Translate

الجمعة، 10 مارس 2023

ج9وج10.كتاب معجم الأدباء ياقوت الحموي

 

ج9وج10.كتاب معجم الأدباء

 

  ياقوت الحموي   

 وأظهر السر مختارا بلا سبب ... وذاك والله من أوفى الجنايات
أما أتاه عن المختار في خبر ... إن المجالس تغشى بالأمانات
قال السمعاني وأنشدني لنفسه بنيسابور:
لا قدس الله نيسابور من بلد ... ما فيه من صاحب يسلى ولا سكن
لولا الجحيم الذي في القلب من حرق ... لفرقه الأهل والأحباب والوطن
لمت من شدة البرد الذي ظهرت ... آثار شدته في ظاهر البدن
يا قوم دوموا على عهد الهوى وثقوا ... إني على العهد لم أغدر ولم أخن
ولا تدبرت عيشي بعد بعدكم ... إلا تمثلت بيتاً قيل من زمن
فإن أعش فلعل الله يجمعنا ... وإن أمت فقتيل الهم والحزن
على بن الحسن بن إسماعيلابن أحمد بن جعفر بن محمد بن صالح بن حسان ابن حصن بن معلى بن أسد بن عمرو بن مالك بن عامر بن معاوية بن عبد الله بن مالك بن عامر بن الحارث بن إنمار بن وديعة بن الكيدي بن أقصى بن عبد القيس ابن أقصى بن دعمى بن جديلة بن لبد بن ربيعة بن نزار ابن معد بن عدنان، أبو الحسن العبدري من أهل البصرة يعرف بابن المقلة، هكذا أملى نسبه على جماعةٍ، وهو شيخ فاضل له معرفة بالأدب والعروض، وله كتب وتصانيف في ذلك، ويقول الشعر ويترسل. مات بالبصرة في رابع عشر شعبان سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، ومولده سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائةٍ، سمع بالبصرة أبا محمد جابر بن محمد الأنصاري، وأبا العز طلحة بن علي بن عمر المالكي، وأبا الحسن على بن عبد الله بن عبد الملك الواعظ، وأبا اسحاق إبراهيم بن عطية الشافعي إمام الجامع بالبصرة وغيره، وقرأ بها الأدب على أبي على الأحمر، وأبي العباس بن الحريري، وأبي العز بن أبي الدنيا، وقدم بغداد مراراً وسمع بها من أبي الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري، وأبي الفضل محمد بن ناصر السلامي، وأبي بكر الزاغوني وغيرهم، وعاد إلى بلده وخرج لنفسه فوائد في عدة أجزاءٍ عن شيخه، وأقرأ الناس الأدب، وكان متحققاً بعلم العروض ونعم الشيخ، وكان محمود الطريقة.
قال أبو عبد الله: أنشدني أبو الحسن على بن الحسن العبدري لنفسه:
شيمتي إن أغض طرفي في ال ... دار إذا ماد خلتها لصديق
وأصون الحديث أودعه صو ... ني سري ولا أخون رفيقي
قال: وأنشدني أيضا لنفسه:
لا تسلك الطرق إذا أخطرت ... لو إنها تفضي إلى المملكة
قد أنزل الله تعالى: ولا ... تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
علي بن الحسين المسعودي المؤرخأبو الحسن، من ولد عبد الله بن مسعود صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل المغرب، مات فيما بلغني في سنة ست وأربعين وثلاثمائة بمصر، قال مؤلف الكتاب: وقول محمد بن إسحاق: إنه من أهل المغرب غلط، لأن المسعودي ذكر في السفر الثاني من كتابه المعروف بمروج الذهب وقد عدد فضائل الأقاليم، ووصف هواها واعتدالها ثم قال: وأوسط الأقاليم إقليم بابل الذي مولدنا به، وإن كانت ريب الأيام أنات بيننا وبينه، وساحقت مسافتنا عنه، وولدت في قلوبنا الحنين إليه إذ كان وطننا ومسقطنا، وقد كان هذا الإقليم عند ملوك الفرس جليلاً، وكانوا يشتون بالعراق، ويصيفون بالجبال. فقال أبو دلف العجلي:
إني أمرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراق
وقد كانت الأوائل تشبهه بالقلب في الجسد، لأن أرضه هي التي كشفت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما يرتفع ذلك عن القلب، ولذلك اعتدلت ألوان أهله وامتدت أجسامهم، فسلموا من شقرة الروم والصقالبة وسواد الحبشة وغلظ البربر، واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار، وكما اعتدلوا في الخلقة لطفوا في الفطنة، وأشرف هذه الأقاليم مدينة السلام ويعز على ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فصلنا، لكنه الدهر الذي من شيمته التشتيت، والزمن الذي من شريطته الآفات، ولقد أحسن أبو دلف في قوله:
أيا نكبة الدهر التي طوحت بنا ... أيادي سبا في شرقها والمغارب

ومن علامة وفاء المرء: دوام عهده وحنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، ومن علامة الرشد: أن تكون النفس إلى مولدها تائقة، وإلى مسقط رأسها شائقة.
فهذا يدلك على إن الرجل بغدادي الأصل، وإنما أنتقل إلى ديار مصر فأقام فيها. وهو يحكي في كتبه كثيراً ويقول: رأيت أيام كوني بمصر كيت وكيت، وله من الكتب: كتاب مروج الذهب ومعادن الجواهر في تحف الأشراف والملوك، كتاب ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور، كتاب الرسائل، كتاب الاستذكار لما مر في سالف الإعصار، كتاب التاريخ في أخبار الأمم من العرب والعجم، كتاب التنبيه والأشراف، كتاب خزائن الملك وسر العالمين، كتاب المقالات في أصول الديانات، كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، كتاب البيان في أسماء الأئمة، كتاب أخبار الخوارج.
علي بن الحسين بن محمد بن الهيثمابن عبد الرحمن بن مر وان بن عبد الله بن مر وان بن محمد بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف أبو الفرج الأصبهاني العلامة النساب الأخباري الحفظة، الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراسة، لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها وحسن استيعاب ما يتصدى لجمعه، وكان مع ذلك شاعراً جيداً، مات في رابع ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائةٍ في خلافة المطيع لله، ومولده سنة أربعٍ وثمانين ومائتين.
روى عن أبي بكر بن در يد وأبي بكر بن الأنباري. والفضل بن الحباب الجمحي، وعلى بن سليمان الأخفش، وإبراهيم نفطوية.
وجدت على الهامش بخط المؤلف تجاه وفاته ما صورته: وفاته هذه فيها نظر وتفتقر إلى التأمل، لأنه ذكر في كتاب أدب الغرباء من تأليفه: حدثني صديق قال: قرأت على قصر معز الدولة بالشماسية يقول فلان بن فلان الهروي، حضرت هذا الموضع في سماط معز الدولة والدنيا عليه مقبلة، وهيبة الملك عليه مشتملة، ثم عدت إليه في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فرأيت ما يعتبر به اللبيب يعني من الخراب. وذكر في موضعٍ آخر من كتابه هذا قصة له مع صبيٍ كان يحبه ذكرتها بعد هذا يذكر فيه موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار، وكان ذلك في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ويزعم في تلك الحكاية إنه كان في عصر شبابه فلا أدري ما هذا الاختلاف؟ - آخر ما كان على الهامش - .
وقال الوزير أبو القاسم الحسن بن الحسن المغربي، في مقدمة ما أنتخبه من كتاب الأغاني إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار، وبلغ ذلك الصاحب أبا القاسم بن عباد فقال: لقد قصر سيف الدولة وإنه يستأهل أضعافها، ووصف الكتاب فأطنب ثم قال: ولقد اشتملت خزائني على مائتين وستة الألف مجلد ما منها ما هو سميري غيره، ولا راقني منها سواه.
قال: وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة: لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره، وإنه كان جليسه الذي يأنس إليه وخدينه الذي يرتاح نحوه.
قال: وقال أبو محمدٍ المهلبي. سألت أبا الفرج في كم جمعت هذا الكتاب؟ فقال: في خمسين سنةً، قال: وإنه كتبه مرةً واحدةً في عمره، وهي النسخة التي أهداها إلى سيف الدولة.
قال المؤلف: لعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر، شائع الذكر، جم الفوائد، عظيم العلم، جامع بين الجد البحت والهزل النحت، وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به، وطالعته مراراً وكتبت به نسخةً بخطي في عشر مجلداتٍ، ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بأخبار الشعراء فأكثرت وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: وقد طالت أخباره هاهنا وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر. ولم يفعل، وقال في موضع آخر: أخبار أبي النواس مع جنان إذا كانت سائر أخباره قد تقدمت. ولم يتقدم شيء إلى أشباه لذلك، والأصوات المائة هي تسع وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء، أو يكون النسيان قد غلب عليه والله أعلم.

قال المؤلف: وتصانيفه كثيرة وهذا الذي يحضرني منها: كتاب الأغاني الكبير، كتاب مجرد الأغاني، كتاب التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وإنسابها لم أره، وبودي لو رأيته ذكره هو في كتاب الأغاني، كتاب مقاتل الطالبيين، كتاب أخبار القيان، كتاب الإماء الشواعر، كتاب المماليك الشعراء، كتاب أدباء الغرباء، كتاب الديانات، كتاب تفضيل ذي الحجة، كتاب الأخبار والنوادر، كتاب أدب السماع، كتاب أخبار الطفيليين، كتاب مجموع الأخبار والآثار، كتاب الخمارين والخمارات، كتاب الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار، وهي رسالة عملها في هارون بن المنجم، كتاب دعوة النجار، كتاب أخبار جحظة البرمكي، كتاب جمهرة النسب، كتاب نسب بني عبد شمس، كتاب نسب بني شيبان، كتاب نسب المهالبة، كتاب نسب بني تغلب، كتاب الغلمان المغنين، كتاب مناجيب الخصيان عمله للوزير المهلبي في خصيين مغنيين كانا له. وله بعد تصانيف جياد فيما بلغني كان يصنفها ويرسلها إلى المستولين على بلاد المغرب من بني أمية، وكانوا يحسنون جائزته، ولم يعد منها إلى الشرق إلا القليل والله أعلم.
حدث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ في الكتاب الذي ألفه في أخبار الوزير المهلبي واسمه الحسن بن محمد بن هارون ابن إبراهيم بن عبد الله بن زيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة وزير معز الدولة بن بويه الديلمي قال: وكان أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني من ندماء الوزير أبي محمد الخصيصين به، وكان وسخاً قذراً لم يغسل له ثوباً منذ فصله إلى أن قطعه، وكان المهلبي شديد التقشف عظيم التنطس، وكان يحتمل له ذلك لموضعه من العلم. فقال فيه: كان أبو الفرج على بن الحسين الأصفهاني، أموي النسب عزيز الأدب، عالي الرواية حسن الدراية، وله تصنيفات منها: كتاب الأغاني، وقد أورد فيه ما دل به على اتساع علمه وكثرة حفظه، وله شعر جيد الأ إنه في الهجاء أجود، وإن كان في غيره غير متأخر، وكان الناس في ذلك العهد يحذرون لسانه، ويتقون هجاءه ويصبرون في مجالسته ومعاشرته ومواكلته ومشاربته على كل صعب من أمره، لأنه كان وسخاً في نفسه، ثم في ثوبه ونعله، حتى إنه لم يكن ينزع دراعة الأ بعد إبلائها وتقطيعها، ولا يعرف لشيء من ثيابه غسلاً، ولا يطلب منه في مدة بقائه عوضاً.
فحدثني جدي وسمعت هذا الخبر من غيره لأنه متفاوض متعاود: إن أبا الفرج كان جالساً في بعض لأيام على مائدة أبي محمدٍ المهلبي فقدمت سكباجه وافقت من أبي الفرج سعلةً فبدرت من فمه قطعة من بلغم فسقطت وسط الغضارة، فتقدم أبو محمد برفعها وقال: هاتوا من هذا اللون في غير الصحفة، ولم يبن في وجهه إنكار ولا استكراه، ولا داخل أبا الفرج في هذا الحال استحياء ولا إنقباض. هذا إلى ما يجري هذا المجرى على مضى الأيام، وكان أبو محمد عزوف النفس بعيداً من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا إنه كان يتكلف احتمالها لورودها من أبي الفرج، وكان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله، إنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وأمثاله وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقةً زجاجاً مجروداً، وكان يستعمله كثيراً فيأخذ منه ملعقةً يأكل بها من ذلك اللون لقمةً واحدةً، ثم يدفعها إلى غلامٍ آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعةً ثانيةً، فلما كثر على المهلبي استمرار ما قدمنا ذكره، جعل له مائدتين: إحداهما كبيرة عامة، وأخرى لطيفة خاصة، وكان يواكله عليها من يدعوه إليها.
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكر مثل هذا عن أبي رياش أحمد بن إبراهيم اللغوي وقد ذكرناه في بابه. قال هلال: وعلى صنع أبي محمد بأبي الفرج وما كان يصنعه فما خلا من هجوه حيث قال فيه:
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أملت للإحسان غير الخالق

قال ابن الصابئ: وحدثني جدي أيضاً قال: قصدت أنا وأبو علي الأنباري وأبو العلاء صاعد دار أبي الفرج لقضاء حقه وتعرف خبره من شيءٍ وجده، وموقعها على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة، وملاصقة لدار أبي الفتح البريدي، وصعد بعض غلماننا لإيذانه بحضورنا، فدق الباب دقاً عنيفاً حتى ضجر من الدق وضجرنا من الصبر، قال: وكان له سنور أبيض يسميه يققا، ومن رسمه إذا قرع الباب قارع إن يخرج ويصيح إلى إن يتبعه غلام أبي الفرج لفتح الباب أو هو نفسه، فلم نر السنور في ذلك اليوم، فأنكرنا الأمر وازددنا تشوقاً إلى معرفة الخبر، فلما كان بعد أمدٍ طويلٍ صاح صائح إن نعم، ثم خرج أبو الفرج ويده متلوثة بما ظنناه شيئاً كان يأكله فقلنا له: عققناك بان قطعناك عما كان أهم من قصدنا إياك. فقال: لا والله يا سادتي، ما كنت ما تظنون، وإنما لحق يققاً يعني سنورة قولنج. فاحتجت إلى حقنه فأنا مشغول بذلك، فلما سمعنا قوله ورأينا الفعل في يده ورد علينا أعظم مورد من أمره لتناهيه في القذارة إلا مالاغاية بعده وقلنا: ما يجوز إن نصعد إلى عندك فنعوقك عن استتمام هاأنت فيه، وإنما جئناك لتعرف خبرك، وقد بلغنا ما أردناه وانصرفنا.
قال: واختاره في كل شيء مريح، وكانت صحبته له قبل الوزارة وبعدها إلى إن فرق بينهما الموت. وكتب أبو الفرج إلى المهلبي يشكر الفأر ويصف الهر:
يا لحدب الظهور قعص الرقاب ... لدقاق الأنياب والأذناب
خلقت للفساد مذ خلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقباتٍ في الأرض والسقف والحي ... طان نقباً أعيا على النقاب
آكلاتٍ كل المآكل لاتأ ... منها شارباتٍ كل الشراب
ألفاتٍ قرض الثياب وقد يع ... دلقرض القلوب قرض الثياب
زال همي منهن أزرق تركي ... ي السبالين إنمر الجلباب
ليث غابٍ خلقاً وخلقاً فمن لا ... ح لعينه خاله ليث غاب
ناصب طرفه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينتضي الظفر حين يطفر للصي ... د ولا فظفره في قراب
لا يرى أخبثيه عينا ولا يع ... لم ما جنتاه غير التراب
قرطقوه وشنفوه وحلو ... ه أخيراً وأولاً بالخضاب
فهو طوراً يمشي بحلي عروس ... وهو طوراً يخطو على عناب
حبذا ذاك صاحباً وهو في الصح ... بة أوفى من أكثر الأصحاب
وحدث القاضي أبو علي الحسن بن علي التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة قال: ومن طريف أخبار العادات إني كنت أرى أبا الفرج على بن الحسن الأصفهاني الكاتب نديم أبي محمد المهلبي صاحب الكتب المصنفة في الأغاني والقيان، وغير ذلك دائماً إذا ثقل الطعام في معدته، وكان أكولاً نهماً، يتناول خمسة دراهم فلفلاً مدقوقاً فلا تؤذيه ولاتدمعه، وأراه يأكل حمصةً واحدةً أو يصطبغ بمرقة قدرٍ فيها حمص فيسرهج بدنه كله من ذلك، وبعد ساعةٍ أو ساعتين يفصد، وربما فصد لذلك دفعتين، وأساله عن سبب ذلك فلا يكون عنده علم منه، وقال لي غير مرةٍ: إنه لم يدع طبيباً حاذقاً على مرور السنين الأ سأله عن سببه، فلا يجد عنده علماً ولا دواءً، فلما كان قبل فالجه بسنواتٍ ذهبت عنه العادة في الحمص فصار يأكله فلا يضره وبقيت عليه عادة الفلفل. ومن كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: وحدث أبو الفرج على بن الحسين الأصفهاني قال: سكر الوزير أبو محمد المهلبي ليلةً ولم يبق بحضرته من ندمائه غيري فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم إنك تهجوني سرا فاهجني الساعة جهراً. فقلت: الله الله أيها الوزير في، إن كنت قد مللتني انقطعت، وإن كنت تؤثر قتلي فبالسيف إذا شئت. فقال: دع ذا لابد إن تهجوني وكنت قد سكرت فقلت:
أير بغل بلولب
فقال في الحال مجيزا:
في حر أم المهلبي
هات مصراعا آخر: فقلت: الطلاق لازم للأصفهاني إن زاد على هذا وإن كان عنده زيادة، قرأت بخط أبي على المحسن بن هلال الصابئ صاحب الشامة لأبي الفرج الأصفهاني يهجو أبا الحسن طازاد النصراني الكاتب:
طازاد مشتق من الطيز ... فعد عن ذكر فتى الحوز

كان رجليه إذا مامشى ... مخنث يلعب بالشيز
قرأت بخط هلال بن المظفر الكاتب الزنجاني: حدثني الأستاذ أبو المظفر عبد الغفار بن غنيمة قال: كان أبو الفرج الكاتب الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني كاتباً لركن الدولة حظياً عنده محتشماً لديه، وكان يتوقع من الرئيس أبي الفضل بن العميد إن يكرمه ويبجله ويتوفر عليه في دخوله وخروجه، وعدم ذلك منه فقل:
مالك موفور فما باله ... أكسبك التيه على المعدم؟
ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتمم
وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول قدم طرفه قدم
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم؟
ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم
وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم تعظم
تكافأت أحوالنا كلها ... فصل على الأنصاف أو فاصرم
وقد روى أبو حيان في كتاب الوزيرين من تصنيفه من خبر هذه الأبيات غير هذا، وقد ذكرناها في أخبار ابن العميد من هذا الكتاب: قرأت في بعض المجاميع لأبي الفرج الأصبهاني:
حضرتكم دهراً وفي الكم تحفة ... فما أذن البواب لي في لقائكم
إذا كان هذا حالكم يوم أخذكم ... فما حالكم تالله يوم عطائكم؟
قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو نصر الزجاج قال: كنت جالساً مع أبي الفرج الأصبهاني في دكان في سوق الوراقين، وكان أبو الحسن على بن يوسف بن البقال الشاعر جالساً عند أبي الفتح بن الحراز الوراق وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العباس الصولي التي يقول فيها:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
فلما بلغ إليه استحسنه وكرره ورآه أبو الفرج فقال لي: قم إليه فقل له: قد أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذاك فأين موضع الصنعة فيه، فقلت له ذاك فقال قوله: وكانت قذى عينيه، فعدت إليه وعرفته. فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله: من حيث يخفى مكانها. قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: وقد أصاب كل واحد منهما حافة من الغرض فإن الموضعين معاً غاية في الحسن وإن كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن.
قال أبو الفرج في كتاب الغرباء: وخرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى - رحمه الله - ماضيين إلى دير الثعالب في يوم ذكر إنه من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة للنزهة ومشاهدة اجتماع النصارى هناك والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير ومعه جماعة من أولاد كتاب النصارى من أحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش تتمايل وتتثنى كغصن الريحان في نسيم الشمال، فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت يا سيدي: تعال أقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط هذا الشاهد، فمضينا معها وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عليم، فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كأنه الفضة، وأومأت إلى الموضع فإذا فيه مكتوب:
خرجت يوم عيدها ... في ثياب الرواهب
فتنت باختيالها ... كل جاء وذاهب
لشقائي رأيتها ... يوم دير الثعالب
تتهادى بنسوة ... كاعب في كواعب
هي فيهم كأنها ال ... بدر بين الكواكب
فقلت لها: أنت والله المقصودة بهذه الأبيات، ولم نشك أنها كتبت الأبيات ولم نفارقها بقية يومنا وقلت لها هذه الأبيات وأنشدتها إياها ففرحت:
مرت بنا في الدير خمصانة ... ساحرة الناظر فتانة
أبرزها الذكران من خدرها ... تعظم الدير ورهبانه
مرت بنا تخطر في مشيها ... : إنما قامتها بانه
هبت لنا ريح فمالت بها ... كما تثنى غصن ريحانه
فتيمت قلبي وهاجت له ... أحزانه قدماً وأشجانه

وحصلت بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك، ثم خرج إلى الشام وتوفى بها ولا أعرف لها خبرا بعد ذلك. قال أبو الفرج: وكنت انحدرت إلى البصرة منذ سنياتٍ فلما وردتها أصعدت من الفيض إلى سكة قريش أطلب منزلا أسكنه، لأني كنت غريبا لا أعرف أحداً من أهلها الأ من كنت أسمع بذكره، فدلني رجل على خان فصرت إليه واستأجرت فيه بيتاً وأقمت بالبصرة أياماً، ثم خرجت عنها طالباً حصن مهدىٍ وكتبت هذه الأبيات على حائط البيت الذي أسكنه:
الحمد لله على ما أرى ... من صنعتي من بين هذا الورى
أصارني الدهر إلى حالةٍ ... يعدم فيها الضيف عندي القرى
بدلت من بعد الغنى حاجةً ... إلى كلابٍ يلبسون الفرا
أصبح أدم السوق لي مأكلاً ... وصار خبز البيت خبز الشرا
وبعد ملكي منزلاً مبهجاً ... سكنت بيتاً من بيوت الكرى
فكيف ألفى لاهياً ضاحكاً ... وكيف أحظى بلذيذ الكرى؟
سبحان من يعلم ما خلفنا ... وبين أيدينا وتحت الثرى
والحمد لله على ما أرى ... وانقطع الخطب وزال المرا
قال أبو الفرج: وكنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتىً من أولاد الجند في السنة التي توفى فيها معز الدولة وولى بختيار، وكانت لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة، وكان الفتى في نهاية حسن الوجه وسلامة الخلق وكرم الطبع، ممن يحب الأدب ويميل إلى أهله، ولم يترك قريحته حتى عرف صدراً من العلم، وجمع خزانة من الكتب حسنةً، فمضت لي معه سير لو حفظت لكانت في كتاب مفرد، من مكاتباتٍ ومعاتباتٍ وغير ذلك مما يطول شرحه. منها ما يشبه ما نحن فيه: إنني جئته يوم جمعةٍ غدوةً فوجدته قد ركب إلى الحلبة، وكانت عادته إن يركب إليها في كل يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فجلست على دكةٍ على باب أبيه في موضعٍ فسيحٍ كان عمرها وفرشها، فكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار، ثم يدخل إذا أقمت عنده إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له، لنجتمع على الشرب والشطرنج وما أشبههما، فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظراً له، فأبطأ وتصبح من أجل رهان كان بين فرسين لبختيار، فعرض لي لقاء صديقٍ لي فقمت لأمضى ثم أعود إليه، فهجس لي إن كتبت على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
يا من أظل بباب داره ... ويطول حبسي لانتظاره
وحياة طرفك واحوراره ... وجمال صدغك في مداره
لاحلت عمري عن هوا ... ك ولو صليت بحر ناره
وقمت فلما عاد قرأ الأبيات وغضب من فعلي، لئلا يقف عليه من يحتشمه، وكان شديد الكتمان لما بيني وبينه، ومطالباً بمثل ذلك مراقبةً لأبيه، الأ إن ظرفه ووكيد محبته لي، وميله إلي لم يدعه حتى أجاب عنها لما كتب تحتها، ورجعت من ساعتي فوجدته في دار أبيه، فاستأذنت عليه، فخرج إلى خادم لهم فقال: يقول لك لا التقينا حتى تقف على الجواب عن الأبيات فإنه تحتها، فصعدت الدكة فإذا تحت الأبيات بخطه: ما هذه الشناعة؟ ومن فسح لك في هذه الإذاعة؟ وما أوجب خروجك عن الطاعة؟ ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك، ملكتك فطغيت. وأطعتك فتعديت. وما أحتشم إن أقول هذا تعرض للإعراض عنك والسلام. فعلمت إنني قد أخطأت وسقطت شهد الله قوتي وحركتي، فأخذتني الندامة والحيرة، ثم أذن لي فدخلت فقبلت يده فمنعني وقلت: يا سيدي غلطة غلطتها وهفوة هفوتها، فإن لم تتجاوز عنها وتعف هلكت، فقال لي: أنت في أوسع العذر بعد إن لا يكون لها أخت، وعاتبني على ذلك عتابا عرفت صحته، ولم تمض الأ مديدة حتى قبض على أبيه وهرب فاحتاج إلى الاستتار، فلم يأنس هو وأهله إلا بكونه عندي، فأنا على غفلة إذ دخل في خفة وازار وكادت مرارتي تنفطر فرحا، فلقيه أقبل رجليه وهو يضحك ويقول: يأتيها رزقها وهي نائمة، هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلي في الحقيقة، وكان أخف المناس روحا، وأقلعهم لبادرة، وبتنا في تلك الليلة عروسين لانعقل سكرا واصطحبنا وقلت هذه الأبيات:
بت وبات الحبيب ندماني ... من بعد نأي وطول هجران
نشرب قفصية معتقة ... بحانة الشط منذ أزمان
وكلما دارت الكئوس لنا ... ألثمني فاه ثم غناني

الحمد لله لا شريك له ... أطاعني الدهر بعد عصيان
ولم يزل مقيما عندي نحو الشهر حتى استقام أمر أبيه، ثم عاد إلى داره.
وحدث الحسن بن الحسين النعال قال: قال أبو الفرج الأصبهاني: بلغ أبا الحسن جحظة إن مدرك بن محمدٍ الشيباني الشاعر ذكره بسوءٍ في مجلسٍ كنت حاضره وكتب إلى:
أبا فرجٍ أهجي لديك ويعتدى ... علي فلا تحمي لذاك وتغضب
لعمرك ماإنصفتني في مودتي ... فكن معتباً إن الأكارم تعتب
قال أبو الفرج: فكتبت إليه:
عجبت لما بلغت عني باطلا ... وظنك بي فيه لعمرك أعجب
ثكلت إذا نفسي وعزي وأسرتي ... بفقدي ولا أدركت ما كنت أطلب
فكيف بمن لاحظ لي في لقائه ... وسيان عندي وصله والتجنب
فثق بأخ أصفاك محض مودة ... تشاكل منها ما بدا والتغيب
قال غرس النعمة: حدثني أبي قال: حدثني جدي قال: كان أبو القاسم الجهني القاضي - وأظنه من أهل البصرة وتقلد الحسبة بها ومنها عرف أبا محمد المهلبي وصحبه - يشتمل على آداب يتميز بها الأ إنه كان فاحش الكذب، يورد من الحكايات مالا يتعلق بقبولٍ ولا يدخل في معقولٍ، وكان أبو محمدٍ قد ألف ذلك منه وقد سلك مسلك الاحتمال، وكنا لا نخلو عن حديثه من التعجب والاستطراف والاستبعاد، وكان ذلك لايزيده إلا إغراقاً في قوله وتمادياً في فعله، فلما كان في بعض الأيام جرى حديث النعنع وإلى أي حد يطول، فقال الجهنى: في البلد الفلاني يتشجر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فاغتاظ أبو الفرج الأصبهاني من ذاك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع مثل هذا وليبس بمستبدع، وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبي يبيض في نيف وعشرين يوما بيضتين فانتزعتهما من تحته وأضع مكانهما صنجةً مائةً وصنجةً خمسين، فإذا انتهى مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق، أو سطل وكرنيب. فعمنا الضحك وفطن الجهنى لما قصده أبو الفرج من الطنز، وانقبض عن كثير مما كان يحكيه ويتسمح فيه، وإن لم يخل من الأيام من الشيء بعد الشيء منه. ومن عجيب مامر بي من الكذب حكاية أوردها غرس النعمة عقيب هذه قال: كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالبٍ، وكان معروفاً بالكذب، فأذكر وقد حكى في مجلسه والناس حضور عنده: إنه كان في معسكر محمود بن سبكتكين صاحب خراسان ببخارى معه وقد جاء من البرد أمر عظيم جمد منه المرى حتى قد وفرى وعملت منه خفاف، وإن الناس كانوا ينزلون في المعسكر فلا يسمع لهم صوت ولاحديث ولاحركة حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات، فإذا أصبح الناس وطلعت الشمس وحميت ذاب الكلام فسمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات وحديث الناس، وصهيل الخيول، ونهيق الحمير ورغاء الإبل. قرأت على ظهر جزءٍ من نسخة بكتاب الأغاني لأبي الفرج: حدث ابن عرسٍ الموصلي وكان المترسل بين عز الدولة وبين أبي تغلب بن ناصر الدولة، وكان يخلف أبا تغلب بالحضرة قال: كتب إلى أبو تغلب يأمرني بابتياع كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني فابتعته له بعشرة آلاف درهمٍ من صرف ثمانية عشر درهماً بدينارٍ، فلما حملته إليه ووقف عليه ورأى عظمة وجلالة ما حوى قال: لقد ظلم وراقه المسكين، وإنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينارٍ، ولو فقد لما قدرت عليه الملوك الأ بالرغائب، وأمر أن يكتب له نسخةً أخرى ويخلد عليها اسمه فابتدأ بذلك، فما أدري أتمت النسخة أم لا؟ قال أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد: اتصل بي أن مسودة كتاب الأغاني وهي أصل أبي الفرج أخرجت إلى سوق الوراقين لتبتاع، فأنفذت إلى ابن قرابة وسألته إنفاذ صاحبها لأبتاعها منه لي، فجاءني وعرفني إنها بيعت في النداء بأربعة آلاف درهمٍ، وإن أكثرها في طروسٍ وبخط التعليق وأنها اشتريت لأبي أحمد بن محمد بن حفصٍ فراسلت أبا أحمد فأنكر أنه يعرف شيئاً من هذا فبحثت كل البحث فما قدرت عليها.

كان الراضي بالله في سنة سبعٍ وعشرين وثلاثمائةٍ قد ولى أبا عبد الله البريدي، وكان قد خرج عليه بنواحي البصرة الوزارة، فتحدث الناس أن الراضي إنما قصد بتقليد أبي عبد الله الوزارة طمعاً في إيقاع الحيلة عليه في تحصيله، فقال أبو الفرج على بن الحسين الأصبهاني في ذلك قصيدةً طويلةً تزيد على مائة بيتٍ يهجو فيها أبا عبد الله، ويؤنب الراضي في توليته وطمعه فيه أولها:
يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي ... قد تولى الوزارة ابن البريدي
جل خطب وحل أمر عضال ... وبلاء أشاب رأس الوليد
هد ركن الإسلام وأنتهك المل ... ك ومحيث آثاره فهو مودي
أخلقت بهجة الزمان كما أن ... هج طول اللباس وشتى البرود
يقول فيها:
وتوهمت أن سيخدعه ذا ... ك فيغتاله اصطياد الصيود
هو أزنى مما تقدر أما ... ليس مما يصاد بالتقليد
فانتهت هذه القصيدة إلى أبي عبد الله البريدي، فلما بلغ البيت الأخير ضحك وضرب بيديه ورجليه وقال: لو عرف أبو الفرج ما في نفسي وأزال الوحشة وصار إلى، لبالغت في صلته والآفضال عليه من أجل هذا البيت.
قال الحميدي: وقد ذكر صاحب كتاب النشوار أبو علىٍ المحسن بن عليٍ القاضي: أنه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، فتذاكروا موت الفجاءة، فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أن جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجاءةً، الأ أنني لم أسمع من مات على منبرٍ.
قال أبو علىٍ المحسن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج شيخ أندلسي قدم من هناك لطلب العلم، ولزم أبا الفرج يقال له أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذٍ، وكنت أرى أبا الفرج يعظمه ويكرمه ويذكر ثقته، فأخبرنا أبو زكريا إنه شاهد في المسجد الجامع ببلدةٍ من الأندلس خطيب البلد وقد صعد يوم الجمعة ليخطب، فلما بلغ يسيراً من خطبته خر ميتاً فوق المنبر حتى أنزل به، وطلب في الحال من رقى المنبر فخطب وصلى الجمعة بنا، الأ أن أبا علي قلب نسبة زكريا فقال: يحيى بن عائذ بن مالك الأندلسي: والصواب ما قلنا.
قال الثعالبي: ومن قوله في المهلبي:
ولما انتجعنا عائذين بظله ... أعان وماعنى ومن وما منى
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا
وقوله من قصيدة يهنئه بمولود من سريةٍ روميةٍ:
أسعد بمولودٍ أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليلٍ مقمر
سعد لوقت سعادةٍ جاءت به ... أم حصان من نبات الأصفر
متبجح في ذروتي شرف العلا ... بين المهلب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري
وأنشد له في عيديةٍ:
إذا ما علا في الصدر والنهى والأمر ... وبثهما في النفع منه وفي الضر
وأجرى ظبا أقلامه وتدفقت ... بديهته كالمستمد من البحر
رأيت نظام الدر في نظم قوله ... ومنشوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى الكثير بلفظةٍ ... ويأتي بما تحوي الطوامير في سطر
أيا غرة الدهر ائتنف غرة الشهر ... وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبالٍ وأسعد طائرٍ ... وأفضل ما ترجوه من أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقاً ... بطهرك فيه واجتنابك للوزر
فأكرم بما خط الحفيظان منهما ... وأثنى به المثنى وأطرى به المطري
وزكتك أوراق المصاحف وانتهى ... إلى الله منهما طول درسك والذكر
وقبضك كف البطش عن كل مجرمٍ ... وبطشكها بالعرف والخير والبر
وقد جاء شوال فشالت نعامة ال ... صيام النعيم من الضر
وضجت حبيس الدن من طول حبسها ... ولامت على طول التجنب والهجر
وأبرزها من قعر أسود مظلمٍ ... كإشراق بدر مشرق اللون كالبدر
إذا ضمها والورد فوه وكفه ... فلا فرق بين اللون والطعم والنشر

وتحسبه إذ سلسل الكأس ناظماً ... على الكوكب الدري سمطاً من الدر
وله فيه يهنئه بإبلاله من مرض:
أبا محمدٍ المحمود ياحسن ال ... إحسان والجود يا بحر الندى الطامي
حاشاك من عود عواد إليك ومن ... دواء داءٍ ومن إلمام الأم
وله:
يا فرجة الهم بعد اليأس من فرجٍ ... يافرحة الأمن بعد الروع من وهل
أسلم ودم وابق واملك وانم واسم وزد ... وأعط وامنع وضر وأنفع وصل وصل
وله في القاضي الأيذجي وكان التمس منه عكازةً فيم يعطه إياها:
اسمع حديثي تسمع قصةً عجباً ... لاشيء أظرف منها تبهر القصصا
طلبت عكازةً للوحل تحملني ... ورمتها عند من يخبا العصا فعصا
وكنت أحسبه يهوي عصا عصبٍ ... ولم أكن خلته صباً بكل عصا
وله في قصيدة يستميح المهلبي:
رهنت ثيابي وحال القضا ... ء دون القضاء وصد القدر
وهذا الشتاء كما قد ترى ... عسوف على قبيح الأثر
يغادي بصرٍ من العاصفا ... ت أو دمقٍ مثل وخز الإبر
وسكان دارك ممن أعو ... ل يلقين من برده كل شر
فهذي تحن وهذي تئن ... وأدمع هاتيك تجري درر
إذا ما تململن تحت الظلام ... يعللن منك بحسن النظر
ولاحظن ريعك كالممحلي ... ين شاموا البروق رجاء المطر
يؤملن عودى بما ينتظرن ... كما يرتجى آئب من سفر
علي بن الحسين بن هندوأبو الفرج الكاتب الأديب المنشئ الشاعر من البراعة، ومستخدمي البراعة، وأعيان أهل البلاغة، له رسائل مدونه وفضائل متعينة مختاره، يفضله أهل بلده على كثير من أقرانه. قال أبو علي التنوخي: كان أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة قال: وشاهدت عدة كتب كتبها عنه بخطه. وقال أبو الفضل البندنيجي الشاعر: هو من أهل الرى قال: وشاهدته بجرجان في سني بضع عشرة وأربعمائةٍ كاتباً بها، وأنه مشهور في تلك البلاد بجودة الشعر وكثرة الأدب والفضل.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سهل الهروي: كان أبو الفرج ابن هندو صاحب أبوةٍ في بلده، ولسلفه نباهة بالنيابة وخدمة السلطان هناك، وكان متفلسفا قرأ كتب الأوائل على أبي الحسن الوائلي بنيسابور، ثم على أبي الخير أبن الخمار، وورد بغداد في أيام أبي غالب بن خلف الوزير فخر الملك ومدحه واتفق اجتماعي معه وأنسى به، وكان يلبس الدراعة على رسم الكتاب، وأنشدني لنفسه:
لايؤيسنك من مجدٍ تباعده ... فإن للجد تدريجاً وترتيبا
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمى وتنبت أنبوباً فأنبوبا
قال أبو الفضل البندنيجي: سمعته ينشد لنفسه:
يا سيف إن تدرك بحاشية اللوى ... ثاراً أكن لمديح طبعك ناظما
أجعل قرابك فضةً مسبوكةً ... وأصغ عليك من الزبرجد قائما
ما أرضعتك صياقلي ماء الردى ... إلا لترضعني الدماء سواجما
قال: وحضرت معه في مجلس أبي غانمٍ القصري الناظر، - كان في الدواوين بجرجان على البريد - فعمل بديهاً ما دفعه إلى المغنى فغنى به:
يا هاجراً لي بغير جرمٍ ... مستبدل الوصل بالصدود
أضنيت جسمي فلم تغادر ... مني دليلاً على الوجود
وله أيضا:
كل مالي فهو رهن ماله ... من فكاكٍ في مساءٍ وابتكار
ففؤادي أبداً رهن هوىً ... وردائي أبداً رهن عقار
فدع التفنيد يا صاح لنا ... إنما الربح لأصحاب الخسار
لو ترى ثوبي مصبوغاً بها ... قلت ذمى تبدى في غيار
ولقد أمرح في شرخ الصبا ... مرح المهرة في ثني العذار
وله أيضا:
ضعت بأهل الرى في أهلها ... ضياع حرف الراء في اللثغة
صرت بها بعد بلوغ المنى ... أحمد إن تبلغ بي البلغة
وله أيضا:
إذا ما عقدنا نعمةً عند جاحدٍ ... ولم نره إلا جموحاً عن الشكر

رجعنا فعفينا الجميل بضده ... كذاك يجازى صاحب الشر بالشر
هذا عكس قول ابن الرومي
أحسن إليه إذا أساء فأنتما ... من ذي الجلال بمسمعٍ وبمنظر
وله أيضاً:
وكافرٍ بالمعاد أمسى ... يخلبني، قوله الخلوب
قال اغتنم لذة الليالي ... وعد عن آجل يريب
ضل هذه وجاء يهدي ... طب لعينيك يا طبيب
أأخطأ العالمون طراً ... وأنت من بينهم مصيب؟
وله أيضاً:
كدأبك كل لا يرى غير نفسه ... فعش واحداً واضربهم بفراق
زمان تجافى أهله فكأنهم ... سياة قسىٍ مالهن تلاقي
وله أيضاً:
تعانقنا لتوديعٍ عشاءً ... وقد شرقت بمدمعها الحداق
وضيقنا العناق لفرط شوقٍ ... فما ندرى عناق أم خناق؟
وتحدث أبو الفضل البندنيجي الشاعر قال: كان بابن هند ضرب من السوداء، وكان قليل القدرة على شرب النبيذ لأجل ذلك، واتفق إنه كان يوماً عند أبي الفتح بن أبي علىٍ حمدٍ كاتب قابوس بن وشمكير وأنا معه على عادةٍ كانت لنا في الاجتماع، فدخل أبو عليٍ إلى الموضع ونظر إلى ما كان بأيدينا من الكتب وتناشد هو وابن هندوالشعر، وحضر الطعام فأكلنا انتقلنا إلى مجلس الشراب، ولم يطق ابن هندوالمساعدة على ذلك، فكتب في رقعةٍ كتبها إليه:
قد كفاني من المدام شميم ... صالحتني النهى وثاب الغريم
هي جهد العقول سمى راحاً ... مثل ما قيل للديغ سليم
إن تكن جنة النعيم ففيها ... من أذى السكر والخمار جحيم
فلما قرأها ضحك وأعفاه من الشرب. وأنشد أبو الفضل له:
قالوا اشتغل عنهم يوماً بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع
قد صيغ قلبي على مقدار حبهم ... فما لحب سواهم فيه متسع
وحدث أبو الفضل البندنجي قال: أنشدت يوماً أبا الفتح بن أبي عليٍ حمدٍ قول ابن المعتز:
سعى إلى الدن بالمبزال يبقره ... ساقٍ توشح بالمنديل حين وثب
لما وجاها بدت صهباء صافيةً ... كأنما قد سيراً من أديم ذهب
ومثله قول ابن سكرة:
ثم وجاها بشبا مبزلٍ ... فاستل منها وتراً مذهبا
فقال: قول ابن هندو أحسن:
وساقٍ تقلد لما أتى ... حمائل زقٍ ملاه شمولا
فلله درك من فارس ... تقلد سيفاً يقد العقولا
قال: فجاذبت ابن هندو من بعد وقد اجتمعت معه الأبيات وقلت له: إن قولك حمائل الزق فيه بشاعة، وما رأيت أحداً تقلد زقاً فقال: أهل العراق يصرفون الكلام ونحن نورده على أصله.
وحدث أبو الفضل البندنيجي قال: كان ابن هندو يشرب يوماً عند أبي غانمٍ القصري واقتصر على أقداحٍ يسيرةٍ ثم أمسك، فسأله الزيادة فلم يفعل وقال:
أرى الخمر ناراً والنفوس جواهراً ... فإن شربت أبدت طباع الجواهر
فلا تفضحن النفس يوماً بشربها ... إذا لم تثق منها بحسن السرائر
وله أيضا:
تعرض لي الدنيا بلذة مطعمٍ ... وزخرف موشىٍ من اللبس رائق
أرادت سفاهاً إن تموه قبحها ... على فكرٍ خاضت بحار الدقائق
فلا تخدعينا بالسراب فإننا ... قتلنا نهانا في طلاب الحقائق
وحدث البندنيجي قال: كان الناس يظنون بمنوجهر أبن قابوس ما كان في أبيه من الأدب والفضل ولم يكن كذلك، فلما أنتقل الأمر إليه قصد بما يقصد به مثله، وكان لا يوصل إليه إلا القليل، ولا يتقبل ما يمدح به، ولا يهش من هذا الجنس لتباعده عنه، وكان مع هذه الحالة فروقةً قليل البطش، فمدحه ابن هندو بقصيدةٍ وتانق فيها، وأنشده إياها فلم يفهمها ولم يثبه عليها فقال:
يا ويح فضلي أما في الناس من رجل ... يحنو على أما في الأرض من ملك؟
لأكرمنك يا فضلي بتركهم ... وأستهين بالأيام والفلك
فقيل لمنوجهر: إنه قد هجاك، لأن لقبه كان فلك المعالي، فطلبه ليقتله فهرب إلى نيسابور وانفلت منه، وله:
حللت وقاري في شادنٍ ... عيون الأنام به تعقد
غدا وجهه كعبةً للجمال ... ولى قلبه الحجر الأسود


علي بن الحسين بن موسىابن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام، نقيب العلويين أبو القاسم الملقب بالمرتضى، علم الهدى، السيد المشهور بالعلم، المعروف بالفهم، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائةٍ، ومات سنة ستٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، وهو أكبر من أخيه الرضي وقال أبو جعفر الطوسى: توحد المرتضى في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل علم الكلام والفقه، وأصول الفقه، والأدب، والنحو، والشعر، ومعاني الشعر واللغة وغير ذلك، وله ديوان شعرٍ يزيد على عشرة آلاف بيتٍ، وله من التصانيف ومسائل البلدان شيء كثير يشتمل على ذلك فهرسته غير أني أذكر أعيان كتبه وكبارها منها: كتاب الشافي في الإمامة، كتاب المغني لعبد الجبار بن أحمد وهو كتاب لم يصنف مثله في الإمامة، كتاب الملخص في الأصول لم يتمه، كتاب الذخيرة في الأصول تام، وكتاب جمل العلم والعمل تام، وكتاب الغرر، وكتاب التنزيه، وكتاب المسائل الموصلية الأولى، وكتاب المسائل الموصلية الثانية، كتاب المسائل الموصلية الثالثة، وكتاب المقنع في الغيبة، وكتاب مسائل الخلاف في الفقه لم يتم، كتاب الانتصار فيما انفردت به الأمامية، كتاب مسائل مفرداتٍ أصول الفقه، كتاب المصباح في الفقه لم يتم، كتاب المسائل الطرابلسية الأولى، وكتاب المسائل الطرابلسية الأخيرة، وكتاب مسائل أهل مصر الأولى، وكتاب مسائلهم الأخيرة، وكتاب المسائل الحلبية الأولى، وكتاب المسائل الحلبية الأخيرة، كتاب المسائل الناصرية في الفقه، وكتاب المسائل الجرجانية، وكتاب المسائل الطوسية لم يتم، وكتاب البرق، وكتاب طيف الخيال، وكتاب الشيب والشباب، كتاب تتبع أبيات المعاني للمتنبي التي تكلم عليها ابن جنىٍ في الحكاية والمحكي، وكتاب النقض على ابن جنىٍ في الحكاية والمحكي، وكتاب نص الرواية وإبطال القول بالعدد، وكتاب الذريعة في أصول الفقه، وكتاب تفسير قصيدة السيد، وله مسائل مفردات نحو مائة مسألة في فنون شتى، وكتاب المسائل الصيداوية. قال أبو جعفر الطوسي: قرأت أكثر هذه الكتب عليه وسمعت سائرها. ومن شعره المذكور في تتمة اليتيمة:
يا خليلي من ذؤابة بكرٍ ... في التصابي رياضة الأخلاق
غنياني بذكرهم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
وله في ذم المشيب:
يقولون لا تجزع من الشيب ضلةً ... وأسهمه إياي دونهم تصمى
وما سرني حلم يفئ إلى الردى ... كفاني ما قبل المشيب من الحلم
إذا كان ما يعطيني الحزم سالباً ... حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي؟
وقد جربت نفسي الغداة وقاره ... فماشد وهني ولاسد من ثلمي
وإني مذ أضحى عذارى قراره ... أعاد بلا سقمٍ وأجفى بلا جرم
وله في مرثية:
كم تطيش سهام الموت مخطئةً ... عني وتصمى إخلائي وإخواني
ولو فطنت وقد أردى الزمان أخي ... علمت أن الذي أصماه أصماني
سود وبيض من الأيام لونهما ... لا يستحيل وقد بدلن ألواني
هيهات: حكم فينا أزلم جدع ... يفنى الورى بين جذعان وفرحان
ذكر غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن الصابئ في كتاب الهفوات قال: اجتاز المرتضى أبو القاسم يوم جمعةٍ على باب جامع المنصور بحيث يباع الغنم، فسمع المنادي يقول: نبيع هذا التيس العلوي بدينار، فظن أنه قصده بذلك، فعاد إلى داره وتألم إلى الوزير مما جرى عليه، فكشف فوجد أن التيس إذا كان في رقبته حلمتان متدليتان سمى علوياً تشبيهاً بضفيرتي العلوي المسبلتين على رقبته.

نقلت من خط الحافظ الإمام أبي نصرٍ عبد الرحيم ابن النفيس بن وهبان - وفقه الله - قال: نقلت من خط الإمام أبي بكرٍ محمد بن منصورٍ السمعاني - رحمه الله - قال: سمعت أبا الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي يقول: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى أبي القاسم العلوي في مرضه الذي توفى فيه، فإذا قد حول وجهه إلى الجدار فسمعته يقول: أبو بكرٍ وعمر وليا فعدلا، واسترحما فرحما، فأنا أقول: ارتدا بعد إن أسلما، قال: فقمت وخرجت فما بلغت عتبة الباب حتى سمعت الزعقة عليه، ومن شعره ما نقلته من خط تاج الإسلام في المذيل:
وزارت وسادي في المنام خريدة ... أراها الكرى عيني ولست أراها
تمانع صبحاً أن أراها بناظري ... وتبذل جنحاً إن أقبل فاها
ولما سرت لم تخش وهناً ضلالةً ... ولاعرف العذال كيف سراها
فماذا الذي من غير وعدٍ أتى بها ... ومن ذا على بعد المزار هداها؟
وقالوا عساها بعد زورة باطلٍ ... تزور بلا ريبٍ فقلت عساها
وأنشد له فيه.
وطرقتني وهناً بأجواز الفلا ... وطروقهن على الفلا تخييل
في ليلةٍ وافى بها متمنع ... ودنت بعيدات وجاد بخيل
يا ليت زائرنا بفاحمة الدجى ... لم يأت إلا والصباح رسول
فقليلة وضح الضحى مستكثر ... وكثيرة غبش الظلام قليل
ماعابه وبه السرور زوالهفجميع ما سر القلوب يزول
ومن خطبه: سمعت أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يقول: ذكر شيخنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ، ونقلت من خطبه. سمعت الكيا أبا الحسين يحيى بن الحسين العلوي الزيدي وكان من نبلاء أهل البيت ومن المحمودين في صناعة الحديث وغيره من الأصول والفروع يقول: وقد دخل عليه بعض الشعراء فمدحه بقصيدة، فلما خرج قال: يا أبا الفضل، الناس ينظرون إلى وإلى المرتضى ولا يفرقون بين الرجلين، المرتضى يدخل عليه من أملاكه كل سنة أربعة وعشرون ألف دينارٍ، وأنا آكل من طاحونةٍ لأختي ليس لي معيشة غيرها.
قال أبو الفضل المقدسي، وذكر بين يديه يوماً الإمامية فذكرهم بأقبح ذكرٍ وقال: لو كانوا من الدواب لكانوا الحمير، ولو كانوا من الطيور لكانوا الرخم وأطنب في ذمهم، وبعد مدة دخلت على المرتضى وجرى ذكر الزيدية والصالحية أيهما أفضل؟ فقال يا أبا الفضل: تقول أيهما خير ولا تقول أيهما شر، فتعجبت من إمامي الشيعة في وقتهما ومن قول كل واحدٍ منهما في مذهب الآخر فقلت: قد كفى أهل السنة الوقيعة فيكما. قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: حدثني الشيخ الصالح أبو صالح قرطاس بن الطنطاش الظفري الصوفي التركي من لفظه قال: سمعت أبا الرملي يقول وكان مسناً: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبي، فدخل عليه بعض أكابر الديلم فتزحزح له وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلاً فساره الديلمي بشيءٍ لم نعلم ما هو؟ فقال متضجراً نعم: وأخذ معه في كلامٍ كأنه يدافعه، فنهض الديلمي فقال المرتضى بعد نهوضه: هؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش، وأقبل على من في مجلسه فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟ فقالوا لاياسيدي، فقال: قال: بين لي هل صح إسلام أبي بكر وعمر؟ قلت أنا: - رضي الله عنهما - ، قرأت في بعض كتب الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل بخطه.
حدثني الفصيحي النحوي قال: اطلع المرتضى من روشنه فرأى المطرز الشاعر وقد انقطع شراك نعله وهو يصلحه فقال له: فديت ركائبك وأشار إلى قصيدته التي أولها:
سرى مغرما بالعيش ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
على عذبات الجزع من ماء تغلبٍ ... غزال يرى ماء القلوب له شربا
إلى قوله:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماءً ولارعت العشبا
فقال مسرعاً: أتراها ما تشبه مجلسك وخلعك؟ أشار بذلك إلى أبياته التي أولها:
يا خليلي من ذؤابة قيس
مذكورة في أول ترجمته قبل، وأنه لما خلع وهب النوم. وللمرتضى:
تجاف عن الأعداء بغياً فربما ... كفيت فلم تجرح بنابٍ ولاظفر

ولاتبر منهم كل عودٍ تخافه ... فإن الأعادي ينبتون مع الدهر
على بن الحسين بن علي العبسييعرف بابن كوجك الوراق، كان أديباً فاضلاً يورق سمع بمصر من أبي مسلمٍ محمد بن أحمد كاتب أبي الفضل بن حنزابة الوزير. صنف كتباً منها: كتاب الطنبوريين كتاب أعز المطالب إلى أعلى المراتب في الزهد كتب به إلى الشابستي صاحب كتاب الديارات، ومات في أيام الحاكم فرأيته سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وكان بالشام والساحل، ومدح سيف الدولة لما فتح الحدث فقال:
رام هدم الإسلام بالحدث المؤ ... ذن بنيانها بهدم الضلال
نكلت عنك منه نفس ضعيفٍ ... سلبته القوى رؤس العوالي
فتوقى الحمام بالنفس والما ... ل وباع المقام بالارتحال
ترك الطير والوحوش سغاباً ... بين تلك السهول والأجبال
ولكم وقعةٍ قريت عفاة الطي ... ر فيها جماجم الأبطال
وكان أبوه الحسين بن عليٍ من أهل الأدب والشعر. قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: الحسين بن علي بن كوجك أبو القاسم الكوجكي حدث بطرابلس سنة تسع وخمسين وثلاثمائة عن أبي مسعود كاتب حسنون المصري، وعن أبيه على وأبي القاسم بن المنتاب العراقي. كتب عنه بعض أهل الأدب وأنشد له هذه الأبيات:
وما ذات بعلٍ مات عنها فجاءةً ... وقد وجدت حملاً دوين الترائب
بأرضٍ نأت عن والديها كليهما ... تعاورها الوراث من كل جانب
فلما استبان الحمل منها تنهنهوا ... قليلاً وقد دبوا دبيب العقارب
فجاءت بمولودٍ غلامٍ فحوزت ... تراث أبيه الميت دون الأقارب
فلما غدا للمال ربا ونافست ... لإعجابها فيه عيون الكواعب
وأصبح مأمولاً يخاف ويرتجى ... جميل المحيا ذا عذارٍ وشارب
أتيح له عبل الذراعين مخدر ... جرئ على أقرانه غير هائب
فلم يبق منه غير عظم مجزرٍ ... وجمجة ليست بذات ذوائب
بأوجع مني يوم ولت حدوجهم ... يؤم بها الحادون وادي غباغب
علي بن الحسين بن بلبل العسقلانيأبو الحسين. من شعره في محبوب أزرق العينين:
تدل بالذابل حسناً وفي ... طرفك ما في طرف الذابل
أزرق كالأزرق يوم الوغى ... كلاهما يوصف بالقاتل
وله أيضا:
شعر الذؤابة والعذار ... قاما بعذري واعتذاري
بأبي الذي في خده ... ماء الصبا ولهيب نار
سكرت لوا حظه وقل ... بي ما يفيق من الخمار
عابوا امتهاني في هوا ... ه كأنني أنا باختياري
ومن الصواب وها عذا ... ري شائب خلع العذار
وله أيضا:
تعرف في وجهه إذا ما ... رأيته نضرة النعيم
كأنما خده حباب ... بت به ليلة السليم
ولي غريم لوى ديوني ... ليت غرامي على غريمي
على بن الحسين الآمدي النحويأبو الحسن، ذكره محمد بن إسحاق النديم، وذكر أنه خرج إلى مصر فأقام بها منقطعاً إلى أبي الفضل بن حنزابة الوزير، وخطه صحيح مليح، ولم يثبت له مصنفاً. قلت أنا: وهو من مشايخ عبد السلام ابن الحسين البصري، وجدت بخطه وقد أنشد عنه بيتاً لأبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي - وهو مذكور في بابه - وقال: أنشدناه جماعة من مشايخنا منهم: أبو الحسن على بن الحسن الآمدي.
وحدث ابن نصرٍ قال: حدثني أبو الحسن المبدع وكنت أعرفه قديماً، ودخل إلى بغداد خضيبا فأنكرته ثم عرفته، فجرى ذكر شعراء المصريين فقلت له: ما رأيت لهم شيئاً ناصعاً فقال لي: كان الآمدي يتولى أرزاق الشعراء والمتعطلين والأشراف والكتاب وكان خضيباً، ولم يسمه لي ولاكناه، ولاأعلم هل هو النحوي صاحب كتاب الموازنة أو غيره؟ إلا أني أذكر ما حكاه قال: منع الحسين بن بشر الكاتب المصري أرزاقه فعمل فيه قطعةً أولها:
إن طغى الآمدى طغيان مثرٍ ... راشه الدهر فالمريش يحص
أيها الآمدى عقلك قد د ... ل على أن آمد اليوم حمص

إن حرصاً يدعو إلى قطعك الأر ... زاق فينا على هلاكك حرص
بسواد السماد تخضب ياشي ... خ فمن ذا سواده مايبص
ألق فيه عفصاً فإنك تحتا ... ج إلى العفص حين يعكس عفص
فقلت: تنشد هذا وأنت خضيب؟ فقال: الجيد يروي وإن كان على الراوي فيه دق الباب
علي بن الحسن بن على الضرير، الأصفهاني النحويأبو الحسن الباقولي المعروف بالجامع، ذكره أبو الحسن البيهقي في كتاب الوشاح فقال: هو في النحو و الإعراب كعبة لها أفاضل العصر سدنة، وللفضل فيه بعد خفائه أسوة حسنة، وقد بعث إلى خراسان بيت الفرزدق المشهور في شهور سنة خمسٍ وثلاثين وخمسمائةٍ وهو:
فليست خراسان التي كان خالد ... بها أسداً إذ كان سيفاً أميرها
وكتب كل فاضلٍ من فضلاء خراسان لهذا البيت شرحاً ثم قال: وهذا الإمام استدرك على أبي على الفسوى وعبدج القاهر وله هذه الرتبة، ومن نظر في تصانيفه علم أنه لاحق سبق السابقين، وقيل من منظومه:
أحبب النحو من العلم فقد ... يدرك المرء به أعلى الشرف
إنما النحوى في مجلسه ... كشهاب ثاقب بين السدف
يخرج القرآن من فيه كما ... تخرج الدرة من جوف الصدف
قال البيهقي: وبعد ذلك تحقق أن هذه الأبيات من إنشاده لا من إنشائه. له من التصانيف: كتاب شرح اللمع، وكتاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في علل القران، قرأت في خاتمة كتاب المشكلات للجامع هذا ماصورته: وقد أمللته بعد تصنيف كتاب الجوهر، وكتاب المجمل كتاب الاستدراك على أبي عليٍ، وكتاب البيان في شواهد القران، وسأجمع لك كتاباً أذكر فيه الأقاويل في معنى الآية دون الإعراب وما يتعلق بالصناعة منها.
علي بن حمزة الكسائيهو أبو الحسن على بن حمزة بن عبد الله بن عثمان من ولد بهمن بن فيروز مولى بني أسد النحوي. أحد الأئمة في القراءة والنحو واللغة، وأحد السبعة القراء المشهورين، وهو من أهل الكوفة، استوطن بغداد وروى الحديث وصنف الكتب، ومات بالري صحبه الرشي على ما نذكره فيما بعد سنة اثنتين وثمانين ومائة أو ثلاث وثمانين ومائة، وقيل بعد ذلك في سنة تسع وثمانين، وقال مهدى بن سابقٍ: في سنة اثنتين وتسعين ومائة هو محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة، فقال الرشيد: اليوم ذهب الفقه والعربية، قال الخطيب: إن عمر الكسائي بلغ سبعين سنه.
وكان الكسائي مؤدباً لولد الرشيد، وكان أثيراً عند الخليفة حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين، وكان الكسائي قد قرأ على حمزة الزيات ثم اختار لنفسه قراءةً. وسمع من سليمان ابن أرقم وأبي بكر بن عياشٍ. وفي القراء آخر يقال له الكسائي الصغير، واسمه محمد بن يحيى، روى عنه ابن مجاهدٍ عن خلف بن هشامٍ النراز.
حدث الخطيب قال: قال الفراء: إنما تعلم الكسائي النحوي على كبرٍ، وسببه أنه جاء إلى قوم من الهباريين وقد أعيا فقال لهم: قد عييت. فقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فقال: كيف لحنت؟ قالوا: إن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت مخففاً، وإن كنت أردت من التعب فقل أعييت، فأنف من هذه الكلمة، ثم قام من فوره ذلك فسأل من يعلم النحو؟ فأرشدوه إلى معاذٍ الهراء فلزمه حتى أنفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقى الخليل وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة، فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجدٍ وتهامة، فخرج ورجع. وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، فلم يكن له هم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس النحوي، فمرت بينهما مسائل أقر له يونس فيها، وصدره موضعه.

وحدث الخطيب أيضاً بإسنادٍ رفعه إلى عبد الرحيم ابن موسى قال: قلت للكسائي: لم سميت الكسائي؟ قال: لأني أحرمت في كساءٍ. قال: وقيل فيه قول آخر، وذكر إسناداً رفعه إلى محمد بن يحيى المروزى قال: سألت خلف بن هشام لم سمى الكسائي كسائياً؟ فقال: دخل الكسائي الكوفة فجاء إلى مسجد السبيع وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرئ فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر، فجلس وهو ملتف بكساء من البرد كان أسود، فلا صلى حمزة قال: من تقدم الوقت يقرأ؟ قيل له الكسائي أول من تقدم يعنون صاحب الكساء، فرمقه القوم بأبصارهم فقال: إن كان حائكاً فسيقرأ سورة يوسف، وإن كان ملاحاً فسيقرأ سورة طه، فسمعهم فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ إلى قصة الذئب قرأ فأكله الذيب بغير همزٍ، فقال له الزيات: بالهمز، فقال له الكسائي: وكذلك أهمز الحوت في قوله تعالى: (فالتقمه الحوت)، قال: لا قال، فلم همزت الذئب ولم تهمز الحوت؟ وهذا فأكله الذئب، وهذا فالتقمه الحوت. فرفع حمزة بصره إلى خلادٍ الأحوال وكان أجمل غلمانه فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس، فناظروا فلم يصيبوا شيئاً فقال: أفدنا - رحمك الله - ، فقال لهم الكسائي: تفهموا عن الحائك، تقول: إذا نسبت الرجل إلى الذئب قد استذأب الرجل، ولو قلت: قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إالى الهزال، تقول: استذاب الرجل: إذا استذاب شحمه بغير همزٍ. وإذا نسبته إلى الحوت تقول: قد استحات الرجل أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيرا ولايجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت، وفيه معنىً آخر لاتسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤبٍ ضاريات
قال: فسمى الكسائي من ذلك اليوم. وحدث المرزباني فيما رفعه إلى ابن الأعرابي قال: كان الكسائي أعلم الناس على رهق فيه، كان يديم شرب النبيذ ويجاهر باتخاذ الغلمان الروقة إلا أنه كان ضابطاً قارئاً عالماً بالعربية صدوقاً.
وحدث المزرباني فيما رفعه إلى الكسائي قال: أحضرني الرشيد سنة اثنتين وثمانين ومائة في السنة الثالثة من خلافته، فأخرج إلى محمداً الأمين وبعبد الله المأمون كأنهما بدران فقال: امتحنهما بشيءٍ، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي كيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفقٍ وفرعي بشامةٍ ... يزينهما عرق كريم ومحتد
يسدان آفاق السماء بهمةٍ ... يؤيدها حزم ورأى وسؤدد
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبي محمد
حياة وخصب للولى ورحمة ... وحرب لأعداءٍ وسيف مهند
ثم قلت: فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، آواهما ملك أغر، نافذ الأمر، عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما يتطاولان بطوله، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، - فأمتع الله - أمير المؤمنين بهما، وبلغه الأمل فيهما، فقال: تفقدهما، فكنت أختلف إليهما في الأسبوع طرفي نهارهما.
وحدث الخطيب بإسنادٍ رفعه إلى سلمة قال: كان عند المهدي مؤدب يؤدب الرشيد، فدعاه المهدي يوماً وهو يستاك فقال له: كيف الأمر من السواك؟ قال: استك ياأمير المؤمنين، فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا، فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريباً فكتب بإزعاجه من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.

وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفر عن ابن قادمٍ عن الكسائي قال: حججت مع الرشيد فقدمت لبعض الصلوات فصليت فقرأت: (ذريةً ضعافاً خافوا عليهم)، فأملت ضعافاً، فلما سملت ضربوني بالنعال والأيدي وغير ذلك حتى غشي علي، واتصل الخبر بالرشيد فوجه بمن استنقذني، فلما جئته قال لي: ما شأنك؟ فقلت له: قرأت لهم ببعض قراة حمزة الرديئة ففعلوا بي ما بلغ أمير المؤمنين، فقال: بئس ما صنعت، ثم ترك الكسائي كثيراً من قراءة حمزة وحدث فيما رفعه إلى الأحمر النحوي قال: دخل أبو يوسف القاضي - وقال عبد الله بن جعفرٍ محمد بن الحسن - على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه فقال: يا أمير المؤمنين: قد سعد بك هذا الكوفي وشغلك، فقال الرشيد: النحو يستفرغني، لأنني أستدل به على القران والشعر، فقال محمد بن الحسن، أو أبو يوسف: إن علم النحو إذا بلغ فيه الرجل الغاية صار معلماً. والفقه إذا عرف الرجل منه جملة صار قاضياً. فقال الكسائي: أنا أفضل منك، لأني أحسن ما تحسن، وأحسن مالاتحسن، ثم التفت إلى الرشيد وقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له في جوابي عن مسألة من الفقه، فضحك الرشيد وقال: أبلغت يا كسائي إلى هذا؟ ثم قال لأبي يوسف: أجبه، فقال الكسائي: ما تقول لرجلٍ قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار؟ فقال أبو يوسف: خطأ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر، وإذا كسرت فإنه لم يقع الطلاق بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.
وحدث أيضا عمن سمع الكسائي يقول: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وما النحو؟ فقلت - وأردت أن أعلمه فضل النحو - : ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتل غلامك؟ وقال له آخر: أنا قاتل غلامك، أيهما كنت تأخذ به؟ قال آخذهما جميعا، فقال له هارون: أخطأت، وكان له علم بالعربية، فاستحيا وقال: كيف ذلك؟ قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتل غلامك بالإضافة، لأنه فعل ماض، وأما الذي قال: أنا قاتل غلامك بالنصب فلا يؤخذ، لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عز وجل: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله). فلولا التنوين مستقبل ما جاز فيه غداً، فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح العربية والنحو.
وحدث فيما رفعه إلى إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال: سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد قال: انظر، في هذا الشعر عيب؟ وأنشده:
ما رأينا خرباً نق ... ر عنه البيض صقر
لا يكون العير مهراً ... لا يكون، المهر مهر
فقال الكسائي: قد أقوى الشاعر، فقال له اليزيدي انظر فيه، فقال: أقوى لابد ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان، قال: فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمدٍ الشعر صواب، وإنما ابتدأ فقال: المهر مهر، فقال له يحيى بن خالدٍ: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ والله لخطأ الكسائي مع أدبه، أحب إلينا من صوابك مع سوء فعلك، فقال: لذة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن.
حدث المرزباني، حدث محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ الوراق، حدثنا النعمان بن هارون الشيباني قال: كان أبو نواسٍ يختلف إلى محمد بن زبيدة، وكان الكسائي يعلمه النحو فقال أبو نواس: إني أريد إن أقبل محمداً قبلة، فقال له الكسائي: إن علي في هذا وصمة، وأكره أن يبلغ هذا أمير المؤمنين، فقال أبو نواس: إنك إن تركتني أقبله وإلا قلت فيك أبياتاً أرفعها إلى أمير المؤمنين، فأبى عليه الكسائي وظن أنه لا يفعل، فكتب أبو نواس رقعةً:
قل للإمام جزاك الله صالحةً ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب
فالسخل غر وهم الذئب غفلته ... والذئب يعلم مابالسخل من طيب
ودفعها إلى بعض الخدم ليوصلها إلى الرشيد، فجاء بها الخادم إلى الكسائي، فلما قرأها علم أنه شعر أبي نواسٍ فقال له: ويحك، هذا أمر عظيم سأتلطف لك، فغب أياماً ثم احضر وسلم علي وعلى محمد فستبلغ حاجتك، فغاب وتحدث الكسائي إن أبا نواسٍ غائب ثم جاء فقام إليه الكسائي فسلم عليه وعانقه، وسلم أبو نواسٍ على محمدٍ وقبله، فقال أبو نواسٍ:
قد أحدث الناس ظرفاً ... يزهو على كل ظرف
كانوا إذا ماتلاقوا ... تصافحوا بالأكف
فاظهروا اليوم رشف ال ... خدود والرشف يشفى

فصرت تلثم من شئ ... ت من طريق التخفي
قال: وقال ابن أبي طاهر: وهذا الحديث عندي باطل مصنوع من قبل من حدث به ابن أبي سعد عنه لامنه، لأن أبناء الخلفاء كانوا في مثل حال الممنوع أجل مكاناً من أن يعانقوا أحدا من الرعية، ومن قبل أن هذا الشعر الأخير أنشدنيه غير واحدٍ لعبد الصمد ابن المعذل حتى خبرني أبو علىٍ الفضل بن جعفر بن الفضل بن يوسف المعروف بالبصير أنه له، وأنه قاله بالكوفة في حداثةٍ من سنه، وكان بعيداً من الكذب في ادعاء مثل هذا من الشعر والله أعلم.
حدث عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد عن المازني عن الأصمعي قال: كان الكسائي يأخذ اللغة من أعراب من أعراب الحطمية ينزلون بقطر بل وغيرها من قرى سواد بغداد، فلما ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلامهم، واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه. فقال أبو محمد اليزيدي: كنا نقيس النحو فيما مضى - الأبيات - والأبيات في أخبار اليزيدي. ولليزيدي أشعار في الكسائي ذكرت في أخباره، ومن قول اليزيدي فيه:
أفسد النحو الكسائي ... ي وثنى ابن غزالة
وأرى الأحمر تيساً ... فاعلفوا التيس النخالة
وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفرٍ عن محمد بن يزيد عن المازني والرياشي عن أبي زيدٍ قال: لما ورد نعى الكسائي من الري قال أبو زيدٍ: لقد دفن بها علم كثير بالكسائي ثم قال: قدم علينا الكسائي البصرة فلقى عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحواً كثيراً، ثم صار إلى بغداد فلقى أعراب الحطمية فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله. قال عبد الله: وذلك إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لايجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو.
قال أبو عبد الله بن مقلة: حدثني أبو العباس أحمد ابن يحيى قال: اجتماع الكسائي والأصمعي عند الرشيد وكانا معه يقيمان بمقامه، ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي:
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذ ماضن باللبن؟
فقال الأصمعي: رئمان بالرفع، فقال له الكسائي: اسكت ما أنت وهذا؟ يجوز رئماناً ورئمان ورئمان، ولم يكن الأصمعي بصاحب عربيةٍ، فسألت أبا العباس كيف جاز ذلك؟ فقال: إذا رفع رفع بينفع، أي أم كيف ينفع رئمان أنفٍ، وإذا نصب نصب بيعطى، وإذا خفض رده على الهاء في به. قال: والمعنى وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدقه بفعلك، يقال ذلك للذي يبر ولا يكون منه نفع كهذه الناقة التي تشم بأنفها مع تمنع درها، والعلوق: التي قد علق قلبها بولدها، وذلك أنه نحر عنها ثم حشى جلده تبناً أو حشيشاً وجعل بين يديها حتى تشمه وتدر عليه، فهي تسكن إليه مرة ثم تنفر عنه ثانيةً تشمه بأنفها ثم تأباه مقلتها فيقول: فما ينفع من هذا البو إذا تشممته ثم منعت درها؟ قال أبو العباس: حدثني سلمة قال: قال الفراء: مات الكسائي وهو لا يحسن حد نعم وبئس، ولاحد أن المفتوحة، ولاحد الحكاية، قال: فقلت لسلمة فكيف لم يناظره في ذلك؟ فقال: قد سألته ذلك فقال: أشفقت أن أحادثه فيقول في كلمةً تسقطى فأمسكت قال الفراء: ولم يكن الخليل يحسن النداء، ولا كان سيبويه يدري حد التعجب.

وحدث المرزباني في ما رفعه إلى الفراء قال: قدم سيبويه على البرامكة فعزم يحيى بن خالد أن يجمع بينه وبين الكسائي وجعل لذلك يوماً، فلما حضر تقدمت والأحمر فدخل فإذا بمثالٍ في صدر المجلس، فقعد عليه يحيى وقعد إلى جانب المثال جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم، وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألةٍ فأجابه فيها سيبويه فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثانية فأجاب فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوء أدب. قال الفراء: فأقبلت عليه فقلت: إن في هذا الرجل حدةً وعجلةً، ولكن ماتقول فيمن قال: هؤلاء أبون، ومررت بأبين، كيف تقول على مثال ذلك، وأيت أو أويت؟ قال: فقدر فأخطأ فقلت له: أعد النظر ثلاث مراتٍ تجيب ولاتصيب، فلما كثر عليه ذلك قال: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: أتسألني أم أسألك؟ فقال: بل سلني أنت، فقال له الكسائي: كيف تقول: قد كنت أظن إن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي ولايجوز النصب، فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسائل من هذا النوع خرجت فإذا عبد الله القائم أو القائم، فقال سيبويه: في ذلك كله بالرفع دون النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، العرب ترفع في ذلك كله وتنصب، فدفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالدٍ: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب في بابك قد جمعتهم من كل أوبٍ. ووفدت عليك من كل صقعٍ، وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر. قد أنصفت، فأمر بإحضارهم فدخلوا، فهم: أبو فقعسٍ، وأبودثارٍ، وأبو الجراح، وأبوثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله. فقال: فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل؟ فاستكان سيبويه وأقبل الكسائي على يحيى فقال: - أصلح الله الوزير - ، إنه قد وفد عليك من بلده مؤملاً، فإن رأيت ألا ترده خائباً، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصير وجهه نحو فارس، فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة.
قال ثعلب: وإنما أدخل ألفاء في قوله: فإذا هو إياها، لأن فإذا مفاجأة، أي فوجدته ورأيته، ووجدت ورأيت ينصب شيئين ويكون معه خبر، فلذلك نصبت العرب.
قال المؤلف: وقد ذكرنا هذا الخبر في باب سيبويه برواية أخرى، وذكرنا الاحتجاج للبصريين على تصويب قول سيبويه هناك إن شاء الله.
روى الزبيرعن إسحاق الموصلي قال: ما رأيت رجلاً منسوباً إلى العلم أجهل بالشعر من الكسائي وبالإسناد قال: كان الكسائي من أشد خلق الله تسكعاً في تفسير شعرٍ، وما رأيت أعلم بالنحو قط منه، ولا أحسن تفسيراً، ولا أحذق بالمسائل، المسألة تشق من المسألة، والمسألة تدخل على المسألة.
وقرأت في نوادر ابن الأعرابي التي كتبها عنه ثعلب سمعت الكسائي يقول: قلت لأبي زيدٍ وآذاني باللزوم يا هذا، قد أمللتني، كم تلازمنى؟ فقال له أبو زيدٍ: إنما ألزمك لأعلمك، قال: فقلت له فاجلس في بيتك حتى آتيك. قال: وما جربت على الكسائي كذبةً قط. قال أبو عبد الله بن الأعرابي: ولئن كان أبو زيدٍ قال هذا، ما في الأرض أحد قط أخل عقلاً منه.
قال: وكان الكسائي أعلم من أبي زيدٍ بكثيرٍ بالعربية واللغات والنوادر، ولو كان نظر في الأشعار ما سبقه أحد ولا أدركه أحد حده. وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين عن أبي حاتم قال: لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقران ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئاً، وعلمه مختلط بلا حججٍ ولاعللٍ إلا حكايات الأعراب مطروحةً، لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقران، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.
وحدث المرزباني في كتابه قال: كتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدب محمداً الأمين:
قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمةٍ يدلى؟
مازلت منصار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي
وعلى فراشي ماينبهنى ... من نومتي بقيامه قبلي
أسعى برجلٍ منه ثالثةٍ ... نقصت زيادتها عن الرجل

فامنن على بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل
قال: فضحك الرشيد وأمر له ببرذونٍ بسرجه ولجامه وبجاريةٍ حسناء بآلتها وخادم وعشرة آلاف درهمٍ. قيل للكسائي: قد أبحت علمك الناس؟ فقال يعين الله عليهم بالنسيان.
من مجالسات ثعلبٍ: وصف ابن الأعرابي الكسائي فقال: كان أعلم الناس على رهقٍ فيه، يريد إتيان ما يكره، لأنه كان يشرب الشراب ويأتي الغلمان. قال: ومن شعر الكسائي:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع
فإذا ما نصر النحو الفتى ... مر في المنطق مراً فاتسع
فاتقاه جل من جالسه ... من جليسٍ ناطقٍ أو مستمع
وإذا لم ينصر النحو الفتى ... هاب أن ينطق جبناً فانقطع
فتراه يرفع النصب وما ... كان من خفضٍ ومن نصبٍ رفع
يقرأ القران ولا يعرف ما ... صرف الإعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرؤه ... فإذا ما شك في حرفٍ رجع
ناظراً فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف اللحن صدع
كم وضيعٍ رفع النحو وكم ... من شريفٍ قد رأيناه وضع
فهما فيه سواء عندكم ... ليست السنة فينا كالبدع
وحدث هارون بن علي بن المنجم في أماليه عن أبي توبه قال: سمعت الفراء يقول: مدحني رجل من النحويين فقال لي: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟ فأعجبتني نفسي فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأني كنت طائراً يغرف من البحر بمنقاره.
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: قرأت بخط أبي الطيب ابن أخي الشافعي قال: أشرف الرشيد على الكسائي وهو لا يراه، فقام الكسائي ليلبس نعله لحاجةٍ يريدها فابتدرها الأمين والمأمون، وكان مؤدبهما فوضعاها بين يديه، فقبل رؤوسهما وأيديهما ثم أقسم عليهما ألا يعاودا، فلما جلس الرشيد مجلسه قال: أي الناس أكرم خدماً؟ قال: أمير المؤمنين - أعزه الله - قال: بل الكسائي يخدمه الأمين والمأمون، وحدثهم الحديث.
حدث السلامي قال: حضر مجلس الكسائي أعرابي وهم يتحاورون في النحو فأعجبه ذلك، ثم تناظروا في التصريف فلم يهتد إلى ما يقولون، ففارقهم وأنشأ يقول:
مازال أخذهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
بمفعل فعلٍ لا طاب من كلمٍ ... كأنه زجل الغربان. واليوم

وقرأ بخط أبي سعيدٍ عبد الرحمن بن علي اليزدادي اللغوي الكاتب في كتاب جلاء المعرفة من تصنيفه قيل: اجتمع إبراهيم النظام وضرار بين يدي الرشيد، فتناظرا في القدر حتى دقت مناظرتهما فلم يفهمهما، فقال لبعض خدمه ومن يثق به ويرضى برأيه: اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلح منهما، فلما صارا في بعض الطريق قال إبراهيم النظام لضرارٍ: أنت تعلم أن الكسائي لا يحسن شيئاً من النظر، وإنما معوله على النحو والحساب، ولكن تهيئ له مسألة نحوٍ، وأهيئ له مسألة حسابٍ فنشغله بهما، لأنا لا نأمن إن يسمع منا ما لم يسمعه ولم يبلغه فهمه أن ينسبنا إلى الزندقه، فلما صارا إليه سلما عليه، ثم بدأ ضرار فقال: أسألك - أصلحك الله - عن مسألة من النحو؟ قال: هاتها، قال: ماحد الفاعل والمفعول به؟ قال الكسائي: حد الفاعل الرفع أبداً، وحد المفعول به النصب أبداً، قال: فكيف تقول ضرب زيد؟ فقال: ضرب زيد. قال: فلم رفعت زيداً وقد شرطت أن المفعول به منصوب أبداً؟ قال لأنه لم يسم فاعله، قال له: فقد أخطأت في العبارة، إذ لم تقل إن المفعولين من إذا لم يسم فاعله كان مرفوعاً، ومن جعل لك الحكم بان تجعل الرفع لمن لم يسم فاعله؟ قال: لأنا إذا لم نذكر الفاعل أقمنا المفعول به مقامه، لأن الفعل الواقع عليه غير مستحكم النقص، وعدم النقص مطابق للرفع، فإذا ذكرنا من فعل به وأفصحنا بذلك نصبناه. قال له: فإن كان النصب مطابقا للنقص فمن لم يسم فاعله أولى به، لأنا إذا قلنا: ضرب زيد فقد يمكن إن يكون ضربه مائة رجل، وإذا قلنا ضرب عبد الله زيداً فلم يضربه إلا رجل واحد، فالذي أمكن إن يضربه مائة رجل أولى بالنصب والنقص ممن لم يضربه إلا رجل واحد، فوقف الكسائي فلم يدر مايقول. ثم قال له إبراهيم: أسألك - أصلحك الله - عن مسألةٍ من الحساب؟ قال: قل. قال: كم جذر عشرة. قال: اجتمع الحساب على إنه لاجذر لعشرةٍ. قال: فهل علم الله جذرها؟ قال: الله عالم كل شيء ألقاه إلى نبيٍ من أنبيائه؟ ثم ألقاه ذلك النبي إلى صفيٍ من أصفيائه، فلم يزل ذلك العلم ينمى حتى صار علم جذر عشرةٍ عندي، وأكون أعلم جذرها ولاتعلمه أنت، وتكون مخطئاً فيما قلت، فالتفت الكسائي إلى الغلام وقال: اذهب بهذين إلى أمير المؤمنين فقل: إنهما زنديقان كافران بالله العظيم. قال: وكان الخادم لبيباً حصيفاً فأحسن العبارة عنهما وحسن أمورهما، فأمر بهما بجائزةٍ سنيةٍ وصرفهما.
قال المؤلف: وهذه الحكاية عندي مصنوعة باردة، وإنما كتبتها لكوني وجدتها بخط رجلٍ عالمٍ. وحدث سلمة بن عاصمٍ قال: قال الكسائي: حلفت ألا أكلم عامياً ألا بما يوافقه ويشبه كلامه، وذلك أنني وقفت على نجارٍ فقلت له: بكم ذانك البابان؟ فقال: بلحتان. فحلفت ألا أكلم عاميا إلا بما يصلحه. وحدث الحزنبل قال: أنشدنا يعقوب بن السكيت لأبي الجراح العقيلي يمدح الكسائي:
ضحوك إذا زف الخوان وزوره ... يحيا بأهلاً مرحباً ثم يجلس
أبا حسنٍ ماجئتكم قط مطفئاً ... لظى الشوق إلا والزجاجة تقلس
قال يعقوب: يريد تمتلئ حتى تفيض، ونصب قوله يحيا بأهلاً على الحكاية.
وحدث عبد الله بن جعفر بن علي بن مهدي عن أحمد بن الحارث الخراز قال: كان الكسائي ممن وسم بالتعليم، وكان كسب به مالاً إلا أنه حكى عنه إنه أقام غلاماً ممن عنده في الكتاب وقام يفسق به وجاء بعض الكتاب ليسلم عليه فرآه الكسائي ولم يره الغلام، فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائماً مبهوتاً، فلما دخل الكاتب قال للكسائي: ماشأن هذا الغلام قائماً؟ قال وقع الفعل عليه فأنتصب. وحدث المرزباني فيما أسنده إلى سعدون القارئ قال: رأيت الكسائي وهو يسأل أبا الحسن المروزي وقد أقام أربعين سنة يختلف إلى الكسائي والمروزي يقول: كيف تقول مررت بدجاجةٍ تنقرك أو تنقرك أو تنقرك؟ فقال له الكسائي؟ استحييت لك، بعد أربعين سنة لاتعرف حروف النعت؟ إنها تتبع الأسماء، قل تنقرك من نعت الدجاجة. قال: والكسائي يهزأ به ويعبث وينقر أنفه.

وحدث أيضا بإسناد رفعه إلى نصير الرازي النحوي رجل كان بالري قال: قدم الكسائي مع هارون فاعتل علةً منكرةً فأتاه هارون ماشياً متفرغاً فخرج من عنده وهو مغموم جداً فقال لأصحابه: ما أظن الكسائي إلا ميتاً وجعل يسترجع، فجعل القوم يعزونه ويطيبون نفسه وهو يظهر حزناً فقالوا يا أمير المؤمنين: وماله قضيت عليه بهذا؟ قال: إنه حدثني أنه لقى رجلاً من الأعراب عالماً غزير العلم بموضعٍ يقال له ذو النخيلة، قال الكسائي: فكنت أغدو عليه وأروح أمتاح ماعنده، فغدوت عليه غدوةً من تلك الغدوات فإذا هو ثقيل ورأيت به علةً منكرةً قال: فألقى نفسه وجعل يتنفس ويقول:
قدر أحلك ذا النخيل وقد ترى ... وأبى مالك ذو النخيل بدار
ألا كداركم بذي بقر الحمى ... هيهات ذو بقرٍ من المزدار
قال الكسائي: فغدوت عليه صباحاً فإذا هو لما به: فدخلت الساعة على الكسائي فإذا هو ينشد هذين البيتين، فغمنى ذلك غماً شديداً، فكان كما قال: مات من يومه ودفن بمنزله في سكة حنظلة ابن نصر بالري سنة اثنتين وثمانين ومائة، وفي غير هذه الرواية زيادة في الشعر:
قالت جمال وكلهن جميلة ... ما تأمرون بهولاء السفار
قالوا بنو سفرٍ ولم نشعر بهم ... وهم الذين نريد غير تمارى
لما اتكأت على الحشايا مضمضت ... بالنوم أعينهن بعد غرار
سقط الندى بجنوبهن كأنما ... سقط الندى بلطائم العطار
وكانت وفاته برنبوية، كورة من كور الري هو ومحمد بن الحسن الفقيه في وقتٍ واحدٍ، وكانا خرجا مع الرشيد إليها. فقال الرشيد: دفنت الفقه والنحو برنبوية، فقال أبو محمد اليزيدي يرثيهما:
تصرمت الدنيا فليس خلود ... وماقد ترى من بهجةٍ سيبيد
سيفنيك ما أفنى القرون التي مضت ... فكن مستعداً فالفناء عتيد
أسيت على قاضى القضاة محمدٍ ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بايضاحه يوما وأنت فقيد؟
وأوجعني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد
وأذهلني عن كل عيش ولذة ... وأرق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديا وتخرما ... ومالهما في العالمين نديد
وقد روى أن وفاة الكسائي كانت بطوس لا الرى. ولما بلغت هذه الأبيات إلى الرشيد قال يايزيدي: لئن كنت تسيء الكسائي في حياته، لقد أحسنت بعد موته. وقيل بل قال له: أحسنت يابصري، لئن كنت تظلمه في حياته، لقد أنصفته بعد موته. ومات الكسائي وله من التصانيف: كتاب معاني القران، كتاب مختصر في النحو، كتاب القراءات. كتاب العدد. كتاب النوادر الكبير، كتاب النوادر الأوسط، كتاب النوادر الأصغر، كتاب اختلاف العدد، كتاب الهجاء، كتاب مقطوع القران وموصوله، كتاب المصادر، كتاب الحروف، كتاب أشعار المعاياة وطرائقها، كتاب الهاءات المكنى بها في القران.
قرأت بخط الأزهري في كتاب نظم القرآ ن للمنذري: أسمعني أبو بكر عن بعض مشايخه أن الكسائي كان يقوم في المحراب يؤم فتشتد عليه القراءة حتى لا يقوم بقراءة (الحمد لله رب العالمين)، ثم يتحرف فيقبل عليهم فيملي القرآن حفظاً ويفسره بمعانية وتفسيره
علي بن حمزة بن عمارة بن حمزةابن يسار بن عثمان الأصبهاني أبو الحسن، وعثمان هذا الذي أنتهت نسبة هذا إليه: هو والد أبي مسلم الخراساني ويسار أخوه، قال ذلك حمزة وقال: كان اسم ابيه قبل أن يسلم بنداد هرمز، فلما أسلم تسمى بعثمان، قال: وأبو مسلم اسمه: بهزادان بن بنداد هرمز، وعلي بن حمزة هذا من أولاد أخيه يسار، وكان أحد أدباء أصبهان المشهورين بالعلم والسعر والفضل والتصنيف، شائع ذلك ذائع عنه، وصنف كتباً منها: كتاب الشعر، وكتاب فقر البلغاء يشتمل على الاختيار من شعر عامة الشعراء، وكتاب قلائد الشرف في مفاخر أصبهان وأخبارها وغير ذلك.

قال حمزة في مقدمة كتابه: وقد كان رجل من كبار أهل الأدب ببلدنا تعاطى عمل كتابٍ في هذا الفن، وهو أبو الحسن على بن حمزة بن عمارة، وسماه قلائد الشرف، فشحنه بأخبار الفرس في السير والأبيات، نبذ بينهما جملاً من أخبار أصبهان تنقص عن السدس من كتابه، وحجمها يكون دون ثلاثين ورقةً، وروى فيما بينها أخباراً كأنها من أحاديث الحكم.
ومن شعر علي بن حمزة يرثى أبا مسلمٍ محمد ابن بحرٍ:
وقالوا ألا ترثي ابن بحر محمداً ... فقلت لهم: ردوا فؤادي واسمعوا
فلن يستطيع القول من طار قلبه ... جريحاً طريحاً بالمصائب يقرع
ومن بان عنه إلفه وخليله ... فليس له إلا إلى البعث مرجع
ومن كان أوفى الأوفياء لمخلصٍ ... ومن حيز في سرباله الفضل أجمع
سجايا كماء المزن شيب به الجنى ... جنى الشهد في صفو المدام يشعشع
وغرب ذكاءٍ واقدٍ مثل جمرةٍ ... وطبع به العضب المهند يطبع
ومن كان من بيت الكتابة في الذرى ... وذا منطقٍ في الحفل لايتتعتع
وله كتبه إلى أبي نجيحٍ أخي أبي سعدٍ الشاعر:
قد عزمنا على الصبوح فبادر ... قبل إن تضحى السماء المخيلة
فلذا الدجن ياخليلي ذمام ... لم أزل مذعقلت أمري خليله
وهو يوم أغر أبلج يهمى ... بحيا يستمد منه سيوله
ودعاني إليه أدهم داجٍ ... قد رحمنا بكاءه وعويله
شبه ليلٍ متى استضيف بليلٍ ... لم يسكن إلى الصباح صهيله
مطفح مهمر بلوع به يس ... تلب المدقع الضنين صليله
راكب نازل يغطمط وأب ... قد سئمنا ركوبه ونزوله
يطرد الجدب كلما جاش أعطى ... سائليه بضيعةً ونشيله
ولدينا من المعسل شيء ... يفثأ الدهر من فؤادي غليله
فتفضل بما سألت فقدماً ... بؤت للخل بالأيادي الجليله
ولك الحكم إن تحكم في الشر ... ب فلا تخف عن قلوب عليله
وفتوٍ كأنهم قضب الهن ... د لهم السن سلاط طويله
قال المؤلف: ولعلى بن حمزة هذا مفاوضات طوال وجوا بات لجماعةٍ من شعراء أصبهان، منهم أبو الحسن طباطبا العلوي وغيره، لم أذكر منها شيئا لطولها ولقلة فائدتها عندي، فشعره على هذا النمط لاطائل فيه إلا أنه عند أهل أصبهان جليل نبيل.
علي بن حمزة البصري اللغوييكنى أبا النعيم. كان أحد أعيان أهل اللغة الفضلاء المتحققين العارفين بصحيحها من سقيمها، وله ردود على جماعةٍ من أئمة أهل اللغة كابن دريدٍ والأصمعي وابن الأعرابي وغيرهم. ولما ورد المتنبي إلى بغداد كان بها وفي داره نزل.
قال أبو عليٍ الحسن بن يحيى الفقيه الصقلي يعرف بابن الخزاز في تاريخ صقلية من تصنيفه: وفي رمضان سنة خمسٍ وسبعين وثلاثمائةٍ مات على بن حمزة اللغوي البصري راوية المتنبي بصقلية، وصلى عليه القاضي إبراهيم ابن مالكٍ قاضي صقلية وكبر خمساً في الجامع. وله من التصانيف: كتاب الرد على أبي زيادٍ الكلابي، كتاب الرد على أبي عمرو الشيباني في نوادره، كتاب الرد على أبي حنيفة الدينوري في كتاب النبات، كتاب الرد على أبي عبيد القاسم بن سلامٍ في المصنف، كتاب الرد على ابن السكيت في إصلاح المنطق، كتاب الرد على ابن ولادٍ في المقصور والممدود، كتاب الرد على الجاحظ في الحيوان، كتاب الرد على ثعلبٍ في الفصيح. ورأيت هذه كلها بمصر.
ترجمة ثانية: علي بن حمزة البصري اللغوي أحد الأعلام الأئمة في الأدب، وله تصانيف وردود على أهل الأدب وفق فيها. وقد روى عنه أبو الفتح بن جنىٍ شيئاً من أخبار المتنبي وغيرها، لأن المتنبئ لما ورد بغداد نزل عليه وكان ضيفه إلى أن رحل عنها. فحدث أبو عبد الله محمد بن نصرٍ الحميدي في كتاب جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس في ترجمة ثابت بن محمد الجرجاني قال: أخبرني أبو محمدٍ على بن أحمد عن أبي الفتح ثابت بن محمد الجرجاني قال: أخبرني على بن حمزة مضيف المتنبئ قال: - وعنده نزل المتنبئ ببغداد - إن القصيدة التي أولها.
هذي برزت بنا فهجت رسيسا

قالها في محمد بن رزيق الناظر في زواميل ابن الزيات صاحب طرسوس، وأنه وصله عليها بعشرة دراهم فقيل له: إن شعره حسن فقال: ما أدرى أحسن هو أم قبيح؟ ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهما.
علي بن حمزة الأديبأبو الحسن مصنف الرسالة الحمارية، قدم دمشق ومدح بها أبا الفتح صالح بن أسدٍ الكاتب في سنة ثلاثين وأربعمائةٍ. روى عنه أبو الحسن على بن عبد السلام الصورى، ومات باطرابلس ذكره ابن عساكر هكذا
على بن حمزة بن علي بن طلحةابن علىٍ الرزاي الأصل البغدادي المولد والدار، ويعرف بابن بقشلان مات بمصر، أخبرني الحافظ أبو عبد الله محب الدين محمد بن النجار: إن علي بن حمزة بن طلحة مات في غرة شعبان سنة تسع وتسعين وخمسمائةٍ، ويكنى أبا الحسين، وتلقب بعلم الدين، ولى حجبة الباب في أيام المستضئ بالله ثم نيابة المقام ببغداد، فسافر إلى الشام وتنقل إلى إن حصل بمصر فمات بها، وعلم الدين هذا: هو صاحب الخط المليح الغاية على طريقة على بن هلال بن البواب خصوصاً قلم المصاحف، فإنه لم يكتبه أحد مثله فيمن تقدم أو تأخر، ولذلك ذكرناه في هذا الكتاب، ولما ولى حجبة الباب كان يتقعر في كلامه ويستعمل السجع وحوشى اللغة، فمن ذلك ماحدثني به جماعة أهل بغداد إلا أنني كتبته من لفظ الصدر أبي محمدٍ عبد الله بن الهروي الشاعر قال: لما ولى علم الدين حجبة باب النوبي حظر على العامة سماع الملاهي وشرب الخمر وارتكاب الفواحش، وتشدد في ذلك تشدداً عظيماً، وأرد بعض العامة المثرين ختان ولد له فاستشفع إليه بمن يعز عليه في أن يمكنه من إحضار بعض الملاهي لذلك، فأذن فيه ثم قال: جيئوني به أشرط عليه، فلما مثل بين يديه قال له: قد أذن لك في ختان ولدك على ألايكون عندك مزهر ولا مزمر ولابربط ولادف ولاطنبور ولاعود ولامحظور ولاالشيء الملقب بالشنك، ولا من يجول الغناء له ببالٍ ولايحظر في خيالٍ. فقال له العامي: فيأذن لي مولانا أن أحضر وريدة المخنث يلطم عندي دورين أو ثلاثة. قال: فغضب ابن طلحة وقال له: كأنك من الذين تشرئب نفوسهم إلى ما حرم الله، أيها العوام الجهلة، والوضعاء السفلة، يا أهالي الجهل والغواية. ويا أصحاب الضلالة والعماية: أما فيكم من له عقل يرده؟ ولادين يصده، فينبذ الآثام وراء ظهره، ويسعى إلى الخير بانشراح صدره، تتهافتون على الفواحش والمآثم، ولا تأخذكم في المعصية لومة لائمٍ، بدلني الله بكم غيركم، وكفاني شركم وخيركم. فقال الرجل: الله أكبر، يريد تكبير الصلاة. فقال ابن طلحة: وهذا أيضا من جهلك وقلة معرفتك وعقلك، ارجع إلى الله بقلبك، واستغفر لذنبك، ولاحول ولاقوة إلا بالله.
وكان أبو حمزة بن عليٍ وهو الملقب بكمال الدين ويكنى أبا الفتوح، من الأعيان الأماثل، ولى حجبة الباب للمسترشد، ووكله وكالةً مطلقةً، فلما استخلف المقتضى لأمرالله ولاه صدرية المخزن، وأكثر الحج وجاور بمكة، وهو الذي عمر المدرسة التي بباب العامة لأصحاب الشافعي، تعرف إلى الآن بالكمالية، ووقف على المتفقهين بها ثلث ملكه، ومات في صفرٍ سنة ست وخمسين وخمسمائةٍ ودفن بالحربية
علي بن خليفة بن علي النحوييعرف بابن المنقى أبو الحسن من أهل الموصل، كان إماماً فاضلاً تأدب عليه أكثر أهل عصره من أهل بلده، ومات في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائةٍ، وكان يجلس بالمسجد المعروف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالموصل، وصنف مقدمةً في النحو سماها المعونة، وكان زاهداً ورعاً مقداماً ذا سورةٍ وغضبٍ. أنشدني أبو الفضل محمد ابن أحمد بن خميسٍ المغربي الوكيل بباب القاضي بحلب، وهو موصلي المولد - مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائةٍ - قال: أنشدني ابن المنقى النحوي الموصلي لنفسه ودخل إليه رجل فقال له: من أين جئت؟ فقال له: من عند علامة الدنيا، يعني سعيد بن الدهان. فقال ارتجالاً:
وقالوا: الأعور الدهان حبر ... يفوق الناس في أدبٍ وكيس
فقلت: بحيس خير منه علماً ... وإن الكلب خير من بحيس
وأنشدني قال: أنشدني ابن المنقى لنفسه وقد طلب منه ملك النحاة حلاوةً بعد كلامٍ جرى بينهما في مجلس تاج الدين بن الشهرزوري:
عندي للشيخ مليك النحاة ... ريح شناجٍ سكنت في خصاه

لاعسل عندي ولاسكر ... فليعذر الشيخ ويأكل خراه
وأنشدني بزان بن سنقر الموصلي قال: أنشدني شيخنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن خليفة النحوي الأديب. ومات بباشزى من قرى البقعاء في سنة ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ قال: أنشدني والدى على بن خليفة بن المنقى - رحمه الله - لنفسه وقد عتب عليه جمال الدين الأصفهاني الوزير في ترك التردد إليه، ثم قصده بعد ذلك فمنعه البواب من غير أن يعرفه:
إني أتيتك زائراً ومسلماً ... كيما أقوم ببعض حق الواجب
فإذا ببابك حاجب متبظرم ... فعمود دارك في حرام الحاجب
ولئن رأيتك راضياً بفعاله ... فجميع ذلك في حرام الصاحب
وأنشدني بزان قال: أنشدني الحسين بن عليٍ قال: أنشدني والدي لنفسه في بعض الشعراء وقد هجاه:
هجوت ياابن اللئام فاستمع ال ... هجو بلا خيفةٍ ولامللٍ
فأنت من معشرٍ إذا لحظوا ... تنخس منهم محاجر المقل
على بن دبيس النحوي الموصليأبو الحسين، قرأ النحو على ابن وحشيٍ صاحب ابن جنىٍ، وأخذ عنه زيد مرزكة الموصلى وهو مذكور في بابه. ولعلي بن دبيسٍ أشعار حسان منها في وصف قوادٍ:
يسهل كل ممتنعٍ شديدٍ ... ويأتي بالمراد على اقتصاد
فلو كلفته تحصيل طيف ال ... خيال ضحىً لزار بلا رقاد
علي بن زيد القاشاني النحويأحد أصحاب أبي الفتح بن جنىٍ. وجدت بخطه ما كتبه في سنة إحدى عشرة وأربعمائةٍ. وهو صاحب الخط الكثير الضبط المعقد، سلك فيه طريقه شيخه أبي الفتح.
علي بن زيد

أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي. مات سنة خمسٍ وستين وخمسمائةٍ، قال هو في كتاب مشارب التجارب: أنا أبو الحسن علي بن الإمام أبي القاسم زيد بن الحاكم الإمام أميرك، محمد بن الحاكم أبي علىٍ الحسين بن أبي سليمان الإمام فندق بن الإمام أيوب بن الحسن بن أحمد بن ابن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عمرو بن الحسن بن عثمان ابن أيوب بن خزيمة بن عمرو بن خزيمة بن عمرو بن خزيمة بن ثابت بن ذي الشهادتين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن عنان بن عامر ابن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس، ورفع نسبة إلى آدم وذلك يسير كما ذكرناه في عدة مواضع من كتبنا. قال: ومولدي يوم السبت سابع عشرين شعبان سنة تسع وتسعين وأربعمائةٍ، في قصبة السابزوار من ناحية بيهق وهي بلدة بناها ساسان بن ساسان بن بابك ابن ساسان فأسلمني أبي بها إلى الكتاب، ثم رحلنا إلى ناحية ششتمذ من قرى تلك الناحية، ولوالدي بها ضياع، فحفظت في عهد الصبا كتاب الهادي للشاري تصنيف الميداني، وكتاب السامي في الأسامي له، وكتاب المصادر للقاضي الزوزني، وكتاب غريب القران للعزيزي، وكتاب إصلاح المنطق، وكتاب المنتحل للميكالي، وأشعار المتنبي، والحماسة، والسبعيات، وكتاب التلخيص في النحو. ثم بعد ذلك حفظت كتاب المجمل في اللغة، وحضرت في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائةٍ كتاب أبي جعفرٍ المقرئ إمام الجامع القديم بنيسابور مصنف كتاب ينابيع اللغة وغير ذلك، وحفظت في كتابه كتاب تاج المصادر من تصنيفه، وقرأت عليه نحو ابن فضالٍ، وفصلاً من كتاب المقتصد، والأمثال لأبي عبيدٍ، والأمثال للأمير أبي الفضل الميكالي، ثم حضرت درس الإمام صدر الآفاضل أحمد بن محمدٍ الميداني في محرم سنة ست عشرة وخمسمائةٍ، وصححت عليه كتاب السامي في الأسامي من تصنيفه، وكتاب المصادر للقاضي، وكتاب المنتحل، وكتاب غريب الحديث لأبي عبيد، وكتاب إصلاح المنطق ومجموع الأمثال من تصنيفه، وكتاب صحاح اللغة للجوهري. وفي أثناء ذلك كنت أختلف إلى الإمام إبراهيم الخراز المتكلم وأقتبس منه أنوار علوم الكلام، وإلى الإمام محمدٍ الفزاري وسمعت منه غريب الحديث للخطابي وغيرهم، ثم مات والدي في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ، فانتقلت في ذي الحجة سنة ثماني عشرة إلى مرو، فقرأت على تاج القضاة أبي سعد يحيى بن عبد الملك بن عبيد الله بن صاعدٍ، وكان ملكاً في صورة إنسان، وعلقت من لفظه كتاب الزكاة، والمسائل الخلافية، ثم سائر المسائل على غير الترتيب، وخضت في المناظرة والمجادلة سنةً جردةً حتى رضيت عن نفسي فيه ورضي عني أستاذي، وكنت أعقد جلس الوعظ في تلك المدرسة وفي الجامع، ثم انصرفت عن مرو في ربيعٍ الأول سنة احدى وعشرين وخمسمائةٍ، واشتغلت بمرو بتزويجٍ صدني عن التحصيل صداً، وعدت إلى نيسابور ثم عدت إلى مسقط الرأس وزيارة الوالدة ببيهق، وأقمت بها ثلاثة أشهر وذلك في سنة

إحدى وعشرين، ورجعت إلى نيسابور ثم رجعت إلى بيهق، واتفقت بيني وبين الأجل شهاب الدين محمد ابن مسعودٍ المختار وإلى الري ثم مشرف المملكة مصاهرة، وصرت مشدوداً بوثاق الأهل والأولاد سنين، وفوض إلى قضاء بيهق في جمادى الأولى سنة ستٍ وعشرين وخمسمائةٍ، فبخلت بزماني وعمري على إنفاقه في مثل هذه الأمور التي قصاراها ماقال شريح القاضي: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، فضقت ذرعاً ولم أجد بداً من الأنتقال حتى يتقلص عني ظل ذلك الأمر، فقصدت كورة الري ليلة العيد من شوال سنة ست وعشرين وخمسمائةٍ، والوالي بها شهاب الدين صهري، فتلقاني أكابرها وقضاتها وسائر الأجلاء، وأقمت بها إلى السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة سبعٍ وستين وخمسمائةٍ، وكنت في تلك المدة أنظر في الحساب والجبر والمقابلة وطرفاً من الأحكام، فلما رجعت إلى خراسان أتممت تلك الصناعة على الحكيم أستاذ خراسان عثمان بن جاذوكار، وحصلت كتباً من الأحكام، وصرت في تلك الصناعة مشاراً إلى، وانتقلت إلى نيسابور في غرة ربيعٍ الآخر سنة تسعٍ وعشرين وخمسمائةٍ، وكان علم الحكمة عندي غير نضيجٍ وعدت إلى بيهق وفي العين قذىً من نقصان الصناعة، فرأيت في المنام سنة ثلاثين قائلاً يقول: عليك بقطب الدين محمدٍ المروزي الملقب بالطبسي النصيري، فمضيت إلى سرخس وأقمت عنده وأنفقت ما عندي من الدنانير والدراهم، وعالجت جروح الحرص بتلك المراهم، وعدت إلى نيسابور في السابع والعشرين من شوال سنة اثنتين وثلاثين، وأقمت معه بنيسابور حتى أصابه الفالج وذلك في رجبٍ سنة ستٍ وثلاثين، فعدت إلى بيهق في شعبانها فأزعجني عنها حسد الأقارب، فخرجت منها خائفا أترقب في رمضان سنة سبعٍ وثلاثين إلى نيسابور، فأكرمني أكابرها، فكنت أعقد المجلس في يوم الجمعة بجامع نيسابور القديم، ويوم الأربعاء في مسجد المربع، ويوم الاثنين في مسجد الحاج، وتفد على وفود إكرام الوزير ملك الوزراء طاهر بن فخر الملك، وإكرام أكابر الحضرة، فألقيت العصا بنيسابور وأقمت بها إلى غرة رجب سنة تسعٍ وأربعين وخمسمائة، ثم ارتحلت عنها لزيارة والدتي، ومات ولدي أحمد ووالدتي في هذه السنة، وكانت حافظةً للقران عالمة بوجوه تفاسيره.
وهأنا أذكر تصانيفي في هذه المدة: كتاب أسئلة القران مع الأجوبة مجلدة، كتاب إعجاز القرآن

مجلد، كتاب الإفادة من كلمة الشهادة مجلدة، كتاب المختصر من الفرائض مجلد، كتاب الفرائض بالجدول مجلد، كتاب أصول الفقه مجلد، كتاب قرائن آيات القران مجلد، كتاب معارج نهج البلاغة وهو شرح الكتاب مجلد، كتاب نهج الرشاد في الأصول مجلد، كتاب كنز الحجج في الأصول مجلد، كتاب جلاء صدأ الشك في الأصول، كتاب إيضاح البراهين في الأصول مجلد، كتاب الإفادة في إثبات الحشر والإعادة مجلد، كتاب تحفة السادة مجلد، كتاب التحرير في التذكير مجلدان، كتاب الوقيعة في منكر الشريعة مجلد، كتاب تنبيه العلماء على تمويه المتشبهين بالعلماء، كتاب أزاهير الرياض المريعة وتفسير ألفاظ المحاورة والشريعة مجلد، كتاب أشعاره مجلد، كتاب درر السخاب ودرر السحاب في الرسائل مجلد، كتاب ملح البلاغة مجلد، كتاب البلاغة الخفية مجلد، كتاب طرائق الوسائل إلى حدائق الرسائل مجلد، كتاب الرسائل بالفارسي مجلد، كتاب رسائله المتفرقة مجلد، كتاب عقود اللآلئ مجلد، كتاب غرر الأمثال مجلدان، كتاب الانتصار من الأشرار مجلد، كتاب الاعتبار بالإقبال والإدبار مجلد، كتاب وشاح دمية القصر مجلد ضخم، كتاب أسرار الاعتذار مجلد، كتاب شرح مشكلات المقامات الحريرية مجلد، كتاب درة الوشاح مجلد خفيف، كتاب العروض مجلد، كتاب أزهار أشجار الأشعار مجلد، كتاب عقود المضاحك بالفارسي مجلد، كتاب نصائح الكبراء بالفارسية مجلد، كتاب آداب السفر مجلدة، كتاب مجامع الأمثال وبدائع الأقوال أربع مجلدات، كتاب مشارب التجارب أربع مجلداتٍ، كتاب ذخائر الحكم مجلدة، كتاب شرح الموجز المعجز مجلد، كتاب أسرار الحكم مجلدة، كتاب عرائس النفائس مجلدة، كتاب أطعمة المرضى مجلد، كتاب المعالجات الاعتبارية مجلد، كتاب تتمة صوان الحكمة مجلد، كتاب السموم مجلد، كتاب الحساب مجلد، كتاب خلاصة الزيجة مجلد، كتاب أسامي الأدوية وخواصها ومنافعها مجلد وهو معنون بتفاسير العقاقير مجلد ضخم، كتاب جوامع الأحكام ثلاث مجلدات، كتاب أمثلة الأعمال النجومية مجلد، كتاب مؤامرات الأعمال النجومية مجلد، كتاب غرر الأقيسة مجلد، كتاب معرفة ذات الحلق والكرة والأصطرلاب مجلد، كتاب أحكام القرانات مجلد، كتاب ربيع العارفين مجلد، كتاب رياحين العقول مجلد، كتاب الإراحة عن شدائد المساحة مجلد، كتاب حصص الأصفياء في قصص الأنبياء على طريق البلغاء بالفارسية مجلدان، كتاب المشتهر في نقض المعتبر الذي صنفه الحكيم أبو البركات مجلد، كتاب بساتين الأنس ودساتين الحدس في براهين النفس مجلد، كتاب مناهج الدرجات في شرح كتاب النجاة ثلاث مجلدات، كتاب الأمانات في شرح الإشارات، كتاب رقيات التشبيهات على خفايا المختلطات بالجداول مجلد، كتاب شرح رسالة الطر مجلد، كتاب شرح الحماسة مجلد، كتاب رسالة العطارة في مدح بني الزنارة، كتاب تعليقات فصول بقراط، كتاب شرح شعر البحتري وأبي تمام مجلد، كتاب شرح شهاب الأخبار مجلد.
قال المؤلف: هذا ماذكره في كتاب مشارب التجارب، ووجدت له تاريخ بيهق بالفارسية، وكتاب لباب الأنساب.
قال المؤلف: وقفت بنيسابور عند أول ورودي إليها في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وستمائةٍ على كتاب وشاح الدمية فقال فيه: إن أبا القاسم الباخرزي فرغ من تصنيف كتاب دمية القصر في جمادى الآخرة سنة ستٍ وستين وأربعمائةٍ، وإنه هو بدأ بتصنيف الوشاح في غرة جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائةٍ، وفرغ منه في رمضان سنة خمسٍ وثلاثين.
وأنشد لنفسه في كتاب الوشاح أشعاراً منها في مخلص الدين أبي الفضل محمد بن عاصمٍ كاتب الإنشاء في ديوان السلطان سنجر قال: وهو ابن أخت أبي إسماعيل الطغرائى:
كريم علا أوج النجوم علاه ... وأيقظ نوام المديح نداه
سرى واهتدى طبعي بنجم كما له ... وأحمد في وقت الصباح سراه
له روضة أبدت من الفضل نرجساً ... وغصناً من الإقبال طاب جناه
أعاد رساغ القلب في حبل وده ... وغادر قلبي في صراع هواه
يفرق أشجان الأفاضل يمنه ... ويجمع كل الصيد جوف فراه
لقد زرت أشراف الزمان وإنما ... أبى الفضل إلا أن أزور فناه

وذكره العماد الأصفهاني في كتاب الخريدة ووصفه بالرياسة والشرف وقال: حدثني والدي أنه لما مضى إلى الري عقيب النكبة أصبح ذات يومٍ وشرف الدين البيهقي قد قصده في مركبه وهو حينئذٍ والي الري ونقله إلى منزله وتكفل بتسديد خلله، وكان حينئذٍ يترشح لوزارة السلطان وهو كبير الشان، ومازالا بالري مقيمين متوانسين حتى فرق بينهما محتوم البين، وذلك في سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائةٍ.
قال: وأظنه نكب في وقعة السلطان سنجر مع الكفار الخطائية، وكان والدي يثني عليه أبدا ويقول: إنه ما نظر إلى نظيره، ولامثلت لعينه عين مثله، صنف كتاب وشاح الدميه، ذيله على كتاب أبي الحسن الباخرزي وهو موجود بخراسان، وأورد فيه لنفسه:
تراجعت الأمور على قفاها ... كما يتراجع البغل الرموح
وتستبق الحوادث مقدماتٍ ... كما يتقدم الكبش النطوح
وقوله:
يشير بأطرافٍ لطافٍ كأنها ... أنابيب مسكٍ أو أساريع إسحل
وتومي بلحظٍ فاتر الطرف فاتنٍ ... بمرود سحرٍ بابليٍ مكحل
ينم على مابيننا من تجاذبٍ ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وله:
يا خالق العرش حملت الورى ... لما طغى الماء على جارية
وعبدك الآن طغى ماؤه ... في صلبه فاحمل على جارية
قال المؤلف: هكذا ذكر العماد في كتابه، وإذا عارضت قوله بما ذكره البيهقي عن نفسه في كتبه الذي نقلت لفظه منه من خطة، وجدت فيه اختلافاً في التاريخ وغيره والله أعلم.
ومن شعر أبي الحسن البيهقي الذي أورده لنفسه في كتاب الوشاح في عزيز الدين أبي الفتوح على بن فضل الله المستوفي الطغرائي ونقلته من خطه:
شموسي في أفق الحياه هلال ... وأمنى من صرف الزمان محال
وأطلب والمطلوب عز وجوده ... وأرجو وتحقيق الرجاء محال
إلى كم أرجى من زماني مسرةً ... وقد شاب من رأس الزمان قذال
وبال الطاووس ألوان ريشه ... وعلم الفتى حقاً عليه وبال
وللدهر تفريق الأحبة عادة ... وللجهل داء في الطباع عضال
لقد ساد بالمال المصون معاشر ... وأخلاقهم للمخزيات عيال
وبينهم ذل المطامع عزة ... وعندهم كسب الحرام حلال
وله:
ضجيعي في ليلى جوىً ونحيب ... وإلفى في نومي ضنىً ولغوب
دجا ليل آمالي وأبطأ صبحه ... وللمنذرات السود فيه نعيب
وتلسعني الأيام فهي أراقم ... وتخدعني الآمال فهي كذوب
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وباعي في ظل الوصال رحيب؟
خليلي لاتركن إلى الدهر آمناً ... فإحسانه بالسيئات مشوب
وكم جاهلٍ قد قال لي أنت ناقص ... فهيج ليث الحقد وهو غضوب
وعيرني بالعلم والحلم والنهى ... قبائل من أهل الهوى وشعوب
فقلت لهم: لاتعذلوني فإنني ... لصفو زجاجات العلوم شروب
وماضرني أني عليم بمشكلٍ ... وقد مس أهل الدهر منه لغوب
لئن عد علم المرء جرماً لديكم ... فذلك جرم لست منه أتوب
كفى حزناً أني مقيم ببلدةٍ ... بها صاحب العلم الرصين غريب
وذكر أيضاً في هذا الكتاب قال: دخلت على الأمير يعقوب بن اسحاق المظفر بن نظام الملك، فأكرمني وقابلني بالتعظيم والتفخيم فقلت بديهةً:
يعقوب يظهر دائماً في لفظه ... عسلاً لديه يطمه يعسوبه
وغدا بحمد الله صدراً مكرماً ... يعلو نطاق المشتري عرقوبه
فسقى أنامله حدائق لفظه ... وجرى على نهج العلا يعبوبه
قد غاب يوسف خاطري عن مصره ... ويشم ريح قميصه يعقوبه
فأشار إلى وقال: هل لك أن تنسج على منوالي فيما قلت؟ فأنشدني لنفسه:
أعاذل مهلاً ليس عذلك ينفع ... وقولك فينا دائماً ليس ينجع
وهل يصبر الصب المشوق على الجوى ... وفي الوصل مشتاق وفي الهجر مجزع؟

يقولون: إن الهجر يشفي من الجوى ... وإن فؤاد الصب في القرب أجزع
بكل تداوينا فلم يشف مابنا ... على أن قرب الدار أجدى وأنفع
تحن إلى ظلٍ من العيشٍ وارفٍ ... وعهدٍ مضى منه مصيف ومربع
فقلت أيها الصدر: ليس للخل حلاوة العسل، وللتكحل طلاوة الكحل، ومن أين للسراج نور الشمس؟ وللكون سبق الخيل الشمس؟ ومن أين للضباب منفعة السحاب؟ فقال: لابد من ذلك، فجمعت العجالة والبداهة هنالك، وقلت في الحال في مقام الارتحال، وكتبت بقلم الارتحال على قرطاس الاستعجال:
سرى طيفه وهناً ولى فيه مطمع ... وبرق الأماني في دجى الهجر يلمع
ويأبى حقين الهجر عذرة طيفه ... فلم أدر في مهوى الهوى كيف أصنع؟
لقد يحمد القوم السرى في صباحهم ... زمان تلاقٍ عنده الشمل يجمع
وهانا أسرى في ظلامي وإنني ... أذم صباحي والخلائق هجع
أقول لصبري أنت ذخرى لدى النوى ... وذخر الفتى حقاً شفيع مشفع
وأسكن ماء العين نارى وإنما ... هواء الهوى من تربة الطيف أنفع
رأيت معيدي الخيال فقال من ... جهينة أخبار المعيدي تسمع
دعوت إلى جيش الهوى جندب الهوى ... فولى وطرف العين في النوم يرتع
وقال لنفسي: لاتموتي صبابةً ... لعل زماناً قد مضى لك يرجع
ولم يبق مني غير ماقلت منشداً ... حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا
فلاذ بشمس الدين يعقوب من له ... نجوم لها في مشرق المجد مطلع
أجلك يا يعقوب عن كنه مدحتي ... لأنك عن مدحي أجل وأرفع
قال: ثم شرفني بعد ذلك بقصيدةٍ أولها: ألا أبلغ إلى سلمى السلاما فأجبت وقلت بعد الجواب علاوةً للتصديع والإبرام، على طريق أداء شكر المنعم اللائق بأحوال الخدم:
يا صاحبي كسدت أسواق أشواقي ... والتفت الساق يوم الهجر بالساق
باليت شعري هل سعد يساعدني ... أم هل لداء الهوى من الناس من راق؟
أم هل سبيل إلى سلوان مكتئبٍ ... أم هل طريق إلى إيناس مشتاق؟
يا نجل اسحاق يا من ثوب سودده ... قد جل في الدهر عن وهي ابن اسحاق
فما تمهلت في يومي وغىً وندىً ... إلا قضيت بآجالٍ وأرزاق
وكل ذكرٍ وإن طال الزمان به ... فانٍ وذكرك في نادي الندى باق
علي سليمان الأديب البغداديأبو الحسن، أحد الفضلاء المبرزين والظراف المشهورين قرأت بخط أبي سعدٍ قال: ذكر أبو المظفر محمد بن العباس الأبيوردي في كتاب تعلة المشتاق من تصنيفه قال فيه: وقد صممت العزم على معاودة الحضرة الرضوية بخراسان لأنهى إليها ماقاسيته في التأخر عن الخدمة، وعلم الأديب أبو الحسن علي بن سليمان صرى عزمى، فجشم إلى قدمه، وجرى على عادته الرضية في رعاية جانبي تمهيداً لما استمر بيننا من أواصر المودة، ولعمر الفضل إني لم أجد في غربتي هذه فاضلاً يباريه، ولاظريفاً يجاريه، ومن وصف البغدادي بالفضل والظرف فقد كساه الثناء المختصر، وحمل التمر إلى هجر، ومن مليح ماأسمعنيه أنه قال: سألنا أبا القاسم عبد العزيز بن أحمد بن ناقيا البغدادي قلت هكذا، قال عبد العزيز، وصوابه عبد الله ذكرناه في بابه من هذا الكتاب، عن المتنبئ وابن نباته والرضي فقال: إن مثلهم عندي مثل رجلٍ بنى أبنيةً شاهقةً وقصوراً عاليةً وهو المتنبى، فجاء آخر وضرب حولها سرادقات وخيماً، وهو ابن نباته، ثم جاء الرضي ينزل تارةً عند هذا، وتارةً عند ذاك، قلت فأنشدني قال: أنشدني أسبهدوست بن محمد بن أسفارٍ الديلمي قال: أنشدني أبو الفرج الببغاء لنفسه:
أشقيتني فرضيت أن أشقى ... وملكتني فقتلتني عشقا
وزعمت أنك لاتكلمني ... عشراً فمن لك أنني أبقى؟
ليس الذي تبغيه من تلفى ... متعذراً فاستعمل الرفقا
قال الأبيوردى: وبهذا الإسناد قال: أنشدني ابن الحجاج لنفسه:
ياصروف الدهر حسبي ... أي ذنبٍ كان ذنبي؟

علة عمت وخصت ... لحبيبٍ ومحب
أنا أشكو حر حبٍ ... وهو يشكو برد حبي
قال الأبيوردي: فقل في محبوبٍ حربٍ، وعاشقٍ طربٍ.
علي بن سليمانيلقب حيدرة اليمنى النحوي التميمي، كان من وجوه أهل اليمن وأعيانهم علماً ونحواً وشعراً، وصنف كتباً منها: كتاب في النحو سماه كشف المشكل في مجلدين، وقال فيه يمدحه:
صنفت للمتأدبين مصنفاً ... سميته بكتاب كشف المشكل
سبق الأوائل مع تأخر عصره ... كم آخرٍ أزرى بفضل الأول
قيدت فيه كل ماقد أرسلوا ... ليس المقيد كالكلام المرسل
ومولده ببلاد بكيلٍ من أعمال ذمار، ومات سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، ومن شعره يحصره جمع التكسير:
سألت عن التكسير فاعلم بانها ... ثمانية أوزان جمع المكسر
فأربعة أوزان كل مقللٍ ... وأربعة أوزان كل مكثر
فعال وأفعال وفعل وأفعل ... وأفعلة منها وفعلات فانظر
ومنها فعول ياأخي وفعلة ... وتمثيلها إن كنت لما تصور
جمال وأفراس وأسد وأكبش ... وأكسية حمر لفتيان حمير
أتونا عشاء في ربوع لفتيةٍ ... من التغلبيين الكرام ويشكر
وكل خماسيٍ إذا ماجمعته ... فآخره فاحذف ولاتتعثر
فتجمع قرطعباً قراطع سالكاً ... به مسلك الجمع الرباعي المكثر
قلت أنا: هذا عجب ممن صنف كتاباً كبيراً في النحو يقول: جمع المكثر أربعة أوزان وهي على نحوٍ من خمسين وزناً.
علي بن سليمان بن الفضل الأخفشأبو الحسن، وهو الأخفش الصغير، وهناك الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد وقد ذكر، والأوسط وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة وقد مر في بابه، وهناك أخفش آخر، وهو عبد العزيز بن أحمد المغربي الأندلسي، وقد ذكر في بابه أيضا وغيرهم. ومات علي بن سليمان هذا في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ، ودفن بمقبرة قنطرة البردان، وذكر ذلك المزرباني. قال المزرباني في كتاب المقتبس: ذكر جماعة لقيناهم من النحويين وأهل اللغة. منهم علي بن سليمان بن الفضل الأخفش، ولم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئاً ألبته ولاقال شعراً، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر وأنتهر كثيرا من يواصل مساءلته ويتابعها، ثم ذكر وفاته كما تقدم قال: وشهدته يوماً وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رآه قال له:
حياك ربك أيها الحلواني ... ووقاك ما يأتي من الأزمان
ثم التفت إلينا وقال: ما نحن من الشعر إلا هذا وماجرى مجراه. هكذا ذكر أبو عبيدة الله تلميذه وصاحبه. وقال الجوهرى: الأجلع: الذي لاتنضم شفتاه على أسنانه، وكان الأخفش الأصغر النحوي أجلع. ووجدت في كتاب فهرست ابن النديم بخط مؤلفه، وذكر الأخفش هذا فقال: له من التصانيف: كتاب الأنواء، وكتاب التثنية والجمع، وكتاب شرح سيبويه حدثني الصاحب الوزير جلال الدين القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف القفطي - أدام الله أيامه - أنه ملكه في خمسة أجلادٍ. وكتاب تفسير رسالة كتاب سيبويه رأيته في نحو خمس كراريس، وكتاب الحداء، ووجدت أهل مصر ينسبون إليه كتاباً في النحو هذبه أحمد بن جعفرٍ الدينوري وسماه المهذب. وحدث أبو عبيدة الله: حضرت يوماً أبا الحسن الأخفش ودفع كتاباً إلى بعض من كان في مجلسه ليكتب عليه اسمه، فقال له أبو الحسن: خفش خفش يريد اكتب الأخفش ثم قال: أنشدنا أبو العباس المبرد:
لاتكرهن لقباً شهرت به ... فلرب محظوظٍ من اللقب
قد كان لقب مرة رجل ... بالوائلي فعد في العرب
قال الأخفش: دعاتي سوار بن أبي شراعة فتأخرت عنه وكتب إلى:
مضى النور واشتبهم الأغطش ... وأخلفني وعده الأخفش
وحال وحالت به شيمة ... كما حال عن لونه البرقش
أبا حسن كنت لي مألفاً ... فمالك عن دعوتى تطرش
وكنت لأعدائك الشانئيك ... سماماً كما نفث الأرقش
وكنت بقربك في روضةٍ ... فها أنا والبلد المعطش

إذا قلت قرطست في صاحبٍ ... نزعت كما ينزع المرعش
وسيان عندي من عقني ... عقوقك والحية الحربش
أقول وماحلت عن عهده ... رأيتك كالناس إذ فتشوا
وحدث - أخلي في الأصل - قال: كان ابن الرومي كثير الهجاء للأخفش، وذاك أن ابن الرومي كان كثير الطيرة وكان الأخفش كثير المزاح، وكان يباكره قبل كل أحدٍ فيطرق الباب على ابن الرومي فيقول: من بالباب؟ فيقول الأخفش: حرب بن مقاتلٍ، وما أشبه ذلك، فقال ابن الرومي يهجوه ويتهدده:
قل لنحوينا أبي حسنٍ ... إنى حسام متى ضربت مضى
لاتحسبن الهجاء يحفل بال ... رفع ولاخفض خافضٍ خفضا
كأنني بالشقي معتذرا ... إذا القوافي أذقنه مضضا
ينشدني العهد يوم ذاك ولل ... عهد خضاب أزاله فنضا
قال المزرباني: فحدثني المظفر بن يحيى قال: حدثني أبو عبد الله النحوي أن الأخفش قال يوما لابن الرومي: إنما كنت تدعى هجاءٍ مثقالٍ، فلما مات مثقال انقطع هجاؤك. قال فاختر على قافيةً. قال: على روى قصيدة دعبلٍ الشينية، فقال قصيدته التي يهجوه فيها ويجود حتى لايقدر أحد أن يدفعه عن ذلك، ويفحش حتى يفرط أولها:
ألا قل لنحويك الأخفش ... أنست فأقصر ولاتوحش
وماكنت عن غيةٍ مقصراً ... وأشلاء أمك لم تنبش
قال فيها:
أما والقريض ونقاده ... ونجشك فيه مع النجش
ودعواك عرفان نقاده ... بفضل النقى على الأنمش
لئن جئت ذا بشرٍ حالكٍ ... لقد جئت ذا نسبٍ أبرش
وماواحد جاء من أمه ... بأعجب من ناقدٍ أخفش
كأن سنا الشتم في عرضه ... سنا الفجر في السحر الأغبش
أقول وقد جاءني أنه ... ينوش هجائي مع النوش
إذا عكس الدهر أحكامه ... سطا أضعف القوم بالأبطش
وماكل من أفحشت أمه ... تعرض للقذع الأفحش
وهي قصيدة طويلة، ولما سار هجاؤه في الأخفش، جمع الأخفش جماعةً من الرؤساء، وكان كثير الصدق، فسألوا ابن الرومي أن يكف عنه، فأجابه إلى الصفح عنه، وسألوه أن يمدحه بما يزيل عنه عار هجائه فقال فيه:
ذكر الأخفش القديم فقلنا: ... إن للأخفش الحديث لفضلا
فإذا ماحكمت والروم قومي ... في كلامٍ معربٍ كنت عدلا
أنا بين الخصوم فيه غريب ... لا أرى الزور للمحاباة أهلا
ومتى قلت باطلاً لم ألقب ... فيلسوفاً ولم أسمى هرقلا
وذكر الزبيدي أن الأخفش كان يتحفظ هجاء ابن الرومي له ويمليه في جملة مايملي، فلما رأى ابن الرومي أنه لم يألم لهجائه ترك هجوه. وكان الأخفش قد قرأ على ثعلبٍ والمبرد وأبي العيناء واليزيدي.
وحدث الأخفش قال: استهدى إبراهيم بن المدبر المبرد جليساً يجمع إلى تأديب ولده الاستمتاع بإيناسه ومفاكهته، فندبني إليه وكتب معي: قد أنفذت إليك - أعزك الله - فلاناً وجملة أمره:
إذا زرت الملوك فإن حسبي ... شفيعاً عندهم أن يخبروني
وقدم الأخفش هذا مصر في سنة سبعٍ وثمانين ومائتين، وخرج منها سنة ثلاثمائةٍ إلى حلب مع علي ابن أحمد بن بسطام صاحب الخراج فلم يعد إلى مصر.
وحدث أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ في كتابه كتاب الوزراء قال:

حكى لي أبو الحسن ثابت بن سنان قال: كان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش مواصل المقام عند أبي علي بن مقلة ويراعيه أبو علي ويبره. فشكا إليه في بعض الأيام الإضاقة، وسأله أن يكلم أبا الحسن على بن عيسى وهو يومئذٍ وزيره في أمره، وسأله إجراء رزقٍ عليه في جملة من يرتزق من أمثاله، فخاطبه أبو علي وسأل أن يجري عليه رزقاً في جملة الفقهاء، فأنتهره علي بن عيسى انتهاراً شديداً وأجابه جواباً غليظاً، وكان ذلك في مجلسٍ حافلٍ، ومجمعٍ كاملٍ فشق على أبي عليٍ وماعامله به، وقام من مجلسه وقد اسودت الدنيا في عينيه، وصار إلى منزله لائماً لنفسه على سؤال علي بن عيسى ما سأله، وحلف أنه يجرد في السعي عليه، ووقف الأخفش على الصورة واغتم وانتهت به الحال إلى أن أكل الشلجم النييء، وقيل إنه قبض على قلبه فمات فجأة، وكان موته في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ.
علي بن سهل بن العباسأبو الحسن النيسابوري المفسر العالم العابد الدين، ذكره عبد الغفار في السياق وقال: مات في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وأربعمائةٍ، ووصفه فقال: نشأ في طلب العلم وتبحر في العربية، وكان من تلامذة أبي الحسن الواحدي
علي بن طاهر بن جعفرٍ
أبو الحسن السلمى النحوي. نقلت من خط ابن اللبان قال: نقلت من خط السمعاني قال: أخبرني أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الحافظ الدمشقي أنه سمع عبد الله بن سلوان وغيره، وكان ثقةً ديناً وقلما يكون النحوي ديناً، ذكر ابن الأكفاني أنه مات في الحادي والعشرين من شهر ربيعٍ الأول سنة خمسمائةٍ، وذكر الحافظ في تاريخ دمشق قال: علي بن طاهر بن جعفر بن عبد الله أبو الحسن القيسي السلمي النحوي، سمع أبا عبد الله ابن سلوان وأبا القاسم بن الشمشاطي، وأبا نصرٍ أحمد ابن علي بن الحسن الكفرطابي وذكر جماعةً قال: وروى عنه غيث بن علي.
وحدثنا عنه الفقيه أبو الحسن السلمي، وخالي القاضي أبو المعالي، وجميل بن تمامٍ، وحفاظ بن الحسن، وكان ثقةً وكانت له حلقة في الجامع، وقف فيها خزانةً فيها كتبه. ذكر أبو محمد بن صابرٍ أنه سأله عن مولده فقال: سنة إحدى وثلاثين وأربعمائةٍ. وذكر ابن الأكفاني أن أبا الحسن بن طاهرٍ النحوي مات يوم الحادي والعشرين من شهر ربيعٍ الأول سنة خمسمائةٍ.
علي بن طلحة بن كردان النحويأبو القاسم. قال أبو غالب بن بشران: كان ابن كردان يعرف بابن الصحناتي ولم يبع قط الصحناة، وإنما كان أعداؤه يلقبونه بذلك فغلب عليه قال: وهذا الشيخ أول الشيوخ الذين قرأت عليهم الأدب: قال السلفي الحافظ: سألت خميس بن عليٍ الحوزي عن ابن كردان فقال: صحب أبا علي الفارسي وعلي بن عيسى الرماني، وقرأ عليهما كتاب سيبويه، والواسطيون يفضلونه على ابن جنىٍ والربعي، صنف كتاباً كبيراً في إعراب القران، قال لي شيخنا أبو الفتح: كان يقارب خمسة عشر مجلداً، ثم بدا له فيه فغسله قبل موته، مات سنة أربعٍ وعشرين وأربعمائةٍ، وكان متنزهاً متصوناً، ركب إليه فخر الملك أبو غالبٍ محمد بن علي ابن خلفٍ وزير ابن بهاء الدولة وهو سلطان الوقت، وبذل له فلم يقبل، وكان قد جرت بينه وبين القاضي أبي تغلب أحمد بن عبيد الله العاقولي صديق الوزير المغربي وخليفة السلطان والحكام على واسط في وقته خصومة، وكان معظماً مفخماً، فقال له ابن كردان: إن صلت علينا بمالك صلنا عليك بقناعتنا. وآخر من حدث عنه أبو المعالي محمد بن عبد السلام بن شاندة، وذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيني في نحاة واسط فقال: علي بن طلحة بن كردان النحوي أبو القاسم الواسطى المولد والدار، أخذ النحو عن أبي علي الفارسي وأبي بكر بن الجراح صاحب ابن الأنباري، قال ابن بشران: هو أول شيخٍ قرأت عليه ووصفه بالفضل والمعرفة، وعنه أخذ النحو أبو الفتح محمد بن محمد ابن مختار وغيره من الواسطيين وكان شاعرا، ومن شعره ذم واسط:
سئم الأديب من المقام بواسطٍ ... إن الأديب بواسطٍ مهجور
يابلدةً فيها الغنى مكرم ... والعلم فيها ميت مقبور
لاجادك الغيث الهطول ولااجتلى ... فيك الربيع ولاعلاك حبور
شر البلاد أرى فعالك ساتراً ... عني الجميل، وشرك المشهور

حدث أبو الجوائز الحسن بن علي بن باري الكاتب الواسطي قال: اجتمع معنا في حلقة شيخنا أبي القاسم علي بن كردان النحوي سيدوك الشاعر ونحن في الجامع بواسط بعد صلاة الجمعة وجرى في عرض المذكرات ذكر من أحال على قلبه بالعشق، ومن أحال على ناظره به أيضاً ومضت أناشيد في ذلك، فقال أبو طاهرٍ سيدوك: قد حضرني في هذا المعنى شيء وأنشدنا:
ياقلب من هذا حذرت عليكا ... ذق ما جنيت فكم نصحت اليكا
إنضج بنارك لاأراحك حرها ... فلطالما ضاع العتاب لديكا
لما أطعت الطرف ثم عصيتني ... علق الهوى ياقلب من طرفيكا
وسمعت أذان العصر فقلت لشيخنا: أكتبها قبل إقامة الصلاة أو إذا صلينا؟ قال: اكتبها ولوأن الإمام على المنبر، وأنشدنا حينئذ لنفسه:
أبصرت في المأتم مقدودةً ... تقضى ذماماً بتكاليفها
تشير باللطم إلى وجنةٍ ... ضرجها مبدع تأليفها
إذا تبدى الصبح من وجهها ... جمشة ليل تطاريفها
وحدث أبو غالب بن بشران النحوي. قال: أنشدني أبو القاسم على بن طلحة بن كردان النحوي قال: أنشدني أبو طاهر سيدوك لنفسه وكان يعرض على شعره، وقد ابتكر معنى غريباً وإن كان اللفظ قريباً:
إن دائي الغداة أبرح داء ... وطبيبي سريرة ماتبوح
يحسبوني إذا تكلمت حياً ... ربما طار طائر مذبوح
قال ابن كردان وأنشدني سيدوك أيضاً لنفسه:
أستودع الله من بانوا فلا نظري ... مني ولاأذنى عندي ولابصري
عهدي بنا ورداء الوصل يشملنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
والآن ليلى مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير وصبحي غير منتظر
علي بن ظافر بن الحسين الأزديوكنية ظافرٍ أبو المنصور، وهو مصري وزر للملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان نعم الرجل، له علوم جمة وفضائل كثيرة، ثم ترك الوزارة وعاد إلى مصر فتوفى بها في منتصف شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائةٍ عن ثمان وأربعين سنةً.
وله من التصانيف: كتاب بدائع البدائة فيمن قال شعراً على البديهة، وكتاب مكرمات الكتاب، وكتاب أخبار الشجعان، وكتاب من أصيب بمن اسمه علي وابتدأ بعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام، وكتاب الدول المنقطعة، وكتاب التشبيهات، وكتاب أساس السياسة، وكتاب أخبار السلجوقية.
علي بن العباس النوبختيأبو الحسن، أحد مشايخ الكتاب وأهل الأدب المشاهير والمروءة. روى من أخبار البحتري وابن الرومي قطعةً حسنةً، ومات سنة تسع وعشرين وثلاثمائةٍ بعد سن عاليةٍ، وهو القائل لابن عمه أبي سهل اسماعيل بن عليٍ النوبختي وشرب دواءً:
يامحي العارفات والكرم ... وقاتل الحادثات والعدم
كيف رأيت الدواء وأعقبك ال ... له شفاءً به من السقم؟
لئن تخطت إليك نائبة ... حطت بقلبي ثقلاً من الألم
شربت فيها الدواء مرتجياً ... دفع أذى من عظامك العظم
والدهر لابد محدث طبعاً ... في صفحتي كل صارمٍ خذم
علي بن عبد الله بن سنان الطوسيأبو الحسن التيمي أحد أعيان علماء الكوفة، أخذ عن ابن الأعرابي، وكان عدواً لابن السكيت لأنهما أخذا عن نصران الخراساني واختلفا في كتبه بعد موته، - أخلي في الأصل - ذكره المرزباني فقال: حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن المعلى الباهلي قال: أكثرت يوماً سؤال الطوسي فقال متمثلاً:
يسر ويعطى كل شيء سألته ... ومن يكثر التسآل لابد يحرم
قال: ووجه بإنسان في حاجةٍ فقصر فقال:
نحلت وكلفناك مالم تقم به ... وهل تحمل الفصلان أحمال بزل؟
قال محمد بن إسحاق: كان الطوسي راويةً لأخبار القبائل وأشعار الفحول، ولقى مشايخ البصريين والكوفيين.
قال: ولامصنف له. وكان شاعراً ذكر له المزرباني قوله:
هجم البرد ولاأم ... لك إلا رواية العربية
وقميصاً لو هبت الريح لم يب ... ق على عاتقي منه بقية
هل يفل الفناء عني فنون ال ... علم إن أعصفت شمال عرية؟

قال: وقال أحمد بن أبي طاهرٍ يرثي الطوسي الراوية بقصيدةٍ طويلةٍ منها:
من عاش لم يخل من همٍ ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن
والموت قصد امرئ مد البقاء له ... فكيف يسكن من عيشٍ إلى سكن
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلف الباقي على الظعن
ولا أرى زمناً أردى أبا حسنٍ ... وخان فيه على حرٍ بمؤتمن
لقد هوى جبل للمجد لو وزنت ... به الجبال الرواسي الشم لم تزن
وأصبح الحبل حبل الدين منتثراً ... وأدرج العلم والطوسي في كفن
من لم يكن مثله في سالف الزمن ... ولم يكن مثله في غابر الزمن؟
علي بن عبد الله بن علي بن الحسينابن زيد بن علي بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبٍ عليهم السلام، أبو القاسم العلوي المعروف بالشبيه. سمع محمد بن المظفر، وكتب عنه علي بن أحمد الحافظ وقال: كان ديناً حسن الاعتقاد يورق بأجرةٍ ويأكل من كسب يده، ويواسي الفقراء من كسبه، سألته عن مولده فقال: ولدت في ليلة عيد الأضحى سنة ستين وثلاثمائةٍ، ومات في العشر الأول من رجبٍ سنة إحدى وأربعين وأربعمائةٍ.
قال الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمدٍ العلوي العمري النسابة في كتاب الشافي في النسب من تصنيفه: ومنهم - يعني من ولد الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام - زيد النسابة الجليل صاحب كتاب المبسوط، - ويلقب الشبيه - ابن علي بن الحسين بن زيدٍ الشهيد عليه السلام، فمن ولده ببغداد أبو الفضل الحسن صاحب العوجاء، وأخوه أبو القاسم علي الموضح الناسخ، له خط مليح ابنا أبي محمد عبد الله ابن عبد الله الحسين النقيب بن علي بن الحسين بن زيد الشبيه، به يعرفون، - وله بقية - . وجدت على ظهر ديوان عروة بن الورد بخط ابن الشبيه وكان الديوان كله بخطه:
ديوان عروة العبسي أوضحه ... خط امرئ زاده حسنا وتبيينا
تجل الأكارم من آل الشبيه فتى ... بجده ختم الله النبينا
صلى الإله عليه مادجا غسق ... ويرحم الله عبدا قال آمينا
علي عبد الله بن أحمد النيسابوري

المعروف بابن أبي الطيب، مولده بنيسابور، وموطنه قصبة سابزوار، وكان له معرفة تامة بالقران وبتفسيره، مات في ثامن شوالٍ سنة ثمان وخمسين وأربعمائةٍ، ودفن في مقبرة سابزوار، وقد عمل أبو القاسم علي بن محمد أبن الحسين بن عمروٍ من دهاقين وميمولان مدرسةً باسمه في محلة اسفريس في رمضان سنة عشرٍ وأربعمائةٍ، وأثرها إلى الآن باقٍ، وكان له تلاميذ كثيرة منهم أبو القاسم علي بن محمد بن الحسن بن عمروٍ وغيره، وله عدة تصانيف في تفسير القران المجيد منها: كتاب التفسير الكبير في ثلاثين مجلداً، وكتاب التفسير الأوسط أحد عشر مجلداً، وكتاب التفسير الصغير ثلاث مجلداتٍ. وكان يملي ذلك من حفظه، ولما مات رحمه الله لم يوجد في خزانة كتبه إلا أربع مجلداتٍ، أحدها فقهي، وآخر أدبي، ومجلدان في التاريخ، ودفن في مقبرة سابزوار، وعنده دعوة مستجابة مجربة، وحمل في سنة أربع عشرة وأربعمائةٍ إلى السلطان محمود بن سبكتكين، فلما دخل عليه جلس بغير إذنٍ وشرع في رواية خبرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير أمرٍ من السلطان، فقال السلطان لغلامٍ: يا غلام ده رأسه، فلكمه على رأسه لكمةً كانت سبباً إلى قلة سمعه وطرشه، ثم عرف السلطان منزلته من الدين والعلم والنزاهة والورع فاعتذر إليه وأمر له بمالٍ فلم يقبله وقال: لاحاجة لى في المال، فإن استطعت أن ترد على ماأخذته مني قبلته وهو سمعي، فقال له السلطان: أيها الرجل، إن للملك صولةً وهو مفتقر إلى السياسة، ورأيتك قد تعديت الواجب فجرى مني ماجرى، والآن فأحب أن تجعلني في حلٍ. فقال: الله بيني وبينك بالمرصاد، ثم قال له: إنما أحضرتني لسماع الواعظ وأخبار الرسول والخشوع، لالإقامة قوانين الملك واستعمال السياسة، فإن ذلك يتعلق بالملوك وأمثالهم لابالعلماء، فخجل السلطان وجبذ برأسه إليه وعانقه. ومن كلامه في خطبة التفسير: الزمان زمان سفهاء السفل، والقران قران انقلاب النحل والفضل في أبنائه فضول، وطلوع التمييز فيهم أفول، والدين دين، والدنيا عين، وإن تحلى أحدهم بالعلوم، وادعى أنه في الخصوص من العموم، فغايته أن يقرأ القران وهو غافل عن معانيه، ويتحلى بالفضل وهو لايدانيه، ويجمع الأحاديث والأخبار، وهو فيها مثل الحمار يحمل الأسفار. وله ديوان شعرٍ ومن شعره في دمية القصر:
فلك الأفاضل أرض نيسابور ... مرسى الأنام وليس مرسى بور
دعيت أبرشهر البلاد لأنها ... قطب وسائرها رسوم السور
هي قبة الإسلام نائرة الصوى ... فكأنها الأقمار في الديجور
من تلق منهم تلقه بمهابةٍ ... زفت عليه بفضله الموفور
لهم الأوامر والنواهي كلها ... ومدى سواههم رتبة المأمور
نقلت جميع ذلك من تاريخ بيهق لأبي الحسن بن أبي القاسم البيهقي مصنف كتاب وشاح الدمية.
علي بن عبد الله بن محمد بن الهيصمالهروي الإمام صدر الإسلام مات - انقطع في الأصل - ذكره أبو الحسن البيهقي في كتاب الوشاح فقال: قد بلغ من العلم أطوريه، فلا فضل إلا وهو منسوب إليه، ورست بالفصاحة قواعده، واشتد بالزهادة ساعده، وقد اختلفت مدةً مديدةً إليه، وقرأت ماشئت من دقائق العلوم عليه، ووجدته حالاً عقود المشكلات، فاتق رتوق المعضلات، ولعمري إنه - رحمه الله - كشف عن العلوم نقابها، ورفع عن الحقائق حجابها، فلم يكن في عصره فاضل إلا وقد اغترف من بحاره، واقتبس من أنواره، وتصانيفه كثيرة، وسعيه مشهور، وسعى الناظر فيه مشكور، ومن تصانيفه: كتاب مفتاح البلاغة، كتاب البسملة، كتاب نهج الرشاد، كتاب عقود الجواهر، كتاب لطائف النكت، كتاب تصفية القلوب، كتاب ديوان شعره، ومن منظومه:
ضحك الربيع بعبرة الأنداء ... ومن العجائب ضاحك ببكاء
خرجت له نحو الشتاء كتيبة ... ذعرت مواكبه عن الصحراء
ركبت فوارسه الهواء فجردت ... سيف جلا جيش الدجى بضياء
رق الربيع لها فأرسل نحوها ... بشرى بغيم في نسيم هواء
والغصن قرط أذنه بدراهمٍ ... مضروبةٍ من فضةٍ بيضاء
والروض ألبس حلةً موشيةً ... أحسن بها من صنعة الأنداء
قضبان نخلٍ أخرجت ذهباً لنا ... أعجب بها من صيرفٍ معطاء

وشقائق النعمان تشبه صارخاً ... متظلماً متشحطاً بدماء
والزعفران كأنما فرشت به ... ديباجة نسجت من القمراء
ساءلتها هلا برزت لناظرٍ ... صبٍ كشيبٍ هائمٍ بكاء؟
فأبت وآلت لايحل نقابها ... إلا مجير الدولة الغراء
وله:
هنيئاً لك العيد المبارك ياصدر ... وساعدك الإقبال واليمن والنصر
إذا ماأعاد العيد للناس نضرةً ... فقد ألبس الأعياد من وجهك البشر
وإن نشرت أعلام دين محمدٍ ... فذكرك في أقصى البلاد له نشر
وإن أحرم الحجاج عن جل حالهم ... فأحرم عمن دونك الفضل والفخر
وإن كان لبى للزيارة محرم ... فلبى إلى أوصافك النظم والنثر
وإن جمعوا فرضين ثم وقصروا ... فللدين والدنيا بك الجمع والقصر
وإن طوفوا بالبيت سبعاً وأحرموا ... فما طاف إلا بابك الأنجم الزهر
وإن ضحت الأقوام بالبدن سنةً ... فضح بمن عاداك ماانفلق الفجر
علي بن عبد الله بن وصيف الناشئالحلاء، ويكنى أبا الحسين. قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو عبد الله الخالع قال: حدثني الناشئ قال: كان جدي وصيف مملوكا، وكان عبد الله أبي عطاراً في الحضرة بالجانب الشرقي، وكنت لما نشأت معه في دكانه كان ابن الرومي يجلس عندنا وأنا لاأعرفه، وكان يلبس الدراعة وثيابه وسخة، وانقطع عنا مدةً فسألت عنه أبي وقلت: مافعل ذلك الشيخ الوسخ الثياب الذي كان يجلس الينا؟ فقال: ويحك ذاك ابن الرومي وقد مات، فندمت إن لم أكن أخذت عنه شيئاً ولاعرفته في حال حضوره وتشاغلت بالصنعة عن طلب العلم، ثم لقيت ثعلباً ولم آخذ عنه إلا أبياتا منها:
إن أخا الإخوان من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
قال الخالع: وكان الناشئ قليل البضاعة في الأدب قئوماً بالكلام والجدل، يعتقد الإمامة ويناظر عليها بأجود عبارةٍ، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم، وأشعاره فيهم لاتحصى كثرةً، ومدح مع ذلك الراضي بالله وله معه أخبار، وقصد كافوراً الإخشيدي بمصر وامتدحه، وامتدح ابن حنزابة وكان ينادمه، وطرى إلى البريدي بالبصرة، وإلى أبي الفضل بن العميد، بأرجان، وعضد الدولة بفارس، وكان مولده على ماخبرني به سنة إحدى وسبعين ومائتين، ومات يوم الاثنين لخمسٍ خلون من صفرٍ سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ، وكنت حينئذٍ بالري فورد كتاب ابن بقية إلى ابن العميد بخبره، وقيل: إنه شيع جنازته ماشيا وأهل الدولة كلهم، ودفن في مقابر قريشٍ وقبره هناك معروف.
قال الخالع: ولم يخلف عقباً ولاعلمت أنه تزوج قط، وكان يميل إلى الأحداث ولايشرب النبيذ، وله في المجون والولع طبقة عالية، وعنه أخذ مجان باب الطاق كلهم هذه الطريقة، وكان يخلط بجدله ومناظرته هزلاً مستلمحاً ومجوناً مستطاباً يعتمد به إخجال خصمه وكسر حده، وله في ذلك أخبار مشهورة، وكانت له جارية سوداء تخدمه، فدخل يوماً إلى دارأخته وأنامعه، فرأى صبياً صغيراً أسود فقال لها: من هذا؟ فسكتت فألح عليها فقال: ابن بشارة، فقال: ممن؟ فقالت من أجل هذا أمسكت، فاستدعى الجارية وقال لها: هذا الصبي من أبوه؟ فقالت ماله أب، فالتفت إلى فقال: سلم إذاً على المسيح عليه السلام.
قال ابن عبد الرحيم: حدثني الخالع قال: حدثني الناشئء قال: أدخلني ابن رائقٍ على الراضي بالله، وكنت مداحاً لابن رائق ونافقاً عليه، فلما وصلت إلى الراضي قال لي: أنت الناشئ الرافضي؟ فقلت خادم أمير المؤمنين الشيعي. فقال: من أي الشيعة؟ فقلت: شيعة بني هاشمٍ: فقال: هذا خبث حيلةٍ. فقلت: مع طهارة مولدٍ. فقال هات مامعك. فأنشدته فأمر أن يخلع على عشر قطع ثياباً، وأعطى أربعة آلاف درهم، فأخرج إلى ذلك وتسلمته وعدت إلى حضرته فقبلت الأرض وشركته وقلت: أنا ممن يلبس الطيلسان. فقال: هاهنا طيالس عدنية، أعطوه منها طيلساناً، وأضيفوا إليها عمامة خزٍ ففعلوا. فقال: أنشدني من شعرك في بني هاشم فأنشدته:
بني العباس إن لكم دماءً ... أراقتها أمية بالدخول
فليس بهاشميٍ من يوالي ... أمية واللعين أبا زبيل

فقلت مابينك وبين أبي زبيلٍ؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم. فابتسم وقال: انصرف. قال الخالع: وشاهدت العمامة والطيلسان معه وبقيا عنده إلى أن مات. قال: وحدثني الخالع قال: كان أبو الحسن شيخاً طويلاً جسيماً عظيم الخلقة، عريض الألواح، موفر القوة، جهوري الصوت، عمر نيفاً وتسعين سنةً، لم تضطرم أسنانه، ولاقلع سناً منها ولامن أضراسه. وكان يعمل الصفر ويخرمه، وله فيه صنعة بديعة. قال: ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريشٍ مربع غاية في حسنه.
قال الخالع: ومن مجونه في المناظرات وغيرها: أنه ناظر أبا الحسن على بن عيسى الرماني في مسألةٍ فانقطع الرماني وقال: أعاود النظر، وربما كان في أصحابي من هو أعلم مني بهذه المسألة، فإن ثبت الحق معك وافقتك عليه، فأخذ يندد به. ودخل أبو الحسن علي بن كعب الأنصاري أحد المعتزلة فقال: في أي شيء أنتم ياأبا الحسن؟ فقال: في ثيابنا، فقال: دعنا من مجونك وأعد المسألة، فلعلنا أن نقدح فيها فقال: كيف تقدح وحراقك رطب؟ ومنه حكايته المشهورة مع الأشعري الذي ناظره فصفعه فقال: ماهذا ياأبا الحسين؟ فقال: هذا فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: مافعله غيرك، وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة، فقال: ناقضت. إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله، وإن انتقلت فخذ العوض، فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرةً.
قال عبيد الله الفقير إليه تعالى مؤلف هذا الكتاب: لو كان الأشعري ماهراً لقام إليه وصفعه أشد من تلك ثم يقول له: صدقت، تلك من فعل الله بي، وهذه من فعل الله بك، فتصير النادرة عليه لا له.
قال الخالع: فأنشدني يوماً لنفسه من قصيدةٍ:
تجاه الشظا جنب الحمى فالمشرف ... حيال الربى فالشاهق المتشرف
فقلت له بم ارتفعت هذه الأسماء وهي ظروف؟ فقال بما يسوءك، وبعد هذا البيت:
طلول أطال الحزن لي حزن نهجها ... وألزمني وجداً عليها التأسف
فإذا حمل ماقاله على أن يجعل تلك الظروف هي الطلول، وهي: ماشخص من الأرض، وجعلت شخوصاً جاز الرفع على هذا التأويل، وإن جعلت محال للطلول فليس إلا النصب، ومن هذه القصيدة:
وقفت على أرجائها أسأل الربى ... عن الخرد الأتراب والدار صفصف
وكيف يجيب السائلين مرابع ... عفتها شآبيب من المزن وكف؟
ومنها وصف الخمر:
دنان كرهبان عليها برانس ... من الخزد كن يوم فصحٍ تصفف
ينظم منها المزج سلكاً كأنه ... إذا مابدا في الكأس در منصف
ومن مجون الناشئ: أنه ناظر بعض المجبرة فحرك الجبري يده فقال للناشئ: هذه من حركها؟ فقال الناشئ: من أمه زانية. فغضب الرجل فقال له: ناقضت، إذا كان المحرك غيرك فلم تغضب؟ قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أيضاً كفر وبهت، لأن المحرك لها على اعتقاد الناشئ مناظره، فيكون قد أساء العشرة مع جليسه، وعلى مذهب صاحبه الخالق، فيكون قد كفر، فعلى كل حال هو مسيء. وسمع يوماً رجلاً ينادي على لحم البقر: أين من حلف ألا يغبن؟ فقال له: إيش تريد منه؟ تريد أن تحنثه؟ ولقب رجلاً من باب الطاق بالأبعد، ولقب آخر بالآخر وهاتان لفظتان جامعتان لكل سبٍ وقذفٍ، لأن الناس مغرون بإلحاق كل قبيحٍ فظيعٍ بهما، على سبيل الكناية والاستراحة في الكلام إليهما.
قال الخالع: وحدثني الناشئ قال: لما وفدت على سيف الدولة وقع في أبو العباس النامي وقال: هذا يكتب التعاويذ. فقلت لسيف الدولة: يتأمل الأمير فإن كان يصلح أن يكتب مثله على المساجد بالربج فالقول كما قال: فأنشدته قصيدة أولها:
الدهر أيامه ماضٍ ومرتقب
وقلت فيها:
فارحل إلى حلبٍ فالخير منحلب ... من نيل كفك إن لاحت لنا حلب
فقال أبا الحسين: بيت جيد لكنه كثير اللبن وأنشدته قصيدة أخرى أقول فيها:
كان مشيبي إذ يلوح عقارب ... وأقتل ماأبصرت بيض العقارب
كأن الثريا عوذة في تميمةٍ ... وقد حليت واستودعت حرز كاعب
وحدث الخالع قال: حدثني أبو الحسن الناشئ قال: كنت بالكوفة في سنة خمسٍ وعشرين وثلاثمائةٍ وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي، فأمليت القصيدة التي أولها:

بآل محمد عرف الصواب ... وفي أبياتهم نزل الكتاب
وقلت فيها:
كأن سنان ذابله ضمير ... فليس عن القلوب له ذهاب
وصارمه كبيعته بخمٍ ... مقاصدها من الخلق الرقاب
فلمحته يكتب هذين البيتين، ومنها أخذ ماأنشدتموني الآن من قوله:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من همومٍ ... فما يخطرن إلا في فؤاد
قال الخالع: وأصل هذا لأبي تمامٍ:
من كل أزرق نظارٍ بلا نظرٍ ... إلى المقاتل مافي متنه أود
كأنه كان ترب الحب مذ زمنٍ ... فليس يعجزه قلب ولاكيد
وعليه وقع المتنبي وسبق إلى ذلك ديك الجن أيضاً في قوله:
قناً تنصب في ثغر التراقي ... كما ينصب في المقل الرقاد
وأبيات المتنبي أمثل من الجميع إذا تركت العصبية قال ابن عبد الرحيم: حدثني الخالع قال: كنت مع والدي في سنة ستٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد الذي بين الوراقين والصاغة وهو غاص بالناس، وإذا رجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطيحة وركوة ومعه عكاز وهو شعث فسلم على الجماعة بصوتٍ يرفعه ثم قال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، فقالوا: مرحباً بك وأهلاً ورفعوه فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: هاهو جالس، فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: هاهو جالس، فقال: رأيت مولاتنا عليها السلام في النوم فقالت لي: امض إلى بغداد واطلبه وقل له نح علي ابني بشعر الناشئ الذي يقول فيه:
بني أحمدٍ قلبي لكم يتقطع ... بمثل مصابي فيكم ليس يسمع
وكان الناشئ حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والناس كلهم. وكان أشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلى الناس الظهر وتقوض المجلس، وجهدوا بالرجل أن يقبل شيئاً منهم فقال: والله لو أعطيت الدنيا ما أخذتها، فإنني لاأرى أن أكون رسول مولاتي عليها السلام ثم آخذ عن ذلك عوضاً وانصرف ولم يقبل شيئاً. قال: ومن هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً:
عجبت لكم تفنون قتلاً بسيفكم ... ويسطو عليكم من لكم كان يخضع
كأن رسول الله أوصى بقتلكم ... وأجسامكم في كل أرضٍ توزع
قال: وحدثني الخالع قال: اجتزت بالناشئ يوماً وهو جالس في السراجين فقال لي: قد عملت قصيدةً وقد طلبت وأريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها فقلت: أمضى في حاجة وأعود، وقصدت المكان الذي أردته وجلست فيه فحملتني عيني فرأيت في منامي أبا القاسم عبد العزيز الشطرنجي النائح فقال لي: أحب أن تقوم فتكتب قصيدة الناشئ البائية فإنا قد نحنا بها البارحة بالمشهد، وكان هذا الرجل قد توفي وهو عائد من الزيارة، فقمت ورجعت إليه وقلت: هات البائية حتى أكتبها فقال: من أين علمت أنها بائية؟ وماذكرت بها أحداً، فحدثته بالمنام فبكى وقال: لاشك أن الوقت قد دنا فكتبتها فكان أولها:
رجائي بعيد والممات قريب ... ويخطئ ظني والمنون تصيب
ومن شعر الناشئ:
وليل توارى النجم من طول مكثه ... كما ازور محبوب لخوف رقيبه
كأن الثريا فيه باقة نرجسٍ ... يجيء بها ذو صبوةٍ لحبيبه
وله:
وكان عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من نار وجنته
قرأت بخط بديع بن عبد الله الهمذاني فيما قرأه علي ابن فارسٍ اللغوي: سمعت أبا الحسين الناشئ علي بن عبد الله بن وصيفٍ بمدينة السلام قال: حضرت مجلس أبي الحسين بن المغلس الفقيه فانقلبت محبرة لبعض من حضرعلى ثيابي، فدخل أبو الحسين وحمل إلى قميصا دبيقياً ورداءً حسناً. قال: فأخذتهما ورجعت إلى بيتي وغسلت ثيابي ولبستهما ورددت القميص والرداء إلى أبي الحسين. فلما رآهما غضب غضباً شديداً وقال: ألبسهما لولا أنك تتوشح بالأدب لجفوتك.
وهذه حكاية وجدتها بعد أخبار الناشئ بخط المصنف:

قرأت في كتاب محمد بن أبي الأزهر في عقلاء المجانين: حدثني علي بن ابراهيم بن موسى الكاتب قال: كنت يوماً جالساً في صحن داري إذا حجارة قد سقطت بالقرب مني، فبادرت هارباً وأمرت الغلام بالصعود إلى السطوح والنظر من أين أتتنا الحجارة؟ فرجع إلى وقال لي: يامولاي امرأة من دار ابن الرومي الشاعر تقول: الله الله فينا، اسقونا ماء وإلا متنا عطشاً، فإن الباب علينا مقفل منذ ثلاثة أيامٍ بسبب تطير صاحبنا، فإنه يلبس ثيابه في كل يوم ويتعوذ ويقرأ ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على خللٍ من الباب فتقع على جار له نازلٍ بإزائه وكان أعور، فإذا بصر به رجع وخلع ثيابه وترك الباب على حاله سائر يومه وليلته. فدفع إليها ماطلبته، فلمامات كان من غدٍ وجهت بخادم لي اسمه طاهر، وكان ابن الرومي يعرف وأمرته أن يجلس على بابه وتقدمت إلى بعض الغلمان في المصير إلى الأعور برسالتي ومسألته المصير إلى، فلما زال الرجل عن موضعه دق الخادم الباب على ابن الرومي وخاطبه وسأله المصير إلى أيضا. قال الخادم: فخرج فوضع عينه على ذلك الموضع فوقعت عينه علي ولم ير جاره ففتح الباب وخرج لاتقلع عينه عن النظر إلى، ولايصرف كلامه إلا إلى ناحيتي.
قال علي بن ابراهيم: فإني لجالس أنتظره، وقد انصرف الأعور إذ وافاني أبو خديجة الطرسوسي، وكان في ناحية اسماعيل بن اسحاق القاضي، وقد دفع إليه المعتضد برذعة ليوصله إلى الحسن ابنه ليتولى تسليمه إلى ابن راشدٍ، فنحن نتحدث إذ دخل ابن الرومي مع الخادم علينا، فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فأخذها بيده ودخل مذعوراً، فقلت له: أيكون شيء ياأبا الحسن أحسن من خروجك من منزلك على وجه خادمي؟ فقال: لقد لحقني مارأيت من العثرة لأني أفكرت إن به عاهةً، قلت: وماهي؟ قال: هو مجبوب، فقال برذعة الموسوس: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: هذا علي بن الرومي الكاتب، قال: الشاعر؟ قلت: نعم، فأقبل عليه فقال:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق مابيني وبين الحبائب
رجعت إلى نفسي فوطنتها على ... ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يومٍ تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر ألفاً والزجر واطرح ... تطير جارٍ أو تفاؤل صاحب
فرأيت ابن الرومي شبيهاً بالباهت ولم أدر أنه قد شغل قلبه بحفظ الأبيات، ثم نهض برذعه وأبو خديجة معه فقال له ابن الرومي: والله لاتطيرت بعد هذا، فأقام عندي وكتبت هذه الأبيات من حفظه وزالت عنه الطيرة.
الجزء الرابع عشر
علي بن عبد الله بن موهب الجذاميأبو الحسن. له تأليف عظيم في تفسير القرآ ن، روى عن ابن عبد البر وغيره، مات في سادس عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائةٍ، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائهٍ.
علي بن عبد الله بن محمدابن عبد الباقي بن أبي جرادة العقيلي أبو الحسن الأنطاكي من أهل حلب يسكن باب أنطاكية، غزير الفضل، وافر العقل، دمث الأخلاق، حسن العشرة، له معرفة بالأدب واللغة والحساب والنجوم، ويكتب خطاً حسناً، وله أصول حسنة، ورد بغداد سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ وسمع بها وغيرها، وسمع بحلب أبا الفتح عبد الله بن اسماعيل بن أحمد بن أبي عيسى الحلبي، وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حبوسٍ الغنوى.
قال ابن السمعاني: قرأت عليه بحلب وخرجت يوماً من عنده فراني بعض الصالحين فقال لي: أين كنت؟ قلت عند أبي الحسن بن أبي جرادة، قرأت عليه شيئاً من الحديث فأنكر علي وقال: ذاك يقرأ عليه الحديث؟ قلت: ولم؟ هل هو إلا متشيع يرى رأي الحلبيين؟ فقال لي: ليته اقتصر على هذا، بل يقول بالنجوم ويروى رأي الأوائل، وسمعت بعض الحلبيين يتهمه بذلك. وسألته عن مولده فقال: في محرمٍ سنة إحدى وستين وأربعمائةٍ بحلب، وأنشدني لنفسه:
يا ظباء البان قولاً بيناً ... من لنا منكم بظبيٍ ملنا؟
يشبه البدر بعاداً وسنا ... من نفى عن مقلتي الوسنا؟
فتكت ألحاظه في مهجتى ... فتك بيض الهند أو سمر القنا

يصرع الأبطال في نجدته ... إن رمي عن قوسه أو إن رنا
دان أهل الدل والحسن له ... مثل ما دأنت لمولانا الدنا
قال: ومات سنة نيفٍ وأربعين وخمسمائة. قلت: وكان لأبي الحسن هذا ابن فاضل أديب شاعر اسمه الحسن؟ وكنيته أبو عليٍ، سافر إلى مصر في أيام ابن رزيك ومدحه وحظى عنده، ثم مات بمصر سنة احدى وخمسين وخمسمائةٍ وهو القائل:
يا صاحبي أطيلا في مؤانستي ... وذكراني بخلانٍ وعشاق
وحدثاني حديث الخيف إن به ... روحاً لقلبي وتسهيلاً لأخلاقي
ما ضر ريح الصبا لو ناسمت حرقي ... واستنقذت مهجتي من أسر أشواقي
داء تقادم عندي، من يعالجه؟ ... ونفثه بلغت منى، من الراقي؟
يفنى الزمان وآمالي مصرمة ... ممن أحب على مطلٍ وإملاق
واضيعه العمر لا الماضي أنتفعت به ... ولاحصلت على أمرٍ من الباقي
علي بن عبد الجبار بن سلامةابن عيذون الهذلي اللغوي أبو الحسن التونسي ذكره السلفي فقال: أنشدني أبو محمد الشواذلي القيرواني قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميمٍ الحصري لنفسه بالقيروان:
قالوا اطرح أبداً كاف الخطاب ففي ... خط الكتاب بها حط من الرتب
فقلت من كان في نفسي تصوره ... فكيف أنزله في منزل الغيب؟
قال: وسألته عن مولده فقال: سنة ثمان وعشرين وأربعمائةٍ يوم عيد النحر بتونس، وتوفي رحمه الله في ذي الحجة سنة تسع عشرة وخمسمائة بالإسكندرية، وكان إماماً في اللغة حافظاً لها حتى إنه لو قيل لم يكن في زمانه ألغى منه لما استبعد، وكانت له قدرة على نظم الشعر، وله إلى قصائد وقد أجبته عنها.
ومن جملة شعره قصيدة في الرد على المرتد البغدادي، فيها أحدعشر ألف بيتٍ على قافيةٍ واحدةٍ، وفيها فوائد أدبيه. وسمعته يقول: رأيت أبا بكرٍ محمد بن علي ابن عبد البر اللغوي بمدينة مازر من جزيرة صقلية، وكنت عزمت على أن أقرأ عليه لما اشتهر من فضله وتبحره في اللغة، فاتصل بابن منكودٍ صاحب البلد أنه يشرب وكان يكرمه، فشق عليه وصار يكرهه وأنفذ إليه وقال: المدينة أكبر والشراب بها أكثر، فأحوجته الضرورة إلى الخروج منها ولم أقرأ عليه شيئاً.
وأما أبو عليٍ الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني، فقد رأيته أيضا بمازر، وأنشدني شيئاً ولم أر قط أحفظ للعربية واللغة من أبي القاسم بن القطاع الصقلي، وقرأت عليه كثيراً.
علي بن عبد الرحمن الخزاز السوسيأبو العلاء اللغوي من سوس خوزستان من أهل الأدب واللغة سمع المحاملي أبا عبد الله، وروى عنه أبو نصرٍ السجزي الحافظ، ولا أعلم من حاله غير هذا.
علي بن عبد الرحيم بن الحسنابن عبد الملك ابن ابراهيم السلمي المعروف بابن العصار اللغوي من أهل الرقة، ورد بغداد فقرأ بها العلم وأقام بالمطبق من دارالخلافة المعظمة، ومات في ثالث المحرم سنة ستٍ وسبعين وخمسمائةٍ، ومولده في سنة ثمان وخمسمائةٍ. انتهت إليه الرياسة في معرفة اللغة العربية. قرأ على أبي منصورٍ الجواليقي ولازمه حتى برع في فنه، وسمع الحديث من أبي العز أحمد بن عبيد الله بن كادش، والقاضي أبي بكرٍ محمد بن عبد الباقي قاضي البيمارستان، وأبي الوقت السجزي وغيرهم. وتخرج به جماعة منهم الشيخ أبو البقاء عبدالله بن الحسن العكبري الضرير، وكان تاجراً موسراً ضابطاً سافر الكثير إلى الديارالمصرية وأخذ عن أهلها وروى عنهم، وخطه المرغوب فيه المتنافس في تحصيله، فإنه مليح الخط جيد الضبط، ولا أعرف له مصنفاً ولا سمعت له شعراً
علي بن عبد العزيزالبغوي

بن المزربان بن سابور أبو الحسن البغوي الجوهري، عم أبي القاسم البغوي نزيل مكة، صاحب أبي عبيدٍ القاسم بن سلامٍ وروى عنه غريب الحديث، وكتاب الحيض، وكتاب الطهوروغير ذلك. وحدث عن أبي نعيمٍ، وحجاج بن المنهال، ومحمد بن كبيرٍ العبدي، وسلمة بن إبراهيم الأزدى، والقعنبي، وعاصم بن عليٍ وغيرهم، وصنف المسند. حدث عنه ابن اخيه عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، ودعلج السجزي، وسليمان بن أحمد الطبراني. وحدث بالمسند عنه أبوعليٍ حامد بن محمدٍ الرفاء الهروي. سئل عنه الدار قطني فقال: ثقة مأمون. وقال ابن أبي حاتمٍ: وهو صدوق.
حدث أبو بكر السني سمعت أبا عبد الرحمن النسائي، وسئل عن علي بن عبد العزيز المكي فقال: قبح الله علي ابن عبد العزيز ثلاثاً، فقيل له يا أبا عبد الرحمن: أتروى عنه؟ فقال لا، فقيل له يا أبا عبد الرحمن: أتروي عنه؟ فقال لا، فقيل له: أكان كذابا؟ فقال: لا، ولكن قوماً اجتمعوا ليقرءوا عليه وبروه بما سهل، وكان فيهم إنسان غريب فقير لم يكن في جملة من بره، فأبى أن يقرأ عليهم وهو حاضر حتى يخرج أو يدفع كما دفعوا، فذكر الغريب أن ليس معه إلا قصيعة فأمره بإحضارها، فلما أحضرها حدثهم.
وعن القاضي أبي نصر بن الكسار سمعت أبا بكرٍ السني يقول: بلغني أن علي بن عبد العزيز كان يقرأ كتب أبي عبيدٍ بمكة على الحاج بالأجر، فإذا عاتبوه على الأخذ قال: يا قوم أنا بين الأخشبين، إذا خرج الحاج نادى أبو قبيسٍ قعيقان من بقى؟ يقول: بقي المجاورون فيقول: أطبق.
وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله ابن المنادى فيمن مات في سنة سبعٍ وثمانين ومائتين. وجاءنا الخبر بموت على بن عبد العزيز صاحب ابي عبيدٍ من مكة مع الحاج، وأنه توفي قبل الموسم.
وحدث أبو سعدٍ السمعاني بإسنادٍ رفعه إلى أبي الحسين محمد بن طالبٍ النسفي قال: سمعت علي بن عبد العزيز بمكة في المسجد الحرام يقول: كنت عند مؤدبي الذي علمني الخط فجيء ببنيةٍ له صغيرةٍ يقال لها وسناء وعليها ثوب حريرٍ، فأجلسها في حجره وأنشأ يقول:
وما الوسناء إلا شبه درٍ ... ولاسيما إذا لبست حريرا
فأحسن زيها ثوب نظيف ... تكفن فيه ثم أرى سريرا
تهادى بين أربعةٍ عجالٍ ... إلى قبرٍ فتملؤنا سرورا
علي بن عبد العزيزالجرجانيبن الحسن بن علي، ابن اسماعيل الجرجاني أبو الحسن قاضي الري في أيام الصاحب بن عبادٍ وكان أديباً أريباً كاملاً. مات بالري يوم الثلاثاء لستٍ بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائةٍ وهو قاضي القضاة بالري حينئذٍ، وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال: ورد نيسابور سنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ مع أخيه أبي بكرٍ، وأخوه إذ ذاك فقيه مناظر، وأبو الحسن قد ناهز الحلم، فسمعا معاً الحديث الكبير، ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذكر في الدنيا. وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وحضر جنازته الوزير الخطير أبوعليٍ القاسم بن علي بن القاسم وزير مجد الدولة، وأبو الفضل العارض راجلين، ووقع الاختيار بعد موته على أبي موسى عيسى بن أحمد الديلمي فاستدعى من قزوين، وولى قضاء القضاة بالري وله يقول الصاحب بن عبادٍ: وقد أنشأ عهداً للقاضي عبد الجبار عليٍ قاضي الري:
إذا نحن سلمنا لك العلم كله ... فدعنا وهذي الكتب نحسن صدورها
فإنهم لا يرتضون مجيئنا ... بجزعٍ إذا نظمت أنت شذورها
وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به، وشمخ بانفه بالأنتماء إليه. وطوف في صباه البلاد وخالط العباد، واقتبس العلوم والآداب، ولقى مشايخ وقته وعلماء عصره. وله رسائل مدونه وأشعار مفننة، وكان جيد الخط مليحاً يشبه بخط ابن مقلة. ومن شعره:
أفدى الذي قال وفي كفه ... مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي ... قلت: فمي باللثم يجنيه
ومنه:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً في موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما

وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... من الذم أعتد الصيانى مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برقٍ لاح لي يستفزني ... ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما
ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً ... إذن فابتياع الجهل قد كان أحزما؟
ولوأن أهل العلم صانوه صانهم ... ولوعظموه في النفوس تعظما
ولكن أدلوه جهاراً ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
ومنه:
وقالوا: اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت: ولكن مطلب الرزق ضيق
إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق؟
ومنه:
أحب اسمه من أجله وسميه ... ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدا، فأحبهم ... وكلهم طاوى الضمير على حربي
ومنه:
قد برح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه ... فإنه خاتم عشاقك
وللقاضي عدة تصانيف منها: كتاب تفسير القران المجيد، كتاب تهذيب التاريخ. كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وفي هذا الكتاب يقول بعض أهل نيسابور:
أيا قاضياً قد دنت كتبه ... وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطه في حسنه ... لعقد معاليك كالواسطة
ومن شعره:
ما تطعمت لذ العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز عندي من العل ... م فلم أبتغي سواه أنيسا؟
إنما الذل في مخالطة أتلن ... ناس فدعهم وعش عزيزاً رئيسا
ومن سائر شعره قوله:
إذا شئت إن تستفرد المال منفقاً ... على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الأنفاق من كنز صبرها ... عليك وإنظاراً إلى زمن اليسر
فإن فعلت كنت الغنى وإن أبت ... فكل منوعٍ بعدها واسع العذر
وحدث الثعالبي عن أبي نصرٍ التهذيبي قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوماً من دار الصاحب وذلك قبيل العيد فجاءني رسوله بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذا البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه
قال: وسمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمده من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمس ... وأعزه ما نيل في الوطن
ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية، فقلت لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدى بين قومي فلم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي؟
فقلت: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).

قال الثعالبي: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز حسنة جرجان وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري: وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه، - وأنشد بيت الصاحب المقدم ذكره - وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلماء علماً، وفي الكمال عالماً، ثم عرج على حضرة الصاحب فألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به وحل منه محلاً بعيداً في رفعته، قريباً في أسرته، وسير فيه قصائد أخلصت على قصدٍ، وفرائد، أتت من فردٍ، وما منها إلا صوب العقل وذوب الفضل، وتقلد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته من الولاية والعطلة، وترقى محله إلى قضاء القضاة بالري، فلم يعزله إلا موته رحمه الله تعالى.
وعرض أبو نصرٍ المصعبي كتاباً للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب، في معنى القاضي أبي الحسن نسخته بعد التصدير والتشبيب: قد تقدم من وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز فيما سيق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش - دام علوه - من كتبي ما أعلم إني لم أؤد فيه بعض الحق وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل، وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسمٍ من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني: فالموقع الذي تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي ألا يفارقني مقيما وظاعناً ومسافراً وقاطناً، وقد احتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام فطالبني مكانه بتعريف الأمير مصدره ومورده، فإن عن له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد من فضله، ليتعجل إنكفاؤه إلي بما رسم - أدام الله أيامه - من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بذرقةٍ إن احتاج إلى الاستظهار بها، ومخاطبةٍ لبعض من في الطريق بتعرف النهج فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده فإني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي، عمل القاضي أبوالحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، فأحسن وأبدع، واطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب، وأعرب عن تبخره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناحٍ.
وقال فيه بعض النيسابوريين البيتين المقدم ذكرهما ومن شعره:
إنثر على خدى من وردك ... أو دع فمى يقطفه من خدك
ارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقد من قدك
وقل لعينيك بنفسي هما ... يخففان السقم عن عبدك
وله:
وفارقت حتى ما أسر بمن دنا ... مخافة نأيٍ أو حذار صدود
فقد جعلت نفسي تقول لمقلتيوقد قربوا خوف التباعد جودي
فليس قريباً من يخاف بعاده ... ولا من يرجى قربه ببعيد
وله يستطرد:
من عاذري من زمنٍ ظالم ... ليس بمستحيٍ ولا راحم؟
يفعل بالإخوان أحداثه ... فعل الهوى بالدنف الهائم
كأنما أصبح يرميهم ... عن جفن مولاي أبي القاسم
وقال يذكر بغداد ويتشوقها:
يا نسيم الجنوب بالله بلغ ... مايقول المتيم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالرقاد عندي سهاد ... مذ نأيتم والعيش عندي لمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فال ... شط فباب الشعير منى السلام
يا ديار السرور لازال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
رب عيشٍ صحبته فيك غضٍ ... وجفون الخطوب عني نيام
في ليال كانهن أمان ... من زمان كأنه أحلام
وكأن الأوقات فيها كئوس ... دائرات وأنسهن مدام
زمن مسعد وإلف وصول ... ومني يستلذها الأوهام

كل أنس ولذةٍ وسرورٍ ... بعد ما بنتم على حرام
وله في ذلك:
سقى جانبي بغداد أخلاف مزنةٍ ... تحاكى دموعي صوبها وانحدارها
فلي منهما قلب شجاني اشتياقه ... ومهجة نفسٍ ما أمل ادكارها
سأغفر للأيام كل عظيمةٍ ... لئن قربت بعد البعاد مزارها
وله في ذلك:
أراجعة تلك الليالي كعهدها ... إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها؟
وصحبة أحباب لبست لفقدهم ... ثياب حدادٍ يستجد خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق ... تجافت جفوني واستطير هجوعها؟
وإن أخلفتها الغاديات رعودها؟ ... تكلف تصديق الغمام دموعها
سق جانبي بغداد كل غمامة ... يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنسٍ تحالفت ... لواحظها ألا يداوى صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدى ... بانس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنما ... يشاد بحبات القلوب ربوعها
فكل ليالي عيشها زمن الصبا ... وكل فصول الدهر فيها ربيعها
وله في ذلك:
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن ... لولا التجمل لم أنفك أندبه
وصاحبٍ ما صحبت الصبر مذ بعدت ... دياره وأراني لست أصحبه
في كل يومٍ لعيني ما يؤرقها ... من ذكره ولقلبي ما يعذبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمر على ظلمي وأعتبه
حتى أوت لي النوى من طول جفوته ... وسهلت لي سبيلاً كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجنبه
وله في التخلص:
أو ما انثنيت عن الوداع بلوعة ... ملأت حشاك صبابةً وغليلا؟
ومدامعٍ تجري فتحسب أن في ... آماقهن بنان اسماعيلا
وله من قصيدةٍ في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغرب
تلقين أطراف السجوف بمشرقٍ ... لهن وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلا بين دمعٍ مضيعٍ ... ولاقمن إلا بين قلبٍ معذب
كأن فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشب
وله في الصاحب من قصيدةٍ:
وما بال هذا الدهر يطوي جوانحي ... على نفس محزونٍ وقلب كئيب
تقسمني الأيام قسمة جائرٍ ... على نضرةٍ من حالها وشحوب
كأني في كف الوزير رغيبة ... تقسم في جدوى أغر وهوب
وله من قصيدةٍ في الصاحب:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
وإن نحن حاولنا اختراع بديعةٍ ... حصلنا على مسروقها ومعادها
وله في الصاحب من قصيدة يهنئه بالبرء من المرض:
بك الدهر يبدي ظله ويطيب ... ويقلع عما ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربما ... ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كل يومٍ للمكارم روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب؟
تقسمت العلياء جسمك كله ... فمن أين فيه للسقام نصيب؟
إذا ألمت نفس الوزير تألمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
ووالله لا لاحظت وجهاً أحبه ... حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوباً ما أراه بوجهه ... ولكنه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيمت ... وعما قليل تبتدي فتصوب
تهلل وجه المجد وابتسم الندى ... وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقة ... ولازال فيها من ظلالك طيب
وله:
على مهجتي تجني الحوادث والدهر ... فأما اصطباري فهو ممتنع وعر

كأني ألاقي كل يوم ينوبني ... بذنبٍ وما ذنبي سوى أنني حر
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى ... وماعلموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرما ... على الغنى: نفسي الأبية والدهر
إذا قيل: هذا اليسر عاينت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدموا بالوفر قدمت قبلهم ... بنفس فقيرٍ كل أخلاقه وفر
وما إذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كف من حصل التبر
وله:
سقى الغيث أو دمعي وقل كلاهما ... لها أربعاً، جور الهوى بينها عدل
بحيث استرق الدعص وأنبسط النقى ... وحيث تناهت الحقف وانقطع الرمل
أكثر من أوصافها وهي واحد ... ولكن أرى أسماءها في فمي تحلو
وفي ذلك الخدر المكلل ظبية ... لكل فؤادٍ عند أجفانها ذحل
إذا خطرات الريح بين سجوفها ... أباحت لطرف العين ما حظر البخل
تلقت بأثناء النصيف لحاظنا ... وقالت لأخرى: ما لمستهترٍ عقل؟
أفي مثل هذا اليوم يمرح طرفه ... وأعداؤنا حول وحسادنا قبل؟
ومدت لإسبال السجوف بنانها ... فغازلنا عنها الشمائل والشكل
علي بن عبد العزيز بن إبراهيمابن بناء بن حاجب النعمان، أبو الحسن. قد ذكرت معنى تسميتهم بحاجب النعمان في ترجمة أبيه، وله ديوان شعر كبير الحجم، وكان أبوه يكتب لأبي محمدٍ المهلبي وزير معز الدولة، وكتب أبو الحسن للطائع لله، ثم للقادر بالله بعده في شوالٍ سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وخوطب برئيس الرؤساء، وخدم خليفتين أربعين سنةً، ومولده سنة أربعين وثلاثمائةٍ، ومات في رجبٍ سنة ثلاثٍ وعشرين وأربعمائةٍ، وولى ابنه أبوالفضل مكانه فلم يسد مسده فعزل بعد شهورٍ.
وحدث ابن نصرٍ قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن عيسى الشاعر المعروف بحمدية قال: لما قبض القادر بالله على أبي الحسن بن حاجب النعمان واستكتب أبا العلاء ابن تريكٍ وهي النظر وقل رونقه، واتفق أن دخل يوماً إلى الديوان فوجد على مخاده قطعةً من عذرةٍ يابسةٍ، فانخزل وتلاشى أمره فقبض عليه وأعيد أبو الحسن إلى رتبته، وكانت بيني وبين أبي العلاء من قبل مماظة في بعض الأمور، فامتدحت أبا الحسن بقصيدةٍ أولها:
زمت ركائبهم فاستشعر التلف
حتى بلغت منها إلى قولي:
يا من إذا ما رآه الدهر سألمه ... وظل معتذراً مما جنى وهفا
قد رام غيرك هذا الطرف يركبه ... فما استطاع له جريا بلى وقفا
لم يرجع الطرف عنه من تبظرمه ... حتر رأينا على دستٍ له طرفا
فدفع إلى صورة عنقاء فضةً مذهبةً كانت بين يديه فيها طيب وقال: خذ هذه الطرفة فإنها أطرف من طرفتك. وقرأ في المفاوضة: حدثني الوزير أبو العباس عيسى ابن ماسرجيس قال: كنت أخلف الوزارة ببغداد مشاركاً لأبي الحسن على بن عبد العزيز بن حاجب النعمان، فدعاني يوما إلى داره ببركة زلزلٍ وتجمل واحتشد ودعا بكل من يشار إليه بحذق في الغناء من رجالٍ وإماءٍ مثل علية الخاقانية وغيرها من نظرائها في الوقت، وحضر القاضي أبو بكر بن الأزرق نسيبه وانتقلنا من الطعام إلى مجلس الشراب، فلما دارت الكأس أدواراً قال لي: ما أراك تحلف على القاضي ليشرب معنا ويساعدنا وإن كان لا يشرب إلا قارصاً. قلت: أنا غريب ومحتشم له وأمره بك أمس وأنت به أخص. قال: فاستدعى غلاماً وقال: امض إلى إسحاق الواسطى واستدع منه قارصاً وتول خدمة القاضي - أيده الله - فمضى الغلام وغاب ساعةً ثم أتى ومعه خماسية فيها من الشراب الصريفيني الذي بين أيدينا إلا أن على رأسها كاغداً وختماً وسطراً فيه مكتوب: قارص من دكان إسحاق الواسطي. قال: فتأمله القاضي وأبصر الخط والختم ثم أمر فسقى رطلاً، فلما شربه واستوفاه قال للغلام: ويلك ما هذا؟ قال: يا سيدي هذا قارص. قال لا، بل والله الخالص، ثم ثنى له وثلث، فاضطرب أمر القاضي علينا وأنشأ يقول:

ألا فاسقني الصهباء من حلب الكرم ... ولاتسقني خمراً بعلمك أوعلمي
أليست لها أسماء شتى كثيرة ... ألا فاسقنيها واكن عن ذلك الإسم
فكان كلما أتاه بالقدح سأله عنه فيقول تارةً: مدام، وتارةً خندريس وهويشرب، فإذا قال له: خمر حرد واستخف به فيتوارى بالقدح ساعةً ثم يعيده ويقول: هذه قهوة فيشرب به، فلم يشرب القاضي إلا بمقدار ستة أسماءٍ أو سبعةٍ من أسماء الخمر حتى انبطح في المجلس ولف في طيلسان أزرق عليه وحمل إلى داره.
علي بن عبد الغني الأندلسيالقروي الحصري الأندلسي قال صاحب كتاب فرحة الأنفس: - وهو محمد بن أيوب بن غالبٍ الغرناطي - يكنى أبا الحسن، كان من أهل العلم بالنحو وشاعراً مشهوراً وكان ضريراً، طاف الأندلس ومدح ملوكها، فمن ذلك قوله للمعتمد بن عبادٍ عند موت أبيه المعتضد أبي عمرو وعباد بن محمدٍ:
مات عباد ولكن ... بقي النجل الكريم
فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم
ومدح بعض الملوك الأندلس فغفل عنه إلى أن حفزه الرحيل فدخل عليه وأنشده:
محبتي تقتضي ودادي ... وحالتي تقتضي الرحيلا
هذان خصمان لست أقضي ... بينهما خوف أن أميلا
ولا يزالان في اختصامٍ ... حتى ترى رأيك الجميلا
ودخل على المعتصم محمد بن معن بن صمادح فأنشده قصيدةً، فلما انصرف تكلم المعتصم في أمره مع وزرائه وكتابه ليرى رأيهم فيه، فنقل إليه عن الكاتب أبي الأصبغ بن أرقم كلام أحفظه، فانصرف ودخل علي ابن صمادحٍ وأنشده:
يأيها السيد المعظم ... لاتطع الكاتب ابن أرقم
لأنه حية وتدري ... مافعلت بأبيك آدم
وحكى أبو العباس البلنسي الأعمى أيضاً عنه وكان من تلاميذه، وهذان البيتان متنازعان بينهما لا أدرى لمن منهما؟
وقالوا: قد عميت فقلت: كلا ... وإني اليوم أبصر من بصير
سواد العين زاد سواد قلبي ... ليجتمعا على فهم الأمور
وذكره الحميدي وقال: دخل الأندلس بعد الخمسين وأربعمائةٍ وأنشدني بعضهم له:
ولما تمايل من سكره ... ونام دببت لأعجازه
فقال ومن ذا؟ فجاوبته ... عم يستدل بعكازه
علي بن أبي طالبأمير المؤمنين - صلوات الله عليه وسلامه - واسم أبي طالب عبد مناف - بن عبد المطلب، - واسم عبد المطلب عامر وهو شيبة الحمد لقب له - بن هشام - واسمه عمرو - بن عبد مناف - وهو المغيرة - بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
أخباره عليه السلام كثيرة، وفضائله شهيرة، إن تصدينا لاستيعابها وانتخاب محاسنها كانت أكبر حجماً من جميع كتابنا هذا. مات صلوات الله عليه يوم الجمعة لسبع عشرة ليلةً خلت من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، ومدة عمره فيها خلاف على ما نذكره فيما بعد، ولا بد من ذكر جملٍ من أمره على سبيل التاريخ يستدل بها على مجاري أموره، ونتبعها بذكر ولده ومن أعقب منهم ومن لم يعقب، وذكر شيء مما صح من شعره وحكمه.
وكان عليه السلام أول من وضع النحو وسن العربية، وذلك أنه مر برجل يقرأ: (إن الله بريء من المشركين ورسوله) بكسر اللام في رسوله، فوضع النحو وألقاه إلى أبي الأسود الدؤلي، وقد استوفينا خبر ذلك في باب أبي الأسود.
قرأت بخط أبي منصورٍ محمد بن أحمد الأزهري اللغوي في كتاب التهذيب له: قال أبو عثمان المازني: لم يصح عندنا أن علي بن أبي طالب عليه السلام تكلم من الشعر بشيء غير هذين البيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... ولا وجدك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر

قال: ويقال: داهية ذات روقين، وذات ودقين: إذا كانت عظيمةً. كان قد بويع له يوم قتل عثمان بن عفان رضي اله عنه، ثم كانت وقعة الجمل بعد ذلك بخمسة أشهرٍ وأحدٍ وعشرين يوماً، وعدة من قتل في وقعة الجمل ثمانية آلاف، منهم من الأزد خاصةً أربعة آلاف، ومن ضبة ألف ومائة، وباقيهم من سائر الناس وقيل: أقل من ذلك. ومن أصحاب علىٍ صلوات الله عليه نحو ألفٍ. وكانت الوقعة لعشرٍ خلون من جمادى الأولى سنة ستٍ وثلاثين، وكان بين وقعة الجمل والتقائه مع معاوية بصفين سبعة أشهرٍ وثلاثة عشر يوماً، وكان أول يومٍ وقعت الحرب بينهم بصفين غرة صفرٍ سنة سبعٍ وثلاثين، واختلف في عدة أصحابهما فقيل: كن علي في تسعين ألفاً، وكان معاوية في مائةٍ وعشرين ألفاً، وقيل: كان معاوية في تسعين ألفاً، وعلي عليه السلام في مائةٍ وعشرين ألفاً، منهم خمسة وعشرون من الصحابة، وقتل من أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً. وقيل: غير ذلك، وكان الماقم بصفين مائة يومٍ وعشرة أيامٍ، وكانت الوقائع تسعين وقعةً، وبين وقعة صفين والتقاء الحكمين وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص بدومة الجندل خمسة أشهرٍ وأربعة وعشرون يوماً، وبين التقائهما وخروج علي عليه السلام إلى الخوارج بنهروان وقتله إياهم سنة وشهران، وكان الخوارج أربعة آلافٍ عليهم عبد الله بن وهبٍ الراسبي من الأزد، وليس براسب بن جرم بن ريان، وليس في العرب غيرهما، فلما نزل علي عليه السلام تفرقوا فبقي منهم ألف وثمانمائةٍ، وقيل: ألف وخمسمائةٍ، فقتلوا إلا نفراً يسيراً، وكان سبب تفرق الخوارج عنه، أنهم تنازعوا عند الإحاطة بهم فقالوا: أسرعوا الروحة إلى الجنة، فقال عبد الله بن وهبٍ ولعلها إلى النار، فقال: من فارقه، ترانا نقاتل مع رجلٍ شاكٍ. وبين خروجه إلى الخوارج وقتل ابن ملجمٍ له لعنه الله تعالى سنة وخمسة أشهرٍ وخمسة أيامٍ.
واختلف في مدة عمره، فقال قوم: إنه استشهد وله ثمان وستون سنةً في قول من يذهب إلى أنه أسلم وله خمس عشرة سنةً، وقيل: ست وستون وهو قول من يذهب إلى أنه أسلم وله ثلاث عشرة سنةً، وقيل: ثلاث وستون وهو قول من يرى أنه أسلم وله عشر سنين، وقيل: ثمان وخمسون وهو قول من زعم أنه أسلم وله خمس سنين، وهذا أقل ما قيل في مقدار عمره.
واختلف في موضع قبره، فقيل: بالفرى وهو الموضع المشهور اليوم، وقيل: بمسجد الكوفة، وقيل: برحبة القصر بها وقيل: حمل إلى المدينة فدفن مع فاطمة صلوات الله عليها وسلامه، وكان أسمر عظيم البطن أصلع أبيض الرأس واللحية، أدعج عظيم العينين، ليس بالطويل ولا القصير، تملأ لحيته صدره، ولا يغير شيبه، وكان له من البنين أحد عشر، الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية - وأمه خولة بنت جعفر سبية - وعمر - أمه أم حببٍ الصهباء بنت ربيعة تغلبية - ، والعباس - أمه أم البنين بنت خزام بن خالدٍ من بني عامر بن صعصعة - ، وعبد الله يكنى أبا بكرٍ، وعثمان وجعفر ومحمد الأصغر، وقيل: هو الذي يكنى أبا بكرٍ، وعبيد الله ويحيى. المعقبون منهم خمسة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعمر والعباس عليهم السلام. وله من البنات ست عشرة: منهن زينب وأم كلثومٍ التي تزوجها عمر بن الخطاب، وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما وسلم، فالعقب للحسن بن علي عليهما السلام من زيد والحسن، والعقب لزيدٍ من الحسن بن زيدٍ، والعقب للحسن بن الحسن من جعفرٍ وداود وعبد الله والحسن وابراهيم. والعقب لمحمد بن الحنفية من جعفرٍ وعليٍ وعونٍ وابراهيم، والعقب لجعفر بن محمدٍ من عبد الله، ولعلى بن محمدٍ من عونٍ، ولعون بن محمدٍ ولإبراهيم بن محمدٍ.
فأما أبو هاشمٍ عبد الله بن محمد بن الحنفيه وهو أكبر ولده، فقد ظن قوم أنه أعقب وليس الأمر كذلك. والعقب لمحمد بن علي بن أبي طالب من محمد ابن عمر، والعقب لمحمد بن عمر لعمر وعبد الله وجعفرٍ. والعقب للعباس من عبيد الله بن العباس، والعقب لعبيد الله من الحسين وعبد الله عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
ومما يروى أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: إن لي فضائل، كان أبي سيداً في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخال المؤمنين وكاتب الوحي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أبالفضائل تفتخر علي يا ابن آكلة الأكباد؟ اكتب إليه يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمدٍ سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمدٍ ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي؟
سبقتكم إلى الإسلام طراً ... صغيراً ما بلغت أوان حلمي
فقال معاوية: أخفوا هذا الكتاب لا يقرؤه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالبٍ.
قرأت في كتاب الأمالي لأبي القاسم الزجاج قال: حدثنا أبو جعفرٍ أحمد بن محمد بن رستم الطبري صاحب أبي عثمان المازني قال: حدثنا أبو حاتمٍ السجستاني عن يعقوب بن إسحاق الخضري قال: حدثنا سعيد ين سلمٍ الباهلي قال: حدثني أبي عن جدي عن أبي الأسود الدؤلي، أو قال: عن جدي عن ابن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه قال: دخلت على أمير المؤمنين عليٍ بن أبي طالب عليه السلام، فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية. فقلت: إن فعلت هذا يا أمير المؤمنين أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيامٍ فألقى إلى صحيفةً فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: الكلام كله اسم وفعل وحرف، والاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسمٍ ولا فعلٍ. ثم قال لي: تتبعته وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشئ ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ. قال: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه وكان من ذلك حروف النصب، فكان منها إن وأن وليت ولعل وكأن ولم أذكر لكن. فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: بل هي منها فزدها فيها. قال: أبو القاسم: قوله عليه السلام: الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ، فالظاهر رجل وفرس وزيد وعمرو وما أشبه ذلك، والمضمر نحو، أنا وأنت والتاء في فعلت والياء في غلامي والكاف في ثوبك وما أشبه ذلك. وأما الشيء الذي ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ فالمبهم، نحو هذا وهذه وهاتا وتا ومن وما والذي وأي وكم ومتى وأين وما أشبه ذلك.
علي بن عبد الملك بن العباس القزوينيأبو طالبٍ النحوي، كان أبوه أبو عليٍ عبد الملك من أهل العلم ورواة الحديث، وسمع أبو طالبٍ جماعةً منهم: مهروية، وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان. قال الخليلي: وهو إمام في شانه قرانا عليه وأخذ عنه الخلق، ومات في آخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائةٍ. وخلف أولاداً صغاراً اشتغلوا بما لا يعنيهم فقتلوا. وأخوه أبو الحسن علي سمع الحديث لكنه كان كاتباً فلم يسمع منه. وأبو عليٍ ابنه سمع الحديث وقرأ الفقه، ثم اشتغل بالكتابة فمات في الغربة وقد انقطع نسله.
علي بن عبيدة الريحانيأحد البلغاء الفصحاء، من الناس من يفضله على الجاحظ، في البلاغة وحسن التصنيف مات - أخلي مكانه - وكان له اختصاص بالمأمون ويسلك في تأليفاته وتصنيفاته طريقة الحكمة، وكان يرمى بالزندقة، وله مع المأمون أخبار منها: أنه كان بحضرة المأمون فجمش غلاما فرآهما المأمون فأحب أن يعلم هل علم علي أم لا؟ فقال له: أرأيت؟ فأشار علي بيده وفرق أصابعه أي خمسة وتصحيف خمسةٍ جمشة، وغير ذلك من الأخبار المتعلقة بالفطنة والذكاء.
وقال جحظة في أماليه: حدثني أبو حرملة قال: قال علي بن عبيدة الريحاني: حضرني ثلاثة تلاميذ لي فجرى لي كلام حسن فقال أحدهم: حق هذا الكلام أن يكتب بالغوالي على خدود الغواني. وقال الأخر: بل حقه إن يكتب بانامل الحور على النور. وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بقلم الشكر في ورق النعم. ومن مستحسن أخباره المطربة أنه قال: أتيت باب الحسن ابن سهلٍ فأقمت ببابه ثلاثة أشهرٍ لا أحظى منه بطائلٍ فكتبت إليه:
مدحت ابن سهل ذا الأيادي وماله ... بذاك يد عندي ولا قدم بعد
وما ذنبه والناس إلا أقلهم ... عيال له إن كان لم يك لي جد
سأحمده للناس حتى إذا بدا ... له في رأي عاد لي ذلك الحمد

فبعث إلى: - باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلالٍ: مالٍ وعقلٍ وصبرٍ - فقلت للواسطة: تؤدي عني؟ قلت تقول له: ولو كان لي مالي لأغناني عن الطلب منك، أو صبر لصبرت على الذل ببابك، أو عقل لاستدللت به على النزاهة عن رفدك، فأمر لي بثلاثين ألف درهمٍ. قرأت بخط أبي الفضل العباس بن علي بن بردٍ الخباز: أخبرني أبو الفضل أحمد بن طاهرٍ قال: كنت في مجلس بعض أصدقائي يوماً وكان معي علي بن عبيدة الريحاني في المجلس، وفي المجلس جارية كان علي يحبها فجاء وقت الظهر فقمنا إلى الصلاه وعلي والجارية في الحديث فأطال حتى كادت الصلاه تفوت، فقلت له يا أبا الحسن: قم إلى الصلاه فأومأ بيده إلى الجارية وقال: حتى تغرب الشمس، أي حتى تقوم الجارية. قال: فجعلت أتعجب من حسن جوابه وسرعته وكنايته. وله من الكتب: كتاب المصون، كتاب التدرج، كتاب رائد الرد، كتاب المخاطب، كتاب الطارف، كتاب الهاشمي، كتاب الناشئ، كتاب الموشح، كتاب الجد، كتاب شمل الألفة، كتاب الزمام، كتاب المتحلي، كتاب الصبر، كتاب سباريها، كتاب مهرزاد خشيش، كتاب صفة الدنيا، كتاب روشنائدل، كتاب سفر الجنة، كتاب الأنواع، كتاب الوشيج، كتاب العقل والجمال، كتاب أديب جوانشير، كتاب شرح الهوى، كتاب الطارس، كتاب المسجى، كتاب أخلاق هارون، كتاب الأسنان، كتاب الخطب، كتاب الناجم، كتاب صفة الفرس، كتاب النبيه، كتاب المشاكل، كتاب فضائل إسحاق، كتاب صفة الموت، كتاب السمع والبصر، كتاب اليأس والرجاء، كتاب صفة العلماء، كتاب أنيس الملك، كتاب المؤمل والمهيب، كتاب ورودٍ وودودٍ الملكتين، كتاب النملة والبعوضة، كتاب المعاقبات، كتاب مدح النديم، كتاب الجمل، كتاب خطب المنابر، كتاب النكاح، كتاب الإيقاع، كتاب الأوصاف، كتاب امتحان الدهر، كتاب الأجواد، كتاب المجالسات، كتاب المنادمات.
قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم وثمامة بن أشرس وعلي بن عبيدة الريحاني عن العشق ما هو؟ فقال علي بن عبيدة الريحاني عن العشق ما هو؟ فقال علي بن عبيدة: العشق ارتياح في الخلقة، وفكرة تجول في الروح، وسرور منشؤه الخواطر، له مستقر غامض، ومحل لطيف المسالك، يتصل بأجزاء القوى، ينساب في الحركات. وقال يحيى: العشق سوانح تسنح للمرء فيهتم لها ويؤثرها. قال ثمامة: يا يحيى، إنما عليك أن تجيب في مسألةٍ في الطلاق أو عن محرم يصطاد ظبياً، وأما هذه فمسألتنا. قال له المأمون: فما العشق يا ثمامة؟ فقال: إذا تقادمت جواهر النفوس بوصف الشكالة أحدثت لمع برقٍ ساطعٍ تستضيء به نواظر العقول، وتشرق له طبائع الحياه فيتولد من ذلك البرق نور خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمى عشقاً. قال المأمون: يا ثمامة أحسنت، وأمر له بآلاف دينارٍ.
علي بن عبيد الله بن الدقاقأبو القاسم الدقيقي النحوي. أحد الأئمة العلماء هذا الشان، أخذ عن أبي عليٍ الفارسي وأبي سعيدٍ السيرافي وأبي الحسن الرماني، وكان مباركاً في التعليم، تخرج عليه خلق كثير لحسن خلقه وسجاحة سيرته، وكان مولده سنة خمسٍ وأربعين وثلاثمائة، ومات فيما ذكره هلال ابن المحسن في تاريخه، في سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ. وله تصانيف منها: كتاب شرح الإيضاح رأيته منسوباً إليه، وأنا أظنه شرح علي بن عبيد الله السمسمي لأنه محشو بقوله: قال السمسماني. وما أدرى الدقاق ممن أخذ عن السمسماني وهو أكبر سناً منه، ومشايخهما ووفاتهما واحدة، ولكن اشتبه الأسم فنسب إلى هذا لشهرته بالنحو. وللدقيقي أيضاً كتب شرح الجرمي كتاب العروض رأيته، كتاب المقدمات.
وذكر القاضي أبو المحاسن بن مسعرٍ قال: أبو القاسم علي بن عبيد الله الدقيقي صاحب أبي الحسن علي بن عيسى الرماني، قرأ عليه كتاب سيبويه قراءة تفهمٍ، وأخذ بذلك خطه عليه وأنتفع الناس به، وعنه أخذت، وعلى روايته عولت.
علي بن عبيد الله السمسميأبو الحسن اللغوي النحوي. كان جيد المعرفة بفنون علم العربية، صحيح الخط غايةً في إتقان الضبط، قرأ على أبي عليٍ الفارسي وأبي سعيدٍ السيرافي. وكان ثقةً في روايته، مات في المحرم سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ في خلافة القادر بالله.

حدث ابن نصرٍ قال: حدثني الشيخ أبو القاسم بن برهان النحوي قال: قال لنا أبو الحسن السمسمي - وقد سأله رجل مسألةً من مسائل النوكي - وحضر مجلس أبي عبيدة رجل فقال: - رحمك الله - أبا عبيدة ما العنجيد؟ قال: - رحمك الله - ما أعرف هذا، قال: سبحان الله أين يذهب عن قول الأعشى؟:
يوم تبدى لنا قتيله عن جي ... دٍ تليعٍ يزينه الأطواق
فقال: - عافاك الله - عن حرف جاء لمعنىً. والجيد: العنق. ثم قام آخر في المجلس فقال: أبا عبيدة - رحمك الله - ما الأودع؟ قال: - عافاك الله - ما أعرفه. قال: سبحان الله أين أنت عن قول العرب زاحم بعودٍ أودع؟ فقال: ويحك، هاتان كلمتان. والمعنى أو اترك أو ذر، ثم استغفر الله وجعل يدرس فقام رجل فقال: - رحمك الله - أخبرني عن كوفا، أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ قال: قد رويت أنساب الجميع وأسماؤهم ولست أعرف فيهم كوفا. قال: فأين أنت عن قوله تعالى؟: (والهدى معكوفاً). قال: فأخذ أبو عبيدة نعليه واشتد ساعياً في مسجد البصرة يصيح بأعلى صوته: من أين حشرت البهائم على اليوم؟. ورأيت جماعةً من أهل العلم يزعمون أن النسبة إلى السمسمي والسمسماني واحد يقال هذا ويقال هذا. وكان أبو الحسن هذا مليح الخط صحيح الضبط حجةً فيما يكتبه، ومن هذا البيت جماعة كتاب مجيدون نذكر منهم في مواضعهم من يقع إلينا حسب الطاقة.
وحدث غرس النعمة بن الصابئ في كتاب الهفوات قال: كان أبو الحسن السمسماني متطيراً فخرج يوم عيدٍ من داره فلقيه بعض الناس فقال له مهنئاً: عرف الله سيدنا الشيخ بركة هذا اليوم فقال: وإياك يا سيدي، وعاد فأغلق بابه ولم يخرج يومه. وجدت في بعض الكتب هذه الأبيات المنسوبة إلى أبي الحسن السمسمي:
دع مقلتي تبكي عليك بأربع ... إن البكاء شفاء قلب الموجع
ودع الدموع تكف جفني في الهوى ... من غاب عنه حبيبه لم يهجع
ولقد بكيت عليك حتى رق لي ... من كان فيك يلومني وبكى معي
ووجدت بخط أبي الحسن السمسماني على ظهر كتاب المزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه كان كثيراً ما يتمثل:
يصون الفتى أثوابه حذر البلى ... ونفسك أحرى يا فتى لو تصونها
فمن ذاك الذي يرعاك بالغيب أو يرى ... لنفسك إكراماً وأنت تهينها؟
قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب النحوي، أنشدنا أبو بكر الخطيب، أنشدنا علي بن عبيد الله السمسمي النحوي:
أترى الجيرة الذين تنادوا ... بكرةً للنزال قبل الزوال؟
علموا أنني مقيم وقلبي ... معهم راحل أمام الجمال
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال
علي بن عساكر بن المرحبأبو الحسن المقريء النحوي، المعروف بالبطائحي الضرير. كان يزعم أنه من عبد القيس، وهو من قريةٍ من قرى البطائح تعرف بالمحمدية قريبةٍ من الصليق، مات ببغداد في ثامن عشر من شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةٍ، ومولده سنة تسعٍ وأربعمائةٍ، وكان قد قدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته، وقرأ القران على أبي العز القلانسي الواسطي، وأبي عبد الله البارع بن الدباس، وأبي بكر بن المرزقي، وأبي محمد ابن بنت الشيخ. وقرأ النحو على البارع وغيره، وسمع الحديث من جماعةٍ. وأقرأ الناس مدةً وحدث الكثير، وكان ثقةً مأموناً. قال صدقة بن الحسين بن الحداد في تاريخه: كان سبب وفاة البطائحي أنه ظهر به باصور مما يلي تحت كتفه فبقي به مدةً طويلةً ينز إلى خارج البدن، ثم انفتح إلى باطنه فهلك به، وأوصى لطغندي صاحبه الذي كان يقرأ عليه الحديث ويقربه من جهة النساء بثلث ماله، ووقف كتبه على مدرسة الشيخ عبد القادر الجليلي، وخلف مقدار أربعمائة دينارٍ وداراً في دار الخلافة
علي بن عليٍ
أبو الحسن البرقي. قال الحافظ أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي: في ربيعٍ الأول سنة اثنتين وعشرين وخمسمائةٍ مات علي بن عليٍ أبو الحسن البرقي النحوي الشاعر، ولم يذكر غير ذلك
علي بن عراقٍ الصناري

أبو الحسن الخوارزمي، مات سنة تسعٍ وثلاثين وخمسمائةٍ بمذانة قريةٍ من قرى خوارزم، ذكر ذلك أبو محمد محمود بن محمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم وقال: كان نحوياً لغوياً عروضياً فقيهاً مفسراً مذكوراً، قرأ الأدب على الشيخ أبي عليٍ الضرير النيسابوري، والفقه بخوارزم على الإمام أبي عبد الله الوبري، ثم ارتحل في الفقه إلى بخارى فتفقه بها على مشايخها، ثم عاد إلى جرجانية خوارزم فتكلم في مسائل مع أئمتها، ثم تحول إلى قرية مذانة وتوطنها، وكان يعظ في المسجد الجامع بها غداة الجمعة وكان يحفظ اللغات الغريبة والأشعار العويصة، وصنف كتاب شماريخ الدرر في تفسير القران، ولما فرغ منه كتب في آخره:
فرغنا من كتابته عشياً ... وكان الله في عوني ولياً
وقد أدرجته نكتاً حساناً ... ومعنى يشبه الرطب الجنيا
قال: وقرأت بخط أبي عمرو البقال: كان من لطائف الصناري إذا نام واحد من أهل الرستاق في مجلسه ناداه من على المنبر بأعلى صوته: يأيها التيس المذاني، أترك المنام واسمع الكلام، ثم ينشده:
وصاحب نبهته لينهضا ... إذا الكرى في عينه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرضا ... وثم بالكفين وجهاً أبيضا
ثم يقول تمضمض من النعاس: إذا دب في عينيه، ومنه المضمضة في الوضوء، سميت بذلك لأن الغاسل يمضمض الماء في فمه: أي يديره ويجريه فيه
علي بن عيسى أبو الحسن الصائغالنحوي الرامهرمزي، قال القاضي أبو عليٍ التنوخي: حدثني أبو عمر أحمد بن محمد بن حفصٍ الخلال قال: كان أبو الحسن الصائغ النحوي الرامهرمزي واسع العلم والأدب مليح الشعر، وهوصاحب القصيدة التي أولها - من الأصل - وفيها تجوز كثير وأمر بخلاف الجميل قالها على طريق التخالع والتطايبب، وكان صالحاً معتقداً للحق لا عن اتساعٍ في العلم - يعني علم الكلام - ولكنه كان واسع المعرفة بالنحو واللغة والأدب، وأبو الحسن الصائغ هذا هو أستاذ أبي هاشم بن أبي بكر المبرمان في النحو، قرأ عليه لما ورد بالبصرة واستفاد منه حتى بلغ أعلى مراتب النحو حتى قال ابن درستوية: اجتمعت مع أبي هاشمٍ فألقى إلي بمائتي مسألةٍ من غريب النحو ما سمعت بها قط ولا كنت أحفظ جوابها، وقد ذكرت قصته مع أبي هاشم بكمالها في ترجمة أبي هاشمٍ عبد السلام.
وقال أبو عمر الخلال: أنفذ بي الصيدلاني أبو عبد الرحمن المعتزلي غلام أبي عليٍ الجبائي إلى أبي الحسن الرامهرمزي وقال لي: قل له: إني قرأت البارحة في كتاب شيخنا أبي عليٍ في تفسير القران في قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً) أي بينا لكل نبيٍ عدوه، فجعل جعل بمعنى بين. ولست أعرف هذا في اللغة، فاحفظ جوابه وجئني به. قال: فجئت إلى أبي الحسن فأخبرته بذلك عن عبد الرحمن فقال: نعم، هذا معروف في لغة العرب. وقد قال العريفي العنسي - بالنون - :
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا ... على ثبتٍ من أمرهم حيث يمموا
قال: فعدت إلى عبد الرحمن فعرفته ذلك. - قلت هكذا وجدت هذا الخبر، والكلمة المسئول عنها غير مبينةٍ، فمن عرفها وكان من أهل العلم فله أن يصلحها - .
وقال أبو محمدٍ عبيد الله بن أبي القاسم عبد المجيد ابن بشران الخوزستاني: وفي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائةٍ مات أبو الحسن علي بن عيسى الصائغ الرامهرمزي الشاعر، وقد كان شخص إلى ابراهيم المسمعي، ثم عدل إلى دركٍ بسيراف، فخرج مع دركٍ في هيجٍ كان من العامة بها، وقد رموه بالمقاليع فأصاب علي بن عيسى حجر فهلك، وكان شاعراً عالماً. فمن شعره:
سهادى غير مفقود ... ونومي غير موجود
وجرى الدمع في الخد ... كنظم الدر في الجيد
لفعل الشيب في اللم ... مة لا للخرد الغيد
لقد صار بي الشيب ... إلى لومٍ وتفنيد
وما المرء إذا شاب ... لديهن بمودود
وهي طويلة مدح فيها أهل البيت وكان لهم مداحاً.
علي بن عيسى بن داود بن الجراح

أبو الحسن الوزير. كانت منزلته من الرياسة ومعرفته بالعدل والسياسة تجل عن وصفها، ومن حسن الصناعة والكفاية ما هو مشهور مذكور، وزر للمقتدر بالله دفعتين، ومات في ليلة اليوم الذي عبر معز الدولة في صبيحته إلى بغداد، وهو يوم الجمعة انتصاف الليل من سلخ ذي الحجة سنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، ودفن في داره وعمره تسع وثمانون سنةً ونصف، وحم يوماً واحداً، ومولده في جمادى الآخرة سنة خمسٍ وأربعين ومائتين، وله كتاب جامع الدعاء، كتاب معاني القران وتفسيره، أعانه عليه أبو الحسين الواسطي وأبو بكر بن مجاهدٍ، كتاب رسائله. كان تقلده للوزارة الأولى في المحرم سنة إحدى وثلاثمائةٍ، وبقي فيها أربع سنين غير شهرٍ، والأخرى في صفرٍ سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ، وبقي فيها سنةً وأربعة أشهرٍ ويومين، وكان يستغل ضياعة في السنة بسبعمائة ألف دينارٍ، يخرج منها في وجوه البرستين وستمائة ألف دينارٍ، وينفق أربعين ألف دينارٍ على خاصته، وكانت غلته عند عطلته ولزومه بيته نيفاً وثمانين ألف دينارٍ، يخرج منها في وجوه البر نيفاً وأربعين ألفاً، وينفق ثلاثين ألفاً على نفسه، وكان يرتفع لابن الفرات وهو متعطل ألف ألف دينارٍ. قال: الصولي ولا أعلم أنه وزر لبنى العباس وزير يشبهه في زهده وعفته وحفظه للقران وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله.
قال الصولي: ولا أعلم أنني خاطبت أحداً أعرف منه بالشعر، وكان يوقع بيده في جميع ما يحتاج إليه مما كان يوقع فيه أصحاب الدواوين في وزارته، فسألت أبا العباس أحمد بن طومار الهاشمي عن السبب فقال: قد اقتصر في نفقته وأجرى الفاضل على أولاد الصحابة بالمدينة، وجلس للمظالم فأنصف الناس وأخذ للضعيف من القوي، وتناصف الناس بينهم، ولم يروا أعف بطناً ولساناً وفرجاً منه، ولما عزل في وزارته الثانية وولى ابن الفرات لم يقنع المحسن ابن ابي الحسن بن الفرات إلا بإخراجه عن بغداد، فخرج إلى مكة فأقام بها مهاجراً وقال في نكبته:
ومن يك عني سائلاً لشماتةٍ ... لما نابني أو شامتاً غير سائل
فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرةٍ ... صبوراً على أهوال تلك الزلازل
إذا سر لم يبطر وليس لنكبةٍ ... إذا نزلت بالخاشع المتضائل
ولما جلس كان يلبس ثيابه ويتوضأ للصلاة ويقوم ليخرج لصلاة الجمعة، فيرده المتوكلون فيرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم أشهدك أنني أريد طاعتك ويمنعني هؤلاء، وأشار على المقتدر أن يقف العقار ببغداد على الحرمين والثغور، وغلتها ثلاثة عشر ألف دينارٍ في كل شهرٍ، والضياع الموروثة بالسواد وارتفاعها نيف وثمانون ألف دينارٍ سوى الغلة، ففعل ذلك وأشهد على نفسه الشهود، وأفرد لهذه الوقوف ديواناً سماه ديوإن البر. ورأى آثار سعيه لآخرته في دنياه، فإنه سلم من جميع البلاء على كثرة من عاداه وقصده، ومنع حواشي المقتدر من المحالات وحملهم على السيرة الحميدة، فأفسدوا أمره حتى اعتقل ثمانية عشر شهراً، ثم نفى إلى مكة واليمن ومصر، ثم عاد ووزر بعد ذلك، واحتاج إلى المشي في بعض أسفاره فجعل يتمثل:
قد علمت إخوتنا كلاب ... أنا على دقتنا صلاب
وكان الديلم عند دخولهم إلى بغداد إذا اجتازوا على محلته تجنبوها ويقولون: هاهنا دار الوزير الصالح، وكانت داره على دجلة وهي المعروفة بالستيني، واحتاجت مسناتها إلى مرمةٍ فقدروا لها صناعها ثلاثة آلاف دينارٍ، فلما أحضر الدنانير قال: صرفها إلى الصدقة أولى، فليس اليوم على دجلة بين البلد والمعزية غيرها وهي مشهورة ببغداد إلى يومنا هذا. قد عمل عليها عدة دواليب لسقي مزارع الزاهر، ونزل يوماً في طيارةٍ فاجتمع عليه قوم يسألونه توقيعاً فقال: نعم وكرامةً حتى أرجع وأوقع، ثم قال: ومن لي بان أرجع؟ ووقع لهم قائماً ثم قال: افتديت في هذا الفعل بعمر بن عبد العزيز، فإنه وقف على متظلمٍ وأطال الوقوف حتى قضى حاجته وقال: إن الخير سريع الذهاب، وخشيت إن أفوته نفسي.
ولما ورد البريدي إلى بغداد مستولياً عليها متغلباً خوف منه وقيل: الصواب أن تهرب إلى الموصل فقال: أيهرب مخلوق إلى مخلوقٍ؟ أصرفوا ما أعددته لنفقة الطريق إلى الفقراء.

فلما دخل البريدي لم يكرم أحداً غيره، وكثر الموتان ببغداد في أيام البريدي، فكفن علي بن عيسى من الغرباء والفقراء ما لا يحصى كثرةً، حتى نفذ ما كان عنده فاستدان لذلك أموالاً كثيرةً، وكان يجري على خمسةٍ وأربعين ألف إنسان جراياتٍ تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنةً لم يزل فيها نعمةً عن أحدٍ، وأحصى له في أيام وزارته نيف وثلاثون ألف توقيعٍ من الكلام السديد، ولم يقتل أحداً ولا سعى في دمه، فبقيت عليه نعمته وعلى ولده بعد أن شحذت له المدى مراراً، فدفع الله عنه وأهلك ظالمه، ولم يهتك حرمةً قط لأحدٍ فلم يهتك الله له حرمةً مع كثرة نكباته، وكان على خاتمه مكتوب:
لله صنع خفي ... في كل أمرٍ يخاف
وكان له ابن يكنى أبا نصرٍ واسمه إبراهيم، وزر للمطيع في شهر ربيعٍ الأول سنة سبعٍ وأربعين، ومات في جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائةٍ فجأةً. وابن يكنى أبا القاسم واسمه عيسى بن عليٍ كتب للطائع لله.
ودخل علي بن عيسى على أبي نصرٍ وأبي محمدٍ ولدى القاضي أبي الحسن عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف يعزيهما بموت أبيهما، فلما أرد الانصراف التفت إليهما وقال: مصيبة قد وجب أجرها، خير من نعمةٍ لا يؤدى شكرها. وهذا عندي من حر الكلام وفصل الخطاب.
علي بن عيسى الرمانيبن علي بن عبد الله الرماني أبو الحسن الزوراق، كذا قال الزبيدي. وقال التنوخي: وهو يعرف بالإخشيدي. قال التنوخي: وممن ذهب في زماننا إلى أن علياً عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعتزلة: أبو الحسن علي بن عيسى النحوي المعروف بابن الرماني الإخشيدي. قال المؤلف: أرى أنه كان تلميذ ابن الإخشيد المتكلم أو على مذهبه، لأنه كان متكلماً على مذهب المعتزلة، وله من ذلك تصانيف مأثورة، وكان إماماً في علم العربية علامةً في الأدب، في طبقة أبي علىٍ الفارسي وأبي سعيدٍ السيرافي. وكان قد شهد عند أبي محمد بن معروفٍ. مات في حادي عشر جمادى الأولى سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ في خلافة القادر بالله. ومولده في سنة ستٍ وسبعين ومائتين. أخذ عن ابن السراج وابن دريدٍ والزجاج. وله تصانيف في جميع العلوم من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام على رأي المعتزلة كما ذكرنا، وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق حتى قال أبو عليٍ الفارسي: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معه منه شيء، وكان يقال: النحويون في زماننا ثلاثة: واحد لا يفهم كلامه وهو الرماني، وواحد يفهم بعض كلامه وهو أبو علي الفارسي، وواحد يفهم جميع كلامه بلا أستاذٍ وهو السيرافي.
وللرماني من التصانيف الأدبية: كتاب تفسير القران المجيد، كتاب الحدود الأكبر، كتا ب الحدود الأصغر، كتاب معاني الحروف، كتاب شرح الصفات، كتاب شرح الموجز لابن السراج، كتاب شرح الألف واللام للمازني، كتاب شرح مختصر الجرمي، كتاب إعجاز القران، كتاب شرح أصول ابن السراج، كتاب شرح سيبوبه، كتاب المسائل المفردات من كتاب سيبويه، كتاب شرح المدخل للمبرد، كتاب التصريف، كتاب الهجاء، كتاب الإيجاز في النحو، كتاب الاشتقاق الكبير، كتاب الاشتقاق الصغير، كتاب الألفات في القران، كتاب شرح المقتضب، كتاب شرح معاني الزجاج.
قرأت بخط أبن حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في تقريظ الجاحظ - وقد ذكر العلماء الذين كانوا يفضلون الجاحظ - فقال: ومنهم علي بن عيسى الرماني فإنه لم ير مثله قط بلا تقيهٍ ولا تحاشٍ ولا اشمئزازٍ ولا استيحاشٍ علماً بالنحو، وغزارةً في الكلام وبصراً بالمقالات، و استخراجاً للعويص وإيضاحاً للمشكل، مع تألهٍ وتنزهٍ ودينٍ ويقينٍ وفصاحةٍ، وفقاهةٍ وعفافةٍ ونظافةٍ.
وقرأت بخط أبي سعدٍ: سمعت أبا طاهرٍ السنجي، سمعت أبا الكرم بن الفاخر النحوي، سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، سمعت شيخنا أبا الحسن على ابن عيسى الرماني النحوي يقول وقد سئل، فقيل له: لكل كتب ترجمه، فما ترجمة كتاب الله عز وجل؟ فقال: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به).
وقال أبو حيان: سمعت علي بن عيسى يقول لبعض أصحابه: لا تعادين أحداً وإن ظننت أنه لن ينفعك، فإنك لا تدري متى تخاف عدوك أو تحتاج إليه؟ ومتى ترجو صديقك أو تستغني عنه؟ وإذا اعتذر إليك عدوك فاقبل عذره، وليقل عيبه على لسانك.

قال أبو حيان: ورأيت في مجلس علي بن عيسى النحوي رجلاً من مرو يسأله عن الفرق بين من وما، ومن ومم، فأوسع له الكلام وبين، وقسم وفرق، وحدومثل، وعلق كل شيءٍ منه بشرطه من غير أن فهم السائل أو تصور، وسأل إعادته عليه وإبانته له، ففعل ذلك مراراً من غير تصورٍ حتى أضجره، ومن حد الحلم أخرجه. فقال له: أيها الرجل، يلزمنى أن أبين للناس وأصور لمن ليس بناعسٍ، وما علي أن أفهم البهم والشقر والدهم، مثلك لا يتصور هذه المسألة بهذه العبارة وهذه الأمثلة، فإن أرحتنا ونفسك فذاك، وإلا فقد حصلنا معك على الهلاك، قم إلى مجلسٍ آخر ووقتٍ غير هذا. فأسمعه الرجل ما ساء الجماعة، وعاد بالوهن والغضاضة، ووثب الناس لضربه وسحبه، فمنعهم من ذلك أشد منعٍ بعد قيامه من صدر مجلسه ودفع الناس عنه وأخرجه صاغراً ذليلاً مهيناً والتفت إلى أبي الحسن الدقاق وقال له: متى رأيت مثل هذا فلا يكونن منك إلا التؤدة والاحتمال؟ وإلافتصير نظيراً لخصمك، وتعدم في الوسط فضل التمييز. وأنشا يقول:
ولولا أن يقال هجا نميراً ... ولم يسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليبٍ ... وكيف يشاتم الناس الكلابا؟
علي بن عيسى الربعيبن الفرج بن صالحٍ الربعي الزهيري أبو الحسن النحوي، أحد أئمة النحويين وحذاقهم، أجيدي النظر الدقيق الفهم والقياس، أخذ عن أبي سعيد السير أفي وهاجر إلى شيراز فأخذ عن أبي عليٍ الفارسي ولازمه عشرين سنةً، فقال أبو عليٍ: ابقي شيء تحتاج إليه، ولوثرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أعرف منك بالنحو، ثم رجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات سنة عشرين وأربعمائةٍ عن نيفٍ وتسعين سنةً، وصنف تصاني منها: كتاب شرح الإيضاح لأبي عليٍ، كتاب شرح مختصر الجرمي، كتاب البديع في النحو، كتاب شرح البالغة، كتاب ما جاء من المبني على فعال، كتاب التنبيه على خطأ ابن جنيٍ في تفسيرٍ شعر المتنبي، كتاب شرح سيبويه إلا أنه غسله، وذاك أن أحد بني رضوان التاجر نازعه في مسألةٍ فقام مغضباً وأخذ شرح سيبويه وجعله في إجانةٍ وصب عليه الماء وغسله، وجعل يلطم به الحيطان ويقول: لا أجعل أولاد البقالين نحاةً. وكان مبتلىً بقتل الكلاب وكسر سوقهم ويقول: ما الذي يمنعهم من نزول الشط؟ فقيل له: يمنعهم كلاب القصابين وسأل يوماً أولاد الأكابر الذين يحضرون مجلسه أن يمضوا معه إلى كلواذي فظنوا ذلك لحاجة عرضت له مناك، فركبوا خيولا وجعل وهو يمشي بين أيديهم وسألوه الركوب فأبى عليهم، فلما صار بخرابها وقفهم على ثلم وأخذ كساء وعصا، وما زال يعدو إلى كلب هناك والكلب يثب عليه تارة ويهرب منه أخرى حتى أعياه، نوه حتى أمسكوه وعض على الكلب بأسنانه عضا شديدا والكلب يستغيث ويزعق، فما تركه حتى اشتفى وقال: هذا عضني منذ أيام وأريد إن أخالف قول الأول:
شاتمني كلب بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا؟
وكان يوما يمشي على شاطئ دجلة والرضى والمرتضى العلويان في زيزي ومعهما أبو الفتح عثمان بن جنىٍ فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان بن جنىٍ فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان جالساً معهما في الزبزب وعلي يمشي على الشط بعيداً منهما. حدث أبو غالبٍ محمد بن بشران النحوي الواسطي قال: قدم علينا علي بت عيسى الربعي النحوي الى واسط ونزل في حجرة في جوار شيخنا أبي إسحاق يوماً: قد انعكفت على هذا المجنون؟ فقلت له: إنه يحكي النحو عن أبي عليٍ كما أنزل. فقال: صدقت، وهو يحكي النحو عن أبي عليٍ كما أنزل. وحدث ابن بشكوال في كتاب الصلة في أخبار علماء الأندلس قال: قال الربعي: كان عبد الله بن حمودٍ الزبيدي الأندلسي قد قرأ يوماً على أبي عليٍ في نوادر الأصمعي: أكأت الرجل: إذا رددته عنك، فقال أبو عليٍ: ألحق هذه الكلمة بباب أجأ فإني لم اجد لها نظيراً غيرها، فسارع من حوله إلى كتابتها. وقال الربعي: فقلت أيها الشيخ: ليس أكأت من أجأ في شيءٍ. قال: وكيف ذلك؟ قال: قلت لأن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وقطرباً النحوي حكيا إنه يقال: كيأ الرجل: إذا جبن، فخجل الشيخ وقال: إذا كان كذا فليس منه، فضرب كل واحدٍ منهم على ما كتب.

قرأت بخط هلال بن المظفر الريحاني في كتابٍ ألفه: ذكر غير واحدٍ من أهل زنجان أن رجلاً منها يعرف بجابر بن أحمد خرج إلى بغداد متأدباً، فحين دخل قصد بن عيسى النحوي بعد أن لبس ثياباً فاخرةً عطرةً وتجمل وتزين ودخل عليه وسلم. فقال له علي بن عيسى: من أين الفتى؟ قال: من الزنجان بألفٍ ولامٍ، فعلم الربعي أن الرجل خالٍ من الفضل فقال: متى وردت؟ قال: أمس. فقال: جئت راجلاً أم راكباً؟ فقال: بل راكباً. قال: المركوب مكترىً أم مشترىً؟ قال: بل مكترىً. فقال الشيخ: مر واسترجع الكرى فإنه لم يحمل شيئاً، ثم أنشد الشيخ:
وما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصور
فإن طرة راقتك فاخبر فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر
قال علي بن عيسى الربعي: استدعاني عضد الدولة وبين يديه الحماسة فوضع يده على باب الأضياف وقال: ما تقول في هذه الأبيات؟:
ومستنبحٍ بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوتٍ وهو في الرجل جانح
فقلت لأهلي: ما بغام مطيةٍ ... وسارٍ أضافته الكلاب النوابح؟
فقلت: هذا قول عقبة بن بجير الحارث، ومعناه: أن العرب كانت إذا ضلت في سفر وصارت بحيث تظن أنها قريبة من حلةٍ نبحت لتسمعها الكلاب فتجيبها، فيعرفون به موضع القوم فيقصدونه ويستضيفون فيضافون فقال: إن قوماً يتشبهون بالكلاب حتى يضافوا لأدنياء النفوس، فوجمت بين يديه وأنا واقف وهو ينظر إلي، وكان من عاداتنا أنه ما دام ينظر إلى أحدنا لم يزل واقفاً بين يديه حتى يرد طرفه. قال: ثم فكر فقال: لا بل إن أقواماً يستنبحون في هذا القفر والمكان الجدب فيستضيفون فيضافون مع الإقلال والعدم لقوم كرامٍ وأمر لي بجائزةٍ فدعوت له وانصرفت.
قرأت بخط ابي الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد ابن يعقوب: قال لنا الرئيس أبو البركات جبر بن علي ابن عيسى الربعي: قال لي أبي: أخرج إلى عضد الدولة بيده مجلداً بأدمٍ مبطنٍ بديباجٍ أخضر في أنصاف السلطاني مذهبٍ مفصولٍ بالذهب بخطٍ أحسن، فيه شعر مدبر وحسن ليس له معنىً. فقال لي: كيف ترى هذا الشعر؟ فقلت: شعر مدبر والذي قاله خرب البيت مسود الوجه، ثم يمضي على ذلك زمان، ودخلت إليه فأومأ إلى خادم وقال له: امض إلى مرقدنا وجئنا بشعرنا، فمضي وجاء بالمجلد بعينه وهو هو فأبلست فقال: كيف تراه؟ وتلجلج لساني وربا في فمي، فقلت حسناً جيداً، ولم ير في ذلك شيئاً ألبته.
قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: جاريت الشيخ أبا منصورٍ موهوب بن الجواليقي ذكر أبي الحسن علي بن عيسى بن صالح بن الفرج الربعي صاحب أبي علي الفارسي، فأخذت في تقريظه وتفضيله وقال لي: كان يحفظ الكثير من أشعار العرب مما لم يكن غيره من نظرائه يقوم به، إلا أن جنونه لم يكن يدعه يتمكن منه أحد في الأخذ عنه والإفادة منه. قال: وقال لي الشيخ أبو زكرياء: سألت أبا القاسم بن برهان فقلت له: يا سيدنا، تترك الربعي والأخذ عنه مع إدراكك إياه وتأخذ عن أصحابه؟ فقال لي: كان مجنوناً وأنا كما ترى، فما كنا؟ قال: ولقد مر يوماً بسكران ملقي على قارعة الطريق فحل سرواله يعني سروال الربعي، وجلس على أنفه وجعل يضرط ويشمه السكران ويقول له:
تمتع من شميم عرار نجدٍ ... فمابعد العشية من عرار
علي بن عيسىيعرف بابن وهاشٍ
بن حمزة بن وهاس، أبي الطيب يعرف بابن وهاشٍ، من ولد سليمان بن حسن بن علي ابن أبي طالب عليه السلام. وذكر العماد في موضعٍ آخر عن دهمس بن وهاس بن عتود بن حازم بن وهاس الحسني: أن علي بن عيسى مات بمكة في سنة نيفٍ وخمسمائةٍ. وكان في عشر الثمانين، وكان أصله من اليمن من مخلاف ابن سليمان، وكان شريفاً جليلاً هماماً من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، وكان ذا فضلٍ غزيرٍ. وله تصانيف مفيدة وقريحة في النظم والنثر مجيدة، قرأ على الزمخشري بمكة وبرز عليه، وصرفت أعنة طلبة العلم إليه، وتوفي في أول ولاية الأمير عيسى بن فليته أمير مكة في سنة نيفٍ وخمسين وخمسمائةٍ، وكان الناس يقولون: ما جمع الله لنا بين ولاية عيسى وبقاء علي بن عيسى.
وله شعر منه في مرثية الأمير قاسمٍ جد الأمير عيسى:
يا حادي العيس على بعدها ... وخادةً تسحب فضل النعال

رفه عليهن فلا قاسماً ... لها على الأين وفرط الكلال
غاض النمير العذب يا وارداً ... وحال عن عهدك ذاك الزلال
إن يمض لا يمض بطئ القرى ... أو يود لا يود ذميم الفعال
وله مدح في الزمخشري ذكرته في ترجمته. ومن شعره:
صلى حبل الملاءمة أو فبتى ... وكفى من عتابك أو أشتى
هي الأنضاء عزمة ذي همومٍ ... فحسبك والملام ولا هبلت
إليك فلست ممن يطبيه ... ملام أو يريع إذا أهبت
حلفت بها تواهق كالحنايا ... بقايا ما بها كثمال قلت
سواهم كالحنايا زاحراتٍ ... تركع من وجىً ودباً وعنت
جوازع بطن نخلة عابراتٍ ... تؤم البيت من خمسٍ وستٍ
أزال أديب أنضاءً طلاحاً ... بكل ملمع القفرات مرت
وأرغب عن محل فيه أضحت ... حبال المجد تضعف عند متى
أما جربت يا أيام منى ... فروك تجمعٍ وحليف شت
أبي ما عجمت صفاه إلا ... وأثر في نيوبك ما عجمت
ورب أخٍ كريم المجد محضٍ ... يراع لدعوتي كالسيف صلت
أبت نفسي فلم تسمح إليه ... بشكوى غير ما جلدٍ وصمت
أقول لنفسي المشفاق مهلاً ... أليس على الزرية ما صبرت؟
لئن فارقت خير عراً لأهلٍ ... فخيربني أبيك به نزلت
وكتب إلى عمته وقد أرسلت تقول له: كم هذا البعد عنا والتغرب؟:
ومهدية عندي على نأى دراها ... رسائل مشتاقٍ كريمٍ وسائله
تقول: إلى كم يا بن عيسى تجنباً ... وبعداً وكم ذا عنك ركباً نسائله؟؟
فيوشك أن تودى وما من حفيةٍ ... عليك ولا بالٍ بما أنت فاعله
فقلت لها: في العيس والبعد راحة ... لذي الهم إن أعيت عليه مقاتله
وفي كاهل الليل الخدارى مركب ... وكم مرةٍ نجى من الضيم كاهله
إذا لم تعادلك الليالي بصاحب ... ولاسمحت بالنجح عفواً أنامله
فلا خير في أن ترأم الضيم ثاوياً ... وغيظاً على طول الليالي تماطله
ذريني فلي نفس أبي إن يدرها ... عصاب وقلب يشرب اليأس حامله
إذا سيم ورداً بعد خمس تشمرت ... عن الماء خوف المقذعات ذلاذله
علي بن فضال بن عليبن غالب بن جابر بن عبد الرحمن ابن محمد بن عمرو بن عيسى بن حسن بن زمعة بن هميم بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم - هكذا وجدته هميم والمعروف همام، وهو الفرزدق الشاعر، لأن ابن فضال يعرف بالفرزدقي - القيرواني النحوي أبو الحسن المجاشعي، هجر مسقط رأسه ورفض مألوف نفسه، وطفق يدوخ بسيط الأرض ذات الطول والعرض، يشرق مرةً ويغرب أخرى، ويركب القفار ويأوي إلى ظل الأمصار برهةً حتى ألم بغزنة فألقى عصاه بها، ودرت له أخلافها فلقى وجه الأماني، وصنف عدة تصانيف بأسامي أكابر غزنة سارت في البلاد، ثم عاد إلى العراق وانخرط في سلك خدمة نظام الملك مع أفاضل العراق، ولم تطل أيامه حتى نزل به حمامة، وكان إماماً في النحو واللغة والتصنيف والتفسيروالسير. صنف كتاب التفسير الكبير الذي سماه البرهان العميدي في عشرين مجلداً، وكتاب النكت في القران، وكتاب شرح بسم الله الرحمن الرحيم وهو كتاب كبير، وكتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب والنحو في خمسة مجلداتٍ، وكتاب العوامل والهوامل في الحروف خاصةً، وكتاب الفصول في معرفة الأصول، وكتاب الإشارة في تحسين العبارة، وكتاب شرح عنوان الأعراب، وكتاب المقدمة في النحو، وكتاب العروض، وكتاب شرح معاني الحروف، وكتاب الدول في التاريخ.

رأيت في الوقف السلجوقي ببغداد منه ثلاثين مجلداً ويعوزه شيءآخر، وكتاب شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب. وقيل إنه صنف كتاباً في تفسير القران في خمسٍ وثلاثين مجلداً سماه كتاب الإكسير في علم التفسير، وكتاب معارف الأدب كبير نحو ثمانية مجلداتٍ. وله غير ذلك من الكتب في فنونٍ من العلم، وأقام ببغداد مدةً وأقرأ بها النحو واللغة، وحدث بها عن جماعةٍ من شيوخ المغرب. وذكر هبة الله السقطي أنه كتب عن ابن فضالٍ أحاديث قال: فعرضتها على عبد الله بن سبعون القيرواني لمعرفته برجال الغرب فأنكرها وقال: أسانيدها مركبة على متونٍ موضوعةٍ، واجتمع عبد الله بن سبعون في جماعةٍ من المحدثين وأنكروا عليه فاعتذر وقال: إني وهمت فيها. وذكره عبد الغفار الفارسي فقال: ورد نيسابور واختلفت إليه فوجدته بحراً في علمه. ما عهدت في البلديين ولا في الغرباء مثله في حفظه ومعرفته وتحقيقه، فأعرضت عن كل شيء وفارقت المكتب ولزمت بابه بكرةً وعشيةً وكان على وقارٍ.
قال السمعاني: سمعت ابن ناصرٍ يقول: مات ابن فضالٍ في ثاني عشر ربيعٍ الأول سنة تسعٍ وسبعين وأربعمائةٍ، ودفن بباب أبرز، قال شجاع الذهلي: أنشدنا ابن فضالٍ لنفسه:
لا عذر للصب إذا لم يكن ... يخلع في ذاك العذار العذار
كأنه في خده إذ بدا ... ليل تبدى طالعاً من نهار
تخاله جنح الظلام وقد ... صاح به ضوء صباحٍ فحار
وقال أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الصيرفي: أنشدنا ابن فضالٍ لنفسه:
كأن بهرام وقد عارضت ... فيه الثريا نظر المبصر
ياقوته يعرضها بائع ... في كفه والمشتري مشتري
ومن شعره:
أخذ العلم عن رواية واجتلب الهدى ... وإن كان راوية أخا عملٍ زارى
فإن رواة العلم كالنخل يانعاً ... كل التمر منه واترك العود للنار
قال عبد الغفار بن اسماعيل: وأنشدني ابن فضالٍ لنفسه:
يا يوسفي الجمال عبدك لم ... يبق له حيلة من الحيل
إن قد فيه القميص من دبرٍ ... قد قد فيه الفؤاد من قبل
وأنشد السمعاني بإسناده لعلي بن فضالٍ المجاشعي في ترجمة صاعد بن سيارٍ الهروي:
وإخوانٍ حسبتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وأنشد له صاحب الوشاح في نظام الملك:
دوراس أيٍ ما تكاد تبين ... عفا هن دمع للسحاب هتون
وقفنا بها مستلهمين فلم يزل ... لسان البلى عن عجمهن يبين
وما خفت أن تبدى خفي سرائري ... مواثل أمثال الجماجم جون
على حين عاصيت الصبا وهو طائع ... وأرخصت علق اللهو وهو ثمين
أرى المزن يهوى رسم من قد هويته ... فلي وله دمع به وحنين
سقى الله حيث الظاعنون سحائباً ... فقلبي حيث الظاعنون رهين
فكم ضمنت أحداجهم من جآذرٍ ... أوانس ينضوها جآذر عين
وأقمار تمٍ لم ير الناس قبلها ... بدوراً تثنى تحتهن غصون
يجردن من ألحاظهن صوارماً ... مهندةً: أجفانهن جفون
وأنشد له:
والله إن الله رب العباد ... وخالص النية والإعتقاد
ما زادني صدك إلاهوى ... وسوء أفعالك إلا وداد
وإنني منك لفي لوعةٍ ... أقل ما فيها يذيب الجماد
فكن كما شئت فأنت المنى ... واحكم كما شئت فأنت المراد
وما عسى تبلغه طاقتي ... وإنما بين ضلوعي فؤاد
ومما نقلته من السمعاني لابن فضالٍ:
فتنتني أم عمروٍ ... وكذاك الصب مفتون
قلت: جودى لكئيبٍ ... مستهامٍ بك محزون
فلوت عني وقالت: ... أترى ذا المرء مجنون
ما رأى الناس جميعاً ... في كتاب الله يتلون
لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون؟

وفي كتاب سر السرور لابن فضالٍ:
ما هذه الألف التي قد زدتموا ... فدعوتم الخوان بالإخوان
وزادني الحافظ شمس الدين أبو نصرٍ عبد الرحيم بن وهبان:
ما صح لي أحد فأجعله أخاً ... في الله محضاً أو ففي الشيطان
إما مولٍ عن ودادي ما له ... وجه وإما من له وجهان
وحدث محمد بن طاهرٍ المقدسي وكان كما علمت وقاعةً في كل من انتسب إلى مذهب الشافعي لأنه كان حنبلياً. سمعت ابراهيم بن عثمان الأديب الغزي بنيسابور يقول: لما دخل أبو الحسن بن فضالٍ النحوي نيسابور واقترح عليه الأستاذ أبو المعالي بن الجويني أن يصنف باسمه كتاباً في النحو وسماه الإكسير وعده إن يدفع إليه ألف دينارٍ، فلما صنفه وفرغ منه ابتدأ بقراءته عليه، فلما فرغ من القراءة انتظر أياماً أن يدفع إليه ما وعده أو بعضه فلم يدفع شيئاً، فأنفذ إليه الأستاذ: عرضي فداؤك ولم يدفع إليه حبةً واحدةً. قلت أنا: وبلغني عقيب ذلك ورد بغداد وأقام بها ولم يتكلم بعد في النحو وصنف كتابه في التاريخ. ومن شعره الذي أورده السمعاني:
أحب النبي وأصحابه ... وأبغض مبغض أزواجه
ومهما ذهبتم إلى مذهبٍ ... فمالي سوى قصد منهاجه
قال السلفي: قال الرئيس أبو المظفر: أنشدني أبو القاسم ابن ناقيا في ابن فضالٍ المجاشعي المغربي قال: ودخلت دار العلم ببغداد وهو يدرس شيئاً من النحو في يومٍ باردٍ فقلت:
أليوم يوم قارس بارد ... كأنه نحو ابن فضال
لا تقرءوا النحو ولا شعره ... فيعتري الفالج في الحال
علي بن الفضل المزنيأبو الحسن النحوي نقلت من خط أبي سعيد عبد الرحمن بن عليٍ اليزدادي في كتابه المسمى: جلاء المعرفة، تعرض فيه للمأخذ على العلماء قال: وكان قرئ كتاب الكرماني في النحو على أبي الحسن المزني، وقرأة هو على أبيه، وأبوه على الكرماني، وفضل أبي الحسن في عصره على من كانت تضرب إليه آباطل الأبل في العراق لاقتباس العلم منه. وكان ابن جريرٍ يحثه أبداً على قصد العراق علماً منه بانه لو دخل بغداد لقبل فوق قبول غيره، ولكان الأستاذ المقدم، وبلغ من فضل علمه أنه صنف كتاباً في علم بسم الله الرحمن الرحيم، وسماه البسملة ويقع في ثلاثمائة ورقةٍ، وله في النحو والتصريف مصنفات لطيفة نافعة، وقد روى المزني عن اسحاق بن مسلمٍ، عن أبي سعيد الضرير.
علي بن القاسم القاشانيالكاتب أبو الحسن ذكره الثعالبي فقال: بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين أزمة البلاغة، المتوقلين في هضبات المجد، المترقين في درجات الفضل والرسائل الجيدة، والأشعار الرائقة. فمن رسائله: كتابي - أطال الله بقاء مولاي - وأنا متردد بين جذلٍ لتجدد بره في خطابه، وبين خجل من قوارع زجره وعتابه، فإذا خليت عنان أنسي في رياض مبارة فرتعت، جاذبيته لاعج الإشفاق من سوء ظنه ففرغت، ولو كنت جانياً لاعتذرت، أو كان سوء ظنه بي صادقاً لاعترفت، ولعذت منه بحقوى كريمٍ لا يبهضه اغتفار الجرائر، ولا يتعاظمه الصفح عن الكبائر.
فصل: علقت هذه المخاطبة والأشغال تكتنفني، وكد الخاطر بأسبابٍ شتى يقتسمني، ووراء ذلك كلال الذهن بارتقاء السن، ونقصان الخواطر بزيادة الشواغل، واستمرار البلادة لمفارقة العادة، ومولاي - والله يعيذه من السوء - مقتبل الشباب، زائد الأسباب، مؤتنف المخائل، متجدد الفضائل، إلى علمٍ لا يدرك مضماره، ولا يشق غباره، فإذا حملني على مساجلته فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع فقد سلبني ثوب التجمل.
فصل: وصل كتاب مولاي:
فكم فرحةٍ أدى وكم كربةٍ جلى ... وكم بهجةٍ أولى وكم غمةٍ سلا
وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للإخوان بمكانه، أن يتولى حفظ النعم النفيسة، ويديم حياطة هذه المنائح الخطيرة بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظها في أيامه، وتجوز الفضائل أقصى غاياتها في مضماره:
فينجح ذو فضلٍ ويكمد ناقص ... ويبهج ذو ودٍ ويكبت حاسد

فصل: وما أرتضي نفسي لمخاطبة مولاي إلا إذا كنت منفي الشواغل فارغ الخواطر، مخلى الجوارح مطلق الإسار سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الحد وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة واستعجام الطبيعة، والمعول على النية وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة وهي بالولاء المحض معروفة، ولا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجاز للعذر وراء هذه الخلال، وكتب إلى الصاحب أبي القاسم بن عبادٍ قصيدةً منها:
إذا الغيوم ارجحن باسقها ... وحف أرجاءها بوارقها
وابتسمت فرحةً لوامعها ... واحتفلت عبرةً حمالقها
وقيل: طوبى لبلدةٍ نتجت ... بجو أكنافها بوارقها
فليسق غيث الندى أبا القاسم ال ... قرم وزير الأنام وادقها
وهي طويلة ثم قال: هذه - أطال الله بقاء مولاي - نتائج أريحيةٍ أثارتها مخاطبات مولاي، التي هي أنقع لغلتي من برد الشراب، وأعجب إلى من برد الشباب، فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظل أمانته وذمته، ليسبل عليه ستر مودته، ويتأمله بعين محبته. نعم وقد محا الزمان آثار اساءته إلي، بما أسعفني به من إقبال مولاي علي، وتتابع بره في مخاطباته لدى، فكل ذنبٍ لهذه النعمة مغفور، وكل جنايةٍ بهذا الإحسان مغمور. وأجابه الصاحب بكتابٍ صدره بأبياتٍ منها:
بدت عذارى مدت سرادقها ... وأقسم الحسن لا يفارقها؟
كواعب أخرست دمالجها ... عنا وقد أقلقت مناطقها؟
أم روضة أبرزت محاسنها ... ومايني قطرها يعانقها؟
أم أشرقت فقرةً بدائعها ... حديقة زانها طرائقها؟
لله حلف العلا أبو حسنٍ ... وقد جرت للعلا سوابقها
لله تلك الألفاظ حاملةً ... غو معان تعيا دقائقها
يكاد إعجازها يشككنا ... في سورٍ أنها توافقها
وهي طويلة، هذه - أطال الله عمر مولاي - أبيات علقتها والروية لم تعتلقها، وأعنقت فيها و الفكرة لم تعتنقها، لاثقةً بالنفس ووفائها، وسكوناً إلى القريحة وصفائها، بل علماً باني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكد ميدانه، لم أدان ما ورد من ألفاظٍ أيسرما أصفها به الامتناع على الوصف أن يتقصاها، والبعد عن الإطناب أن يبلغ مداها، ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين إقبالي وإدباري، إلى أن فكرت في أن فضيلة المولى تشتمل عبده، وتخيم وإن تصرفت عنده، فثاب إلى خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحاً وجوداً رجوت إن يحظى بطائل القبول، وإن تتبعه نقداً تراجع على أعقاب الخمول، هذا ولا عار على من سبقه سباق الأقران المستولى على قصب الرهان. ومن شعر القاشاني المشهور:
وإني وإن أقصرت عن غير بغضةٍ ... لراعٍ لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى ... فآبى ويثنيني إليك الحفائظ
وأنتظرالعتبى وأغضى على القذى ... ألاين طوراً في الهوى وأغالظ
علي بن القاسم السنجاني أبو الحسنوسنجان قصبة خواف. ذكره الباخرزي فقال: هو صاحب كتاب مختصر العين، ومحله من الأدب محل العين من الإنسان، ومحل الإنسان من العين، وقد سهل طريق اللغة على طالبيها، وأدنى قطوفها من متناوليها باختصاره كتاب العين، ولا تكاد ترى جحورالمتأدبين منه خاليةً، وله شعر الزهاد وقد جرى فيه على سمت العباد، ونسجه على منوال أولى الاجتهاد، فمما وقع إلى منه قوله:
خليلي قوما فاحملا لي رسالةً ... وقولا لدنيانا التي تتصنع
عرفناك يا خداعة الخلق فاعزبي ... ألسنا نرى ما تصنعين ونسمع؟
فلا تتحلى للعيون بزينةٍ ... فإنا متى ما تسفرى نتقنع
نغطي بثوب اليأس منا عيوننا ... إذا لاح يوماً من مخازيك مطمع
وهل أنت إلامتعة مستعارة؟ ... فلم يهننا مما رعيناه مرتع
فأنت خلوب كالغمامة كلما ... رجاها مرجى الغيث ظلت تقشع
طلوع قبوع كالمغازلة التي ... تطلع أحياناً وحيناً تقبع
وله يرثي نفسه:

دبت إلى بنات الأرض مسرعةً ... حتى تمشين في قلبي وفي كبدي
والعين من فويق الخد سائلة ... وطالما كنت أحميها من الرمد
علي بن المبارك اللحيانيوقيل على بن حازم ويكنى أبا الحسن، أخذ عن الكسائي، وأخذ عنه أبو عبيدٍ القاسم بن سلامٍ. وله كتاب النوادر. قال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: وممن أخذ عن الكسائي أبو الحسن علي بن حازم الختلي اللحياني من بني الحيان بن هذيل بن مدركة ابن إلياس بن مضر صاحب كتاب النوارد، وقيل سمى اللحياني لعظم لحيته.
حدثني أبو عمر الزاهد عن أبي عمرو بن الطوسي عن أبيه عن اللحياني قال أبو عمر: وسمعت ثعلباً يقول: قال الأحمر: خرجت من عند الكسائي ذات يوم فإذا اللحياني جالس فقال لي: أحب أن تدخل فتشفع لي إلى الكسائي لأقرأ عليه هذه النوادر. قال: فدخلت إلى الكسائي فقلت له. فقال: هو بغيض ثقيل الروح. قال الأحمر: وكان اللحياني ورعاً. قال: فقلت له: أحب أن تفعل فأجابني فخرجت الى اللحياني فقلت له: قد قال كذا وكذا فلم لا تنبسط معه؟ فقال: دعني وإياه. قال اللحياني: فدخلت عليه وهو جالس على كرسيٍ ملوكيٍ وعليه بغداديه مشهرة على رأسه بطيخية وبيده كسرة سميدٍ وهو يفتها للحمام. قال ثعلب: وكان السلطان قد أفسده. قال: فقال لي: ما تقول في النبيذ؟ قلت أنا؟ قال: نعم، قلت أحسوه ثم أفسوه. قال: فضحك مني وقال: أنت ظريف فاكتم ما سمعت وأقرأ ما شئت، فقرأت عليه وخرجت فإذا الحجارة تأخذ كعبي فالتفت أقول من ذا؟ فإذا هو من منظر له يقول: من كنت تقرأ عليه حتى صدعته اليوم. قال أبو الطيب: وقد أخذ اللحياني عن أبي زيدٍ وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيدة والأصمعي وعمدته على الكسائي، وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين، وأهل البصرة يمنعون من الأخذ عنهم، لأنهم لا يرون الأعراب الذي يحكون عنهم حجةً.
قال ابن جنىٍ في الخصائص: ذاكرت يوماً أبا علي بنوادر اللحياني فقال: كناسة. قال: وكان أبو بكرٍ محمد ابن الحسن بن مقسمٍ يقول: إن كتابه لا يصله به رواية وقدحا فيه وغضا منه.
علي بن المبارك ابي المعالي بن عليابن المبارك بن عبد الباقي بن بانوية أبو الحسن المعروف بابن الزاهدة النحوي صاحب ابن الخشاب وليس بابن الزاهد، فإن في اصحاب ابن الخشاب آخر يعرف بابن الزاهد بغير هاء، وهو أحمد بن هبة الله مذكور في بابه. والزاهدة هذه التي يعرف بها أمه، واسمها أمة السلام المباركة بنت ابراهيم بن علي بن أبي الحسن بن أبي الحربش، وكانت واعظةً مشهورةً روت الحديث، مات ابن الزاهدة هذا في ثالث ذي الحجة سنة أربعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، ودفن عند والدته برباط لهم بدرب البقر بمحلة الظفرية، وكان أيضاً يسكن بالظفرية في حياته، وكانت له معرفة جيدة بالنحو، قرأ على الشريف أبي السعادات بن الشجري، ثم على الشيخ أبي محمد ابن الخشاب، وأقرأ العربية مدةً وسمع منه الطلبة وأنشدت له:
إذا سام بمعنى الوقت يبنى لأنه ... يضمن معنى الشرط موضعه نصب
ويعمل فيه النصب معنى جوابه ... ومابعده في موضع الجر يا ندب
وله في كتاب الخريدة من قصيدةٍ كتبها إلى صلاح الدين:
ألا حييا بالرقمتين المعالما ... وإن كن قد أصبحن درساً طواسما
ومن مديحها:
إذا كانت الأعداء فعلاً مضارعاً ... أصار مواضيه الحروف الجوازما
علي بن المحسن أبو القاسم التنوخيقال السمعاني في كتاب النسب: هو أبو القاسم علي ابن المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم، واسم أبي الفهم داود بن ابراهيم بن تميم بن جابر بن هانئ بن زيد بن عبيد بن مالك بن مربط بن شرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. سمع أبا الحسن علي بن أحمد بن كيسان النحوي، واسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان النسوي، وروى عنه الخطيب فأكثر، وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته، مات فيما ذكره عبد الله بن علي بن الآبنوسي في سنة سبع وأربعين وأربعمائةٍ في محرمها. قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: ولدت بالبصرة في النصف من شعبان سنة سبعين وثلاثمائةٍ.

قال: وكان معتزلياً، قال: وكان عنده كتاب القدر لجعفر الفريابي، وكان أصحاب الحديث يتحاشون من مطالبته بإخراجه، فطالبته به وقرأته عليه، وسمعوا أو كما قال. وكان التنوخي ساكتاً لم يعترض على شيء من تلك الأحاديث.
قال: وكان دخل التنوخي كل شهرٍ من القضاء ودار الضرب وغيرهما ستين ديناراً، فيمر الشهر وليس له شيء، وكان ينفق على أصحاب الحديث، وكان الخطيب والصوري وغيرهما يبيتون عنده، وكان ثقة في الحديث متحفطاً في الشهادة محتاطاً صدوقاً، وتقلد قضاء عدة نواحٍ منها المدائن وأعمالها ودرزيجان والبردان وقرميسين.
وحدثنا الهمذاني في تاريخه بعد ذكر مولده ووفاته كما تقدم ثم قال: وكان ظريفاً نبيلاً فاضلاً جيد النادرة.
قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني: دخلت على القاضي أبي القاسم التنوخي قبل موته بقليلٍ وقد علت سنه فأخرج إلى ولده من جاريته، فلما رآه بكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربيه ويقر الله عينك به، فقال: هيهات والله ما يتربى إلا يتيماً وأنشد:
أرى ولد الفتى كلاً عليه ... لقد سعد الذي أمسى عقيما
فاما أن يخلفه عدوا ... واما أن يربيه يتيما
ثم قال: أريد أن تزوجني من أمه - فإنني قد أعتقتها - على صداق عشرة دنانير ففعلت، وكان كما قال تربى يتيما، وهو أبو الحسن محمد بن علي بن المحسن. قبل القاضي أبو عبد الله شهادته، ثم مات سنة أربعٍ وتسعين وأربعمائة وانقرض بيته.
قال أبو الحسن بن أبي الحسين: ولد لأبي القاسم التنوخي ولد في سنة نيفٍ وأربعين وأربعمائةٍ. فقال له رئيس الرؤساء: أيها القاضي، كنت منذ شهورٍ قريبةٍ قلت لي: إنك لا تعرف هذا الشأن، الذي يكون منه الأولاد منذ سنين، وإنه لا حاسة بقيت لك ولا شهوة ولا قدرة على هذا الفن، وأنت اليوم تقر عندي بولدٍ رزقته، ففي أي القولين أنت كاذب أيها القاضي؟ فقال: اللهم غفراً، اللهم غفراً، وخجل وقام. قال: واجتاز يوماً في بعض الدروب فسمع امرأةً تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا أختي؟ فقالت لها: رزقتها يوم شهر بالقاضي التنوخي وضرب بالسياط، فرفع رأسه إليها وقال: يا بظراء صار صفعي تاريخك وما وجدت تاريخاً غيره؟ وكان أعمش العينين لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والتغميض والانفتاح، فقال فيه أبو القاسم بن بابك الشاعر:
إذا التنوخي انتشا ... وغاض ثم انتعشا
أخفى عليه إن مشي ... ت وهو يخفى إن مشا
فلا أراه قلةً ... ولايراني عمشا
وكان تولى دار الضرب فقال البصروي فيه:
وفي أمض الأعمال قاضٍ ... ليس بأعمى ولا بصير
يقضم ما يجتبى إليه ... قضم البراذين للشعير
قال غرس النعمة: حدثت أنه جاء رجل إلى التنوخي على الطريق وهو راكب حماره وأعطاه رقعةً وبعد مسرعاً ففتحها وإذا فيها:
إن التنوخي به أبنة ... كأنه يسجد للفيش
له غلامان ينيكانه ... بعلة التزويج في الخيش
فلما قرأها قال: ردوا ذاك زوج القحبة الذي أعطاني الرقعة، فعدوا وراءه فقال: هذه الرقعة منك؟ فقال: لا، أعطانيها بعض الناس وأمرني أن أوصلها اليك، قال: قل له: يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قحبةٍ، هات زوجتك وأختك وأمك إلى داري، وانظر ما يكون مني إليهم، واحكم ذلك الوقت بما حكمت به في رقعتك أو بضده، قفاه قفاه، فصفعوه وافترقا.
قال غرس النعمة: حدثني أبو سعدٍ الماندائي قال: دخلت يوماً على القاضي أبي القاسم التنوخي وكانت عينه رمدةً أتعرف خبره فقال لي: حدثني من رأيت وما رأيت في طريقك؟ فقلت: رأيت منسفاً فيه نحو عشرين رطلاً رطباً أزاذاً لقاطاً ما رأيت مثله. فقال لغلامه: يا أحمد، علي بالمنسف الساعة، فمضى أحمد وابتاعه وجاء به فحل عينه وغسلها من الدواء الذي فيها وقال لي: كل حتى آكل، فقلت يا سيدي عينك رمدة فكيف تأكل رطبا؟ فقال: كل فعيني تهدأ والرطب يفنى، فأكل والله منه حتى وقف.

قال: وحدثني قال: كنت ليلةً بائتاً عنده فهبت ريح شديدة فما زال طرف النطع الذي تحته يصعد وينزل ويصفع رأسه فقال: هذا سقوط الساعة أم مصافعة؟ فقلت: ممن يا سيدنا؟ فقال: فضولك وضحكنا. قال: وحدثني قال: حدثني القاضي قال: كنت يوماً وقت القيلولة نائماً فاجتاز واحد غث يصيح صياحاً أزعجني وأيقظني: شراك النعال، شراك النعال. فقلت لأحمد الغلام: خذ كل نعلٍ لي ولمن في داري وأخرجها إلى هذا الرجل ليرمها ويشتغل بها ففعل، ونمت إلى إن اكتفيت ثم انتبهت وصليت العصر وأعطيته أجرته ومضى، فلما كان من غدٍ في مثل ذلك الوقت جاء وأنا نائم فصاح وأنبهني فقلت للغلام: أدخله، فأدخله فقلت: يا ماص كذا وكذا من أمه، أمس في هذا الوقت أصلحت كل نعلٍ لنا. وعدت اليوم تصيح على بابنا، أبلغك أننا البارحة تصافعنا بالنعال وقطعناها؟ وقد عدت اليوم لعملها وإصلاحها، قفاه. فقال يا سيدنا القاضي: أو أتوب الأ أدخل هذا الدرب؟ قلت: فما تتركني أنام ولا أهدأ ولا أستقر؟ فحلف ألا يعود إلى الدرب وأخرجته إلى لعنة الله. قال: ورأيته يوماً عند الرئيس الوالد - رضي الله عنهما - وهو يشكو إليه قبح أبي القاسم بن المسلمة رئيس الروساء وقصده له وغضه منه، وتناهى غضبه إلى إن أخذ الدواة من بين يدي الرئيس ورفعها إلى فوق رأسه وقال: والله لقد بال في حجري وعلى ثيابي بعدد الرمل والحصا والتراب، وحط الدواة فضرب بها الأرض فكسرت، فلما رأى ذلك قام وانصرف وقد استحيا وبقينا متعجبين منه.
قال: وحدثني أبو سعدٍ الماندائي قال: كنت مع القاضي التنوخي وقد خرج يوماً من دار الخلافة ليعبر إلى داره بالجانب الغربي، فلما بلغنا مشرعة نهر معلى صاح به الملاحون: يا شيخ يا شيخ، تعال هنا تعال هنا، فوقف وقال لهم: كل مردىٍ معكم ومجذاف في كذا وكذا من نسائكم، ما فيكم إلا من يعرفني ويعلم أنني القاضي التنوخي يا كذا وكذا، ثم نزل وهو يسبهم ويشتمهم والملاحون وأنا قد متنا بالضحك. وجاءه غلام قد تزوج وكتب كتاباً بمهر يشهده فيه واستحيا الغلام من ذلك فجذب طاقةً من حصير القاضي وجعل يقطعها لحيائه وخجله، ولحظه القاضي فقال يا هذا: أنا أشهد لك في كتابٍ يقتضي أن يحمل به إليك القماش والجهازاللذان يعمران بيتك ويجملأن أمرك، وأنت مشغول بقطع حصيري وتخيب بيتي؟ وشق الكتاب قطعاً ولم يشهد فيه ورمى به إليه، فأخذه وانصرف متعجباً.
قال: وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: شهد القاضي أبو القاسم - منذ سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، إلى أن توفي في المحرم سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ، إلى أن توفي في المحرم سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ - ، نيفاً وستين سنةً ما وقف له على زلةٍ ولا غلطةٍ. وأذكر له حكايةً وهي: أنه شهد مع جماعةٍ من الشهود على زوجة أبي الحسن بن أبي تمامٍ الهاشمي نقيب النقباء في اقرارٍ أقرت به، فلما سمعوا اقرارها من وراء الستارة لم يقنعهم ذاك، وأرداوا من يشهد عندهم أن المقرة هي المذكورة في الكتاب بعينها، وأن يشاهدوها حتى يسلموا له، ويصح أن يشهدوا عليها بالمعرفة، فلم يقدموا على ذلك وخطاب أبي تمام فيه، فخرج ولده منها فقام له التنوخي وأخذه إلى حجره وقبل رأسه وقال له: قليلاً قليلاً، من هذه التي تكلمنا من وراء الستارة وتحدثنا وتشهدنا عليه؟ فقال له: ستي، فالتفت إلى الجماعة وقال لهم: اشهدوا يا سادة، فأنا أشهد عندكم أن المقرة عندنا من وراء الستارة هي المذكورة في الكتاب بعينها، فشهدوا وشهد معهم. وقال من بعد: هذا صبي لا يعرف ما نحن فيه، ولو كان خلف الستارة غير ستة لقال، ولما كانت هي بعينها قال: هي ستي. ولعمري لقد كان أبو الحسن أجل من أن يفعل هذا معنا.

قال أبو الحسن: كان لنا غلام يعرف بجميلة فابتاع ألف سابلٍ سرجيناً من ملاحٍ يعرف بالدابة ليحمله إلى قراحنا المشجر في نهر عيسى ليطرح في أصول الشجر، فلما ذكر جميلة ذاك للرئيس رضي الله عنه قال له: اكتب عليه خطاً وأشهد فيه يعني المعلم في الدار ومن يجري مجراه، فكتب جميلة على الملاح رقعةً ومضى بها لا يلوي على شيءٍ إلى أن عاد التنوخي بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب والزمان صاف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال غلام فلان. قال: ما لك؟ قال: شهادة. قال له: اقعد ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال والغلام يصيح يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك؟ أصبر حتى أخرا، أصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، ثم توضأ ليصلي فلم يهنئه فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك، ما اسم هذا الملاح؟ فقال: الدابة يا سيدي، فقال: وأي شيء يقربه؟ ويلك فما أقف عليه، أرى خمسة آلاف سابلٍ سرقين. فقال له: وما السرقين؟ فقال: خرء البقر والغنم.
قال: يا ماص بظر أمه، أنا شاهد الخرء؟ ونهض إليه وهو مغتاظ فأخذ ينتف ذقنه ويضرب رأسه وفكه إلى إن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدقه بما جرى عليه فقال: يا هذا، الشهود يستشهدون في الخرا؟ أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة أزه له وتوكله به، ويعتذر مما جره جنونه عليه، وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه ومرت لنا ساعة طيبة بما أورده عليه.
قال: وحدثني الرئيس أب والحسن - رضي الله عنه - قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التوخي يوماً وقد هرب الكافي أبو عبد الله إلقائي ببغداد، وخرج إلى الأنبار، ونظر أبا سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم وكان التنوخي مائلاً إلى بني عبد الرحيم ونابياً عن أضدادهم. فبدأ بذكر القنائي - وكان لي صديقاً - بقبيحٍ وزاد وخشن وخبط، فغمض عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكف ويقطع، فعلم ذاك مني فقفز إلى يحركني ويقول: والله ما أنت نائم، ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحاً. فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحاً، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل ومضى، وبلغ القنائي المجلس بعينه. وعاد القنائي إلى بغداد ناظراً، ودخل التنوخي إليه مسلماً وخادماً فقال له: يا قاضي، ما فعلت بك قبيحاً يقتضي ذكرك لي وطعنك في، فقال: يا مولانا أنا مجنون. قال: إذا كنت مجنوناً فالمارستان لمثلك عمل، وفي حملك إليه ومداواتك فيه ثواب ومصلحة وكف لك عن الناس وأذاهم بجنونك وخباطك، يا أنصاري - للعريف على باب - احمله إلى المارستان واحبسه مع إخوانه المجانين، فأخذ وحمل إلى المارستان وحبس فيه، قال الرئيس: وعرفت القصة فركبت إلى القتائي ولحقني المرتضى والرؤساء من الناس ولم نفارقه حتى أفرج عنه وأطلقه. واجتاز القاضي أبو القاسم يوماً فرأى في طريقه كلباً رابضاً فقال له: اخسأ اخسأ اخسأ فلم يبرح، فقال اخسأ، وعاد عنه ومضى. قال أبو الحسن: لقيته يوماً بنت ابن العلاف زوجة أبي منصور بن المزرع، وكانت عاهرةً إلى الحد الذي تلبس الجبة المضربة، وتتعمم بالقياد وتأخذ السيف والدرقة، وتخرج ليلاً فتمشي مع العيارين وتشرب إلى أن تسكر وتعود سحراً إلى بيتها، وربما انتهى بها السكر إلى الحد الذي لا تملك معه أمر نفسها فيحملها العيارون إلى دار زوجها على تلك الحال. فقال له يا قاضي: ما معنى هذه التاء التي تكتبها على الدراهم؟ وكان إليه العيار في دار الضرب، فقال لها: هذا شيء يعملونه كالعلامة، أن التنوخي متولي العيار فيأخذون التاء من أول نسبتي، فقالت: كذبت وأثمت أيها القاضي، تريد أن أقول لك معناها؟ فقال لها: قولي تاست النساء، فقالت: معناها يا قاضي: تنيكها يا قاضي، فضرب حماره ومضى وهو يقول لها: لحية زوجك في حجري، لحية زوجك في حجري. قال: ولقيه إنسان ومعه كتاب في الطريق فأعطاه إياه وسأله أن يشهد فيه فقال: هات دواةً ومحبرةً. فقال: ما معي، فقال ويحك ما صبرت أن أنزل إلى داري وأشهد عليك بدواتي؟ بل اعترضتني في الطريق وليس معك ما تكتب منه ويلك، من يريد أن ينيك في الدهليز يجب أن يكون أيره قائماً مثل دستك الهاون وتركه ومضى.
علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف

المدائني أبو الحسن مولى سمرة بن حبيب بن عبد شمس ابن عبد منافٍ، بصرى سكن المدائن ثم اتنقل عنها إلى بغداد، فلم يزل بها إلى حين وفاته. روى عنه الزبير ابن بكارٍ وأحمد بن أبي خيثمة، وأحمد بن الحارث الخزاز، والحارث أبن أبي أسامة وغيرهم.
حدث أبو قلابة قال: حدثت أبا عاصمٍ النبيل لحديث فقال: عمن؟ فإنه حسن، فقلت: ليس له إسناد ولكن حدثينه أبو الحسن المدائني. فقال لي: سبحان الله، أبو الحسن إسناد.
ولد المدائني سنة خمسٍ وثلاثين ومائةٍ، ومات سنة خمسٍ وعشرين ومائتين.
قال الحارث بن أسامة: سرد المدائني الصوم قبل موته بثلاثين سنةً، وإنه كان قد قارب المائة سنة فقيل له في مرضه: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أعيش، وكان مولده ومنشؤه البصرة، ثم صار إلى المدائن بعد حينٍ، ثم صار إلى بغداد فلم يزل بها إلى أن مات، واتصل بإسحاق بن إبراهيم الموصلي فكان لا يفارق منزله، وفي منزله كانت وفاته، وكان ثقةً إذا حدث عن الثقات.
نقلت من خط عمر بن محمد بن سيفٍ الكاتب البغدادي، حدثنا اليزيدي أبوعبد الله محمد بن العباس ابن محمد بن أبي محمدٍ قال: حدثني أحمد بن زهير بن حربٍ قال: كان أبي ويحيى بن معينٍ ومصعب الزبيدي يجلسون العشيات على باب مصعبٍ قال: فمر عشيةً من العشيات على باب مصعبٍ رجل على حمارٍ فارهٍ وبزةٍ حسنةٍ، فسلم وخص بمسائله يحيى ابن معينٍ. فقال له يحيى: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: الى هذا الكريم الذي يملأ كمي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم. فقال: ومن هذا يا أبا الحسن؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: فلما ولى قال يحيى بن معينٍ: ثقة ثقة ثقة. قال: فسألت أبي فقلت من هذا الرجل؟ فقال المدائني.
وحدث أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف له عن أحمد بن عمارٍ عن بن أبي سعدٍ الوراق قال: العباس بن ميمون قال: قال لي ابن عائشة: جاءني أبو الحسن المدائني فتحدث بحديث خالد بن الوليد حين أراد إن يغير على طرفٍ من أطراف الشام، وقول الشاعر في دليله رافعٍ:
لله در رافعٍ أني اهتدى ... فوز من قراقرٍ إلى سوى
خمساً إذا ما سارها الجيش بكى
فقال: الجيش فقلت: لو كان الجيش لكان بكوا، وعلمت إن علمه من الصحف. قال العسكري: أما قول ابن عائشة إن الرواية: الجيش بكى، فهو كما قال، وهو صحيح، وأما قوله لو كان الجيش لكان بكوا فقد وهم في هذا، ويجوز للجيش بكى فيحمل على اللفظ، وقد قال طفيل الغنوي أو أوس بن حجرٍ:
إن يك عار بالقنان أتيته ... فراري فإن الجيش قد فر أجمع
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: قرأت بخط ابن الإخشيد: كان المدائني متكلماً من غلمان معمر بن الأشعث قال: وحفص الفرد وأبو شمرٍ وأبو الحسن المدائني وأبو بكرٍ الأصم وأبو عامرٍ وعبد الكريم بن روحٍ ستة كانوا غلمان معمر بن الأشعث.
حدث المدائني قال: أمر المأمون أحمد بن يوسف بإدخالي عليه، فلما دخلت ذكرعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام، فحدثته فيه بأحاديث إلى أن ذكر لعن بني أمية له، فقلت: حدثني أبو سلمة المثنى بن عبد الله أخو محمد بن عبد الله الأنصاري قال: قال لي رجل: كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحداً يسمى علياً ولا حسناً ولا حسيناً، وإنما أسمع معاوية ويزيد والوليد، قال: فمررت برجلٍ جالسٍ على باب داره وقد عطشت فاستسقيته فقال: يا حسن اسقه، فقلت له: أسميت حسناً؟ فقال: أي والله، إن لي أولاداً أسماؤهم حسن وحسين وجعفر، فإن أهل الشام يسمون أولادهم بأسماء خلفاء الله ولا يزال أحدنا يلعن ولده ويشتمه، وإنما سميت أولادي بأسماء أعداء الله، فإذا لعنت إنما ألعن أعداء الله فقلت له: ظننتك خير أهل الشام، وإذا جهنم ليس فيها شر منك. فقال المأمون: لا جرم، قد ابتعث الله عليهم من يلعن أحياءهم وأمواتهم، ويلعن من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يعني الشيعة. فهرست كتب المدائني نقلاً من كتاب ابن النديم.
وذكر أنه نقله من خط ابن الكوفي

كتبه في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب أمهات النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب صفة النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب أخبار المنافقين، كتاب عهود النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب تسمية المنافقين، ومن نزل فيه القرآن منهم ومن غيرهم، كتاب تسمية الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وتسمية المستهزئين، كتاب رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، كتاب آيات النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب فتوح النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب صلح النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب خطب النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب عهود النبي صلى الله عيه وسلم، كتاب المغازي. وزعم أبو الحسن بن الكوفي أنها عنده في ثمانية أجزاء جلود بخط ابن عباسٍ اليابس، وزعم تحت هذا الفصل وأخرى في جزأين تأليف أحمد بن الحارث الخزاز. كتاب سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتاب الوفود يحتوي على وفود اليمن، ووفود مضر، ووفود ربيعة، كتاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب خبر الإفك، كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب السرايا، كتاب عمال النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات، كتاب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتاب حجة أبي بكرٍ رضي الله عنه، كتاب خطب النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب الخاتم والرسل، كتاب من كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً أو أماناً، كتاب أموال النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه ومن كان يرد عليه الصدقة من العرب.
أخبار قريش: كتاب نسب قريشٍ وأخبارها، كتاب العباس بن عبد المطلب، كتاب أخبار أبي طالبٍ وولده، كتاب خطب علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه، كتاب عبد الله ابن عباسٍ رضي الله عنهما. كتاب علي بن عبد الله بن العباس، كتاب آل أبي العاص، كتاب أبي العيص، كتاب خبر الحكم بن أبي العاص، كتاب عبد الرحمن بن سمرة، كتاب ابن أبي عتيقٍ، كتاب عمرو بن الزبير، كتاب فضائل محمد بن الحنيفة، كتاب فضائل بن أبي جعفر بن أبي طالب، كتاب فضائل الحارث بن عبد المطلب، كتاب عبد الله ابن جعفرٍ، كتاب معاوية بن عبد الله بن جعفر، كتاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفرٍ، كتاب أمر محمد بن عليٍ بن عبد الله بن عباسٍ، كتاب العاص بن أمية، كتاب عبد الله بن عامر بن كريزٍ، كتاب بشر ابن مروان بن الحكم، كتاب عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، كتاب هجاء حسان لقريشٍ، كتاب فضائل قريشٍ، كتاب عمرو بن سعيد بن العاص، كتاب يحيى بن عبد الله ابن الحارث، كتاب أسماء من قتل من الطالبيين، كتاب أخبار زياد ابن أبيه، كتاب مناكح زيادٍ وولده ودعوته، كتاب الجوابات ويحتوي على جوابات قريشٍ، وجوابات مضر، وجوابات ربيعة، وجوابات الموالى، وجوابات اليمن.
كتبه في أخبار مناكح الأشراف وأخبار النساء: كتاب الصداق، كتاب الولائم، كتاب المناكح، كتاب النواكح، كتاب المغتربات، كتاب القينات، كتاب المرادفات من قريشٍ، كتاب من جمع بين أختين، ومن تزوج ابنه امرأته، ومن جمع أكثر من أربعٍ، ومن تزوج مجوسيةً، كتاب من كرهت مناكحته، كتاب من قتل عنها زوجها، كتاب من نهيت عن تزويج رجلٍ فتزوجته، كتاب من تزوج من الأشراف في كلفٍ، كتاب من هجاها زوجها أو شكاها، كتاب مناقضاتٍ الشعراء وأخبار النساء، كتاب من تزوج في ثقيفٍ من قريشٍ، كتاب الفاطميات، كتاب من وصف امرأةً فأحسن، كتاب الكلبيات، كتاب العواتك.
كتبه في أخبار الخلفاء: كتاب من تزوج من نساء الخلفاء، كتاب تسمية الخلفاء وكناهم وأعمارهم، كتاب تاريخ أعمار الخلفاء، كتاب حلي الخلفاء، كتاب أخبار الخلفاء الكبير ابتدأه بأخبار أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وختمه بأخبار المعتصم.

كتبه في الأحداث: كتاب الردة، كتاب الجمل، كتاب الغارات، كتاب النهروان، كتاب الخوارج، كتاب خبر ضابئ بن الحارث البرجمي، كتاب توبه بن مضرسٍ، كتاب بني ناجيه ومصقلة ابن هبيرة، كتاب مختصر الخوارج، كتاب خطب علي كرم الله وجهه وكتبه إلى عماله، كتاب عبد الله بن عامرٍ الحضرمي، كتاب اسماعيل بن هبار، كتاب عمرو ابن الزبير، كتاب مرج راهط، كتاب الربذة ومقتل خبيشٍ، كتاب أخبار الحجاج ووفاته، كتاب عباد بن الحصين، كتاب حرة واقمٍ، كتاب ابن الجارود برستقباذ، كتاب مقتل عمرو بن سعيد ين العاص، كتاب زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، كتاب خلاف عبد الجبار الأزدي ومقتله، كتاب سلم بن قتيبة وروح بن حاتمٍ، كتاب المسور بن عمر بن عبادٍ الحبطي وعمرو بن سهلٍ، كتاب مقتل ابن هبيرة، كتاب يوم سنبيل، كتاب الدولة العباسية، وهو كتاب كبير يشتمل على عدة كتب لم يذكره ابن النديم، ووقع إلى بخط السكري بعضه وقد قرأه على الحارث بن أسامة.
كتبه في الفتوح: كتاب فتوح الشام منذ أيام أبي بكرٍ وإلى أيام عثمان رضي الله عنهما، كتاب فتوح العراق منذ أيام أبي بكر وإلى آخر أيام عمر رضي الله عنهما، كتاب خبر البصرة وفتوحها وفتوح ما يقاربها من دهستان والأهواز وماسبذان وغير ذلك، كتاب فتوح خراسان وأخبار أمرائها كقتيبة ونصر بن سيارٍ وغيرهما، كتاب نوادر قتيبة بن مسلمٍ، كتاب ولاية أسد بن عبد الله القسري، كتاب ولاية نصر بن سيارٍ، كتاب ثغر الهند، كتاب أعمال الهند، كتاب فتوح سجستان، كتاب فارس، كتاب فتح الأبلة، كتاب أخبارأرمينية، كتاب كرمان، كتاب كابل وزابلستان، كتاب القلاع والأكراد، كتاب عمان، كتاب فتوح جبال طبرستان أيام الرشيد، كتاب فتوح مصر، كتاب الري وأمر العلوي، كتاب أخبار الحسن بن زيدٍ وما مدح به من الشعر وعماله، كتاب فتوح الجزيرة، كتاب فتوح البامياني، كتاب فتوح الأهواز، كتاب أمر البحرين، كتاب فتح شهر كند، كتاب فتح برقة، كتاب فتح مكران، كتاب فتوح الحيرة، كتاب موادعة النبوة، كتاب خبر سارية بن زنيمٍ، كتاب فتوح الري، كتاب فتوح جرجان وطبرستان.
كتبه في أخبار العرب: كتاب البيوتات، كتاب الجيران، كتاب أشراف عبد القيس، كتاب أخبار ثقيفٍ، كتاب من نسب إلى أمه، كتاب من سمي باسم أمه، كتاب الخيل والرهان، كتاب بناء الكعبة، كتاب خبر خزاعة، كتاب المدينة وجبالها وأوديتها.
كتبه في أخبار الشعراء وغيرهم: كتاب أخبار الشعراء، كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء، كتاب العمائر، كتاب الشيوخ، كتاب الغرماء، كتاب من هادن أوغزا، كتاب من اقترض من الأعراب في الديوان فندم وقال شعراً، كتاب المتمثلين، كتاب من تمثل بشعرٍ في مرضه، كتاب الأبيات التي جوابها كلام، كتاب النجاشي، كتاب من وقف على قبر فتمثل بشعر، كتاب من بلغه موت رجلٍ فتمثل بشعرٍ، كتاب من بلغه موت رجلٍ فتمثل شعراً أو كلاماً، كتاب من تشبه من النساء بالرجال، كتاب من فضل الأعرابيات على الحضريات، كتاب من قال شعراً على البديهة، كتاب من قال شعراً في الأوابد، كتاب الاستعداء على الشعراء، كتاب من قال شعراً فسمى به، كتاب من قال في الحكومة من الشعراء، كتاب تفضيل الشعراء بعضهم على بعضٍ، كتاب من ندم على المديح ومن ندم على الهجاء، كتاب من قال شعراً فأجيب بكلامٍ، كتاب الأسود الدؤلي، كتاب خالد بن صفوان، كتاب مهاجاة عبد الرحمن بن حسان للنجاشي، كتاب قصيدة خالد بن يزيد في الملوك والأحداث، كتاب أخبار الفرزد ق، كتاب قصيدة عبد الله بن اسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن، كتاب خبر عمران بن حطان.

ومن كتبه المؤلفة: كتاب الأوائل، كتاب المتيمين، كتاب التعازي، كتاب المنافرات، كتاب الأكلة، كتاب المسيرين، كتاب اللواطين، كتاب القيافة والفأل والزجر، كتاب من جرد الأشراف، كتاب المروءة، كتاب الحمقى، كتاب اللواطين، كتاب الجواهر، كتاب المغنين، كتاب المسمومين، كتاب كان يقال، كتاب ذم الحسد، كتاب من وقف على قبرٍ، كتاب الخيل، كتاب من استجيبت دعوته، كتاب قضاة أهل المدينة، كتاب قضاة أهل البصرة، كتاب أخبار رقبة بن مصقلة، كتاب مفاخرة العرب والعجم، كتاب مفاخرة أهل البصرة والكوفة، كتاب ضرب الدراهم والصرف، كتاب أخبار إياس بن معاوية، كتاب خبر أصحاب الكهف، كتاب خطبة واصلٍ، كتاب إصلاح المال، كتاب آداب الإخوان، كتاب البخل، كتاب المقطعات المتخيرات، كتاب أخبار ابن سيرين، كتاب الرسالة إلى ابن داؤدٍ، كتاب النوادر، كتاب المدينة، كتاب مكة، كتاب المخضرمين، كتاب المراعي والجراد ويحتوي على الكور والطساسيج وجباياتها.
علي بن محمد بن وهب المسعريصاحب أبي عبيدٍ القاسم بن سلام. روى عن أبي عبيد أنه قال: هذا الكتاب - يعني غريب الحديث المصنف - أحب إلى من عشرة آلاف دينارٍ، وعدد أبوابه على ما ذكره ألف بابٍ، وفيه من شواهد الشعر ألف ومائتا بيتٍ.
علي بن محمد بن نصر بن بسامٍ
أبو الحسن العبرتائي الكاتب. وأمه أخت أحمد بن حمدون بن إسماعيل النديم لأبيه وأمه. وقال المزرباني: أمه بنت النديم، وله مع خاله أبي عبد الله حمدون أخبار. وكان حسن البديهة شاعراً ماضياً أديباً لا يسلم من لسانه أحد، وهو معدود في العققة وكان يصنع الشعر في الرؤساء وينحله ابن الرومي وغيره. مات فيما ذكره ابن المزرباني بعد سنة ثلاثمائةٍ بسنتين.
وقال ثابت بن سنانٍ: مات على بن محمد بن بسامٍ في صفر سنة اثنتين وثلاثمائةٍ عن نيفٍ وسبعين سنةً، واستفرغ شعره في هجاء والده محمد بن بسامٍ والخلفاء والوزراء، وكان مع فصاحته وبيانه لاحظ له في التطويل، إنما تحسن مقطعاته وتندر أبياته، وهو من أهل بيت الكتابة، وكان جده نصر بن منصورٍ يتولى ديوان الخاتم والنفقات والأزمة في أيام المعتصم، وكان هو السبب في نكبة الفضل بن مروان، وكان قد هجا الوزير علي بن عيسى بن داود بن الجراح لما نفى إلى مكة، فلما ردت الوزارة جلس يوماً للمظالم فمرت في جملة القصص رقعة فيها مكتوب:
وافى ابن عيسى وكنت أضغنه ... أشد شيءٍ على أهونه
ما قدر الله ليس يدفعه ... وماسواه فليس يمكنه
فقال علي بن عيسى: صدق هذا ابن بسامٍ، والله لا ناله مني مكروه أبداً، وكان الغالب على ابن بسامٍ الشعر، ومن حقه أن يذكر مع الشعراء، وإنما حملنا على ذكره هاهنا رسائله وماله من التصانيف وهي: كتاب أخبار عمر بن أبي ربيعة تصنيف جيد بالغ في معناه، وجدت أخبار عمر بن أبي ربيعة تصنيف علي بن محمد أبن نصر بن منصور بن بسامٍ وقد روى فيه عن الزبير ابن بكارٍ، وعمر بن شبة، وحماد بن اسحاق، ويعقوب بن أبي شيبة، وأحمد بن الحارث الخزاز، ومحمد بن حبيبٍ وسليمان بن أبي شيخٍ وخاله أحمد بن حمدون، كتاب المعاقرين كتاب ديوان رسائله. كتاب مناقضاتٍ الشعراء، كتاب أخبار الأحوص. ومن شعره الذي قاله ونحله ابن الرومي قوله يخاطب عبيد الله بن سليمان الوزير وقد مات ابنه أبو محمد في سنة أربعٍ وثمانين:
قل لأبي القاسم المرجى ... قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زيناً ... وعاش ذو الشين والمعايب
حياة هذا كفقد هذا ... فلست تخلو من المصائب
فبلغت الأبيات عبيد الله فساءته، فدعا البسامي وقال: يا علي، كيف قلت؟ فعلم البسامي أنه مغضب فقال: قلت أيها الوزير:
قل لأبي القاسم المرجى ... لن يدفع الموت كف غالب
لئن تولى بمن تولى ... وفقده أعظم المصائب
لقد تخطت لك المنايا ... عن حاملٍ عنك للنوائب

يعني ابنه ابا الحسين، فسكت عبيد الله ولها عنه. وذكر الصولي في كتاب الوزراء قال: قال أبو الحارث النوفلي الشاعر: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لكفره، ولمكروهٍ نالني منه، فلما قرأت شعر ابن المعتز، وهو شعر - رثى به الحسين أبا محمدٍ - مذكور في أخباره، وشعر ابن بسامٍ، وكان ابن بسامٍ قد قال:
معاذ الله من كذبٍ ومين ... لقد أبكت وفاتك كل عين
ولكن قد تنسينا الرزايا ... ويعضدنا بقاء أبي الحسين
قلت على لسان ابن بسامٍ وأشعتها عليه وأنفذتها إليه: قل لأبي القاسم المرجى الأبيات.
وحدث السلامي عن أبي القاسم المجمع بن محمد بن المجمع قال: حدثني ابن حمدون النديم قال: كان المعتضد أمر بعمارة البحيرة واتخاذ رياضٍ حواليها، وإنفق على الأبنية بها ستين ألف دينارٍ، وكان يخلو فيها مع جواريه، وفيهن جارية يقال لها دريرة، فقال البسامي:
ترك الناس بحيرة ... وتخلى في البحيرة
قاعداً يضرب بالز ... رب على حر دريره
وبلغت الأبيات المعتضد، فلم يظهر لأحدٍ أنه سمعها، وأمر بتخريب ما استعمره من تلك العمارات والأبنية. قال أحمد بن حمدون: فكنت ألاعب المعتضد بالشطرنج ذات يومٍ إذ دخل عليه القاسم بن عييد الله وهو وزيره، فاستأمره في شيء وانصرف، فلما ولى أنشد المعتضد قول البسامي في القاسم:
حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب
وجعل يكرر هذا البيت، وعاد القاسم إليه في شغل والمعتضد مشغول باللعب، ولم يعلم بحضوره وهو يردد البيت، فاحتلت حتى أعلمته حضوره، فرفع رأسه إليه واستحيا منه حتى تبين ذلك في وجهه ثم قال: يا أبا الحسين: - وهو أول ما كناه للخجل الذي تداخله - لم لا تقطع لسان هذا الماجن وتدفع شره عنك؟ فانصرف القاسم مبادراً إلى مجلسه ومنتهزاً للفرصة في ابن بسامٍ وأمر بطلبه.
قال ابن حمدون: فدهشت وارتعشت يدي في اللعب خوفاً مما يلحق ابن بسامٍ للقرابة التي بيني وبينه: فقال المعتضد: ما لك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، القاسم بن عبيد الله لا يصطلى بناره، وكأني به وقد قطع لسان البسامي حنقاً عليه، وهو أحد النبلاء الشعراء فيكون ذلك سبةً على أمير المؤمنين، فأمر بإحضار القاسم وسأله عما فعله في أمر ابن بسامٍ فقال: قد تقدمت إلى مؤنسٍ باحضاره لأقطع لسانه، فقال: يا أبا الحسين، إننا أمرناك أن تقطع لسانه بالبر والصلة والتكرمة ليعدل عن هجائك إلى مدحك. فقال يا أمير المؤمنين: لو عرفته حق المعرفة وعلمت ما قاله لاستجزت قطع رأسه، عرض بما قاله في المعتضد ودريرة، فتبسم المعتضد وقال: يا أبا الحسين، إنما أمرنا بتخريب البحيرة لذلك، فتقدم أنت بإحضاره وأخرج ثلاثمائة دينارٍ فإن ذلك أولى وأحسن من غيره. قال: فأحضره القاسم بعد ثالثةٍ وخلع عليه وولاه بريد الصيمرة وما والاها، فبقي في عمله إلى آخر أيام المعتضد، ثم جمح به طبعه إلى إعادة الإساءة فقال:
أبلغ وزير الإمامعني ... وناد يا ذا المصيبتين
يموت حلف الندى ويبقى ... حلف المخازي أبو الحسين
فأنت من ذاعميد قلبٍ ... وأنت من ذا سخين عين
حياة هذا كموت هذا ... فالطم على الرأس باليدين
قال جحظة: كان ابن بسامٍ يفخر بقوله في:
يا من هجوناه فغنانا ... أنت وحق الله أهجانا
فقلت: هذا معنى لم يسبق إليه خاطر ابن بسامٍ وإن كان قد أتى به مطبوعاً، وإنما أخذه من قول الرومي في هجائه شنطف:
وفي قبحها كافٍ لنا من كيادها ... ولكنها في فعلها لم تردد
ولو علمت ما كايدتنا لقبحها ... بأنفاسها والوجه والطبل واليد
وقال ابن بسام في الوزير الخاقاني:
وزير ما يفيق من الرقاعة ... يولى ثم يعزل بعد ساعة
إذا أهل الرشا صاروا إليه ... فأحظى القوم أوفرهم بضاعه
فلا رحماً تقرب منه خلقاً ... سوى الورق الصحاح ولا شفاعة
وليس بمنكرٍ ذا الفعل منه ... لأن الشيخ أفلت من مجاعه

==========

ج10.كتاب : معجم الأدباء ياقوت الحموي


حدث أبو نصرٍ أحمد بن العلاء الشيرازي الكاتب قال: لما تقلد أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات الوزارة كنت أجالسه وأؤانسه، فحدثني يوماً أن أباه حدثه قال: تقلدت مصر وكان بيني وبين أبي الحسين بن بسام مودة ورضاع، ونحن مختلطون وأنا بمصر يوماً فما شعرت إلا بابن بسامٍ قد دخل إلي متقلداً للبريد، فأفهمته أحوالي، وقاسمته أكثر مروءتي وأموالي، وتطلبت الخلاص من لسانه بكل شيءٍ يمكن، وأوصيت حاجبي ألا يحجبه عني ولو كنت مع زوجتي، فجاء يوماً وأنا نائم فقال له الحاجب: ادخل، فدخل فوجدني نائماً فاستدعى دواةً وكتب شيئاً وتركه وانصرف. فلما انتبهت عرفني حاجبي ذلك، فأخذت الرقعة فإذا فيها:
محتجب دون من يلم به ... وليس للخارجات حجاب
لأن للخارجات منفعةً ... تأتيه والداخلون طلاب
قال: فبعثت أعرف خبرة لأعاتبه فإذا هو تحمل وسار عن البلد، فكتبت إليه أدرايه وألاطفه ليرجع فلم يجب.
قال التنوخي: حدثني ابن ابي قيراطٍ علي بن هشامٍ، حدثني أبو علي مقلة قال: كنت أحقد ابن بسامٍ لهجائه إياي، فخوطب ابن الفرات في وزارته الأولى في تصريفه، فاعترضت وقلت: إذا صرف فلا يحتبس الناس على مجالسنا وقد افترقت، فإذا لم يضره الوزير فلا أقل من ألا ينفعه، فامتنع من تصريفه قضاء لحقي، فبلغ ذلك ابن بسامٍ فجاءني وخضع لي ثم لازمني نحو سنةٍ حتى صار يختص بي ويعاشرني على البريد، ومدحني فقال:
يا زينة الدين والدنيا وما جمعا ... والأمر والنهي والقرطاس والقلم
إن ينسئ الله في عمري فسوف ترى ... من خدمتي لك ما يغني عن الخدم
أبا عليٍ لقد طوقتني منناً ... طوق الحمامة لا تبلى على القدم
فاسلم فليس يزيل الله نعمته ... عمن يبث الأيادي في ذوي النعم
وحدث محمد بن يحيى الصولي أنه سمع علي بن محمد ابن بسامٍ يقول: كنت أتعشق خادماً لخالي أحمد بن حمدون فقمت ليلة لأدب إليه، فلما قربت منه لسعتني عقرب فصرخت فقال خالي: ما تصنع هاهنا؟ فقلت: جئت لأبول. فقال: صدقت ولكن في است غلامي، فقلت لوقتي:
ولقد سريت مع الظلام لموعدٍ ... حصلته من غادر كذاب
فإذا على ظهر الطريق مغذة ... سوداء قد عرفت أوان ذهابي
لا بارك الرحمان فيها عقرباً ... دبابة دبت إلى دباب
فقال خالي: قبحك الله، لو تركت المجون يوما لتركته في هذه الحال. ولابن بسامٍ في علي بن عيسى الوزير:
رجوت لك الوزارة طول عمري ... فلما كان منها ما رجوت
تقدمني أناس لم يكونوا ... يرومون الكلام إذا دنوت
فأحببت الممات وكل عيش ... يحب الموت فيه فهو موت
ومن شعر ابن بسامٍ من خط السمعاني:
أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع
لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... مافيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر إلى الدنيا بعين مودعٍ ... فلقد دنا سفر وحان وداع
فالحادثات موكلات بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع
ولما ولى حامد بن العباس وزارة المقتدر ورتب معه علي بن عيسى يدير الأمور بين يديه، قال ابن بسامٍ:
يا بن الفرات تعزه ... قد صار أمرك آية
لما عزلت حصلنا ... على وزيرٍ بداية
وعلى بن بسامٍ القائل يمدح النحو:
رأيت لسان المرء وافد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون؟
فلا تعد اصلاح اللسان فإنه ... يخبرعما عنده ويبين
ويعجبني زي الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
على أن للأعراب حداً وربما ... سمعت من الإعراب ما ليس بحسن
ولا خير في اللفظ الكريه استماعه ... ولافي قبيح اللحن والقصد أزين
ومن قصيدةٍ له يهجو فيها الكتاب:
وعبدون يحكم في المسلمين ... ومن مثله تؤخذ الجاليه

ودهقان طيٍ تولى العراق ... وسقى الفرات وزر فانيه
وحامد يا قوم لو أمره ... إلى لألزمته الزاوية
نعم ولأرجعته صاغراً ... إلى بيع رمان خسراوية
أيارب قد ركب الأرذلون ... ورجلي من بينهم ماشية
فإذا كنت حاملها مثلهم ... وإلا فأرجل بني الزانية
قال أبو الحسين علي بن هشام بن أبي قيراطٍ: سمعت ابن بسامٍ ينشد في وزارة ابن الفرات:
إذا حكم النصارى في الفروج ... وباهوا بالبغال وبالسروج
فقل للأعور الدجال هذا ... أوانك إن عزمت على الخروج
قال أبو الحسين بن هشامٍ: حدثني زنجي الكاتب، حدثني ابن بسامٍ قال: كنت أتقلد البريد بقلمٍ في أيام عبيد الله بن سليمان والعامل بها أبو عيسى أحمد بن محمد ابن خالدٍ المعروف بأخي أبي صخرةٍ، فأهدى الي في ليلة عيد الأضحى بقرةً للأضحية، فاستقللتها ورددتها وكتبت إليه:
كم من يدٍ لي إليك سالفةٍ ... وأنت بالحق غير معترف
نفسك أهديتها لأذبحها ... فصنتها عن مواقع التلف
علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسديالمعروف بابن الكوفي صاحب ثعلبٍ والخصيص به. وهو من أسد قريشٍ، وهو أسد بن عبد العزي بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب رهط الزبير ابن العوام، وهوصاحب الخط المعروف بالصحة المشهور باتقان الضبط وحسن الشكل، فإذا قيل: نقلت من خط ابن الكوفي فقد بالغ في الاحتياط، وكان من أجل أصحاب ثعلبٍ. مات في ذي القعدة سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائةٍ، ومولده سنة أربعٍ وخمسين ومائتين، وكان ثقةً صادقاً في الرواية وحسن الدراية، وله من الكتب: كتاب الهمز رأيته أنا بخطه، كتاب معاني الشعر واختلاف العلماء فيه، كتاب الفرائد والقلائد في اللغة. قال مؤلف الكتاب: ورأيت بخطه عدة كتبٍ فلم أر أحسن ضبطاً وإتقاناً للكتابة منه، فإنه يجعل الإعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطاً، ويكتب على الكلمة المشكوك فيها عدة مرارٍ: صح صح صح، فكان من جماعي الكتب وأرباب الهوى فيها. وذكره أبو الحسن محمد بن جعفرٍ التميمي المعروف بابن النجار في كتاب الكوفة من تصنيفه قال: ومن أصحاب ثعلبٍ أبو الحسن أحمد بن محمدٍ الكوفي الأسدي الذي خطه اليوم يؤتدم به، وبيع جزازات كتبه ورقاع سؤالاته العلماء، كل رقعةٍ بدرهمٍ، وأنفق على العلم ثلاثين ألف درهمٍ على ثعلبٍ وحده، هكذا قال أحمد بن محمدٍ وأظنه سهواً منه، فإن ابن الكوفي المشهور بجودة الضبط اسمه بخطه على عدةٍ من كتبه، وهو علي ابن محمد بن عبيدٍ الكوفي الأسدي كما قدمنا، فإن صحت رواية ابن النجار فهو غير الذي نعرفه نحن، فإني لم أر لهذا المسمى ذكراً مع كثرة بحثي وتنقيري، ووجدت جزازةً من إملاء أبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي اللغوي - وله في هذا الكتاب ترجمة - ما صورته: ولأبي الهيذام إلى أبي الحسن بن الكوفي النحوي البغدادي رحمه الله:
أبا حسن أراك تمد حبلي ... لتقطعه وأرسله بجهدي
وأتبعه إذا قصر احتياطاً ... وأنت تشد حبلك أي شد
أخي فكم يكون بقاء حبلٍ ... يتلتل بين إرسالٍ ومد
تعالى الله ما أجفى زماناً ... بقيت له وأنكد فيه جدى
أظن الدهر يقصدني لأمرٍ ... يحاوله ويطلبني بحقدٍ
إذا ذهبت بشكلي عن ودادي ... مذاهبه فكيف ألوم ضدي؟
سأصبر طائعاً وأغض طرفي ... وأحفظ عهد مطرحٍ لعهدي
وأقصد أن أحصل لي صديقاً ... أعز به على خطئي وعمدي
فإن أظفر بذاك فأي كنزٍ ... ونيل غنيمةٍ وثقوب زند
وإلا كان حسن الصبر أحرى ... بحسن مثوبةٍ وبناء مجد
ألا لله ما أصبحت فيه ... من الخلطاء من تعبٍ وكد
لقاء بالجميل وحسن بشرٍ ... وإنصاف يشاب بخلف وعد
وعلم لا يقاس إليه علم ... بكل طريقةٍ وبكل حد
وإغفال لما أولى وأحجى ... تفقده بذي أدبٍ وحشد
فيالله يا للناس يا لل ... عجائب بين تقربةٍ وبعد

ومن الأخلاق إذ مزجت فصارت ... علاقمها مجدحةً بشهد
أراني بين منزلتين ما لي ... سوى أحداهما ثقة لقصد
فإن أرد الأنيس أعش ذليلاً ... وإن أرد التعزز أبق وحدي
علي بن محمد بن الشاه الطاهريمن ولد الشاه بن ميكال وكان أديباً طيباً مفاكهاً في نهاية الظرف والنظافة، يسلك مسلك أبي العنبس الصيمري في تصانيفه، وله من التصانيف: كتاب دعوة التجار، كتاب فخر المشط على المرآة، كتاب حرب الجبن مع الزيتون، كتاب الرؤيا، كتاب اللحم والسمك، كتاب عجائب البحر، كتاب قصيدة: وخيار يا مكانس. ولما لم أجد له ما يكتب وجدت في كتاب الرياض للمرزباني: أنشدني أحمد بن إبراهيم بن الشاه الطاهري:
فؤادي عليل وجسمي نحيل ... وليلي طويل ونومي قليل
وقلبي غليل ودائي دخيل ... وسقمي دليل على ما أقول
وطرفي كليل فما لي مقيل ... وأمري جليل فصبر جميل
علي بن محمد بن عبدوس الكوفي النحويذكره محمد بن اسحاق، وله من الكتب: كتاب الشعر بالعروض. كتاب البرهان في علل النحو. كتاب معاني الشعر.
علي بن محمد أبو القاسم الإسكافيمن أهل نيسابور، ذكره الثعالبي فقال: هو لسان خراسان وعينها، وواحدها في الكتابة والبلاغة، وممن لم يخرج مثله في الصناعة والبراعة، وكان تأدب بنيسابور عند مؤدبٍ بها يعرف بالحسن بن مهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم بطريق التدريج إلى التخريج، ثم حرر مديدةً في بعض الدواوين فخرج منقطع القرين، واسطة عقد الفضل، ونادرة الزمان، وبكر الفلك كما قال فيه الهزيمي:
سبق الناس بياناً فغدا ... وهو بالإجماع بكر الفلك
أصبح الملك به متسقاً ... لسليل الملك عبد الملك
ووقع في ريعان أمره وعنفوان عمره إلى أبي علي الصاغاني واستأثر به واستخلصه لنفسه، وقلده ديوان رسائله، فحسن خبره، وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة في نهاية الحسن والنضرة، فتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبوعليٍ في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لواذاً، ولا يخرج عنه إلى أن كان من كشف أبي علىٍ قناع العصيان، وإنهزامه في وقعة خرجيك إلى الصغانيان ما كان، وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القهندز وقيدج مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه. ثم إن الأمير الحميد نوح بن نصر أراد أن يستكشفه عن سره ويقف على خبيئة صدره، فأمر أن يكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها: إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاس لتتولى له كتابة الكتب السلطانية، فما رأيك في ذلك؟ فوقع في الرقعة: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فلما عرض توقيعه على الحميد حسن موقعه منه وأعجب به، وأمر بإطلاقه والخلع عليه، وإقعاده في ديوان الرسائل خليفةً لأبي عبد الله بن الحسين بن العميد الملقب بكله، وهو والد أبي الفضل بن العميد، وكان الاسم للعميد والعمل لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجان الحضرة:
تبظرم الشيخ كله ... ولست أرضى ذاك له
كأنه لم ير من ... قعد عنه بدله
والله إن دام على ... هذا الجنون والبله
فإنه أول من ... ينتف منه البسلة
وكان أبو القاسم يهجوه فقال فيه وكان يحضر الديوان في محفةٍ لسوء أثر النقرس على قدمه:
يا ذا الذي ركب المحف ... فة جامعاً فيها جهازه
أترى الزمان يعيشني ... حتى يرينها جنازه؟

فلم تطل الأيام حتى أدركت العميد منيته، وبلغ أبو القاسم أمنيته، وتولى العمل برأسه، وعلا أمره وبعد صيته، وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة، وازداد على الأيام تبحراً في الصناعة، ويحكي أن الحميد أمره ذات يومٍ بكتب كتابٍ إلى بعض الأطراف وركب متصيداً واشتغل أبو القاسم عن ذلك لمجلس إنسٍ عقده بين إخوانٍ جمعهم عنده، فحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره باستصحاب الكتاب الذي رسم له كتابته ليعرضه عليه ولم يكن كتبه، فأجاب داعيه وقد نال منه الشراب ومعه طومار بياض أو هم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، وقعد بالبعد عنه فقرأ عليه كتاباً طويلاً سديداً بليغا أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، وارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من سواد مكتوبه وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.
ومن عجيب أمره: إنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قصير الباع، وكان يقال: إذا استعمل ابوالقاسم نون الكبرياء تكلم من السماء، وكان في علو الرتبة في النثر وانحطاطه في النظم كالجاحظ، ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق.
قال: ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شباباً وآداباً، وغدت الكتابة لفراقه شعثاء، والبلاغة غبراء أكبر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثيته، فمن ذلك قول الهزيمي الأبيوردي من قصيدة:
ألم تر ديوان الرسائل عطلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغرٍ مضى حاميه ليس لسده ... سواه وكالكسر الذي عز جابره
ليبك عليه خطه وبيانه ... فذا مات واشيه وذا مات ساحره
علي بن محمد بن أبي الفهم، لتنوخيداود بن ابراهيم التنوخي أبو القاسم القاضي، قد تقدم نسبه في ترجمة حفيده علي بن المحسن. قال السمعاني: ولد أبو القاسم هذا بأنطاكيه في ذي الحجة سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين، وقدم بغداد في حداثته في سنة ستٍ وثلاثمائةٍ، وتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث ورواه، وولى القضاة بالأهواز وكورها، وتقلد قضاء إيذج وجند حمص من قبل المطيع لله، ومات بالبصرة في ربيعٍ الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائةٍ ودفن بالمربد. أعرف من التنوخيين هؤلاء الثلاثة، فينبغي أن يذكروا في هذا الكتاب وهم: أبو القاسم وابنه أبو عليٍ المحسن صاحب كتاب نشوار المحاضرة وكتب الفرج بعد الشده، وحفيده أبو القاسم على الأخير شيخ الخطيب وتلك الطبقة، وقد ذكرت كل واحدٍ منهم، وله تصانيف في الأدب منها: كتاب في العروض. قال الخالع: ما عمل في العروض أجود منه. كتاب في علم القوافي، وكان بصيراً بعلم النجوم، قرأه على البناني المنجم صاحب الزيج ويقال: إنه كان يقوم بعشرة علومٍ، وتقلد القضاء بالأهواز وكورة واسط وأعمالها والكوفة، وسقى الفرات وجند حمص وعدة نواحٍ من الثغور الشامية وأرجان وكورة سابور مجتمعاً ومفترقاً، وأول ولايته القضاء رياسةً في أيام المقتدر بالله بعهدٍ كتبه له أبو علي بن مقلة الوزير، وشهد الشهود عنده فيما حكم بين أهل عمله بالحضرة في سنة أربعين وثلاثمائةٍ وشهدوا على إنفاذه. وكان المطيع لله قد عول على صرف أبي السائب عن قضاء القضاة وتقليده إياه، فأفسد ذلك بعض أعدائه، وكان ابن مقلة قلده المظالم بالأهواز والأشراف على العيار بها، وكان أبو عبد الله البريدي قد استخلفه بواسط على بعض أمور النظر، ولم يزل نبيهاً متقدماً يمدحه الشعراء ويجيزهم، ويفضل على من قصده إفضالاً أثر في حاله، وتوفي في سنة اثنتين وأربعين، وصلى عليه الوزير أبو محمدٍ المهلبي وقضى ما كان عليه من الدين وهو خمسون ألف درهمٍ.

قال أبو عليٍ التنوخي: كان أبي بحفظ للطائيين سبعمائة قصيدةٍ ومقطوعةٍ سوى ما يحفظ لغيرهم من المحدثين والمخضرمين والجاهليين، ولقد رأيت له دفتراً بخطه هو عندي يحتوي على رؤس ما يحفظه من القصائد مائتين وثلاثين ورقةً أثمانٍ منصوريٍ لطافٍ. وكان يحفظ من النحو واللغة شيئاً عظيماً مع ذلك، وكان عظيماً في الفقه والفرائض. والشروط والمحاضر والسجلات رأس ماله، وكان يحفظ منه ما قد اشتهر من الكلام والمنطق والهندسة، وكان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة قدوةً وفي حفظ علم العروض. وله فيه وفي الفقه وغيرهما عدة كتبٍ مصنفة، وكان مع ذلك يحفظ ويجيب فيما يفوق عشرين ألف حديثٍ، وما رأيت أحداً أحفظ منه، ولولا أن حفظه افترق في جميع هذه العلوم لكان أمراً هائلاً. قال أبو منصور الثعالبي: هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتكٍ، أواقترحت فإني مدرعة راهبٍ، أو آثرت فإني تحية شاربٍ. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيقف الدولة زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته. وكان المهلبي الوزير وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه جداً ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء، ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره، ناظماً حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيماً في نهاية الملاحة واللباقة، وكان يؤثره على كافة غلمانه، ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض يأنس به:
هل على من لامه مدغم ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم؟
فوقع تحته نعم، ولملا؟ قال: ويحكى إنه كان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة، والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة، وابن معروفٍ، والقاضي الإيذجي وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس، ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كلٍ منهم طاس ذهب من ألف مثقالٍ مملوء شراباً قطربلياً وعكبرياً فيغمس لحيته فيه، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ثم يرش بها بعضهم على بعضٍ، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق البرم ويقولون كلما كثر شربهم: هرهر وإياهم عن السرى بقوله:
مجالس ترقص القضاة بها ... إذا أنتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمةٍ حلوةٍ من الشيم
يخضب بالراح شيبه عبثاً ... أنامل مثل حمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شييبةً قد مزجتها بدم
فإذا أصبحوا عادوا إلى عاداتهم في التزمت والتوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء ومن شعر التنوخي هذا:
وجاء لا جاء الدجى كأنه ... من طلعة الواشي ووجه المرتقب
وفعل الظلام بالضياء ما ... يفعله الحرف بأبناء الأدب
وله:
وليلة مشتاقٍ كأن نجومه ... قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوم
كأن عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يتبسم
وله:
عهدي بها وضياء الصبح يطفيها ... كالسرج تطفأ أو كالأعين العور
أعجب به حين وافى وهي نيرة ... وظل يطمس منها النور بالنور
وله:
لم أنس دجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكانها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وله:
كتبت وليلى بالسهاد نهار ... وصدري لوراد الهموم صدار
ولي أدمع عزر تفيض كأنها ... سحائب فاضت من يديك غزار
ولم أر مثل الدمع ماءً إذا جرى ... تلهب منه في المدامع نار

رحلت وزادي لوعة ومطيتي ... جوانح من حرالفراق حرار
مسير دعاه الناس سيراً توسعاً ... ومعنى اسمه إن حققوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكرت به ... ديار بها بين الضلوع ديار
لك الخير، عن غير اختياري ترحلي ... وهل بي على صرف الزمان خيار؟
وهذا كتابي والجفون كأنها ... تحكم في أشفارهن شفار
وله:
فحم كيوم الفراق يشعله ... نار كنار الفراق في الكبد
أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرمد
وله في محبوب جسيم:
من أين أستر وجدي وهو منهتك ... ماللمتيم في تفك الهوى درك؟
قالوا: عشقت عظيم الجسم، قلت لهم: ... كالشمس أعظم جسمٍ حازه الفلك
وله:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب
كأنك من كل القلوب مركب ... فأنت إلى كل القلوب حبيب
قال: ومما أنشدته له ولم أجده في ديوانه:
قلت لأصحابي وقد مر بي ... منتقباً بعد الضيا بالظلم
بالله يا أهل ودادي قفوا ... كي تبصروا كيف زوال النعم؟
وحدث السلامي قال: حدثني اللحام قال: خرج أبو أحمد بن ورقاء الشيباني في بعض الأسفار فكتب إليه أبو القاسم التنوخي الأنطاكي يتشوق إليه ويجزع على فراقه:
أسير وقلبي في ذراك أسير ... وحادي ركابي لوعة وزفير
ولي أدمع غرز تفيض كأنها ... جدىً فاض في العافين منك غزير
وطرف طريف بالسهاد كأنه ... نداك وجيش الجود فيه يغير
أبا أحمدٍ إن المكارم منهل ... لكم أول من ورده وأخير
سماح كمزن الجود فيه تسجم ... وغاب لأسد الموت فيه زئير
شباب بني شيبان شيب إذا انتدوا ... وقلهم يوم اللقاء كثير
وجوه كأكباد المحبين رقةً ... على أنها يوم اللقاء صخور
وحدث أبو سعد السمعاني ومن خطه نقلت بإسنادٍ رفعه إلى منصورٍ الخالدي قال: كنت ليلةً عند القاضي التنوخي في ضيافته فأغفى اغفاءةً فخرجت منه ريح، فضحك بعض القوم فانتبه لضحكه وقال: لعل ريحاً، فسكتنا فمكث هنيهةً ثم أنشأ يقول:
إذا نامت العينان من متيقظٍ ... تراخت بلا شكٍ تشاريج فقحته
فمن كان ذا عقلٍ فيعذر نائماً ... ومن كان ذا جهلٍ ففي جوف لحيته
ومن خط السمعاني بإسناده له، وهي من مشهور شعره:
لم أنس شمس الضحى تطالعني ... ونحن من رقبةٍ على فرق
وجفن عيني بدمعه شرق ... لما بدت في معصفرٍ شرق
كأنه أدمعي ووجنتها ... لما رمتنا الوشاة بالحدق
ثم تغطت بكمها خجلاً ... كالشمس غابت في حمرة الشفق
وله:
تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلاً ... فمبلغ آراء الرجال رسولها
وروئ وفكر في الكتاب فإنما ... بأطراف أقلام الرجال عقولها
وحدث أبو عليٍ المحسن بن علي بن محمدٍ التنوخي: جرى في مجلس أبي - رحمه الله - يوماً ذكر رجلٍ كان صغيراً فارتفع، فقال بعض الحاضرين: من ذاك الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقعةٍ يشحذ، فقال أبي: وما يضعه من أن الزمان عضه ثم ساعده؟ كل كبيرٍ إنما كان صغيراً أولاً، والفقر ليس بعارٍ إذا كان الإنسان فاضلاً في نفسه، وأهل العلم خاصةً لا يعيبهم ذلك، وأنا اعتقد أن من كان صغيراً فارتفع، أو فقيراً فاستغنى، أفضل ممن ولد في الغنى أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك إنما يحمد على فعل غيره، فلا حمد له هو خاصةً فيه، ومن لم يكن له فكان، فكأنما بكده وصل إلى ذلك، فهو أفضل ممن وصل إليه ميراثاً أوبجد غيره وكد سواه.
حدث أبو عليٍ المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد ابن داوود التنوخي: حدثني أبي قال: سمعت أبي - رحمه الله - يوماً ينشد وسنى إذا ذاك خمس عشرة سنةً بعض قصيدة دعبل بن عليٍ الطويلة التي يفخر فيها باليمن ويعدد مناقبهم، ويرد على الكميت فيها فخره بنزارٍ وأولها:

أفيقي من ملامك يا ظعيناً ... كفاك اللوم مر الأربعينا
وهي نحو ستمائة بيتٍ، فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخراليمن لأنهم أهلي، فقلت يا سيدي: تخرجها إلي حتى أحفظهاً؟ فدافعني فألححت عليه فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتاً أو مائة بيتٍ، ثم ترمي بالكتاب وتخلقه على، فقلت: إدفعها إلي فأخرجها وسلمها لي وقد كان كلامه أثر في فدخلت حجرةً لي كانت برسمي من داره، فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها، فلما كان السحر كنت قد فرغت منها جميعها وأتقنتها، فخرجت إليه غدوةً على رسمي فجلست بين يديه فقال لي: كم حفظت من القصيدة؟ فقلت: قد حفظتها بأسرها، فغضب وقدر أني قد كذبته وقال: هاتها، فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد إلى إن مضيت في أكثر من مائة بيتٍ، فصفح منها عدة أوراقٍ وقال: أنشد من هاهنا، فأنشدت مقدار مائة بيتٍ، فصفح إلى إن قارب آخرها بمائة بيتٍ وقال: أنشدني من هاهنا، فأنشدته من مائة بيتٍ فيها إلى آخرها فهاله ما رأى من حسن حفظي، فضمني إليه وقبل رأسي وعيني وقال: بالله يا ابني لا تخبر بهذا أحداً فإني أخاف عليك من العين. قال أبو عليٍ: قال لي ابي: حفظني أبي وحفظت بعده من شعر أبي تمامٍ والبحتري سوى ما كنت أحفظ لغيرهما من المحدثين من الشعراء مائتي قصيدةٍ قال: وكان أبي وشيوخنا بالشام يقولون: من حفظ للطائيين أربعين قصيدةً ولم يقل الشعر فهو حمار في مسلاخ إنسانٍ، فقلت الشعر وبدأت بمقصورتي التي أولها:
لولا التناهي لم أطع نهي النهي ... أي مدىً يطلب من جاز المدى؟
قال علي بن المحسن: وجدت في كتب أبي كتاباً من كتب أبي محمد المهلبي إليه قبل تقلده الوزراة بسنين أوله: كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي عن سلامةٍ لا زالت له ألفاً وعليه وقفاً:
وحمدٍ لمولىً أستمد بحمده ... له الرتبة العلياء والعز دائماً
وإن يسخط الأيام بالجمع بيننا ... وترضى المنى حتى يرينيك سالما
وصل كتابه أدام الله عزه فقمت معظماً له، وقعدت مشتملاً على السرور به:
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظٍ كالثغو ... ر وكاللإلئ في النحور
أنزلته في القلب منزلة القلوب من الصدور قال أبو علي في النشوار: حدثني أبو العلاء صاعد ابن ثابتٍ قال: كتب إلى القاضي التنوخي جواب كتابٍ كتبته إليه، وصل كتابك:
فما شككت وقد جاء البشير به ... أن الشباب أتاني بعد ما ذهبا
وقلت: نفسي تفدي نفس مرسله ... من كل سوءٍ ومن أملي ومن كتبا
وكاد قلبي وقد قلبته قرماً ... إلى قراءته أن يخرق الحجبا
قال: والشعر له وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه. قال أبو عليٍ: ولست أعرف له ذلك ولا وجدته في كتبه منسوباً إليه، ويجوز أن يكون مما قاله ولم يثبته، أو ضاع فيما ضاع من شعره فإنه أكثر مما حفظ، ومن شعر أبي القاسم علي بن محمدٍ التنوخي الأكبر:
يجود فيستحي الحيا عند جوده ... ويخرس صرف الدهر حين يقول
عطايا تباري الريح وهي عواصف ... ويخجل منها المزن وهو هطول
أقام له سوقاً بضائعها الندى ... سماح لأرسال السماح رسيل
له نسب لوكان للشمس ضوءه ... لما غالها بعد الطلوع أفول
وله:
يا واحد الناس لا مستثنيا أحداً ... اذ كان دون الورى بالمجد منفردا
أماترى الروض قد لاقاك مبتسماً ... ومد نحو الندامى للسلام يدا
فاخضر ناضره في أبيضٍ يققٍ ... واصفر فاقعه في أحمرٍ نضدا
مثل الرقيب بدا للعاشقين ضحىً ... فاحمر ذا خجلاً واصفر ذا كمداً
وله:
إلق العدو بوجهٍ لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فاحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقدٍ وثوب من مودات
ألصبر خير وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات
وله في الناعورة:

باتت تئن وما بها وجدي ... وتحن من وجدٍ إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أقرحت خدي
وله:
فديت عينيك وإن كانتا ... لم تبقيا من جسدي شيئاً
الأ خيالاً لو تأملته ... في الشمس لم تبصر له فيئاً
وكان عبد الله بن المعتز قد قال قصيدةً يفتخر فيها ببني العباس علي بن أبي طالبٍ أولها:
أبى الله إلا ما ترون فمالكم ... غضابى على الأقدار يا آل طالب
فأجابه أبو القاسم التنوخي بقصيدةٍ نحلها بعض العلويين وهي مثبتة في ديوانه أولها:
من ابن رسول الله وابن وصيه ... إلى مدغلٍ في عقدة الدين ناصب
نشا بين طنبورٍ ودفٍ ومزهرٍ ... وفي حجرٍ شادٍ أو على صدر ضارب
ومن ظهر سكرانٍ إلى بطن قينةٍ ... على شبهٍ في ملكها وشوائب
يقول فيها:
وقلت: بنو حربٍ كسو كم عمائماً ... من الضرب في الهامات حمر الذوائب
صدقت، منايانا السيوف وإنما ... تموتون فوق الفرش موت الكواعب
ونحن الألى لا يسرح الذم بيننا ... ولاتدري أعراضنا بالمعايب
إذا ما انتدوا كانوا شموس نديهم ... وإن ركبوا كانوا بدور الركائب
وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الردى ... وإن ضحكوا بكواعيون النوائب
وما للغواني والوغى؟ فتعوذوا ... بقرع المثاني من قراع الكتائب
ويوم حنينٍ قلت حزناً فخاره ... ولو كان يدري عدها في المثالب
أبوه منادٍ والوصي مضارب ... فقل في منادٍ صيتٍ ومضارب
وجئتم مع الأولاد تبغون إرثه ... فأبعد بمحجوبٍ بحاجب حاجب
وقلتم نهضنا ثائرين شعارنا ... بثارات زيد الخير عند التجارب
فهلا بإبراهيم كان شعاركم ... فترجع دعواكم تعلة خائب
وله في معز الدولة:
لله أيام مضين قطعتها ... وطوالها بالغانيات قصر
حين الصبا لدن المهز قضيبه ... غض وإنواء السرور غزار
أجلو النهار على النهار وأنثني ... والشمس لي دون الشعار شعار
حتى إذا ما الليل أقبل ضمنا ... دون الإزار من العناق إزار
فعلى النحور من النحور قلائد ... وعلى الخدود من الخدود خمار
وبدت نجوم الليل من حلل الدجى ... تزكوا كما يتفتح النوار
أقبلن والمريخ في أوساطها ... مثل الدراهم وسطها دينار
فالجو مجلو النجوم على الدجى ... في قمص وشيٍ ما لها أزرار
وكانما الجوز اوشاح خريدةٍ ... والنجم تاج والوشاح خمار
ومنها في المدح:
ملك تناجيه القلوب بما جنت ... وتخافه الأوهام والأفكار
فيد مؤيدة وقلب قلب ... وشباً يشب وخاطر خطار
حين العيون شواخص وكأنها ... للخوف لم تخلق لها أبصار
كل الورى أرض وأنت سماؤها ... وجميعهم ليل وأنت نهار
وله:
ما منهم إلا أمرؤ غمر الندى ... سمح اليدين مؤمل مرهوب
يغريه بالخلق الرفيع وبالندى ... والمكرمات العذل والتأنيب
فله رقيب من نداه على الورى ... وعليه من كرم الطباع رقيب
وله:
وقفنا نجيل الرأي في ساكني الغضا ... وجمر الغضا بين الضلوع يجول
نشيم بأرض الشام برقاً كأنه ... عقود نضاد ما لهن فصول
وله:
أما في جنايات النواظر ناظر ... ولامنصف إن جار منهن جائر؟
بنفسي من لم يبد قط لعاذل ... فيرجع إلا وهو لي فيه عاذر
ولا لحظت عيناه ناهٍ عن الهوى ... فأصبح إلا وهو بالحب آمر
يؤثر فيه ناظر الفكر بالمنى ... وتجرحه باللمس منها الضمائر

حدث أبو عليٍ المحسن بن علي بن محمدٍ التنوخي في نشواره قصةً لأبي معشرٍ قد ذكرتها في مجموع الاختطاف عجيبةً. ثم قال: وهذا بعيد جداً دقيق ولكن فيما شاهدناه من صحة بعض أحكام النجوم كفايةً، هذا أبى حول مولد نفسه في السنة التي مات فيها وقال لنا: هذه سنة قطعٍ على مذهب المنجمين، وكتب بذلك إلى بغداد إلى أبي الحسن البهلول القاضي صهره ينعى نفسه ويوصيه، فلما اعتل أدنى علةٍ وقبل أن تستحكم علته أخرج التحويل ونظر فيه طويلاً وأنا حاضر فبكى ثم أطبقه واستدعى كاتبه وأملى عليه وصيته التي مات عنها وأشهد فيها من يومه، فجاء أبو القاسم غلام زحل المنجم فأخذ يطيب نفسه ويورد عليه شكوكاً، فقال له يا أبا القاسم: لست ممن تخفى عليه فأنسبك إلى غلطٍ، ولا أنا ممن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فوافقه على الموضع الذي خافه وأنا حاضر، فقال له: دعني من هذا. بيننا شك في أنه إذا كان يوم الثلاثاء العصر لسبعٍ بقين من الشهر فهو ساعة قطعٍ عندهم؟ فأمسك أبو القاسم غلام زحل لأنه كان خادماً لأبي وبكى. طويلاً وقال: يا غلام طست فجاءوه به فغسل التحويل وقطعه وودع أبا القاسم توديع مفارق، فلما كان في ذلك اليوم العصر مات كما قال.
قال المحسن: وحدثني أبي قال: لما كنت أتقلد القضاء بالكرخ كان بوابي بها رجل من أهل الكرخ، وله ابن عمره حينئذٍ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذنٍ ويمتزج مع غلماني، وأهب له في بعض الأوقات الدراهم والثياب كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم، ثم خرجت عن الكرخ ورحلت عنها ولم أعرف للبواب ولا لابنه خبراً، ومضت السنون وأنفذني أبوعبد الله البريدي من واسطٍ برسالةٍ إلى ابن رائق فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطاً فقيل لي: إن في الطريق لصاً يعرف بالكرخي مستفحل الأمر، وكنت خرجت بطالعٍ اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة.
فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفنٍ عدةٍ بسلاحٍ شاكٍ في نحو مائة رجلٍ وهو كالعسكر العظيم، وكان معي غلمان يرمون بالنشاب فخلفت أن من رمى منهم سهماً ضربته إذا رجعت إلى المدينة كأني مفزعه، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم فلا يرضون إلا بقتلي، وبادرت فرميت بجميع ما كان معي ومع الغلمان من السلاح في دجلة واستسلمت طلباً لسلامة النفس، وجعلت أفكر في الطالع الذي أخرجت فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعاً، والناس قد أدبروا إلى واسطٍ وأنا في جملتهم، وجعلوا يفرغون السفن وينقلون جميع ما فيها من الأمتعة إلى الشاطئ وهم يضربون ويقطعون بالسيوف، فلما انتهى الأمر إلى جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك والطالع لا يوجبه، فبينا أنا كذلك وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت وطرح علي كما صنع في سائر السفن ليشرف على ما يؤخذ، فحين رآني زجر أصحابه عني ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إلي وجعل يتأملني، ثم أكب على يدي يقبلهما وهو متلثم فارتعت وقلت: يا هذا، ما شأنك؟ فأسفر لثامه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته فلجزعي لم أعرفه فقلت: لا والله فقال: بلى، أناعبدك ابن فلانٍ الكرخي بوابك هناك، وأنا الصبي الذي تربيت في دارك. قال: فتأملته فعرفته إلا أن اللحية قد غيرته في عيني، فسكن روعي قليلاً وقلت يا هذا: كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال يا سيدي: نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إلى هؤلاء الرجال فطلبت قطع الطريق، ولوكان أنصفني السلطان وأنزلني بحيث استحق من الشجاعة وأنتفع بخدمتي ما فعلت بنفسي هذا. قال: فأقبلت أعظه وأخوفه الله ثم خشيت أن يشق ذلك عليه فيفسد رعايته لي فأقصرت، فقال لي يا سيدي: لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئاً؟ فقلت: لا، ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا إلى الماء وشرحت له الصورة فضحك وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار ممن تعتني به؟ فقلت: كلهم عندي بمنزلةٍ واحدةٍ في الغم بهمن فلو أفرجت عن الجميع.

فقال: والله لولا أن أصحابي قد تفرقوا ما أخذوه لفعلت ذلك، ولكنهم لا يطيعونني إلى رده، ولكني أمنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ بعد، فجزيته الخير فصعد الى الشاطئ وأصعد جميع أصحابه ومنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ، ورد على قومٍ أشياء كثيرة كانت أخذت منهم، وأطلق الناس وسار معي إلى حيث آمن على وودعني وانصرف راجعاً.
حدث أبو القاسم قال: حدثني أبي قال: كان أول شيءٍ قلدته القضاء بعسكر مكرمٍ وتسترٍ وجند يسابور وأعمال ذلك من قبل القاضي أبي جعفرٍ أحمد بن اسحاق بن البهلول التنوخي، وكنت في السنة الثانية والثلاثين من عمري، وذلك في شهور سنة عشرةٍ وثلاثمائةٍ، ومن شعره المشهور ما نقلته من ديوان شعره.
وراح من الشمس مخلوقةٍ ... بدت لك في قدحٍ من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جاري
إذا ما تأملته وهو فيه ... تأملت ماءً محيطاً بنار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذي النهاية في الاحمرار:
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاتفقا بالجوار
وكان المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أوباليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍ من الجلنار
قلت: وقد تنوزعت هذه الأبيات ورويت لغيره فقيل: إنها لأبي النصر الأنطاكي النحوي وغيره.
علي بن محمد بن الحسينبن العميدبن محمد، أبو الفتح بن العميد الملقب بذي الكفايتين، كفاية السيف وكفاية القلم، وزير ركن الدولة أبي عليٍ الحسن بن بويه بعد أبيه، - وبذل مالاً في ذلك - ، ثم وزير ابنه مؤيد الدولة بويه بالري وأصفهان وتلك الأعمال. وورد إلى بغداد صحبة عضد الدولة بن ركن الدولة لنصرة عز الدولة بختيار. قتل على ما يجيء شرحه - إن شاء الله تعالى - في سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ، ومولده في سنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، كذا ذكر ابن الصابئ. كان أديباً فاضلاً بليغاً، قد اقتدى بأبيه في علو الهمة وبعد الشأو في الكرم والفضل:
إن السرى إذا سرى فبنفسه ... وابن السرى إذا سرى أسراهما

وكان أبوه قد أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه أبو الحسين بن فارسٍ اللغوي وأحسن تهذيبه. ولما مات أبوه في الوقت الذي ذكرناه في ترجمته، وهو سنة ثلاثين وثلاثمائةٍ، قام مقامه في وزارة ركن الدولة وذلك قبل الأستكمال وفي بعدٍ من الاكتهال، وعمره حينئذٍ اثنتان وعشرون سنةً، وألقى ركن الدولة مقاليده إليه، وعول في تدبير السيف والقلم عليه، فلما جرى لعز الدولة بختيار بن معز الدولة ببغداد ما جرى مع غلامه سبكتكين، وأرسل إلى عمه ركن الدولة يستعين به، تقدم إلى أبي الفتح بالمضي إلى شيراز والمسير في صحبة ولده عضد الدولة لإنجاد عز الدولة، وورد إلى بغداد وجرى ما جرى من موت سبكتكين ومحاربة أصحابه حتى انجلوا عنها، وطمع عضد الدولة فيها، ومكاتبته أباه بمفارقتها وتسلينها الى عز الدولة، وكتب ركن الدولة إلى أبي الفتح بالقيام بذلك والتكفل به، حتى يفارق عضد الدولة بغداد في قصةٍ هي مذكورة في التواريخ، فتشدد ابن العميد على عضد الدولة في ذلك، وخاطبه فيه مخاطبات حقدها عضد الدولة عليه، فلما رجع عضد الدولة قال لابن العميد: ما حظيت من ورودي إلى بغداد بفائدة، وقد أطلقت بسببها أموالاً صامتةً لا تحصى. فقال له أبو الفتح: ما سلم من الأعطيات سلطان، ولا خلا من النفقات مكان، ولو استقصيت مقدار ما فرقته لكنت مبذراً. فقال له: عضد الدولة: أما أنت فقد شرف قدرك وعلا ذكرك، كناك خليفة الله في أرضه ولقبك، فأنت ذو الكفايتين أبو الفتح، فأعظم بذلك من فخرٍ يبقى بقاء النيرين ويدوم دوام العصرين، وكان عضد الدولة يقول: خرجت من بغداد وأنازريق الشارب - لأن سفلة الناس والعامة كانوا يذكرونه بذلك - وخرج ابن العميد مكنى من الخليفة، ملقبا بذي الكفايتين. فلما مات ركن الدولة وقام مقامه بالري وتلك النواحي ابنه مؤيد الدولة بويه، كان الصاحب بن عبادٍ وزيره، فخلع علي أبي الفتح واستوزره والصاحب على جملته في الكتابة لمؤيد الدولة، فكره أبوالفتح موضعه فبعث الجند على الشغب وهموا بقتل الصاحب، فأمر مؤيد الدولة بالعود إلى أصبهان، وأسر مؤيد الدولة ذلك في نفسه إلى أشياء كان ينبسط فيها يحمله عليها نزق الشباب، وانضاف إلى ذلك تغير عضد الدولة وكثرة ميل القواد والعساكر إليه، فخيفت منه غائلة فكتب عضد الدولة إلى أخيه مؤيد الدولة يأمره بالقبض عليه واستصفاء أمواله وتعذيبه، فقبض عليه وحمله إلى بعض القلاع، وبدرت إليه منه كلمات في حق عضد الدولة نميت إليه فزادت من استيحاشه منه، فأنهض من حضرته من تكفل بتعذيبه واستخراج أمواله والتنكيل به فأول ما عمل به أن سمل إحدى عينيه، ثم نكل به وجز لحيته وجدع أنفه، وعذب بأنواعٍ من العذاب. قال:
بدل من صورتي المنظر ... لكنه ما بدل المخبر
وليس إشفاقاً على هالكٍ ... لكن على من لي يستعبر
وواله القلب بما مسني ... مستخبر عني ولا يخبر
فقل لمن سر بما ساءني ... لابد أن يسلك ذا المعبر
ووجد على حائط مجلسه بعد قتله:
ملك شد لي عرا الميثاق ... بأمان قد سار في آلافاق
لم يحل رأيه ولكن دهري ... حال عن رأيه فشد وثاقي
فقرى الوحش من عظامي ولحمي ... وسقى الأرض من دمي المهراق
فعلى من تركته من قريبٍ ... أو حبيبٍ تحية المشتاق
وفي بني العميد يقول بعضهم:
مررت على ديار بني العميد ... فألفيت السعادة في خمود
فقل للشامت الباغي رويداً ... فإنك لم تبشر بالخلود
قال: وكان أبو الفتح قد أغرم قبل القبض عليه بإنشاد هذين البيتين لا يجف لسانه عن ترديدهما:
ملك الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقومٍ غيرنا
فلما حصل في الاعتقال وأيقن أن القوم يريدون دمه وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله، مد يده إلى جيب جبةٍ عليه ففتقة عن رقعةٍ فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره، فألقاها في كانون نار بين يديه وقال للموكل به: اصنع ما أنت صانع، فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينارواحد، فما زال يعرضه على العذاب إلى أن تلف، ولما أحس بالقتل قال:

راعوا قليلاً فليس الدهر عبدكم ... كما تظنون والأيام تنتقل
وهذا شيء من خبره وشعره: قال: كان أبو الفضل أبوه قد جعل جماعةً من ثقات أبي الفتح في صباه يشرفون عليه في منزله ومكتبه وينهون إليه إنفاسه، فرفع إليه بعضهم إن أبا الفتح اشتغل ليلةً بما يشتغل به الأحداث من عقد مجلس مسرةٍ وإحضار الندماء في خفيةٍ شديدةٍ واحتياطٍ من أبيه، وأنه كتب إلى من سماه يستهديه شراباً فحمل إليه ما يصلحهم من الشراب والنقل والمشموم، فدس أبوه إلى ذلك الإنسان من جاء بالرقعة الصادرة عن أبي الفتح، فإذا فيها بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاء سيدي ومولاي - رقدةً من عين الدهر، وانتهزت فيها فرصةً من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام، عدنا كبنات نعشٍ والسلام. فاستطير أبوه فرحاً وإعجاباً بهذه الرقعة البديعة وقال: الآن ظهر لي أثر براعته ووثقت بجريه في طريقي ونيابته منابي، ووقع لي بألفي دينارٍ.
وحدث أبو الحسين بن فارسٍ قال: جرى في بعض أيامنا ذكر أبياتٍ استحسن أبو الفضل بن العميد وزنها واستحلى رويها، وأنشد جماعة من حضر ما حضرهم على ذلك الروى، وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي
فأصغى إليه أبو الفتح، ثم أنشد في الوقت:
يا مولعاً بعذابي ... أمارحمت شبابي؟
تركت قلباً قريحاً ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكرمابي ... من ذلتي واكتئابي
فارفع قليلاً قليلاً ... عن العظام ثيابي
قال: فتأمل هذه الطريقة وانظر إلى هذا الطبع، فإنه أتى بمثل ما أنشده في رشاقته وخفته، ولم يعد الجنس ولم يقصد دونه، وبذلك يعرف قدر القادر على الخطابة والبلاغة ومن مستحسن شعره:
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لاتعمدي لمقاتل المعمود
وصليه ما دامت أصائل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحمٍ ... رجل الذرا فينان كالعنقود
قتل الزمان فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بربدٍ سود
وله:
إذا أنا بلغت الذي كنت أشتهي ... وأضعافه ألفاً فكلني إلى الخمر
وقل لنديمي قم إلى الدهر فاقترح ... عليه الذي تهوى ودعني مع الدهر
وله:
أين لي من يفي بشكر الليالي ... من مضيفٍ خيالها وخيالي؟
لم يكن بي على الزمان اقتراح ... غيرها منيةً فجاد بها لي
قرأت في كتاب أبي الحسن بن هلال بن المحسن: حدثني أبو إسحاق بن هلال جدي قال: لما سار عضد الدولة من بغداد عائداً إلى فارس أقام أبو الفتح ابن العميد بعده، ووصل إلى حضرة الطائع لله حتى خلع عليه وحمله وكناه ولقبه ذا الكفايتين، وتنجز منه خلعاً ولقباً لفخر الدولة أبي الحسن، وأقطع من نواحي السواد ضياعاً كثيرةً رتب فيها نائباً يستوفي ارتفاعها ويحمله إليه، ودعاه أبو طاهر بن بقية عدة دعواتٍ وملأ عينيه بالهدايا والملاطفات وقال في بعض الأيام: لا بد إن أخلع على ابن العميد في مجلسي ودعاه، فلما قعد وأكل وجلس على الشرب أخذ ابن بقية بيده فرجيةً ورداءً في غاية الحسن والجلالة ووافى بهما إلى ابن العميد وقال له: قد صرت أيها الأستاذ جامدارك فإنظر هل ترتضيني لخدمتك؟ وطرح الفرجية عليه، وقدم الرداء بين يديه، فأخذه ولبسه. ومن شعره في الحبس:
ما بال قومي يجفوني أكابرهم ... أأن أطاعتهم الأيام والدول؟
أأن تقاصر عني الحال تقطعني ... عراهم؟ ساء ما شاءوا وما فعلوا
أغراهم أن هذا الدهر أسكتني ... عنهم وتنطق فيه الشاء والأبل
قدماً رميت فلم تبلغ سهامهم ... وأخطأ الناس من مرميه زحل
وله:
يقول لي الواشون: كيف تحبها؟ ... فقلت لهم: بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت: هوىً لم يهوه قط أمثالي
وكم من شفيقٍ قال: ما لك واجماً؟ ... فقلت: أنا مالي وتسألني ما لي؟

قال أبو الحسين: وحدثني أبو الفتح منصور بن محمد بن المقدر الأصبهاني قال: حدث أحد أصحاب أبي الفضل بن العميد المختصين به قال: كان أبو الفتح ابن أبي الفضل يباكر أباه في كل يومٍ ويدخل إليه قبل كل أحدٍ، فاتفق أن دخل يوماً وأنا جالس عنده، فلما رآه مقبلاً في الصحن وشاهد عمته وكانت ديلميةً ومشيته وهو يختال فيها ويسرف في تلويها، عجب من ذلك وقال لي: أماترى إلى هذه العمة وهذه المشية في مخالفتها لعادتنا ومفارقتها طريقتنا؟ فقلت: قد رأيت وأن رسم الأستاذ أن أخاطبه فيها وأنهاه عنها فعلت. فقال: لا تفعل فإنه قصير العمر، وما أحب أن أدخل على قلبه هماً ولا أمنعه هوىً. وقد روى أن أبا الفضل وجد له رقعةً كتبها إلى بعض من ينبسط إليه وفيها:
أديبنا المعروف بالكردي ... يولع بالغلمان والمرد
أدخلني يوما إلى داره ... فناكني والأير من عندي
فلما وقف ابن العميد أبوه على ذلك غضب وقال: أمثل ولدى يكتب مثل هذا الفحش والفجور؟ ثم قال: أما والله لولا ولولا، ثم أمسك كأنه يشير إلى ما حكم له من سوء العاقبة وقصر العمر.
حكى أبو الحسين بن فارس مما أورده أبو منصورٍ في اليتيمة قال: كنت عند الأستاذ أبي الفتح بن العميد في يومٍ شديد الحر، فرمت الشمس بجمرات الهاجرة فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه، فلم أحر جواباً لأني لم أفطن لما أراد، ولما كان بعد هنيهةٍ أقبل رسول الأستاذ الرئيس يستدعيني إلى مجلسه فقمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم إلي ضاحكاً وقال: ماقول الشيخ في قلبه؟ فبهت وسكت، وما زلت أفكر حتى انتبهت على أنه أراد الخيش، وكان من يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه في تلك الساعة، فدعاني ولفرط اهتزازه لها أراد مجاراتي فيها، وقرأت صحيفة السرور من وجهه إعجاباً بها، ثم أخذت أتحفه بنكت نثره وملح نظمه، فكان مما أعجب به وتعجب منه واستضحك له حكايتي رقعةً وردت له وعلى صدرها: وردت رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقةٍ، وأقصر من أنملة نملةٍ.
وقرأت في تاريخ ذي المعالي زين الكفاة الوزير أبي سعدٍ منصور بن الحسين الآبي قال: كان عضد الدولة ينقم على أبي الفتح بن العميد أشياء، وكان من أعظمها في نفسه: حديثه ببغداد لما خرج لنجدة بختيار فإنه جود القول والفعل في رد عضد الدولة عن بغداد، وأقام لنفسه بذلك ببغداد سوقاً تقدم بها عند أهل البلد والخليفة حتى لقبه الخليفة ذا الكفايتين، وكناه في مكتوبه بأبي الفتح. ولما انصرف عضد الدولة عن بغداد وقد ظهرت له مخايل الغدر من بختيار من قيام أهل بغداد وتصريحهم بالشتم له ولقبوه زريقاً الشارب، وذلك إن عضد الدولة تقدم باتخاذ مزملةٍ في داره ليشرب منها الجند والعامة، ولم يكن عهد مثل ذلك في دور السلاطين قبل، وكان من نفسه أزرق العينين فلقبوه بذلك، فكان يقول: خرجت من بغداد وأنازريق الشارب، وابن العميد الوزير ذو الكفايتين وأبو الفتح.
فلما مات ركن الدولة في سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ لأربعٍ بقين من المحرم، ضبط أبو الفتح ذو الكفايتين الأمر أحسن ضبطٍ، وسكن العسكر وفرق فيهم مال البيعة، وكان مطاعاً في الديلم محبباً إليهم كثير الإفضال عليهم، وبادر بالخبر إلى مؤيد الدولة وهو بأصبهان، فورد الري ومعه وزيره الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبادٍ يوم السبت لثلاثٍ خلون من صفرٍ، وجلس للتعزية ثم انتصب في مكان أبيه، وكانت له هيبة وسياسة، وفيه سخاء وسماحة، وخلع على أبي الفتح بن العميد ذي الكفايتين خلع الوزارة، وفوض إليه الأمر يوم الأربعاء لخمسٍ خلون من شهر ربيعٍ الأول، وكان الصاحب يرغب أن يقيم بالري ويخلفه فلم يأمن أبو الفتح جانبه وضرب الحجاب الشديد بينهما، وخوفوه منه لمحله من الصناعة ولمكانه من قلب مؤيد الدولة، فأراد إبعاده عن الحضرة ليتمكن من الإيقاع به إن أراد ذلك، وأشار على مؤيد الدولة بأن يرده إلى أصفهان ليدبر أعمالها والمقام بها، فخلع عليه على رسم الوزراء القباء والسيف والمنطقة وما يجري مع ذلك، وخرج يوم الأحد لثمانٍ خلون من شهر ربيعٍ الأول سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ.

وأخذ مؤيد الدولة في التدبير على ابن العميد والاحتيال للقبض عليه، ولم يكن يقدم على ذلك لمحل الرجل في قلوب الديلم وإنصبابهم بمودتهم إليه، واخلاصهم في الموالاة له، وكان ذلك أقوى الدواعي لمحنته، وآكد أسباب نكبته، فإنه كان مقتبل الشباب قليل التجارب غير مفكرٍ في العواقب، وقد ولد في النعمة الضخمة ونشأ فيها، وخلف أباه وله دون خمس عشرة سنةً، وتولى الوزارة وله إحدى وعشرون سنةً، واعتاد خدمة الأمراء والقواد ومثولهم بين يديه وتنافسهم في خدمته، وكان يركب إلى الصيد وإلى الميدان لضرب الصوالجة فيتبعه أكثر أكابر الحضرة فيترجلون له ويمشون بين يديه، ثم يضيف في أكثر أيامه جماعةً منهم فيخلع عليهم أنواع الخلع النفيسة، ويحملهم على الدواب الفارهة بالمراكب الثقيلة، وكان ركن الدولة يرخص له في ذلك ويعجب منه، فإنه كان تربيته وابن من طالت له صحبته وخدمته، فلما انتقل الأمر إلى مؤيد الدولة لم يصبر عليه، وكانت الأمور أيضاً بعد على جانبٍ من الاضطراب فلم يسكن إليه، وذلك أن فخر الدولة كان مداجياً لأخويه، وكان أحب إلى الديلم منهما فلم يأمناه، وكان عز الدولة مكاشفاً بالخلاف، وبينه وبين ابن العميد ما قدمنا ذكره من المصافاة فاسترابا به، واجتمع إلى هذه الأحوال ما ذكرناه من حنق عضد الدولة عليه مما قدمه في حقه عند كونه ببغداد، وامتدت العين إلى ضياعه وأمواله وخزائنه وأسبابه ودوره وعقاره وبساتينه، فإنه كان يملك من ذلك ما يملأ العين ويفوت الوهم، فراسل عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة على لسان أبي نصرٍ خواشادة المجوسي، وكان من ثقاته وأماثل أصحابه بالقبض عليه بعد أن يوافق على بن كلمة على أمره ليؤمن ناحية العسكر ويوتبهم بمكانه، وجعلوا يجيلون الرأي أياماً، ويركب خواشاده إلى علي بن كلمة ليلاً ويجاريه في ذلك إلى أن اتفقوا يوم السبت سادس عشر شهر ربيعٍ الآخر على القبض عليه عند بكوره من الغد إلى الدار، وكان خواشاده عشية هذا اليوم عند علي بن كلمة. ولابن العميد ضيافة قد اجتمع فيها جماعة من القواد، فارتاب مؤيد الدولة بالأمر، وقدر إنه قد أحس بالسر وجمع الديلم لتدبيرٍ عليه وامتناعٍ منه، فلما عاد إلى عنده خواشاده أمره أن يلم بابن العميد ليتفرس فيه وفي المجتمعين عنده ما هو بصدده، فدخل عليه والرجل مشتغل بقصفه متوفر على طربه، فتأمله وعاد وأراد أن يحبسه عنده فامتنع ورجع إلى الدار فقال لمؤيد الدولة: الرجل غار غافل فلايهمنك أمره، وبكر ابن العميد سحراً إلى دار الإمارة، وكان الرسم اذ ذاك أن يحضروها بالشموع والمشاعل قبل الصباح.
فلما وصل مؤيد الدولة تقدم إليه علي بن كلمة وكلمه في حاجةٍ له فوعده بها فقال: قد وعدتني بها غير مرةٍ ولم تقضها، وأخذ بيده فجذبه من مكانه، وكان قد كمن له في الممر جماعة من خواص الديلم وثقات مؤيد الدولة، فعانوه على إخراجه من ذلك البيت وإدخاله إلى حجرة هناك وتقييده، وذلك في يوم الأحد سابع شهر ربيعٍ الآخر، وأدخلت عليه الشهود فشهدوا عليه ببيع أملاكه جميعها وضياعه ومستغلاته من مؤيد الدولة، فلما حضر العدول أخرج إليهم كتاباً كان كتبه بطلاق امرأته ابنة جستان وأشهدهم طائعاً على نفسه بذلك. وقيل: إنه إنما فعل ذلك خوفاً من مؤيد الدولة أن يفضحه فيها، فأراد أن ينفصل منها وتبين منه لئلا يلزمه العار فيها، ولما حضروا للعقد بالبيع كشف للعدول عن قيده وأقر بالبيع، ثم اتفق أن أفرج عن محبوسٍ كان في الدار، فعدا غلام له مستبشراً وقال: قد أفرج عن الأستاذ يريد أستاذ نفسه، وصكت الكلمة أسماع العامة فتباشروا وظنوا إنه قد أفرج عن أبي الفتح، وصاحت البلدة صيحةً واحدةً، واجتمع من أهل البلد على باب السلطان وميدانه وفي داره ما غصت به الأماكن، وامتلأت منهم الشوارع والمساكن، وركب الديلم بأجمعهم مستبشرين، وتلقوه على زعمهم في الخدمة فرحين، ورأى مؤيد الدولة من ذلك ما هاله، وظن إن العسكر قد ركب لاستنقاذه، فلما عرف حقيقة الحال سكن وأمر بطرد العامة، وأركب الحجاب لطرد القواد والديلم، وأنفذ في تلك الليلة ابن العميد إلى قلعة استوناوند وقتل فيها بعد أيامٍ وورد رأسه.

قال الوزير أبو سعدٍ: وسمعت الصاحب كافى الكفاة رحمه الله يذكر أمره فقال في أثناء كلامه: إن مؤيد الدولة قال لي عند خروجي إلى أصبهان: إن ورد عليك كتاب بخطي أو جاءك أجل حجابي وثقاتي للاستدعاء فلا تبرح من أصفهان ولا تفارقها إلى أن يجيئك فلان الركابي فإنه إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل وأمكنني الله من القبض عليه بادرت به اليك، وهو العلامة بيني وبينك. قال: فاستعظمت لحداثة سني وغرة الصبا وقلة التجربة ما حكاه الصاحب من قول مؤيد الدولة: إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل، وتعجبت منه وأردت الغض من أبي الفتح والتقرب بذلك إلى الصاحب فقلت: وكان لأبي الفتح من القدر أن يصعب حبسه أويحتاج صاحبه إلى الاحتيال معه؟ فانتهرني الصاحب وقال يا فلان: أنت صبي تحسب أن القبض على الوزراء سهل، ففطنت أنه يريد الرفع من شأن الوزارة وتفخيم أمرها، فعدلت عن كلامي الأول إلى غيره.
قال أبو حيان: حدثني أبو الطيب الكيمائي قال: قلت لأبي الفضل بعد أن سم الحاجب النيسابوري وبعد أن خطب على حمدٍ ودس إلى ابن هندٍ وغيرهم من أهل الكتابة والمروءة والنعم: لو كففت، فقد أسرفت، فقال يا أبا الطيب: أنا مضطر. قال: فقلت وأي اضطرارٍ هاهنا؟ والله إن مخادعتنا لأنفسنا في ضرنا ونفعنا لأعجب من مكابرة غيرنا لنا في خيرنا وشرنا، وهذا والله رين القلوب وصدأ العقل وفساد الاختيار، وكدر النفس وسوء العادة، وعدم التوفيق. فقال يا أبا الطيب: أنت تتكلم بالظاهر وأنا أحترق في الباطن. قال فقلت: إن كان عذرك في هذه السيرة المخالفة لأهل الديانه وأصحاب الحكمة قد بلغ هذا الوضوح والجلاء فإنك معذور عندنا، ولعلك أيضاً مأجور عند الله ما لك الجزاء، وإن كنت تعلم حقيقة ما تراجعني عليه القول وتناقلني به الحجاج فإنك من الخاسرين الذين باءوا بغضب من الله على مذاهب الناس أجمعين، فبكى فقلت له: البكاء لا ينفع إن كان الإقلاع ممكناً، والندم لا يجدي متى كان الإصرار قائما، هذا كله بسبب ابنك أبي الفتح، والله إن ايامه لا تطول، وإن عيشه لا يصفو وإن حاله لا يستقيم، وله أعداء لا يتخلص منهم وقد دل مولده على ذلك، وإنك لا تدفع عنه قضاء الله وهو لا يغني عنك شيئاً، فعليك بخويصة نفسك.
قال أبو حيان: وقد ذكر ابن عبادٍ وأبا الفضل بن العميد ثم قال: وأما أبوالفتح ذو الكفايتين فإنه كان شاباً ذكياً متحركاً حسن الشعر مليح الكتابه كثير المحاسن، ولم يظهر كل ما كان من نفسه لقصر أيامه، واشتعال دولته وطفوها بسرعةٍ. ومن شعره:
إني متى أهززقناتي تنتثر ... أوصالها أنبوبةً أنبوبا
أدعو بعاليها العلى فتجيبني ... وأقد بحد سنانها المرهوبا
وله كلام كثير نظم ونثر، وله في صفة الفرس ما يوفى على كل منظومٍ، ولو أبقته الأيام لظهر منه كل فضلٍ كبيرٍ. ودخل بغداد فتكلف واحتفل وعقد مجالس مختلفة للفقهاء يوماً، وللأدباء يوماً، وللمتكلمين يوماً، وللمتفلسفين يوماً، وفرق أموالاً خطيرةً وتفقد أبا سعيدٍ السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهما وعرض عليهما المسير معه إلى الري ووعدهم ومناهم وأظهر المباهاة بهم، وكذلك خاطب أبا الحسن بن كعبٍ الأنصاري وأبا سليمان السجستاني المنطقي وابن البقال الشاعر وابن الأعرج النمري وغيرهم. ودخل شهر رمضإن فاحتشد وبالغ ووصل ووهب فجرت في هذه المجالس غرائب العلم وبدائع الحكمة، وخاصةً ما جرى مع أبي الحسن العامري، ولولا طول الرسالة لرسمت ذلك كله في هذا الكتاب، فمن ظريف ما جرى وفي سماعه فائدة واعتبار خبر أبي سعيدٍ السيرافي مع أبي الحسن العامري، وقد ذكرته في أخبار السيرافي قال أبو حيان: وحضرت المجلس يوماً آخر مع أبي سعيدٍ وقد غص بأعلام الدنيا وببرد الآفاق، فجرى حديث الصابئ فقال ذو الكفايتين: ذاك رجل له في كل طرازٍ نسج، وفي كل حومةٍ رهج، وفي كل فلاةٍ ركب، ومن كل غمامةٍ سكب، الكتابة تدعيه بأكثر مما يدعيها، والبلاغة تتحلى به بأحسن مما يتحلى هو بها، وما أحلى قوله:
حمراء مصفرة الأحشاء باعثة ... طيباً تخال به في البيت عطارا
كأن في وجهها تبراً يخلصه ... قين يضرم في أفنانه النارا
وقوله:
ما زلت في سكري ألمع كفها ... وذراعها بالقرص والأثار

حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج في نقا الجمار
وبلغ المجلس أبا إسحاق فحضر وشكر وطوى ونشر وأورد وأصدر، وكان كاتب زمانه لساناً وقلماً وشمائل، وكان له مع ذلك يد طولى في العلم الرياضي، وسمعت أبا اسحاق يقول: هو ابن ابيه لله دره، وأخذ في تعظيم أبيه.
قال عبد الله الفقير إليه: وقد ذكر أبو حيان قصة أبي الفتح بن العميد وسبب القبض عليه مبسوطةً مشروحةً وقد نقلتها هاهنا عنه بكمالها فإني لم أجد أحداً ذكرها أكمل منه. قال: ولما مات ركن الدولة سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ اجتمع ذو الكفايتين أبو الفتح وعلي بن كامة أحد أمراء الديلم والأعيان وتعاهدا وتواثقا وتحالفا وبذل كل واحد منهما الإخلاص لصاحبه والمودة في السر والعلانية، والذب والنوقير عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة والعقود الموثقة، ودبرا أمر الجيش، ووعدا الأولياء، وردا النافر، وركبا الخطر الخاطر، وعانقا الخطب العاقر، وباشر كل ذلك أبو الفتح خاصةً بجدٍ من نفسه، وصريمةٍ من رأيه، وجودة فكره، وصحة نيته، وتوفيق ربه.
فلما ورد مؤيد الدولة الري من أصبهان وصادف الأمر متسقاً ولقى كل فتق مرتقاً بما تقدم من الحزم فيه، ونفذ من الرأي الصائب عنده أنكر الزيادة الموجبة للجند فكرهها ودمدم بذكرها، فقال له أبو الفتح بها نظمت لك الملك، وحفظت لك الدولة، وصنت الحريم، فإن خالفت هذه الزيادة هواك فأسقطها فاليد الطولى لك.
وكان ابن عبادٍ قد ورد وحطبه رطب وتنوره بارد وأمره غير نافذٍ، هذا في الظاهر، وأما في الباطن، فكان يخلو بصاحبه ويوثبه على أبي الفتح بما يجد السبيل إليه من الطعن والقدح، فأحس بذلك ابن العميد فألب الأولياء على ابن عبادٍ حتى كثر الشغب وعظم الخطب وهم بقتله وقال للأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة وقد انتكث حبلها، وقويت أطماع المفسدين فيها أن أسأم الخسف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذل وغمرات الهوان. فقال له في الجواب: كلامك مسموع ورضاك متبوع، فما الذي يبرد فورتك عنه؟ قال: ينصرف إلى أصفهان موفوراً، فوالله لو طالبته منصفاً برفع الحساب لما نظر فيه ليعرقن جبينه، ولئن أحس الأولياء الذين أصطنعهم بمالي وإفضالي بكلامه في أمري، وسعيه في فساد حالي، ليكونن هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المزن إذا نطف. فقال له: لا مخالف لرأيك، والنظرلك، والزمام بيدك.
وتلطف ابن عبادٍ في خلال ذلك لأبي الفتح وقال له: أنا أتظلم منك اليك، وأتحمل بك عليك، وهذا الاستيحاش سهل الزوال إذا تألفت الشارد من حلمك، وعطفت على الشائع من كرمك، ولنى ديوان الإنشاء واستخدمني فيه ورتبني بين يديك، وأحضرني بين أمرك ونهيك، وسمني برضاك فإني صنيعة والدك، واتخذني بهذا صنيعةً لك، وليس يجمل أن تكر على ما بنى ذلك الرئيس فتهدمه وتنقضه، ومتى أجبتني إلى هذا وآمنتني فإني أكون خادمك بحضرتك، وكاتباً يطلب الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره، وفي هذا إطفاء النائرة التي قد ثارت بسوء ظنك وتصديقك أعدائي علي. فقال في الجواب: والله لا تجاورني في بلد السرير، وبحضرة التدبير وخلوة الأمير، ولا يكون لك إذن على ولا عين عندي، وليس لك مني رضاً إلا بالعود إلى مكانك من أصبهان، والسلو عما تحدث به نفسك.
فخرج ابن عبادٍ من الري على صورةٍ قبيحةٍ متنكراً بالليل، وذلك أنه خاف الفتك والغلبة، وبلغ أصبهان وألقى عصاه بها، ونفسه تغلي وصدره يفور، والخوف شامل والوسواس غالب، وهم أبو الفتح بإنفاذ من يطالبه ويؤذيه ويهينه ويعسفه فأحس هو بالأمر.
فحدثني أبو النجم قال: عمل على ركوب المفازة إلى نيسابور لما ضاق عطنه، واختلف على نفسه ظنه، وإنه لفي هذا وما أشبهه، حتى بلغهم أن خراسان قد أزمعت الدلوف إليهم، وتشاورت في الإطلال عليهم.

فقال الأميرلأبي الفتح: ما الرأي وقد نمى الينا ما تعلم من طمع خراسان في هذه الدولة بعد موت ركن الدولة؟ فقال أبو الفتح: ليس الرأي إلي ولا إليك، ولا الهم لي: أنت كاتب خليفتي، يدبر هذا بالمال والرجال وهو الملك عضد الدولة أخوك. قال: فاكتب إليه وأشعره وأشع ما قد منينيا به وأشهره، وسله يداوي هذا الداء. فكتب أبو الفتح وتلطف. فصدر في الجواب: إن هذا لأمر عجاب، رجل مات وخلف مالاً وله ابن فلم يحمل إليه من إرثه شيء زوياً عنه واستئثاراً دونه، ثم يخاطب بأن يغرم شيئاً آخر من عنده قد كسبه بجهده، وجمعه بسعيه وكدحه، هذا والله حديث لم نسمع بمثله، ولئن استفتى الفقهاء في هذا لم يكن عندهم منه بتةً إلا التعجب والاستطراف ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين: أحدهما أنه حرم ماله بحق الإرث، والآخر أنه يطالب بإخراج ما ليس عليه، وإن شاء حاكمت كل من سام هذا إلى من يرضى به.
فلما سمع مؤيد الدولة هذا قال لأبي الفتح: ما ترى؟ قال: قد قلت وليس لي قول سواه، هذا الرجل هو الملك والمدبروالمال كله ماله، والبلاد بلاده، والجند جنده والكل له، والاسم والجلالة عنده، وليس هاهنا إرث قد زوى عنه، ولا مال استؤثر به دونه، والنادرة لا وجه لها في أمر الجد وفيما لا تعلق له باللعب، أما خراسان فكانت مذ عشرين سنةً تطالبنا بالمال وتهددنا بالمسير والحرب، ونحن مرةً نحارب ومرةً نسالم، وفي خلال ذلك تفرق المال بعد المال على وجوهٍ مختلفةٍ، فاحسب أن ركن الدولة حي باقٍ، هل كان له إلا أن يدبر بماله ورجاله وذخائره وكنوزه؟ أفليس هذا الحكم لازماً لمن قام مقامه وجلس مجلسه، وألقى إليه زمام الملك وأصدر عنه كل رأيٍ؟ وهل علينا إلا الخدمة والنصرة والمناصحة في كل ما سهل وصعب؟ كما كان عليه ذلك بالأمس من جهة الماضي.
فقال مؤيد الدولة: إن الخطب في هذه أراه يطول، والكلام يتردد، والمناظرة تربو، والفريضة تعول، والفرصة تفوت، والعدو يستمكن، وأرى في الوقت أ، نذكر وجهاً للمال حتى نحتج به، ثم نستمد في الثاني منه، ويرضى الجند في الحال ونتحزم في الأمر، ونظهر المرارة والشكيمة بالاهتمام والاستعداد، حتى يطير الخبر إلى خراسان بجدنا واجتهادنا، وحزمنا واعتمادنا، فيكون ذلك مكسرةً لقلوبهم وحسماً لأطماعهم، وباعثاً على تجديد القول في الصلح ورد الحال إلى العادة المألوفة. فقال: نسأل الله بركة هذا الأمر فقد نشأت منه رائحة منكرة، ما أعرف للمال وجهاً، أما أنا فقد خرجت من جميع ما عندي مرةً بما خدمت به الماضي تبرعاً حدثان موت أبي، ومرةً بما طالبني به سراً وأوعدني بالعزل والاستخفاف من أجله، ومرةً بما غرمت في المسير إلى العراق في نصرة الدولة، وهذه وجوه استنفدت قلى وكثري، وأتت على ظاهري وباطني، وقد غرمت إلى هذه الغاية ما إن ذكرته كنت كأني ممتن على أولياء نعمتى، وإن سكت كنت كالمتهم عند من يتوقع عثرتي، فهذا هذا. وأما أموال النواحي فأحسن أحوالنا فيها أنا نرجئها في نواحيها مع النفقة الواسعة في الوظائف والمهمات التي تنوبنا، وأما العامة فلا أحوج الله إليها، ولا كانت دولة ولا تثبت إلا بها وبأوساخ أموالها. فقال مؤيد الدولة وكان ملقناً: هذا ابن كلمة وهو صاحب الذخائر والكنوز والجبال والحصون، وبيده بلاد وقد جمع هذا كله في دولتنا وحازه من مملكتنا وأيامنا وبدولتنا، وهو جام ماشيك، ومختوم ما فض مذ كان ما نقول فيه، قال: ما لي فيه كلام فإن بيني وبينه عهداً ما أخيس به ولو ذهبت نفسي. فقال: اطلب منه القرض. قال: إنه يستوحش ويراه باباً من الغضاضة، وقدر القرض لا يبلغ قدر الحاجة، فإن الحاجة ماسة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا وأرد علينا وأحصن لنا وإلينا من موقع ذلك المال، وبعد رأيه وتدبيره واسمه وصيته فوق المطلوب منه.
قال: واذ ليس ههنا وجه فليس بأس بان يطالع الملك بهذا الرأي ليكون نتيجته من ثم. قال: أنا لا أكتب بهذا فإنه غدر. قال يا هذا: فأنت كاتبي وصاحب سري والزمام في جميع أمري، ولا سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله، فإن أنت لم تتول حاره وقاره، وغثه وسمينه، ومحبوبه ومكروهه فمن؟

قال يا أيها الأمير: لا تسمني الخيانة، فإني قد أعطيته عهداً يذر الديار بلاقع، ومع اليوم غدن ولعن الله عاجلة تفسد الأجلة. فقال: إني لست أسومك أن تقبض عليه وأن تسيء إليه، أشر بهذا المعنى إلى الملك عذد الدولة وخلاك ذم، فإن رأى الصواب فيه تولاه دونك، وإن ضرب عنه أعاضنا رأياً غير ما رأينا، وأنت على حالك لا تنزل عنهاولا تبدلها، وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت بين يدي كتب حرفين: إنه لا وجه لهذا المال إلا من جهة فلانٍ، ولست أتولى مخاطبته عليه، ولا مطالبته به وفاءً له بالعهد، وثباتاً على اليمين، وجرياً على الواجب، ولا أقل من أن تجيب إلى هذا القدر، وليس فيه شيء مما يدل على النكث والخلاف والتبديل. وما زال هذا وشبهه يتردد بينهما حتى أخذ خطه بهذا على أن يصدره إلى أخيه عضد الدولة بفارس. فلما حصل هذا الخط عنده وجن عليه الليل أحضر ابن كلمة وقال له: أما عندك حديث هذا المخنث فيما أشار به على الملك في شأنك؟ وأورد عليه في حقك وأمرك، وأطماعه في مالك ونفسك، وتكثيره عنده ما تحت يدك وناحيتك. فقال ابن كلمة: هذا الفتي يرتفع عن هذا الحديث، ولعل عدواً قد كاده به، وبيني وبينه ما لا منفذ للسحر فيه، ولا مساغ لظنٍ سيءٍ به. قال: ما قلت لك إلا بعد أن حققت ما قلت، ودع هذا كله في الريح، هذا كتابه إلى الملك بما عرفتك، وخطه بيده فيه. قال علي بن كلمة: أنا أعرف الخط ولكن هاتوا كاتبي، فأحضر كاتبه الخثعمي فشهد أن الخط خطه، فحال على بن كلمة عن سجيته، وخرج من مسكنه وقال: ما ظننت بعد الأيمان المغلظة التي بيننا إنه يستجيز مثل هذا. قال الأمير: أيها الرجل، إنما أطلعك الملك على سر هذا الغلام فيك، لتعرف فساد ضميره لك، وما هو عليه من هناتٍ أخر، وآفاتٍ هي أكبر، فإنه هو الذي حرك من بخراسان، وكاتب صاحب جرجان، وألقى إلى أخينا بهمذان - يعني فخر الدولة - أخبارنا، وهو عين لبختيار هاهنا، وقد اعتقد أنه يعمل في تحصيل هذه البلاد، ويكون وزيراً بالعراق، فقد ذاق من بغداد ما لا يخرج من ضرسه إلا بنزع نفسه، وكان أبو نصرٍ المجوسي قد قدم من عند الملك عضد الدولة وهويفتل الحبل ويبرم، ويهاب مرةً ويقدم، وكان الحديث قد بيت بليلٍ واهتم به قبل وقته بزمانٍ. فقال علي بن كلمة: فما الرأي الآن؟ قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في القبض عليه وقد كنا على ذلك قادرين، ولكن كرهنا أن يظن بنا أنا هجمنا على ناصحنا، ومربب نعمتنا وناشئ دولتنا، فمهدنا عندك العذر، وأوضحنا لك الأمر. قال: فأنا أكفيكموه، ثم قبض عليه وكان منه ما كان، واستدعى ابن عبادٍ من أصفهان وولى الوزارة ودبرها برأيٍ وثيقٍ وجدٍ رتيقٍ وذكر أبوعليٍ مسكويه في بعض كتبه قال:

كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوي واستفحل لما وقع منه من الشغل بالفتوح الكبار، لأنه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم، وخدم خدمةً يستحق بها الإحسان، إلا أنه كان - مع ما أقطع وأغضى عنه من الأعمال التي تبسط فيها والإضافات التي يستولي عليها، - ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها، فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان، فكان يزيد أمره على الأيام ويتشاغل الولاة عنه، إلى أن وقع بينه وبين سهلان ابن مسافرٍ خلاف ومشاحة تلاجا فيها، إلى أن قصده ابن مسافرٍ فهزمه حسنويه، وكان يظن ابن مسافرٍ أنه لا يكاشفه، ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه، فلم تقف الحرب بينهما حيث ظن، وانتهى الأمر بينهما إلى إن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضعٍ شبيهٍ بالحصار، ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرقوا بإزائهم، ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كل فارسٍ منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج، ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك، ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريدون بذلك، فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرةٍ تقدم بطرح النار فيه من عدة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفاً، وحميت الشمس عليهم مع حر النار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف، فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عماهم به، وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل ذلك كله، وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد، وهو الأستاذ الرئيس بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة، فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدةٍ وزينةٍ، وخرج ركن الدولة مشيعاً له وخلع على القواد، ووقف حتى اجتاز به العسكر وعاد إلى الري، وسار الوزير ومعه ابنه أبوالفتح، وكان شاباً قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة، وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند، فهو بذكائه وحدة ذهنه وسرعة حركته، قد نفق نفاقاً شديداً على ركن الدولة، وهو مع ذلك لقلة حنكته ونزق شبابه وتهوره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه، ويحب أن يسير في خواص الديلم وهو يمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط يستميل قلوبهم، ويخلع عليهم خلعاً كثيرة، ويحمل رؤساءهم وقوادهم على الخيول الفره بالمراكب الثقال، ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرياسة حتى لا يأنف أحد منهم من تقبيل الأرض بين يديه، والمشي قدامه إذا ركب، وكان جميع ذلك ما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته، وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أن ذلك لو كان مما يرخص فيه، لكان هو بنفسه قد سبق إليه.
قال مسكويه: ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع، وأنه ما ملكهم أحد قط إلا بترك الزينة، وبذل ما لا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد، ولا يتكبر عليهم ولا يكون إلا في مرتبة أوسطهم حالاً، وإن من دعاهم واحتشدهم وحمل على حالةٍ فوق طاعته، لم يمنعهم ذلك من حسده على نعمه والسعي فى إزالتها، وترقب أوقات الغرة في آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت، وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى ظن إنه قد ملأ قلبه رعباً، وإنه سيكف عن السيرة التي شرع فيها، فماهو إلا أن يفارق مجلسه ذلك حتى يعاود سيرته تلك، فأشفق الأستاذ في سفرته هذه إن يتركه بحضرة صاحبه، فيلج في هذه الأخلاق ويغتر بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهي إلى ما لا يتلافاه، فسيره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا علىٍ محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلاً أديباً ركيناً، حسن الصورة مقبول الجملة، حسن المخبر خلقا وأدباً.

فلما كان الرئيس في بعض الطريق - وكان يركب العماريات ولا يستقل على ظهور الدواب لإفراط علة النقرس وغيره عليه - التفت فلم ير في موكبه أحداً، وسأل عن الخبر فلم يجد حاجباً يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري، فسألني عن الخبر فقلت له: إن الجماعة بأسرها مالت مع أبي الفتح إلى الصيد، فأمسك حتى نزل في معسكره، ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام، وكان يحضره في كل يومٍ عشرة من القواد على مائدته التي تخصه، وعدة من القواد على أطباقٍ توضع لهم، وذلك على نوبةٍ معروفةٍ يسعى فيها نقباؤهم، فلما كان في ذلك اليوم لم يحضر أحد واستقصى في السؤال فقبل: إن أبا الفتح أضافهم في الصحراء فاستشاط من ذلك وساءه أن يجري مثل هذا ولا يستأذن فيه، وقد كان أنكر خلو موكبه وهو في وجه حربٍ ولم يأمن إن يستمرهذا التشتت من العسكر فتتم عليه حيلة، فدعا أكبر حجابه ووصاه أن يحجب عنه ابنه أبا الفتح، وأن يوصي النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته، وظن أن هذا المبلغ من الإنكار سيغض منه وينهي العسكر عن اتباعه على هواه، فلم يؤثر كلامه هذا كبير أثرٍ وعاد الفتى إلى عادته، واتبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب، وكان لا يخليهم من الخلع والإلطاف، فشق ذلك على الأستاذ الرئيس جداً ولم يحب أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما في قلبه، ولا المبالغة في الإنكار وهو من مثل هذا الوجه، فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوه. فدارى أمره وتجرع غيظه، وأداه ذلك إلى زيادةٍ في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في خلواته: ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلا هذا الصبي - يعني ابنه - وهو يقول في مرضه: ما قتلني إلا جرع، الغيظ التي تجرعتها منه، فلما حصل بهمذان اشتدت علته وتوفي بها - رحمه الله - في ليلة الخميس السادس من صفرٍ سنة ستين وثلاثمائةٍ. وانتصب ابنه ابو الفتح مكان أبيه، وكان العسكر كما ذكرت مائلاً إليه، فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومناهم، وبذل لهم طعامه ومنادمته، وأكثر من الخلع عليهم، وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضه على الطاعة، وأومأ إلى مصالحته على مالٍ يحمله يقوم بما انفق على العسكر، ويتوفر بعد ذلك بقية على خزانة السلطان، ويضمن إصلاح حاله - إذا فعل ذلك - مع ركن الدولة، وكان ذلك يشق على سهلان بن مسافرٍ لما في نفسه من حسنويه، لأنه كان يحب الانتقام منه والتشفي به، وكان أبو الفتح يرى مفارقة حسنويه والعود إلى صاحبه بما به لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم، وأن يلحق بمكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب.
وقد كان أبو عليٍ محمد بن أحمد بن البيع خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد وأرجف له بالوزارة، فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرر أمره على خمسين ألف دينارٍ، وجبا كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينارٍ، ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوى قلبه وشد متنه، وأحمد جميع ما دبره وأمره بالعود إلى الحضرة بالري.
قال: وفي سنة إحدى وستين تمكن أبو الفتح ابن العميد من الوزارة بعد أبيه، وفوض إليه ركن لدولة تدبير ممالكه، ومكنه من أعنة الخيل، فصار وزيراً وصاحب جيشٍ على رسم والده، إلا أن والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام من آلاته، فدبرها بالحزم والحنكة. وأما أبو الفتح فكان فيه - مع رجاحته وفضله في أدب الكتابة وتيقظه وفراسته - نزق الحداثة، وسكر الشباب، وجرأة القدرة، فأجرى أمره على ما تقدم من إظهار الزينة الكثيرة، واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد في المواكب والدعوات، حتى خرج به عن حد القصد إلى الإسراف، فجلب ذلك عليه ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام.

وكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند، وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور، ورآه شاباً قد استقبل الدنيا استقبالاً، فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم مله، ويستلذ فيه الانتصاب للأمر والنهي ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه، ثم مشاربتهم ومؤانستهم والأحسان إليهم بالخلع والحملان. فأول من أنكر هذا الفعل عليه عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتابهما ثم سائر مشايخ الدولة، ورأوه يركب في موكبٍ عظيمٍ ويغشى الدار، فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الأمارة حتى لا يوجد فيها إلا المستخدمون من الأتباع والحاشية، ثم ترقى أمره إلا المستخدمون من الأتباع والحاشية، ثم ترقى أمره في قيادة الجيش والتحقوا به إلى ندب إلى الخروج إلى العراق في جيشٍ كثيفٍ من الري والأجتماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه، فأقام هناك وواطأ بختيار في أمورٍ خالف فيها عضد الدولة، وذاك أن عضد الدولة لما عاد من بغداد إلى فارس شرط على ابن العميد ألا يقيم ببغداد بعده إلا ثلاثة أيامٍ ثم يلحق بوالده بالري، فلما خرج عضد الدولة طابت لابن العميد بغداد، فاتبع هوى صباه وأحب الخلاعة والدخول مع بختيار في أفانين لهوه ولعبه، ووجد خلواً من أشغاله. وراحةً من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدةً. وحصلت له زبازب ودور على الشط وستارات غناءٍ ومغنيات، وتمكن من اللذات وعرف بختيار له ما صنع من الجميل في شانه، لأنه كان قد جرد من الفعل والقول في رد عضد الدولة عن بغداد بعد أن نشبت فيها مخالبه وتملكها، وقبض على بختيار واستظهر عليه، فخلصه وأعاد ملكه عليه، وصرف عضد الدولة عن بغداد، فكان يراه بختيار بصورة من خلصه من مخالب الأسد بعد أن افترسه، وأن سعيه بين ركن الدولة وعضد الدولة هو الذي رد عليه ملكه، فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه، وألا يعارضه في شيءٍ يدبره ويراه، فلم يجبه إلى ذلك وقال: لي والدة وأهل وولد ونعمه قد رتبت منذ خمسين سنة، وهي كلها في يد ركن الدولة ولا أستطيع مفارقته. ولا يحسن بي أن يتحدث عني بمخالفته، ولا يتم أيضاً لك مع ما عاملك به من الجميل، ولكني أعاهدك إن قضى الله عز وجل على ركن الدولة ما هو قاضٍ على جميع خلقه، أن أصير إليك مع قطعةٍ عظيمةٍ من عسكره فإنهم لا يخالفونني، وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أو غدٍ، وليس بتأخر أمره، واستقر بينهما ذلك سراً لم يطلع عليه إلا محمد بن عمر العلوي، فإنه توسط بينهما وأخذ عهد كل واحدٍ منهما على صاحبه، ولم يظهر ذلك لأحدٍ حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبي الفتح، ولكن الغلط العظيم كان من أبي الفتح كونه أقام ببغداد مدةً طويلةً، وحصل أملاكاً اقتناها هناك واقطاعاتٍ اكتتبها وأصولاً أصلها على العود إليها، ثم التمس لقباً من السلطان وخلعاً وأحوالاً لا تشبه ما فارقه عضد الدولة عليها، ثم استخلص ببغداد بعض اولاد التناء بشيراز يعرف بأبي الحسن بن أبي شجاعٍ الأرجاني من غير اختبارٍ له ولا خلطةٍ قديمةٍ تكشف له أمره، فلما خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار - والتراجم بينهما تدور - كلها على يده ويتوسطها، ويهدي إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها، فلما عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبي الفتح بن العميد له، ودخوله مع بختيار فيما دخل فيه مع اللقب السلطاني الذي حصله وهو ذو الكفايتين، ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية من هذه الخلع، عرف مكاشفته إياه بالعداوة، وكتم ذلك في نفسه إلى أن تمكن منه فأهلكه كما ذكرنا.
قال أبو سعد السمعاني: أنشدنا الحسن بن محمدٍ الأصبهاني بها، أنشدنا أبو زيدٍ صعلوك بن إميلوية بن أبي طاهرٍ الجبلي: قدم علينا قال: أنشدت لعضد الدولة في ابن العميد ومودته:
ودادك لازم مكنون سرى ... وحبك جنتي والعشق زادي
فإن واصلتني أزداد حباً ... وإن صارمتني يزدد سهادي
وخالك في عذارك في الليالي ... سواد في سوادٍ في سواد
فأجابه ابن العميد:
دعاني في انبلاج الليل صبح ... فنادى قم فحي على الفلاح
فقلت له: ترفق يا منادى ... أليس الصبح مسود النواحي؟

فثغري والمدام وحسن وجهي ... صباح في صباحٍ في صباح
علي بن محمد الشمشاطيالعدوي أبو الحسن وشمشاط من بلاد إرمينية من الثغور. وكان معلم أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدإن وأخيه ثم نادمهما، وهو شاعر مجيد ومصنف مفيد، كثير الحفظ، واسع الرواية، وفيه تزيد.
قال محمد بن اسحاق النديم: إنني كنت أعرفه قديماً، وبلغني أنه قد ترك كثيراً من أخلاقه عند علو سنه. قال: وهو يحيا في عصرما في سنة سبعٍ وسبعين وثلاثمائةٍ.
قال المؤلف: وهو الذي روى الخبر الذي جرى بين الزجاج وثعلبٍ في حق سيبويه واستدراكه على ثعلبٍ في الفصيح عدة مواضع، وقد ذكر ذلك في ترجمة الزجاج رحمه الله تعالى، وكان رافضياً دجالاً يأتي في كتبه بالأعاجيب من أحاديثهم. ولأبي القاسم الرقي المنجم فيه يهجوه:
حف خديك دل يا شمشاطي ... أنه دائماً لغير لواط
وإنبساط الغلام يعلمني إن ... ك تحت الغلام فوق البساط
وشروطٍ صبرت كرهاً عليها ... لالها بل للذة المشراط
قال محمد بن اسحاق: له كتاب النزه والابتهاج وهو مجموع يتضمن غرائب الأخبار ومحاسن الأشعار كالأمالي، كتاب الأنوار محبوب يجري مجرى الملح والتشبيهات والأوصاف عمله قديماً ثم زاد فيه بعد ذلك، كتاب الديارات كبير، كتاب المثلث الصحيح، كتاب أخبار أبي تمام والمختار من شعره، كتاب القلم جيد، كتاب تفضيل أبي نواسٍ على أبي تمامٍ.
وحدث الشمشاطي في كتابه كتاب النزه والابتهاج قال: كنا ليلةً عند أبي تغلب بن حمدان وعنده جماعة بعضهم يلعب النرد فطال الجلوس حتى مضى من الليل هزيع والسماء تهطل، فقال أبو البركات لفتح بن نظيفٍ: يا فتح، كم قد مضي من الليل؟ فقلت له: هذا نصف بيت شعرٍ. فقال: لبعض من في حضرته: أتمه، فقال: هذه قافية صعبة لا تطرد إلا أن نجعل بدل الياء واوً فعملت في الوقت، واستغلقت القافية حتى لا يزاد عليها بيت واحد إلا أن تكرر القافية بلفظٍ مؤتلفٍ ومعنىً مختلفٍ، مثل الغيل: اللبن يرضع من المرأة وهي حامل، قد أتينا بهذه اللفظة ومثلها لفظاً ولم نأت به معنىً، وكالغيل: الساعد الريان. والغيل: ما جرى على وجه الأرض. والغيل: الشحم الملتف ومثل القيل نصف النهار وقد أتينا به. والقيل: الملك ونحو ذلك فقلت:
يا فتح كم قد مضى من الليل؟ ... قل وتجنب مقال ذي الميل
فعارض النوم مسبل خمراً ... وعارض المزن مسبل الذيل
والليل في البدر كالنهار إذا ... أضحى وهذا السحاب كالليل
يسكب دمعاً على الثرى فتر ال ... ماء بكل الدروب كالسيل
والنرد تلهى عن المنام إذا ال ... فصوص جالت كجولة الخيل
إذا لذيذ الكرى تدافع عن ... وقت رقادٍ أضر بالحيل
إن أمير الهيجاء في مأزق ال ... حرب الهمام الجواد والقيل
من حزبه السعد طالع لهم ... وحربه موقنون بالويل
نجيب أمٍ لم تغذه سيء ال ... قسم ولا أرضعته من غيل
يحمل أعباء كل معضلة ... تجل إن تستقل بالشيل
أمواله والطعام قد بذلا ... لآمليه بالوزن والكيل
جاوز عمراً بأساً وقصر عن ... جود يديه السيحان والسيل
لا زال في نعمةٍ مجددةٍ ... يشرب صفو الغبوق والقيل
وحدث الشمشاطي في كتابه هذا أيضاً قال: أخذت من بين يدي أبي عدنان محمد بن نصر بن حمدان رمانة فكسرتها ودفعت منها إلى من حضر من الشعراء والأدباء وقلت:
يا حسن رمانةٍ تقاسمها ... كل أديبٍ بالظرف منعوت
كأنها قبل كسرها كرة ... وبعد كسرٍ حبات ياقوت
علي بن محمد بن الخلالأبو الحسن، الأديب الناسخ صاحب الخط المليح والضبط الصحيح، معروف بذلك مشهور. مات في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائةٍ.
علي بن محمدبن عميرٍالنحوي الكناني

يكنى أبا الحسن. كان أحد الفضلاء من أصحاب أبي بكرٍ محمد بن الحسن بن مقسمٍ، روى عنه أمالي ثعلبٍ في سنة ست عشرة وأربعمائةٍ، فسمعه منه الحسن بن أحمد بن البلاج وأبوالفتح بن المقدر.
علي بن محمدابن ديناربن عبد الرحيم، ابن دينار الكاتب أبو الحسين، بصري الأصل واسطي المولد والمنشأ، قال الحافظ أبو طاهر السلفي: وسألته يعني أبا الكرم خميس بن عليٍ الحوزي عن ابن دينارٍ فقال: سمع أبا بكر ابن مقسمٍ، ولقى المتنبي فسمع منه ديوانه ومدحه بقصيدةٍ هي عندنا موجودة في ديوانه أولها:
رب القريض اليك الحل والرحل ... ضاقت على العلم إلا نحوك السبل
تضاءل الشعراء اليوم عند فتىً ... صعاب كل قريضٍ عنده ذلل
وكان شاعراً مجيداً، شارك المتنبي في أكثر ممدوحيه كسيف الدولة بن حمدان وابن العميد وغيرهما، وكان حسن الخط يقال: إنه على طريقة ابن مقلة. مات سنة تسعٍ وأربعمائةٍ. حمل الناس عنه الأدب فأكثروا بواسط وغيرها، وكان سهل الخلائق جميل الطريقة، سأله الناس بواسط بعد موت أبي محمدٍ عبد الله العلوي أن يجلس لهم صدراً فيقرئهم فامتنع وقال: أنا أتعمم مدورةً وكمى ضيق وليست هذه حلية أهل القرآن، أظنني سمعت ذلك من أبي الحسن المغازلي الشاهد، هذا آخر ما قاله خميس. قلت: وقد سمع أبو غالب محمد بن بشران من ابن دينارٍ كثيراً، فروى عنه كتب الزجاج عن أبي الحسن بن علي بن الجصاص عن الزجاج، وروى عنه مصنفات ثعلبٍ عن أبي بكرٍ محمد بن الحسن بن مقسم عنه.
وروى له كتب ابن الأعرابي عن ابن مقسمٍ عن ثعلبٍ عنه، وروى له كتب ابن السكيت جميعها كالإصلاح والألفاظ والنبات وغير ذلك عن ابن مقسمٍ عن المعيدي عن ابن السكيت، وروى له كتب ابن قتيبة: كتاب غريب الحديث، وكتاب أدب الكاتب، وكتاب الأشربة وعيون الأخبار وعدد كتبٍ كلها عن أبي القاسم الآمدي عن أبي جعفر بن محمد بن قتيبة عن أبيه، وروى له كتب الآمدي جميعها عنه. وروى له كتاب أبي الفرج على بن الحسين الأصفهاني الأغاني الكبير وغيره عنه. وروى له كتاب الجمهرة لابن دريدٍ عن أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي جخجخٍ عن ابن دريدٍ وغير ذلك مما يطول شرحه، وأخذ ابن دينارٍ عن أبي سعيدٍ السيرافي وأبي عليٍ الفارسي، ومولد ابن دينارٍ سنة ثلاثٍ وعشرين وثلاثمائةٍ، وذكر أبو عبد الله الحميدي في ثبته قال: حدثني أبوغالب ابن بشران النحوي قال: حدثني أبو الحسين علي بن محمد ابن عبد الرحيم بن دينارٍ الكاتب قال: قرأت على أبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني جميع كتاب الأغاني.
علي بن محمد النهاوندي النحويروى عن جنادة أبي أسامة وعن أبي يوسف أحمد ابن الحسين عن المبرد
علي بن محمدٍ أبو الحسن الهروي
والد أبي سهلٍ محمد بن عليٍ الهروي الذي يكتب الصحاح وقد ذكر في بابه، وكان أبوالحسن هذا عالماً بالنحو اماماً في الأدب، جيد القياس صحيح القريحة حسن العناية بالآداب، وكان مقيماً بالديار المصرية. وله تصانيف منها: كتاب الذخائر في النحو نحو أربع مجلداتٍ رأيته بمصر بخطه، وكتاب الأزهية شرح فيه العوامل والحروف، وهما كتابان جليلان أبان فيهماعن فضله.
علي بن محمد بن أبي الحسن الأندلسيأبو الحسن الكاتب، مشهور بالأدب والشعر، وله كتاب في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس. كان في أيام الدولة العامرية، وعاش إلى أيام الفتنة ذكره الحميدي.
الجزء الخامس عشر
علي بن محمد بن العباس أبو حيان

التوحيدي، شيرازي الأصل وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الفضلاء يقول له الواسطي، صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه، قدم بغداد فأقام بها مدة ومضى إلى الري، وصحب الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد وقبله أبا الفضل بن العميد فلم يحمدهما وعمل في مثالبهما كتاباً، وكان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظياً يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه.
ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب، غير أن أبا حيان ذكر نفسه في كتاب الصديق والصداقة وهو كتاب حسن نفيس بما قال فيه: كان سبب إنشاء هذا الكتاب الرسالة في الصديق والصداقة: أنّى ذكرت منها شيئاً لزيد بن رفاعة أبي الجبر، فنماه إلى ابن سعدان أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة وتدبيره أمر الوزارة فقال لي ابن سعدان: قال لي عنك زيد كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك. فقال لي: دون هذا الكلام وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في هذه الرسالة وشغل عن رد القول فيها، وبطؤت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان، فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربعمائة، عثرت على المسودة وبيضتها، - وهذا دليل على بقائه إلى ما بعد الأربعمائة - .
وفي كتاب الهفوات لابن الصابئ: وحكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب بن عباد فقدمت مضيرة فأمعنت فيها فقال لي: يا أبا حيان، إنها تضر بالمشايخ. فقلت: إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل، فكأني ألقمته حجراً وخجل واستحيا ولم ينطق إلى أن فرغنا، ولأبي حيان تصانيف كثيرة منها: كتاب رسالة الصديق والصداقة، كتاب الرد على ابن جني في شعر المتنبي، كتاب الامتناع والمؤانسة جزءان، كتاب الإشارات الإلهية جزءان، كتاب الزلفة جزء، كتاب المقابسة، كتاب رياض العارفين، كتاب تقريظ الجاحظ، كتاب ذم الوزيرين، كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي، كتاب الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة، كتاب الرسالة البغدادية، كتاب الرسالة الصوفية أيضاً، كتاب الرسالة في الحنين إلى الأوطان، كتاب البصائر وهو عشر مجلدات كل مجلد له فاتحة وخاتمة، كتاب المحاضرات والمناظرات.
قال أبو حيان في كتاب المحاضرات: كنت بحضرة أبي سعيد السيرافي فوجدت بخطه على ظهر كتاب اللمع في شواذ التفسير - وكان بين يديه فأخذته ونظرت - قال: ذم أعرابي رجلاً فقال: ليس له أول يحمل عليه، ولا آخر يرجع إليه، ولا عقل يزكو به عاقل لديه، وأنشد:
حسبتك إنساناً على غير خبرة ... فكشفت عن كلب أكب على عظم
لحى الله رأياً قاد نحوك همتي ... فأعقبني طول المقام على الذم
فقال لي: يا أبا حيان، ما الذي كنت تكتب؟ قلت: الحكاية التي على ظهر هذا الكتاب، فأخذها وتأملها وقال: تأبى إلا الاشتغال بالقدح والذم وثلب الناس. فقلت: أدام الله الإمتاع، شغل كل ناس بما هو مبتلى به مدفوع إليه.
قال أبو حيان: وقصدت مع أبي زيد المروزي دار أبي الفتح ذي الكفايتين فمنعنا من الدخول عليه أشد منع، وذكر حاجبه أنه يأكل الخبز فرجعنا بعد أن قال أبو زيد للحاجب: أجلسنا في الدهليز إلى أن يفرغ من الأكل فلم يفعل، فلما انصرفنا خزايا أنشأ يقول متمثلاً:
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حل في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون ولا السهل
وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... تصور في بسط الملوك وفي المثل
يحدث عنها الناس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمر ولا تحلى

قال أبو حيان: وأنشدنا أبو بكر القومسي الفيلسوف وكان بحراً عجاجاً، وسراجاً وهاجاً، وكان من الضر والفاقة، ومقاساة الشدة الإضاقة بمنزلة عظيمة، عظيم القدر عند ذوي الأخطار، منحوس الحظ منهم، متهماً في دينه عند العوام مقصوداً من جهتهم. فقال لي يوماً: ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان نا بلغ مني، إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلداً أملس، وكأن العطوى ما أراد بقصيدته غيري، وما عنى بها سواي، ثم أنشدنا للعطوى:
من رماه الإله بالإقتار ... وطلاب الغنى من الأسفار
هو في حيرة وضنك وإفلا ... س وبؤس ومحنة وصغار
يا أبا القاسم الذي أوضح الجو ... د إليه مقاصد الأحرار
خذ حديثي فإن وجهي مذ با ... رز هذا الأنام في ثوب قار
وهو للسامعين أطيب من نف ... ح نسيم الرياض غب القطار
هجم البرد مسرعاً ويدي صف ... ر وجسمي عار بغير دثار
فتسترت منه طول التشاري ... ن إلى أن تهتكت أستاري
ونسجت الأطمار بالخيط والإب ... رة حتى عريت من أطماري
وسعى القمل من دروز قميصي ... من صغار ما بينهم وكبار
يتساعون في ثيابي إلى رأ ... سي قطاراً تجول بعد قطار
ثم وافى كانون واسود وجهي ... وأتاني ما كان منه حذاري
لو تأملت صورتي ورجوعي ... حين أمسي إلى ربوع قفار
أنا وحدي فيه وهل فيه فضل ... لحلوس الأنيس والروار؟
والخلا لا يراد فيه فمالي ... أبداً حاجة إلى الحفار
بل يراد الخلا لمنحدر النج ... و وما ذقت لقمة في الدار
وإذا لم تدر على المطعم الأف ... وه سدت متاعب الأحجار
وقلت له يوماً: لو قصدت ابن العميد وابن عباد عسى تكون من جملة من ينفق عليهما وتحظى لديهما، فأجابني بكلام منه: معاناة الضر والبؤس أولى من مقاساة الجهال والتيوس، والصبر على الوخم الوبيل أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل، ثم أنشأ يقول:
بيني وبين لئام الناس معتبة ... ما تنقضي وكرام الناس إخواني
إذا لقيت لئيم القوم عنفني ... وإن لقيت كريم القوم حياني
وقلت له: هل تعرف في معنى قصيدة العطوى أخرى؟ قال نعم، قصيدة الحراني صاحب المأمون. فقلت: لو تفضلت بإنشادها، فقال: خذ في حديث من أقبلت عليه دنياه وتمكن فيها من مناه، ودع حديث الحرف والعسر والشؤم والخسر تطيراً إن لم ترفضه تأدباً. فقلت له: ما أعرف لك شريكاً فيما أنت عليه وتتقلب فيه وتقاسيه سواي، ولقد استولى على الحرف وتمكن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي وتقييد خطي وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ النسخ، ويمسخ الأصل والفرع، وقصدت ابن عباد بأمل فسيح وصدر رحيب، فقدم إلى رسائله في ثلاثين مجلدة على أن أنسخها له، فقلت: نسخ مثله يأتي على العمر والبصر، - والوراقة كانت موجودة ببغداد - فأخذ على نفسه على من ذلك، وما فزت بطائل من جهته. فقال: بلغني ذلك فقلت له: ولو كان شيئاً يرتفع من اليد بمدة قريبة لكنت لا أتعطل وأتوفر عليه، ولو قرر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه، فليس لمن وقع في شر الشباك وعين الهلاك إلا الصبر.
قال أبو حيان: ودخلت على الدلجى بشيراز وكنت قد تأخرت عنه أياماً، وهذا الكتاب يعني كتاب المحاضرات جمعه له بعد ذلك، ولأجله أتعبت نفسي، فقال لي: يا أبا حيان، من أين؟ فقلت:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غياً
وهذا لملاك ظهر لي منه، وقليل إعراض عني في يوم. فقال لي: ما هذا البيت إلا بيت جيد يعرفه الخاص والعام، وهو موافق لما يذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زر غباً تزدد حباً). فلو كان لهذا البيت أخوات كان أحسن من أن يكون فرداً. قلت فله أخوات.

قال: فأنشدني. قلت لا أحفظها، قال: فأخرجها، قلت: لا أهتدي إليها. قال: فمن أين عرفتها؟ قلت:مرت بي في جملة تعليقات. قال: فاطلبها لأقدم رسمك. قلت: فقدمه الآن على شريطة أنه إذا جاء الوقت المعتاد إطلاقه فيه كل سنة أطلقت أيضاً. قال: أفعل. قلت: فخذها الآن.
سمعت العروضي أبا محمد يقول: دخل بعض الشعراء على عيسى بن موسى الرافقى وبين يديه جارية يقال لها خلوب فقال لها اقترحي عليه، فقالت:
إذا شئت أن تقلى فزر متوتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً
أجزه بأبيات تليق به فأنشد:
بقيت بلا قلب فإني هائم ... فهل من معير يا خلوب لكم قلباً؟
حلفت برب البيت أنك منيتي ... فكوني لعيني ما نظرت لها نصباً
عسى الله يوماً أن يرينيك خالياً ... فيزداد لحظي من محاسنكم عجباً
إذا شئت أن تقلى فزر متوتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً
فأنجز لي ما وعد، و وفى بما شرط، وكان ينفق عليه سوق العلم مع جنون كان يعتريه، ويتخبط في أكثر أوقاته فيه، وليت مع هذه الحالة خلف لنفسه شكلاً، أو نرى له في وقتنا هذا مثلاً، بارت البضائع، وغارت البدائع، وكسد سوق العلم، وخمد ذكر الكرم، وصار الناس عبيد الدرهم بعد الدرهم. وكان أبو حيان قد أحرق كتبه في آخره عمره لقلة جدواها، وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.
وكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله على صنيعه، ويعرفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه.
فكتب إليه أبو حيان يعتذر من ذلك: حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما سود وجه عهد إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك.

وأفاني كتابك غير محتسب ولا متوقع على ظمأ برح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النعمة به علي، وسألته المزيد من أمثاله، الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إلي، والصبابة نحوي ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الذي نمى إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تقرأ قوله جل وعز: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون)، وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: (كل من عليها فان). وكأنك لم تعلم أنه لا ثبات لشيء من الدنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلباً بيد الليل والنهار، معروضاً على أحداث الدهر وتعاود الأيام، ثم إني أقول: إن كان - أيدك الله - قد نقب خفك ما سمعت، فقد أدمى أظلي ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له ولا اجترأت عليه حتى استخرت الله عز وجل فيه أياماً وليالي، وحتى أوحى إلي في المنام بما بعث راقد العزم، وأجد فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحث على تنفيذ ما وقع في الروع وتريع في الخاطر، وأنا أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي: إن العلم - خاطك الله - يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كلاً على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه علاً - وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار - ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله، - ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري - ، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي، ومما شحذ العزم على ذلك ورقع الحجاب عنه، أني فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها، فإن قلت ولم تسمهم بسوء الظن، ونقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك، بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك، وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته بما قدمته ووصفته، وبما أمسكت عنه وطويته إما هرباً من التطويل، وإما خوفاً من القال والقيل.وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين، وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة؟ أو رجاء لحال جديدة، ألست زمرة من قال القائل فيهم:
نروح ونغدو كل يوم وليلة ... وعما قليل لا نروح ولا نغدو
وكما قال الآخر:
تفوقت درات الصبا في ظلاله ... إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان، والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم، والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري، وما والى هذه المواضع، وتواتر إلى نعيهم، واستدت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ وهل لي محيد عن مصيرهم؟ أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولاً بنزوعي عما أقترفه، إنه قريب مجيب.
وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر.

وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول.
وهذا يوسف بن أسباط: حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه.
وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.
وهذا سفيان الثوري: مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً.
وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار. وماذا أقول وسامعي يصدق أن زماناً أحوج مثلي إلى ما بلغك، لزمان تدمغ له العين حزناً وأسى، ويتقطع عليه القلب غيظاً وجوىً وضنىً وشجىً، وما يصنع بما كان وحدث وبان، إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل، والله تعالى شافٍ كافٍ، وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس، إلى أن تفى الأنفاس بعد الأنفاس، (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فلم تعنّى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض، وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح، وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج، وهوى بصاحبه إلى الهبوط؟ وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي، وإلا بالرضا بالميسور، وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم، فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا؟؟ وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات، الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض والمقام ممض، والطريق مخوف والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب، نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها، ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها، فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره، فهذا هذا، ثم إني - أيدك الله - ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك، وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهداً وفي محبتك على قربك ونأيك، مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني، فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان، وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس، ولكني حرست منك ما أضعته مني، ووفيت لك بما لم تف به لي، ويعز علي أن يكون لي الفضل عليك، أو أحرز المزية دونك، وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي، وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك، وأعظم تعجبك، وحشد عليك جزعك، والأول يقول:
وقد يجزع المرء الجليد ويبتلى ... عزيمة رأى المرء نائبة الدهر
تعاوده الأيام فيما ينوبه ... فيقوى على أمرٍ ويضعف عن أمر
على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته، وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقةٍ لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته، وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جل وعز في خلقه أحكاماً لا يعاز عليها ولا يغالب فيها، لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها، ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها، وهو تعالى أملك لنواصينا، وأطلع على أدانينا وأفاصينا، له الخلق والأمر، وبيده الكسر والجبر، وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر، والسلام. إن سرك جعلني الله فداك أن تواصلني بخبرك، وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل، فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقياً يسر النفس، ويذكر حديثنا بالأمس، أو بفراق نصير به إلى الرمس، ونفقد معه رؤية هذه الشمس، والسلام عليك خاصاً بحق الصفاء الذي بيني وبينك، وعلى جميع إخوانك، عاماً بحق الوفاء الذي يجب علي وعليك، والسلام.
وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة.

قال أبو حيان في كتاب أخلاق الوزيرين في تصنيفه: طلع ابن عباد علي يوماً في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئاً قد كان كأدني به، فلما أبصرته قمت قائماً فصاح بحلق مشقوق: اقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا، فهممت بكلام فقال لي الزعفراني الشاعر: اسكت فالرجل رفيع، فغلب علي الضحك واستحال الغيظ تعجباً من خفته وسخفه، لأنه كان قد قال هذا وقد لوى شدقه، وشنج أنفه وأمال عنقه، واعترض على انتصابه وانتصب في اعتراضه، وخرج في تفكك مجنون قد أفلت من دير جنون، والوصف لا يأتى على كنه هذه الحال، لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ، ولا يؤتى عليها باللفظ، فهذا كله من شمائل الرؤساء وكلام الكبراء، وسيرة أهل العقل والرزانة لا والله، وترباً لمن يقول غير هذا.
وحدث أبو حيان قال: قال الصاحب يوماً فعل وأفعال قليل، وزعم النحويون أنته ما جاء إلا زند وأزناد، وفرخ وأفراخ، وفرد وأفراد.. فقلت له: أنا أحفظ ثلاثين حرفاً كلها فقل وأفعال، فقال: هات يا مدعي، فسردت الحروف ودللت على مواضعها من الكتب ثم قلت: ليس للنحوي أن يلزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحر والسماع الواسع، وليس للتقليد وجه إذا كانت الرواية شائعة والقياس مطرداً وهذا كقولهم: فعيل على عشرة أوجه، وقد وجدته أنا يزيد على أكثر من عشرين وجهاً وما انتهيت في التتبع إلى أقصاه. فقال: خروجك من دعواك في فعل يدلنا على قيامك في فعيل ولكن لا نأذن لك في اقتصاصك، ولا نهب آذاننا لكلامك، ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا، وتبسطك في حضرتنا فهذا كما ترى.
قال أبو حيان: وأما حديثي معه يعني مع ابن عباد، فإنني حين وصلت إليه. قال لي: أبو من؟ قلت: أبو حيان. فقال: بلغني أنك تتأدب، فقلت: تأدب أهل الزمان. فقال: أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف؟ قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف، فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسية سفهاً على ما قيل لي ثم قال: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب. فقلت: أنا سامع مطيع، ثم إني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلاً: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم، فإن الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة، فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاده تنكراً.
قال أبو حيان:وقال لي ابن عباد يوماً يا أبا حيان: من كناك بأبي حيان؟ قلت: أجل الناس في زمانه، وأكرمهم في وقته، قال: ومن هو ويلك؟ قلت: أنت، قال: ومتى كان ذلك؟ قلت: حين قلت يا أبا حيان من كناك أبا حيان، فأضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه.
قال: وقال لي يوماً آخر - وهو قائم في صحن داره والجماعة قيام منهم الزعفراني وكان شيخاً كثير الفضل جيد الشعر ممتع الحديث، والتميمي المعروف بسطل وكان من مصر، والأقطع وصالح الوراق وابن ثابت وغيرهم من الكتاب والندماء - : يا أبا حيان: هل تعرف فيمن تقدم من يكنى بهذه الكنية؟ قلت: نعم من أقرب ذلك أبو حيان الدارمي.
حدثنا أبو بكر محمد بن محمد القاضي الدقاق قال: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا أبي حدثنا ابن ناصح قال: دخل أبو الهذيل العلاف على الواثق فقال له الواثق: لمن تعرف هذا الشعر؟:
سباك من هذشم سليل ... ليس إلى وصله سبيل
من يتعاط الصفات فيه ... فالقول في صفه فضول
للحسن في وجهه هلال ... لأعين الخلق لا يزول
وطرة ما يزال فيها ... لنور بدر الدجى مقيل
ما اختال في صحن قصر أوس ... إلا ليسجى له قتيل
فإن يقف فالعيون نصب ... وإن تولى فهن حول
فقال أبو الهذيل: يا أمير المؤمنين، هذا لرجل من أهل البصرة يعرف بأبي حيان الدارمي، وكان يقول بإمامة المفضول، وله من كلمة يقول فيها:
أفضله والله قدمه على ... صحابته بعد النبي المكرم
بلا بغضة والله مني لغيره ... ولكنه أولاهم بالتقدم
وجماعة من أصحابنا قالوا: أنشد أبو قلابة عبد الله ابن محمد الرقاشي لأبي حيان البصري:
يا صاحبي دعا الملام وأقصرا ... ترك الهوى يا صاحبي خساره
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي ... لجت يمين ما لها كفاره

ألا أفيق ولا أفتر لحظة ... إن أنت لم تعشق فأنت حجاره
ألحب أول ما يكون بنظرة ... وكذا الحريق بداؤه بشراره
يا من أحب ولا أسمى باسمها ... إياك أعنى فاسمعي يا جاره
فلما وفيت الشعر ورويت الإسناد وريقي بليل ولساني طلق ووجهي متهلل، وقد تكلفت هذا وأنا في بقية من غرب الشباب وبعض ريعانه، وملأت الدار صياحاً بالرواية والقافية، فحين انتهيت أنكرت طرفه، وعلمت سوء موقع ما رويت عنده، قال: ومن تعرف أيضاً، قلت ابن الجعابي الحافظ، يكنى بأبي حيان، رجل صدق وهو يروي عن التابعين. قال: ومن تعرف أيضاً؟ قلت: روى الصولي فيما حدثنا عنه المرزباني أن معاوية لما احتضر أنشد يزيد عند رأسه متمثلاً:
لو أن حيا نجا لفات أبو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الأريب وهل ... يدفع صرف المنية الحيل؟
قال الصولي: وهذا كان من المعمرين المغفلين، وانتهى الحديث من غير هشاشة ولا هزة ولا أريحية، بل على اكفهرار وجه ونبو طرف وقلة تقبل، وجرت أشياء أخر كان عقباها أني فارقت بابه سنة سبعين وثلاثمائةٍ راجعاً إلى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهماً واحداً ولا ما قيمته درهم واحد، احمل هذا على ما أردت، ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به وأحفظني عليه، وجعلني من جميع غاشيته فرداً أخذت أملي في ذلك بصدق القول عنه وسوء الثناء عليه، والبادئ أظلم، وللأمور أسباب، والأسباب أسرار، والغيب لا يطلع عليه ولا قارع لبابه.
قال أبو حيان: قال لي الصاحب يوماً - وهو يحدث عن رحلٍ أعطاه شيئاً فتلكأ في قبوله - : ولا بد من شيء يعين على الدهر ثم قال: سألت جماعةً عن صدر هذا البيت فما كان عندهم ذلك. فقلت: أنا أحفظ ذاك، فنظر بغضب فقال: ما هو؟ قلت: نسيت، فقال: ما أسرع ذكرك من نسيانك! قلت: ذكرته والحال سليمة، فلما استحالت عن السلامة نسيت. قال: وما حيلولتها؟ قلت: نظر الصاحب بغضب فوجب في حسن الأدب ألا يقال ما يثير الغضب. قال: ومن تكون حتى نغضب عليك؟ دع هذا وهات، قلت قول الشاعر:
ألام على أخذ القليل وإنما ... أصادف أقواماً أقل من الذر
فإن أنا لم آخذ قليلاً حرمته ... ولا بد من شيء يعين على الدهر

فسكت. قال أبو حيان عند قربه من فراغ كتابه في ثلب الوزرين وقد حكى عن ابن عباد حكايات وأسندها إلى من أخبره بها عنه ثم قال: فما ذنبي أكرمك الله إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر؟ فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان، على أني قد سترت شيئاً كثيراً من مخازيه إما هرباً من الإطالة، أو صيانةً للقلم عن رسم الفواحش وبث الفضائح، وذكر ما يسمج مسموعه. ويكره التحدث به، وهذا سوى ما فاتني من حديثه فإني فارقته سنة سبعين وثلاثمائة. وما ذنبي أن ذكرت عنه ما جرعنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل، وحملني عليه من الإخفاق بعد الطمع، مع الخدمة الطويلة والوعد المتصل والظن الحسن، حتى كأني خصصت بخساسته وحدي، أو وجب أن أعامل به دون غيري، قدم إلي نجاح الخادم وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلدة من رسائله وقال: يقول لك مولانا: انسخ هذا فإنه قد طلب منه بخراسان. فقلت بعد ارتياءٍ: هذا طويل، ولكن لو أذن لي لخرجت منه فقراً كالغرر، وشذوراً كالدرر، تدور في المجالس كالشمامات والدستنبوبهات، لو رقي بها مجنون لأفاق، أو نفث على ذي عاهة لبرأ، لا تمل ولا تستغث، ولا تعاب ولا تسترك، فرفع ذلك إليه وأنا لا أعلم فقال: طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها وأزرى بها، والله لينكرن مني ما عرف، وليعرفن حظه إذا انصرف، حتى كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بئر زمزم، أو قلت كان النظام مأبوناً، أو مات أبو هاشم في بيت خمار، أو كان عباد معلم صبيان. وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب؟ حتى أعذره في لومي على الامتناع، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره؟ أو ينفعه ببدنه؟. وما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلي في الوقت بعد الوقت؟ فقلت: وكيف لا يكون كما وصف مولانا؟ وأنا أقطف ثمار رسائله، وأستقي من قليب علمه، وأشيم بارقة أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه، فيقول: كذبت وفجرت لا أم لك، ومن أين في كلامي الكدية والشحذ والتضرع والاسترحام؟ كلامي في السماء، وكلامك في السماد، هذا - أيدك الله - وإن كان دليلاً على سوء جدي، فإنه دليل أيضاً على انخلاعه وخرقه، وتسرعه ولؤمه، وانظر كيف تستحيل معي عن مذهبه الذي كان هو عرقه النابض، وسوسه الثابت، وديدنه المألوف، وهذا أجراني مجرى التاجر المصري والشاذباشي وفلان وفلان، بل ما ذنبي إذا قال لي: هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح؟ فأقول: نعم، رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له، وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا، وفيما تقدم منه كذا وكذا، وفيما تكلفه من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا، ووصل أبا سعيدٍ السيرافي بكذا وكذا، ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا فينزوي وجهه، وينكر حديثه، وينجذب إلى شيء آخر ليس مما شرع فيه ولا مما حرك له ثم يقول: أعلم أنك إنما انتجعته من العراق، فاقرأ علي رسالتك التي توسلت إليه بها وأسهبت مقرظاً له فيها، فأتمانع فيأمر ويشدد فأقرأها فيتغير ويذهل وأنا أكتبها لك ليكون زيادة في الفائدة:

بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم هيئ لي من أمري رشداً، ووفقني لمرضاتك أبداً، ولا تجعل الحرمان علي رصداً، أقول وخير القول ما انعقد بالصواب، وخير الصواب ما تضمن الصدق، وخير الصدق ما جلب النفع، وخير النفع، ما تعلق بالمزيد، وخير المزيد ما بدا عن الشكر، وخير الشكر، ما بدا عن إخلاص، وخير الإخلاص ما نشأ عن اتفاق، وخير الاتفاق ما صدر عن توفيق، لما رأيت شبابي هرماً بالفقر، وفقري غنياً بالقناعة، وقناعتي عجزاً عند أهل التحصيل، عدلت إلى الزمان أطلب إليه مكاني فيه وموضعي منه، فرأيت طرفه نابياً، وعنانه عن رضاي منثنياً، وجانبه في مرادي خشناً، وارتقائي في أسبابه نائياً، والشامت بي على الحدثان متمادياً، طمعت في السكوت تجلداً، وانتحلت القناعة رياضةً، وتألفت شارد حرصي متوقفاً، وطويت منشور أملي متنزهاً، وجمعت شتيت رجائي سالياً، وادعيت الصبر مستمراً، ولبست العفاف ضناً، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهداً، هذا بعد أن تصفحت الناس فوجدتهم أحد رجلين: رجل إن نطق عن غيظ ودمنةٍ وإن سكت سكت عن ضغن وإحنةٍ، ورجل إن بذل كدر بامتنانه بذله، وإن منع حسن باحتياله بخله، فلم يطل دهري في أثنائه، متبرحاً بطول الغربة وشظف العيش، وكلب الزمان وعجف المال، وجفاء الأهل وسوء الحال، وعادية العدو وكسوف البال، متحرقاً من الحنق على لئيم لا أجد مصرفاً عنه، متقطعاً من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلاً إليه، حتى لاحت لي غرة الأستاذ فقلت: حل بي الويل، وسال بي السيل، أين أنا عن ملك الدنيا، والفلك الدائر بالنعمى؟ أين أنا من مشرق الخير ومغرب الجميل؟ أين أنا من بدر البدور وسعد السعود؟ أين أنا عمن يرى البخل كفراً صريحاً، والإفضال ديناً صحيحاً؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟ أين أنا من فضاء لا يشق غباره، وعن حرم لا يضام جاره؟ أين أنا عن منهل لا صدر لفراطه، ولا منع لوراده؟ أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صوب لا جدد دونه؟ بل أين أنا عمن أتى بنبوة الكرم، وإمامة الإفضال، وشريعة الجود، وخلافة البذل، وسياسة المجد، بشيمةٍ مشيمة البوارق، ونفس نفيسة الخلائق؟ أين أنا عن الباع الطويل، والأنف الأشم، والمشرب العذب، والطريق الأمم؟ لم لا أقصد بلاده؟ لم لا أقتدح زناده؟ لم لا أنتجع جنابه وأرعى مزاده؟ لم لا أسكن ربعه؟ لم لا أستدعي نفعه؟ لم لا أخطب جوده وأهتصر عوده؟ لم لا أستمطر سحابه؟ لم لا أستسقي ربابه؟ لم لا أستميح نيله وأستسحب ذيله؟ ولا أحج كعبته، وأستلم ركنه؟ لم لا أصلي إلى مقامه مؤتماً بإمامه؟ لم لا أسبح ببنانه متقدساً؟
فتىً صيغ من ماء الشبيبة وجهه ... فألفاظه جود وأنفاسه مجد
لم لا أقصد فتىً للجود في كفه من البحر عينان نضاختان؟ لم لا أمتري معروف
فتىً لا يبالي أن يكون بجسمه ... إذا نال خلات الكرام شحوب
لم لا أمدح
فتىً يشتري حسن المقال بروحه ... ويعلم أعقاب الأحاديث في غد؟

نعم لم لا أنتهي من تقريظ فتىً لو كان من الملائكة لكان من المقربين، ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين، ولو كان من الخلفاء لكان نعته اللائذ بالله، أو المنصف في الله، أو المعتضد بالله، أو المنتصب لله، أو الغاضب لله أو الغالب بالله، أو المرضي لله، أو الكافي بالله، أو الطالب بحق الله، أو المحيي لدين الله. أيها المنتجع قرن كلئه، المختبط ورق نعمته، ارع عريض البطان، متفيئاً بظله ناعم البال، متعوذاً بعزه، وعش رخي لحال، معتصماً بحبله، ولذ بداره آمن السرب، وامحض وده بآنية القلب، وق نفسك من سطوته بحسن الحفاظ، وتخير له ألطف المدح، تفز منه بأيمن قدح، ولا تحرم نفسك بقولك: إني غريب المثوى نازح الدار، بعيد النسب منسي المكان، فإنك قريب الدار بالأمل، داني النجح بالقصد، رحيب الساحة بالمنى، ملحوظ الحال بالجد، مشهور الحديث بالدرك. واعلم علماً يلتحم باليقين، وتدرأ من الشك أنه معروف الفخر بالمفاخر، مأثور الأثر بالمآثر، قد أصبح واحد الأنام تاريخ الأيام، أسد الغياض يوم الوغى، نور الرياض يوم الرضا، إن حرك عند مكرمة تحرك غصناً تحت بارحٍ، وإن دعي إلى اللقاء دعي ليثاً فوق سابح، وقل إذا أتيته بلسان التحكم: أصلح أديمي فقد حلم، وجدد شبابي فقد هرم، وأنطق لساني في اصطناعي، فقد شردت صحائف النجح عند انتجاعي، ورش عظمي فقد براه الزمان، واكس جلدي فقد عراه الحدثان، وإياك أن تقول: يا مالك الدنيا جد لي ببعض الدنيا فإنه يحرمك، ولكن قل: يا مالك هب لي الدنيا، اللهم فأحي به بلادك، وأنعش برحمته عبادك، وبلغه مرضاتك، وأسكنه فردوسك، وأدم له العز النامي، والكعب العالي، والمجد التليد والجد السعيد، والحق الموروث، والخير المبثوث، والولي المنصور، والشانئ المبتور، والدعوة الشاملة والسجية الفاضلة، والسرب المحروس، والربع المأنوس، والجناب الخصيب، والعدو الحريب، والمنهل القريب، واجعل أولياءه بازلين لطاعته، ناصرين لأعزته، ذابين عن حرمه، والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب بالعلم، والكوكب الوقاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب، سقط العشاء بعبدك على سرحك، فاقره من نعمتك بما يضاهي قدرك وقدرتك، وزوج هبة ربها من الغنى، فطالما خطب كفؤها من المنى. ثم يقال لي من بعد: جنيت على نفسك حين ذكرت عدوه عنده بخير، وأثنيت عليه وجعلته سيد الناس. فأقول: كرهت أن تراني متذرباً على عرض رجل عظيم الخطب، غير مكترث بالوقيعة فيه والإنحاء عليه، وقد كان يجوز أن أشعث من ذلك شيئاً، وأبرى من أثلته جانباً، وأطير إلى جنبه شرارة، فيقال أيضاً: جنيت على نفسك، تركت الاحتياط في أمرك، فإنه مقتك وعافك، ورأى أنك في قولك عدوت طورك، وجهلت قدرك، ونسيت وزرك، وليس مثلك من هجم على ثلب من بلغ رتبة ذلك الرجل، وإنك متى جسرت على هذا وزنت به، وجعلت غيره في قرنه، فإذا كانت هذه الحالات ملتبسة، وهذه العواقب مجهولةً، فهل يدور العمل بعدها إلا على الإحسان الذي هو علة المحبة؟ والمحبة التي هي علة الحمد، والإساءة التي هي علة البغض، والبغض الذي هو علة الذم، فهذا هذا.
وقال: كان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ، وكان الصواب غالباً عليه، وله رفق في سرد حديث، ونيقة في رواية، وله شمائل مخلوطة بالدماثة بين الإشارة والعبارة، وهذا شيء عام في البغداديين، وكالخاص في غيرهم.
حدثت ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاده ثم قيل لي بعده إنه كان يقول: قاتل الله ابن حيان فإنه نكد، وإنه وإنه وإنه - وأكره أن أروي ذمي بقلمي - وكان ذلك كله حسداً وغيظاً بحتاً، وأنا أروي لك الحديث فإنه في نهاية الطيب، وفيه فكاهة ظاهرة وعي عجيب، في معرض بلاغة ظريفة في ملبس فهاهة.

حدثني القاضي أبو الحسن الجراحي قال: لحقني مرة علة صعبة فمن طريف ما مر على رأسي، ودخل في جملة من عادني، شيخ الشونيزية، ودوارة الحمار، والتوثة، وفقيهها أبو الجعد الأنباري، وكان من كبار أصحاب الزنهاري فقال أول ما قعد: يقع لي فيما لا يقع لغيري، أو لمثلي فيمن كان كأنه مني، أو كأنه كان على سني، أو كان معروفاً بما لا يعرف به إلاي، إلا أني أنك لا تحتمي إلا حمية فوق ما يجب، ودون ما لا يجب، وبين فوق ما لا يجب، وبين دون ما لا يجب، فرق، الله يعلم أنه لا يعلم أحد ممن يعلم، أو لا يعلم الطب كله أن يحتمي حمية، بين حميتين، حمية كلا حمية، ولا حمية كحمية، وهذا هو الاعتدال والتعديل، والتعادل والمعادلة، قال الله تعالى: (وكان بين ذلك قواما) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الأمور أوسطها، وشرها إطرافها)، والعلة في الجملة والتفصيل إذا أدبرت لم تقبل، وإذا أقبلت لم تدبر، وأنت من إقبالها في خوف ومن إدبارها في التعجب، وما يصنع هذا كله؟ لا تنظر إلى اضطراب الحمية عليك، ولكن انظر إلى جهل هؤلاء الأطباء الألباء الذين يشقون الشعر شقاً، ويدقون البعر دقاً، ويقولون ما يدرون وما لا يدرون زرقاً وحمقاً، وإلى قلة نصحهم مع جهلهم، ولو لم يجهلوا إذا لم ينصحوا كان أحسن عند الله والملائكة، ولو نصحوا إذا جهلوا كان أولى عند الناس وأشباه الناس والله المستعان، وأنت في عافية ولكن عدوك ينظر إليك بعين الاست فيقول: وجهه وجه من قد رجع من القبر بعد عدو على كل حال، فالرجوع من القبر خير من الرجوع إلى القبر، لعن الله القبر، لا خباز ولا بزاز ولا رزاز ولا كواز (إنا لله وإنا إليه راجعون) عن قريب إن شاء الله. (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)، وقال جل شأنه: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير، ومن الجبال جدد بيض وحمر). تأمر بشيءٍ السنة في العيادة خاصة، عيادة الكبار والسادة التخفيف والتطفيف، وإنا إن شاء الله عندك بالعشي والحق، والحق أقوام ما يجب على مثلك لمثلي، كان ليس لك مثل ولا مثلي أيضاً مثل هكذا إلى باب الشام إلى قنطرة الشوك وإلى المندفة أقول لك المستوي، لا أنا ولا أنت اليوم كمثل كمثراتين إذا علقتا على رأس شجرة، وكدلوين إذا خلقا على رأس بئر، ودع ذا القارورة، اليوم لا إله إلا الله، وأمس كان سبحان الله، وغداً يكون شيئاً آخر، وبعد غد ترى من ربك العجب، والموت والحياة بعون الله، ليس هذا مما يباع في السوق، أو يوجد مطروحاً في الطريق، وذاك أن الإنسان - ولا قوة إلا بالله - طريف أعمى كأنه ما صح له منام قط، ولا خرج من السمارية إلى الشط، وكأنه ما رأى قدرة الله في البط، إذا لفظ كيف يقول قط قط، والكلام في الإنسان وعمى قلبه وسخنة عينه قل غفر له، ولا يسلم في هذه الدار إلا من عصر نفسه عصرة ينشق منها فيموت كأنه شهيد، وهذا صعب لا يكون إلا بتوفيق الله وبعض خذلانه الغريب، على الله توكلنا وإليه التفتنا ورضينا، وبه استجرنا، إن شاء أخذ لنا، وإن شاء أطعمنا.
قال القاضي: فكدت أموت من الضحك على ضعفي وما زال كلامه بهذا إلى أن خرجت على الناس وكان مع هذا لا يعيا ولا يقف ولا يكل وكان من عجائب الزمان. وختم أبو حيان كتابه في أخلاق الوزيرين بعد أن اعتذر عن فعله ثم قال: وإني لأحسد الذي يقول:
أعد خمسين حولاً ما على يد ... لأجنبيٍ ولا فضل لذي رحم
ألحمد لله شكراً قد قنعت فلا ... أشكو لئيماً ولا أطري أخا كرم
لأني كنت أتمنى أن أكونه، ولكن العجز غالب لأنه مبذور في الطينة، ولقد أحسن الآخر حين قال:
ضيق العذر في الضراعة إنا ... لو قنعنا بقسمنا لكفانا
ما لنا نعبد العباد إذا كا ... ن إلى الله فقرنا وغنانا؟
وأدعو ههنا بما دعا به بعض النساك: اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من دونهم ولي الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء يا ذا الجلال والإكرام.

ومن كتاب المحاضرات لأبي حيان قال: قصدت أنا والنصيبي رجلاً من أبناء لنعم والموصوفين بالكرم، ولا يرد سائليه، ولا يخيب آمليه، والألسن متفقة على جوده وتطوله، والعيون شاخصة إلى عطاياه وفضله، له في السنة مبار كثيرة على أهل العلم وأهل البيوتات، ومن قعد به الزمان وجفاه الإخوان، فلم نصادفه في منزله، وقصدناه ثانياً فمنعنا من الدخول إليه، وقصدناه ثالثاً فذكر أنه ركب، وقصدناه رابعاً فقيل هو في الحمام، وقصدناه خامساً فقيل هو نائم، وقصدناه سادساً فقيل عنده صاحب البريد وهو مشغول معه بمهم، وقصدناه سابعاً فذكر أنه رسم ألا يؤذن لأحد، وقصدناه ثامناً فذكر أنه يأكل ولا يجوز الدخول إليه بوجه ولا سبب، وقصدناه تاسعاً فذكر أن أحد أولاده سقط من الدرجة وهو مشغول به عند رأسه وما يفارقه، وقصدناه العاشر فذكر أنه مستعد لشرب الدواء، وقصدناه الحادي عشر فذكر أنه تناول الدواء من يومين، وما عمل عملاً وقد قواه اليوم بما يحرك الطبيعة، وقصدناه الثاني عشر فقيل إلى الآن كان جالساً ونهض في هذه الساعة ودخل إلى الحجرة، وقصدناه الثالث عشر فقيل دعي إلى الدار لمهم، وقصدناه الرابع عشر فألفيناه في الطريق يمضي إلى دار الإمارة، وقصدناه الخامس عشر فسهل لنا الإذن ودخلنا في غمار الناس، والناس على طبقاتهم جلوس وجماعة قيام يرتبون الناس ويخدمونهم وقد اتفق له عزاء، وشغل بغيرنا وبقينا في صورة من احتقان البول والجوع والعطش وما أقمنا في جملة من يقام، فقال لي النصيبي: هذا اليوم الذي قد ظفرنا به وتمكنا من دخول داره صار عظيم المصيبة علينا، ليس لنا إلا مهاجرة بابه والإعراض عنه، وقمع النفس الدنية بالطمع في غيره، فقلت له: قد تعبنا وتبذلنا على بابه، والأسباب التي قد اتفقت فمنعت من رؤيته كانت عذراً واضحاً ويتفق مثل هذا، فإذا انقضت أيام التعزية قصدناه، وربما نلنا من جهته ما نأمله، فقصدناه بعد ذلك أكثر من عشرين مرة، وقلما اتفق فيها رؤيته وخطابه حتى مل النصيبي فقال: لو علمت أن داره الفردوس، والحصول عنده الخلود فيها، وكلامه رضا الله تعالى وفوز الأبد لما قصدته بعد ذلك، وأنشأ يقول:
طلب الكريم ندى يد المنكود ... كالغيث يستسقى من الجلمود
فافزع إلى عز الفراغ ولذ به ... إن السؤال يريد وجه حديد
فأجبته أنا وعيناي بالدموع تترقرق لما بان لي من حرقتي، ونبو الدهر بي وضياع سعيي، وخيبة أملي في كل من أرتجيه لملم أو مهم، أو حادثة أو نائبة:
دنيا دنت من عاجز وتباعدت ... عن كل ذي لب له خطر
سلمت على أربابها حتى إذا ... وصلت إلي أصابها الحصر
قال أبو حيان في كتاب الوزيرين: جرى بيني وبين أبي علي مسكويه شيء، قال مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد في إعطائه فلاناً ألف دينار ضربة واحدة - لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق، فقلت بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف. أيها الشيخ، أسألك عن شيء واحد، فاصدق فإنه لا مدب للكذب بيني وبينك: لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه، أكنت تخيله في نفسك مخطئاً ومبذراً ومفسداً، أو جاهلاً بحق المال؟ أو كنت تقول ما أحسن ما فعل وليته أربى عليه؟ فإن كان الذي تسمع على حقيقة، فاعلم أن الذي يرد ورد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف الأخلاق، وتزيف الزائف، وتختار منها المختار، فافطن لأمرك، واطلع على سرك وشرك.
علي بن محمد بن حبيبالماوردي البصري، يكنى أبا الحسن، ويلقب أقضى القضاة، لقب به في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجرى من الفقهاء كأبي الطيب الطبري والصيمري إنكار لهذه التسمية وقالوا: لا يجوز أن يسمى به أحد، هذا بعد أن كتبوا خطوطهم بجواز تقليب جلال الدولة بن بهاء الدولة ابن غضد الدولة بملك الملوك الأعظم، فلم يلتفت إليهم، واستمر له هذا اللقب إلى أن مات، ثم تلقب به القضاة إلى أيامنا هذه، وشرط الملقب بهذا اللقب: أن يكون دون منزلة من تلقب بقاضي القضاة إلى أيامنا هذه على سبيل الاصطلاح، وإلا فألا ولى أن يكون أقضى القضاة أعلى منزلة. ومات الماوردي في سنة خمسين وأربعمائة. وكان عالماً بارعاً متفنناً شافعياً في الفروع، ومعتزلياً في الأصول على مال بلغني والله أعلم.

وكان ذا منزلة من ملوك بني بويه يرسلونه في التوسطات بينهم وبين من يناوئهم، ويرتضون بوساطته ويقفون بتقريراته. قرأت في كتاب سر السرور لمحمود النيسابوري هذين البيتين منسوبين إلى الماوردي هذا:
وفي الجهل قيل الموت موت لأهله ... فأجسادهم دون القبور قبور
إن أمر لم يحى بالعلم صدره ... فليس له حتى النشور نشور
حدث محمد بن عبد الملك الهمداني، وحدثني أبي قال: سمعت الماوردي يقول: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، واختصرته في أربعين، يريد بالمبسوط كتاب الحلوى، وبالمختصر كتاب الإقناع، ودرس مكانه خمس سنين قال: ولم أر أوقر منه، ولم أسمع منه مضحكة قط، ولا رأيت ذراعه منذ صحبته إلى أن فارق الدنيا. قلت: وله تصانيف حسان في كل فن، ومنها: كتاب تفسير القرآن، كتاب الأحكام السلطانية، كتاب في النحو رأيته في حجم الإيضاح أو أكبر، كتاب قوانين الوزارة، كتاب تعجيل النصر وتسهيل الظفر.
قرأت في مجموع لبعض أهل البصرة: تقدم القادر بالله إلى أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة، أن يصنف له كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنف له الماوردي الإقناع، وصنف له أبو الحسين القدوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنف له القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً آخر، ولا أدري من صنف له على مذهب أحمد، وعرضت عليه فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: حفظ الله عليك دينك، كما حفظت علينا ديننا. ومن هذا المجموع: كان أقضى القضاة - رحمه الله - قد سلك طريقه في ذوي الأرحام، يورث القريب والبعيد بالسوية، وهو مذهب بعض المتقدمين، فجاءه يوماً الشينيزي في أصحاب القماقم، فصعد إليه المسجد وصلى ركعتين والتفت إليه فقال له: أيها الشيخ، اتبع ولا تبتدع، فقال: بل أجتهد ولا أقلد، فلبس نعله وانصرف.
علي بن محمد بن الحسن بن دينار الديناريالنحوي أبو الحسن، من ولد دينار بن عبد الله. قال ابن طاهر المقدسي: مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وأبوه أبو الفتح محمد من أهل العلم والحديث.
علي بن محمدالنحوي الأديبأبو الحسن الأهوازي النحوي الأديب رأيت له كتاباً في علل العروض، نحو عشر كراريس ضيقة الخط، جيداً في بابه غاية، ولا أعرف من حاله غير هذا.
علي بن محمد الوزان النحوي الحلبيأبو الحسن، سمع منه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأظنه كان في أيام سيف الدولة بن حمدان، وله كتاب في العروض.
علي بن محمدالبطليوسيبن السيد النحوي البطليوسي أبو الحسن، ويعرف بالخيطال، وهو أخو أبي محمد عبد الله ابن السيد النحوي. روى عن أبي بكر بن الغراب، وأبي عبد الله محمد بن يونس وغيرهما، أخذ عنه أخوه أبو محمد كثيراً من كتب الآداب وغيرها، وكان مقدماً في علم اللغة وحفظها وضبطها، ومات بقلعة رباح معتقلاً من قبل ابن عكاشة قائدها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
علي بن محمد الأخفش النحويلم أجد ذكره إلا على كتاب الفصيح بخط علي بن عبد الله ابن أخي الشبيه العلوي بما صورته: حذق على هذا الكتاب - وهو كتاب الفصيح - أبو القاسم سليمان بن المبارك الخاصة الضرفي - أدام الله أيامه - من أوله إلى آخره قراءة فهم وتصحيح. وقرأت أنا على علي بن عميرة - رحمه الله - في محلة باب البصرة ببغداد عند المسجد الجامع الكبير. وقرأ هو على أبي بكر ابن مقسم النحوي عن أبي العباس ثعلب - رحمه الله - ، وكتب علي بن محمد الأخفش النحوي سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
علي بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللهالقهندزي أبو الحسن الضرير النحوي الأديب النيسابوري من أصحاب أب عبد الله، شيخ فاضل من الأدباء، سمع الحديث من أبي العباس المناسكي المحاملي وغيره، وسمع منه الناس وقرأ عليه الأئمة وتخرجوا به. قال ذلك عبد الغافر في السياق، قرأ عليه أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي وعده في أعيان مشايخه. وقال الواحدي: كان من أبرع أهل زمانه.
علي بن محمد السعيدي البياريالأستاذ الأديب أبو الحسن، رجل فاضل من أهل بيت الفضل والأدب، وأما سماع الحديث فقلما يخلو عنه أهل الفضل، قاله عبد الغافر.
علي بن محمد بن علي بن منصور

الحوزي أبو الحسن، الأديب ابن الأديب السقاء، رجل فاضل شاعر كاتب، وسمع الحديث من متأخري الطبقة الثانية ثم من مشايخنا، ومات كهلاً في الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة قال ذلك عبد الغافر.
علي بن محمد بن أرسلان بن محمد الكاتبأبو الحسن بن أبي علي المنتجب من أهل مرو، كاتب مليح الخط فصيح العبارة، وله شعر وترسل وبلاغة في غاية الحسن، سافر إلى العراق وجال في بلاده، ولعله ما رأى مثل نفسه في فنه، سمع بمرو أبا علي إسماعيل بن أحمد ابن الحسين البيهقي وغيره. قال أبو سعد: اجتمعت معه ببغداد بالمقتدية وكتب لي شيئاً من شعره، وكان حفظة يسمع أربعين بيتاً فيحفظها، اجتمعت فيه أسباب المنادمة والكتابة وصحبة الملوك، له هذا البيت الفرد:
وأما الحشا مني فإني امتحنتها ... وأدنيت منها الجمر فاحترق الجمر
وله:
إذا المرء لم تغن العفاة صلاته ... ولم يرغم القوم العدى سطواته
ولم يرض في الدنيا صديقاً ولم يكن ... شفيعاً له في الحشر منه نجاته
فإن شاء فليهلك وإن شاء فليعش ... فسيان عندي موته وحياته
قتل في الوقعة الخوارزمشاهية بمرو في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وله كتاب تعلة المشتاق إلى ساكني العراق. وكان أبوه محمد بن أرسلان أيضاً من الفضلاء النبلاء. وله شعر ورسائل ومدحه الزمخشري ورثاه، وكان يلقب منتجب الملك، فلا أدري أهذا تلقب بلقب أبيه؟ أم يعرف بابن المنتجب. وذكر في تاريخ خوارزم أن منتجب الملك محمد بن أرسلان مات في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة أو قريباً منها.
وذكر الزمخشري في شرح مقاماته: أنشدني الكبير المنتجب أبو علي محمد بن أرسلان لنفسه بيتاً لو وقع في شعر المتقدمين لسيرته الرواة، وخلدته الأئمة في كتبهم، وكم من أخوات له ضيعت بضياع الأدب وقلة النقلة، واتضاع الهمم، وتراجع الأمور على أعقابها.
وبرداه مسجوران مثل هجيره ... كأن ليس فيه بكرة وأصيل
قال: وما أظن البردين وقعا مثل هذا الموقع منذ نطق بهما واضع العربية، ومن شعر منتجب الملك محمد بن أرسلان:
قل للمليحة في الخمار الأحمر ... لا تجهري بدمائنا وتستري
مكنت من حب القلوب ولاية ... فملكتها بتعسف وتجبر
إن تنصفي فلك القلوب رعية ... أو تمثعي حق فمن ذا يجتري
سخرتني وسحرتني بنوافث ... فترفقي بمسخر ومسحر
علي بن محمد بن علي بن أحمد بن مروانالعمراني الخوارزمي أبو الحسن الأديب، يلقب حجة الأفاضل وفخر المشايخ، مات فيما يقارب سنة ستين وخمسمائة. ذكره أبو محمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم من خطه فقال: العمراني حجة الأفاضل سيد الأدباء، قدوة مشايخ الفضلاء، المحيط بأسرار الأدب، والمطلع على غوامض كلام العرب، قرأ الأدب على فخر خوارزم محمود بن عمر الزمخشري فصار أكبر أصحابه، وأوفرهم حظاً من غرائب آدابه، لا يشق غباره في حسن الحظ واللفظ، ولا يسمح عذاره في كثرة السماع والحفظ، سمع الحديث من فخر خوارزم والإمام عمر الترجماني ولد الإمام أبي الحسن علي بن أحمد المخي، والإمام الحسن بن سليمان الخجندي، والقاضي عبد الواحد الباقرجي وغيرهم، وكان ولوعاً بالسماع كتوباً، وجعل في آخر عمره أيامه مقصورة وأوقاته موقوفة على نشر العلم وإفادته لطالبيه، وإفاضته على الراغبين فيه. فحول العلماء يرجعون إليه ويقرؤون عليه، ويفزعون في حل المشكلات وشرح المعضلات إليه، وهو مع العلم الغزير والفضل الكثير علم في الدين والصلاح المتين، وإنه في الزهادة والسداد وحسن الاعتقاد أطهر أقرانه ذيلاً من العيوب، وأنقاهم جيباً عن اقتراف الذنوب، وكان يذهب مذهب الرأي والعدل، وله شعر حسن، فمن قوله في صباه في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يعارض قصيدة كعب ابن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
أضاء برق وسجف الليل مسدول ... كما يهز اليماني وهو مصقول
فهاج وجدي بسعدي وهي نائية ... عني وقلبي بالأشواق متبول
لم يبق لي مذ تولى الظعن باكرة ... صبر، ولم يبق لي قلب ومعقول

مهما تذكرتها فاض الجمان على ... خدي حتى نجاد السيف مبلول
ما أنس لا أنس إذ تجلو عوارضها ... والجفن بالإثمد الهندي مكحول
ظمأى الموشح ريان مخلخلها ... عيل مؤزرها والمتن مجدول
كأنما هي إذ ترخى ذوائبها ... بدر عليها رواق الليل مسدول
كأنما ثغرها در إذا ابتسمت ... وريقها سحراً بالراح معلول
يا حبذا زمن فيه نسر بها ... والشعب ملتئم والحبل موصول
ومنها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
هدى إلى دين إبراهيم أمته ... وكلهم بعقال الشرك معقول
وكل أصحابه أهوى وأمنحهم ... ودي، ومبغضهم في الدين مدخول
وصاحب المصطفى في الغار يتبعه ... وهو الذي ماله في الله مبذول
وتلوه عمر الفاروق أزهر، إن ... رآه إبليس ولى وهو مخذول
وأفتدي بابن عفان الذي فريت ... أوداجه وهو بالقرآن مشغول
وبالوصي ابن عم المصطفى فله ... مناقب جمة في شرحها طول
وإن أقضاهم قد كان أفضلهم ... فانظر فذا عن رسول الله منقول
محبتي لهم ديني ومعتقدي ... فإن أزغ عنهم غالتني الغول
ولهذا الإمام أشعار من هذا النمط ترك الكاغد أبيض حير من تسويده بها، وله تصانيف حسان منها: كتاب المواضع والبلدان، كتاب في تفسير القرآن، كتاب اشتقاق الأسماء.
ومن شعره الذي أورده لنفسه في كتاب البلدان:
رأيتك تدعي علم العروض ... كأنك لست منها في عروض
فكم تزري بشعر مستقيم ... صحيح في موازين العروض
كأنك لم تحط مذ كنت علماً ... بمخبون الضروب ولا العروض
علي بن محمد أبو الحسن السخاويوسخا قرية من قرى مصر، كان مبدؤه الاشتغال بالفقه على مذهب مالك بمصر، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي وسكن بمسجد بالقرافة يؤم فيه مدة طويلة، فلما وصل الشيخ أبو القاسم الشاطبي إلى تلك الديار واشتهر أمره، لازمه مدة وقرأ عليه القرآن بالروايات، وتلقن منه قصيدته المشهورة في القراءات، وكان يعلم أولاد الأمير ابن موسك، وانتقل معه إلى دمشق واشتهر بها بعلم القرآن، وعاود قراءة القرآن على تاج الدين أبي اليمن الكندي ولازمه، وقرأ عليه جملة وافرة من سماعاته في الأدب وغيره، وصار له حلقة بالجامع بدمشق، وتردد إليه الناس للتأدب وشرع في التصنيف، فله كتاب الوحيد في شرح القصيد يريد قصيدة الشاطبي، وبسط القول وطول في مجلدتين، كتاب شرح المفصل، كتاب في تفسير القرآن، وكتبت هذه الترجمة في سنة تسع عشرة وستمائة وهو بدمشق كهل يحيا.
علي بن محمد بن علي الفصيحيأبو الحسن، من أهل أستراباذ وهي مدينة من طبرستان ورأس قصبتها، قرأ النحو على عبد القاهر الجرجاني، وأخذ عنه أبو نزار النحوي والحيص بيص الشاعر.
ومات فيما ذكره السلفي الحافظ يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة، وقدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته، ودرس النحو بالناظمية بعد الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، ثم اتهم بالتشيع فقيل له في ذلك، فقال: لا أجحد، أنا متشيع من الفرق إلى القدم فأخرج من النظامية، ورتب مكانه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، فكان المتعلمون يقصدون داره التي انتقل إليها للقراءة عليه فقال لهم يوماً: داري بكرا، وخبزي بشرا، وقد جئتم تتدحرجون إلي، فاذهبوا إلى من عزلنا به.
وسمي بالفصيحي لكثرة دراسته كتاب الفصيح لثعلب وصار له به أنس، حتى أنه دخل يوماً على مريض يعوده، فقال شفاه، وسبق على لسانه: وأرخيت الستر، لاعتياده كثرة إعادته.
وقد روى الفصيحي عن أبي الحسن الخطيب الأقطع إنشاداً سمعه منه ابن سلفة الأصفهاني الحافظ ببغداد وقال: جالسته وسألته عن أحرف من العربية. وروى عنه في مشيخة بغداد وهو الذي عرفنا أن اسم أبيه محمد، وإلا فلا يعرف إلا بعلي بن أبي زيد الفصيحي فقط.
قرأت في كتاب سرعة الجواب ومداعبة الأحباب تصنيف الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل بخطه: أنشدني الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أبي زيد الفصيحي وقد عاتبته على الوحدة فقال:

الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسن جميل
أصبحت مستوراً معا ... فى بين أنعمه أجول
خلواً من الأحزان خف ... ف الظهر يقنعني القليل
حراً فلا من لمخ ... لوق علي ولا سبيل
لم يشقني حرص على الد ... دنيا ولا أمل طويل
سيان عندي ذو الغنى ال ... متلاف والرجل البخيل
ونفيت باليأس المنى ... عني فطاب لي المقيل
والناس كلهم لمن ... خفت مئونته خليل
ومن كتابه أنشدنا الإمام أبو الحسن علي بن أبي زيد في المذاكرة وقد رقي إليه كلام قبيح عن بعض أصدقائه فقال مستشهداً:
إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صرماً ومل الصفاء أو قطعا
لا أحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا
أهجره ثم ينقضي زمن ال ... هجران عنا ولم أقل قذعا
إحذر وصال اللئيم إن له ... عضهاً إذا حبل ذكره انقطعا
وقرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب، قال الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد وقد جرى ذكر الشيخ أبي الحسن ابن أبي زيد الأستراباذي المعروف بالفصيحي صاحب عبد القاهر الجرجاني - رحمهم الله - ، قال لي الشيخ أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي - رحمه الله - : إنه حضر معه أعني الفصيحي حلقة يباع فيها الكتب، فنودي على كتاب فيه شيء من مصنفات أبي طالب المفضل بن سلمة بن عاصم وراق الفراء وعليه اسم المفضل منسوباً إلى النحو، فقيل النحوي، فأخذه الفصيحي وناولنيه، يقوله أبو زكريا. وقال لي كلمستهزئ: النحوي، أي قد نسبته إلى النحو وهو عنده مقصر أي لا يستحق هذا الوصف. قال: فقلت: تكون أنت نحوياً ولا يكون المفضل منسوباً إلى النحو.
قال الشيخ أبو محمد: لا شبهة في أن الذي حمل الفصيحي على الغض بهذا القول من المفضل: أنه قد وقف على شيء من كلامه في بعض مصنفاته مما يتسمح به أهل الكوفة مما يراه أهل البصرة خطأ أو كالخطأ، وذاك مما لا يحتمله الفصيحي ولا شيخه عبد القاهر، ولا شيخه ابن عبد الوارث أبو الحسين فيغضوا عليه، لأن طريقتهم التي يسلكونها في الصناعة منحرفة عن طريقة المفضل ومن جرى في أسلوبه كل الانحراف.
قال الشيخ أبو محمد بن الخشاب: وعلي أنني قرأت أنا بخط المفضل في كتابه الذي سماه البارع في الرد على كتاب العين في اللغة أشياء تدل على قصوره في الصناعة وضعفه في قياسها، منها: أنه ذكر الحروف التي جاءت لمعان بعد أن ذكر أبنية الكلام فقال: والحد الثالث من الكلام الأحداث، وهي التي يسميها أهل البصرة حروف المعاني، فيها ما هو على ثلاثة أحرف نحو إن وليت وكيف وأين، فعد كما ترى كيف وأين في حروف المعاني وهذا سهل عندهم، ثم قال: ومنها ما هو على أربعة أحرف نحو حاشا ولولا، ومنها ما هو على خمسة أحرف نحو ما خلا وما عدا. وجعله الحرفين مع ما واحداً، وعده لهما فيما بني من أصول الكلم على خمسة أحرف من أفحش الخطأ وأنزله، ولو وفق لذكر لكن ومثل بها، فليس في حروف المعاني ما هو على خمسة أحرف سوى لكن. ومرت بي فيما قرأته بخطه أشياء غير هذا تجري في التسمح مجراه.

قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: كان أبو الحسن علي بن أبي زيد الأستراباذي المعروف بالفصيحي يوقل في الشجة التي تعرف عندهم بالمنقلة، وهي التي تنقل منها العظام إنها المنقله بكسر القاف، ويرى كونها على صيغة الفاعل لا المفعول هو الوجه، ولا يجيز غيره ويقول: الشجاج كلها إنما جاءت على صيغة الفاعل كالحارسة والدامية والدامعة والدامغة والباضعة والمتلاحمة والموضحة والمفرشة وأشباههن. قال: وكذا ينبغي أن تكون المنقلة بكسر القاف وكأنها عنده رواية عضدها قياس. قال: وكان شيخنا موهوب بن أحمد رضي الله عنه ينعى ذلك عليه ويعده تصحيفاً ويضبط اللفظة بفتح القاف على أنها صيغة مفعول ويكتب فوق القاف ما هذه صورته: فتح. ويقول: أي قياس مع الرواية هذا؟ وهي تنقل منها العظام فيتعلق أيضاً بالتفسير، ولعمري إن الأشهر فيها الفتح وهذا ذكره أبو عبيد وابن السكيت عن الأصمعي. قال: ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظام، وكان شيخنا موهوب رحمه الله يرى الكسر في قاف المنقلة تصحيفاً محضاً لا وجه له، على أن أبا محمد ابن درستويه قد حكى عنه الكسر كما قال الفصيحي.
قال: وقرأت بخط العبدري وأخبرني به في كتابه قال: سمعت محمد بن العال اللغوي يقول: رويت بالوجهين معاً. وحكى العبدري الكسر عن ابن درستويه أيضاً، ولست أدري هل تعلق الفصيحي فيما ذهب إليه بقول ابن درستويه أو غيره ممن لعله حكى الكسر أم لا؟ وهل رغب شيخنا موهوب عن الكسر بعد أن علم أنه قد حكي ولم يعتد بمكانة من حكاه أم لا؟ والأشبه أنه لا يكون بلغه، فإنه قلما كان يدفع قولاً لمتقدم ولو ضعف. وأنا أقول: إن النزاع في هذه اللفظة وشبهها المرجع فيه إلى محض الرواية عنهم، والمعول في ذلك على ما يضبطه الإثبات فيها، وقد قدمت أن من المشهور فيها الفتح كما قال شيخنا موهوب، ولا حجة له في أنهم فسروها بأنها تخرج منها العظام وتنقل، فإنا لو خلينا وهذا الحجاج ووكلنا في إثبات لغة الفتح إليه لكان للخصم أن يقول: إن الشجة وهي الضربة التي أدت إلى نقل العظام فهي المنقلة لأنها حملة على المنقل، ولا حجة لشيخنا الفصيحي أيضاً مع اشتهار الفتح فيها في حمله إياها على الفاعل من نظائرها، لأنهم قالوا في الآمة: المأمومة كما قال يصف ضربة:
يحج مأمومة في قعرها لجف ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
على أنه يمكن أن يتأول المأمومة على معنى: يحج هامة مأمومة، وقد قالوا في المشجوج نفسه مأموم وأميم، والظاهر أنه أراد الشجة، وقد جاء في الشجاج ما ليس على صيغة فاعل ولا مفعول السمحاق، فهل هذه إلا محض رواية في التسمية؟ وإن كان منقولاً، فاعرف ما قال شيخانا - رحمهما الله - وقلناه، ومن الله عز وجل نستمد التوفيق.
ومن خط ابن المتوكل: حدثني الشيخ الإمام الفصيحي قال: رأيت بعض الموسوسين في المارستان وفي إبهامه أثر الحناء دون أصابعه فقلت له: ما معنى الحناء في الإبهام دون سائر الأصابع؟ فأنشدني:
وخاضبة إبهامها دون غيره ... رأتني وقد أعيا علي تصبري
فقلت لها: الإبهام ما اسم خضابه ... فقالت: يسمى عضة المتفكر
علي بن محمد بن علي بن السكونالحلي أبو الحسن، من حلة بني مزيد بأرض بابل، كان عارفاً بالنحو واللغة، حسن الفهم جيد النقل، حريصاً على تصحيح الكتب، لم يضغ قط في طرسه إلا ما وعاه قلبه، وفهمه لبه، وكان يجيد قول الشعر. وحكى لي عنه الفصيح ابن علي الشاعر أنه كان نصيرياً. قال لي: ومات في حدود سنة ستمائة، وله تصانيف.
علي بن محمد بن يوسف بن خروفالأندلسي الرندي النحوي، مشهور في بلاده مذكور بالعلم والفهم، مات فيما أخبرني به الفقيه شمس الدين أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الغماري غيلة في سنة ست وستمائة بإشبيلية عن خمس وثمانين سنة، وكان قد تغير عقله حتى مشى في الأسواق مكشوف الرأس والعورة، وأخذ النحو عن الأستاذ أبي الحسن بن طاهر المعروف بالخدب صاحب الحواشي على كتاب سيبويه بمدينة فارس، وكان ابن خروف خياطاً إذا اكتسب منها شيئاً قسم ما يحصل له نصفين بينه وبين أستاذه، وكان في خلقه زعارة وسوء عشرة، ولم يتزوج قط، وكان يسكن الخانات.

قال: وحدثني ببدء اشتغاله أبو القاسم عبد الرحمن بن يخلف السلاوي - مدينة بالعدوة من المغرب - ، قال: إنه أول يوم دخل على أبي طاهر شكا إليه الفقر وقال: إنك لتأخذ مني أكثر مما تأخذ من الأعيان. فقال: شرك أعظم من شرهم علي في المجلس، وكان يأمرني بنقل الماء إلى المسجد إذا احتاج إلى استعماله فأقول له في ذلك فيقول: لا أحب أن تجلس بغير شغل، ولم يتخذ بلداً موطناً بل كان ينتقل في البلاد في طلب التجارة، وله تصانيف منها: كتاب شرح سيبويه حمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وله كتاب شرح الجمل في جلد واحد.
علي بن معقل أبو الحسنذكره الحبال في كتاب الوفيات فقال: أبو الحسن بن معقل الأديب الكاتب صاحب أبي علي الفارسي ولم يذكر اسمه، فكتبته أنا كما ترى بالوهم إلى أن يصح، قال: مات في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
علي بن المغيرة الأثرم أبو الحسنكان صاحب كتب مصححة قد لقي بها العلماء وضبط ما ضمنها، ولك يكن له حفظ، لقي أبا عبيدة والأصمعي وأخذ عنهما، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وهي السنة التي مات فيها الواثق، وله من الكتب: كتاب النوادر، كتاب غريب الحديث.
وحدث أبو مسحل عبد الوهاب قال: كان إسماعيل بن صبيح الكاتب قد أقدم أبا عبيدة من البصرة في أيام الرشيد إلى بغداد، وأحضر الأثرم وهو يومئذ وراق وجعله في دار من دوره وأغلق عليه الباب ودفع إليه كتب أبي عبيدة وأمره بنسخها، فكنت أنا وجماعة من أصحابنا نصير إلى الأثرم فيدفع إلينا الكتاب والورق الأبيض من عنده، ويسألنا نسخه وتعجيله ويوافقنا على الوقت الذي نرده إليه فكنا نفعل ذلك، وكان الأثرم يقرأ على أبي عبيدة، وكان أبو عبيدة من أضن الناس بكتبه، ولو علم ما فعله الأثرم لمنعه من ذلك، وكان الأثرم يقول الشعر، فمن قوله:
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى ... وكل امرئ يبلى إذا عاش ما عشت
أقول وقد جاوزت تسعين حجة: ... كأن لم أكن فيها وليداً وقد كنت
وأنكرت لما أن مضى جل قوتي ... وتزداد ضعفاً قوتي كلما زدت
كأني إذا أسرعت في المشي واقف ... لقرب خطى ما مسها قصراً وقت
وصرت أخاف الشيء كان يخافني ... أعد من الموتى لضعفي وما مت
وأسهر من برد الفراش ولينه ... وإن كنت بين القوم في مجلس نمت
علي بن منجب بن سليمان الصيرفيأبو القاسم أحد فضلاء المصريين وبلغائهم، مسلم ذلك له غير منازع فيه، وكان أبوه صيرفياً واشتهى هو الكتابة فمهر فيها، مات في أيام الصالح بن رزيك بعد خمسين وخمسمائة وقد اشتهر ذكره وعلا شأنه في البلاغة والشعر والخط، فإنه كتب خطاً مليحاً وسلك فيه طريقة غريبة، واشتغل بكتابة الجيش والخراج مدة، ثم استخدمه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المصريين في ديوان المكاتبات ورفع من قدره وشهره، ثم إنه أراد أن يعزل الشيخ ابن أبي أسامة عن ديوان الإنشاء ويفرد ابن الصيرفي به، واستشار في ذلك بعض خواصه ومن يأنس به فقال له: إن قدرت أن تفدي ابن أبي أسامة من الموت يوماً واحداً بنصف مملكتك فافعل ذلك، ولا تخل الدولة منه فإنه جمالها، فأضرب عن ابن الصيرفي ومات الأفضل، وخدم المسمى بالخلافة بمصر، ولابن الصيرفي من التصانيف: كتاب الإشارة فيمن نال رتبة الوزارة، كتاب عمدة المحادثة، كتاب عقائل الفضائل، كتاب استنزال الرحمة، كتاب منائح القرائح، كتاب رد المظالم، كتاب لمح الملح، كتاب في السكر، وله غير ذلك من التصانيف، وله اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج، وأبي العلاء المعري وغيرهما. ومن شعره قوله:
لما غدوت مليك الأرض أفضل من ... جلت مفاخره عن كل إطراء
تغايرت أدوات النطق فيك على ... ما يصنع الناس من نظم وإنشاء
وله:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته ... إلا أخو الحرب والجرد السلاهيب
يطوي حشاه إذا ما الليل عانقه ... على وشيج من الحظي مخضوب
وله:
هذي مناقب قد أغناه أيسرها ... عن الذي شرعت آباؤه الأول
قد جاوزت مطلع الجوزاء وارتفعت ... بحيث ينحط عنها الحوت والحمل

ولابن الصيرفي رسائل أنشأها عن ملوك مصر تزيد على أربع مجلدات.
علي بن منصور بن عبيد الله الخطيبيالمعروف بالأجل اللغوي يكنى أبا علي، الأصبهاني الأصل بغدادي المولد والمنشأ، عالم فاضل لغوي فقيه كاتب مقيم بالنظامية، قرأ على ابن القصار وأبي البركات الأنباري وغيرهما، وتفقه على مذهب الشافعي بالنظامية ولا أعلم له في زمانه نظيراً في علم اللغة، فإنه حدثني أنه كان في صباه يكتب كل يوم نصف جزء خمس قوائم من كتاب مجمل اللغة لابن فارس ويحفظه ويقرؤه على علي بن عبد الرحيم السلمي المعروف بابن القصار، حتى أنهى الكتاب حفظاً وكتابة، وحفظ إصلاح المنطق في أيسر مدة، وحفظ غير ذلك من كتب اللغة والفقه والنحو، وطالع أكثر كتب الأدب، وهو حفظة لكثير من الأشعار والأخبار، ممتع المحاضرة إلا أنه لا يتصدى للإقراء، ولقد سألته في ذلك وخضعت إليه بكل وجه فلم ينقد لذلك، ولا يكاد أحد يراه جالساً وإنما هو في جميع أوقاته قائم على رجله في النظامية، ولو جلس للإقراء لأحيا علوم الأدب، ولضربت إليه آباط الإبل في الطلب، بلغني أن مولده سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
أنشدني أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الستجاوي يعرف بابن ذنابة قال: أنشدني الأجل علي بن منصور اللغوي لنفسه:
فؤاد معنى بالعيون الفواتر ... وصبوة باد مغرم بالحواضر
سميران ذادا عن جفون متيم ... كراها وباتا عنده شر سامر
وأنشدني قال أنشدني لنفسه:
لمن غزال بأعلى رامة سنحا؟ ... فعاود القلب سكر كان منه صحا
مقسم بين أضداد فطرته ... جنح وغرته في الجنح ضوء ضحا
علي بن منصور بن طالب الحلبيالملقب دوخلة يعرف بابن القارح، وهو الذي كتب إلى أبي العلاء رسالة مشهورة تعرف برسالة ابن القارح، وأجابه عنها أبو العلاء برسالة الغفران، يكنى أبا الحسن. قال ابن عبد الرحيم: هو شيخ من أهل الأدب شاهدناه ببغداد، راوية للأخبار وحافظاً لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار قئوماً بالنحو، وكان ممن خدم أبا علي الفارسي في داره وهو صبي، ثم لازمه وقرأ عليه على زعمه جميع كتبه وسماعاته، وكانت معيشته من التعليم بالشام ومصر، وكان يحكي أنه كان مؤدباً لأبي القاسم المغربي الذي وزر ببغداد، لقاه الله سيئ أفعاله كذا قال.
وله فيه هجو كثير، وكان يذمه ويعدد معايبه، وشعره يجري مجرى شعر المعلمين، قليل الحلاوة خالياً من الطلاوة، وكان آخر عهدي به بتكريت في سنة إحدى وستين وأربعمائة فإنا كنا مقيمين بها، واجتاز بنا وأقام عندنا مدة ثم توجه إلى الموصل، وبلغتني وفاته من بعد، وكان يذكر أن مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. ولم يتزوج ولا أعقب، وجميع ما أورده من شعره مما أنشدنيه لنفسه، فمنه في الشمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي طول ما ألقى وما أتوقع
نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
ومنه في هجو المغربي:
لقبت بالكمال ستراً على ... نقصك كالباني على الخص
فصرت كالكنف إذا شيدت ... بيض أعلاهن بالجص
ياعرة الدنيا بلا غرة ... ويا طويس الشؤم والحرص
قتلت أهليك وأنهبت بي ... ت الله بالموصل تستعصي
وله في المداعبة:
أين من كان موضع الأير إجلا ... لاً على الرأس عنده ويباس؟
أين من كان عارفاً بمقادي ... ر الأيور الكبار مات الناس؟
وله:
يا رمحها العسال بل يا سيفها ال ... قصال نارك ليس تخبو
يا عاقد المنن الرغا ... ب على الرقاب لهن سحب
كفروك ما أوليتهم ... والرب يشكر ما ترب
وسئل أن يجيز قول الشاعر:
لعل الذي تخشاه يوماً به تنجو ... ويأتيك ما ترجوه من حيث لا ترجو
فقال:
فثق بحكيم لا مرد لحكمه ... فما لك في المقدور دخل ولا خرج
وكان بينه وبين الكسروي مهاترة ومهاجاة ومماظة، فمن قوله:
إذا الكسروي بدا مقبلاً ... وفي يده ذيل دراعته
وقد لبس العجب مستنوكاً ... يتيه ويختال في مشيته

فلا يمنعنك بأواؤه ... ضراطاً يقعقع في لحيته
وله:
الصيمري دقيق الفكر في اللقم ... يقول كم عندكم لوناً وكم وكم؟
يسعى إلى من يرى إكثاراه وكذا ... نراه ذاك وما هاذاك من عدم
يلقى الوعيد بما يلقى البشوش به ... وذاك والله بخل ليس بالأمم
قال: وحدثني قال: كنت أؤدب ولدي الحسين بن جوهر القائد بمصر، وكانا مختصين بالحاكم وآنسين به، فعملت قصيدة وسألت المسمى منهما جعفراً - وكان من أحسن الناس وجهاً ويقال: إن الحاكم كان يميل إليه - أن يوصلها ففعل وعرضها علي فقال: من هذا؟ فقال: مؤدبي. قال: يعطى ألف دينار. واتفق أن المعروف بابن مقشر الطبيب كان حاضراً فقال: لا تثقلوا على خزائن أمير المؤمنين، يكفيه النصف، فأعطيت خمسمائة دينار. وحدثني ابن جوهر بالحديث، وكانت القصيدة على وزن منهوكة؟ أبي نواس أقول فيها:
إن الزمان قد نضر ... بالحاكم الملك الأغر
في كفه عضب ذكر ... فقد عدا على القصر
من غره على الغرر ... يمضي كما يمضي القدر
في سرعة الطرف نظر ... أو السحاب المنهمر
بادر إنفاق البدر ... بدر إذا لاح بهر
وهي طويلة، واتفق أن الطبيب المذكور لحقته بعد هذا بأيام شقفة وهي التي تسمى التراقي، ويقال لها قملة النسر، فمات منها وكان نصرانياً فقلت:
لما غدا يستخف رضوى ... تيهاً وكبراً لجهد ربه
أصماه صرف الردى بسهم ... عاجله قبل وقت نحبه
بشقفة بين منكبيه ... رشاؤها في قليب قلبه
علي بن مهدي بن علي بن مهدي الكسرويأبو الحسن الأصفهاني، معلم ولد أبي الحسن علي بن يحيى بن المنجم وأحد الرواة العلماء النحويين الشعراء، مات في أيام بدر المعتضدي على أصبهان. قال حمزة: علي بن مهدي الكسروي وهو ابن أخت علي بن عاصم بن الحريس، وكان متصلاً ببدر المعتضدي، وفي أيامه مات يعني أيامه على أصبهان، وكان قد ولى أصبهان. سنة ثلاث وثمانين ومائتين أيام المعتضد إلى أن ولي ابنه المكتفي سنة تسع وثمانين ومائتين، قال ابن أبي طاهر: وكان الكسروي أديباً ظريفاً حافظاً راوية شاعراً عالماً بكتاب العين خاصة، وكان يؤدب هارون بن علي بن يحيى النديم، واتصل بأبي النجم المعتضدي مولى المعتضد وتوفي في خلافته، وذكره المرزباني فقال: حدثني علي بن هارون عن أبيه وعمه قالا: كان أبو الحسن علي بن يحيى ابن المنجم جالساً يوماً وبحضرته من لا يخلو مجلسه منه من الشعراء كأحمد بن أبي طاهر، وأحمد بن أبي فنن وأبي علي البصير، وأبي هفان المهومي والهدادي، وهو ابن عمه أي أبي هفان، وابن العلاف، وأبي الطريف، وأحمد بن أبي كامل خال ولد أبي الحسن، وعلي بن مهدي الكسروي وكان معلم ولده، فأنشد الجماعة بيتاً ذكر أنه مر به مفرداً فاستحسنه وأحب أن يضاف إليه بيت آخر يصل معناه ويزيد في الإمتاع به وهو:
ليهنك أني لم أجد لك عائباً ... سوى حاسد والحاسدون كثير
فبدره علي بن مهدي من بين الجماعة وقال:
وإنك مثل الغيث أما وقوعه ... فخصب وأما ماؤه فطهور
فاستحسنه أبو الحسن وضمه إلى البيت الأول، وكان أبو العبيس بن حمدون حاضراً فقال له: الصنعة فيهما عليك، فطلب عوداً وانفرد فصنع فيه رمله المشهور. وحدث عن الصولي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي الأصبهاني:
وما نازح يالصين أدنى محله ... يقصر عنه كل ماش وطائر
محا اليأس منه كل ذكر فلم تكد ... تصوره للقلب أيدي الخواطر
بأبعد عندي من أناس وإن دنوا ... وما البعد إلا مثل طول التهاجر
ويشغل عني القصف والراح بعضهم ... مباكرها أو ممسياً كمباكر
إذا طار بين العود والناي طيرة ... فليس لإخوان الصفا بذاكر
قال: فأجابه علي بن مهدي:
أيا سيدي عفواً وحسن إقالة ... فلم يحو أقطار العلا مثل غافر
لعمري لو أن الصين أدنى محلتي ... لما كنت إلا غائباً مثل حاضر
ثنائي لكم عمري ومحض مودتي ... تؤثر آثار الغيوث البواكر

فوالله ما استبهجت بعدك مجلساً ... ولا بقيت لذاته في ضمائري
ولست كمن ينسيه أهل صفائه ... سماع الحسان واصطحاب المزاهر
وكيف تناسى سيد لي ثناؤه ... منوط بأحشائي وسمعي وناظري
وحدث عن عبد الله بن يحيى العسكري عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي الكسروي:
يا باخلاً بكتابه ورسوله ... أأردت تجعل في الفراق فراقاً؟
إن العهود تموت إن لم تحيها ... والنأي يحدث للفتى إخلاقاً
قال: فكتب إليه علي بن مهدي:
لا والذي أنت أسنى من أمجده ... عندي وأوفاهم عهداً وميثاقاً
ما حلت عن خير ما قد كنت تعهده ... ولا تبدلت بعد النأي أخلاقاً
وحدث عن علي عن عبد الله بن المعتز قال: كتب إلى علي بن مهدي الكسروي في يوم مهرجان:
نعمت بما تهوى ونلت الذي ترضى ... ولقيت ما ترضى ووقيت ما تخشى
ولست بما ألقى من الخير كله ... أسر، وأحظى سيدي بالذي تلقى
ويعلم علام الخفيات أنني ... أعدك ذخراً للممات وللمحيا
وأني لو أهدي على قدر نيتي ... لكان الذي أهديه حظي من الدنيا
وحدث عن العسكري عن ابن سعيد الدمشقي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي:
أبا حسن أنت ابن مهدي فارس ... فرفقاً بنا لست ابن مهدي هاشم
وأنت أخ في يوم لهو ولذة ... ولست أخاً عند الأمور الأعاظم
فأجابه علي:
أيا سيدي إن ابن نهدي فارس ... فداء ومن يهوى لمهدي هاشم
بلوت أخاً في كل أمر تحبه ... ولم تبله عند الأمور الأعاظم
وإنك لو نبهته لملمة ... لأنساك صولات الأسود الضراغم
قال: وقال محمد بن داود: ان علي بن مهدي يؤدب وهو أحد الرواة للأخبار وهو القائل:
ولما أبى أن يستقيم وصلته ... على حالتيه مكرهاً غير طائع
حذاراً عليه أن يميل بوده ... فأبلى بقلب. لست عنه بنازع
فأصبح كالظمآن يهريق ماءه ... لضوء سراب في المهامه لامع
فلا الماء أبقى للحياة ولا أتى ... على منهل يجدي عليه بنافع
وله:
ومودع يوم الفراق بلحظه ... شرق من العبرات ما يتكلم
متقلب نحو الحبيب بطرفه ... لا يستطيع إشارة فيسلم
نطق الضمير بما أرادا عنهما ... وكلاهما مما يعاين مفحم
وقال علي بن مهدي يصف العود:
تجري أصابعها على ... ذي منطق أعمى بصير
خرس أصم ونحن من ... نجواه في دهر قصير
فدم صموت ليس يع ... رف ما القبيل من الدبير
ميت ولكن الأكف ... ف تذيقه طعم النشور
وكأنه في حجرها ... طفل تمهد حجر ظير
يومي إليه بنانها ... فتريك ترجمة الضمير
فيرى النفوس معلقا ... ت منه في بم وزير
فإذا لوت آذانه ... جاز الأنين إلى الزفير
قالت له: قل مطرباً ... وعظتك واعظة القتير
فأجابها من حجرها ... وعلتك أبهة الكبير
وله من الكتب: كتاب الخصال وهو مجموع يشتمل على أخبار وحكم وأمثال وأشعار، كتاب مناقضات من زعم أنه لا ينبغي أن يقتدي القضاة في مطامعهم بالأئمة الخلفاء، وقد عزي هذا الكتاب إلى الكسروي الكاتب، كتاب الأعياد والنوازير، كتاب مراسلات الإخوان ومحاورات الخلان وقال الكسروي في ضرطة وهب بن سليمان:
إن وهب بن سليما ... ن بن وهب بن سعيد
حمل الضرط إلى الر ... رى على ظهر البريد
في مهمات أمور ... منه بالركض الشديد
إسته ينطق يوم الحف ... ل بالأمر الرشيد
لم يجد في القول فاحتا ... ج إلى دبر مجيد

ومن كتاب أصبهان: قال هارون بن علي بن يحيى: اجتمعنا مع أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر عند علي بن مهدي، فلما أردنا الانصراف أنشأ أبو الفضل يقول:
لولا علي بن مهدي وخلته ... لما اهتدينا إلى ظرف ولا أدب
إذا سقي مترع الكاسات أوهمنا ... بأن غلماننا خير من العرب
علي بن نصر النصراني يعرف بابن الطبيبأبو الحسن الكاتب، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان أديباً مصنفاً مات في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وله عدة كتب قال: وكان يذاكرني بها وأحسبه لم يتمم أكثرها، فمن كتبه: كتاب البراعة، كتاب صحبة السلطان أكثر من ألف ورقة، كتاب إصلاح الأخلاق محو من ألف وخمسمائة ورقة يشتمل على حكم وأمثال.
علي بن نصر بن سليمان الزنبقي اللغويأبو الحسن أحد الأدباء، رأيت بخطه كتباً أدبية لغوية ونحوية فوجدته حسن الخط متقن الضبط، وكان مقامه بمصر ولعله من أهلها، قرئ عليه كتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري بجامع مصر في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتبأبو تراب، ولد بعكبرا ونشأ بها، ثم انحدر بعد أن بلغ إلى بغداد، وقرأ الأدب والنحو على ابن برهان النحوي، ثم انحدر إلى البصرة وصار كاتباً لنقيب الطالبيين بها، وأقام بالكرخ وولى الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن مات، وكان من أهل الأدب والفضل، مولده في محرم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وابنه علي بن نصر بن سعد أبو الحسن بن أبي تراب، وكان كاتب نقيب الطالبيين أيضاً وكان شاعراً، ولد بالبصرة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، ومن شعر أبي تراب هذا:
حالي بحمد الله حال جيده ... لكنه من كل خير عاطل
ما قلت للأيام قول معاتب ... والرزق يدفع راحتي ويماطل
إلا وقالت لي مقالة واعظ: ... ألرزق مقسوم وحرصك باطل
علي بن نصر الفندورجيبن محمد بن عبد الصمد الفندورجي أبو الحسن الأسفرائيني، وفندورج قرية بنواحي نيسابور، سكن إسفرائين وكان يرجع إلى فضل وافر ومعرفة تامة باللغة والأدب وخط وبلاغة، وله شعر مليح رائق ويد باسطة في الكتابة والرسائل، ورد بغداد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وأقام بها مدة واقتبس من فضلائها، ورجع إلى خراسان وصار ينشئ الكتب عن ديوان الوزارة، وسئل عن مولده فقال: ولدت سنة تسع وثمانين وأربعمائة بنيسابور.
قال السمعاني ومات في حدود سنة خمسين وخمسمائة ومن شعره:
تحية مزن يتحف الروض سحرة ... بصوب الحيا في كل يوم عليكم
فجسمي معي لكن قلبي أكرموا ... بلطفكم مثواه فهو لديكم
قال السمعاني: أنشدني الفندورجي لنفسه:
سقى الله في أرض اسفرائين عصبتي ... فما تنتهي العلياء إلا إليهم
وجربت كل الناس بعد فراقهم ... فما زدت إلا فرط ضن عليهم
قال السمعاني: وأنشدني لنفسه ببلخ إملاء ونقلته من خطه:
قد قص أجنحة الوفاء وطار من ... وكر الوداد المحض والإخلاص
والحر في شبك الجفاء وماله ... من أسر حادثة رجاء خلاص
كان في آخر جزء بخط السمعاني ما صورته لكاتبه أبي الحسن الفندورجي:
حم الحبيب وآذاه السقام ولم ... أمت كما شاء سلطان الهوى حزنا
بأي عين إذا ما الوصل يجمعنا ... بالطالع السعد ألقى وجهه الحسن؟
والجفن مني دام لا يصافح إذمس الأذى منه تلك الروح والبدنا
وله أيضاً في المعنى نقلته من خطه:
حم الحبيب وما حم انفصالي عن ... روح وعن بدن يحيا بذكراه
بأي وجه إذا ما الوصل يجمعنا ... ومقلة أتلقاه وألقاه؟
وقرأت بخط أبي سعد، سمعت علب بن نصر النيسابوري مذاكرة بمرو يقول: كنت ببغداد فرأيت أهلها تستحسن هذه الأبيات التي لأبي إسماعيل المنشئ:
ذكرتكم عند الزلال على الظما ... فلم أنتفع من برده ببلال
فأنشأت قصيدة في نقيب النقباء أبي القاسم علي بن طراد الزينبي على هذا الروي أولها:
خليلي زمت للرحيل جمالي ... فقد ضاق في أرض العراق مجالي

وقوداً عتاقاً كالأهلة، إنما ... ديار الندى والمكرمات حوالي
وما أوجبت بغداد حقي وغادرت ... بلابل بعد الظاعنين ببالي
علي بن وصيف الملقب بخشكنانجة الكاتبمن أهل بغداد، وكان أكثر مقامه بالرقة ثم انتقل إلى الموصل وكان من البلغاء، وألف عدة كتب ونحلها عبدان صاحب الإسماعيلية، قال محمد بن إسحق النديم: وكان لي صديقاً وأنيساً ومات بالموصل، وله من الكتب: كتاب الإفصاح والتثقيف في الخراج ورسومه.
علي بن هبة الله بن ماكولاهو علي بن هبة الله بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمرو بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف بن جشم ابن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل بن قاسط بن هبت بن أفصى بن دغمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، أبو نصر المعروف بابن ماكولا، وهو ابن الوزير أبي القاسم هبة الله ابن ماكولا وزير جلال الدولة بن بويه، وكان عمه أبو عبد الله الحسن بن جعفر، قاضي القضاة ببغداد الحافظ - أصله من جرباذقان بلدة بين همدان وأصفهان - يلقب بالأمير من بيت الوزارة والقضاة والرياسة القديمة، كان لبيباً عارفاً عالماً، ترشح للحفظ حتى كان يقال له الخطيب الثاني. قال ابن الجوزي: سمعت شيخنا عبد الوهاب يقدح في دينه ويقول: العلم يحتاج إلى دين. صنف كتاب المختلف والمؤتلف، جمع فيه بين كتب الدارقطني وعبد الغني والخطيب، وزاد عليهم زيادات كثيرة، وكان نحوياً مجوداً، وشاعراً مبرزاً، جزل الشعر فصيح الكلام صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله، سمع أبا طالب بن غيلان، وأبا بكر بن بشران، وأبا القاسم بن شاهين، وأبا الطيب الطبري، وسافر إلى الشام والسواحل وديار مصر، والجزيرة والثغور الجبال، ودخل بلاد خراسان وما وراء النهر، وطاف في الدنيا وجول في الآفاق.
قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال المصري يمدح ابن ماكولا ويثني عليه ويقول: دخل مصر في زي الكتبة فلم نرفع له رأساً، فلما عرفناه كان من العلماء بهذا الشأن، ورجع إلى بغداد فأقام بها، ثم خرج إلى خوزستان فقتل هناك. كان في صحبته جماعة من مماليكه الأتراك.
قال ابن ناصر: قتل أبو نصر بن ماكولا بالأهواز من نواجي خوزستان، إما في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ومولده بعكبرا في شعبان من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ومن مستحسن شعره في التجنيس:
ولما تفرقنا تباكت قلوبنا ... فممسك دمع عند ذاك كساكبه
فيا نفسي الحرى البسي ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به
ومنه:
ترى زمني يدني سليمي فنلتقي؟ ... ونرجع بالشكوى الحديث المناهبا
وهيهات ما بعد الذي قد طلبته ... ومن غاير الأيام كان المناهبا
ومنه:
فؤاد ما يفيق من التصابي ... أطاع غرامه وعصى النواهي
وقالوا: لو تصبر كان يسلو ... وهل صبر يساعد والنواهي؟
ومنه:
أليس وقوفنا بديار هند ... وقد رحل القطين من الدواهي؟
وهند قد غدت داء لقلبي ... إذا صدت ولكن الدوا هي
ومنه:
وهيج أشواقي وما كنت سالياً ... بيبرين برق من ذرى الغور أومضا
ذكرت به عيش التصابي وطيبه ... ولست بتناسيه وإن عاد أو مضى
ومن شعره:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
وأرادت بذاك قبح صنيع ... فعلته فكان عين المليح
أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الدبيثي قال: أنشدنا عمر بن طبرزاد قال: أنشدني أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام قال: أنشدنا الأمير أبو نصر علي بن هبة الله لنفسه:
قوض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل مجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه الحطب

قرأت بخط أبي سعيد: أنبأنا أبو نصر يحيى بن خلف الخلقاني: أنبأنا أبو ثابت بنحير بن علي: أنبأنا أبو نصر ابن ماكولا الحافظ، أنشدنا أبو الفرج هبة الله بن الحسن بن محمد العسقلاني بها: أنشدنا أبو علي الحسن بن أحمد بن أبي الناس العسقلاني في صورتين كانتا على كنيسة تعرف بكنيسة ابن مريم على شرقي محملها، والكنيسة عند باب الصوارف بعسقلان:
لو ذقتما طعم العناق لغافصت ... شخصيكما الدنيا بوشك فراق
لم تغفل الأيام حالكما بها ... عمداً لترفيه ولا إشفاق
بل للأمور نهاية علقت بها ... حجزت أوامرها عن الطراق
فإذا انقضت أيامها عادت لها ... تلك الوقاحة أضيق الأطواق
وكأنني بالدهر قد أجراكما ... كبنيه تفريقاً بغير تلاقي
قال: فما مضى لهذا الشعر إلا سنة أو نحوها حتى أمر الحاكم بهدم الكنائس فهدمت، وهدمت هذه الكنيسة وأزيل الشخصان، فأنشدني لنفسه أبياتاً في ذلك يرثيهما بها:
طوبا كما من دميتين تعانقا ... وتفرقا من بعد طول عناق
طال اعتناقهما فما نعما به ... وكذاك ما ألما لوشك فراق
أجرتهما الدنيا بها إذ مثلت ... بمثابة الأولاد في الإشفاق
صانتهما عن كل طارق حادث ... عند الغروب ومبتدا الإشراق
حتى إذا بلغا نهاية موعد ... فلت عناقهما عن الأعناق
ومحت رسومهما كأن لم تمثلا ... للناظرين مرامي الأحداق
حسبي من الأيام معرفتي بها ... وتصرف الحدثان في الآفاق
قال شجاع بن فارس الذهلي: أنشدني الأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن ماكولا الحافظ لنفسه:
طالما ظالماً تجنى بحبي ... عاذ عاد عن فنه عن فيه
قال قال فاترك فأبرك هجر ... هجر حب خب نبيه بتيه
صاد صاداً علا علا مأحلا ... ما خلا من بلية من يليه
قال: وأنشدني الأمير لنفسه في الشمعة:
أقول وما لي مسعد غير شمعة ... على طول ليلي ما تريد نزوعا
كلانا نحيل ذو اصفرار معذب ... بنار أسالت من حشاه نجيعا
ألا ساعديني طول ليلك إننا ... سنفنى إذا جاء الصباح جميعا
قال أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي: ما راجعت أبا بكر الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب وقال حتى أبصره، وما راجعت الأمير أبا نصر علي بن هبة الله بن ماكولا في شيء إلا وأجابني حفظاً كأنه يقرأ من كتاب.
قال: وبلغ أبا بكر الخطيب أن ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه المؤتنف وصنف في ذلك تصنيفاً وحضر عنده ابن ماكولا وسأله الخطيب عن ذلك فأنكره ولم يتربه وقال: تنسبني الناس إلى ما لا أحسنه من الصنعة، واجتهد الشيخ أبو بكر أن يعترف بذلك، وحكى له ما كان من عبد الغني بن سعيد في تتبعه أوهام الحاكم أبي عبد الله في كتاب المدخل، وحكايات عدة من هذا المعنى. قال: أرني إياه، فإن يكن صوابا استفدته منك ولا أذكره إلا عنك، فأصر على الإنكار وقال: لم يخطر هذا ببالي قط ولم أبلغ هذه الدرجة، أو كما قال.فلما مات الخطيب أظهر كتابه، وهو الذي سماه كتاب تهذيب مستقر الأوهام على ذوي التمني والأحلام، أبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر أحمد بن علي الخطيب، وهو في عشرة أجزاء لطاف، وله من التصانيف سوى ما ذكرناه: كتاب الوزراء، كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف.
علي بن هارون بن نصر القرميسينيالنحوي أبو الحسن. أخذ عن علي بن سليمان الأخفش، وأخذا عنه عبد السلام البصري، ومات في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة في خلافة الطائع، ومولده في سنة تسعين ومائتين.
علي بن هارون بن علي

بن يحيى بن أبي منصور المنجم أبو الحسن. قد ذكرنا أباه هارون وأجداده في مواضعهم من الكتاب. قال محمد بن إسحاق النديم: رأيناه وسمعنا منه، وكان راوية شاعراً أديباً ظريفاً متكلماً حبراً، نادم جماعة من الخلفاء وقال لي: مولدي سنة سبع وسبعين ومائتين. وقال ثابت: مولده في صفر سنة ست وسبعين، ومات سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة عن ست وسبعين سنة، وله من الكتب: كتاب النوروز والمهرجان، كتاب الرد على الخليل في العروض، كتاب الرسالة في الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق بن الموصلي في الغناء، كتاب ابتدأ فيه بنسب أهله عمله للمهلبي الوزير ولم يتم، كتاب اللفظ المحيط ببعض ما لفظ به اللقيط عارض به كتاب أبي الفرج الأصبهاني، كتاب الفرق والمعيار بين الأوغاد والأحرار، كتاب القوافي عمله لعضد الدولة.
وحدث أبو القاسم إسماعيل بن عباد في كتاب الروزنامجة في مجلسه، وقد أعدوا قصيدتين في مدحه فمنعهما من النشيد لأحضره، فأنشدوا وجوداً بعد تشبيب كبير وحديث طويل.قال المؤتلف: أراه المهلبي، كان لأبي الحسن رسم - أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد أحب إلي من أن أحصل عنده في رتبة مقصر - يبتدئ فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من خود غلامه، منديل عبراته، والله والله وإلا فأيمان البيعة تلزمه بحلها وحرامها وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام، وعبيده أحرار لوجه الله تعالى إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو اتفق من عهد أبي داوود الإيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله، بل عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت.
وقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان يحمله، ويسود به شاعره ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً يعجب به ويتعجب منه. وقال أيها الوزير: من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون ابن علي بن يحيى بن أبي منصور بن المنجم جليس الخلفاء، وأنيس الوزراء؟ ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له، ويقول أبو عبد الله: أستودعه الله ولي عهدي، وخليفتي بعدي، ولو اشتجر اثنان من مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواه، أمتعنا الله به ورعاه، وحديثه عجيب. وإن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته، على أنه أيد الله مولانا من سعة النفس والخلق، و وفور الأدب والفضل وتمام المروءة والظرف بحال أعجز عن وصفها، وأزل عن جملتها، إنه مع كثرة عياله واختلال أحواله، وطلب سيف الدولة جاريته المغنية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه فامتنع من بيعها وأعتقها وتزوجها، ومن شعر علي بن هارون وكتب بها إلى أبي الحسن علي بن خلف بن طياب:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فربما ... يصل القطوع ويحضر الغياب
وإذا دنوت مواصلاً فهو المنى ... سعد المحب وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلل ... إلا رسول بالرضا وكتاب

وحدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي القاضي في نشوار المحاضرة قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن المنجم قال: حدثني أبي قال: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي وأجعلها غيناً وكانت سني إذ ذاك أربع سنين، أقل أو أكبر، فدخل أبو طالب الفضل ابن سلمة، أو أبو بكر الدمشقي - شك أبو الفتح - إلى أبي وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء فلثغت فيها، فقال له الرجل: يا سيدي، لم تدع أبا الحسن يتكلم هكذا؟ فقال له: ما أصنع وهو ألثغ؟ فقال له: - وأنا أسمع وأحصل ما جرى وأضبطه - إن اللثغة لا تصخ مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم لجهله بتحقيق الألفاظ وسماعه شيئاً يحتذيه، فإن ترك على ما يستصحبه من ذلك مرن عليه، فصار له طبعاً لا يمكنه التحول عنه، وإن أخذ بتركه في أول نشوه استقام لسانه وزال عنه، وأنا أزيل هذا عن أبي الحسن ولا أرضى فيه بتركك له عليه، ثم قال لي: أخرج لسانك، فأخرجته فتأمله وقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني را، واجعل لسانك في سقف حلقك، ففعلت ذلك فلم تستو لي، فما زال يرفق بي مرة ويخشى بي أخرى، وينقل لساني من موضع إلى موضع من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإن لم يستو لي نقل لساني إلى موضع آخر دفعات كثيرة في زمان طويل حتى قلت راء صحيحة في بعض تلك المواضع، وطالبني وأوصى معلمي بإلزامي ذلك حتى مرن لساني عليه، وذهبت عني اللثغة.
ومن كتاب الروزنامجة قال الصاحب: وتوفرت على عشرة فضلاء البلد، فأول من كارثني أولاد المنجم لفضل أبي احسن علي بن هارون وغزارته، واستكثاري من روايته وطيب سماعه ولذيذ عشرته. فسمعت منه أخباراً عجيبة وحكايات غريبة، ومن ستارته أصواتاً نادرة مشنفة مقرطقة يقول في كل منها:الشعر لفلان، والصنعة لفلان، أخذته هذه عن فلان، أو فلانة، حتى يتصل النسب بإسحاق أو غيره من أبناء جنسه، وكان أكثر ما يعجب به مولاها أبيات له أولها:
ضل الفراق ولا اهتدى ... ونأت فلا دنت النوى
وهوى فلا وجد القرا ... ر معنف أهل الهوى
فاتفق أن سألت أول ما سمعت اللحن فيه عن قائله، فغضب واستشاط، وتنكر واستوفز، ونفر وتنمر وقال: تقول لمن هذا؟ أما يدل على قائله؟ أما يعرب عن جوهره؟ أما ترى أثر بني المنجم على صفحته؟ أما يحميه لألاؤه أو لوذعيته من أن يدال بمن؟ وممن هذا الرجل؟ وذكره المرزباني في المعجم فقال المنجم: وهو القائل:
وإني لأثني النفس عما يريبها ... وأنزل من دار الهوان بمعزل
بهمة نبل لا يرام مكانها ... تحل من العلياء أشرف منزل
ولي منطق إن لجلج القول صائب ... بتكشيف إلباس وتطبيق مفصل
وله يمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
وهل خصلة من سؤدد لم يكن لها ... أبو حسن من بينهم ناهضاً قدما؟
فما فاتهم منها به سلموا له ... وما شاركوه كان أوفرهم قسماً
وفي كتاب أبي علي التنوخي: كان أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب خصيصاً بالوزير أبي علي بن مقلة وكان يعشق مغنية، وكان ينفق عليها جميع ما يتحصل له، وله معها أخبار، وكانت هذه الجارية صفراء واسمها لهجة فشرب معها ليلة وأصبح مخموراً فآثر الجلوس معها، وأراد الاعتذار إلى الوزير ابن مقلة من التأخر عن الخدمة وأن يخفي خبره عنه. فكتب رقعة يعتذر فيها ويقول: إن الصفراء تحركت علي فتأخرت، فوقع على ظهر الرقعة بخطه: أنت تحركت على الصفراء، وليست الصفراء تحركت عليك. قال: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا علي بن هارون المنجم لنفسه في جاريته صفراء، وقد شكا إلى الطبيب مرة صفراء، ولا أدري أيهما أخذه من صاحبه:
جس الطبيب يدي وقال مخبراً ... هذا الفتى أودت به الصفراء
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولاً وظاهر ما أراد خطاء
قلت أنا: وقريب من هذا قول الوزير المهلبي:
وقالوا للطبيب أشر فإنا ... نعدك للعظيم من الأمور
فقال شفاؤه الرمان مما ... تضمنه حشاه من السعير
فقلت: لهم أصاب بغير قصد ... ولكن ذاك رمان الصدور

وكان لعلي بن هارون ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، كان أديباً فاضلاً إلا أني لم أقف له على تصنيف فلم أفرده بترجمة والمقصود ذكره. وقد ذكر ها هنا، وروى عنه أبو علي التنوخي في نشواره فأكثر وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون لنفسه:
ما أنس منها لا أنس موقفها ... وقلبها للفراق ينصدع
وقولها إذ بدا الصباح لها ... قول فزوع أظله الجزع
ما أطول الليل عند فرقتنا ... وأقصر الليل حين نجتمع!!
قال التنوخي: وأنشدني أبو الفتح لنفسه وكتب بها إلى أبي الفرج محمد بن العباس - فسانجس - في وزارته وقد حمل على الأعداء في الأهواز:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
علي بن هلال الكاتبالمعروف بابن البواب أبو الحسن، صاحب الخط المليح والإذهاب الفائق. وجدت بخط ابن الشبيه العلوي الكاتب صاحب الخط الفائق في آخر ديوان أبي الطمحان القيني بخطه ما صورته: وكتب في صفر سنة عشرين وأربعمائة من خط أبي الحسن علي بن هلال الستري مولى معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، وهذا قد كان بغير شك معاصره. بلغني أنه كان في أول أمره مزوقاً بصور الدور ثم صور الكتب ثم تعانى الكتابة ففاق فيها المتقدمين وأعجز المتأخرين، وكان يعظ بجامع المنصور، ولما ورد فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف الوزير والياً على العراق من قبل بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة جعله من ندمائه، وفي الجملة إنه لم يكن في عصره ذاك النفاق الذي له بعد وفاته، وذاك أنني وجدت رقعة بخطه قد كتبها إلى بعض الأعيان يسأله فيها مساعدة صاحبه ابن منصور، وإنجاز وعد وعده به لا يساوي دينارين، وقد بسط القول في ذلك استطلتها فإنها كانت نحو السبعين سطراً فألغيت إثباتها، وقد بيعت بسبعة عشر ديناراً إمامية، وبلغني أنها مرة أخرى بخمسة وعشرين ديناراً. مات فيما ذكره هلال بن المحسن بن الصابئ في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ودفن في جوار قبر أحمد بن حنبل وذلك في خلافة القادر بالله، ورثاه المرتضى بشعر أذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وحدث في كتاب المفاوضة قال: حدثني أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب قال: كنت أتصرف في خزانة الكتب لبهاء الدولة بن عضد الدولة بشيراز على اختياري وأراعيها له وأمرها مردود إلى، فرأيت يوماً في جملة أجزاء منبوذة جزءاً مجلداً بأسود قدر السكري ففتحته وإذا هو جزء من ثلاثين جزءاً من القرآن بخط أبي علي بن مقلة، فأعجبني وأفردته فلم أزل أظفر بجزء بعد جزء مختلط في جملة الكتب إلى أن اجتمع تسعة وعشرون جزءاً، وبقي جزء واحد استغرقت تفتيش الخزانة عليه مدة طويلة فلم أظفر به، فعلمت أن المصحف ناقص فأفردته ودخلت إلى بهاء الدولة وقلت: يا مولانا، ههنا رجل يسأل حاجة قريبة لا كلفة فيها، وهي مخاطبة أبي علي الموفق الوزير على معونته في منازعة بينه وبين خصم له، ومعه هدية ظريفة تصلح لمولانا. قال: أي شئ هي؟ قلت مصحف بخط أبي علي بن مقلة. فقال: هاته وأنا أتقدم بما يريد، فأحضرت الأجزاء فأخذ منها واحداً وقال: أذكر وكان في الخزانة ما يشبه هذا وقد ذهب عني، قلت: هذا مصحفك وقصصت عليه القصة في طلبتي له حتى جمعته إلا أنه ينقص جزءاً وقلت: هكذا يطرح مصحف بخط أبي علي؟ فقال: لي: فتممه لي. قلت: السمع والطاعة، ولكن على شريطة أنك إذا أبصرت الجزء الناقص منها ولا تعرفه أن تعطيني خلعة ومائة دينار. قال: أفعل. وأخذت المصحف من بين يديه وانصرفت إلى داري، ودخلت الخزانة أقلب الكاغد العتيق وما يشابه كاغد المصحف، وكان فيها من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل ظريف عجيب، فأخذت من الكاغد ما وافقني، وكتبت الجزء وذهبته وعتقت ذهبه، وقلعت جلداً من جزء من الأجزاء فجلدته به وجلدت الذي قلعت منه الجلد وعتقته، ونسي بهاء الدولة المصحف، ومضى على ذلك نحو السنة. فلما كان ذات يوم جرى ذكر أبي علي بن مقلة فقال لي: ما كتبت ذلك؟ قلت: بلى، قال: فأعطنيه: فأحضرت المصحف كاملاً فلم يزل يقلبه جزءاً جزءاً وهو لا يقف على الجزء الذي بخطي ثم قال لي: أيما هو الجزء الذي بخطك؟ قلت له: لا تعرفه فيصغر في عينك، هذا مصحف كامل بخط أبي علي بن مقلة ونكتم سرنا؟ قال: أفعل: وتركه في ربعة عند رأسه ولم يعده إلى الخزانة، وأقمت مطالباً بالخلعة والدنانير وهو يمطلني ويعدني، فلما كان يوماً قلت يا مولانا: في الخزانة بياض صيني وعتيق مقطوع وصحيح، فتعطيني المقطوع منه كله دون الصحيح بالخلعة والدنانير. قال مر وخذه فمضيت وأخذت جميع ما كان فيها من ذلك النوع فكتبت فيه سنين.
كان مزاحاً - وله في هذا الكتاب باب - وعلى بن هلال ووجدت في تاريخ أبي لبفرج بن الجوزي قال: اجتاز أبو الحسن البتي الكاتب و كان مزاحاً - وله في هذا الكتاب باب - وعي ابن هلال جالس على باب الوزير فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف ينتظر الإذن. فقال له البتي: جلوس الأستاذ على العتب رعاية للنسب. فغضب ابن البواب وقال: لو أن إلي أمراً ما مكنتك من دخول هذه الدار. فقال البتي: لا يترك الأستاذ صنعة الوالد بحال. ولبعضهم يهجو ابن البواب:
ماذا رأيتم من النساخ متخذاً ... سبال لص على عثنون محتال؟
هذا وأنت ابن بواب وذو عدم ... فكيف لو كنت رب الدار والمال؟
وكان ابن البواب يقول شعراً ليناً. - ونقلته من خط الجويني أيضاَ قال: ونقلت من خطه أيضاً في ضمن رسالة - منه:
ولو أني أهديت ما هو فرض ... للرئيس الأجل من أمثالي
لنظمت النجوم عقداً إذا رص ... صع غيري جواهراً بلآلي
ثم أهديتها إليه وأقرر ... ت بعجزي في القول والأفعال
غير أني رأيت قدرك يعلو ... عن نظير ومشبه ومثال
فتفاءلت في الهدية بالأق ... لام علماً مني بصدق الفال
فاعتقدها مفاتح الشرق والغر ... ب صريعاً والسهل والأجبال
فهي تستن إن جرين على القر ... طاس بين الأرزاق والآجال
فاختبرها موقعاً برسوم ال ... بر والمكرمات والإفضال
واحظ بالمهرجان وابل جديد الد ... هر في نعمة بغير زوال
وابق للمجد صاعد الجد عزاً ... والرئيس الأجل نجم المعالي

في سرور وغبطة تدع ال ... حاسد منها مقطع الأوصال
عضدتها السعود واستوطن الإق ... بال فيها وسالمتها الليالي
أيها الماجد الكريم الذي يب ... دأ بالعارفات فبل السؤال
إن آلاءك الجزيلة عندي ... شرعت لي طريقة في المقال
أمنتني لديك من هجنة الر ... رد وفرط الإضجار والإملال
وحقوق العبيد فرض على الس ... سادة في كل موسم للمعالي
وحياة الثناء تبقى على الده ... ر إذا ما انقضت حياة المال
وكان تحت هذا الشعر بخط الجويني ما صورته: هذا شعر ابن البواب، وهو عورة سترها ذلك الخط، ولولا أن الإجماع واقع في أن الرجل يفتن بشعره وولده، لكان صاحب تلك الفضيلة يرتفع عن هذه النقيصة. وكتب تلميذه حسن ابن علي الجويني: ولقد عجبت ممن يزري على ذلك الشعر وهو القائل، ونقلته من خطه فقال: كتبت إلى المولى القاضي الأجل شرف الدين السديد عبد الله بن علي - أمتع الله الدنيا وأهلها ببقائه - وقد أبللت من مرضة صعبة:
عبد الإله السديد حقاً ... بغير زور وغير مين
يا شرف الدين يا فريداً ... شرف بالفضل دولتين
يا تاج فخري وكنز فقري ... ويا معيني ونور عيني
قد كدت أقضي أسىً وأمضي ... وكدت تبقى بلا جويني
وكتب حسن بن علي الجويني في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة بالديار المصرية - عمرها الله تعالى بدوام العز - : وقال المعري وضرب علي بن هلال مثلاً:
طربت لضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهناً ما لهن ومالي؟
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رمى بي إليه الدهر منذ ليالي
فهل فيك من ماء المعرة نغبة ... تغيث بها ظمآن ليس نسالي؟
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بماء النضار الكاتب ابن هلال
ومنها:
إذا لاخ إيماض سترت وجوهها ... كأني عمرو والمطي سعا لي
هذا بيت مشكل التفسير بعيد المرمى، وذلك أن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة ولد العنبر والهجيم ومازن، تقول العرب إن هؤلاء الأخوة الثلاثة أمهم السعلاة وهي الغولة، وإن عمرو بن تميم تزوجها فولدت له هؤلاء الثلاثة.
ويقولون: إن السعلاة إذا رأت البرق طلبته، وكان عمرو يحفظها من البرق إذا لاح فيغطي وجهها، فغفل عنها مرة فلاح البرق فطلبته وقالت: يا عمرو أوصيك بولدك خيراً، ومضت ولم تعد إليه، فهذا معنى بيت المعري، وقد ضربه بعض المتأخرين أيضاً مثلاً، فقال يمدح رجلاً يعرف بابن بدر بجودة الخط فقال:
يا ابن بدر علوت في الخط قدراً ... حينما قايسوك بابن هلال
ذاك يحكي أباه في النقص لما ... جئت تحكي أباك عند الكمال
قرأت بخط سلامة بن عياض: رأيت بالري بخط علي بن هلال كتاب من نسب من الشعراء إلى أمه لأبي عبد الله بن الأعرابي، وهم خمسون شاعراً، وعلى ظهره: كتبه علي بن هلال في شهر ربيع الأول سنة تسعين وثلاثمائة، وبعد البسملة: يرويه ابن عرفة عن ثعلب عن ابن الأعرابي، وفي آخره بخطه: نقلته من نسخة وجدت عليها بخط شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني النحوي - أيده الله - : بلغ عثمان بن جني نسخاً من أوله وعرضاً.
وكان لابن البواب يد باسطة في الكتابة أعني الإنشاء وفصاحة وبراعة، ومن ذلك رسالة أنشأها في الكتابة وكتبها إلى بعض الرؤساء ونقلتها من خط الحسن بن علي الجويني الكاتب أولها:

قد افتتحت خدمة سيدنا الأستاذ الجليل - أطال الله بقاءه وأدام تمكينه وقدرته وتمهيده وكبت عدوه - بالمثال المقترن بهذه الرقعة افتتاحاً يصحبه العذر إلى جليل حضرته من ظهور التقصير فيه، والخلل البادي لمتأمليه، وقد كان من حقوق مجلسه الشريف أن يخدم بالغايات المرضية من كل صناعة، تأدياً لسؤدده وعلائه، وتصدياً للفوز بجميل رأيه، ولم يعد بي عن هذه القضية جهل بها، وقصور عن علمها، لكني هاجر لهذه الصناة منذ زمن طويل هجرة قد أورثت يدي حبسة ووقفة، حائلتين بينها وبين التصرف والافتتان والوفاء بشرط الإجادة والإحسان، ولا خفاء عليه - أدام الله تأييده - بفضل الحاجة ممن تعاطى هذه الصناعة إلى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية إليها، والكلف الشديد بها، والولوع الدائم بمزاولتها، فإنها شديدة النفار، بطيئة الاستقرار، مطمعة الخداع، وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء، نوار قيدها الأعمال، شموس قهرها الوصال، لا تسمح ببعضها إلا لمن آثرها بجملته، وأقيل عليها بكليته، ووقف على تألفها سائر زمنه، واعتاضها عن خله وسكنه، ولا يؤسيه حيادها، ولا يغره انقيادها، يقارعها بالشهوة والنشاط، ويوادعها عند الكلال والملال، حتى يبلغ منها الغاية القصية، ويدرك المنزلة العلية، وتنقاد الأنامل لتفتيح أزهارها، وجلاء أنوارها، وتظهر الحروف موصولة ومفصولة، ومعماة ومفتحة في أحسن صيغتها، وأبهج خلقتها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والتيامها، لينة المعاطف والأرداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتشها بهج فاتن، كأنما كاتبها وقد أرسل يده وحث بها قلمه، رجع فيها فكره ورويته، ووقف على تهذيبها قدرته وهمته، القلب بها في حجر ناظره، والمعنى بها مظلوم بلفظه، وما ذهبت في هذه الخدمة مذهب المطرف المغرب بها، ولا المعول على شوافعها، لكن نهجت بها سبيلاً لأمثالها إقامة لرسم الخدمة المفروضة للسادة المنعمين على خدمهم وصنائعهم، فإن سعدت بنفاقها عليه وارتضائها لديه، سلمت من وصمة التضجيع والإهمال، وهجنة التقصير في شكر الإنعام والإفضال، ولسيدنا الجليل - أطال الله بقاءه - علو الرأي في الأمر بتسلم ما خدمت به، وتصريفه بين عالي أمره ونهيه إن شاء الله تعالى وحدث غرس النعمة محمد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ في كتاب الهفوات قال: كان في الديوان كاتب يعرف بأبي نصر بن مسعود فلقي يوماً أبا الحسن علي ابن هلال البواب الكاتب ذا الخط المليح في بعض الممرات فسلم عليه وقبل يده. فقال له ابن البواب: الله الله يا سيدي ما أنا وهذا؟ فقال له: لو قبلت الأرض بين يديك لكان قليلاً. قال: لم؟ ولم ذاك يا سيدي؟ وما الذي أوجبه واقتضاه؟ قال: لأنك تفردت بأشياء ما في بغداد كلها من يشاركك فيها، منها الخط الحسن وأنه لم أر من عمري كاتباً من طرف عمامته إلى لحيته ذراعان ونصف غيرك. فضحك أبو الحسن منه وجزاه خيراً وقال له: أسألك أن تكتم هذه الفضيلة علي ولا تكرمني لأجلها. قال له: ولم تكتم فضائلك ومناقبك؟فقال له: أنا أسألك هذا فبعد جهد ما أمسك، وكانت لحية ابن البواب طويلة جداً.
قال المؤلف: وأما الشعر الذي رثاه به المرتضى فهو:
رديت يا بن هلال والردى عرض ... لم يحم منه على سخط له البشر
ما ضر فقدك؟ والأيام شاهدة ... بأن فضلك فيه الأنجم الزهر؟
أغنيت في الأرض والأقوام كلهم ... من المحاسن ما لم يغنه المطر
فللقلوب التي أبهجتها حزن ... وللعيون التي أقررتها سهر
وما لعيش إذا ودعته أرج ... ولا الليل إذا فارقته سحر
وما لنا بعد أن أضحت مطالعنا ... مسلوبة منك أوضاح ولا غرر
علي بن الهيثم الكاتب المعروف بجونقاكان أحد الكتاب المستخدمين في ديوان المأمون وغيره من الخلفاء، وكان فاضلاً أديباً كثير الاستعمال للتقعير والقصد لعويص اللغة، حتى قال المأمون فيما حدث به الفضل بن محمد اليزيدي عن أبيه قال:

قال المأمون: أنا أتكلم مع الناس أجمعين على سجيتي إلا علي بن الهيثم فإني أتحفظ إذا كلمته، لأنه يغرق في الإغراب. ونقلت من خط الصولي في أخبار شعراء مصر قال: وممن دخل مصر خالد بن أبان الكاتب الأنباري أخو عبد الملك بن أبان، حدثني الحسين بن علي الباقطائي: أنه شخص إلى مصر فبلغه اتساع حال علي بن الهيثم وكانت بينهما حرمة وكيدة، فكتب إليه من مصر بشعر طويل منه وكتب بماء الذهب.
على الخالق الباري توكلت إنه ... يدوم إذا الدنيا أبادت قرونها
فداؤك نفسي يا علي بن هيثم ... إذا أكلت عجف السنين سمينها
رميتك من مصر بأم قلائدي ... تزان وقد أقسمت ألا تهينها
بأبيات شعر خط بالتبر وشيها ... إليك قدماً حال حولان دونها
ويذكر فيه خبره مع غرمائه والقاضي، فبعث إليه سفتجة بألف دينار، وكتب إلى عامل مصر في استعماله فحسنت حاله.
وقال الجهشياري: كان لخالد بن أبان الكاتب الأنباري الشاعر حرمة بعلي بن الهيثم وبأبيه أيام مقامهم بالأنبار، وأضاق واختلت حاله وتدين من التجار ما أنفقه، فكثر غرماؤه وقدموه إلى القاضي فحبسه، ثم فلسه وأطلقه، وأقام بمصر وساءت حاله، وبلغه أن علياً قد عظم قدره، وتقلد ديوان الخراج للفضل بن الربيع لما استوزره الرشيد بعد البرامكة وارتفع مع المأمون بعد ذلك، فكتب إليه قصيدة نحواً من سبعين بيتاً في رق بالذهب وبعث بها إليه أولها: على الخالق الباري. الأبيات، فوجه إليه بألف دينار.
قال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزباني: حدثنا أبو علي الحسن بن بشر، حدثني أبي قال: دخل علي بن الهيثم إلى سوق الدواب فلقيه نخاس فقال له: هل من حاجة؟ قال: نعم، الحاجة أناختنا بعقوتك، أردت فرساً قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه، ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخطر بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص جيد الفصوص وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال له النخاس: هكذا كان صلى الله عليه وسلم.
وقال المرزباني في المعجم: علي بن الهيثم التغلبي كاتب الفضل بن الربيع كان لسناً فصيحاً شاعراً، عاتبه الفضل يوماً على تأخره عنه وزاد عليه فقال:
وعدني الفضل رخيصاً جداً ... فعقني وازور عني صدا
وظن والظنون قد تعدا ... أني لا أصيب منه أبدا
أعد منه ألف بد عدا
وانصرف فلم يعمل للسلطان عملاً. حدثنا محمد اليزيدي قال: شهدت المأمون وهو جالس على دكة الشماسية، وعنده أحمد بن الجنيد الإسكافي وجماعة من الخاصة، إذ دخل عليه علي بن الهيثم المعروف بجونقا، فلما قرب منه قال: يا عدو الله يا فاسق يا لص يا خبيث سرقت الأموال وانتهبتها، والله لأفرقن بين لحمك وعظمك ولأفعلن، ثم سكن غضبه قليلاً، فقال أحمد بن الجنيد: نعم والله يا أمير المؤمنين، إنه وإنه ولم يدع شيئاً من المكروه إلا قاله فيه، فقال له المأمون وقد هدأ غضبه: يا أحمد، ومتى اجترأت على هذه الجرأة؟ رأيتني وقد غضبت فأردت أن تزيد في غضبي، أما إني سأؤدبك فأؤدب بك غيرك، يا علي بن الهيثم، قد صفحت عنك ووهبت لك كل ما كنت أقدر أن أطالبك به، ثم رفع رأسه إلى الحاجب وقال: لا يبرح ابن الجنيد الدار حتى يحمل إلى علي ابن الهيثم مائة ألف درهم ليكون له بذلك عقل، فلم يبرح حتى حملها.

الجهشياري: أمر المأمون أن يؤذن للناس إذناً عاماً وأن يجلسوا على مراتبهم التي كانت قديماً إلى أن تعرض عليه فيأمر فيها بأمره ففعلوا ذلك، ودخل علي بن الهيثم فجلس في مجلس العرب وتغامز الكتاب عليه، وأقبل عبيد الله بن الحسن العلوي فقال إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب للكتاب: أطيعوني وقوموا معي، فمضوا بأجمعهم مستقبلين لعبيد الله بن الحسن، فسلموا عليه فرد عليهم. فقالوا لنا حاجة، فقال مقضية، قالوا: تجلس في مجلسنا. فقال: سبحان الله: ينكر ذلك أمير المؤمنين. قالوا: هي حاجة تقضيها لنا ونحتمل ما ينالك فيها. قال: أفعل لعلمي بموقع الكتاب من قلوب السلاطين وقدرتهم على إصلاح قلوبهم إذا فسدت، وإفسادها إذا صلحت، ومال إلى ناحيتهم فجلس معهم. وكتب صاحب المراتب إلى المأمون، فلما وقف على الموضع الذي جلس فيد عبيد الله أنكره وبعث إليه: ما هذا المجلس الذي جلست فيه؟ فقال إبراهيم بن إسماعيل للرسول: بلغ أمير المؤمنين عند السلام وقل له: خدمك وعبيدك الكتاب يقولون: العدل والإنصاف موجودان عندك وعند أهلك، أخذتم منا رجلاً من وجوه النبط فأخذنا مكانه وجهاً من وجوه أهلك، ذلك علي بن الهيثم جالس مع العرب، فردوا علينا رجلنا وخذوا رجلكم، فضحك جميع من في داره وتشوس علي بن الهيثم وضحك المأمون وقال: لقد مني علي بن الهيثم من إبراهيم بن إسماعيل ببلاء عظيم، وكان أبو يعقوب إسحاق بن حسان الخزيمي قد أغري بهجاء علي بن الهيثم الأنباري الكاتب، وكان السبب في ذلك أنه وقع لأبي يعقوب عنده ميراث فدافعه فهجاه، وكان علي بن الهيثم متشدقاً متفيقهاً يدعي العربية ويقول: إنه تغلبي وكان من قرية يقال لها أنقوريا، ففي ذلك يقول الخزيمي:
أنقوريا قرية مباركة ... تقلب فخارها إلى الذهب

محمد بن علي العباسي عن أبيه قال: شهدت علي بن الهيثم جونقاً، وقد حضره منارة صاحب الرشيد فقال له: يا منارة استلبت لوطي. فقال: - أصلحك الله - ما ظننتك تتلقاني بمثل هذا؟ شيخ مثلي يلعب بالصبيان، فضحك جميع من في المجلس، اللوط: الإزار. كأنه أراد أنك لم تحسن عشرتي وأنك أخذت ثيابي. وذكر حماد بن إسحاق عن بشر المريسي قال: حضرت المأمون أنا وثمامة ومحمد بن أبي العباس الطوسي وعلي بن الهيثم فناظروا في التشيع. فنصر محمد بن أبي العباس مذهب الإمامية، ونصر علي بن الهيثم مذهب الزيدية، وشرق الأمر بينهما، إلى أن قال محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم: يا نبطي ما أنت والكلام؟ فقال المأمون وكان متكئاً فجلس: الشتم عي والبذاء لؤم، وقد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل وقفناه، ومن ذهب عن الأمر حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصلاً، فإن الكلام الذي أنتم فيه من الفروع، فإذا افترعتما شيئاً رجعتما إلى الأصول، ثم عادا إلى المناظرة فأعاد محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم مثل مقالته الأولى: فقال له علي: والله لولا جلالة المجلس وما وهب الله من رأفة أمير المؤمنين وأنه قد نهانا لأعرفت جبينك، وحسبنا من جهلك غسلك المنبر بالمدينة. فاستشاط المأمون غضباً على محمد وأمر بإخراجه، فعاذ بطاهر حتى شفع فيه، فرضي عنه. ميمون بن هارون بن مخلد ابن أبان حدثني أبي قال: أدخلني أبي مخلد بن أبان مع القاسم بن أحمد بن الجنيد، وكان مخلد وأحمد متواخيين في شراء غلات السواد، فأشرفنا على ربح عشرة آلاف ألف درهم، ثم اتضع السعر فحصل علينا وضيعة ستة آلاف ألف درهم فطولبنا بها أشد مطالبة، واشتد كتاب المأمون علينا فيها، وكان المأمون يستاك في كل يومين ساعتين كاملتين. فدعاني المأمون يوماً وهو يستاك وكلمني بشيء ثم قال لي: ما معنى قول الخريمي في علي بن الهيثم؟ فدبنقاً لذاك الحديث دبنقاً. فقلت له: أنا أتكلم بالنبطية ولا أعلم ما معنى هذا، وأحمد بن الجنيد أرطن بها منىً، فأومأ إلي بمسواكه أن انصرف فانصرفت، فلما بلغت الستر حتى لقيني أحمد ابن الجنيد داخلاً وكان ذا خرج من الدار قبلي انتظرني، وإذا خرجت قبله انتظرته، فوقفت منتظراً له فإذا به قد خرج فقلت له: ما كان خبرك؟ فأخرج إلى توقيع المأمون بخطه بترك ما كنا نطالب به من الستة آلاف ألف عن ابني وابنه. وقال: قال لي: ما معنى قول الخزيمي فدبنقاً لذا الحديث دبنقاً؟ فقلت: ضرطاً لذا الحديث فضحك وقال لي: إني سألت مخلداً عنها فلم يعرفها فاسأل حاجة، فقلت: ابتاع ابني وابن مخلد غلات السواد وقدرنا للربح فخسرنا ستة آلاف ألف درهم ولا حيلة لنا فيها وضيعتي بجلولاً تساوي ثلاثة آلاف ألف درهم، فيأمر أمير المؤمنين بأخذها عن ابن مخلد وتسبيب ما على ابني علي لأحتال له أولاً فأولاً، فقال: ويحك، تبذل نفسك وضيعتك عن ابن مخلد؟ فقلت: نعم، أنا غررته وأملت الربح ومنعته أن يعقده على التجار ويتعجل فصله، وقد كانوا بذلوا لنا فيه ربحاً كبيراً. فقال لي: أي نبطي أنت؟ هات الدواة، فقدمتها إليه فوقع بإبرائنا جميعاً من المال وترك ضيعتي علي. وقال المأمون يوماً: ببابي رجلان: أحدهما أريد أن أضعه وهو يرفع نفسه، وهو علي ابن الهيثم، والآخر أريد أن أرفعه وهو يضع نفسه، وهو الفضل بن جعفر بن يحيى بن خالد برمك.
علي بن يحيى بن أبي منصور المنجمأبو الحسن. كان أبوه يحيى أول من خدم من آل المنجم، وأول من خدم المأمون وقد ذكر في بابه، ونادم ابنه علي هذا المتوكل، وكان من خواصه وندمائه والمتقدمين عنده، وخص به وبمن بعده من الخلفاء إلى أيام المعتمد على الله، وكان شاعراً راوية علامة أخبارياً.مات سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن بسر من رأى في آخر أيام المعتمد. وأخذ أبو الحسن هذا عن جماعة من العلماء منهم: إسحاق بن إبراهيم وشاهده، وكان يجلس بين يدي الخلفاء ويأمنونه على أسرارهم، وكان حسن المروءة ممدحاً فاتصل بمحمد بن إسحاق بن إبراهيم المصعبي. ثم اتصل بالفتح بن خاقان وعمل له خزانة نقل إليها من كتبه ومما استكتبه للفتح بن خاقان أكثر، ما اشتملت عليه خزانة حكمة فقط، وله تصانيف منها: كتاب الشعراء القدماء والإسلاميين، كتاب أخبار إسحاق بن إبراهيم، كتاب الطبيخ.

قال عبيد الله بن أبي طاهر: كان أبو الحسن علي بن يحيى مشتهراً بالأدب كله مائلاً إلى أهله معتنياً بأمورهم، وكان منزله مألفاً لهم، وكان يوصل كثيراً منهم إلى الخلفاء والأمراء، ويستخرج لهم منهم الصلات، وإن جرى على أحد منهم حرمان وصله من ماله.
وكان يبلغ من عنايته بهم ورغبته في نفعهم أنه كان ربما أهدى إلى الخلفاء والأمراء عنهم الهدايا الظريفة المليحة ليستخرج لهم بذلك ما يحبون.
قال: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال: قدم على أبي إدريس بن أبي حفصة في أيام المتوكل وتوسل إليه، فأوصل شعره إليه وكلمه فيه، فاستخرج له منه عشرة آلاف درهم، فقال إدريس بن أبي حفصة:
أضحى علي بن يحيى وهو مشتهر ... بالصدق في الوعد والتصديق في الأمل
لو زيد بالجود في رزق وفي أجل ... لزاد جودك في رزقي وفي أجلي
ثم وصله من ماله - لما عزم إدريس على الانصراف إلى بلده - بجملة جليلة، ولم يزل إدريس مقيماً عنده في ضيافته إلى وقت ارتحاله، فقال إدريس عند وداعه إياه.
ما من دعوت ولباني بنائله ... كمن دعوت فلم يسمع ولم يجب
إني وجدت علياً إذ نزلت به ... خيراً من الفضة البيضاء والذهب
وحدث علي بن هارون بن يحيى بن المنجم في كتاب الأمالي له قال: حدثني عمي أبو أحمد يحيى بن علي، حدثني أبي علي بن يحيى قال: وفد علي عافية بن شبيب بن خاقان بن الأهتم السعدي من البصرة فأنزلته علي وأحسنت ضيافته، ورعيت له حرمة الأدب الذي توسل به، فأقام معي مدة في كفاية وكرامة وحسن ضيافة، وحملته على فرس واستوصلت له جماعة من إخواني، فأخذت له منهم ما تأثث به حاله وأصلح به شأنه، ثم ذكرته للمتوكل - رحمة الله عليه - ووصفت له أدبه، وأن معه ظرفاً يصلح به لمجالسته، فأمرني بإحضاره، ودخل عليه فوصله وأجرى عليه رزقاً وجالسه، فمكث مدة على ذلك ثم انفرجت الحال بيني وبينه، وكفر ما كان من إحساني إليه، وبسط لسانه يذكرني بما لم أستحقه منه، وكان المتوكل يغريه بي لما رأى منه، فيضحك المتوكل مما يجري، ويجيئني ذلك فيه وهو لا يدري. قال أبو الحسن: فأهدى في يوم من أيام النوازير إلى المتوكل فرساً فنظر إليه المتوكل فاستحسنه، ثم أقبل على الفتح بن خاقان فقال: أما ترى إلى هذا الفرس الذي أهداه عافية، ما أحسنه وأعتقه؟! هذا خلاف ما يصفه به علي بن يحيى من صغر الهمة وضيق النفس والخساسة، من تبلغ همته إلى أن يهدي مثل هذا الفرس لا يوصف بالخساسة ولا بضيق النفس، وهو في ذلك كله ينظر إلي ويقصدني بالكلام ويريد العبث بي، فتركته حتى أطنب في هذا المعنى وبلغ منه ما أراد، ثم قلت له: يا أمير المؤمنين، أليس من أهدى مثل هذا الفرس عندك ذا همة وقدر؟ قال: بلى. قال: قلت: فأبعد همة وأرفع قدراً من حمله عليه. قال: ومن حمله عليه؟ قال: قلت أنا حملته عليه. قال: فقال: يا عافية ما يقول علي؟ قال: فقال: صدق يا أمير المؤمنين هو حملني عليه. قال: فانكسر عني ثم. أقبل علي الفتح خجلاً فسريت الحال بيني وبين عافية حتى هجاه من كان يطوف به من الشعراء، فقال فيه أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن وكنت أدخلته على المتوكل، وجالسه وشكر لي ذلك إذ كفره عافية:
ستعلم أن لؤم بني تميم ... سيظهر منه للناس الخفي
وما إن ذاك أنك من تميم ... ولكن ربما جر الدعي
وقال فيه أبو هفان:
لو كنت عافية لكنت محبباً ... في العالمين كما تحب العافية
وقال فيه أبو الحسن البلاذري:
من رآه فقد رأى ... عربياً مدلسا
ليس يدري جليسه ... أفسا أم تنفسا؟
وقال فيه أبو العنبس الصيمري:
أبا حسن بمنصبك الصميم ... أ أذن في السلاح على التميمي؟
فوالرحمن لولا ألف سوط ... لفارق روحه روح النسيم
وهجاه أبو الحسن علي بن يحيى المنجم فقال:
أأهجو تميماً إن تعرض ملصق ... إليها دعي قد نفته قرومها؟
فآخذها طرا بذنب دعيها ... فأين نها قومي وأين حلومها؟؟
وما في دعي القوم ثأر لثائر ... ولم تقترف ذنباً فيهجى صميمها

أعافي إلى اللوم منك سجية ... وشر خلال الأدعياء قديمها
قال أبو الحسن: وترقى به الأمر في منابذتي إلى أن ادعى في يوم من الأيام بحضرة المتوكل لأنه أحسن مروءة مني. فقال الفتح: محنة هذا سهلة، يوجه أمير المؤمنين إلى منزلهما من يحضر ما يجد من الطعام حاضراً، فدعا المتوكل بقائد من قواده وقال: امض إلى منزل علي ابن يحيى فانظر ما تجد فيه من الطعام حاضراً فأحضره، وامنعهم من أن يشتروا شيئاً أو يعملوه، وافعل مثل ذلك بمنزل عافية، فصار إلى منزل علي بن يحيى فوجد فيه طعاماً عتيداً فحمل جونة حسنة، وصار إلى منزل عافية فلم يجد فيه غير سفرة خلقة معلقة في مجلسه، فأمر فأنزلت فوجد فيها كسراً من خبز خشكار وملحاً من ملح السوق، وقطعة جبن يابس، وقطعة من سمك مالح، وقصعة مكسورة فيها ذلك الملح، وخرقة وسخة منقطعة، فحمل السفرة بحالها وصار إلى المتوكل فعرض عليه الجونة فاستحسنها وقال للفتح: أما ترى ما أنظف هذا الطعام وأحسنه؟! وأحضر السفرة فقال: ما هذا؟ قال: هذا هو الذي وجدته في منزل عافية. قال: افتحوها، ففتحت فاستقذر ما رأى فيها وعجب منه وقال: يا فتح، أظننت أن رجلاً يجالسني وقد وصلته بعدة صلات فيكون هذا مقدار مروءته؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما له عذر، فدعا بخادم من خدمه وقال: امض إلى عبيد الله بن يحيى فقل له: أخرج إلى ما وصل إلى عافية من مالي من رزق وصلة منذ خدمني إلى هذا الوقت، فمضى الخادم ولم يكن بأسرع من أن وافى برقعة من عبيد الله وفيها مبلغ ما صار إلى عافية،فإذا هو ثلاثمائة ألف درهم. فقال المتوكل: يا فتح، أما كان يجب أن يتبين أثر النعمة على من وصل إليه هذا المال؟ ما في هذا خير ولا يصلح مثله لمجالستي؟ فأخرجه من الجالسة وأمر بنفيه إلى البصرة وهي بلده، فلما حضر خروجه طالبته صاحبة المنزل بأجرته، فدفع إليها ببقية مالها عليه حبا كان في الدار خلقاً، واتصل الخبر بابن المنجم قال: فصرت إلى المتوكل فعرفته ذلك فعجب منه وأمر بإحضار المرأة ومسألتها فأخبرت به، فأمر لها بصلة وتقدم إلى عبيد الله في أخذ الحب وإنفاذه مع رسول فاصد خلف عافية يلحقه بالبصرة وأمره أن يكتب إلى صاحب المعونة وصاحب الصدقة والخراج والقاضي وصاحب البريد بحضور الجامع والتقدم إلى وجوه أهل البصرة في الحضور وإحضار عافية وتسليم الحب إليه بحضرتهم وإشهادهم عليه وتعريفهم ما كان من خبره مع المرأة صاحبة داره، ففعل ذلك وصار به عافية شهرة في بلده.

وحدث هارون عن عمه عن أبيه علي بن يحيى قال: كنت أنادم المتوكل في كل ليلة من الليالي، فغلب على النبيذ فأطرقت كالمهموم وأنا منتصب قال: فدعا المتوكل بنصر سلهب وقال: امض إلى منزل علي بن يحيى فانظر ما تجد فيه من الطعام فاحمله إلي واعجلهم غاية الإعجال ولا تدعهم يهيئون شيئاً، قال: فمضى نصر فامتثل أمره وحمل جونة مملوءة من ضروب الطعام وجاء بها إلى المتوكل، ففتحت بين يديه ففاحت برائحة شوقته إلى الطعام، واستحسن ما رأى فيها فأكل منها والفتح معه، ثم قال له: أما ترى ما أحسن هذا الطعام وما أطيبه وأنظفه؟! ولو كان علي أعد هذا لمثل ما كان منا ما زاد على حسن هذه الجونة وطيب ما فيها. قال: فقال له الفتح: هذا يا أمير المؤمنين يدل على مروءته، وإنه ليجب أن يعان عليها. قال: فصاح بي يا علي، فقمت قائماً وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: تعال، فقربت منه فقال انظر: إلى هذه الجونة وما فيها، فنظرت إليها فقال: كيف تراه؟ قلت: أرى طعاماً حسناً، قال: فتدري من أين هو؟ فقال قلت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: فإنها من منزلك، وإني فعلت كذا وكذا وقص على القصة وقال: قد والله سرني ما رأيت من مروءتك وسرورك، وكذا فليكن من خدم الملوك، قال لي: ما تحب أن أهب لك؟ قال: قلت مائة ألف دينار، قال: أنت والله تستحقها وما هو أكثر منها، يمنعني من دفعها إليك إلا كراهة الشنعة وأن يقال: وصل جليساً من جلسائه في ليلة بمائة ألف دينار، ولكني أوصلها إليك متفرقة وأضمن فتحاً إذكاري بذلك حتى تستوفيها، وقد وصلتك بمائة ألف درهم على غير صرف فانصرف بها معك. قال: وأمر بإحضارها فأحضرت عشر بدر وحملت معي إلى منزلي، ثم لم يزل يتابع لي الصلات حتى وفاني مائة ألف دينار. قال علي بن يحيى: وأحصيت ما وصل إلي من أمير المؤمنين المتوكل من رزق وصلة فكان مبلغه ثلاثمائة ألف دينار.قال: ولما مات علي بن يحيى قال ابن بسام يرثيه:
قد زرت قبرك يا علي مسلماً ... ولك الزيارة من أقل الواجب
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عني حملت نوائبي
وفي كتاب النورين للحصري: وقال علي بن المنجم: فلا أدري أهو هذا أم علي بن هارون بن علي بن يحيى بن المنجم؟:
ومن طاعتي إياه أمطر ناظري ... إذا هو أبدى من ثناياه لي برقاً
كأن جفوني تبصر الوصل هارباً ... فمن أجل ذا تجري لتدركه سبقاً
ولعلي هذا ابن يكنى أبا عيسى واسمه أحمد، كان أديباً وهو مذكور في بابه. وقال علي بن يحيى يرثي المأمون ويمدح المعتصم:
من ذا على الدهر يعديني فقد كثرت ... عندي جنايته يا معشر الناس
أخنى على الملك المأمون كلكله ... فصار رهناً لأحجار وأرماس
قد كاد ينهد ركن الدين حين ثوى ... ويترك الناس كالفوضى بلا رأس
حتى تداركهم بالله معتصم ... خير الخلائف من أولاد عباس
ودخل أبو علي البصير على علي بن يحيى وقد أصيب ببعض أهله، وكان قد بعث إليه ببر قبل ذلك فقال له: بلغني مصابك، ووصل إلي ثوابك، فأحسن الله جزاءك وعزاءك. قال المرزباني وهو القائل في نفسه:
علي بن يحيى جامع لمحاسن ... من العلم مشغوف بكسب المحامد
فلو قيل: هاتوا فيكم اليوم مثله ... لعز عليكم أن تجيئوا بواحد
وله:
سيعلم دهري إذا تنكر أنني ... صبور على نكرانه غير جازع
وأني أسوس النفس في حال عسرها ... سياسة راض بالمعيشة قانع
كما كنت في حال اليسار أسوسها ... سياسة عف في الغنى متواضع
وأمنعها الورد الذي لايليق بي ... وإن كنت ظمآن بعيد الشرائع
وله:
بأبي والله من طرفا ... كابتسام الصبح إذ خفقا
زادني شوقاً برؤيته ... وحشا قلبي به حرفا
من لقلب هائم كلف ... كلما سكنته قلقا
زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا
ولما مات علي بن يحيى قال علي بن سليمان أحد شعراء العسكر يرثيه:
قد زرت قبرك يا علي مسلماً ... ولك الزيارة من أقل الواجب

ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عني حملت نوائبي
ودمي فلو علمت بأنهيروي ثراك سقاه صوب الصائب
لسفكته أسفاً عليك وحسرة ... وجعلت ذاك مكان دمع ساكب
فلئن ذهبت بملء قبرك سؤدداً ... لجميل ما أبقيت ليس بذاهب
وحدث أبو علي التنوخي في نشواره: حدثني أبو الحسن ابن أبي بكرالأزرق قال: حدثني أبي قال: كان بكركر من نواحي القفص ضيعة نفيسة لعلي بن يحيى بن المنجم وقصر جليل فيه خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى، فقدم أبو معشر المنجم من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة فمضى ورآها فهاله أمرها، فأقام بها وأضرب عن الحج وتعلم فيها علم النجوم وأعرق فيه حتى ألحد، وكان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والإسلام أيضاً. وذكر جحظة في أماليه: حدثنا ابن حميد قال: قال المتوكل لعلي بن يحيى المنجم: اهج مروان بن أبي الجنوب. فقال: يا أمير المؤمنين، ومن مروان حتى أهجوه؟ قال: مروان مولى بني أمية ومولى القوم منهم، وبعد: فإنهم بنو عمي وأتت العداوة بيننا، فأنت من أنت؟ قال: أنا مولاك يا أمير المؤمنين. قال: دعنا من هذا البرود، اهج الرجل وإلا أمرته أن يهجوك. فوقف ساعة متفكراً فاندفع مروان يقول:
ألا إن يحيى لا يقاس إلى أبي ... وعرض علي لا يقاس إلى عرضي
أناس من الأنباط أكثر فخرهم ... إذا فخر الأشراف بعضاً على بعض
تنحل أصلاً في المجوس ودعوة ... إليهم نفاها من بحكمهم يقضي
أبى ذاك آذرباد فيكم فأنتم ... من السفل الأرذال وللنبط المحض
حديثكم غث وقربكم أذى ... وآدابكم ممزوجة المقت بالبغض
تسوقتم عند الإمام بحبه ... وسوقكم عند الروافض بالرفض
متى ما تعاط المجد والفخر أهله ... فلستم من الإبرام فيه ولا نقص
إخال علياً من تكامل مقته ... يطاحر وجهي وهو يمشي على الأرض
قال أحمد بن أبي طاهر: كنت يوماً عند أبي الحسن يحيى المنجم في أيام المعتمد فدخل عليه ابنه هارون فقال له: يا أبت، رأيت في النوم أمير المؤمنين المعتمد وهو في داره على سريره إذ بصر بي فقال: أقبل علي يا هارون، يزعم أبوك أنك تقول الشعر فأنشدني طريد هذا البيت:
أسالت على الخدين دمعاً لو أنه ... من الدر عقد كان ذخراً من الذخر
فلم أرد عليه شيئاً وانتبهت. قال: فرجف عليه علي بن يحيى غضباً وقال: ويحك؟ فلم لم تقل؟:
فلما دنا وقت الفراق وفي الحشا ... لفرقتها لذع أحر من الجمر
أسالت على الخدين دمعاً لو أنه ... من الدر عقد كان ذخراً من الذخر
قال ابن أبي طاهر: فانصرفنا متعجبين من حفظ هارون لما هجس في خاطره، ولمبادرة علي ابن يحيى وسرعته في القول.

قال جحظة في أماليه: حدثت عن يزيد بن محمد المهلبي قال: كنت أرى علي بن يحيى المنجم فأرى صورته وصغر خلقته ودقة وجهه وصغر عينيه وأسمع بمحله من الواثق والمتوكل، فأعجب من ذلك وأقول: بأي سبب يستظرفه الخليفة وبماذا حظي عنده؟ والقرد أملح منه قباحة. فلما جالست المتوكل رأيت علي بن يحيى قد دخل على المتوكل في غداة من الغدوات التي قد سهر في ليلتها بالشرب وهو مخمور يفور حرارة يستثقل لكل أمر يخف دون ما يثقل، فوقف بين يديه وقال: يا مولاي، أما ترى إقبال هذا اليوم وحسنه وإطباق الغيم على شمسه وخضرة هذا البستان ورونقه؟ وهو يوم تعظمه الفرس وتشرب فيه لأنه هرمز روز، وتعظمه غلمانك وأكرتك مثلي من الدهاقين، و وافق ذلك يا سيدي أن القمر مع الزهرة، فهو يوم شرب وسرور وتجل بالفرح، فهش إليه وقال: ويلك يا علي، ما أقدر أن أفتح عيني خماراً. فقال: إن دعا سيدي بالسواك فاستعماه وغسل بماء الورد وجهه، وشرب شربة من رب الحصرم أو من متنة مطيبة مبرداً ذلك بالثلج انحل كل ما يجد، فأمر بإحضار كل ما أشار به. فقال علي: يا سيدي، وإلى أن تفعل ذلك تحضر عجلانيتان بين يديك مما يلائم الخمار ويفيق الشهوة ويعين على تخفيفه. فقال: أحضروا علياً كل ما يريد، فأحضرت العجلانيتان بين يديه وفراريج كسكر قد صففت على أطباق الخلاف وطبخ حماضية وحصرمية ومطجنة لها مريقة، فلما فاحت روائح القدور هش لها المتوكل فقال له يا علي: أذقني، فجعل يذيقه من كل قدر بجرف يشرب بها، فهش إلى الطعام وأمر بإحضاره. فالتفت علي إلى صاحب الشراب فقال له: ينبغي أن يختار لأمير المؤمنين شراب ريحاني ويزاد في مزاجه إلى أن يدخل في الشرب فيهنئه الله إياه إن شاء الله قال: فلما أكل المتوكل وأكلنا نهضنا فغسلنا أيدينا وعدنا إلى مجالسنا وغنى المغنون، فجعل علي يقول:هذا الصوت لفلان، والشعر لفلان، وجعل معهم وبعدهم غناء حسناً إلى أن قرب الزوال، فقال المتوكل: أين نحن من وقت الصلاة؟ فأخرج علي أسطرلاباً من فضة في خفه، فقاس الشمس وأخبر عن الارتفاع وعن الطالع وعن الوقت، فلم يزل يعظم في عيني حتى صار كالجبل، وصار مقابح وجهه محاسن، فقلت: لأمر ما قدمت، فيك ألف خصلة: طبيب ومضحك، وأديب وجليس، وحذق طباخ، وتصرف مغن، وفكر منجم، وفطنة شاعر، ما تركت شيئاً مما يحتاج إليه الملوك إلا ملكته.
قال جحظة: وحدثني رذاذ غلام المتوكل قال: شهدت علي بن يحيى المنجم وقد أمره المتوكل أن يغنيه وكنت جالساً إلى جانبه فقال لي: قد وقعت، وإن تمنعت جد بي حتى أغنى ثم لا يكون له موقع، والمبادرة إلى أمره وسرعة الطاعة له أصوب، اضرب علي فضربت عليه وغنى:
زار من سلمى خيال موهناً ... حبذا ذاك الخيال الطارق
جاد في النوم بما ضنت به ... ربما يغنى بذاك العاشق
فقال زه، أجدت والله يا علي، فقال له علي: قد فرحتك يا سيدي ففرحني، فدعاه وحباه بمشمة عنبر كانت بين يديه في صينية ذهب عليها مكبة منها، وأمر له بألف دينار وتخوت ثياب. فقال لي: يا أبا شريك، أناصفك؟ فقلت: لا والله، لا قبلت من ذلك لا الكل ولا النصف، فبارك الله لك فيه.
قال جحظة: فحدثني علي بن يحيى المنجم قال: قلت مرة - وقد أخذ مني النبيذ بين يدي الواثق - لمن كان يسقيني: ويلك، أجهزت والله علي، سقيتني الكأس حية فألاقتلتها. فسمع الواثق فقال: لم يعد بك قول حسان:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ألا تراه أنكر عليه مزجها؟ قلت: حسان أعرابي لا يحسن شرب الخمر، وكان أيضاً يشربها تغنماً لبعد عهده بها، ولكن أردت من ساقي أن يأخذ بقول أفتى الخلق وأملحهم أدباً وأعلمهم بأدب الشرب، قال: ومن هو؟ قلت: أبو نواس، قال: حين يقول ماذا؟ قلت: حين يقول:
لا تجعل الماء لها قاهراً ... ولا تسلطها على مائها

فقيل لي لما حضرت من الغد: إن الواثق قال: لله دره، ما أسرع جوابه وأحسن انتزاعه، لكنه أخرج عربدته كلها على حسان بن ثابت، فلما حضرت بين يديه قال لي: هيه يا علي سرت أمس؟ فقلت يا سيدي من شرب سكر، ومن كان أمره إلى نفسه في نبيذه رفق، ومن كان أمره إلى غيره خرق. قال: فعربدت على حسان وثلبته وما يستحق ذلك، وإنه لطب بشرب الكأس مداح لشاربيها، أليس هو الذي يصف ربيعة بن مكرم؟ فبلغ من ذلك أحسن ما يكون الفتى عليه بقوله:
نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب
وهو أيضاً من المعدودين في وصاف الخمر وشرابها، أليس هو القائل؟:
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إذ ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
ويلك، أليس هو الذي يقول؟:
وممسك بصداع الرأس من سكر ... ناديته وهو مغلوب ففداني
لما صحا وتراخى العيش قلت له: ... إن الحياة وإن الموت سيان
فاشرب الخمر ما واتاك مشربه ... واعلم بأن كل عيش صالح فان
فقلت له: لو حضرك والله يا سيدي لأقر أنك أحفظ لعيون شعره منه، فالويل لجليسك، بماذا ينفق عندك وروايتك هذه الرواية. فقال: ويحك يا علي، إنما الويل لجليسي إذا جالس من لا يعرف قدر ما يحسن.
قال أحمد بن أبي طاهر: اجتمعنا عند أبي الحسن علي بن يحيى أنا وأبو هفان عبد الله بن أحمد العبدي وأبو يوسف يعقوب بن يزيد التمار على نبيذ فقال أبو هفان:
وقائل إذ رأى عزبي عن الطلب: ... أتهت أم نلت ما ترجو من النشب؟؟
قلت: ابن يحيى علي قد تكفل لي ... وصان عرضي كصون الدين للحسب
فقال التمار:
يذكي لزواره ناراً منورة ... على يفاع ولا يذكي على صبب
من فارس الخير في أبيات مملكة ... وفي الذوائب من جرثومة الحسب
قال أحمد بن أبي طاهر: فقلت:
له فلائق لم تطبع على طبع ... ونائل وصلت أسبابه سببي
كالغيث يعطيك بعد الري وابله ... وليس يعطيك ما يعطيك عن طلب
قال: فوصلهم وخلع عليهم وحملهم. قال عبيد الله: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال: اتصل أبي بأمير المؤمنين المتوكل على الله فغلب عليه وعلى الفتح بن خاقان بخدمته وأدبه وافتتانه وتصرفه في كل ما تشتهيه الملوك، وكان الفتح بن خاقان هو الذي وصفه للمتوكل، وكان بعد موت محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، لأن أبي كان متصلاً به وشديد الاختصاص بخدمته، حتى لقد مات محمد بن إسحاق ويده في يده، فلما مات دخل على الفتح بن خاقان فأنشده يمدحه بقصيدة أولها:
سأختار من حر الكلام قصيدة ... لفتح بن خافان تفوق القصائدا
يلذ بأفواه الرواة نشيدها ... ويشنا بها من كان للفتح حاسدا
لعمرك إن الفتح مذ كان يافعاً ... ليسمو إلى أعلى ذرى المجد صاعدا
فريع المولى ساد في خمس عشرة ... موالى بني العباس لم يبق واحدا
وبذهم طرا ندى وشجاعة ... فألقوا إليه مذعنين المقالدا

قال: فلم أر الفتح اهتز لشيء من الشعر اهتزازه لهذه القصيدة، ولا سر بأحد قدم عليه سروره بعلي بن يحيى، ثم قام الفتح من فوره فدخل على المتوكل فعرفه مكانه فأذن له واستجلسه، وأمر أن يخلع عليه فخلع عليه خلع المجالسة، فكان آنس خلق الله به وأغلبهم عليه وعلى الفتح، وتقدم الجلساء جميعاً عنده ووثق به حتى عزم على إدخاله معه إلى الحرام إذا جلس معهن. وذاك أنه شكا إلى الفتح أنه قعد مع الحرم لم يكن له من يستريح إليه ويأنس به وقال: قد عزمت أن أدخل علي بن يحيى فأستريح إليه، فقال له الفتح: ما يصلح لذلك غيره، فبلغ ذلك علي بن يحيى فقال للفتح: أنا قدرت أن أتخلص من هذا بك، فوكدت على الأمر فيه لست أفعل. فقال له الفتح: إن هذا الذي ندبك إليه أمير المؤمنين منزله ليس فوقها منزله في الخصوص، فقال: قد علمت ذلك وشكرت تفضل أمير المؤمنين وتسمعه، ثم يتفضل بالإعفاء منه. قال: ما هو؟ قال: قد علمت أن أمير المؤمنين أشد الناس غيرة، وأن النبيذ ربما أسرع إلي، ولست آمن بعض هذه الأحوال، وأن ينسى عند غلبة النبيذ ما كان منه فيقول: ما يصنع هذا معي عند حرمي؟ فيعجل علي بشيء لا يستدرك، وليس بيني وبين هذا عمل، قال: فقال المتوكل: تخلصت يا علي مني بألطف حيلة، وأعفاه. قال يحيى: وحدثني أبي قال: قال أمير المؤمنين المتوكل يوماً من الأيام: يا علي، لك عندي ذنب - قال هذا ونحن بدمشق - قال: فأكبرت ذلك وقمت قائماً بين يديه وقلت: أعوذ بالله من سخط أمير المؤمنين، ما الذنب يا أمير المؤمنين؟ فلعله كذب كاشح أو بغي حاسد، فقال: لا خير فيمن أثق به. قال فقلت: يتفضل علي أمير المؤمنين بتعريفي الذنب، فإن كان لي عذر اعتذرت، وإلا اعترفت وعدت بعفو أمير المؤمنين.فقال: أتحتاج إلى شيء وتسأل غيري؟ فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أخبرني بختيشوع أنك وجهت إليه واستقرضت منه عشرين ألف درهم، فلم فعلت ذلك؟ وما ذلك، وما منعك أن تسألني فأصلك؟ تأنف من مسألتي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما منعني ذلك، وإن صلات أمير المؤمنين متتابعة عندي من غير مسألة، ولكن بختيشوع ممن آنس به، فاستعرت منه هذه الدراهم على ثقة مني بأن تفضل أمير المؤمنين غير متأخر عني فأردها من ماله، قال: فقال لي: قد عفوت لك عن هذه المرة فلا تعد إلى مثلها، وإن احتجت فلا تسأل غيري أو تبذل وجهك له، ثم خدم علي بن يحيى المنتصر بن المتوكل فغلب عليه أيضاً، وقدمه المنتصر على جماعة جلسائه وقلده أعمال الحضرة كلها - العمارات والمستغلات والمرمات والحظائر وكل ما على شاطئ دجلة إلى البطيحة من القرى - ثم خدم المستعين بالله فقدمه وأحبه وأحله محله من الخلفاء ممن كان قبله، وأقره المستعين على ما تقلده من أعمال الحضرة، ثم حدثت الفتنة وانحدر مع المستعين إلى مدينة السلام فلم يزل معه إلى أن خلع المستعين، فأقام علي بن يحيى يغدو ويروح إليه بعد الخلع إلى أن حله من البيعة التي كانت في عنقه، ولم يكن المستعين قبل الخلع بسنة يأكل إلا ما يحمل إليه من منزل علي بن يحيى في الجون إلى دار أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر فيفطر عليه، وكان يصوم في تلك الأيام.
قال يحيى بن علي: قال لي أبي: صرت إلى المستعين لما صير به إلى قصر الرصافة فوجدت عنه قرب داية المعتز وعيسى بن فرخانشاه وهم يسألونه عن جوهر الخلافة، فقالت لي قرب: يا أبا الحسن بس ما كان لنا منك نصيب؟ يا هذا، كاتبنا الناس كلهم غيرك. قال قلت: أما إن ذاك ليس لتقصير فيما يجب علي من حق أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله ومن حق ولده، ولكن كان في عنقي طوق يحظر علي ذلك، قال: قالت - بارك الله فيك - . قال: ثم خلص الأمر للمعتز، فكان أول من طلبه للمنادمة علي بن يحيى فشخص إلى سر من رأى، فتلقاه أمير المؤمنين المعتز حين قدم عليه أجمل لقاء وخلع عليه ووصله، وقلده الأسواق والعمارات وما كان يتقلده قبل خلافته، وخص به وغلب عليه حتى تقدم عنده على الناس كلهم. قال: فأخبرني أبي أنه حسب ما وصل إليه من المعتز من صلته ورزقه منذ خدمه إلى أن تصرمت أيامه، فكان مبلغه ثلاثة وثلاثين ألف دينار. وقلده المعتز القصر الكامل فبناه ووصله عند فراغه منه بخمسة آلاف دينار وأقطعه ضيعة. وفي المعتز يقول علي بن يحيى:
بدا لابساً برد النبي محمد ... بأحسن ما أقبل البدر طالعاً

سمي النبي وابن وارثه الذي ... به استشفعوا أكرم بذلك شافعا
فلما علا الأعواد قام بخطبة ... تزيد هدى من كان للحق تابعا
وكل عزيز خشية منه خاشع ... وأنت تراه خشية الله خاشعا
فأما المهتدي فإنه حقد عليه أشياء كانت تجري بينه وبينه في مجالس الخلفاء، فانحرف عنه المهتدي لميله إلى المتوكل، فكان المهتدي يقول: لست أدري كيف يسلم مني علي بن يحيى؟ إني لأهم به فكأني أصرف عنه، ووهب الله له السلامة من المهتدي إلى أن مضى لسبيله، وكانت أيامه قصيرة، ثم أفضى الأمر إلى المعتمد على الله فحل منه محله ممن كان قبله من الخلفاء وقدمه على الناس جميعاً، ووصله وقلده ما كان يتقلد من أعمال الحضرة، وقلده بناء المعشوق فبنى له أكثره، وكان الموفق من محبته وتقديمه وجميل الذكر له في مجلسه إذا ذكر على أفضل ما يكو نولي نعمة، وكان يذكره كثيراً في مجالسه، ويصف أيامه، مع أمير المؤمنين المتوكل وأحاديثه ويحكيها لجلسائه ويعجبهم من ذكائه ومعرفته وفضله. وتوفي في آخر أيام المعتمد سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن بسامراً، وشعره كثير ومشهور، رأيت العلماء القدماء يكثرون العجب به وليس عندي كذلك، فلذلك أقللت من الإتيان به إلا ما كان في ضمن خبر.
وله من الولد الذكور أحمد بن علي وكنيته أبو عيسى، وأبو القاسم عبد الله، وأبو أحمد يحيى، وأبو عبد الله هارون.
علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحدابن موسى بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن محمد بن ربيعة بن الحارث بن قريش بن أبي أوفى بن عمرو بن عادية بن حيان بن معاوية بن تيم بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن علي بن بكر بن وائل، أبو الحسن القفطي يعرف بالقاضي الأكرم، أحد الكتاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر، وكان أبوه القاضي الأشرف كاتباً أيضاً ومنشئاً، وكانت أمه من بادية العرب من قضاعة،وأمها جارية حبشية كانت لأخت أبي عزيز قتادة الحسني أمير مكة، تزوجها أحد بني عمها العلويين وجاءت منه بأولاد، ثم مات عنها فتزوجها رجل من بلي فجاءت منه ببنين وبنات منهم أم القاضي الأكرم - أدام الله علوه - ، وكان والده الأشرف خرج يشتري فرساً من تلك البوادي، وقد قاربوا أرض مصر للنجعة فرآها فوقعت منه بموقع فتزوجها ونقلها إلى أهله، وكانت ربما خرجت في الأحيان إلى البادية استرواحاً على ما ألفته ونشأت عليه، ويخرج ابناه معها مدة، قال: وكانت امرأة صالحة مصلية حسنة العبادة فصيحة اللهجة، وكانت إذا أردت سفراً اشتغلت بما يصلح أموري في السفر وهي تبكي وتقول:
أجهز زيداً للرحيل وإنني ... بتجهيز زيد للرحيل ضنين
وحدثني - أطال الله بقاؤه - قال: كنت أنا صبي قد قدمت من مصر واستصحبت سنوراً أصبهانياً على ما تقتضيه الصبوة،واتفق أن ولدت عدة من الأولاد في دارنا، فنزل سنور ذكر فأكل بعض تلك الجراء فغمني ذلك، وأقسمت أن لا بد لي من قتل الذي أكلها، فصنعت شركاً ونصبته في علية في دارنا وجلست، فإذا بالسنور قد وقع في الحبالة، فصعدت إليه وفي يدي عكاز وفي عزمي هلاكه، وكان لنا جيرة وقد خرب الحائط بيننا وبينهم ونصبوا فيه بارية إلى أن يحضر الصناع، وكان لرب تلك الدار بنتان لم يكن فيما أظن أحسن منهما صورة وجمالاً وشكلاً ودلالاً، وكانت معروفتين بذلك في بلدنا وكانتا بكرين، فلما هممت بقتله إذا قد انكشف جانب البارية فوقعت عيني على ما يبهر المشايخ، فكيف الشبان؟ حسناً وجمالاً، وإذا هما تومئان إلي بالأصابع تسألاني إطلاقه، قال: فأطلقته ونزلت وفي قلبي ما فيه لكوني كنت أول بلوغي والوالدة جالسة في الدار لمرض كان بها. فقالت لي: ما أراك قتلته كما كان عزمك. فقلت لها: ليس هو المطلوب، إنما هو سنور غيره. فقلت: ما أظن الأمر على ذلك،ولكن هل أومئ إليك بالأصابع حتى تركته؟ فقلت: من يومئ إلي؟ ولا أعرف معنى كلامك. فقلت على ذلك: يا بني اسمع مني ما أقول لك:
ثنتان لا أرضى انتهاكهما ... عرس الخليل وجارة الجنب

وكان مع هذا البيت بيت آخر أنسيته. قال: فوالله لكأن ماء وقع على نار فأطفأها، فما صعدت بعد ذلك إلى سطح ولا غرفة إلى أن فارقت البلاد، ولقد جاء الصيف فاحتملت حره ولم أصعد إلى سطح في تلك الصيفية، ثم وجدت هذا البيت في أبيات الأحوص بن محمد منها:
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ كلف بكم صب
صاحب إذا بعلي فقلت بها: ... الغدر أمر ليس من طبي
ثنتان لا أصبو لوصلهما ... عرس الخليل وجارة الجنب
أما الخليل فلست خائنه ... والجار أوصاني به ربي
ألشوق أقتله برؤيتكم ... قتل الظما بالبارد العذب
قال لي: ولدت في أحد ربيعى سنة ثمان وستين وخمسمائة بمدينة فقط من الصعيد الأعلى إحدى الجزائر الخالدات حيث الرض الأربعة وعشرون في أول الإقليم الثاني، وبها قبر قبط بن مصر بن سام بن نوح.
ونشأ بالقاهرة. اجتمعت بخدمته في حلب فوجدته جم الفضل، كثير النبل، عظيم القدر، سمح الكف، طلق الوجه حلو البشاشة، وكنت ألازم منزله ويحضر أهل الفضل وأرباب العلم، فما رأيت أحداً فاتحه في فن من فنون العلم كالنحو واللغة والفقه والحديث وعلم القرآن والأصول والمنطق والرياضة والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل وجميع فنون العلم على الإطلاق إلا قام به أحسن قيام، وانتظم في وسط عقدهم أحسن انتظام. وله تصانيف أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة:
ضدان عندي قصرا همتي ... وجه حبي ولسان وقاح
إن رمث أمراً خانني ذو الحيا ... ومقولي يطمعني في النجاح
فأنثني في حيرة منهما ... لي مخلب ماض وما من جناح
شبه جبان فر من معرك ... خوفاً وفي يمناه عضب الكفاح
وأنشدني - أدام الله علوه - في أعور لنفسه:
شيخ لنا يعزى إلى منذر ... مستقبح الأخلاق والعين
من عجب الدهر، فحدث به ... بفرد عين ولسانين

ومما أملاه علي - أدام الله علوه - من منثور كلامه من فصل: وأما سؤاله عن سبب التأخر والتجمع من التزامي قعر البيت، وارتضائي بعد السبق بأن أكون السكيت، فلا تنسبني في ذلك إلى تقصير، وكيف؟ ولساني في اللسن غير ألكن، وبناني في البيان غير قصير، ولقد أعددت للرياسة أسبابها، ولبست لكفاح أهلها جلبابها، وملكت من موادها نصابها، وتسلمت لآحلاسها، وضاربت أضرابها، وباريتها في ميدان الفضائل، فكنت السابق وكانوا الفسكل، وظننت أني قد حللت من الدولة أمكن مكانها، وأصبحت إنسان عينها وعين إنسانها، وإذا الظنون مخلفة، وشفار عيون الأعداء مرهفة، والفرقة المظنونة بالإنصاف غير منصفة، وصار ما اعتمدته من أسباب التقريب مبعداً، ومن اعتقدته لي مساعداً غدا علي مسعدا، ومن أعددته لمرادي مورداً أصبح لمثالبي مورداُ، وجست مقاصد المراشد فوجدتها بهم مقفلة، ومتى ظهرت فضيلة اعتمدوا فيها تعطيل المشبهة وشبه المعطلة، وإذا ركبت أشهب النهار لنيل مرام ركبوا أدهم الليل لنقض ذلك الإبرام، وإن سمعوا مني قولاً أذاعوا، وإن لم يسمعوا اختلقوا من الكذب ما استطاعوا، وقد صرت كالمقيم وسط أفاع لا يأمن لسعها، وكالمجاور لنار يتقي شرها ويستكفي لذعها. والله المسئول توسيع الأمور إذا ضاقت مسالكها، وهو المرجو لإصلاح قلوب الملوك على مماليكهم،إذ هو رب المملكة ومالكها. وها أنا جاثم جثوم الليث في عرينه، وكامن كمون الكمى في كمينه، وأعظم ما كانت النار لهباً إذا قل دخانها، وأشد ما كانت السفن جرياً إذا سكن سكانها، والجياد تراض ليوم السباق، والسهام تكن في كنائنها لإصابة الأحداق، والسيوف ى تنتضى من الأغماد إلا ساعة الجلاد، واللآلئ لا تظهر من الأسفاط إلا للتعلق على الأجياد. وبينما أنا كالنهار الماتع طاب براده، إذ تراني كالسيف القاطع خشن حداه، ولكل أقوام أقوال، ولكل مجال أبطال نزال، وسيكون نظري - بمشيئة الله - الدائم ونظرهم لمحة، وريحي في هذه الدولة المنصورة عادية، وريحهم فيها نفحة، وها أنا مقيم تحت كنف إنعامها، راج وابل إكرامها من هاطل غمامها، منتظر لعدوها أنكأ سهامها من وبيل انتقامها، وأملى علي قال: كتبت إلى أبي القايم بن أبي الحسن شيث - وكان قد انصرف عن الملك الظاهر ثم رجع إليه بأمر من الملك الظاهر - : مقدم سعد مؤذن بسمو ومجد للمجلس الجماني لا زال غاديا في السعادة ورائحاً، منوحاً من الله بالنعم و مانحاً، ميسراً له أرجح الأعمال كما لم يزل على الأماثل راجحاً، موضحاً له قصد السبيل كوجهه الذي ما برح مسفراً واضحاً، قد رد الله بأوبته ما نزح من السرور، وأعاد بعودته الجبر إلى القلب المكسور، ولأم بإلمامه صدوعاً في الصدور، والواجب التفاؤل بالعود إذ العود أحمد، بل يقال: انقلب إلى أهله مسروراً، وتوطن من النعمة الظاهرية جنة وحريراً،ودعا عدوه لعوده ثبوراً، وصلى من نار حسده سعيراً، أسعد الله مصادره وموارده، ووفر مكارمه ومحامده،وأيد ساعده ومساعده. وأنشدني لنفسه - أدام الله علوه - من قصيدة قالها في الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب مطلعها:
لا مدح إلا لمليك الزمان ... من المنى في بابه والأمان
غياث دين الله في أرضه ... إن أخلف البرق وضن العنان
في كفه ملحمة للندى ... مثل التي تعهد يوم الطعان
فالعسر مصروع بساحاته ... واليسر سام في ظهور الرعان
وراحتاه راحة للورى ... على كريم الخلق مخلوقتان
فكفه اليمنى لبسط الغنى ... وكفه اليسرى لقبض العنان
ومنها:
تعرب في الهيجاء أسيافه ... عن حركات مثل لفظ اللسان
كسر وفتح في بلاد العدى ... وبعده ضم لمال مهان
ومنها في صفة ولديه:
بكران بل بدران ما يكسفان ... روحان للملك وريحانتان
لؤلؤتا بحر وغن شئت قل ... ياقوتتا نحر وعقدا لبان
فرعان في دوحة عز سمت ... غيثان بل بحران بل رحمتان
سيملكان الأرض حتى يرى ... لي منهما حران والرقتان
ومنها:
فأسلم على الدهر شديد القوى ... ذا مرة ما شد كف بنان

واستوطن الشهباء في عزة ... وأخسس بغمدان وقعبى لبان
وأنشدني أدان الله علوه لنفسه من قصيدة:
إذا أوجفت منك الخيول لغارة ... فلا مانع إلا الذي منع العهد
نزلت بأنطاكية غير حافل ... بقلة جند إذ جميع الورى جند
فكيف أهيف حازته هيف رماحكم ... وكم ناهد أودى بها فرس نهد
لئن حل فيها ثعلب الغدر لاون ... فسحقاً له قد جاءه الأسد الورد
وقد كان اغتر اللعين بلينكم ... وأعظم نار حيث لا لهب يبدو
جنى النحل مغتراً وفي النحل آية ... فطوراً له سم وطوراً له شهد
تمدك أجناد الملوك تقرباً ... وجند السخين العين جزر ولامد
تهنا بها بكراً خطبت ملاكها ... فأعطت يد المخطوب وانتظم العقد
فجيشك مهر والبنود حموله ... وأسهمكم تبر وسمر القنا نقد
وله من التصانيف كتاب الضاد والظاء وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في الخط، كتاب الدر الثمين في أخباره المتيمين،كتاب من ألوت الأيام إليه فرفعته ثم التوت عليه فوضعته، كتاب أخبار المصنفين وما صنفوه، كتاب أخبار النحويين كبي، كتاب تاريخ مصر من ابتدائها إلى ملك صلاح الدين إياها في ست مجلدات، كتاب تاريخ المغرب ومن تولاها من بني تومرت، كتاب تاريخ اليمن منذ اختطت إلى الآن، كتاب المجلى في استيعاب وجوه كلا، كتاب الإصلاح لما وقع من الخلل في كتاب الصحاح للجوهري،كتاب الكلام على الموطئ لم يتم إلى الآن، كتاب الكلام على الصحيح للبخاري لم يتم، تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه إلى حين انفصال الأمر عنهم، كتاب أخبار السلجوقية منذ ابتداء أمرهم إلى نهايته، كتاب الإيناس في أخبار آل مرداس، كتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم، كتاب مشيخة زيد بن الحسن الكندي، كتاب نهزة الخاطر ونزهة الناظر في أحسن ما نقل من على ظهور الكتب.
وكان الأكرم القاضي المذكور جماعة للكتب حريصاً عليها جداً، لم أر مع اشتمالي على الكتب وبيعي لها وتجارتي فيها أشد اهتماماً منه بها، ولا أكثر حرصاُ منه على اقتنائها، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد، وكان مقيماً بحلب، وذلك أنه نشأ بمصر وأخذ بها من كل علم بنصيب، ولي والده القاضي الأشرف النظر ببيت المقدس من قبل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين بن أيوب، وصحبه القاضي الأكرم وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وأقام بها مع والده مدة فآنس ولاة المقدس الأكرم - أدام الله عزه - شرف نفس وعلو همة، فأحبوه واشتملوا عليه، وكانوا يسألونه أن يتسم بخدمة أحد منهم، فلم يكن يفعل ذلك مستقلاً، وإنما كان يسأم العمل ويعتمد على رأيه في تدبير الأحوال، وكان لا يدخل معهم إلا فيما لا يقوم غيره فيه مقامه، واتفق ما اتفق بين الملك العادل أبي بكر بن أيوب وبين أخيه الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب - والأكرم حينئذ ببيت المقدس - فاقتضت الحال - لاتسامه بخدمه في حيز الملك - أن خرج من القدس فيمن خرج منها من العساكر في سنة ثمان وستمائة، وصحب فارس الدين ميموناً القصري والي القدس ونابلس،فالتحقا بالملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب بحلب في قصة يطول شرحها، فلما حصل بحلب كان مع ميمون القصري على سبيل الصداقة والمودة لا على سبيل الخدمة والكتابة، واتفق أن كاتب ميمون ووزيره قد مات، فألزمه ميمون خدمته والاتسام بكتابته،ففعل ذلك على مضض واستحياء، ودبر أمره أحسن تدبير، وساس جنده أحسن سياسة وتدبير، وفزع بال ميمون من كل ما يشغل به بال الأمراء، وأقطع الأجناد إقطاعات رضوا بها وانصرفوا شاكرين له، ولم يعرف منذ تولي أمره إلى أن مات ميمون جندي اشتكى أو تألم، وكان وجيهاً عند ميمون المذكور يحترمه ويعظم شأنه، ويتبرك بآرائه إلى أن مات ميمون في ليلة صبيحتها ثالث عشر رمضان سنة عشر وستمائة، فأقر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين خزانته عليه وهو ملازم لبيته متشاغل بالعلم وتصنيف الكتب إلى أن احتاج ديوانه إليه، فعول في إصلاحه عليه،وهو مع ذلك مجتنب غير راض، وحدثني أدام الله عزه قال:

قال حدثني والدي قال: قدمت مع والدي إلى مصر أول قدمة ولم نستصحب دواب، لأننا انحدرنا في السفن وقلت لأبي: نأخذ معنا دواب؟ فقال: يعسر أمرها علينا فدعنا نمض بالراحة في المركب، وإذ وصلنا خرجنا نمشي إلى أن جاء بي إلى سوق وردان، وهناك تلك الحمير التي هي أحسن من البغال، فقال لي والدي: أركب أيها شئت لنمضي إلى القاهرة، فامتنعت وقلت: والله لا ركبت حماراً قط. فقال: لا بد من المضي إلى القاهرة فما تصنع؟ قلت لأبي: نؤخر المضي اليوم حتى نشتري مركوباً إما فرساً وإما بغلة أركبها أنا واصنع أنت بنفسك ما تشاء، فعذلني فلم أرعو فاجتاز بنا رجل له هيئة وشارة فتقدم والدي إليه وقال له: يا أخي، تعرف القاضي الأشرف أبا الحجاج يوسف بن القاضي الأمجد أبي إسحاق إبراهيم الشيباني القفطي؟ فقال: لا أعرفه. قال: امض في أمان الله. ثم مر به آخر فسأله مثل ذلك السؤال حتى سأل جماعة فلم يكن منهم من يعرفه، فالتفت إلي وقال لي: ويلك، إذا كنت في مدينة لا يعرفك بها أحد فما تصنع بهذا التخرق والترتيب في المركوب؟ اركب ودع عنك الكبرياء والعظمة التي لا تجدي ههنا شيئاً. قال: فركبت حينئذ ومضينا إلى القاهرة، وكان لهذا السبب متفقد الخيول المشهورة بالجودة وكثرة الثمن حتى لقد حدثني: أنه سمع ابن دحية الحافظ وقد سئل عن القاضي الأشرف القفطي فقال: أليس هو صاحب الخيول المسومة والعبيد الروقة؟ فما أولاه إذن بقول عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
فصل: قال الأكرم من إنشائي من جملة كتاب أنشأت عن المقر الأشرف الملكي الظاهري عند رحيل عسكر الفرنج عن حصن الخوابي: ولما وردت الراية الباطنية صدرت في نجدتهم العساكر الظاهرية تحت الألوية الأمامية الناصرية وسار في المقدمة ألف فارس من أمجاد الأنجاد وأمثال الأطواد وهم الذين لا يثنون عن الطعن عناناً، ولا يسألون عند الانتداب إلى الكريهة عما قيل برهاناً، ولما التقى الجمعان وتراءى الفريقان، قمع حزب الإنجيل حزب القرآن، وخفض صوت الناقوس صوت الأذان، وفل جيش ابن يوسف جمع بني إسحاق، وعلا علم الأحمر على بني الأصفر أهل الشقاق، وحركت الأهوية ألسن الألوية بأصوات النجح فقالت بلسان الحال: تعال على خير العمل من القتال، فقد جاء نصر الله والفتح، وما أودت من المناجزة قوة جانب ولا شدة محاجزة، وإنما منع جبل وعر ضاق مسلكه، وتعذر مجاله على الفرسان ومعتركه، وامتنعت منه أسباب النزال، (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال).
فقلعت القلعة من خناقها، وأفلتت من يد القابض بساقها، واشتغل العدو عنها بإعمال رأيه في الخلاص، وذلك لما تحققه من ترادف العساكر المنصورة ولات حين مناص، ولما اجتمعوا للمشاورة تناقضت منهم الآراء عند المحاورة، وأوجب ذلك اختلافاً من جميعهم قضى بافتراق جموعهم، وباتوا ليلة الاثنين ولهم ضوضاء، ثم أصبحوا وقد خلا منهم الفضاء، لم يلف منهم أحد، ولا وجد لمنزلهم إلا النؤي والوتد، وذلك لرأي أجمعوا عليه لما تحققوا أن لا ملجأ من الهرب إلا إليه، وللوقت ندب مولانا السلطان خلد الله ملكه جماعة من الصناع لإصلاح مختلها، ورفع ما فرق من تلها، وحمل إليها ما عدمته من الآلة عند القتال. وتقدم إلى رئيس الإسماعيلية بحمل ما يحتاج إليه من الذخيرة والمال، وقد شرع والشروع ملزم بالإكمال.

حدثني الصاحب الوزير الأكرم أدام الله تمكينه قال: خرجت يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وستمائة إلى طاهر مدينة حلب على سبيل التيسير، فرأيت على جانب قويق عدة مشايخ بيض اللحى، وقد سكروا من شرب الخمر وهم عراة يصفقون ويرقصون على صورة منكرة بشعة فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ورجعت مغموماً بذلك وبت تلك الليلة، فلما أصبحت وركبت للطلوع إلى القلعة استقبلني رجل صعلوك فقال: انظر إلى حالي نظر الله إليك يوم ينظر إليه المتقون، فقلت له: ما خبرك؟ قال: أنا رجل صعلوك وكان لي دابة أسترزق عليها للعائلة فاتهمني الوالي بالخيول بسرقة ملح، فأخذ دابتي ثم طالبني بجباية فقلت: خذ الدابة. فقال: قد أخذتها وأريد جباية أخرى. فقلت له: أبشر بما يسرك وطلعت إلى صاحب الأمر يومئذ، وهو الأمير الكبير أتابك طغرل الظاهري وقلت: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة أشياء مباحة، الناس مشتركون فيها: الكلأ، والماء، والملح). وقد جرى كيت وكيت ولا يليق بمثلك، وأنت عامة وقتك جالس على مصلاك مستقبل القبلة والسبحة في يدك أن تكون مثل هذه الأشياء في بلدك. فقال: اكتب الساعة إلى جميع النواحي برفع الجبايات ومحو اسمها أصلاً، وأمر الولاة أن يعملوا بكتاب الله وسنة رسوله،ومن وجب عليه حد من الحدود الشرعية يقام فيه على الفور، ولا يلتمس منه شيء آخر، ومر الساعة بإراقة كل خمر في المدينة، ورفع ضمانها، واكتب إلى جميع النواحي التي تحت حكمي بذلك، وأوعد من يخالف ذلك عقوبتنا في الدنيا عاجلاً، وعقوبة الخالق في الآخرة آجلاً، فخرجت وجلست في الديوان، وكتبت بيدي ولم أستعن بأحد من الكتاب في شيء من ذلك ثلاثة عشر كتاباً إلى ولاة الأطراف ثم أنشد:
ولا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
وكان محصوله من ضمان ما أطلق ما مقداره مائتا ألف درهم في السنة، وإن أضيف إليه ما يستقبل في السنة الآتية من رخص الكروم وتعطل ضماناتها وقلة دخلها بهذا السبب - كان ذلك - ألف ألف درهم أو ما يقاربها، وكان والده القاضي الأشرف أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم من أهل الفضل البارع والبلاغة المشهورة، وكان ينوب بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عن القاضي الفاضل في جماعة من الكتاب، وكان حسن الخط على طريقة ابن مقلة، فاتفق أن طال مقامه بالشام في صحبة السلطان وأراد الرجوع إلى مصر طلباً للراحة ونظراً في مصالحه، فطلب من السلطان إذناً فقال: يحتاج في ذلك إلى إذن صاحبك، فكتب العماد إلى القاضي: يلتمس غيره ليؤذن له فقد طالت غيبته عن أهله، فكتب القاضي في الجواب كتاباً يقول فيه: وأما التماس العوض عن الأشرف القفطي فكيف لي بغيره؟ وهو ذو لسان صهصلق منطيق، وخاطر ينفق عن سعة في كل مضيق. وكتب إلى القاضي الفاضل رقعة وضمنها البيت المشهور:
نميل إلى جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
فكتب القاضي الجواب وضمنه:
فديتك من مائل كالغصون ... إذا ملن أدنين مني الثمارا
وتزهد والده وترك العمل وأقام باليمن إلى أن مات بها في رجب سنة أربع وعشرين وستمائة.

وحدثني أدام الله علوه قال: حججت في موسم سنة ثمان وستمائة، وكان والدي في صحبتي فصادفت بمكة جماعة من أهل بلدنا، وكنت بعيد العهد بلقاء أحد منهم، فرآني رجل فالتحق بي كما جرت العادة، ثم عاد إلى من في صحبته من بلدنا فأخبرهم بنا فجاء وهم إلى منزلنا فقضوا حقنا بالسلام والسؤال والحرمة، ثم انصرفوا إلى رحالهم فجاء كل واحد منهم بما حضره لم يحتفلوا له، وكان فيما جاءونا به ظرف كبير مملوء عسلاً، وآخر سمناً على جمل وهو وقره، فألقاه في خيمتنا فأمرت الغلمان أن يعلموا منه حيساً فيكثروا على عادة تلك البلاد، وأكلنا وأكثرنا زيادة على ما جرت به عادتنا، ثم طفنا بالبيت وعدنا إلى رحالنا ونمت فرأيت في النوم كأني في الحرم أطوف، وإذا رجل شديد الأدمة مشوه الخلقة، فأخذ بيدي وأخرجني من الحرم من باب إبراهيم فإذا به قد وقفني على الظرفين بعينهما لا أرتاب بهما فقال لي: أتعرف هذين؟ فقلت: نعم، هذان ظرفان جارنا بهما رجل على سبيل الهدية، أحدهما سمن والآخر عسل، فقال لي: ليس الأمر كذلك، ثم حط يده على بطنهما وعصر فخرج من فمهما نار أحسست بلفحها في وجهي، وجعلت أمسح فمي من شدة حرهما وانزعجت من هول ما رأيت، وقمت من فراشي خائفاً فما استطعت النوم إلى الغداة، واجتمعت بمهديهما وكان يعرف بابن الشجاع فقلت له: أخبرني عن هذين الطرفين ما خبرهما؟ فقال: اشتريتهما وجئت بهما، فقلت: يا هذا، هل فيهما شبهة؟ فتحلف أنهما من خالص ماله، فأخبرته بالحال فبكى حينئذ، ومد يده فأخذ بيدي وعاهدني أن يخرج من عهدته وقال: والله ما أعرف أن في مالي شبهة، إلا أن لي أختين ما أنصفتهما في تركة أبيهما، وأنا أعاهد الله أنني أرجع من وجهي هذا وأعطيهما حتى أرضيهما.
قال الصاحب - أدام الله علوه: فعلمت أنها لي موعظة، فعاهدت الله ألا آكل بعدها من طعام لا أعرف من أين وجهه؟ فكان لا يأكل لأحد طعاماً ويقول: الناس لا يعرفون بواطن الأمور ويظنونني أفعل ذلك كبراً، ومن أين لي بما يقوم بعذري عندهم؟ ثم كنت بعد ذلك في حضرته بمنزله المعمور وقد عاد من القلعة بحلب فقال لي: جرت اليوم ظريفة، فقلت له: هات خبرها - أدام الله إمتاعنا بك - ، فما زلت تأتي بالظرائف والطرف.
فقال: حضرت اليوم في مجلس الملك الرحيم أتابك طغرل الظاهري وحضرت المائدة وفيها طعام الملوك: شواء وشرائح وسنبوسك وحلاوات وغيرها كما جرت العادة، فتأملته فنفرت نفسي منه ولم تقبله مع كوني قد قاربت الظهر ولم أتغد فلم أنبسط ولا مددت يدي إليه. فقال لي: مالك لا تأكل وكان قد عرف عادتي؟ فقلت له: إن نفسي لا تقبل هذا الطعام ولا تشتهيه. فقال: لعلك شبعان، فقلت: لا والله، إلا أنني أجد في نفسي نفوراً منه، فأشار إلى غلام فدخل داره وجاء بمائدة عليها عدة غضائر من الدجاج فلم تقبل نفسي إلا دجاجة واحدة معمولة تحت رمان فمددت يدي إليها وتناولت منها.
قال: فرأيت أتابك وهو يتعجب فقلت له: ما الخبر؟ فقال: اعلم أنه ليس في هذا الطعام شيء أعلم من أين وجهه وهو من عمل منزلي غير هذه الدجاجة؟ وأما الباقي فجاءنا من جهة ما نفسي بها طيبة، وتشاركت أنا وهو في تلك الدجاجة مع بغضي لحب الرمان، وكان أتابك لا يأكل إلا من مال الجوالي فقط، فجعلت أعجب من ذلك. فقال أدام الله علوه: اعلم أنني لا أحسب هذا كرامة لي ولكني أعده نعمة من الله في حقي، فإن امتناعي لم يكن عن شيء كرهته ولا ريب اطلعت عليه، ولكن كان انقباضاً ونفرة لا أعرف سببها، ولا الإبانة على معناها.
كان صفي الدين الأسود عند نزول الملك الأشرف بحلب قد عرض كتاباً له يعرف بالتذكرة لابن مسيلمة - وكان معروفاً بالبغاء - أحد كتاب مصر يشتمل على قوانين الكتابة وآئين الدولة العلوية، وأخبار ملوك مصر المتقدمين في اثني عشر مجلداً، ودفع له فيه ما سمح ببيعه، وعرض على الصاحب الكبير جمال الدين الأكرم أدام الله علاه وكبت أعداءه، فأراد شراءه واتفق رحيل الملك الأشرف إلى الجزيرة فأرسل إليه ثمنه وزيادة في مثله وافرة، فلما علم صفي الدين أن المشتري هو الوزير أدام الله علوه ضن بالكتاب واغتبط، واحتج وخلط، وزعم أنه قدمه للخزانة الأشرفية، فكتب الصاحب الوزير إلى أبي علي القيلوي - وكان وسيطه في شرا الكتاب المذكور - ما هذه نسخته: العز لله وحده

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2وج3وج4.كتاب الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي

  ج1وج2وج3وج4. كتاب الكواكب السائرة     بأعيان المئة العاشرة النجم الغزي  الطبقة الأولىفي ذكر من وقعت وفاته من المتعينين من افتتاح سنة...