مستسقياً مستشفيا من ريقه
نشوان والإبريق فى يده ولى ... من ريقه ما ناب عن إبريقه
لو كنت أعلم أنه لى زائر ... لرششت من دمعى تراب طريقه
ولكنت أذكى جمر قلبى فى الدجى ... بطريقه كى يهتدى ببريقه
فزويت وجهى عن مدامة كأسه ... وشربت كأسا من مجاج عقيقه
وله أيضا:
كأن لون الهواء ماء ... أو سندس رق أو عمامه
كأن شكل الهلال قرط ... أو عطفة النون أو قلامه
وله أيضا:
ألا فاشكر لربك كل وقت ... على الآلاء والنعم الجسيمة
إذا كان الزمان زمان سوء ... فيوم صالح منه غنيمة
وله أيضا:
أبو بكر حبا فى الله مالا ... وكان لسانه يجرى بلالا
لقد واسى النبى بكل خير ... وأعطى من ذخائره بلالا
لو أن البحر ناقضه اعتقادا ... لما أعطى الإله له بلالا
ومما أورده الباخرزى فى كتابه البارع:
قمر سبى قلبى بعقرب صدغه ... لما تجلى عنه قلب العقرب
فأجبته ألديك قلبى قال لا ... لكن قلبك عند قلب العقرب
قرأت فى بعض الكتب قال: الفضلاء الملقبون بالبارع فى خراسان ثلاثة: أحدهم البارع الهروى، وهو صاحب كتاب طرائف الطرف، وهو دونهم في الفضل مرتبة، والثاني البارع البوشنجي، وهو أوسطهم، والثالث البارع الزوزني، وهو أفضلهم وأشهرهم، قال: وكان تلميذ القاضى أبى جعفر البحاثي، وهو الذى يقول فيه البحاثي:
عفجت على اليبس البويرع مرة ... فقال: لقد أوجعت سرمى فبله
فقلت: بزاقى لايفى بجميعه ... ومن أين لى أن أبزق الدرب كله
قلت أنا: ينبغي أن يكون قد استعمله بمنارة إسكندرية، إذ عفجه فى شئ كالدرب فأوجعه. وقال البحاثى فيه أيضا:

للبارع ابن العاهرة ... زوجة سوء فاجره
مؤاجر قد زوجوه ... كفؤه مؤاجرة
وقال البارع هذا، يخاطب أبا القاسم على بن أبى توار رئيس زوزون:
كف على عندها التبر ... هان وللمك بخا قدر
كأنها الخال على ظهرها ... عنبرة قد مجها البحر
أسعد بن مسعود، بن علي،
بن محمد، ابن الحسن العتبي أبو إبراهيم، من ولد عتبة بن غزوان، وهو حفيد أبى النضر العتبى، كذا ذكر السمعاني فى المذيل، وأبو النضر: هو محمد بن عبد الجبار، وليس فى نسب هذا عبد الجبار كما ترى، ولا أدرى ما صوابه، إلا أن يكون ابن بنته. قال السمعاني: قرأت بخط والذي: أسعد بن مسعود العتبي، مولده سنة أربع وأربعمائة، ذكره أبو الحسن البيهقى فى وشاح الدمية، وقال: هو مصنف كتاب درة التاج، وكتاب تاج الرسائل، وكان كاتباً في الدواوين المحمودية، والسلجوقية، وعاش إلى آخر أيام نظام الملك وقال فى الامام على الفنجكردى:
يا أوحد البلغاء والأدباء ... ياسيد الفضلاء والعلماء
يامن كأن عطاردا فى قلبه ... يملى عليه حقائق الأشياء
وذكره أبو سعد، ونقلت من خطه، قال بعد ذكر نسبه: كان من أهل نيسابور، وكان يسكن مدرسة البيهقى، وهو من أولاد المنعمين، شاعر كاتب، تصرف فى الأعمال أيام شبابه، وخرج فى صحبة عميد خراسان إلى أسفار، وصحب الأكابر، وارتفعت به الأيام وانخفضت، حتى تأخر عن العمل، وتاب ولزم البيت، وقنع بالكفاف من العيش، واستراح من الأمور، وعقد له مجلس الإملاء فى الجامع المنيعى، فأملى مدة، وكان يحضر عنده المدثون والأئمة ودخل بغداد، وسمع بها من أبى منصور عبد الله بن سعيد، بن مهدي الكاتب الخوافي وسمع بنيسابور ومرو، وغير ذلك، وسمع جده أبا النضر العتبي، وروى لنا جماعة عنه.
قال: وقرأت بخط أبى جعفر، محمد بن على الحافظ الهمذاني: أسعد بن مسعود العتبي: شيخ عالم، ثقة دين، كان يثنى عليه أبو صالح المؤذن الحافظ، وذكره فى موضع آخر وقال: أسعد العتبى: تزهد وكان من الصالحين. قال السمعانى: أنبأنا أبو البركات الفراوى، عن ابن مسعود، عن عبد القاهر بن طاهر التميمى، حدثنى شيخ فاضل قال: دخلت المسجد الجامع بالبصرة، فرأيت شيخا بهيا قد قطع مسافة العمر، فسلمت عليه، وقلت: أتفرس أنك شاعر؟ فقال: أجل، فقلت: أنشدنى من مقولك، ما يكون لي تذكرة منك، فقال اكتب:
قالوا تغير شعره عن حاله ... والهم يشغلنى عن الأشعار
أما الهجاء فمنه شيء زاخر ... والمدح قل لقلة الأحرار
قال السمعاني: أنشدني أبو الحسين، أحمد بن محمد السمناني المصرى، أنشدنا أبو إبراهيم أسعد العتبى لنفسه:
قد كنت فيما مر من أزمانى ... متوانيا لتقاصر الإحسان
ورأيت خلانى وأهل مودتى ... متوفرين معا على الإخوان
فتغيروا لما رأونى تائبا ... وعن التصرف قد صرفت عنانى
دعهم وعادتهم فلم أر مثلهم ... إلا مجرد صورة الإنسان
واغسل يديك من الزمان وأهله ... بالطين والصابون والأشنان
أسعد بن المهذب، بن أبي المليح

مماتي أحد الرؤساء الأعيان الجلة، والكتاب الكبراء المنزلة، ومن تصرف بالأعمال، وولى رياسة الديوان، وله أدب بارع، وخاطر وقاد مسارع، وقد صنف في الأدب وعرف، ومات بمدينة حلب فى الثامن عشر من جمادى الأولى، سنة ست وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأصله من نصارى أسيوط، بليدة بصعيد مصر، قدموا مصر، وخدموا وتقدموا، وولوا الولايات، وهو مع ذلك، من أهل بيت فى الكتابة عريق، وهو كالمستولى على الديار المصرية، ليس على يده يد، والمسمون بالخلافة، محجوبون ليس لهم غير السكة والخطبة، وكان إلي مماتى كثير من الأعمال، فحدثني الصاحب الكبير، الوزير الجليل، جمال الدين الأكرم، أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني القفطي، - حرس الله علاه - بمدينة حلب قال: بلغني أن بعض تجار الهند، قدم إلى مصر، ومعه سمكة مصنوعة من عنبر، قد تنوق فيها وأجيدت، وطيبت ورصعت بالجواهر، فعرضها على بدر الجمالي ليبيعها منه، فسامها من صاحبها، فقال: لا أنقصها عن ألف دينار شيئا، فأعيدت إليه، فخرج بها من دار بدر، فقال له أبو المليح: أرنى هذه السمكة، فاراه إياها، فقال له كم سمت فيها؟ فأخذ بيده، وقبض ألف دينار من ماله، وتركها عنده مدة، فاتفق أن شرب أبو مليح يوما وسكر، وقال لندمائه: قد اشتهيت سمكا، هاتم المقلى والنار، حتى نقليه بحضرتنا، فجاءه بمقلى حديد وفحم، وتركوه على النار، وجار بتلك السمكة العنبر، فتركها فى المقلى، فجعلت تتقلى وتفوح روائحها، حتى لم يبق بمصر دار، إلا ودخلتها تلك الرائحة، وكان بدر الجمالى جالسا، فشم تلك الرائحة وتزايدت، فاستدعى الخزان، وأمرهم بفتح خزائنه وتفتيشها، خوفا من حريق قد يكون وقع فيها، فوجدوا خزائنه سالمة، فقال. ويحكم، انظروا ما هذا، ففتشوا حتى وقعوا على حقيقة الخبر، فاستعظم الأمر وقال: هذا النصراني، الفاعل الصانع، قد أكل أموالي، واستبد بالدنيا دوني، حت أمكنه أن يفعل مثل هذا، وتركه إلى الغداة، فلما دخل إليه وهو مغضب، قال له ويحك: أستعظم أنا وأنا ملك مصر شرى سمكة من العنبر، فأتركها استكثارا لثمنها، فتشتريها أنت!! ثم لا يقنعك حتى نقليها، وتذهب فى ساعة ألف دينار مصرية، ما فعلت هذا، إلا وقد نقلت بيت أموالي إليك، وفعلت، فقال له: والله ما فعلت هذا إلا غيرة عليك، ومحبة لك، فإنك اليوم سلطان نصف الدنيا، وهذه السمكة لا يشتريها إلا ملك، فخفت أن يذهب بها إلى بعض الملوك، ويخبره بأنك استعظمتها ولم تشترها، فأردت أن أعكس الأمر، وأعلمه أنك ما تركتها إلا احتقارا لها، وأنها لم يكن لها عندك مقدار، وأن كاتبا نصرانيا من كتابك اشتراها، وأحرقها، فيشيع بذك ذكرك، ويعظم عند الملوك قدرك، فاستحسن بدر ذلك منه، وأمر له بضعفى ثمنها، وزاد فى رزقه. وكان مماتي مع ذلك كريما ممدحا، قد مدحه الشعراء، فذكر أبو الصلت في كتاب الرسالة المصرية له، أن أبا طاهر إسماعيل بن محمد النشاع، المعروف بابن مكنسة، كان منقطعا إليه فلما مات مماتي، رثاه ابن مكنسة بقصيدة منها:
ماذا أرجى من حياتي ... بعد موت أبي المليح
ما كان بالنكس الدنيى ... من الرجال ولا الشحيح
كفر النصارى بعد ما ... غدروا به دين المسيح
كذا قال، ولعلهم اغتالوه أو قتلوه. ولما ولي الأفضل بن أمير الجيوش، بدر الجمالي بعد أبيه، دخل إليه ابن مكنسة مادحا، فقال له: ذهب رجاؤك بموت أبى المليح، فما الذي جاء بك إلينا، وحرمه ولم يقبل مديحه. وأما المهذب والده، وكان يلقب بالخطير، فإنه كان كاتب ديوان الجيش بمصر، في اواخر أيام المصريين، وأول أيام بني أيوب مدة، فقصده الكتاب، وجعلوا له حديثا عند السلطان، فهم به صلاح الدين يوسف بن أيوب، أو أسد الدين شيركوه، وهو يومئذ المستولي على الديار المصرية، فخاف المهذب، فجمع أولاده ودخل على السلطان، وأسلموا على يده، فقبلهم وأحسن إليهم، وزاد فى ولاياتهم، وجب الإسلام لما قبله.

ووجدت على ظهر كتاب من تصانيف ابن مماتي مكتوبا: كان المهذب أبوه، المعروف بالخطير، مرتبا على ديوان الإقطاعات، وهو على دين النصرانية، فلما علم أسد الدين شيركوه، فى بدء أمره بمصر أنه نصراني، وأنه يتصرف في عمله بلا غبار، نهاه وأمره بغيار النصاري، ورفع الذؤابة وشد الزنار، وصرفه عن الديوان، فبادر هو وأولاده، فأسلموا على يده، فأقره على ديوانه مدة، ثم صرفه عنه، فقال فيه ابن الذروى:
لم يسلم الشيخ الخطير ... لرغبة في دين أحمد
بل ظن أن محاله ... يبقى له الديوان سرمد
والآن قد صرفوه عنه فدينه فالعود أحمد قال: ووجدت بخط ابن مماتى:
صح التمثل فى قديم ... الدهر أن العود أحمد
ولما أمر شيركوه النصارى بلبس الغيار، وأن يعمموا بغير عذبة، قال عمارة اليمني:
يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنة المصطفى
كفى غيارا شد أوساطنا ... فما الذى يوجب كشف القفا
وجرى معه حديث النحويين، وأن أحدهم ينفذ عمره فيه، ولا يتجاوز إلى شيء من الأدب - الذي يراد النحو لأجله - من البلاغة، وقول الشعر، ومعرفة الأخبار والآثار، وتصحيح اللغة، وضبط الأحاديث. فقال الأسعد: هؤلاء مثلهم مثل الذي يعمل الموازين، وليس عنده ما يزن فيه، فيأخذها غيرهم، فيزن فيها الدر النفيس، والجوهر الفاخر، والدنانير الحمر، والجواهر البيض، وهذا عندي من حسن التمثيل. أنشدنا سعيد بن أبى الكرم، بن هبة الله المصرى قال: أنشدني الخطير أبو سعيد بن مماتي لنفسه، فى أبى سعيد بن أبي اليمن النحال وزير العادل، وكان نصرانيا واسلم، وكان أملح الناس وجها، أعنى ابن النحال.
وشادن لما أتى مقبلا ... سبحت رب العرش باريه
ومذ رأيت النمل فى خده ... أيقنت أن الشهد في فيه
وأنشدنا سعيد بن أبى الكرم المذكور، قال: أنشدنى الخطير أبو سعيد بن مماتي، في ابن النحال أيضا، وكان يسكن ابن النحال فى أول الدرب، وكان فى آخر الدرب صبى مثله فى الحسن، يعرف بابن زنبور:
حوى درب نور الدين كل شمردل ... مشددة أوساطهم بالزنانير
بأوله للشهد والنحل منزل ... وآخره يا سادتى للزانير
ومن عجيب ما جرى للخطير: أنه كان يوما جالسا فى انه في حجرة موسومة بديوان الجيش، من قصر السلطان بمصر، وكانت حجرة حسنة مرخمة منمقة، فجاءه قوم وقالوا له: قم من ههنا، فقال لهم: ما الخبر؟ فقالوا: قد تقدم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، بأخذ رخام هذه الحجرة، وأن يعمر به موضعا آخر، فخرج منكسرا كاسفا، فقيل له في ذلك: فقال: قد استجيبت فينا دعوة، وما أظننى أجلس فى ديوان بعدها، أما سمعتم إذا بالغوا فى الدعاء علينا قالوا. خرب الله ديوانه، وما بعد الخراب إلا اليباب، ثم دخل منزله، أوحم فلم يخرج منه إلا ميتا، فلما مات خلفه ابنه الأسعد هذا، على ديوان الجيش، وتصدر فيه مدة طويلة، ثم أضيف إليه في الأيام الصلاحية والعزيزية ديوان المال، وهو أجل ديوان من دواوين مصر، وتصدر فيه، واختص بصحبة القاضي الفاضل، عبد الرحيم بن علي البيساني، ونفق عليه، وحظى عنده، وكرم لديه، فقام بأمره، وأشاع من ذكره، ونبه على فضله، وصنف له عدة تصانيف باسمه، ولم يزل على ذلك، إلى أن ملك الملك العادل، أبو بكر ابن أيوب الديار المصرية، وكان وزيره، والمدبر لدولته، الصفي عبيد الله بن علي بن شكر، وكان بينه وبين الأسعد ذحل قديم أيام رياسته عليه، ووقعت من الأسعد إهانة في حق ابن شكر، فحقدها عليه، إلى أن تمكن منه، فلما ورد مصر، أحضر الأسعد إليه، وأقبل بكلينه عليه، وفوض إليه جميع الدواوين، التى كانت باسمه قديما، وبقي على ذلك سنة كاملة، ثم عمل له المؤامرات، ووضع عليه المحالات، وأكثر فيه التأويلات، ولم يلتفت إلى أعذاره ولا اعاره طرفا لاعتذاره، فنكبه نكبة قبيحة، ووجه عليه أموالا كثيرة، وطالبه بها، فلم يكن له وجه، لأنه كان عفيفا ذا مروءة، فأحال عليه الأجناد، فقصدوه وطالبوه، وأكثروا عليه، وآذوه، واشتكوه إلى ابن شكر، فحكمهم فيه.

فحدثني المؤيد إبراهيم بن يوسف الشيباني قال: سمعت الأسعد يقول: علقت فى المطالبة على باب دارى بمصر، على ظهر الطريق في يوم واحد، إحدى عشرة مرة، فلما قدم رأوا أننى لا وجه لي، قبل لي تحيل، ونجم هذا المال عليك فى نجوم، فقلت: أما المال فلا وجه له عندي، ولكن إن أطلقت وملكت نفسى، استجديت من الناس، وسألت من يخافني ويرجوني، فلعلي أحصل من هذا الوجه، فأما من وجه حاصل، فليس لى بعد ما أخذتموه مني درهم واحد، فنجم المال على، وأطلقت وبقيت مديدة إلى أن حل بعض نجوم المال على، فاختفيت واستترت، وقصدت القرافة، وأخفيت نفسى فى مقبرة الماذرائيين، وأقمت بها مدة عام كامل، وضاق الأمر على، فهربت قاصدا للشام على اجتهاد من الأستاذ، فلحقنى فى بعض الطريق فارس مجد، فسلم على، وسلم إلى مكتوبا ففضضته، وإذا هو من الصفى بن شكر، يذكر فيه: لاتحسب أن اختفاءك عنى، كان بحيث لا أدرى أين أنت؟ ولا أين مكانك؟ فاعلم أن أخبارك كانت تأتينى يوما يوما، وأنك كنت فى قبور الماذرائيين بالقرافة، منذ يوم كذا، وأننى اجتزت هناك، واطلعت فرأيتك بعينى، وأنك لما خرجت هاربا عرفت خبرك، ولو أردت ردك لفعلت، ولو علمت أنك قد بقى لك مال أو حال لما تركتك، ولم يكن ذنبك عندي مما يبلغ أن أتلف معه نفسك، وإنما كان مقصودي: أن أدعك تعيش خائفا فقيرا، غريا ممججا فى البلاد، فلا تظن أنك هربت مني بمكيدة صحت لك علي، فاذهب إلى غير دعة الله، قال: وتركني القاصد وعاد، فبقيت مبهوتا إلى أن وصلت إلى حلب.
فحدثني الصاحب جمال الدين الأكرم - أدام الله علوه - لما ورد إلى حلب، نزل في داري فأقام عندي مدة، وذلك في سنة أربع وستمائة، وعرف الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، بن أيوب - رحمه الله - خبره فأكرمه، وأجرى عليه فى كل يوم دينارا صوريا، وثلاثة دنانير أخرى أجرة دار، فكان يصل إليه في كل ثلاثة أشهر ثلاثون دينارا، غير بر وألطاف، ما كان يخليه منها، وأقام عنده على قدم العطلة، إلى سنة ست وستمائة، كما ذكرنا، ومات فدفن بظاهر حلب، بمقام بقرب قبر أبي بكر الهروي. وله تصانيف كثيرة يقصد بها قصد التأدب، وفي معرض وقائع تجرى، ويعرضها على الأكابر، لم تكن مفيدة إفادة علمية، إنما كانت شبيهة بتصانيف الثعالبي وأضرابه، فمن ذلك كتاب تلقين التفنن في الفقه، كتاب سر الشعر، كتاب علم النثر، كتاب الشيء بالشيء يذكر، وعرضه على القاضى، فسماه سلاسل الذهب، لأخذ بعضه بشعب بعض، كتاب تهذيب الأفعال لابن ظريف، كتاب قرقرة الدجاج، في ألفاظ ابن الحجاج، كتاب الفاشوش فى أحكام " قراقوش " ، كتاب لطائف الذخيرة لابن بسام كتاب ملاذ الأفكار وملاذ الاعتبار، كتاب سيرة صلاح الدين يوسف بن أيوب، كتاب أخاير الذخائر، كتاب كرم النجار في حفظ الجار، عمله للملك الظاهر لما قدم عليه، كتاب ترجمان الجمان، كتب مذاهب المواهب. كتاب باعث الجلد عند حادث الولد، كتاب الحض على الرضى بالحظ، كتاب زواهر السدف وجواهر الصدف، كتاب قرص العتاب، كتاب درة التاج، كتاب ميسور النقد، كتاب المنتحل، كتاب أعلام النصر، كتاب خصائص المعرفة فى المعميات، وكان علم الدين بن الحجاج، شريكه في ديوان الجيش، وكان بينهما ما يكون بين المتماثلين في العمل، فعمل فيه الكتاب المتقدم ذكره، وهجاه بعدة أشعر، منها:
حكى نهرين ما في الأرض ... من يحيهما أبدا
ففى أفعاله ثورى ... وفي ألفاظه بردى
وكان له نوادر حسنة حادة، منها ما حدثني به الصاحب القاضي الأكرم، قال: ركبنا وخرجنا يوما نسير بظاهر حلب، فكان خروجنا من أحد أبوابها، ودرنا سور البلد جميعه، ثم دخلنا من ذلك الباب، فقال: اليوم تسييرنا تدليك، قلت: كيف؟ قال من برا برا.

وكان السديد بن المنذر، وهو رجل فقيه، اتصل بالسلطان صلاح الدين، يوسف بن أيوب بعض الاتصال، فجعل لنفسه بذلك سوقا، واستجلب بما يمت به من ذلك، وإن كان باطلا رزقا، وكان أعور رديئا، قليل الدين بغيضا، ولما أحدث الملك الظاهر غازي، قناة الماء بحلب، وأجراها في شوارعها ودور الناس، فوض إلى ابن المنذر النظر في مصالحها، ورزق على ذلك رزقا حسنا، نحو ثلاثمائة درهم فى الشهر، فسأل عنه الأمير فارس الدين، ميمون القصري، والأسعد بن مماتي حاضر، فقال له مسرعا: هو اليوم مستخدم على قناة، فأعجب بحسن هذه النادرة الحاضرين.
وقيل للأسعد يوما: أى شيء يشبه ابن المنذر؟ فقال: يشبه الزب، فاستبردوا ذلك، وظنوا أنه إنما ذهب إلى عورة فقط، فقال: مالكم لا تسألوني كيف يشبهه؟ فقالوا: كيف؟ قال: هو أقرع أصلع أعور، يسمع بلا أذن، يدخل المداخل الرديئة بحدة واجتهاد، ويرجع منكسرا، فاستحسن ذلك. وله شعر، من ذلك قوله فى الثلج في رجب، سنة خمس وستمائة:
قد قلت لما رأيت الثلج منبسطا ... على الطريق إلى أن ضل سالكها
ما بيض الله وجه الأرض في حلب ... إلا لأن غياث الدين مالكها
وقال أيضا فيه:
لما رأت عينى الثلج ... ساقطا كالأقاحي
وصار ليل الثرى منه ... أبيضا كالصباح
حسبت ذلك من ذوب ... در عقد الوشاح
أو من حباب الحميا ... أو من ثغور الملاح
فما على داخل النار ... بعد ذا من جناح
وقال أيضا فيه:
بسيف غياث الدين غازي بن يوسف بن ... أيوب دام القتل واتصل الفتح
وشاهدته في الدست والثلج دونه ... فقلت: سليمان بن داود والصرح
وقال أيضا فيه:
مذ رأينا الصبح يزدان ... ويزداد انفراشا
وحسبنا نوره يطرد ... من خلف الفراشا
نثر الثلج علينا ... ياسمينا وفراشا
ورأى أن يرسل الأسهم ... بالبرد فراشا
فغدا الكافور في عنبرة ... الأرض فراشا
وقال أيضا فيه:
لما رأت عينى الثلج ... خلته الياسمينا
وقلت من عجب منه ... أصبح الآس مينا
وخلته من ثغور الملا ... ح للآثمينا
فما أرادوا من الدر ... قط إلا ثمينا
وقال أيضا فيه:
لما رأيت الثلج قد ... أضحت به الأرض سما
وأنسب الصبا الصبا ... وأذكرت جهنما
خفت فما فتحت من ... تعاظم الخوف فما
فإن نما صبرى وهو ... ناقص فإنما
وقال أيضا فيه:
لما رأيت الثلج قد ... غطى الوهاد والقنن
سألت يأهل حلب ... هل نمطر السما اللبن؟
نقل من خطه ومن شعره أيضا:
وحياء ذاك الوجه بل وحياته ... قسم يريك الحسن في قسماته
لأرابطن على الغرام بثغره ... لأفوز بالمرجو من حسناته
وأجاهدن عواذلي في حبه ... بالمرهفات على من لحظاته
قد صيغ من ذهب وقلد جوهرا ... فلذاك ليس يجوز أخذ زكاته
وله أيضا:
يعاهدني ألا يخون وينكث ... ويحلف لي ألا يصد ويحنث
ومن أعجب الأشياء أنك ساكن ... بقلبي وأني عن مكانك أبحث
وللحسن يا لله طرف مذكر ... يتيه به عجبا وطرف مؤنث
ومنه أيضا:
يا سالب الظبية لحظا وجيد ... أجر لمن تهجر أجر الشهيد
متى رأى طرفك قتل امرئ ... بأسهم اللحظ فقيد الفقيد
ولد دوييت:
يا غصن، أراك حاملا عود أراك ... حاشاك إلى السواك يحتاج سواك
قل ي: أنهاك عن محبيك نهاك ... لو تم وفاك بست خديك وفاك
كذا وجدت له في اشعارمجموعة، وأنشدني هذين " الدوييت " بعض أهل الأدب، وذكر أنهما للعماد الأصبهانى الكاتب، وهما به أشبه، لأنهما في غاية الجودة، وابن مماتي، في طبقة شعره انحطاط جدا. ومن شعره أيضا:

قد نهانا عن الغرام نهانا ... إذ هوانا ألا تذوق هوانا
وهجرنا الحبيب خيفة أن يهجر ... بدءا فيستمر عنانا
وتركنا للورى فكأنا ... قد أدرناه بيننا دستكانا
وأنسنا من وحشة بفراق ... فافترقنا كما ترى برضانا
وسمعنا من العذول كلاما ... فأنفنا من ضحكه لبكانا
أى خير يكون في حب من فوق ... سهما من لحظة ورمانا
نحن لو لم نكن هجرناه من قبل ... لأبدى صدوده وجفانا
شيمة في الملاح قد أحسن الدهر ... بإعلامها بنا وأسانا
وصباح المشيب يظهر ما كان ... ظلام الشباب عنه ثنانا
ما مشينا إلى الصبابة إلا ... وخطانا معدودة من خطانا
فأدرها معسجدات كؤوسا ... مطلعات من الحباب جمانا
أسلم بن سهل، بن أسلم،
بن زياد، ابن حبيب الرزاز، أبو الحسن المعروف بنحشل الواسطى، منسوب إلى محلة الرزازين، المحلة للسفلي بواسط، ومسجده هناك وداره، وهو ثقة، إمام يصلح للتصحيح، وجده لأمه: أبو محمد وهب بن بقية، ويقال: وهبان. جمع نحشل تاريخ واسط، وضبط أسماء أهلها، ورتب طبقاتهم، وكان لا مزيد عليه في الحفظ والإتقان. مات في سنة ثمان وثمانين ومائتين، قبلها أو بعدها بقليل. حدث عنه بتاريخه أبو بكر، محمد بن عثمان، بن سمعان المعدل، وكان يضاهيه فى الحفظ والإتقان، وشركه في أكثر شيوخه، ومات قبل الثلاثين وثلاثمائة. ذكر ذلك كله السلفي الحافظ، في السؤالات التى سألها خميسا الحوزي.
إسماعيل بن أحمد، بن عبد الله،
الحيري أبو عبد الله الضرير المفسر، المقرئ الواعظ، الفقيه المحدث الزاهد، أحد المسلمين، والحيرة محلة بنيسابور هى الآن خراب، مات فيما ذكره عبد الغافر بن إسماعيل بعد الثلاثين وأربعمائة، ومولده سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. قال: وله التصانيف المشهورة فى علوم القرآن والقراءات، والحديث والوعظ، والتذكير. سمع صحيح البخارى من أبى الهيثم. سمع منه ببغداد، وقد روى عن زاهر السرخسي.
إسماعيل بن إسحق، بن إسماعيل،
بن حماد، بن زيد، بن درهم،أبو إسحق الأزدى، مولى آل حرير بن حازم، من أهل البصرة. مات فيما ذكره الخطيب: سنة اثنتين وثمانين ومائتين، ومولده سنة مائتين، مات فجاءة. قال التنوخى: حدثنى بو الفرج الأصبهانى، أن القاضى إسماعيل، لبس سواده ليخرج إلى الجامع فيحكم، ولبس أحد خفيه، وأراد أن يلبس الآخر، فمات. وهو قاض على جانبى بغداد جميعا. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، ومسدد بن مسرهد، وعلي بن المديني، وغيرهم. روى عنه موسى بن هارون الحافظ، وكان فاضلا، عالما، متقنا، فقيها، على مذهب مالك ابن أنس، شرح مذهبه ولخصه، واحتج له، وصنف المسند، وكتبا عدة فى علوم القرآن، وجمع كتاب حديث مالك، وكتاب يحيى بن سعيد الأنصارى، وكتاب أيوب السختيانى، واستوطن بغداد قديما، وولى القضاء بها، ولم يزل يتقلده إلى حين وفاته قال الخطيب: قال طلحة بن محمد، بن جعفر الشاهد: إسماعيل بن إسحاق منشؤه البصرة، وأخذ الفقه على مذهب مالك، عن أحمد بن المعدل، وتقدم فى هذا المذهب، حتى صار علما فيه، ونشر من مذهب مالك وفضله، ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات، وصنف من الاحتجاج لمذهب مالك والشرح له، ما صار لأهل هذا المذهب مثالا يحتذونه، وطريقا يسلكونه، وانضاف إلى ذلك علمه بالقرآن، فإنه صنف في القرآن كتبا تتجاوز كثيرا من الكتب المصنفة فيه. فمنها كتاب فى أحكام القرآن، وهو كتاب لم يسبقه أحد من أصحابه إلى مثله، وكتاب في القراءات، وهو كتاب جليل القدر، عظيم الخطر، وكتاب في معاني القرآن، وهذان الكتابات يشهدان بفضله فيهما، وأنه واحد زمانه، ومن انتهى إليه العلم في النحو واللغة في أوانه، وهو نظير المبرد.

ورأيت أبا بكر بن مجاهد يصف هذين الكتابين، وسمعته مرات لا أحصيها يقول: القاضي إسماعيل، أعلم مني بالتصريف، وبلغ من العمر ما صار به واحدا فى عصره، في علو الإسناد، فحمل الناس عنه من الحديث الحسن ما لم يحمل أحد عن كثير، وكان الناس يصيرون إليه، فيقتبس منه كل فريق علما لا يشاركه فيه الآخر، فمن قوم يحملون الحديث، ومن قومك يحملون علم القرآن، والقراءات، والفقه، إلى غير ذلك مما يطول شرحه. فأما سداده في القضاء، وحسن مذهبه فيه. وسهولة الأمر عليه، فيما كان يلتبس على غيره، فشئ شهرته تغنى عن ذكره، وكان في أكثر أوقاته، وبعد فراغه من الخصوم، متشاغلا بالعلم، لأنه اعتمد على مكاتبة أبي عمر، محمد بن يوسف، فكان يحمل عنهأكثر أمره من لقاء السلطان، وينظر فى كل أمره، وأقبل هو على الحديث والعلم.
قال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم: كان إسماعيل ابن إسحاق نيفا وخمسين سنة على القضاء، ما عزل عنها إلا سنتين قال الخطيب: وهذ القول فيه تسامح، وذلك أن ولاية إسماعيل للقضاء، ما بين ابتدائها إلى حين وفاته، لم تبلغ خمسين سنة، وأول ما ولي في خلافة المتوكل، لما مات سوار بن عبد الله، بن سوار، بن عبد الله، وكان قاضى القضاة بسر من رأى: جعفر بن عبد الواحد الهاشمى، فأمره المتوكل، أن يولى إسماعيل، قضاء الجانب الشرقى من بغداد، سنة ست وأربعين ومائتين، لم يعزله أحد من الخلفاء غير المهتدي، فإنه نقم على أخيه حماد بن إسحاق شيئا، فضربه بالسياط، وعزل إسماعيل إلى أن قتل المهدي، وولي المعتمد، فأعاده إلى القضاء، فلم يزل على قضاء بغداد بالجانبين إلى أن مات، ولم يقلد قضاء القضاة، لأن القضاة، كان الحسن بن أبي الشوارب، وكان يكون حينئذ بسامرا وحدث الخطيب قال: قال المبرد لما توفيت والدة القاضي إسماعيل، رأيت من وجهه ما لم يقدر على ستره، وكان كل يعزيه، وقد كان لايسلو، فسلمت عليه ثم أنشدته:
لعمري لئن غال ريب الزمان ... فساء لقد غال نفسا حبيبه
ولكن علمى بما في الثواب ... عند المصيبة ينسي المصيبة
فتفهم كلامي واستحسنه، ودعا بدواة وكتبه، ثم انبسط، وزالت تلك الكآبة والجزع.
قال إبراهيم بن حماد: أنشدني عمي إسماعيل القاضي:
همم الموت عاليات فمن ثم ... تخطى إلى لباب اللباب
ولهذا قيل: الفراق أخو الموت ... لإقدامه على الأحباب
قال: ودخل إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق، عبدون، ابن صاعد الوزير، وكان نصرانيا، فقام له ورحب به، فرأى إنكار الشهود ومن حضره، فلما خرج قال لهم: قد علمت إنكاركم، وقال الله تعالى: " لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين، ولم يخرجوكم من دياركم " وهذا الرجل يقضى حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين خليفتنا، وهذا من البر، فسكتت الجماعة.
قرأت بخط أبي سعيد بإسناد له، رفعه إلى أبى العباس ابن الهادي. قال: كنت عند إسماعيل بن إسحاق القاضي في منزله، فخرج يريد صلاة العصر، ويدي في يده، فمر ابن البرى، وكان غلاما جميلا، فنظر إليه: فقال وهو يمشى إلى المسجد:
لولا الحياء وأننى مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير
لحللت منزلها التى تحتله ... ولكان منزلها هو المهجور
وانتهى إلى مسجد على باب داره فقال، الله أكبر، الله أكبر، ثم مر في أذانه، والشعر لإبراهيم بن المهدى. وحكى أبو حيان هذه الحكاية كما مر، وزاد فيها، فقيل له: افتتحت الأذان بقول الشعر، فقال دعونى، فوالله لو نظر أمير المؤمنين إلى ما نظرت إليه، لشغله عن تدبير ملكه. قيل له: فهل قلت شيئا آخر فيه؟ قال: نعم، أبيات عبثت بي وأنا في المحراب، فما استتممت قراءة " الحمد " حتى فرغت منها، وهي:
ألحاظه ترجمان منطقه ... ووجهه نزهة لعاشقه
هذبه الظرف والكمال فما ... يمر عيب على طرائقه
قد كثرت قالة العباد فما ... تسمع إلا سبحان خالقه

ومن كتاب القضاة لابن سمكة قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق، بقيت بغداد ثلاثة أشهر بغير قاض، حتى ضج الناس، ورفع إلى المعتضد، فاختار عبيد الله بن سليمان، ثلاثة قضاة، أبا حازم، وعلي بن أبي الشوارب، ويوسف، وهو ابن عم إسماعيل بن إسحاق، فولي أبا حازم الكرخ، وابن أبي الشوارب مدينة المنصور، ويوسف الجانب الشرقي.
قال: وأخبرنى الثقة أن إسماعيل دخل على الموفق، فقال له: ما تقول في النبيذ؟ فقال أيها الأمير: إذا أصبح الإنسان وفي رأسه شيء منه، يقال له ماذا؟ فقال الموفق: يقال هو مخمور، قال فهو كاسمه.
وحدث المحسن قال: سمعت أبى يحكى عن أبي عمر القاضي قال: عرض القاضي إسماعيل على عبيد الله بن سليمان، وزير تامعتضد رقعة في حوائج الناس، ثم عرض أخرى وقال: إن أمكن الوزير أن يوقع، وقع وعرض أخرى، وقال شيئا من هذا الجنس، فقال عبيد الله: يا أبا إسحاق: كم تقول " إن أمكن، وإن جاز، وإن سهل " ؟ من قال لك: إنه يجلس هذا المجلس أحد، ثم يتعذر عليه شيء على وجه الأرض من الأمور، فقد كذبك، هات رقاعك كلها في موضع واحد، قال: فاخرجها إسماعيل من كمه، وطرحها بين يديه، فوقع فيها، فكانت مع ما وقع فيه قبل الكلام وبعده، نحو الستين رقعة - رحمه الله - فما أصدق ما كانت رغبته إلى الله عز وجل.
اسماعيل بن الحسن، بن على الغازىالبيهقيأبو القاسم، شمس الأئمة، ذكره البيهقي فى كتاب الوشاح، فقال: يعرف بالشمس البيهقي، كان جامعا لفنون الآداب، حائزا لمفاتيح الحكمة وفصل الخطاب، أقام وتوطن بمرو، وطريقه في الفقه مستقيم، واكثر مصنفاته من المناقص سليمات ومن منظومه:
كتاب حضرتنا دامت سلامتهم ... يهيئون من الألقاب أسبابا
وينصبون من الأطماع ألوية ... ويفتحون من الألقاب أبوابا
ويبخلون بما جاد الكريم به ... وينفقون على الأقوام ألقابا
تجشئوا في نواديهم بلا شبع ... كأنهم أكلوا الحلتيت والرابا
أخذه من قول الخوارزمي:
قل الدراهم في كيسى خليفتنا ... فصار ينفق في الأقوام ألقابا
قال: ومن تصانيفه: كتاب نقض الاصطلام، كتاب سمط الثريا، في معانى الغرائب للحديث، كتاب فى اللغة، كتاب فى الخلاف ظريف.
إسماعيل بن الحسين، بن محمد، بن الحسين

ابن أحمد، بن محمد ابن عزيز، بن الحسين، بن أبي جعفر، محمد الأطروش، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن محمد الديباج، بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي زين العابدين، بن الحسين، بن علي، بن أبى طالب - رضي الله عنهم - ، كنيته أبو طالب بن أبي محمد، بن أبي أحمد، بن أبي علي، بن أبي الحسين، بن أبي جعفر، بن أبي الفضل، بن أبي جعفر الأطروش، بن أبي الحسين بن أبي عبد الله، بن أبي الحسين، بن أبي جعفر، بن أبي عبد الله الصادق، بن أبي جعفر الباقر، بن أبي محمد العابدين، بن أبي عبد الله السبط، بن أبي الحسن أمير المؤمنين، المروزي العلوي، النسابة الحسيني، عزيز الدين حقاً، أول من انتقل من أجداده إلى مرو من قوم، أبو علي أحمد بن محمد، بن عزيز، وكان قد انتقل إلى بغداد من المدينة، علي بن محمد الديباجي، وكان على هذا يعرف بالحارص، وابنه الحسين انتقل إلى قوم، ثم أقاموا بمرو إلى هذا الأوان. وأخبرني - أحسن الله جزاه - أن مولده ليلة الأثنين، الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ورد بغداد في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، صحبة الحجاج، ولم يحج. وقرأ الأدب على الإمام منتخب الدين، أبي فتح محمد ابن سعد، بن محمد، بن أبي الفضل الديباجي، والإمام برهان الدين أبي الفتح، ناصر بن أبى المكارم، عبد السيد بن على المطرزي الخوارزمي، وأخيه الإمام مجد الدين أبى الرضا طاهر، وقرأ الفقه على الإمام فخر الدين محمد ابن محمد، بن محمد، بن الحسين الطيان الماهروة الحنفى، وقاضي القضاة، منتخب الدين أبي الفتح محمد بن سليمان، ابن إسحاق الفقيهى قال: وما علمت أنه ولى القضاء بمرو أحسن سيرة منه - رحمه الله - وقرأ الحديث على الإمام فخر الدين، إسماعيل بن محمد، بن يوسف القاشانى، وأبى بكر بن محمد، بن عمر الصائغي السبخي، والإمام شرف الدين، محمد بن مسعود المسعودي، والإمام فخر الدين، أبي المظفر عبد الرحيم، ابن الإمام تاج الإسلام، عبد الكريم بن محمد، بن منصور السمعاني، وعبد الرشيد بن محمد، بن أبي بكر الزرقى المؤدب، وبنيسابور على القاضي ركن الدين إبراهيم بن على، بن حمد المعيني، والإمام مجد الدين، أبى سعد عبد الله بن عمر الصفار، والإمام نور الدين، فضل الله بن أحمد، بن محمد الجليل التوقاني، وعبد الرحيم بن عبد الرحمن الشعري، وبالري على مجد الدين، يحيى بن الربيع الواسطي، وببغداد عليه، وعلي عبد الوهاب بن علي، بن سكينة، وغيرهم، بشيراز، وهراة، وتستر، ويزد. وله من التصانيف: كتاب حظيرة القدس، نحو ستين مجلدا، ولعله يزيد فيما بعد، وكتاب بستان الشرف، وهو مختصر ذلك، يكون عشرين مجلدا، كتاب غنية الطالب، فى نسب آل أبى طالب مجلد، كتاب الموجز فى النسب، مجلد لطيف، كتاب الفخرى صنفه للفخر الرازي، كتاب زبدة الطالبية، مجلد لطيف، كتاب خلاصة العترة النبوية، في أنساب الموسوية، كتاب المثلث فى النسب، شجر عدة كتب منها: كتاب أبي الغنائم الدمشقي، كتاب من اتصل عقبه بأبى الحسن، محمد بن القاسم التميمى الأصفهاني مشجر، وكتاب المعرف للسيد أبي طالب الزنجاني الموسوي، كتاب الطبقات للفقيه زكريا بن أحمد البزاز النيسابوري، كتاب نسب الشافعي خاصة، كتاب وفق الأعداد في النسب. وهذا السيد - أدام الله فضله - اجتمعت به في مرو، في سنة أربع عشرة وستمائة، فوجدته كما قيل:
قد زرته فوجدت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والفضل فى دار
قد طبع من حسن الأخلاق، وسماحة الأعراق، وحسن البشر، وكرم الطبع، وحياء الوجه، وحب الغرباء على ما نراه، متفرقا في خلق كثير، وهو مع ذلك، أعلم الناس يقينا بالأنساب، والنحو، واللغة، والشعر، والأصول، والنجوم، وقد تفرد بهذا البلد، بالتصدر لإقراء العلوم على اختلافها، فى منزل ينتابه الناس على حسب أغراضهم، فمن قارئ للفقه، ومتعلم فى النحو، ومصحح للغة، وناظر في النجوم، ومباحث في الأصول، وغير ذلك من العلوم، وهو مع سعة علمه متواضع، حسن الأخلاق، لايرد غريب إلا عليه، ولايستفيد مستفيد إلا منه. وأنشدني - أدام علوه - لنفسه:
قولوا لمن لبى في حبه ... قد صار مغلوبا ومسلوبا
وفى صميم القلب مني أرى ... هواه والأيمان مكتوبا
وصحتي في عشقه صيرت ... جسمي معلولا ومعيوبا

ومدمعي منهمرا ماؤه ... منهملا في الخد مسكوبا
وأنشدني - أدام الله علوه - لنفسه:
والعين يحجبها لألاء وجنته ... من التأمل فى ذا المنظر الحسن
بل عبرتى منعت لو نظرتى عبرت ... إليه من مقلتى إلا على السفن
لولا تجسمه بالإبتسام وما ... أمده الله عند النطق باللسن
لما عرفت عقيقا شفه درر ... ولم يبن فوه نطقا وهو لم يبن
حدثنى عزيز الدين، - رحمه الله - ، قال: ورد الفخر الرازي إلى مرو، وكان من جلالة القدر، وعظم الذكر، وضخامة الهيبة، بحيث لا يراجع فى كلامه، ولا يتنفس أحد بين يديه لإعظامه، على ما هو مشهور متعارف، فدخلت إليه، وترددت للقراءة عليه، فقال لي يوما: أحب أن تصنف لي كتابا لطيفا في أنساب الطالبيين لأنظر فيه، فلا أحب أن أكون جاهلا به. فقلت له: أتريده مشجرا أم منثورا؟ فقال: المشجر لاينضبط بالحفظ، وأنا أريد شيئا أحفظه، فقلت: السمع والطاعة، ومضيت وصنفت له الكتاب، الذى سميته بالفخري، وحملته وجئته به، فلما وقف عليه، نزل عن طراحته، فأعظمت ذلك وخدمته، فانتهرني نهرة مزعجة، وزعق علي وقال: اجلس بحيث أقول لك، فتداخلني - علم الله - من هيبته ما لم أتمالك، غلا أن جلست حيث أمرنى، ثم أخذ يقرأ على ذلك الكتاب، وهو جالس بين يدي، ويستفهمني عما يستغلق عليه، إلى أن أنهاه قراءة، فلما فرغ منه قال: اجلس الآن حيث شئت، فإن هذا علم أنت أستاذي فيه، وأناأستفيد منك، وأتتلمذ لك، وليس من الأدب أن يجلس التلميذ إلا بين يدى الأستاذ، فقمت من مقامى، وجلس هو في منصبه، ثم أخذت أقرأ عليه، وأنا جالس بحيث كان أولا، وهذا لعمري من حسن الأدب حسن، ولا سيما من مثل ذلك الرجل العظيم المرتبة.
إسماعيل الضرير النحوى، أبو عليلا أعرف من أمره إلا ما ذكر: أن رجلا سأل إسماعيل الضرير النحوى، عن أبي القاسم، علي بن أحمد، ابن الفرج، بن الحسين، بن المسلمة، الملقب برئيس الرؤساء، وزير القائم، كيف ترى رئيس الرؤساء في النحو؟ فقال: يتكلم فيه بكلام أهل الصنعة، وسئل رئيس الرؤساء عن إسماعيل فقال: ما أرى مفتوح القلب فى النحو، إلا هذا المغمض العينين!
إسماعيل بن حماد الجوهري،
أبو نصر الفارابي ابن أخت أبى إسحاق الفارابى، صاحب ديوان الأدب، وكان الجوهرى هذا من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما، وأصله من بلاد الترك من فاراب، وهو إمام في علم اللغة والأدب، وخطه يضرب به المثل في الجودة، لا يكاد يفرق بينه وبين خط أبي عبد الله بن مقلة، وهو مع ذلك من فرسان الكلام في الأصول، وكان يؤثر السفر على ساق. دخل العراق فقرأ علم العربية على شيخى زمانه، ونور عين أوانه، أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي. وسافر إلى أرض الحجاز، وشافه باللغة العرب العاربة، وقد ذكر هو ذلك في مقدمة كتاب الصحاح من تصنيفه، وطوف بلاد ربيعة ومضر، وأجهد نفسه فى الطلب، ولما قضى وطره من الطواف، عاد راجعا إلى خراسان، وتطرق الدامغان، فأنزله أبو على الحسين بن على، وهو من أعيان الكتاب، وأفراد الفضلاء عنده، وأخذ عنه، وسمع منه، ثم سرحه إلى نيسابور، فلم يزل مقيما بها على التدريس، والتأليف، وتعليم الخط، وكتابة المصاحف، والدفاتر، حتى مضى لسبيله عن آثار جميلة وذكره أبو الحسين الباخرزي فقال: هو صاحب صحاح اللغة، لم يتأخر فيها عن شرط أقرانه، ولا انحدر عن درجة أبناء زمانه، أنشدنى الأديب، يعقوب بن أحمد قال: أنشدنى الشيخ أبو إسحاق صالح الوراق، تلميذ الجوهري - رحمه الله - له:
ياضائع العمر بالأماني ... أما ترى رونق الزمان
فقم بنا يا أخا الملاهي ... نخرج إلى نهر نشنقان
لعلنا نجتني سرورا ... حيث جنى الجنتين دان
كأننا والقصور فيها ... بحافتى كوثر الجنان
والطير فوق الغصون تحكى ... بحسن أصواتها الأغانى
وأرسل الورق عندليب ... كالزير واليم والمثاني
وبركة حولها أناخت ... عشر من الدلب واثنتان
فرصتك اليوم فاغتنمها ... فكل وقت سواه فان

وله من التصانيف: كتاب في العروض جيد بالغ، سماه عروض الورقة، كتاب الصحاح في اللغة، كتاب المقدمة فى النحو، وهذا الكتاب، هو الذى بأيدى الناس اليوم، وعليه اعتمادهم. أحسن تصنيفه، وجود تأليفه، وقرب متناوله، وآثر من ترتيبه على من تقدمه، يدل وضعه على قريحة سالمة، ونفس عالمة، فهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولا من محمل اللغة، فيه يقول الشيخ أبو إسماعيل بن محمد، بن عبدوس النيسابوري.
هذا كتاب الصحاح أحسن ما ... صنف قبل الصحاح في الأدب
تشمل أبوابه وتجمع ما ... فرق فى غيره من الكتب
هذا مع تصحيف فيهه في مواضع عدة، أخذها المحققون، وتتبعها العالمون، ومن ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط؟؟ فإنه - رحمه الله - غلط وأصاب، وأخطأ المرمى وأصاب، كسائر العلماء، الذين تقدموه وتأخروا عنه، فإني لا أعلم كتابا سلم إلى مؤلفه فيه، ولم يتبعه بالتتبع من يليه.
وذكر أبو الحسن، علي بن فضال المجاشعى في كتابه، الذى سماه شجرة الذهب، في معرفة أئمة الأدب فقال: كان الجوهري قد صنف كتاب الصحاح، للأستاذ أبى منصور عبد الرحيم بن محمد البيشكى، وسمعه منه إلى باب الضاد المعجمة، واعترى الجوهرى وسوسة، فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه وقال: أيها الناس، إني عملت فى الدنيا شيئا لم أسبق إليه، وضم إلى جنبيه مصراعي باب، وتأبطهما بحبل، وصعد مكانا عاليا من الجامع، وزعم أنه يطير، فوقع فمات، وبقى الكتاب، مسودة غير منقحة، ولا مبيضة، فبيضه أبو إسحاق، إبراهيم بن صالح الوراق، تلميذ الجوهري بعد موته، فغلط فيه في عدة مواضع غلطا فاحشا. وكان الجوهرى يجيد قول الشعر، فمن ذلك:
رأيت فتى أشقرا أزرقا ... قليل الدماغ كثير الفضول
يفضل من حمقه دائبا ... يزيد بن هند علي ابن البتول
قال المؤلف: وكنت بحلب في سنة إحدى عشرة وستمائة، في منزل القاضي الأكرم، والصاحب الأعظم، أبي الحسن علي بن يوسف، بن إبراهيم الشيباني، فتجارينا أمر الجوهري، وما وفق له من حسن التصنيف، ثم قلت له: ومن العجب أني بحثت عن مولده ووفاته، بحثا شافيا، ذلك، فقال لي: فقد بحثت قبلك عن ذلك، فلم أر مخبرا عنه. فلما كان من غد ذلك اليوم، جئته فقال لى: ألا أخبرك بطريفة؟ إننى رأيت في بارحتنا فى النوم قائلا يقول لي: مات إسماعيل بن حماد الجوهري، فى سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولعمري وإن كان المنام مما لايقطع به، ولا يعدل عليه، فهذا بلا شك زمانه، وفيه كان أوانه، لأن شيخيه أبا علي، وأبا سعيد، ماتا قبل هذه المدة بسنين يسرة، ثم وجدت نسخة بديوان الأدب، بخط الجوهري بتبريز، وقد كتبها في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. ثم وقفت على نسخة بالصحاح، بخط الجوهرى بدمشق، عند الملك العظيم بن العادل، بن أيوب صاحب دمشق، وقد كتبها في سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
وقد ذكره أبو منصور عبد الملك، بن محمد الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر، وأنشد من شعره:
لو كان لي بد من الناس ... قطعت حبل الناس بالياس
العز في العزلة لكنه ... لابد للناس من الناس
وأنشد له:
وها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظل الغمام
فبيتى والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام فى ظلام
وأنشد له:
زعم المدامة شاربوها أنها ... تنفي الهموم وتذهب الغما
صدقوا سرت بعقولهم فتوهموا ... أن السرور بها لهم تما
سلبتهم أديانهم وعقولهم ... أرأيت عادم ذين مغتنما؟
ومن شعره:
يا صاحب الدعوة لاتجزعن ... فكلنا أزهد من كرز
فالماء كالعنبر في قومس ... من عزه يجعل في الحرز
فسقنا ماء بلا منة ... وأنت فى حل من الخبز

قال مؤلف الكتاب: وذكر محمود بن أبى المعالي الخواري، في كتاب ضالة الأديب من الصحاح والتهذيب، بعد أن ذكر قصة الجوهري، كما ذكرها المجاشعي، سواء من تصنيفه الكتاب للبيشكي، وقراءة الناس عليه، إلى باب الضاد، وشده مصراعي الباب وطيرانه، ثم قال: وسألت الإمام سعيد بن الإمام، أحمد ابن محمد الميدانى، عن الخلل الواقع فى هذا الكتاب، فقال مثل ما ذكرناه: إن هذا الكتاب قرئ عليه إلى باب الضاد فحسب، وبقي أكثر الكتاب على سواده، ولم يقدر له تنقيحه، ولاتهذيبه، فلهذا يقول في باب السين، قيس: أبو قبيلة من مضر، واسمه إلياس بنقطتين تحتها، ثم يقول في فصل النون من هذا الباب: الاناس بالنون اسم قيس عيلان، فالأول سهو والثاني صحيح، ثم قال: ومن زعم أنه سمع عن الجوهرى شيئا من الكتاب، زيادة على أول الكتاب إلى باب الضاد، فهو مكذوب عليه.
قال: ورأيت أنا نسخة السماع، وعليها خطه إلى باب الضاد، وهي الآن موجودة في بلادنا، والله أعلم بحقيقته. قال: والكتاب بخط مؤلفه عند أبى محمد إسماعيل بن محمد، بن عبدوس النيسابورى، وفيه يقول: وذكر البيتين المتقدمين قال: وقال الثعالبى فى أثناء كتابه، يعنى يتيمة الدهر: إن تلك النسخة بيعت بمائة دينار نيسابورية، وحملت إلى جرجان، والعلم عند الله في ذلك.
قال المؤلف: وأما البيشكى الذي صنف له الكتاب، فقد ذكره الغافر الفارسي في السياق، فقال: هو عبد الرحيم بن محمد البيشكي، الأستاذ الإمام أبو منصور، ابن أبي القاسم، الأديب الواعظ الأصولى، من أركان أصحاب أبي عبد الله، يعنى الحاكم بن عبد الله بن البيع. له المدرسة والأصحاب، والأوقاف والأسباب، والتدريس والمناظرة، والنثر والنظم. توفي في جمادى الأولى، سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ووجدت على ظهر كتاب الصحاح، وكان مجلدة واحدة كاملة، بخط الحسن بن يعقوب بن أحمد النيسابوري، اللغوى الأديب ماصورته: قرأ على هذا الكتاب من أوله إلى آخره، بما عليه من حواشيه من الفوائد، معارضا بنسختى مصححا إياها: صاحبه الفقيه، الفاضل السديد، الحسين بن مسعود الصرام، - بارك الله فيه له - ، وهو إجازة لي عن الأستاذ أبي منصور عبد الرحيم، ابن محمد البيشكي عن المصنف، وكتبه الحسن بن يعقوب ابن أحمد في شهر الله الأصم، سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فهذا كما تراه مخالف لما تقدم، من أن الجوهري لم يعمل من الكتاب إلا أن باب الضاد. ومن كتابه الموسوم بالصحاح: النخيس: البكرة، يتسع ثقبها الذى يجري فيه المحور، مما يأكله المحور، فيعمدون إلى خشيبة فيثقبون وسطها، ثم يلقمونها ذلك الثقب المتسع، ويقال لتلك الخشيبة النخاس، وسألت أعرابيا بنجد من بني تميم وهو يستقي، وبكرته نحيس، فوضعت أصبعي على النخاس فقلت: ما هذا؟ وأردت أن أتعرف منه الخاء من الحاء، فقال نخاس بحاء معجمة، فقلت: أليس قال الشاعر: وبكرة نحاسها نحاس فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الآولين. ومن كتابه في باب بقم، وقلت لأبي علي الفارسي أعربي هو؟فقال: معرب، وليس في كلامهم اسم على فعل، إلا خمسة خضم بن عمرو بن تميم، وبا لفعل سمى، وبقم لهذا الصبغ، وشلم موضع با لشام، وهما أعجميان، وبذر اسم ماء من با لفعل، فثبت أن فعل ليس من أن فعل ليس من أصول أسما ئهم، وإنما يختص بالفعل، فإذ سميت به رجلا لم ينصرف فى المعرفة، للتعريف ووزن الفعل، وينصرف في النكرة.
إسماعيل بن خلف،
أبو طاهر الصقلى المقرئ صاحب على بن إبراهيم بن سعيد الحوفي من حوف مصر، وصنف كتاب إعراب القراءات في تسع مجلدات كبار، وصنف فى القراءات كتاب الإكتفاء، وكتاب العيون، وأرى أنه كان فيما بعد سنة عشرة وخمسمائة
إسماعيل بن عباد، بن العباس،
ابن عباد الوزير الملقب بالصاحب، كافي الكفاة أبو القاسم، من أهل الطالقان، وهي ولاية بين قزوين وأبهر، وهي عدة قرى يقع عليها هذا الأسم، وبخراسان بلدة تسمى الطالقان غير هذه، خرج منها جماعة من أهل العلم، هكذا نسبه المحدثون، وقد قال الرستمي شاعره، يهنيء بن عباد قال:
يهنى ابن عباد بن عباس بن نجد ... والله تعمى بالكرامة تردف
وقال في السلامي يهجوه:
يا بن عباد بن عباس ... بن عبد الله حرها
تنكر الجبر وأخرجت ... إلى دنياك كرها

قال أبو حيان في أخلاق الوزيرين: كان عباد يلقب الأمين، وكان دينا خيرا، مقدما في صناعة الكتابة. فقال: وكتب الأمين في ركن الدولة، كما كتب العميد لصاحب خراسان، والامين كان ينصر مذهب الأشنانى تدينا، وطلبا للزلفى عند ربه، والعميد كان يعمل لعاجلته، وإن قلت: كان الأمين معلما بقرية من قرى طالقان الديلم، قيل: وكان والده العميد نخالا في سوق الحنطة بقم، والصاحب مع شهرته بالعلوم، وآخذه من كل فن منها بالنصيب الوافر، والحظ الزائد الظاهر، وما أوتيه من الفصاحة، ووفق لحسن السياسة والرجاحة، مستغن عن الوصف، مكتف عن الأخبار عنه والرصف، مولده في ذي القعدة، سنة ست ست وعشرين وثلاثمائة.
ووزر لمؤيد الدولة، أبي منصور بويه، بن ركن الدولة، أبي علي الحسن بن بويه، وأحبه فخر الدولة، ثماني عشرة سنة، وشهرا واحدا، ومات الصاحب فيما ذكره أبو نعيم الحافظ: في الرابع والعشرين من صفر، سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. وكان أبوه عباد يكنى بالحسن، وكان من أهل العلم والفضل ايضا، سمع أبا خليفة الفضل بن الخباب، وغيره من البغدادين، والأصفهانيين، والرازيين، وصنف كتابا في أحكام القرآن، نصر فيه الاعتزال وجود فيه. روى عنه ابنه الوزير أبو القاسم بن عباد، وابن مردويه الأصفهانى، ومات عباد في السنة التي مات فيها لأبنه، سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. وكل ما ذكرناه من خبر عباد أبي الوزير، فهو منقول من كتاب المنتظم في التاريخ، من تصنيف أبي الفرج بن الجوزي. وبين عباد وبين الحسن بن عبد الرحمن، بن حماد القاضي مكاتبات ومراسلات، مذكورة مدونة.
وكان الصاحب في بدء أمره من صغار الكتاب، يخدم أبا الفضل بن العميد عليا خاصة، فترقت به الحال، إلى أن كتب لمؤيد الدولة، بن ركن الدولة، بن بويه، أخي عضد الدولة، بن ركن الدولة الديلمي. ومؤيد الدولة حينئذ أمير، وأحسن فى خدمته، وحصل له عنده بقدم الخدمة قدم، وأنس منه مؤيد الدولة كفاية وشهامة، وولى مؤيد الدولة بلاده بالرى وأصبهان، وتلك النواحى، خلع على أبى الفتح بن العميد وزير أبيه خلع الوزارة، وأجراه على ما كان فى أيام أبيه، إلى أن قتل كما ذكرناه في ترجمته، واستوزر الصاحب، واستولى على أموره، وحكمه في أمواله، ولم يزل على ذلك إلى أن آت مؤيد الدولة، وكان فخر الدولة أخو مؤيد الدولة، قد هرب من أخيه عضد الدولة، والتجأ بخراسان إلى السامانية، وهو وقابوس بن وشمكير، في أخبار يضيق كتابنا عنها، فنفذ الصاحب إليه وأحضره، وملكه البلاد، فأقر الصاحب على أمره، فأراد الصاحب اختباره، هل في نفسه عليه شئ، مما كان في أيام مؤيد الدولة؟ الذي أوجب هرب فخر الدولة، فاستعفاه من الخدمة والوزارة، فقال له فخر الدولة: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، كما لنا من إرث الإمارة، فسبيل كل واحد منا أن يحتفظ بحقه ولم يعفه، ولم يزل على أمره معه، إلى أن مات الصاحب، والأمور تصدر عن أمره، والملك يدبر برأيه، وكان إذا قال فخر الدولة قولا، وقال الصاحب قولا، امتثل قول الصاحب، وترك قول فخر الدولة.

وللصاحب أخبار حسان في مكارم الأخلاق، مع رقاعة كانت فيه، ووصفه الإمتاع فقال: كان الصاحب كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئا، وأخذ من كل فن طرفا، والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرتهم مشوبة بعبارة الكتاب، وهو شديد التعصب على أهل الحكمة، والناظرين في أجزائها، كالهندسة، والطب، والتنجيم، والموسيقى، والمنطق، والعدد، وليس له من الجزء الإلاهى خبر والقوافى، ويقول الشعر، وليس بزال، وبديهته غزارة. وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى، فقريته منه، ويتشبع بمذهب أبي حنيفة، ومقالة الزيدية، ولايرجع إلى التأله والرقة، والرأفة والرحمة، والناس كلهم يجمعون عنه لجراءته وسلاطته واقتداره وبطشته. شديد العقاب، طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطى كثيرا قليلا " يعطى الكثير القليل " مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته. وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمة نخوة وبغيا، وتجبرا وزهوا ومع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبى. لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: " مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائله، منظومة ومنثورة، فما جبت الارض إليه من فرغانة، ومصر، وتفليس، إلا لأستفيد كلامه، وأفصح به، وأتعلم به البلاغة: منه: لكأنما رسائل مولانا سور قرآن. وفقره آيات فرقان. واحتجاجه فى أثنائها برهان. فسبحان من جمع العالم في واحد.
وأبرز جميع قدرته في شخص، فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن، بأن يخرج إليه رسائله، مع الورق والورق، ويسهل الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه، فهذا هذا، ثم يعمل في أوقات كالعيد والفضل شعرا، ويدفعه إلى أبى عيسى بن المنجم، ويقول له: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من المنشدين، فيفعل ذلك أبو عيسى، وهو بغدادى محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك، وينشد فيقول له عند سماعه شعره فى نفسه، ووصفه بلسانه، ومدحه من تجبيره، أعد يا أبا عيسى، فإنك والله مجيد زه يا أبا عيسى، قد صفا ذهنك، وجادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الاول حين أنشدتنا في العيد الماضي: المجالس تخرج الناس، وتهب لهم الذكاء، ويزيدهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقا، والمحمر جوادا، ثم لايصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية، وعطية هنية، ويغايظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لايقرض مصراعا، ولايزن بيتا، ولايذوق عروضا.
قال يوما: من في الدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين، فادخل بعدهما بساعة، وقل قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدتهما، وازعم أنك بدهت بهما، ولاتجزع من تأففي بك، ولاتفزع من تكبرى عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى صحن الدار، وأذن للرجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا، دخل الآخر على تفيئتهما ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ ير أنه يقرض شعرا، ثم قال يا مولانا: قد حضرنى بيتان، فإن أذنت أنشدت، قال له: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك، قال يا مولانا: هي بديهتي، وإن كسرتني ظلمتني، وعلى كل حال فاسمع، فإن كانا بارعين، وإلا فعاملني بما تحب، قال: أنت لحوح، هات، فأنشد:
يا أيها الصاحب تاج العلا ... لاتجعلني نزهة الشامت
بملحد يكنى أبا قاسم ... ومجبر يعزى إلى ثابت

فقال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء قال لي أبو القاسم: وكدت أتفقا غيظا، لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا، ثم حدثنى الخادم الحديث يقضه والذى غلطه في نفسه، وحمله على الإعجاب بفضله، والاستبداد برأيه، أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا، وصدق مولانا، - والله دره - ما رأينا مثله، من ابن عبد كان مضافا إليه؟ ومن ابن ثوابة نقيسه عليه؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولى؟ من صريع الغواني؟ من أشجع السلمي؟ إذا سلكا طريقهما، قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلي أبى عمرو بن العلاء في اللغة، وعلي أبى يوسف في القضاء، وعلي الإسكافي في الوازنة، وعلي ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلي ابن مجاهد في القراءات، وعلي ابن جرير فى التفسير، وعلي أرسططاليس في المنطق، وعلي الكندى في الجدل، وعلي ابن سيرين في العبارة، وعلي أبى العيناء في البديهة، وعلي ابن أبى خالد في الخط، وعلي الجاحظ في الحيوان، وعلي سهل بن هارون في الفقر، وعلي يوحنا في الطب، وعلي ابن يزيد فى الفردوس، وعلي عيسى بن كعب في الرواية، وعلي الواقدى في الحفظ، وعلي النجار فى البدل، وعلي بنى ثوابة في التقنية، وعلي السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزيد في النوادر، وعلى أبى الحسن العروضي في استخراج المعمي، وعلى بنى برمك في الجود، وعلى ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى أبى المحياة خالد بن سنان في دعواه، هو والله أولى بقول أبي شريح، أوس بن حجر التميمى، في فضالة بن كلدة أبى دليجة:
الألمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه، بتلوى ويبتسم، ويطير فرحا به وينقسم، ويقول: ولا كذى ثمرة السبق لهم، وقصدنا أن نلحقهم، أو نقفوا أثرهم، وهو في ذلك يتشاجى ويتحايك، ويلوى شدقه، ويبتلع ريقه، ويرد كالآخذ، ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتفاتك ويتمايل، ويحاكي المومسات، ويخرج في أصحاب السماجات، وهو مع هذا، يظن أنه خاف على نقاد الأخلاق، وجهابذة الإخوان. وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلة سماعه من الناصح فيه، " وهو في الأصل محدود لاجرم بقلة مكان، دلالا ونزقا وعجبا، واندراء على الناس، وازدراء للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد، وفى الجملة: آفاته كثيرة، وذنوبه جمة، ولكن الغنى رب غفور:
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
ويقضيه الندى وتزدريه ... خليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن الغني رب غفور
قال: فكيف يتم له الأمور مع هذه الصفات؟ قلت: والله لو أن عجوزا بلهاء، أو أمة ورهاء، أقيمت مقامه، لكانت الأمور على هذا السياج، لأنه قد أمن أن يقال له: لم فعلت؟ ولم لم تفعل؟ وهذا باب لايتفق لأحد من خدم الملوك، إلا بجد سعيد، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاويه، وأمور من النظر جارية رفعت إليه، فقذف بالرقعة إليه، حتى عرف ما فيها، ثم قتل الرافع خنقا، هذا وهو يدين بالوعيد. وقال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطاء، فيقلبه جده صوابا، حتى كأنه عن وحي، وأسرار الله فى خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفية، ولو جرت الأمور على موضوع الرأي، وقضية العقل، لكان معلما على مصطبة في شارع، أو في دار فإنه يحرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه، واستحقاره واستكباره، وإعادته وإبدائه، وهذه أشكال تعجب الصبيان، ولا تنفرهم عن المعلمين، ويكون فرحهم به سببا للملازمة، والحرص على التعلم، والحفظ والرواية والدراسة.

هذا قول صاحب الإمتاع فيه، ومما وجدت في بعض الكتب من مكارم الأخلاق للصاحب: أنه استدعى يوما شرابا من شراب السكر، فجيء بقدم منه، فلما أراد شربه، قال له بعض خواصه: لا تشربه فإنه مسموم، فقال له: وما الشاهد على صحة ذلك؟ قال: بأن تجربه على من أعطاكه، قال: لا أستجيز ذلك ولا أستحله. قال: فجربه على دجاجة. قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، وأمر بصب ما في القدح، وقال للغلام: انصرف عنى، ولا تدخل دارى بعدها، وأقر رزقه عليه، وقال: لا تدفع اليقين بالشك. والعقوبة بقطع الرزق نذالة.
قال: ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو من؟ فأنشد الرجل:
وتتفق الأسماء فى اللفظ والكنى ... كثيرا ولكن لا تلاقي الخلائق
فقال له: اجلس يأبا القاسم. وكان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
وحدث أبو الحسن النحوي قال: كان مكى المنشد، قديم الصحبة، فأساء إليه غير مرة: والصاحب يتجاوز له، فلما كثر ذلك منه، أمر الصاحب بحبسه، فحبس في دار الضرب، وكانت فى جواره، فاتفق أن الصاحب صعد يوما سطح داره، وأشرف على دار الضرب، فناداه مكى: " فاطلع فرآه فى سواء الجحيم " فضحك الصاحب وقال: " اخسئوا فيها ولاتكلمون " ثم أمر بإطلاقه.
ومن كتاب أخلاق الوزيرين لأبى حيان التوحيدى، قال المؤلف: أما خبر أبي حيان مع ابن عباد: فيذكر فى أخبار أبي حيان، وأما غيره: فإن أبا حيان، كان قصد ابن عباد إلى الري، فلم يرزق منه، فرجع عنه ذاما له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغض من ابن عباد، وكانت فضائل ابن عباد تأبى إلا أن تسوقه إلى المدح، وإيضاح مكارمه، فصار ذمه له مدحا، فمن ذلك أن قال، بعد أن فرغ من الاعتذار من التصدى لثلبه، قال: فأول ما أذكر من ذلك، ما أدل به على سعة كلامه، وفصاحة لسانه، وقوة جأشه، وشدة منته وإن كان فى فحواه ما يدل على رقاعته، وانتكاث مريرته، وضعف حوله، وركاكة عقله، وانحلال عقده، لما رجع من همذان سنة تسع وستين وثلاثمائة، بعد أن فارق حضرة عضد الدولة، استقبله من الري وما يليها، واجتمعوا بساوة، وكان قد أعد لكل واحد منهم كلاما يلقاه به عند رؤيته، فأول من دنا منه، القاضي أبو الحسن الهمذاني، من قرية يقال لها أسداباذ فقال له: أيها القاضى، ما فارقتك شوقا إليك، ولا فارقتني وجدا علي، ولقد مرت لي بعدك مجالس تقتضيك، وتخطيك وترضيك، ولو شهدتني بين أهلها، وقد علوتهم بتبياني ولساني، وجدلي وبرهاني، لأنشدت قول حسان بن ثابت في ابن عباس وهو:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيت له في كل مجمعة فضلا
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لاترى بينها فصلا
كفى وشفى ما فى النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العلياء من غير خفة ... فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا
ولذكرت أيضا أيها القاضي قول الآخروأنشدته فإنه قال فيمن وقف موقفي، وقرف مقرفي وتصرف تصرفي، وانصرف منصرفي، واغترف مغترفي
إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعي ولم يثن اللسان على هجر
يصرف بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصقر
ولقد أودعت صدر عضد الدولة، ما يطيل التفافه إلى، ويكثر حسرته على، ولقد رأى مني ما لم ير قبله مثله، ولايرى بعده شكله، والحمد لله أوفدني عليه على ما يسر الولي، وأصدرني عنه على ما يسوء العدو، أيها القاضى: كيف الحال والنفس؟ وكيف المجلس والدرس؟ وكيف العرض والحرس وكيف الدس والعس؟ وكيف الفرس والمرس، وكاد لا يخرج من هذا الهذيان لتهيجه واحتدامه، وشدة خباله وغلوائه، والهمذانى مثل الفأرة بين يدي السنور، وقد تضاءل وقمؤ لا يصعد له نفس إلا بنزع تذللا وتقللا، هذا على كبره فى نفسه.

ثم نظر إلى الزعفرانى رئيس أصحاب الرأى فقال: أيها الشيخ، سرنى بقاؤك، وساءنى عناؤك، ولقد بلغنى عدواؤك، وما خيله إليك خيلاؤك، وأرجو ألا أعيش حتى يرد عليك غلواؤك، ماكان عندى أنك تقدم على ما أقدمت عليه، وتنتهى في عدوانك لأهل العدل والتوحيد إلى ما انتهت إليه، ولى معك إن شاء الله نهار له ليل، وليل يتبعه ليل، وثبور يتصل به ويل، وقطر يدفع ومعه سيل. " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " فقال له الزعفرانى: " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، ثم أبصر أبا طاهر الحنفى، فقال: أيها الشيخ، ما أدرى، أشكوك، أم أشكو إليك، أما شكواى منك، فإنك لم تكاتبنى بحرف، كأنما لم نتلاحظ بطرف، ولم نتحافظ على إلف، ولم نتلاق على ظرف، وأما شكواى إليك، فإنى ذممت الناس بعدك، وذكرت لهم عهدك، وعرضت بينهم ودك، وقدحت عليهم زندك، ونشرت عليهم غرائب ما عندك، فاشتاقوا إليك بتشويقي، واستصفوك بترويقي، وأثنوا بتنميقي وتزويقي، وهكذا عمل الأحباب، إذا نأت بهم الركاب، والتوت دونهم الأعناق واظطربت في صدورهم نار الاشتياق، فالحمد لله الذى أعاد الشعب ملتئما، والشمل منتظما، والقلوب وادعة، والأهواء جامعة، حمدا بالمزيد، على عادة السادة مع العبيد، عند كل قريب وبعيد.
ثم التفت إلى ابن القطان القزويني الحنفي، وكان من ظرفاء العلماء، فقال: كذب أيها الشيخ: أحلم بك فى اليقظة، وأشتمل عليك دون الحفظة، لأنك قد ملكت مني غاية المكانة والحظة، والله ما أسغت بعدك ريقا إلا على جرض ولا سلكت دونك طريقا إلا على مضض، ولا وجدت للظرف سوقا إلا بالعرض. سقى الله ربعا أنت أشدته بنزاهتك، وطبعا أنت أطبته ببراعتك، ومغرسا أنت أينعته بنباهتك.
وقال للعيساباذي: أيها القاضي، أيسرك أن أشتاقك وتسلو عني، وأن أسأل عنك وتنسل مني، وأن أكاتبك فتتغافل، وأطالبك بالجواب فتتكاسل، وهذا ما لا أحتمله من صاحب خراسان، ولا يطمع فى مثله مني ملك بني ساسان، متى كنت منديلا ليد، ومتى نزلت على هذا الحد لأحد، إن انكفأت على بالعذر انكفاء، وإلا اندرأت عليك بالعذل انذراء، ثم لا يكون لك فرار بحال، ولا يبقى لك بمكانى استكبار، إلا على وبال وخيال، ثم طلع أبو طالب العلوي فقال: أيها الشريف، جعلت حسناتك عندي سيئات، ثم أضفت إليها هنات، ولم تفكر في ماض ولا آت، أضعت العهد، وأخلفت الوعد، وحققت النحس، وأبطلت السعد، وحلت سرابا للحيران، بعد ما كنت شرابا للحران، وظننت أنك قد شبعت مني واعتضت عني، هيهات وأنى بمثلي، أو من يعثر في ذبلي، أو له نهار كنهاري. أو ليل كليلي:
وهل عائض مني ... وإن جل عائض
أنا واحد هذا العالم، ... وأنت بما تسمع عالم، لا إله إلا الله، سبحان الله.
أيها الشريف، أين الحق الذي وكدناه أيام كادت الشمس تزول، والزمان علينا يصول، وأنا أقول، وأنت تقول والحال بيننا يحول، - سقى الله - ليلة تشبيعك وتوديعك، وأنت متنكر تنكرا يسوء الموالى، وأنا متفكر تفكرا يسوء العدو، ونحن متوجهون إلى ورامين، خوفا من ذلك الجاهل المهين، يعني بالجاهل المهين ذا الكفايتين، حين أخرجه من الري، بعد أن ألب عليه، وكاد أن يأتي على نفسه الخبيثة، وهو حديث له فرش، وما أنا بصدده، يمنع من اقتضائه، ولعله يأتى فيما بعد " .
ثم نظر إلى أبي محمد كاتب الشروط فقال: أيها الشيخ، الحمد لله الذى كفانا شرك، ووقانا عرك وضرك، وأنآنا فيحك وحرك، دببت الضر إلينا، ومشيت الجمر علينا، ونحن نحيس لك الحيس، وأنت في خلال ذلك تقابلنا بالويح والويس، لو لا أنك قرحان، لسقط بك العشاء على سرحان.
وقال لابن أبي خراسان الفقيه الشافعي: أيها الشيخ، ألغيت ذكرنا عن لسانك، واستمررت على الخلوة بإنسانك، جاريا على نسيانك، مشتهرا بفتيانك وافتتانك، غير عاطف على أخدانك وإخوانك، لو لا أنني أرعى قديما قد أضعته، وأعطيك من رعايتي ما قد منعته، لكان لي ولك حديث، إما طيب وإما خبيث، خلفتك محتسبا، فخلفت مكتسبا، وتركتك آمرا بالمعروف، فلحقتك راكبا للمنكر، قد تفيل الرأى، وتخيب الظن، وتكذب الأمل. وقد قال الأول:
ألا رب من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب وهو ظنين
ثم نظر إلى الشادباشى فقال: يا أبا على، كيف أنت؟ وكيف كنت؟ فقال يا مولانا:

لاكنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
فقال: أعرب يا ساقط، يا هابط، يا من تذهب إلى الحائط بالغائط، ليس هذا من تحت يدك، ولا هو مما نشأ من عندك، هذا لمحمد بن عبد الله بن طاهر، وأوله:
كتبت تسأل عني كيف كنت يوما ... لاقيت بعدك من هم ومن حزن
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... لا كنت إن كنت أدرى كيف لم أكن
وكان ينشد وهو يلوى رقبته وتجحظ حدمته، وينزى أطراف منكبيه، ويتشفا ويتمايل كأنه لدى يتخبطه الشيطان من المس ثم قال يا أبا علي: لا تعود على أبر فى سراويل، لا ابر إلا ابر تمضي تحت عنقك فإنك إن عولت على ذلك شانك وخانك، وفضح حالك ومانك.
ثم نظر إلى غلام قد بقل وجهه، كان يتهم به على الوجه الأقبح، فالتوى وتقلقل، وقال: ادن منى يا بني، كيف كنت؟ ولم حملت نفسك على هذا العناء، وجهك هذا الحسن لايتبذل للشحوب، ولا يعرض للفحات الشمس بين الطلوع إلى الغروب. أنت تحب أن تكون بدلة بين حجلة وكلة. تزاح بك العلة، وتغلى بك القلة وتشفى منك الغلة هذا آخر حديث الاستقبال.
قال أبو حيان: ودخل يوما دار الإمارة، الفيرزان المجوسي في شيء خاطبه به فقال له: إنما أنت محش مجش مخش، لا تهش ولا تبش ولا تمتش، فقال الفيرزان: أيها الصاحب، برئت من النارإن كنت أدرى ما تقول، فإن العرض لك. والنفس لك فداء، لست من الزنج ولا من البربر، كلمنا على العادة التي عليها العمل، والله ما هذا من لغة آبائك الفرس، ولا من أهل دينك من أهل السواد، وقد خالطنا الناس، وما سمعنا منهم هذا النمط فقام مغضبا.
قال: وكان ابن عباد يقول للإنسان إذا قدم عليه من أهل العلم: يا أخي تكلم واستأنس، واقترح وانبسط، ولاتدع واحسبني في جوف مربعة، ولا بروعك هذا الحشم والخدم، والغاشية وهذه المرتبة والمصطبة، وهذا الطاق والرواق، وهذه المجالس والطنافس، فإن سلطان العلم فوق سلطان الولاية، فليفرج روعك، ولينعم بالك، وقل ما شئت، وأبصر ما أردت، فلست تجد عندنا إلا الإنصاف والإسعاف، والإسعاف، والإتحاف والإطراف، والمواهبة والمقاربة، والمؤانسة والمقابسة، وقد كان يحفظ ما كان يهذي به في هذا وفي غيره، ويجزي في هذا الميدان فيطيل، حتى إذا استوفى ما عند ذلك الإنسان بهذه الزخارف والحيل، وصار الرجل معه في حدوده على مذهب الثقة، فحاجه وضايقه وسابقه، ووضع يده على النكتة الفاصلة، والأمر القاط تنمر له، وتغير عليه، ثم قال يا غلام: خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس، وضعه فيه، بعد أن تصب على كاهله وظهره وجنبيه، خمسمائة سوط وعصا، فإنه معاند ضد، يحتاج أن يشد بالقد ساقط هابط، كلب وقاح، أعجبه صبرى، وغره حلمى، ولقد أخلف طنى، وعدت على نفسى باللائمة وبالتوبيخ، وما خلق الله العصا باطلا. فيقام ذلك البائس على هذه الحالة، وليس الخبر كالعيان، من لم يحضر ذلك المجلس، لم ير منظرا رفيعا، ورجلا رقيعا. قال: وكان أبو الفضل بن العميد إذا رآه قال: أحسب أن عينيه ركبتا من زئبق، وعنقه عمل بلولب، وصدق، فإنه كان ظريف التثني والتلوي، شديد التفكك والتفتل، كثير التعوج والتموج، في شكل المرأة المومسة، والفاجرة الماجنة.
قال وحدثني الجراباذى الكاتب أبو بكر، وكان كاتب داره، قال: يبلغ من سخنة عين صاحبنا، أنه لا يسكت عما لا يعرف، ولا يسالم نفسه فيما لا يفي به، وإن احتال وموه، جاز ذلك وخفى واستتر، ولا يعلم أن ذلك الإحتيال، طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال، وصدق القائل: " كاد المريب يقول خذوني " . قلت: وما الذي حداك على هذه المقدمة؟ قال: قال لي فى بعض هذه الأيام، أرفع حسابك، فقد أخرته وقصرت فيه، وانتهزت سكوتى وشغلى بأمر الملك، وسياسة الأولياء والجند، والرعايا والمدن، وما على من أعباء الدولة، وحفظ البيضة، ومشارفة الأطراف النائية والدانية، باللسان والعلم، والرأى والتدبير، والبسط والقبض، والتتبع والتقصى وما على قلبى من الفكر في الأموال الظاهرة والغامضة، وهذا باب لعمري مطمع، وإمساكى عنه مغر بالفساد مولع، فبادر - عافاك الله - إلى عمل حساب بتفصيل باب باب، يبين فيه أمر داري، وما دخل عليه أمر دخلي وخرجي. قلت له: هذا كله لسبب قوله: هات حسابك بما نراعيه؟ فقال: إى والله، ولقد كان أكثر من هذا، ولقد اختصرته.

قال أبو بكر: فتفردت أياما، وحررت الحساب على قاعدته وأصله، والرسم الذى هو معروف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي، وأمر عينيه فيه، من غير تثبيت أو فحص، أو مسألة، فحذف به إلى وقال: أهذا حساب؟ أهذا كتاب؟ أهذا تحرير؟ أهذا تقرير؟ أهذا تفصيل؟ أهذا تحصيل؟ والله لولا أنى ربيتك فى دارى، وشغلت بتخريجك ليلى ونهارى، ولك حرمه الصبا، ويلزمنى رعاية الأبا، لأطعمتك هذا الطومار، وأحرقتك بالنفط والقار، وأدبت بك كل كاتب، وحاسب، وجعلتك مثله لكل شاهد وغائب، أمثلى يموه عليه؟ ويطمع فيما لديه؟ وأنا خلقت الحسابة والكتابة، والله ما أنام ليلة، إلا وأحصل فى نفسى ارتفاع العراق، ودخل الآفاق، أغرك منى أنى أجررت رسنك، وأخفيت قبيحك، وأبديت حسنك؟ غير الذى رفعت، واعرف قبل وبعد ما صنعت، واعلم أنك من الآجرة قد رجعت، فزد فى صلانك وصدقتك، ولا تعول على قحتك وصلابة حدقتك، قال: فو الله ما هالنى كلامه، ولا أحاك في هذيانه، لأني كنت أعلم جهله في الحساب، ونقضه في هذا الباب، فذهبت وأفسدت، وأخرت وقدمت، وكابرت وتعمدت، ثم رددته غليه، فنظر فيه، وضحك في وجهي وقال: أحسنت - بارك الله عليك - ، هكذا أردت، وهذا بعينه ما طلبت، لو تغافلت عنك في أول الأمر، لما تيقظت في الثاني، فهذا كما ترى، فاعجب منه كيف شئت.
قال أبو حيان: ومن رقاعته أيضا، سمعته يقول: وقد جرى حديث الأبهري المتكلم، وكان يكنى أبا سعيد، فقال: - لعن الله - ذاك الملعون المأبون المأفون، جاءني بوجه مكلح، وأنف مفلطح، ورأس مسح، وسرم مفتح، ولسان مكبح، فكلمني في مسألة الأصلح، فقلت له: اعزب، عليك لعنة الله لقيت الأبرح، الذي يلزم ولا يبرح.
وشتم يوما رجلا فقال - لعن الله - هذا الأهوج الأعوج الأفلج الأفحج الذى إذا قام تخلج، وإذا مشى تدحرج، وإن عدا تفجفج قال أبو حيان: بالله يا أصحابنا حدثونى، أهذا عقل رئيس، أم بلاغة كاتب أم كلام متماسك، لم تجنون به، وتتهالكون عليه، وتغيظون أهل الفضل به؟؟؟ هل هناك إلا الجد الذى يرفع من هو أنذل منه، ويوقع من هو أرفع منه. ولقد حدثت هذا الحديث أبا السلم الشاعر، فأنشدني لشاعر:
سبحان من أنزل الدنيا منازلها ... وميز الناس مشنوءا وموموقا
فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وجاهل خرق تلقاه مرزوقا
كأنه من خليج البحر مغترف ... ولم يكن بارتزاق القوت محقوقا
هذا الذى ترك الألباب حائرة ... وصير العاقل النحرير زنديقا
قال: وكان كلفه بالسجع في الكلام والقول، عند الجد والهزل، يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد. قلت لابن المسيبى: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك، لو أنه رأى سجعة ينحل بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرام ثقيل، وكلفة صعبة، وتجشم أمور، وركوب أهوال، لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتى بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها.
قال: وقلت للخليلي، أما كان ابن العميد يسمع كلامه؟ قال: بلى، وكان يقول: سجعه يدل على الخلاعة والمجانة. وخطه يدل على الشلل والزمانة وصياحه يدل على أنه قد خلب بالقمار فى الحانة، وهو أحمق الطبع إلا أنه طيب قلت للخليلي: فهل عرفت طالعه؟ فقال: حدثني بعض أصحابنا منهم الهروي، أن طالعه الجوزراء والشعري اليمانية " كط " وكان زحل في الحادى عشر في الحمل " كز " والقمر فيه " يط " والشمس فى السنبلة " كد " والمريخ فى العقرب " ن " ومنهم السعادة فى القوس " يد " ومنهم الغيب قى الجدى " يز " والرأس فى الثالث من الأسد " يا " قال: وخفى على عطارد وذكر أنه ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة، من الهجرة لأربع عشرة ليلة من ذى العقدة، " رونسروش " من " ماه شهرير " قلت: وأين ولد؟ قال: كان عندنا أنه ولد بطالقان، وقال لنا يوما باصطخر: وقال غير الخليلى: كان عطارد فى السنبلة " ط ى " .

قال أبو حيان: كنت بالرى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وابن عباد بها مع مؤيد الدولة، قد ورد فى مهمات وحوائج، وعقد لابن عباد مجلس جدل، وكنا نبيت عنده في داره، في باب شير، ومعنا الضرير أبو العباس القاضى، وأبو الجوزاء البرقي، وأبو عبد الله النحوي الزعفراني، وجماعة من الغرباء، فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقعة، فأحب أن يعرفه ويعرف ما عنده، وكان الشاب من أهل سمرقند، يعرف بأبى واقد الكرابيسي، فقال له: يا أخ انبسط واستأنس، وتكلم فلك منا جانب وطئ وشرب مرئ، ولن ترى إلا البر، بم تعرف فقال: بدقاق، قال: تدق ماذا؟ قال: أدق الخصم إذا زاغ عن سبيل الحق، فلما سمع هذا تنكر وعجب، لأنه فجئ ببذيئة، فقال: دع هذا وتكلم، قال: أتكلم سائلا؟ ما بى والله حاجة إلى مسألة، أم أتكلم مسئولا؟ فو الله إنى لأكسل عن الجواب، أم أتكلم مقررا؟ فو الله إنى لأكره أن أبدد الدر في غير موضعه، وإني لكما قال الأول:
لقد عجمتنى العاجمات فلم تجد ... هلوعا ولا لين المجسة في العجم
وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم ... وما للأعادي في قناتى من وصم
قال له يا هذا: ما مذهبك؟ قال: مذهبي ألا أقر على الضيم، ولا أنام على الهون، ولا أعطى صمتى لمن لم يكن ولى نعمتي، ولم تصل عصمته بعصمتي. قال: هذا مذهب حسن، ومن ذا الذى يأتى الضيم طائعا؟ ويركب الهون سامعا؟ ولكن ما نحلتك التى تنصرها؟ قال: أنادى عليها فى سوق، ولا أعرضها على شاك ولا أجادل فيها المؤمن، قال: فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين، الذى يعجز عنه الخلق، إذا أرادوا الاطلاع على غيبته، وبحثوا عن خافي سره، وعجائب حكمته، فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله!! وليس له مثل مظنون، فضلا عن مثل متيقن، فقال له ابن عباد: صدقت، ولكن أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: إن كان مخلوقا كما يزعم خصمك، فما يضرك، فقال يا هذا: أبهذا تناظر فى دين الله؟ وتقوم على عبادة الله؟ قال: إن كان كلام الله نفعنى إيماني به، وعملي بمحكمه، وتسليمي لمتشابهه، وإن كان كلام غيره وحاش لله من ذلك، ما ضرني فأمسك عنه ابن عباد وهو مغيظ، ثم قال: أنت لم تخرج من خراسان بعد، فمكث الرجل ساعة ثم نهض، فقال له ابن عباد: إلى أين يا هذا؟ قد تكسر الليل، بت ههنا، فقال: " أنا بعد لم أخرج من خراسان " كيف أبيت بالرى، وخرج فارتاب به ابن عباد، فقفاه بصاحب له، وأوصاه بأن يتبع خطاه، ويبلغ مداه، من حيث لا يفطن له ولا يراه، فما زاغ الرجل عن باب ركن الدولة، حتى وصل ودخل فى ذلك الوقت الفائت إليه، فقيل لابن عباد ذلك، فطار نومه وقال: أى شيطان هبط علينا، وأحصى ما كنا فيه بلسان سليط، وطبع مريد، وكان هذا الكرابيسي عينا لركن الدولة بخراسان، فلذلك كان قريبا، وكان أحد رجالاته.
ومما يدل على ولوع ابن عباد بالسجع، ومجاوزته الحد فيه بالإفراط، قوله يوما: " حدثنى أن ناش. وكان من سادة الناش " جعل السين شينا، ومر في هذا الحديث وقال: هذه لغة، وكذب وكان كذوبا.
وقال ابن عباد لشيخ من خراسان فى شئ جرى: والله لولا شئ لقطعتك تقطيعا، وبضعتك تبضيعا، ووزعتك توزيعا، ومزعتك تمزيعا، وجزعتك تجزيعا، وأدخلتك فى خزائنك، ثم وقف ساعة، ثم قال جميعا، قال: وملح هذه الحكاية ينبتر في الكتابة، وطربها ينقض في الرواية دون مشاهدة الحال، وسماع اللفظ، وملاحة الشكل، والتثني، والترنح والتهادي، ومد اليد، ولي العنق، وهز الرأس والأكتاف، واستعمال الأعضاء والمفاصل.
قال: وحدثنا ابن عباد يوما قال: ما أفظعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي، فقصدني فأذنت له، وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق، فنظرت إلى حاجبى، فقال له وهو يصعد إلي: اخلع نعلك، فقال: ولم؟ ولعلي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني الضحك، وقلت: أتراه يريد أن يصفعني؟.

قال أبو حيان: وقال لى علي بن الحسن الكاتب: هجرني في بعض الأيام هجرا أضر بي، وكشف مستور حالي وذهب على أمرى، ولم أهتد إلى وجه حيلة فى مصلحتي، وورد المهرجان، فدخلت عليه في غمار الناس، فلما أنشد نوبتين تقدمت فلم يهش لي، ولم ينظر إلى، وكنت ضمنت أبياتي بيتا له من قصيدة على روى قصيدتى، فلما مر به البيت، هب من كسله، ونظر إلى كالمنكر على، فطأطأت رأسى، وقلت بصوت خفيض، لا تلم ولا تزد فى القرحة، فما على محمل، وإنما سرقت هذا من قافيتك، لأزين به قافيتى، وأنت بحمد الله تجود بكل علق ثمين، وتهب كل در مكنون، أتراك تشاحني على هذا القدر، وتفضحني فى هذا المشهد، فرفع رأسه وصوته وقال: يابني أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: أحسنت يا هذا، ارجع إلى أول قصيدتك، فقد سهونا عنك، وطار الفكر بنا إلى شأن آخر، والدنيا مشغلة، وصار ذلك ظلما بغير قصد منا ولا تعمد: قال: فأعدتها وأمررتها، وفغرت فمي بقوافيها، فلما بلغت آخرها قال: أحسنت، الزم هذا الفن، فإنه حسن الديباجة، وكأن البحتري استخلفك، وأكثر بحضرتنا، وارتفع بخدمتنا، وابذل نفسك في طاعتنا، نكن من وراء مصالحك، بأداء حقك، والجذب بضبعك، والزيادة في قدرك على أقرانك.
قال: فلم أر بعد ذلك إلا الخير، حتى عراه نوك آخر، فوضعني في الحبس سنة، وجمع كتبي وأحرقها بالنار، وفيها كتب الفراء، والكسائي، ومصاحف القرآن، وأصول كثيرة في الفقه والكلام، فلم يميزها من كتب الأوائل، وأمر بطرح فيها من غير تثبيت، بل لفرط جهله، وشدة نزقه، فهلا طرح النار فى خزانته، وفيها كتب ابن الرواندى، وكلام ابن أبى العرجاء في معارضة القرآن بزعمه، وصالح بن عبد القدوس أبي سعيد الحصيري، وكتب أرسططاليس، وغير ذلك، ولكن من شاء حمق نفسه.
قال أبو حيان: وحدثني محمد بن المرزباني قال: كنا بين يديه ليلة فنعس، وأخذ إنسان يقرأ الصافات، فاتفق أن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر، نعس أيضا، وضرط ضرطة منكرة، فانتبه وقال: يا أصحابنا، نمنا على والصافات، وانتهينا على والمراسلات، وهذا من نوادره وملحه.
وحدثنى أيضا قال: انفلتت ليلة أخرى ضرطة من بعض الحاضرين وهو في الجدل، فقال على حدته: كانت بيعة أبي بكر، خذوا فيما أنتم فيه، يعنى فلتة، لأنه قيل في بيعة أبي بكر: كانت فلتة.
قال: وقال قوم من أهل أصبهان لابن عباد، لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن فى آخر شعبان، بماذا كنا نصلي التراويح في رمضان؟ قال: لو مات القرآن، كان رمضان يموت أيضا، ويقول: لا حياة لي بعدك، ولانصلي التراويح ونستريح.
قال أبو حيان: واسمع ما هو أعجب من هذا، ناظر بالري اليهودي رأس الجالوت في إعجاز القرآن، فراجعه اليهودي فيه طويلا، وماتنه قليلا، وتنكر عليه حتى احتد، وكاد يتقد، فلما علم أنه قد سجر تنوره، وأسعط أنفه، احتال طلبا لمخادعته، ورفقا به في مخاتلته، فقال أيها الصاحب: فلم تتقد وتستشيط؟ وتلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندى آية، ودلالة ومعجزة، من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين، وكان البلغاء فيما تدعى عنه عاجزين، وله مذعنين، فهأنا أصدق عن نفسه، وأقول ما عندي: إن رسائلك وكلامك، وفقرك وماتؤلفه، وتباده به نظما ونثرا، هو فوق ذلك، أو مثل ذلك، وقريب منه، وعلى كل حال، فليس يظهر لى أنه دونه، وأن ذلك سيستعلى عليه بوجه من وجوه الكلام، أو بمرتبة من مراتب البلاغة، فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد، وسكن عن حركته، وانحمص ورمه به، وقال: ولا هكذا ياشيخ: كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا، ومن البيان نصيبا ظاهرا، ولكن القرآن له المزية التى لا تجهل، والشرف الذى لا يخمل، وأين ما خلقه الله على أثم حسن وبهاء، مما يخلقه العبد بطلب وتكلف، هذا كله يقوله، وقد خبا حميه، وتراجع مزاجه، وصارت ناره رمادا، مع إعجاب شديد قد شاع فى أعطافه، وفرح غالب قد دب فى أسارير وجهه، لأنه رأى كلامه شبيها بالقرآن، لدى اليهود وأهل الملل.
وقال بعض الشعراء فى ابن عباد يذم سجعه، وخطه وعقله:
متقلب كافى الكفاة وإنما ... هو في الحقيقة كافر الكفار
السجع سجع مهوس والخط خطط ... منقرس والعقل عقل حمار

وكان ذو الكفايتين ابن العميد يقول: خرج ابن عباد من عندنا من الرى، متوجها إلى أصفهان، ومنزله ورامين، وهى قرية كالمدينة، فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح، لا لشيء إلا لكتب إلينا " كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار " .
قال أبو حيان: وكان ابن عباد يروى لأبي الفضل بن العميد كلاما في رقعة إليه، حين استكتبه لمؤيد الدولة، وهو: " بسم الله الرحمن الرحيم " مولاي: وإن كان سيدا بهرتنا نفاسته، وابن صاحب تقدمت علينا رياسته. فإنه يعدنى سيدا ووالدا،. كما أعده ولدا واحدا. ومن حق ذلك، أن يعضد رأيى برأيه، ليزداد استحكاما، ونتظاهر عقدا وإبراما.
وحضرت اليوم مجلس مولانا ركن الدين، ففاوضني ما جرى بينه وبين مولاى طويلا، ووصل به كلاما بسيطا، وأطلعنى على أن مولاى، لا يزيد بعد الاستقصاء والاستيفاء، على التقصي والاستعفاء، وألزم عبده أن أكره مولاي إكراها في المسألة، وأجبره إجبارا في الطلبة، علما بأنه إن دافع المجلس المعمور طلبا للتحرز، لم يرد وساطتي أخذا بالتطول، وأقول بعد أن أقدم مقدمة: مولاي غنى عن هذا العمل بتصونه، وتصلفه وعزوفه، وبهمته عن التكثر بالمال وتحصيله، لكن العمل فقير إلى كفايته، محتاج إلى كفالته، وما أقول: إن مرادي ما يعقد من حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، وبذر ومن عطاء ومنع، فكل ذلك وإن كان مقصودا، وفى آلات الوزارة معدودا، ففى كتاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه ما يسر مساعيه، ولكن ولي النعمة يريده لتهذيب ولده، ومن هو ولي عهده من بعده، والمأمول ليومه وغده، - أدام الله أيامه - وبلغه فيه مرامه، ولا بد وإن كان الجوهر كريما، والسنخ قديما. والمجد صميما، ومركب العقل سليما، من ينوب مناب من تعلم ما السياسة؟ وما الرياسة؟ وكيف تدبير العامة والخاصة؟ وبماذا تعقد المهابة؟ ومن أين تجلب الأصالة والإصابة؟ وكيف ترتب المراتب، ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب؟ وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللذة لتحفظ الإمرة، ولا بد من محتشم يقوم في وجه صاحبه، فيرده إذا بدر منه الرأى المنقلب. ويراجعه إذا جمع به اللجاج المرتكب. ويعاوده إذا ملكه الغضب الملتهب. فلم يكن السبب في أن أفسدت ممالك جمة، وبلدان عدة، إلا أن خفضت أقدار الوزارة، فانقبضت أطراف الإمارة، وليس يفسد على ما أرى بقية الأرض، إلا إذا استعين بأذناب على هذا الأمر، فلا يبخلن مولاي على ولى نعمته، بفضل معرفته، فمن هذه الدولة، جرى ما فضله، وفضل الشيخ الأمين من قبله، وإن كان مسموعا كلامي، وموثوقا باهتمامي، فلا يقعن انقباض عني، وإعراض عما سبق مني. ومولاي محكم الإجابة إلى العمل فيما يقترحه، وغير مراجع فيما يشترطه، وهذا خطى به، وهو على ولي النعمة، حجة لايبقى معها شبهة، وسأتبع هذه المخاطبة بالمشافهة، إما بحضورى لديه، أو بتجشمه إلى هذا العليل الذى قد ألح النقرس عليه. وكان ابن عباد يحفظ هذه النسخة، ويرويها ويفتخر بها.
قال أبو حيان: وقال لي أصحابنا بالري، منهم أبو غالب الكاتب الأعرج، إن هذه المخاطبة من كلام ابن عباد، افتعلها عن ابن العميد إلى نفسه، تشيعا بها، ونفاقا بذكرها.
قال: وكان ابن عباد ورد الري سنة ثمان وخمسين، مع مؤيد الدولة، وحضر مجلس ابن العميد، وجرى بينه وبين مسكويه كلام، ووقع تجاذب، فقال مسكويه: فدعني حتى أتكلم، ليس هذا نصفة إذا أردت ألا أتكلم، فدع على فمي مخدة فقال الصاحب: بل أدع فمك على المخدة، وطارت النادرة ولصقت، وشاعت بين الناس وبقيت.
قال: ودخل الناس في مذهب ابن عباد، فقالوا بقوله، رغبة فيما لديه، واجتهد بالحسين المتكلم الكلابى، أن ينتقل إلى مذهبه، فقال الحسين: دعني أيها الصاحب أكن مستحدا لك، فما بقي غيري، فإن دخلت في المذهب، لم يبق بين يديك، من ينبو عليك قبيحه، ويبدو للناس عواره، فضحك وقال: قد أعفيناك يا أبا عبد الله. " وبعد " فما نبخل عليك بنارجهنم، أصل بها كيف شئت. قال لنا الحسين بعد ذلك: أترانى أصلى بنار جهنم، وعقيدتى وسريرتى معروفتان، ويتبوأ هو الجنة مع قتل النفس المحرمة، وركوب المحظورات العظيمة، وإن ظنه بنفسه لعجب، - لحي الله الوقاح - وقال يوما صدر قول الشاعر:
والمورد العذب كثير الزحام
فسكتت الجماعة، فقال ابن الداري:
يزدحم الناس على بابه

فأقبل عليه بغيظ وقال: ما عرفتك إلا متعجرفا جاهلا، أما كان لك بالجماعة أسوة.
قلت لأبى السلم نجبة بن علي القحطاني الشاعر: أين ابن عباد من ابن العميد؟ فقال: زرتهما منتجعا وزرتهما جميعا، فكان ابن العميد أعقل، وكان يدعي الكرم، وابن عباد أكرم، ويدعي العقل، وهما في دعواهما كاذبان، وعلى سجيتهما جاريان.
أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في ظل دولة ... جمال ولا مال تمنى انتقالها
وما ذاك من بغض لها غير أنه ... يؤمل أخرى فهو يرجو زوالها
فرفع إليه إنشادي، فأخذنى وأوعدني، وقال: انج بنفسك، فإنى إن رأيتك بعد هذا، أولغت الكلاب دمك، وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام، فأنشدت البيتين على سهو، فرفع الحديث إليه، فدعاني ووهب لى دريهمات وخريقات، وقال: لا تتمن انتقال دولتنا بعد هذا.
قال أبو السلم: هذا من أعذر الناس في الشعر، يحفظ الطم والرم، وقال الخليلي: الرجل مجنون " يعنى ابن عباد " في طباع المعلمين، سمعته يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر؟ وإن قلت كيف تجيد؟ وإن أجدت فكيف تغرز؟ وإن غزرت فكيف تروم غاية، وأنت لا تعرفما الزهزيق، وما الهبلع، وما العثلط، وما الجلعلع، وما القهقب، وما القهبلس، وما الخلبوس، وما الخزعبلة، وما القذعملة، وما العمروط، وما الجرفاس، وما اللئوس، وما النعشل، وما الطريال، وما الفرق بين العرم، والردم، والحدم، والحذم، والقضم، والخضم، والنضح، والرضح، والفصم، والقصم، والقصع، والفصع، وما العبنقس، وما العلنكس، وما الوكال، والزومل، ومالخيعثور، واليستعور، وما الشنعوف، وما الخذروف، وما الحلزون، وما القفندد، وما الجمعليل: قال الشاعر:
جاءت بخف وحنين ورحل ... جاءت تمشى وهى قدام الإبل
مشى الجمعليلة بالخرق النقل قال: ورأيت بعض الجهال يصحف ويقول: وحنين وزجل، قلت للخليلى من عنى بهذا؟ قال ابن فارس: معلم ابن العميد أبي الفتح، قال الخليلى: فهذا الضرب من الكلام يجب أن يفتخر بمثله، ويترقق به، إنك يا أبا حيان، لو رأيته يمشى وهو يهذي بهذا وشبهه، ويتفيهق ويلوي شدقيه عليه، ويقذف بالبصاق على أهل المجلس، لحمدت الله على العافية مما يلي هذا الرجل به، " وبعد " فما بين الشاعر وهذا الضرب؟ الشاعر يطلب لفظا حرا، ومعنى بديعا، ونظما حلوا، وكلمة رشيقة، ومثلا سهلا، ووزنا مقبولا.
قال أبو حيان: عندما قارب الفراغ من كتابه في أخلاق الوزيرين، ولو لا هذين الرجلين أعنى ابن عباد، وابن العميد، كانا كبيرى زمانهما، وإليهما انتهت الأمور، وعليهما طلعت شمس الفضل، وبهما ازدانت الدنيا، وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا، والقبيح يؤثر عنهما أثرا، لكنت لا أتسكع فى حديثهما هذا التسكع، ولا أنحى عليهما بهذا الحد، ولكن النقص ممن يدعي التمام أشنع، والحرمان من السيد المأمول فاقرة، والجهل من العالم منكر، والكبيرة ممن يدعى العصمة جائحة والبخل ممن يتبرأ منه بدعواه عجيب.
ولو أردت مع هذا كله، أن تجد لهما ثالثا في جميع من كتب للجبل والديلم، إلى وقتك هذا المؤرخ فى الكتاب لم تجد.
قال: وقال ابن عباد يوما: كان أبو الفضل " يعنى ابن العميد " سيدا، لم يشق غبارنا، ولا أدرك شوارنا، ولا مسح عذارنا، ولا عرف غرارنا، لا فى علم الدين، ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين. فأما ابنه: فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره، طياش قلاش، ليس عنده إلا قاش وقماش، مثل ابن عياش، والهروى الحواش، وولدت والشعرى في طالعي، ولو لا دقيقة لآدركت النبوة، وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها، والنصرة لها، فمن ذا يجارينا أو يبارينا، ويغارينا، أو يمارينا، ويشارينا.
قال: وسمعته يقول لابن ثابت، جعلك الله ممن إذا خرئ سطر، وإذا بال قطر، وإذا فسا غبر، وإذا ضرط كبر، وإذا أعجف عبر.
قال: وهذا سخف لا يليق بأصحاب الفرصة، والذين اختلفوا إلى الخندق، ودارك ومنوقان، والزبيدية، والرمادة، والخلد.
قال وأنشد أبو دلف الخزرجى:
يا ابن عباد بن عباس ... بن عبد الله حرها
تنكر الجبر وقد أخرجت ... من دنياك كرها

قال علي ابن عطاء: إن عطاء ابن عباد: لا يزيد على مائة درهم، وثوب إلى خمسمائة، وما يبلغ إلى الألف نادر، وما يوفى على الألف بديع، بلى، قد نال بن ناس من عرض جاهه على السنين، ما يزيد قدره على هذا بأضعاف، وعدد هؤلاء قليل جدا، وذلك بابتذال النفس، وهتك الستر.
قال: ولقد بلغ من ركاكته، أنه كان عنده أبو طالب العلوي، فكان إذا سمع منه كلاما يسجع فيه، وخبرا ينمقه ويرويه، يبلق عينيه، وينشر منخريه، ويرى أنه قد لحقه غشى حتى يرش على وجهه ماء الورد، فإذا أفاق قيل: ما أصابك؟ ما عراك؟ ما الذي نالك وتغشاك؟ فيقول: ما زال كلام مولاي يروقني ويؤنقني حتى فارقني لبي، وزايلني عقلي، وتراخت مفاصلي، وتخاذلت عرى قلبي، وذهل ذهني، وحيل بيني وبين رشدى، فيتهلل وجه ابن عباد عند ذلك، وينتفش ويضحك عجبا وجهلا، ثم يأمر له بالحباء والتكرمة، ويقدمه على جميع بنى أبيه وعمه، ومن ينخدع هكذا، فهو بالنساء الرعن أشبه، وبالصبيان الضعاف أمثل. وذكر الوزير أبو سعد، منصور بن الحسين الآبي في تاريخه، من جلالة قدر الصاحب، وعظم قدره في النفوس، وحشمته، مالم يذكر لوزير قبله، ولا بعده مثله، وأنا ذاكر ما ذكر على ما نسقه، قال: توفيت أم كافي الكفاة بأصبهان، وورد عليه الخبر، فجلس للتعزية يوم الخميس للنصف من محرم، سنة أربع وثمانين، وركب إليه سلطانه وولى نعمته، فخر الدولة، بن ركن الدولة معزيا، ونزل وجلس عنده طويلا يعزيه، ويسكن منه، وبسط الكلام معه بالعربية، وكان يفصح بها، فسمعته يقول حين أراد القيام: أيها الصاحب، هذا جرح لا يندمل، فأما سائر الأمراء والقواد، مثل منوجهر بن قابوس، ملك الجبل، وفولاذ بن ما نادر، أحد ملوك الديلم، وأبي العباس الفيروزان بن خالد، فخر الدولة وغيرهم، من الأكابر والأماثل، فإنهم كانوا يحضرون حفاة حسرا، وكان كل واحد منهم إذا وقعت عينه على الصاحب، قبل الأرض، ثم توالى بعد ذلك إلى ان يقرب منه، ويأمره بالجلوس فيجلس، وما كان يتحرك ولا يستوفز لأحد، بل كان جالسا على عادته فى غير أيام التعزية، فلما أراد القيام من المعزى بعد الثالث، كان أول من أمر أن يقدم إليه اللكاء منوجهر بن قابوس، فإنه قال: يحمل إلى أبي منصور ما يلبسه، فقدم إليه، ومنع من الخروج من الدار حافيا، ثم قدم بعد ذلك الحجاب والحاشية اللكاوات إلى الجماعة، فغضب فولاذ بن مانادر، والفولاذ دريدية عليه ذلك، وقالوا: ميز منوجهر من بين الجماعة، فاحتج الصاحب ببيته العظيم، ورياسته القديمة.
قال: وخطب كافي الكفاة ابنة أبى الفضل بن الداعي، لسبطه عباد بن الحسين، ووقع الإملاك فى داره يوم الخميس، لاربع خلون من شهر ربيع الأول، سنة أربع وثمانين، وكان يوما عظيما احتفل فيه كافي الكفاة، ونثر من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، لذلك أنفذ له فخر الدولة على يدى أحد حجابه الكبار، إلى هناك من النثار، ما زاد على مائة طبق عينا وورقا، وحضر الفولاذ دريدية بأسرهم، فإن الابنة المزوجة، كانت ابنة ديكونة بنت الحسن، بن الفيروزان، خالة فخر الدولة، وكان القوم أخوالها، وأضافهم الصاحب، ونصبت مائدة عظيمة في بيت طوله يزيد على خمسين ذراعا، وكانت بطول البيت، وأجلس عليه ستة أنفس، وكان فولاذ بن مانا وكبات بن بلقسم في الصدر، وبجنب فولاذ، أبو جعفر بن الثائر العلوي، وبجنبه الآخر، أبو القاسم بن القاضى العلوي، ودون أحد العلويين كاكي ابن يشكر زاد، ودون الآخر مرداويج الكلاري، ووقف أبو العباس الفيروزان، وعبد الملك بن ما كان للخدمة، ووقف كافي الكفاة أيضا ساعة، ووقف جميع أكابر الكتاب والحجاب، مثل الرئيس أبى العباس، أحمد بن إبراهيم الضبى، وأبى الحسين العارض، وأخيه أبى على، وابنه أبى الفضل، وأبى عمران الحاجب وغيرهم. إلى أن فرغ القوم من الأكل، ثم أكل هؤلاء مع الصاحب على مائدة منفردة، وأما قاضى القضاة، والأشراف والعدول، فإنهم أطعموا على مائدة أخرى فى بيت آخر.

قال: وكان نصر بن الحسين، بن الفيروزان، وهو خال فخر الدولة، مقداما شجاعا، قليل المبالاة، قد استعصى على فخر الدولة، واقتطع من بلاده، وتغلب عليها، واحتال على جماعة من عساكره، فقتلهم بأنواع القتل، ثم كسر له عدة عساكر، إلى أن تكاثرت عساكر فخر الدولة فكسرته، وشتتت جموعه، وهرب نحو خراسان، حتى صار إلى إسفرايين، ثم بدا له أن سلك طريق المفارة فيها، حتى ورد الى ليلة الجمعة، لست بقين من شوال، سنة أربع وثمانين، وقصد في الليل باب كافة الكفاة مستجيرا به، ومستعطفا له، فلم يرق له، ورد إلى دار بعض حجاب فخر الدولة، فحبس فيها.
قال الوزير أبو سعد: وكنت في هذه الليلة بحضرة كافي الكفاة، فأتاه الحاجب، وقد مضى هزيع من الليل، فأخبره بوقوف نصر بن الحسن، بن الفيروزان على الباب، خاشعا متضرعا، فرأيته قد تحبر في الأمر ساعة، ثم راسله بأن السلطان الأعظم - يعني فخر الدولة - ساخط عليك، ولا يجوز لي أن آذن لك في دخول داري، إلا بعد تترضاه، وتستعطف قلبه، فإذا عفا عنك ورجع لك، فالدار بين يديك، وأنا معين لك. فعاد الحاجب إليه بذلك، ورجع فقال: إنه امتنع من العود وقال: إنما جئت إلى الصاحب لائذا به، ومنقطعا إليه، ولا أعرف غيره، وأنا أحتاج أن يدبر أمري، ويجبرني ويحامي على، ويذب عني، فرأيت الصاحب وقد مال رأيه بين إحدى خصلتين: إما أن يستمر على المنع ولا يأذن له، وإما أن يأذن له، ويجعل داره بما فيها من الخزائن له، وينتقل هو إلى دار كانت لحاجبه الراوندي، وكان قد أضافها بعد موت هذا الحاجب إلى داره. ثم تقرر رأيه على صرفه، واستمر نصر على الإلحاح فى الخضوع، والاجتهاد أن يأذن له في الدخول، وانتقل من الباب الكبير إلى باب الخاصة، سأل واجتهد إلى أن جاءه من قبل فخر الدولة، علوسة الحاجب وحبسه، وكان هذا الفعل من الصاحب مستهجنا، يعجب الناس منه، وتحدثوا به واستقبحوه، مع ما اظهره نصر من الاستكانة والاستجارة به. وأظن أنه لم يفعل ذلك، إلا لأنه جبن عن الاجتماع معه في دار واحدة، مع العداوة المتأكدة بينهما، والضغينة الراسخة في قلب كل واحد منهما.
ثم ذكر وفاة الصاحب، في الوقت الذى ذكره غيره، وكما ذكرناه آنفا. ثم قال: وتوفي فخر الدولة عشية يوم الثلاثاء، عاشر شعبان، وكان مبلغ عمره أربعا وأربعين سنة، وستة أشهر وأياما. ثم وصف أخلاقه وجيوشه، وقلاعه وأمواله، التي خلفها، ثم قال: فأما الوزارة في أيامه، فكانت أشهر من أن يحتاج إلى ذكرها، فإن اول وزرائه كان كافي الكفاة. وأسنة الأقلام، وعذبات الألسنة تكل دون أيسر أوصافه، وأدنى فضائله، ولو لا ما آل إليه أمر الوزارة في هذه الأيام، واعتقاد من لم يعلم حالها فى ذلك الزمان، بأن الأمر كان ولم يزل على ما نراه، أو قريبا منه وشبيها به، لأمسكنا عن ذكره، ولكنا نذكر يسيرا من أحواله، فإن هؤلاء الذين ذكرناهم من أبناء الملوك، والأمراء والقواد، وسائر من ساواهم من الزعماء والكبار، مثل أولاد مؤيد الدولة، وابن عز الدولة، ومنوجهر بن قابوس، بن وشمكير، وأبى الحجاج بن ظهير الدولة، وأسفهيد بن أسفار، وحسن بن وشمكير، وفولاذ بن مانادر، ونصر بن الحسن بن الفيروزان، وأبى العباس الفيروزان، ابن الحسن، بن الفيروزان، وكبات بن بلقسم، بن الفيروزان، وحيدر بن وهسوذان، وكيخسرو بن المرزبان، ابن السلار، وجستان بن نوح، بن وهسوذان، وشيرزيل ابن سلار، بن شيرزيل، وكان في يد كل واحد من هؤلاء من الأقطاع، ما يبلغ ارتفاعه خمسين ألف دينار، وما دونها إلى عشرين ألف دينار، ومن اكابر القواد ما يطول تعدادهم، كانوا يحضرون باب داره، فيقفون على دوابهم مطرقين، لايتكلم واحد منهم هيبة وإعظاما لموضعه، إلى أن يخرج أحد خلفاء حجابه، فيأذن لبعض أكابرهم، ويصرفهم جملة، فكان من يؤذن له فى الدخول، يظن أنه قد بلغ الآمال، ونال الفوز بالدنيا والآخرة، فرحا ومسرة، وشرفا وتعظيما، فإذا حصل فى الدار، وأذن له فى الدخول إلى مجلسه، قبل الأرض عند وقوع بصره عليه، ثلاث مرات أو أربعا، إلى أن يقرب منه، فيجلس من كانت رتبته الجلوس، إلى أن يقضى كل واحد منهم وطره من خدمته، ثم ينصرف، بعد أن يقبل الأرض أيضا مرارا. ولم يكن يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام، ولا يطمع منه أحد فى ذلك.

ونزل بالصيمرة عند عوده من الأهواز، فدخل عليه شيخ من زهاد المعتزلة، يعرف بعبد الله بن إسحاق، فقام له: فلما خرج التفت كافى الكفاة وقال: ما قمت لأحد مثل هذا القيام، منذ عشرين سنة، وإنما فعل ذلك به لزهده، فإنه كان أحد أبدال دهره، فأما العلم فقد كان يرى من هو أعلم منه، فلا يحفل به. وأما هيبته في الصدور، ومخافته في القلوب، وحشمته عند الصغير والكبير، والبعيد والقريب، فقد بلغت إلى أن كان صاحبه فخر الدولة، ينقبض عن كثير مما يريده بسببه، ويمسك عما تشره إليه نفسه لمكانه، وقد ظهر ذلك للناس بعد موته، وانبساط فخر الدولة فيما لم يكن من عادته، فعلم أنه كان يزم نفسه لحشمته، ثم كان يحله محل الوالد إكراما وإعظاما، ويخاطبه بالصاحب شفاها وكتابا، فأما أكابر الدولة، فكان الواحد إذا رأى أحد حجابه، بل أحد الأصاغر من حاشيته، فإن فرائضه كانت ترتعد، وجوانحه كانت تصطفق، إلى أن يعلم ما يريده منه، ويخاطبه به.
وتظلمت إليه امرأة من صاحب لفولاذ بن مانادر، وذكرت أنه ينازعها في حق لها، فما زاد على أن التفت إلى فولاذ، وكان في موكبه يسير خلفه، فبهت وتحير، وارتعد ووقف، ولم يبرح إلى أن سار كافى الكفاة، ثم أرسل مع المرآة من أرضاها، وأزال ظلامتها، ومثل هذا كثير يطول الكتاب ببعضه، فكيف يتسع لكله.
وأما أسبابه وحاشيته، وهيبته ورتبته، فإن من أيسرها أنه كان له عدة من الحجاب، منهم من على مربطه ثلاثمائة رأس من الدواب، أو ما يقاربها، وكانت أحوال بلكا الحاجب، تزيد على ذلك زيادة كثيرة، فإنه كان على مربط خليفة له يعرف بيزيدة، كثير من الخيل العتاق الموصوفة، وكان لا يستغني عنها، لأنه كان موقوفا على حفظ الطرق، وطلب الأكراد، وأهل العيث وصيانة السابلة، وكان ما يخرج لكافى الكفاة فى السنة، في وجوه البر والصدقات والمبرات، وصلات الأشراف وأهل العلم، والغرباء الزوار، ومن يجري مجرى ذلك، مما يتكلفه به صيت الدنيا، وأجر الآخرة، يزيد على مائة ألف دينار.
وانتقلت الوزارة عنه إلى أبى العباس، أحمد بن إبراهيم الضبي، وأبي علي الحسن، بن أحمد، بن حمولة، والسياسة التى قد سنها هو باقية، وحشمة الوزارة ثابتة، والأمور على ما عهد في أيامه جارية، وكان لهما من الحشم والحاشية، والتجمل والزينة، مثل ما كان له، بل كان فوقه فى الغنى والثروة، وإن لم يلحقاه في الفضل والمكرمة.
قال غرس النعمة: حدث أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى النصيبي قال: كان أبو الفتح على بن أبى الفضل، بن العميد، قد دبر على الصاحب بن عباد، حتى أزاله عن كتابة الأمير مؤيد الدولة، وأبعده عن حضرته بالري إلى أصفهان، وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة، كما كان يدبرها لأبيه ركن الدولة، واستدعى يوما ندماءه، وعبأ لهم مجلسا عظيما، وأظهر من الزينة وآلات الفضة، والذهب والصينى وما شاكله، ما يفوت الحصر، وشرب واستفزه الطرب، وكان قد شرب يومه وليلته، فعمل شعرا غنى به، وهو:
دعوت المنى ودعوت العلا ... فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لأيام شرخ الشباب ... ألا إن هذا أوان المرح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
فلما غنى بالشعر استطابه، وشرب عليه إلى أن سكر، وقال لغلمانه: غطوا المجلس، ولاتسقطوا منه شيئا، لأصطبح في غد عليه، وقال لندمائه: باكروني، وقام إلى بيت منامه، وانصرف عنه الندماء، فدعاه مؤيد الدولة في السحر، فلم يشك أنه لمهم، فقبض عليه، وأنفذ إلى داره من استولى على جميع ما فيها وأعاد ابن عباد إلى وزارته، وطاولت بابن العميد النكبة، حتى مات فيها، كما ذكرناه فى ترجمته.
ثم وزر ابن عباد بعد مؤيد الدولة لأخيه فخر الدولة، فبقى فى الوزارة ثمانى عشرة سنة وشهورا، وفتح خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة، لم يجتمع عشر منها لأبيه ولا أخيه، وسمع الصاحب الحديث وأملى.

فحدث أبو الحسن، على بن محمد الطبري الكيا قال: لما عزم الصاحب بن عباد، على الإملاء وهو وزير، خرج يوما متطلسا متحنكا بزى أهل العلم، فقال: قد علمتم قدمي في العلم، فأقروا له بذلك، فقال: وأنا متلبس بهذا الأمر، وجميع ما أنفقته من صغرى إلى وقتي هذا، من مال أبي وجدي، ومع هذا فلا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أنى تائب إلى الله، من ذنب أذنبته. واتخذلنفسه بيتا وسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، ثم خرج فقعد للإملاء، وحضر الخلق الكثير، وكان المستملى الواحد ينضاف إليه ستة، كل يبلغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار، وأهدي إليه العميري كتبا، وكتب معها:
العميري عبد كافي الكفاة ... وإن اعتد في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتب ... مفعمات من حسنها مترعات
فوقع الصاحب تحتها:
قد قبلنا من الجميع كتابا ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعى ... قول خذ، ليس مذهبى قول هات
حدث أبو الرجاء الضرير، الشطرنجي العروضي، الشاعر الأهوازي بالأهواز، قال: قدم علينا الصاحب ابن عباد، في السنة التى جاء فيها فخر الدولة، ولقيه الناس ومدحه الشعراء، فمدحته بقصيدة قلت فيها:
إلى ابن عباد أبى القاسم الصاحب ... إسماعيل كافي الكفاة
فقال: قد كنت والله أشتهي بأن تجتمع كنيتي واسمي، ولقبى واسم أبي في بيت، فما انتهيت إلى قولي فيها: ويشرب الجيش هنيئا بها فقال يا أبا الرجاء: أمسك، فأمسكت، فقال:
ويشرب الجيش هنيئا بها ... من بعد ماء الري ماء الصراة
هكذا هو؟ قلت نعم، قال: أحسنت، قلت يا مولاي: أحسنت أنت، عملت أنا هذا في ليلة، وأنت عملته في لحظة.
قال عبد الله الفقير غليه: وممن ذكر نسب الممدوح كاملا، الحارث الدؤلي، في عاصم بن عمرو، بن عثمان، ابن عفان:
إليك ابن عثمان بن عفان عاصم بن ... عمرو سرت عيس فطال سراها
ومن مستحسن شعر الصاحب:
دعتنى عيناك نحو الصبا ... دعاء تكرر في كل ساعة
فلو لا " وحقك " عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعا وطاعة
وحدث البديع الهمذانى قال: كان بعض الفقهاء ويعرف بابن الحضيري، يحضر مجلس الصاحب بالليالى، فغلبته عينه ليلة فنام، وخرجت منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب أبلغوه عني:
يا بن الحضيرى لا تذهب على خجل ... لحادث كان مثل الناى والعود
فإنها الريح لا تسطيع تحبسها ... إذ لست أنت سليمان بن داوود
ولأبى بكر الخوارزمى في ابن عباد:
لاتحمدن ابن عباد وإن هطلت ... كفاه يوما ولاتذممه إن حرما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فلما مات الخوازمي، بلغ الصاحب وفاته فقال:
أقول لركب من خراسان رائح ... أمات خوارزميكم؟ قيل لي نعم:
فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ... " ألا لعن الرحمن من كفر النعم "
وحدث أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي، في كتاب مشارب التجارب، وذكر الصاحب فقال: أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس، الوزير ابن الوزير، كما قال الرستمي فيه:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزارته ... واسماعيل عن عباد
قال: مولده بكورة فارس، في ذي العقدة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة، ومدحه خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين، وممن كان ببابه: قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الأسدأباذى، وكان قد فوض إليه قضاء همذان والجبال، واستقبل القاضي عبد الجبار الصاحب يوما، فلم يترجل له، فقال: أيها الصاحب، أريد أن أترجل للخدمة، ولكن العلم يأبى ذلك، وكان يكتب في عنوان كتابه: " إلى الصاحب: داعيه، عبد الجبار بن أحمد " ثم كتب " وليه عبد الجبار بن أحمد " ، ثم كتب " عبد الجبار بن أحمد " فقال الصاحب لندمائه: أظنه يؤول أمره إلى أن يكتب الجبار.
وأنشد الصاحب لنفسه يرثي:
يقولون لي أودى كثير بن حمد ... وذلك رزء ما علمت جليل

فقلت دعوني والعلا نبكه معا ... فمثل كثير في الرجال قليل
وذكر هلال بن المحسن، عن أبي طاهر بن الحمامي، عن الأنباري الكاتب، قال: ورد إلى الصاحب رجل من أهل الشام، فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال: رسائل بن عبد كان. قال ومن؟ قال: رسائل الصابيء. وغمزه أحد جلسائه ليقول: رسائل الصاحب فلم يفطن، ورآه الصاحب فقال: تغمز حمارا لا يحس وكان صاحب خراسان، الملك نوح بن منصور السامانى، قد أرسل إلى الصاحب في السر يستدعيه إلى حضرته، ويرغبه في خدمته، وبذل البذول السنية، فكان من جملة اعتذاره أن قال: كيف يحسن لي مفارقة قوم بهم ارتفع قدرى، وشاع بين الأنام ذكرى، ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي؟ وعندي من كتب العلم خاصة، ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر.
قال أبو الحسن البيهقي: وأنا أقول: بيت الكتب الذى بالرى، دليل على ذلك، بعدما أحرقه السلطان محمود ابن سبكتكين، فإني طالعت هذا البيت، فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلدات، فإن السلطان محمودا لما ورد إلى الري، قيل له: إن هذه الكتب، كتب الروافض، وأهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان فى علم الكلام، وأمر بحرقه. وللصاحب من التصانيف: كتاب المحيط باللغة عشرة مجلدات، كتاب ديوان رسائله عشرة مجلدات، كتاب الكافى رسائل، كتاب الزيدية، كتاب الأعياد وفضائل النوروز، كتاب في تفضيل على بن أبى طالب. وتصحيح إمامة من تقدمه، كتاب الوزراء لطيف، كتاب عنوان المعارف في التاريخ، كتاب الكشف عن مساوئ المتنبى، كتاب مختصر أسماء الله تعالى وصفاته، كتاب العروض الكافى، كتاب جوهرة الجمهرة، كتاب نهج السبيل فى الأصول، كتاب أخبار أبي العيناء، كتاب نقض العروض، كتاب تاريخ الملك واختلاف الدول، كتاب الزيدين، كتاب ديوان شعره.
وقال بعض ولد المنجم بعد وفاة الصاحب، وقد استوزر أبو العباس الضبى، ولقب بالرئيس، وضم إليه أبو علي، ولقب بالجليل:
والله و الله لا أفلحتم أبدا ... بعد الوزير ابن عباد بن عباس
إن جاء منكم جليل فاقطعوا أجلي ... أو جاء منكم رئيس فاقطعوا راسي
ومن شعر الصاحب:
وشادن جماله ... يقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت: لا بل شفتي
وله:
قال لى إن رقيبى ... سيء الخلق فداره
قلت: دعنى وجهك ... الجنة حفت بالكاره
وله أيضا:
أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحت عزاليها بسكب ... حوالينا الصدود ولا علينا
حدث الوزير أبو العلاء بن حسولي قال: كان دينار المجوسي صدرا في ديوان الري، وكان مدنرا مدرهما ممولا، فكتب رجل إلى الصاحب:
لم لا يفرق في ديوان عسكره ... كافي كفاة الورى دينار دينار
فإن أيسر ما في قطع شأفته ... تطهير ديوانه من عابدي النار
فقبض عليه وصادره، واستوفى منه مالا عظيما، والسبب فى ذلك البيتان.
وحدث ابن بابك قال: سمعت الصاحب يقول: مدحت والعلم عند الله، بمائة ألف قصيدة شعر، عربية وفارسية وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء، والزوار والقصاد، ما سررت بشعر، ولا سرني شاعر، كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصفهاني بقوله:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... مرفوعة الإسناد بالإسناد
يروى عن العباس عباد وزارته ... وإسماعيل عن عباد
وقال أبو الحسن، علي بن الحسين الحسني، ختن الصاحب يرثيه:
ألا إنها يمنى المكارم شلت ... ونفس المعالي إثر فقدك سلت
حرام على الظلماء إن هي قوضت ... وحجر على شمس الضحى إن تجلت
لتبك على كافي الكفاة مآثر ... تباهي النجوم الزهر في حيث حلت
لقد فدحت فيه الرزايا وأوجعت ... كما عظمت فيه العطايا وجلت
ألا هل أتى الآفاق أية غمة ... أطلت، ونعمى أي دهر تولت
وهل تعلم الغبراء ماذا تضمنت ... وأعواد ذاك النعش ماذا أقلت؟
فلا أبصرت عينى تهلل بارق ... يحاكي ندى كفيك إلا استهلت ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...